|
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | التقييم: | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد بابُ قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. ج / 2 ص -154- [الباب الثاني والأربعون:] * بابُ قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. قال الشيخ رحمه الله: "باب قول الله تعالى" أي: ما جاء في تفسير هذه الآية من أقوال الصّحابة. والتّفسير إنّما يُعرف من كلام الله، فكلام الله يفسِّر بعضه بعضاً، أو يُعرف من كلام الرّسول صلى الله عليه وسلم أو من كلام أصحابه، أو من كلام التّابعين الذين هم تلاميذ الصّحابة، هذه مصادر التّفسير، لا يفسِّر القرآن بالرأي أو بكلام المتأخِّرين الذين لم يأخذوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأخذوا عن أصحابه الذين أخذوا عنه، لأنّ الله أنزل القرآن ووَكَل بيانَه إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} من ربهم. فالمصدر في تفسير القرآن- كما ذكر العلماء- خمسة أشياء: المصدر الأوّل: تفسير القرآن بالقرآن، لأن القرآن يفسِّرُ بعضهُ بعضاً. المصدر الثّاني: تفسير القرآن بكلام الرّسول صلى الله عليه وسلم، لأنّه هو المبيِّن. المصدر الثّالث: تفسير القرآن بتفسير الصّحابة، لأنّهم تلاميذ الرّسول صلى الله عليه وسلم. المصدر الرّابع: عند بعض العلماء تفسير القرآن بأقوال التّابعين، لأنّهم أخذوا عن الصّحابة، وهم أدرى بمعاني القرآن الكريم من غيرهم. المصدر الخامس: تفسيره بمقتضى اللغة العربية لأنه نزل بها. فلهذا تجدون المصنف في هذا الباب وفي غيره يسوق في تفسير الآيات كلام الصّحابة أو كلام التّابعين، لأنها من مصادر التفسير. قوله: "{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}" هذا آخرُ آيةٍ من سورة البقرة، وأولها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}. قال العلماء: هذا أوّلُ نداءٍ في المصحف الشريف: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا ج / 2 ص -155- رَبَّكُمُ}. لأنّ الله سبحانه وتعالى ذكر في مطلَع هذه السّورة انقسامَ النّاس أمامَ القرآن الكريم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الذين آمنوا بالقرآن ظاهراً وباطناً، وهم المتّقون المذكورون في قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إلى قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ}. القسم الثاني: الذين كفروا بالقرآن ظاهراً وباطناً، وهم المذكورون في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(7)}. الصّنف الثّالث: الذين آمنوا بالقرآن ظاهراً وكفروا به باطناً وهم المنافقون، وهم شرٌّ من الكُفّار الذين كفروا بالقرآن ظاهراً وباطِناً، ولهذا أنزل الله فيهم بِضعَ عشر آية، بينما ذكر في الكفّار آيتين، لأنّهم أخطر من الكُفّار، وذلك في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ(8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ(13)} إلى قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، هذه الآيات كلّها في المنافقين، وهم الصّنف الثّالث. ثم قال بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} نادى النّاس جميعاً، المؤمن والكافر، والعربي والعجمي، ناداهم جميعاً وأمرهم بعبادته. وهذا دليل على عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه بعث إلى النّاس كافة، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً(1)}، ووصف القرآن بأنه هدىً للنّاس وأنّه هدًى للعالَمين، فرسالتُه صلى الله عليه وسلم عامّة لجميع الثّقَلين. وقوله تعالى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} هذا أمرٌ من الله سبحانه وتعالى بعبادته وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه. ج / 2 ص -156- ومعنى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} وحِّدوا ربّكم، وأفردوه بالعبادة، لأنّ العرب في وقت نُزول القرآن كثيرٌ منهم يعبُدون الله، ولكنّهم يعبُدون معه غيرَه، فإذا كانت العبادة غير خالِصة لله فإنّها تكون عبادة باطلة، ولهذا أمرهم أن يُفردوه بالعبادة، ويُخلِصوا له العبادة. ثم ذكر الدليل على وُجوب عبادة الله تعالى فقال: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} لأنّ العبادة لا تصلُح إلا للخالِق سبحانه وتعالى، فالذي لا يخلُق لا يصحّ أن يُعبَد، وهذا فيه: إبطال عبادة الأصنام، وعبادة الموتى، وعبادة الأولياء والصّالحين، وعبادة الأشجار والأحجار، لأنّها لا تقدر على الخلْق، وما لا يقدر على الخلق لا يصحّ أن يُعبَد، ولهذا قال في سورة الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}، الخالق وهو الذي يستحق العبادة، وهم لا يجحدون هذا، بل يُقرِّون بأن الله هو الذي خلق: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إذا ذكرتم بأنّه هو الخالق لكم ولمن قبلكم، لعلّ تذكُّركم لذلك يبعثكم على تقوى الله سبحانه وتعالى، فتعبدونه وتتقون عذابه، لأنّه لا يقي من عذاب الله إلاَّ عبادة الله سبحانه وتعالى، فهو الذي خلقكم، وخلق لكم المصالح التي تستعينون بها على عبادته سبحانه وتعالى، خلقكم وخلق لكم هذه الأشياء، لستم أنتم خلقتم لأنفسكم شيئاً، لستم الذين أنبتم الزرع، ولستم الذين أنزلتم المطر، ولستم الذين خلقتم الأرض وجعلتموها صالحة للنبات والإنبات، ولستم الذين خلقتم السماء وجعلتموها سقفاً للعالم، وفيها مصالحُ العباد. {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً} تجلسون عليها، وتنامون عليها، وتعيشون على ظهرها، وتدفنون في بطنها إذا متم، وتبعثون منها: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى(55)}،{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً(6)}. ثم هذه الأرض الواسعة أثبتها الله وأرساها بالجِبال الرواسي من أجل أن لا تميد بالنّاس وتضطرب. {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} يعني: سقفاً، لأنّ السماء فوق الأرض، وجعل الله فيها ج / 2 ص -157- الكواكِب والشمس والقمر التي بها مصالح العباد، وحفظها من الشياطين، ولهذا قال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً}. {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} هو المطر، والسماء هو السّحاب، لأنّ السماء على قسمين: السماء بمعنى: العلوّ والارتفاع، فكلّ ما علا وارتفع يقال له: سماء، والثّاني: السموات المبنيّة، وهي: الطِّبَاق السبع. {فَأَخْرَجَ بِهِ} بهذا المطر. {مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} هذا المطر ماءٌ واحد ومع هذا يُخرج الله به ثمرات مختلِفة ومتنوّعة، والتُّربة واحدة، ومع هذا يُخرِجُ في هذه التُّربة ومن هذا الماء أصنافاً من الثمرات مختلفة الطُّعوم، ومختلفة الألوان، مختلفة الرّوائح، مَن الذي نظّمها هذا التنظيم؟، هو الله سبحانه وتعالى. {رِزْقاً لَكُمْ} تأكُلون منه قوتاً وتتفكّهون به فواكه متنوّعة، من الذي أوجد هذه الأشياء؟، بل إنّ الجنس الواحد تحته أنواعٌ لا يعلم حصرها إلاّ الله سبحانه. {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} هذا نهيٌ من الله سبحانه وتعالى عن الشرك بعد الأمر بالتوحيد. والأنداد: جمعُ نِدّ، والمراد به: المثيل، والشّبيه، والنّظير. أي: فلا تجعلوا لله نُظراء وأمثالاً تشبِّهونهم به، وتُشركونهم معه في العبادة، وهم خلْقٌ مثلُكم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرًّا ولا موتاً ولا حياةً ولا نُشوراً. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه لا نِدّ له سبحانه وتعالى، وتعلمون أنّ أحداً لم يشارك الله في خلقه وفي تدبيره. أقام سبحانه وتعالى الدليل في هاتين الآيتين بعدّة أُمور: خلقُه لهم، وجعله الأرض فراشاً، والسماء بناءً، وإنزال المطر، وإخراج الثمرات، كلّها أدلّة عقليّة واضحة هم يعترفون بها، فهذا من إلزامهم بالحُجّة، على التوحيد. وإبطال الشّرك الذي هم عليه، وبيان أنّه لا بُرهان له ولا دليل عليه، وإنما الدليل والبُرهان على وُجوب عبادة الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ(117)}، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} لا بُرهان لهم على الشّرك ج / 2 ص -158- وقال ابن عبّاس في الآية: "الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل. أبداً، وإنما البراهين القاطعة هي على توحيد الله سبحانه وتعالى وإفراده بالعبادة. ودلَّ ذلك على أن الإقرار بتوحيد الربوبية لا يكفي، فالذين يقولون: بأنّ التوحيد هو الإقرار بأنّ الله هو الخالق الرازق المحيي المميت. هؤلاء مخطئون، لم يعرفوا التّوحيد، لأنّ هذا لو كان توحيداً كافياً لكان المشركون موحِّدين، لأنّ الله أخبر بأنهم يعلمون أنّ الله هو الخالق الرّازق الذي ينزّل المطر والذي فعل هذه الأفعال، يعلمون هذا ولم يكونوا موحِّدين، بل أمرهم بعبادته فقال: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}، فدلّ على أن علمهم بهذه الأشياء لا يكفي حتى يُفردوا الله سبحانه وتعالى بالعبادة، إذاً: فالتوحيد هو إفراد الله تعالى بالعبادة، وليس التوحيد هو الإقرار بتوحيد الرّبوبيّة كما يقوله علماء الكَلام الذين لم يفهموا التّوحيد، بل جعلوا كلّ همّهم ومناظَراتهم واستدلالهم على توحيد الرّبوبية، وهذا تحصيل حاصل، وموجود عند أبي لَهب وأبي جهل وغيرهما، فهم يقرّون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت. قال: "وقال ابن عبّاس في الآية: الأنداد هو الشرك" الشرك منه نوعٌ جليٌّ واضحٌ كالذبح لغير الله، والنّذر لغير الله، ودُعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله، هذا شرك واضحٌ جلي، لأنّه يُرى ويُسمَع. وهُناك شركٌ خفي، وهو نوعان: النوع الأول: شركٌ في المقاصد والنيّات، وهذا خفيّ لأنّه في القُلوب، والقُلوب لا يعلم ما فيها إلاَّ سبحانه وتعالى، كالذي يصلِّي، لكن يصلّي رياءً وسُمعة، وهذا لا يعلمُه إلاّ الله. والنوع الثاني: شركٌ خفيّ، لأنّه لا يعلمه كثيرٌ من النّاس، وهو الشرك في الألفاظ دون الاعتقاد، وهو المذكور هنا. قال ابن عبّاس: "الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلُمة الليل" سُمّي خفياً: لأنه قَلَّ من يتنبّه له. ج / 2 ص -159- وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان، وحياتي، وتقول: لو لا كُلَيْبَة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها فلاناً؛ وهذا كله به شرك". ثم ضرب له أمثلة بكلمات يقولها بعض النّاس بألسنتهم. "وهو أن يقول: والله وحياتِك يا فلان، وحياتي" فالحلف بغير الله من الشرك الذي يجري على ألسنة كثيرٍ من النّاس، ولا يعلمون أنه شرك، فكثيراً ما يقول بعضهم: والنبي، والأمانة، وحياتك. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". والحلف بغير الله شركٌ أصغر، إنْ كان لا يقصد تعظيم المحلوف به كما يعظِّم الله. وإنْ كان يقصد تعظيم المحلوف به مثل ما يعظِّم الله فإن الحلف يكون شركاً أكبر. والذين يحلفون بالقُبور والأضرحة، ويعظِّمونها كما يعظِّمون الله، هو من هذا النوع. لأنّ كثيراً منهم يتساهل بالحلف بالله، ولا يتساهل بالحلف بالضريح أو الوليّ، إذا قيل له: احلف بالله؛ بادَر بالحلف، إذا قيل له: احلف بمعبودك وبمعظِّمك وبالوليّ الذي أنت تعظِّمه؛ ارتعد وأبى أن يحلِف، يخاف من البطش من هذا الولي، فهذا شرك أكبر بلا شك. ومن الشرك في الألفاظ قول الرّجل: ما شاء الله وشئت، لولا الله وفُلان. لأنه لا يجوز، الجمع بين الله وغيره بالواو، لأنّ الواو تقتضي التشريك. والصواب: ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن تقول: ما شاء الله، ثُمَّ شاء فلان. لأنّ "ثُمَّ" ليست للتشريك، وإنّما هي للترتيب، وجعل مشيئة المخلوق بعد مشيئة الخالق، كما قال تعالى: "{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(29)}"، فالعبد له مشيئة بلا شك، ولكنها تابعة لمشيئة الله سبحانه. هذا ما قاله ابن عبّاس في تفسير هذه الآية: "{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}"، فالآية نهت عن اتّخاذ الأنداد، وهذا يشمل الشرك الأكبر والشرك الأصغر. ج / 2 ص -160- وابن عبّاس رضي الله عنهما مثَّل بالشرك الأصغر لينبِّه به على ما هو أشدّ منه وهو الشرك الأكبر، فإذا كان الشرك الأصغر لا يجوز فكيف بالشرك الأكبر؟، والسّلف يستدلون بالآيات النّازلة في الشرك الأكبر على منع الشرك الأصغر، لأنّه نوعٌ من الشّرك، وقوله تعالى: "{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً}" يشمل هذا وهذا. يُستفاد من هاتين الآيتين مع قول ابن عبّاس رضي الله عنهما مسائل كثيرة: المسألة الأولى: أن التّوحيد هو أعظمُ مأمورٍ به، لأن الله بدأ به في أوّل نداء في المصحف الشريف. المسألة الثانية: في الآية دليلٌ على أنّ الإقرار بتوحيد الرُّبوبية لا يكفي في التّوحيد، لأن الله أخبر أنّ المشركين يعلمون هذا فقال: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. أنه لا خالق لهذه الأشياء المذكورة وغيرها إلا الله فلماذا تعبدون معه غيره ممن لا يخلق شيئاً. المسألة الثالثة: في الآيتين الاستدلال بتوحيد الرّبوبيّة على توحيد الإلهيّة، وأنّ توحيد الرّبوبيّة وسيلة وتوحيد الألوهيّة غاية، لأنّه هو المقصود وهو المطلوب من الخلْق، لأنّه لَمَّا أمر بعبادته ذكر توحيد الرّبوبية، ففيه الاستدلال بتوحيد الرّبوبية على توحيد الأُلوهية. المسألة الرابعة: أنّه لا يكفي الأمر بالتوحيد، بل لابد من النّهي عن الشّرك، لأنّ الله قال في الآية الأولى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}، وقال في ختام الآية الثانية: "{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً}"، فدلّ على أنّه لابد من الجمع بين الأمرين: الأمر بالتوحيد والنّهي عن الشرك، فالذي يقتصر على الأمر بالتّوحيد ولا ينهى عن الشّرك لم يقم بالمطلوب لأن ذلك لا يحقِّق شيئاً، وهذا في القرآن كثير دائماً بجانب الأمر بالتّوحيد النّهي عن الشّرك، قال تعالى: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} هذا أمر ونهي، {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} هذا فيه: الكفر بالطّاغوت، والإيمان بالله، فالإيمان بالله لا يكفي، بل لابد من الكفر بالطّاغوت، وكلّ رسول يقول لقومه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}، {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، فلابد من الجمع بين الأمر بالتوحيد والنّهي عن الشّرك. المسألة الخامسة: أنّ هذه الألفاظ التي ذكرها ابن عبّاس تجري على ألسنة ج / 2 ص -161- وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" رواه الترمذيّ وحسّنه، وصححه الحاكم. كثيرٍ من النّاس وهي من الشّرك، لكنه شرك أصغر، ويسمّى شرك الألفاظ، ولو لم يقصد بقلبه، وهو من اتّخاذ الأنداد. المسألة السّادسة: فيه أنّ السلف يستدلّون بالآيات النازلة في الشرك الأكبر على الشرك الأصغر، لأنّ ابن عبّاس استدلّ بالآية على ذلك، لأنّ الشرك الأصغر يجُرُّ إلى الشرك الأكبر، ففيه: الابتعاد عن الشّرك من كلّ الوُجوه، باللّفظ، وبالنّيّة، وبالفعل. قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله" أي: أقسم بغير الله، كأن يقول: والنّبي، أو يقول: والأمانة، أو يقول: وحياتِكَ ما فعلتُ كذا، أو ما أشبه ذلك، بأن يقسم بمخلوق. فالحلف والقسم: تأكيد شيء بذكر معظّم على وجه مخصوص. وهو تعظيمٌ للمُقْسَم به، والتعظيم إنّما يكون لله سبحانه وتعالى، فالمخلوق لا يُقْسِمُ إلاّ بالله أو بصفةٍ من صفات الله سبحانه وتعالى. أمّا الله سبحانه وتعالى فإنّه يُقْسِمُ بما شاء مِن خلقه، أمّا المخلوق فلا يقسِم إلاّ بالله، ولا يجوز له أن يقسم بغيره كائناً مَنْ كان: لا يقسِم بالأنبياء، ولا بالملائكة، ولا بالصالحين، ولا يُقسم بالكعبة، ولا يقسم بأي شيء إلا بالله سبحانه وتعالى. وفي هذا الحديث: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن حلَف بغير الله" كائناً مَنْ كان من ملائكة، أو أنبياء، أو أولياء، أو مشاعر مقدّسة، أو غير ذلك. "فقد كفر أو أشرك" وهذا إمّا شكٌ من الراوي، يعني: هل قال الرّسول: كفر، أو قال: أشرك، أو أنّ (أو) بمعنى (الواو)، لأنّ (أو) تأتي أحياناً بمعنى (الواو) في لغة العرب، يعني: فيكون المعنى: "فقد كفر وأشرك"، يعني: جمع بين الكفر والشّرك، لأنّ بين الشرك والكفر عموم وخُصوص، فكل مشرك كافر وليس كل كافر يكون مشركاً. وقد يَرِد سؤال هنا وهو: أنّه جاء في بعض الأحاديث الحلف بغير الله، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أَفْلح َوأبيه إنْ صدَق"، مع قوله: "مَن حلَف بغير الله فقد كفر أو أشرك". فما الجواب؟. ج / 2 ص -162- وقال ابن مسعود: "لأنْ أحلِف بالله كاذباً أحبُّ إليّ من أنْ أحلِف بغيره صادقاً". وعن حُذيفة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثُمَّ شاء فلان" رواه أبو داود بسند صحيح. أجاب عنه العلماء بجوابين: الجواب الأوّل: أن هذا وأمثاله لا يُقصد به اليمين، وإنما يجري على الألسنة من غير قصد اليمين. والجواب الثاني: أنّ هذا كان قبل النّهي، فكان في الأوّل يجوز الحلِف بغير الله، وبعد ذلك نُهي عن الحلِف بغير الله، فقوله: "أفلح وأبيه" وأمثاله يكون منسوخاً بالنّهي عن الحلف بغير الله، وهذا هو الذي رجّحه في الشرح. والشاهد من الحديث للتّرجمة: أن الحلف بغير الله من اتّخاذ الأنداد لله سبحانه وتعالى، لأنّ النّد معناه: النّظير والشّبيه، فالذي يحلف بغير الله يجعل المحلوف به نِدًّا لله وشبيهاً لله سبحانه وتعالى. قوله: وقال ابن مسعود: "لأن أحلِف بالله كاذباً أحبُّ أليّ من أنْ أحلِف بغيره صادقاً" الكذب حرام، وكبيرة من كبائر الذّنوب، ولكنّه أسهل من الحلف بغير الله، لأنّ الحلف بغير الله شرك، والحلف بالله كاذباً محرّم ومعصية، ولكنه دون الشرك، لأن الشرك أكبر الكبائر. وسيِّئة الكذب أخف من سيِّئة الشرك. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لأن الحلف بالله كاذباً فيه توحيد، والحلف بغير الله صادقاً شرك، وحسنة التّوحيد أعظم من حسنة الصّدق" وسيِّئة الشرك أشدّ من سيِّئة الكذب. قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثُمَّ شاء فلان" هذا نهيٌ من الرّسول صلى الله عليه وسلم عن الجمع بين الله وبين المخلوق في المشيئة بأن يقول: "ما شاء الله وشاء فلان"، لأنّ (الواو) لمطلق الجمع والتّشريك، فكأنّك جعلت المشيئة صادرة من الله ومن المخلوق، وهذا شركٌ في اللّفظ، وتصحيح العبارة أن يقال: "ما شاء الله، ثُمَّ شاء فُلان". ج / 2 ص -163- وجاء عن إبراهيم النخعي: "أنه يكره: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك". قال: "ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان". فهذا فيه مسألتان: المسألة الأولى: النّهي عن عطف مشيئة المخلوق على مشيئة الخالق بـ (الواو)، وجواز عطفها بـ (ثُمَّ)، والفرق: أنّ (الواو) تقتضي التشريك، و (ثُمَّ) تقتضي الترتيب والتعقيب، فتجعل مشيئة المخلوق بعد مشيئة الخالق ومترتِّبةً عليها. المسألة الثانية: فيه دليل على إثبات المشيئة للمخلوق، رَدًّا على الجبريّة الذين يقولون إنّ المخلوق ليس له مشيئة وإنّما هو مجبَر ومسيَّر، ليس له اختيار ولا مشيئة، وهو مذهبٌ باطل، فالمخلوق له مشيئة، لكنها بعد مشية الله: قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً(30)}، {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ(28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً(30) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(29)} فأثبت سبحانه وتعالى للمخلوق مشيئة، وجعلها بعد مشيئة الله سبحانه وتعالى، فمشيئة المخلوق مترتّبة على مشيئة الخالق سبحانه وتعالى. وفي حديث حذيفة مسألة ثالثة: وهو أنّه مَن منع من شيء فإنّه يذكُر البديل الصّحيح عنه إن كان له بديل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لَمّا مَنع من هذه العبارة ذكر البديل الصحيح عنها وهو قولُ: "ما شاء الله ثم شاء فلان". قوله: "وجاء عن إبراهيم النخعي: أنه يكره: أعوذ بالله وبك" الاستعاذة نوعٌ من أنواع العبادة، لا يجوز صرفُها إلاَّ لله سبحانه وتعالى، فلا يجوز أن تقول: "أعوذ بالله وبك"، لأنّك إذا قلتَ هذا شرَّكت بين الخالق والمخلوق، والتجأت إليها جميعاً، وهذا شرك، لكن تصحيح العبارة أن تقول: (أعوذ بالله، ثُمَّ بك) فتأتي بـ (ثُمَّ)، والفرق بين (ثُمَّ) وبين (الواو): أن (ثُمَّ) تجعل الالتجاء إلى المخلوق بعد الالتجاء إلى الخالق سبحانه وتعالى، فالمخلوق يلتجأ إليه فيما يقدر عليه، فتذهب إلى شخص وتطلُب منه أنه يمنع عدوّك عنك، إذا كان هذا الشخص حياً يقدر على منع عدوّك عنك. أمّا العياذ المطلَق فإنّه لا يكون إلاَّ بالله سبحانه وتعالى ولا يجوز العياذ بالميت مطلقاً. وقوله: "ويقول: لولا الله ثُمَّ فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفُلان" سبق شرحه. ج / 2 ص -164- وهذا مما يدل على أنه يجب تعليم النّاس أُمور العقيدة، وما يُخِلُّ بها وما ينقِّصُها، لأنّ أغلب النّاس الآن - إلاّ ما شاء الله- أعرضوا عن تعليم العقيدة وتعلُّمها، ولا يعتنون بها، ولا يدعون إليها إلاّ ما شاء الله، وإلاّ فالأكثر يركِّزون على أمورٍ أخرى جانبيّة لا تُفيد شيئاً إذا اختلّت العقيدة، حتى ولو صحّت هذه الأغلاط الجانبية التي يريدون إصلاحها، لو صلحت وصحّت ما نفعت بدون إصلاح العقيدة، فالعقيدة هي الأساس، يجب أن نتعلّمها أوّلاً، وأن ندعوَ إليها أوّلاً، وأن نصحِّح الأخطاء فيها قبل تصحيح الأخطاء في المعامَلات، وتصحيح الأخطاء في الآداب والأخلاق. وما انتشرت هذه الأُمور في النّاس إلاَّ لَمّا قَلّ تدريس التوحيد وشرح العقيدة والدعوة إليها في المحاضرات والندوات والصُّحف والمجلات فانتشرت هذه الأمور، بسبب شياطين الإنس والجن الذين يريدون إفساد عقائد النّاس، فالاهتمام بأمر العقيدة وتصحيحها هو أمّ المهمّات: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} بدأ بالعلم بمعنى {لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} قبل العمل والاستغفار، لأنّه هو الأساس الذي تنبني عليه أمور الدين كلّها. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#2
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله ج / 2 ص -165- [الباب الثالث والأربعون:] * باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله عن ابن عمر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليَصْدُق، ومن حُلِف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله " رواه ابنُ ماجه، بسند حسن. قوله: "باب ما جاء فيمن لم يَقنع بالحلف بالله" يعني "ما جاء فيه من الوعيد، وأنّه ينقِّص التّوحيد، لأنّ الذي لا يقنع بالحلف بالله لا يعظِّم الله سبحانه وتعالى حق التّعظيم، لأنّه لو كان يعظِّم الله حقّ التعظيم لرضيَ بالحلف به، فكونه لا يرضى ولا يقنع بالحلف بالله دليلٌ على نُقصان تعظيمه لله، وهذا ينقِّص التوحيد، كما أنّ كمال تعظيم الله كمالٌ في التّوحيد. هذا وجه المناسبة لعقد هذا الباب في كتاب التوحيد. ثم ذكر الحديث عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحلفوا بآبائكم" سبق في الباب الذي قبله النهي عن الحلف بغير الله، وأنه شرك أو كفر، كما قال صلى الله عليه وسلم: "مَن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك"، لأنّ الحلف تعظيمٌ للمحلوف به، ومَن عظّم غيرَ الله بالحلف به فإنّ هذا شركٌ بالله عزّ وجلّ، وهو يختلف باختلاف الحالفين: من كان يعظِّم المحلوف به كما يعظِّم الله فهو شركٌ أكبر، ومن كان لا يعظِّمه كتعظيم الله بل عنده نوعُ تعظيم لا يساوي تعظيم الله، فإنّه يكون شركاً أصغر. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحلفوا بآبائكم" ليس هذا خاصًّا بالآباء، فالحلف بغير الله لا يجوز، سواء كان بالآباء أو بغيرهم، وسواء كان بالآدميِّين من الرُّسل والصالحين، أو كان بالكعبة، أو غير ذلك، فالمخلوق لا يجوز له أن يحلف إلاّ بالله عزّ وجلّ، فذكره الآباء هو من باب ذكر بعض أفراد المنهي عنه، لأنّ عادتهم أن يحلفوا بالآباء. قوله: "ومن حلف بالله فليصدُق " هذا أمرٌ من النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الحالف بالله يجب عليه أن يصدُق، فلا يحلف بالله كاذباً، لأنّ من حلف بالله وهو كاذب فقد استهان والحلف بالله كاذباً هي اليمين الغَموس، سُمِّيت بذلك لأنّها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النّار- والعياذ بالله-، كالذي يحلف على السِّلع في البيع والشّراء أنها جيّدة، وهي ليست كذلك، أو أنها سليمة وهي ليست كذلك، أو أن قيمتَها كذا وكذا، ليرغِّب النّاس فيها وهو كاذب، فإذا حلف على أمرٍ ماضٍ كاذباً متعمِّداً فهذه هي اليمين الغَموس، وهي كبيرة من كبائر الذنوب، لأنّ الكذب في حد ذاته كبيرة: قال الله تعالى: {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ(105)}، فالكذب في حدّ ذاته كبيرة، فإذا انضاف إليه يمين كاذبة صار أشدّ وأعظم، وجاء في الحديث: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكِّيهم، ولهم عذابٌ أليم: المُسْبِل، والمنّان، والمنفِّق سلعته باليمين الكاذبة". وقوله: "ومن حُلف له بالله فليرضَ" هذا محل الشاهد من الحديث للباب، ومعناه: فليرضَ باليمين بالله تعظيماً لله سبحانه، وهذا يدل على كمال التوحيد. ثم الحالف إنْ كان صادقاً فهو على ما حلف، وإنْ كان كاذباً فإثُمه عليه. قوله: "ومن لم يرض فليس من الله" هذه براءة من الله ممن لم يقنع بالحلف به، وهذا وعيد شديد. فيجب تعظيم اليمين بالله والرّضا بها، سواءً كانت في الخُصومات أو كانت في الاعتذارات، فالمسلم يحسن الظنّ بأخيه المسلم. وهذا الحديث يدلّ على مسائل: المسألة الأولى: تحريم الحلف بغير الله، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحلفوا بآبائكم". والمسألة الثّانية: وُجوب الصدق في الأيمان وعدم الكذب فيها، لأنّ الصدق في الأيمان تعظيمٌ لله سبحانه وتعالى، وتعظيمٌ لعهده. والمسألة الثالثة: وجوب القناعة بالحلف بالله، وتحريم عدم القناعة بالحلف بالله، لأنّ ذلك تعظيمٌ لجانب الله سبحانه وتعالى، وثقةٌ بالحلف به، وأن لا يُستهان باليمين بالله، لا من الحالف ولا من المحلوف له، بل تعظَّم من الجانبين، وهذا من حقوق التوحيد، وعدمُه من نُقصان التّوحيد. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#3
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب قول: ما شاء الله وشئت ج / 2 ص -167- [الباب الرابع والأربعون:] * باب قول: ما شاء الله وشئت عن قتيلة: أن يهودياً أتى للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون؛ تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. قال الشيخ رحمه الله: "باب قول: ما شاء الله وشئت" يعني: ما ورد في ذلك من النّهي، وأنّه شركٌ وتنديد؛ لأنّك إذا قلت ذلك شرَّكْتَ بين الخالق والمخلوق في المشيئة، حيث عطفتَ بالواو، والواو تقتضي التشريك، فهذا شرك في الرّبوبيّة، وهو لا يجوز، وإنْ كان القائل لا يعتقد هذا في قلبه، فهو شركٌ في اللّفظ منهيٌّ عنه، فكيف إذا اعتقد هذا في قلبه؟، فالأمر أشدّ. قوله: "عن قُتَيْلة" هي قُتَيْلَة بنت صَيْفِي الأنصاريّة، وبعضُهم يقول: الجُهَنِيَّة. قوله: "أن يهودياً أتى للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تُشركون؛ تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة" هذا اليهودي عرف أنّ هذا شرك، وأقرّه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ووجّه أمّته أن يستبدلوا هذه الألفاظ بألفاظٍ صحيحة، فيقولوا "ورب الكعبة، وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئت". فقوله: (قولوا: وربّ الكعبة) وربُّ الكعبة هو الله سبحانه وتعالى، والكعبة: بَيْتُ الله، فلا يحلف بالكعبة، وإنّما يحلف بربّ الكعبة، هذا هو البديل الصحيح الخالي من الشرك. وإذا كان الحلف بالكعبة شركاً ومنهياً عنه؛ فكيف بالحلف بغيرها من المخلوقات؟. وقوله: قولوا: "ما شاء الله ثم شئت"، هذا هو اللّفظ الصحيح: أن تأتي بـ(ثُمَّ) بدل (الواو)، لأنّ (الواو) للتشريك بين الخالق والمخلوق في المشيئة، أما (ثُمَّ) فإنّها للتّرتيب حيث جعلت مشيئة المخلوق بعد مشيئة الخالق، لأنّ المخلوق لا يشاء إلاّ إذا شاء الله سبحانه وتعالى، فمشيئته تابعة لمشيئة الله وليست مستقلّة، فهذا هو فرقُ ما بين اللّفظتين لفظة: "ما شاء الله وشئت" وبين: "ما شاء الله، ثُمَّ شئت"، فلفظة "ما شاء الله وشئت" شركٌ، ولفظة: "ما شاء الله، ثُمَّ شئت" توحيد. والمخلوق له مشيئة، خلافاً للجَبْرِيَّة الضُّلاَّل الذين يقولون: إنّ المخلوق ليس له مشيئة، بل هو مجبور، يفعل الكفر والمعاصي والشرك من غير اختياره، مثل الآلة التي تُحَرَّك والريشة التي تحرِّكُها الريح، ولو كان كذلك لم يستحقّ العذاب على المعصية، ولم يستحقّ الثواب على الطاعة. ويقابلهم المعتزلة الذين قالوا: العبد له مشيئة مستقلة لا تتعلّق بمشية الله، فهو يفعل الكفر والمعاصي بغير مشيئة الله، وإنّما بمشيئته مستقلاً بها. تعالى الله عمّا يقولون، وهذا معناه: أنه يحدُث في ملك الله ما لا يشاؤُه. وليس من لازم مشيئة الله: محبته لكل ما يشاؤه سبحانه؛ فهو يشاء كفر الكافر ولا يحبه، وإنما يشاؤه ويخلقه لحِكمة بالغة وهي الابتلاء والامتحان. وإلاَّ فـ "لو يشاء الله لهدى النّاس جميعاً" ولكن اقتضت حكمته أن يفاوت بينهم. قوله صلى الله عليه وسلم: "أجعلتني لله نِدًّا؟!، قل: ما شاء الله وحده" الند هو: الشّبيه والمثيل والنّظير، يعني: أجعلتني شبيهاً لله ومثيلاً لله وشريكاً له في المشيئة، ثم أمره أن يستبدل هذه اللفظة بلفظة التّوحيد فيقول: ما شاء الله وحده. وهذا إرشاد إلى الأكمل أن يقول: ما شاء الله وحده، وإذا قال: ما شاء الله، ثُمَّ شئت. فهذا بيانٌ للجائز، فلا تعارُض بين الحديثين. وهذا من سدّ الطُرُق الموصلة إلى الشرك، فإنّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرك ونهى عن الطرق التي توصل إليه، فإذا تلفظ بذلك- ولو كان لا يعتقد- فهذا وسيلةٌ إلى الاعتقاد فيما بعد، فيُمنَع اللفظ وإنْ كان لا يعتقد بمعناه لئلا يفضي هذا إلى الاعتقاد. وهذان الحديثان فيهما فوائد عظيمة: الفائدة الأولى: ما ذكره الشيخ رحمه الله في مسائله قال: "فيه فَهْمُ الإنسان إذا كان له هوى"، فهذا اليهودي مع كونه يهوديًّا مغضوباً عليه فهم أنّ هذا من الشّرك، لأنّه يريد أن يتنقّص هذه الأُمّة، ومع هذا تقبّل الرّسول صلى الله عليه وسلم هذه الملاحظة، وأرشد إلى تصحيحها. ج / 2 ص -169- وله- أيضاً- عن ابن عبّاس: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: "أجعلتني لله نداً؟!، بل ما شاء الله وحده". فهذا فيه فائدة ثانية وهي: قَبول الحقّ ممّن جاء به ولو كان عدوًّا. وفيه فائدة ثالثة: نبّه عليها الشيخ رحمه الله وهي: أن اليهود على ضلالهم يفهمون الشّرك، وبعض علماء هذه الأُمّة لا يفهمون الشرك، ولذلك يرون جواز عبادة ا لأضرحة والقُبور، ولا يستنكرونها، ويقولون: هذا من التوسُّل بالصالحين، وليس شركاً، أو هذا يدلّ على محبة الصالحين. ويحبِّذون هذا الشيء، ويرون أنّه ليس بشرك، مع أنه شركٌ مخرجٌ من الملّة، والذي ذكره هذا اليهودي شركٌ أصغر لا يُخرِجُ من الملّة، وبعض المنتسبين إلى العلم من هذه الأمة لا يُنكرون الشرك المخرِج من الملّة الذي يَعُجُّ الآن في العالم الإسلامي بعبادة غير الله، ففيه أن بعض اليهود أفهم من بعض العلماء المنتسبين إلى الإسلام، نسأل الله العافية والسلامة. الفائدة الرابعة: النّهي عن قول: (ما شاء الله وشئت)، والنّهي عن الحلف بالكعبة، وبغيرها من المخلوقات، لأنّ الحلف بغير الله شرك، لأنّه تعظيمٌ لغير الله سبحانه وتعالى، ولا يستحقّ التعظيم على الوجه الأكمل إلاّ الله سبحانه وتعالى، ففيه: أن الحلف بغير الله شرك، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ هذا اليهودي على قوله: "إنكم تُشركون"، فدل على أنّ هذه الألفاظ شرك. الفائدة الخامسة: التّوجيه أنّ العالِم إذا منع من شيء؛ فإنّه يوجِّهُ إلى البديل الصّالح، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم وجّه إلى أن يُقال: "وربّ الكعبة"، وأن يقال: "ما شاء الله، ثُمَّ شئت"، فمن أفتى بتحريم شيء أو بمنع شيء وهُناك له بديلٌ صالح فإنّه يوجِّه إليه، كما فعل النّبي صلى الله عليه وسلم. الفائدة السادسة: وفي حديث ابن عبّاس في الرّجل الذي قال للنّبي صلى الله عليه وسلم: "ما شاء الله وشئت، قال له: "أجعلتني لله نِدًّا" فيه: إنكار المنكر، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليه، لاسيّما إذا كان هذا المنكر شركاً يُخِلُّ بالعقيدة فإنّه لا يجوز السُّكوت عليه، بل يجب أن يبيِّن ويُنبِّه، وهذا يشهد لِمَا قاله ابن عبّاس رضي الله عنهما في تفسير الآية التي سبقت، وهي قولُه: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قال ابن عبّاس هو قولُ الرّجل: "لولا الله وفلان، لو كُلَيْبَة هذا لأتانا اللّصوص، لولا البطّ لأتى اللُّصوص"، ج / 2 ص -170- ولابن ماجه: عن الطفيل -أخي عائشة لأمها- قال: رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله. قالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ففسّر اتّخاذ الأنداد بهذه الأشياء، وها هو الرّسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يقول: "أجعلتني لله نِدًّا؟"، فدلّ على أنّ قول: (ما شاء الله وشئت) اتّخاذ للنِدّ مع الله سبحانه وتعالى وإنْ كان من الشّرك الأصغر. قوله: "ولابن ماجه: عن الطُّفيل- أخي عائشة لأمّها-" الطُّفَيل هو: الطُّفَيْل بن عبد الله بن سَخْبَرَة الأَزْدي، نِسْبَةَ إلى الأَزْد؛ قبيلةٌ عربيّة مشهورة، وأبوه: عبد الله بن سَخْبَرَة جاء إلى مكّة قبل البِعْثة وحالَف أبا بكر الصدِّيق، كما كان عليه الأمر في الجاهلية أنهم يتحالفون، ويصبح الحليِف أخاً لحليفه يدافِع عنه ويناصره ويحميه، بل إذا مات يَرِثُه، ويصبح الحليف مختلطاً بحلفائه كأنّه واحدٌ منهم، ثم نسخ الإسلام الأحْلاف وأبطل الميراث الذي يكون بالحِلْفِ، وقال الله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}، فجعل الميراث لأولى الأرحام، يعني: الأقارب دون الحلفاء، ثم مات عبد الله بن سَخْبَرَة، وكانت زوجته يقال لها: (أُمْ رُوْمَان)، فتزوجها أبو بكر الصدِّيق بعد حليفه عبد الله بن سَخْبَرَة، وأنجبت منه عبد الرحمن بن أبي بكر، وعائشة بنت أبي بكر زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان الطّفيل بن عبد الله أخاً لعائشة من أمها. "قال: رأيت" يعني: في النّوم. والرؤيا حقّ، وهي جزء من ستّة وأربعين جزءاً من النّبوّة. قد ذكر ابن القِّيم رحمه الله في كتاب "الروح" أن الرؤيا على ثلاثة أقسام: القسم الأول: حق، وهو ما يجري على يد ملَك الرؤيا، يأتي إلى النائم فيُريه أشياء عجيبة، فيستيقظ النائم وقد رأى هذه الرؤيا فتقع كما رآها. النوع الثّاني: يكون من الشيطان، وذلك: أنّ الإنسان إذا نام ولم يذكر الله عند النوم، ولم يقرأ آية الكرسي، ولم يقرأ سور الإخلاص والمعوِّذتين، ولم يتعوّذ بالله ج / 2 ص -171- ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. من الشيطان الرجيم، ويأتي بالأدعية المشروعة عند النّوم، فإنّ الشيطان يتسلّط عليه، ويكدِّر عليه نومه، ويُريه أشياء باطلة لا حقيقة لها من أجل أن يكدِّره. والسبب: أنه لم يتحصّن بالله من الشيطان قبل النوم. النوع الثالث: حديث نفس، وذلك أنّ الإنسان يفكِّر في أشياء في اليَقظة، أو تُهِمُّه أشياء، فإذا نام فإنّ هذه الأشياء تَعْرِضُ له في نومِه، لأنّه كان مهتمًّا بها في اليقظة. وهذا حديث نفس ليس له حقيقة، وإنما هو أضغاث أحلام. قوله: "كأنِّي أتيتُ على نَفَرٍ من اليهود" النفر: الجماعة، واليهود: هم أتباع موسى- عليه الصلاة والسلام- في الأصل. قيل: إنّهم سُمُّوا باليهود نسبة إلى (يهودا ابن يعقوب)، وقيل: سُمُّوا يهوداً أخذاً من قول موسى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} يعني: تُبْنا إليك، من (الهَوْد) وهو التّوبة والرُّجوع إلى الله سبحانه وتعالى. هذا في الأصل، ثم صار يُطلق لفظ اليهود على المنتسبين إلى إتِّباع موسى، وإن كانوا قد خالفوه في أشياء كثيرة، وكذبوا عليه، وأَحْدَثوا في دينِه الأشياء القبيحة من الشرك بالله والكلام في حق الله سبحانه وتعالى. قوله: "قلت: إنكم لأنتم القوم" هذا مدحٌ لهم، لأنهم كانوا في الأصل على دين صحيح. "لولا أنّكم تقولون: عُزير ابن الله" ينسبون الولد إلى الله سبحانه وتعالى، و"عُزَيْر" اسم رجلٍ منهم، قيل: إنّه نبي، وقيل: إنّه رجلٌ صالح وعالِمٌ من علمائهم. "لولا أنكم" يعني: لولا هذه المقولة الكافرة فيكم. "قالوا" ردًّا على الطُّفيل. "وأنتم لأنتم القوم" يمدحون المسلمين. "لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد" فيه: أن الإنسان يرى عيب غيره، ولا يرى عيب نفسه، وإن كان عيبه أكبر من عيب غيره. وفيه: قبول الحق ممن جاء به. قال: "ثم مررت على نفرٍ من النصارى" النصارى: أتباع عيسى عليه السلام في الأصل. قيل: سُمُّوا نصارى نسبةً إلى البَلد (الناصرة) بفلسطين، وقيل: سُمُّوا نصارى من قولهم: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ}. ج / 2 ص -172- فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، قال: "هل أخبرتَ بها أحداً؟ "، قلت: نعم، قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده ". "فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله" وهو عيسى ابن مريم، سُمِّي بالمسيح لأنّه يمسح بيده على ذي العاهة فيبرأ بإذن الله. فالنصارى غلوا في المسيح كما غَلَت اليهود في عُزير. ثم رد عليه النصارى بمثل ما قاله اليهود، قال طُفيل: "فلما أصبحتُ أخبرتُ بها مَن أخبرت، ثم أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه، قال: "هل أخبرتَ بها أحداً؟ "، قلت: نعم، قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أمّا بعد" هذا فيه: دليل على مشروعية حمد الله والثّناء عليه في بداية الكلام، لقوله صلى الله عليه وسلم: "كلّ أمر ذي بال لا يُبدأُ في بالحمد لله فهو أبتر"، ولهذا افتتح الله كتابه العظيم القرآن بـ{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2)}، وفيه استحباب الإتيان بأما بعد، وهي كلمة يُؤتَى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر. "فإن طُفيلاً قد رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنّكم قلتم كلمة يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها" قيل: كان يمنع النبي صلى الله عليه وسلم الحياء، لأنّه لم ينزل عليه وحيٌ في المنع منها. "فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده" لَمّا نبّههم على خطأ هذه الكلمة أرشدهم إلى البديل الصالح منها، وهو أن يقولوا: ما شاء الله وحده. فهذه القصة فيها فوائد عظيمة ودُروس وعِبَر: الفائدة الأولى: أن الرؤيا حقّ، ولذلك: لا يجوز الكذب في الرؤيا، وجاء في الحديث الوعيد على ذلك. الفائدة الثّانية: فيه: فهم الإنسان إذا كان له هوى، فهؤلاء اليهود والنصارى لَمّا كان لهم هوى في حق المسلمين؛ لاحظوا هذه المسألة، لا حُبًّا في الخير أو حِرْصاً على التّوحيد، ولكنّهم يريدون بذلك تنقُّص المسلمين، والتماس عيوبهم، وإن كان في اليهود والنصارى عيوب أكثر منها. ج / 2 ص -173- الفائدة الثالثة: قَبول الحقّ ممّن جاء به ولو كان عدوًّا، لأنّ الحق ضالّة المؤمن، والرُّجوع إلى الحقّ فضيلة. الفائدة الرّابعة: في الحديث دليل: على أنّ من نهى عن شيء أو منع من شيء وكان له بديل صالح أن يأتيَ بالبديل، فالنّبي صلى الله عليه وسلم لَمّا منع من هذه الكلمة "ما شاء الله وشاء محمد" أتى بالبديل الصالح الذي ليس فيه محذور وهو أن يقال: "ما شاء الله وحده". الفائدة الخامسة- وهي التي ساق المصنّف الحديث من أجلها-: أنّ كلمة "ما شاء الله وشاء فلان" ولو كان نبيًّا من الأنبياء؛ شركٌ بالله عزّ وجلّ يجب تركُه، ولكنّه من الشّرك الأصغر، بدليل قوله: "يمنعني كذا وكذا"، فإذا كان الإنسان لم يقصد معناه؛ فإنّه شركٌ في الألفاظ، فيجب تركُه واجتنابُه والابتعاد عنه. الفائدة السادسة: أنه لا يجوز الغلو بالنبي صلى الله عليه وسلم وإشراكه مع الله في شيء، ودعاؤه، والاستغاثة به من دون الله عزّ وجلّ لأنه نهى أن يقال "ما شاء الله وشاء محمد" فما بالك بما هو أشد من ذلك من أنواع الغلو. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#4
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب من سب الدهر فقد آذى الله ج / 2 ص -174- [الباب الخامس والأربعون:] * باب من سب الدهر فقد آذى الله قال الشيخ رحمه الله: "باب من سبّ الدهر" السبّ معناه: الذّم والتنقُّص، والدهر المراد به: الزمان والوقت. ومعنى: "آذى الله": أن الله سبحانه وتعالى يبغض ذلك ويكرهه، لأنّه تنقُّصٌ لله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يتأذّى ببعض أفعال عباده وأقوالهم التي فيها إساءةٌ في حقّه، ولكنّه لا يتضرّر بذلك، لأنه الله لا يضرُّه شيء: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً(57)}، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(177)}. وفي الحديث: "يا عبادي إنّكم لن تبلُغوا ضرّي فتضرّوني" ففرقٌ بين الضرر والإيذاء. ووجهُ كونه يتأذّى بسبّ الدهر: لأن السبب يكون متوجهاً إليه، لأنّه هو المتصرِّف الذي يجري في قدَره وقضائه الخير والشّرّ والمكروه والمحبوب، أما الدهر فإنّما هو زمانٌ ووقتٌ للحوادث، لا أنّ الدهر نفسه هو الذي يتصرّف ويُحدِث هذه الحوادث التي تجري فيه، وإنّما الدهر زمانٌ ووقتٌ للأعمال كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً(62)}، بل إنّ الله جعل بعض الأزمان له خاصيّة وفضيلة في مضاعفة الأعمال مثل شهر رمضان، وعشر ذي الحجّة، ويوم عرفة، وبوم الاثنين والخميس من كلّ أسبوع، ويوم الجمعة الذي هو سيّد أيّام الأسبوع وهو عيد الأسبوع، وآخر ساعة من يوم الجمعة، ووقت السّحر. هذه أوقات فاضلة تُضاعَف فيها الأعمال، ويُستجاب فيها الدّعاء أكثر من غيرها، فالدهر في الحقيقة نعمةٌ من الله سبحانه وتعالى لمن حفظه فيما ينفعه، أما مَن ضيّعه فإنّه يكون حَسْرةً عليه يوم القيامة، فالدّهر إنما هو وقتٌ للأعمال، يَجري فيه الخير والشرّ، والطاعة والمعصية، والكفر والإيمان. فلا يتعلّق بالدهر مدح ولا ذم، لأنّه مجرّد زمان ومجرّد وقت للأعمال خيرها وشرِّها، ومَن علّق الذم بالدهر فإنّما يذمّ الخالِق سبحانه وتعالى لأنّ الدهر مخلوق لا يخلق ولا يُحْدِث شيئاً، وإنّما الذي يخلُق هو الله سبحانه وتعالى. ثم ساق الشيخ رحمه الله الآية، وهي قولُه تعالى عن المشركين: "{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ(24)}" ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية عن المشركين، الذين بُعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّهم يُنكرون البعث ويستبعدونه، ويزعمون أنّه لا يمكن حصول البعث لأنّ الأجسام تتفتّت وتضيع وتذهب، فمن أين الإعادة لشيء قد ضاع وتفتّت وذهب: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ(79)}، {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً(49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً(50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً(51)}، {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً(11) قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ(12)}، {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ(16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ(17)}، {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ(3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ(4)}، فيا سبحان الله أين العُقول؟!، فالذي خلقهم من لا شيء، وأوجدهم من العَدَم في أوّل مرّة؛ ألا يقدر على إعادتهم مرّة ثانية؟، بل من ناحية العُقول: أنّ الإعادة أسهل من البداءة: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(27)}، مع أن الله لا يصعُب عليه شيء سبحانه وتعالى، لا الإعادة ولا البداءة، الكلّ سهلٌ عليه ويسيرٌ عليه لكن هذا من جهة التصور العقلي. ثم- أيضاً-: لو لم يكن بعثٌ ونُشور للزِم أن يكون خلق الخلق عبثاً لا نتيجة له، وهذه الأعمال لا نتيجة لها: الإيمان والطاعة والاستقامة والعبادة لا نتيجة لها إذا لم يكن هُناك بعث، الكفر والمعاصي والإلحاد والفُسوق والظُّلم والعُدوان لا نتيجة له، لأنّنا نرى أنّ النّاس يموتون الطائع والعاصي المؤمن والكافر، الكافر يموت على كفره، والمطيع يموت على طاعته، وقد يكون المطيع في هذه الدنيا في فقر وحاجة ومرض وآلام، وقد يكون الكافر في نعيم وفي رفاهية وفي أُبَّهة من العيش مع كفره، إذاً: أين النتيجة؟، لا بدّ أن هناك داراً أُخرى تظهر فيها النتائج، ج / 2 ص -176- تظهر فيها نتيجة الطّاعة، ونتيجة المعصية، وإلاّ للزِم أن يكون خَلْقُ الخلْق عبثاً، كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ(115)}، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(22)}، وقال سبحانه وتعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)}، وقال سبحانه وتعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ(28)}؟، هذا تأباه حكمة الله سبحانه وتعالى، فكون المطيع الصالح العابد يعيش في هذه الدنيا في ضيق ومرض وفقر وفاقة؛ لأنّ الله ادّخر له جزاءً يوم القيامة، وكون العاصي والكافر يعيش في سُرور وفي رغَدٍ من العيش مع كفره؛ هذا لأنّ الله أعدّ له النّار يوم القيامة؛ {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ}، تأبى حكمة الله سبحانه وتعالى أن يُضيع أعمال العباد سُدى، وأن يسوِّي بين المؤمن والكافر والمطيع والعاصي، تأبى حكمة أحكم الحاكمين أن تتّصف بذلك، فلولا أنّ هناك بعثاً يحاسَب فيه العباد ويجزى كلُّ عامل بعمله للزم العبث وللزم الجور والظُّلم من الله، تعالى الله عن ذلك، دلّ هذا على أن هناك داراً أُخرى غير هذه الدّار، أخبر الله عنها، وتواترت بها أخبارُ الرُّسل- عليهم الصلاة والسّلام-، لكنّ المشركين الذين بُعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستبعدون البعث لجهلهم بقدرة الله سبحانه وتعالى، ويقيسون قدرة الخالق على قدرتهم، ولهذا استصعبوا البعث، ورأوه مستحيلاً؛ أن يبعث الله هذه الأجسام بعد تفتُّتها وضياعها في الأرض، ولكنّ الله سبحانه وتعالى يعلم مستقرّها ومستودَعها ويعلم مصيرها، ولو فنَيتْ وصارت تُراباً فالله يعلم هذه الأجسام وما تحلّل منها وقادرٌ على إعادتها: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ(4)}، بل إنّ كل جسم الإنسان يفنى إلاَّ عَجْبَ الذَّنب، وهو: حبّة صغيرة، منها يركَّبُ خلقُ الإنسان يوم القيامة. فهم ينكرون البعث والنشور ويقولون: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} ما هناك حياةٌ أُخرى بعد هذه الحياة، ما هناك إلاّ الحياة التي نحن فيها. ج / 2 ص -177- {نَمُوتُ وَنَحْيَا} يعني: يموت ناس ويولَد ناس، كما يقولون: أرحام تدفع، وأرض تبلع. {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} أي: أنّ سبب الموت إنما هو طول العمر طول الحياة، الإنسان يعمّر ثم يَهْرَم ثم يموت، أو سبب الموت هو: حوادث الدهر، فينسبون الهلاك إلى الدهر. لماذا أصابهم قحط أو انحباس مطر نسبوه إلى الدّهر، وإذا أصابتهم مجاعة أو أصابهم قتلٌ أو مرض نسبوه إلى الدهر، ويزعمون أنّ هذا من تصرُّف الدهر، ولذلك يهجون الدهر في إشعارهم. وهذا في الحقيقة إنّما هو ذمٌّ لله سبحانه وتعالى، لأنّ الدهر ليس في مقدوره شيء، فليس هو الذي يصدرُ هذه المجريات، وإنما هي صادرة عن الله سبحانه وتعالى، فمن ذَمّ الدهر فقد ذمّ الله سبحانه. قال الله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} الواجب أن الإنسان إذا ادّعي دعوى أن يقيم عليها الدليل، وما عندهم دليل، ولهذا قال: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} يعني: ما لهم دليل على هذا، بل الدليل على العكس، على أن الدهر ليس له تصرُّف وإنّما التصرُّف هو للخالق سبحانه وتعالى. ثم قال: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} يعتمدون على الظّن، والظن {لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}. هذا هو المنطق الصحيح في لسان المناظرات، أما مجرّد الوهم ومجرّد الظنّ، فلا يُبنى عليه مثل هذا الأمر العظيم، وهو إنكار البعث. ثم ساق الشيخ الحديث، وهو من الأحاديث القدسيّة، والحديث القدسي: هو الذي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربّه، فهو كلام الله جل وعلا. يقول جل وعلا: "يؤذيني ابن آدم" الله يتأذّى ببعض أفعال عباده، لكنّه لا يتضرّر بها. ج / 2 ص -178- وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم؛ يسبب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار". وفي رواية: "لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر". ثم فسّر ذلك الأذى بقوله: "يسبُّ الدّهر" والدهر ليس محلاًّ للسّب، فيكون محلّ السب هو الله سبحانه وتعالى، لأنّه هو الذي خلق أو أوجد هذا الأمر الذي يكرهه هذا الإنسان، فإذا سبّ الدهر فقد سبّ الفاعل وهو الله سبحانه وتعالى، والواجب على أهل الإيمان أنه إذا أصابهم ما يكرهون أن يعتبروا أن هذا قضاء من الله وقدر، وأنّه من الله جل وعلا، وأنّه لم يخلُقه عبثاً، وأنّه بسبب الذّنوب والمعاصي، فيتوب المؤمن، ويصبر على المصيبة، ويحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى، ولا يُطلق لسانه بذمّ الساعة واليوم والوقت الذي حصل فيه هذا المكروه، وإنما يحمد الله ويشكره ويرضى بقضائه وقدَره، ويعلم أنّه ما أُصيب إلاّ بسبب ذُنوبه، فيحاسب نفسه ويتوب إلى الله تعالى. ثم بيَّن معنى قوله: "أنا الدهر" فقال: "أقلّب الليل والنهار"، وليس معناه: أن الله يُسمّى الدهر، فليس الدّهر من أسماء الله، والحديث يفسِّر بعضه بعضاً، فمن زعم أن (الدهر) من أسماء الله فقد غلِط. "وفي رواية:"لا تسبُّوا الدهر" هذا نهي، والنّهي يقتضي التحريم. ثم علّل ذلك بقوله: "فإنّ الله هو الدهر" يعني: مَن سبّ الدهرَ فقد سبّ الله، لأنّ الله هو الخالق سبحانه وتعالى، وهو الذي أجرى هذا الحادث الذي يكرهه العبد ويتألّم منه، فإذا سبّ الدهر فقد سبّ الفاعل وهو الله سبحانه وتعالى. ونخلص من هذا كله إلى مسائل نستنبطها من هذه الآية، ومن الحديث: المسألة الأولى: تحريم مسبّة الدهر، ومسبّة الدهر على نوعين: النوع الأوّل: ما يكون كفراً وشركاً أكبر، وذلك إذا اعتقد أنّ الدهر هو الفاعل، وهو الذي أحدث المصيبة، فذمّه من أجل ذلك، فهذا شركٌ أكبر، لأنّه أثبت شريكاً لله تعالى. النّوع الثاني: أن يعتقد أنّ الفاعل هو الله ولكنّه ينسِب الأذى إلى الدهر، أو ينسب الذمّ إلى الدهر من باب التساهُل في اللّفظ: فهذا أيضاً محرّم، ويُعتبر من ج / 2 ص -179- الشّرك الأصغر، حتى ولو لم يقصد المعنى وإنما جرى على لسانه، فيُعتبر من الشرك في الألفاظ. المسألة الثانية: فيه: أنّ الله سبحانه وتعالى يتأذّى ببعض أفعال عباده السيِّئة، ولكنّه جل وعلا لا يتضرّر بذلك. المسألة الثالثة: في الحديث بيان معنى أنّ الله هو الدّهر، وأنّ معناه: أنّه هو الذي يخلُق، ويدبِّر ويُجري هذه الحوادث في هذا الزمان، وليس معناه أن الدهر من أسماء الله، والحديث يفسِّر بعضُه بعضاً. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#5
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب التسمّي بقاضي القضاة ونحوه ج / 2 ص -180- [الباب السادس و الأربعون:] * باب التسمّي بقاضي القضاة ونحوه هذا الباب مشابهٌ للباب الذي قبله "باب من سب ّالدهر فقد آذى الله"؛ لأن الباب الذي قبله فيه النّهي عن مسبّة الدهر، لأنّ ذلك يؤذي الله سبحانه وتعالى. وهذا الباب في النّهي عن التسمِّي بالأسماء الضخمة التي فيها العَظَمة التي لا تليق إلاّ بالله سبحانه وتعالى، لأنّ هذا يغيظُ الله سبحانه وتعالى، فسبّ الدهر يؤذي الله، وهذا يغيظ الله سبحانه وتعالى، وكلا الأمرين محرّم شديد التحريم. ثم يأتي بعد هذا الباب: "باب احترام أسماء الله"، وهو كذلك يُشبِه هذين البابين. فهذه الأبواب الثلاثة بعضُها يشبه بعضاً، لكنّها لَمّا كانت متنوِّعة نوّعها المؤلِّف رحمه الله، من أجل أن يُعرف كلُّ شيء على حِدَته مفصَّلاً، لأنّ أمور التّوحيد لا بدّ فيها من التّفصيل والبيان، ولا يكفي فيها الإجمال والاختصار. قوله: "التّسّمي بقاضي القُضاة ونحوه" يعني: كلّ اسم فيه تعظيمٌ شديد للمخلوق من الألقاب والأسماء التي فيها التعظيم الذي لا يليق إلاّ بالله سبحانه وتعالى، مثل: "ملِك الأملاك" و "سيِّد السادات"، وما أشبه ذلك من الألقاب الضّخمة التي يتلقّب أو يتسمّى بها بعض الجبابرة أو المستكبرين. وكلُّ هذا محرَّم ومنهيٌّ عنه، لأنّ المطلوب من المخلوق التواضُع مع الله سبحانه وتعالى، وتجنُّب ما فيه تزكيةٌ للنفس أو تعظيمٌ للنفس، لأنّ هذا يحمل على الكِبْر والإعجاب، وخروج الإنسان عن طَوره ووضعه الصحيح. وكلُّ هذا يُخلُّ بعقيدة التّوحيد، لأنّ عقيدة التّوحيد تدور على توحيد الله سبحانه وتعالى، وعلى تنزيه الله عن المشابَهة والمماثَلة، فمن تسمّى باسم لا يليق إلاّ بالله على وجه التعاظُم فهذا فيه تشبيه بأسماء الله سبحانه وتعالى. فمثلاً: (قاضي القُضاة) هذا لا يليق إلاّ لله عزّ وجلّ، لأنّ الله سبحانه وتعالى الذي يقضي النّاس يوم القيامة القضاء النهائي، يقضي بين جميع الخلْق، ملوكهم وعامّتهم وعلمائهم وعوامّهم، يقضي بين جميع خلقه سبحانه وتعالى، فالقضاء المطلَق هو لله سبحانه وتعالى، فلا يليق أن يقال للمخلوق: "قاضي القُضاة"، لأنّ الله هو الذي يقضي بين جميع النّاس يوم القيامة، يقضي بينهم بحكمه: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ}، فهو الذي يقضي بين النّاس سبحانه وتعالى. أما القاضي من النّاس فإنه يقضي بين فئاتٍ قليلة من النّاس، لا يقضي بين كلّ النّاس، وإنما يقضي بين عدد قليل محصور، إما في بلد وإما في قضيّة خاصّة، ثم قضاؤه- أيضاً- قد يكون صواباً وقد يكون خطئاً، أما قضاء الله جل وعلا فإنّه لا يكون إلاّ حقًّا وصواباً، ولا يتطرّق إليه الخطأ والنقص جل وعلا. ففي هذه الكلمة "قاضي القُضاة" تعظيم زائد، ومنحٌ للمخلوق لصفةٍ لا يستحقُّها ومرتبة لا يرقى إليها. فالمناسب أن يُقال: "رئيس القُضاة"، بمعنى: أنه يُرجع إليه في أُمور القضاء وتنظيماته ومُجرياته. وكذلك: "ملِك الأملاك"، لأن المُلك المطلق لله عزّ وجلّ، وهو المُلْك الدائم الشامل، أما ملك المخلوق فهو مُلك جزئي ومؤقت. فالشيخ رحمه الله ترجم بقاضي القُضاة لأن كلمة "قاضي القُضاة" تدخل في "ملِك الأملاك"، فإذا نُهي عن كلمة "ملِك الأملاك" فإنّ "قاضي القُضاة" تأخُذ حكمها، لأنّ كلًّ من اللّفظتين فيهما التعظيم الزائد عن حقّ المخلوق. وكذلك ملك المخلوق مِنْحَة من الله سبحانه وتعالى، وعاريّة، لم يملك هذا المُلك بحوله ولا قوّته، وإنّما الله هو الذي ملّكه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26)}، فالذي يملِّك الملوك هو الله سبحانه وتعالى، هو الذي يعطي الملك لمن يشاء، وينزع الملك ممّن يشاء، أمّا ملك الله جل وعلا فإنّه مُلكٌ حقيقيٌّ عام دائم. "في الصحيح" يعني: "صحيح مسلم ". "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أَخْنَع " فسّرها المؤلِّف في آخر الباب: " أَخْنَع" يعني: أَوْضَع" فهذه الكلمة إذا أُطلقت على المخلوق "ملِك الأملاك" فإنّها تكون وضيعةً ج / 2 ص -182- قال سفيان: "مثل: شاهان شاه". وفي رواية: "أغيظ على الله يوم القيامة وأخبثه". قوله: "أخنع" يعني: أوضع. عند الله سبحانه وتعالى، وإن كان مقصود صاحبها الرِّفعة والعُلُوّ، فإنّ الله يجازيه بنقيض قصدِه، ويجعله وضيعاً، كما جاء في الحديث: أن المتكبِّرين يوم القيامة يُحشرون أمثال الذّرّ، وذلك معامَلةً لهم بنقيض قصدِهم. "رجل تسمّى" وفي رواية: "يُسمّى" بالياء، والفرقُ بينهما "تَسَمّى" يعني: سمّى نفسه، و "يُسَمّى" يعني: سمّاهُ غيرهُ ورضيَ هو بذلك ولم يُنكره. فهذا فيه سوءُ أدب مع الله سبحانه وتعالى، وتعاظُمٌ ورفعةٌ لا يستحقُّها المخلوق، والله جل وعلا يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(83)}، فالمؤمن لا يريد العلوّ في الأرض، وإنما يريد التواضُع لله سبحانه وتعالى، وإن تولّى ومَلَك فإنّه لا يُريد العلو، وإنّما يريد بالوِلاية والمُلك الإصلاح والعدل بين النّاس، فإذا كان هذا قصدُه صار من أحبِّ الخلق إلى الله تعالى، وصار من السّبعة الذين يظلُّهم الله في ظِلِّه يوم القيامة، فالملك العادل من السبعة الذين يظلّهم الله في ظلّه يوم القيامة. فليس معنى هذا النّهي عن تولِّي المُلك، لأن تولِّي السلطة والحكم مطلوب إذا كان القصد الإصلاح، فلا عيب في ذلك، إنما العيب في القصد السيّء، فإنْ كان قصدُه من تولِّي الملك العَظَمة والكبرياء والتجبُّر صار مُهاناً عند الله عزّ وجلّ، وإن كان قصدُه الإصلاح والعدل وإقامة الحق في الأرض صار مأجوراً عند الله سبحانه وتعالى، بل أجرُه عظيم، ومن الذين تُستجاب دعوتهم عند الله سبحانه وتعالى ولا تُردُّ دعوتُه. "قال سُفيان " هو: سفيان بن عُيينة: الإمام، المحدِّث، الجليل. "مثل: شاهان شاه" يعني: عند العجم، فمعنى هذا اللقب عندهم: "ملك الملوك". ومقصود سفيان رحمه الله بهذا أن يبيِّن أنّ هذا اللّقب ممنوعٌ في جميع اللّغات، سواء بالعربيّة أو بالأعجميّة، سواء سُمّي "ملك المُلوك" أو "شاهان شاه"، فالمعنى واحد، وكذلك "قاضي القُضاة" أو ما أشبه ذلك، فهذا منهيٌّ عنه في جميع اللُّغات. "وفي رواية: أَغْيَظُ" هذا أفعل تفضيل، والغيظ: شدّة الغضب. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#6
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم من أجل ذلك ج / 2 ص -183- [الباب السابع والأربعون:] * باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم من أجل ذلك قولُه رحمه الله: "بابُ احترام أسماء الله" أي: إكرامُها وإجلالُها، وعدم إهانتها، أو استعمالها في شيء يُمْتهن. والأسماء: جمع اسم، والاسم: ما يوضَع علامةً على الشيء مميِّزاً له عن غيره، مأخوذ من السُّمُو وهو الارتفاع، أو من السِّمَة وهي العلامة. والله سبحانه وتعالى له أسماء سمّى بها نفسَه في كتابه، وسمّاهُ بها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنّته، وله أسماء لا يعلمها إلاَّ هو سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}، وقال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى(8)}، وقال سبحانه وتعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، وقال تعالى في آخر سورة الحشر:{لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} والنّبي صلى الله عليه وسلم في دعائه يقول: "اللهم إنّي أسألك بكلّ اسم هو لك سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك"، فأسماء الله لا يعلمها إلاّ هو سبحانه وتعالى، وكلّها حسنى. وتعدُّد الأسماء يدلّ على عظم المسمّى، فهي أسماءٌ عظيمة، يجب على العباد: احترامُها، وإجلالُها، ودُعاء الله تعالى بها، والتوسّل إليه تعالى بأسمائه وصفاته، فيقول في الدّعاء: "يا رحمن يا رحيم، يا حيّ يا قيّوم، يا ذا الجلال والإكرام"، لأنّ ذلك من أسباب الإجابة، فدلّ على عظمها. فلا يجوز أن تُمْتَهَن وأن تُبْتَذَل، أو توضَع في أشياء تُستعمَل وتُهان، كأن تُكتب على أشياء تُداس بالأقدام، أو تقع في الشّوارع والقاذورات، ومَن وجد شيئاً من ذلك وجب عليه رفعُه أو إتلافه، أو إزالة اسم الله تعالى منه، فهذا من احترام أسماء الله سبحانه وتعالى. وقوله: "وتغيير الاسم" أي: إذا سُمّي شيء من المخلوقات باسم من أسماء الله الخاصّة به، كـ (الله) أو (الرحمن) أو ما أشبه ذلك من أسمائه الخاصّة به التي لا يُسمّى بها غيرُه؛ فإنّه يجب تغيير الاسم احتراماً لأسماء الله. ج / 2 ص -184- عن أبي شُريح: أنّه كان يُكنى أبا الحكم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله هو الحَكم وإليه الحُكم". "من أجل ذلك" أي: من أجل احترام أسماء الله تعالى. أما الأسماء التي يُسمّى بها المخلوق ويسمّى بها الخالق مثل: الملِك، والعزيز، وأشباه ذلك؛ فهذه ليست من هذا الباب، فالله له أسماء تختصّ به، والمخلوق له أسماء تختصّ به، فالله سمّى نفسه: (الرؤوف، الرحيم)، وقال عن نبيّه بأنّه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}، وسمّى نفسه بالعليم، ووصف وسمّى عبده {بِغُلامٍ عَلِيمٍ} وسمّى نفسه بالحليم، وسمّى عبده: {بِغُلامٍ حَلِيمٍ}، فهذه أشياء مشتركة يجوز أن يسمّى بها المخلوق، ولكن يُعلم أنّها ليست كأسماء الله سبحانه وتعالى. ثم ذكر رحمه الله الدليل فقال: "عن أبي شريح" اسمه- على الراجح-: هانئ بن يزيد الكِنْدي، صحابي، له رواية عن الرّسول صلى الله عليه وسلم. "أنه كان يُكنى" الكنية: ما صُدِّر بأبٍ أو أُم، كأبي عبد الله، وأمّ هانئ، وما أشبه ذلك، والكنية تكون للتشريف والتكريم، أما اللَّقب فإنه يكون للمدح وللذّمّ، والغالب أنّه للذمّ، ولذلك يقول الله جل وعلا: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ}. "أبا الحَكَم" الحكم هو: الذي يُحكم بين النّاس ويُفصِل النِّزاع، ومنه سُمِّي الحاكم حاكماً لأنّه يفصل بين النّاس، فالحكم- بالألف واللاَّم- لا يُطلق إلاّ على الله سبحانه وتعالى، أما أن يُقال: (حكم) بدون تعريف فلا بأس، فالله جل وعلا يقول: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا}. وقوله: "إن الله هو الحَكَم، وإليه الحُكْم" بمعنى: أنّه هو الذي يحكُم بين عباده، في الدُّنيا يحكُم بينهم بوحيه الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنّة: قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} والرّدّ إلى الله هو: الرّدّ إلى كتابه، والردّ إلى الرّسولِ صلى الله عليه وسلم هو: الرّد إليه في حياته وإلى سنّته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وكذلك هو الحَكَم في الآخرة الذي يحكُم بين النّاس فيما كانوا فيه يختلفون، ففي الآخِرة ليس هناك حاكم سواه سبحانه وتعالى، هو الذي يتولَّى الفصل بين عباده، ج / 2 ص -185- فقال: إنّ قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمتُ بينهم، فرضيَ كِلا الفريقين. فقال: "ما أحسن هذا!، فما لك من الولد؟ " قلت: شُريح، ومسلم، وعبد الله، قال: "فمن أكبرُهم؟ "، قلت: شُريح، قال: "فأنتَ أبو شُريح " رواه أبو داود وغيره. ويحكم للمظلومين على الظَّلَمة، ويردّ المظالِم إلى المظلومين، فلا يُنهي النّزاع بين العالَم إلاّ الله سبحانه، أما الحكم الذي في الدّنيا يحكُم به الحُكّام من القُضاة؛ فهذا يُخطئ ويُصيب، والنّبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد وأخطأ فله أجرٌ واحد"، أما إذا لم يجتهد أو اجتهد وهو ليس أهلاً للاجتهاد وحكم فإنه على كل حال مخطئ وآثم، لأنه ليس من حقّه أن يحكم وهو ليس أهلاً للاجتهاد، إلاَّ في مسألة الصُّلْحِ. والنّبي قال: "إنّ الله هو الحكَم، وإليه الحُكم " على سبيل الإنكار على أبي شريح. ثم إنّ ابا شريح أراد أن يبيِّن السبب للرّسول صلى الله عليه وسلم، وأنّه لم يسمِّ نفسَه بذلك، وإنّما النّاس هم الذين سمّوه به، والسبب في هذا: أنّه إذا اختلف قومُه في شيء رجعوا إليه فحكم بينهم فرضيَ كلاَ الفريقين، بمعنى: أنّه يُصْلِح بينهم برضاهم، وليس في هذا ظلمٌ لأحد، وإنّما فيه إنهاء للنّزاع وقطع للخُصومة وإرضاء لكلا الطَّرَفين، وهذا عملُ خير، ولهذا قال النّبي صلى الله عليه وسلم: "ما أحسن هذا"، والله جل وعلا يقول: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} وقال تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}، وقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "الصلح جائز بين المسلمين، إلاّ صلحًا أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً". فالإصلاح بين النّاس أمرٌ مرغَّبٌ فيه، وعملٌ صالح، وصدقة من الإنسان على نفسه أن يعدِل بين النّاس ويسوِّي الخلافات بين النّاس، بعكس الذي يُثير النّزاع ويُحدث الفتنة بين النّاس، ويحرِّش بعضهم على بعض، فهذا مفسد- والعياذ بالله-، خلاف الذي إذا وجد النّاس مختلفين فإنّه يصلح بينهم ويقارِب بين وجهات نظرهم، ويُذهِب ما في نفوسهم من الكراهية بعضهم لبعض، فهذا مصلِح وله أجرٌ عند الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال النّبيُّ سبحانه وتعالى: "ما أحسن هذا! "، تعجُّباً وثناءً على عمل هذا الرّجل، ج / 2 ص -186- وتشجيعاً له على ذلك، وإنما أنكر التكنّي بأبي الحكم، وأراد تغييره، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "فما لَك من الولد؟"، ليجعل له بديلاً صالحاً. قال أبو شريح: "قلت: شريح، ومسلم، وعبد الله ". قال النّبي صلى الله عليه وسلم: "من أكبرُهم؟". قال: شُريح. فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "أنت أبو شريح" بَدَّل "أبا الحَكَم"، وكنّاه بأكبر أولاده، فدلّ على أنّ الكنية تكون بأكبر الأولاد. فهذا الحديث يدلّ على مسائل عظيمة: المسألة الأولى: فيه: احترامُ أسماء الله سبحانه وتعالى، وإجلالُها، وتغيير الاسم من أجل إجلالها، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم غيّر اسم (أبي الحَكَم) إلى (أبي شُريح) احتراماً لأسماء الله سبحانه وتعالى. المسألة الثانية: في الحديث دليلٌ على تعليم الجاهل، فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم علّم أبا شُريح، وبيّن له أنّ هذه الكُنْيَة خطأ. المسألة الثالثة: في الحديث دليل على أنَّ مَن مَنع من شيء سيّء وله بديلٌ صالح فإنّه يأتي بالبديل، فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لَمّا مَنع من التكنِّي بـ (أبي الحكَم) جعل بديلاً له وهو (أبو شريح). وهذه قاعدة للمعلِّمين والدُّعاة أنَّهم إذا نهوا النّاس عن شيء محرّم وهناك ما يحلُّ محلَّه من الطيِّب الحلال؛ فإنُّهم يأتون به ويبيِّنونه للنّاس. المسألة الرابعة: في الحديث دليلٌ على مشروعيّة الصلح بين النّاس فيما يختلفون فيه، وأنّ الصلح مبنيٌّ على التراضي ليس إلزاميًّا فإنَّ أبا شُريح قال: (فرضيَ كلاَ الفريقين،، فالمصلح لا يُلْزم وإنّما يَعْرِض الحلّ النافع، فإن قُبل فالحمد لله، وإلاَّ فإنّ المَرَاد إلى كتاب الله وسَنّة رسوله صلى الله عليه وسلم لحسم النّزاع. أمّا الذي يُلْزِم النّاس بغير حكم الله؛ فهذا طاغوت، كالذي يُلزم النّاس بحكم الأعراف القَبَليّة التي يتحاكم إليها بعض القبائل، فهذا من حكم الجاهلية. المسألة الخامسة: في الحديث دليل على أنّ الكنية تكون بأكبر الأولاد. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#7
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد بابُ من هَزل بشيء فيه ذكرُ لله أو القرآن أو الرّسول ج / 2 ص -187- [الباب الثامن الأربعون:] * بابُ من هَزل بشيء فيه ذكرُ لله أو القرآن أو الرّسول وقول الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}. عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة - دخل حديثُ بعضهم في بعض-: هذا الباب بابٌ عظيم، إذا تأمّله الإنسان وعرَف واقِع النّاس فإنّه ينفعه الله به. فقوله: "بابُ من هزَل" الهزْل هو: اللعب والاستهزاء، ضدّ الجدّ. "بشيءْ فيه ذكرُ الله أو القرآن أو الرّسول صلى الله عليه وسلم يعني: من استهزأ بشيء من هذه الأشياء فما حكمُه؟، حكمُه: أنّه يرتدُّ عن دين الإسلام، لأن هذا من نواقِض الإسلام بإجماع المسلمين، سواءٌ كان جادًّا أو هازلاً أو مازحاً، حيث لم يستثن الله إلاَّ المُكْرَه، قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ(108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ(109)}، فالأمر شديد جدًّا. وقد بيّن الشيخ أن هذا الحكم في كتاب الله مع سبب نزوله فقال: ""وقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}. ثم ذكر سبب نُزول الآية، فقال: "عن ابن عمر" هو: عبد الله بن عمر. "ومحمد بن كعب" هو: محمد بن كعب القُرظيّ من بني قُرَيْظة. "وزيد بن أَسْلم" هو: مولى عمر بن الخطاب. "وقَتادة” هو: قتادة بن دَعامة بن قَتادة السُّدُوسيّ. "دخل حديثُ بعضهم في بعض" يعني: كلّ هؤلاء رووا هذا الحديث، ولكن لَمّا كانت ألفاظُهم متقارِبة والمعنى واحد دخل حديثُ بعضهم في بعض، فسِيْق سياقاً واحداً، من باب الاختصار. ج / 2 ص -188- أنه قال رجلٌ في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قُرَّائنا هؤلاء؛ أرْغَبَ بطوناً، ولا أكذبَ ألسناً، ولا أجْبَنَ عند اللَّقاء "يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَهُ القُرّاء". "أن رجلاً" يعني: من المنافقين. "كان في غزوة تبوك " تبوك: اسم موضع، شماليّ المدينة من أدنى الشّام. وغزوة تبوك سبُبها: أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم بَلغه أنّ الروم يُعِدُّون العُدّة لغزو المسلمين، وكان هذا في الصيف وفي شدّة الحرّ ووقت مَطِيْب الثمار، فالوقت وقتٌ حَرِج جدًّا، والمسافة بعيدة، والعدوّ عدده كبير، والوقت حارّ، ووقت مَطِيب الثمار والنّاس بحاجة إليها، والمسلمون عندهم عُسرة، فليس عندهم استعداد للتجهُّز للغزو، ولذلك سُمّي هذا الجيش بـ "جيش العُسرة"، وسُمّيت هذه الساعة: "ساعة العُسْرة". وقد جهّز عثمان رضي الله عنه من ماله ثلاثمائة بعير بجميع لوازمها، فهو الذي جهّز جيش العُسرة من ماله الخاصّ، وهذا من أعظم فضائله، رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك شارَك مَن شارك من الصّحابة بما عندهم من مال، فجهّزوا الجيش، وخرجوا، وكانت آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمنافقون صاروا يتكلّمون، واعتذروا عن الخُروج، لأنّهم ليس معهم إيمان، والغزوة هذه صعبة، لا يصبر عليها إلاَّ أهلُ الإيمان، وهذه حكمة من الله تعالى، واختبار في آخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، أراد الله أن يختبر المسلمين ليظهَر الصادِق من المنافق، فالصادقون ما تردّدوا ولا تلكّأوا، وأمّا المنافقون فإنهم تلكّأوا وجعلوا يتكلّمون ويقولون: يحسبون أن غزو بني الأصفر مثل غزو العرب، كأنّنا بهم يقرَّنون في الأصفاد، وما أشبه ذلك من الكلام القبيح، واعتذروا عن الخُروج، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى عنهم: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} لأنّ المسافة بعيدة، {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ(43)}. ج / 2 ص -189- فقال عوفُ بن مالك: كذبتَ، ولكنّك منافق، لأُخبرنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهب عوفُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُخبره، فوجد القرآن قد سبقه. خرج المسلمون وصبروا على المشقّة وفيهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصيبُه ما أصابهم من الشدّة ومن الرمضاء ومن الحرّ. خرجوا وذهبوا ووصلوا إلى تبوك ونزلوا فيه، فلمّا عَلِم العدو بقدومهم إلى تبوك أصابه الرُّعب، وتقهقر. فنزل النّبي صلى الله عليه وسلم أيّاماً في تبوك ينتظر قُدومهم ومجيئَهم، ولكنهم جَبُنوا، وألقى الله الرعب في قلوبهم، ورجع المسلمون سالمين مأجورين، وخاب المنافقون. وأنزل الله في هذه الغزوة سورةً كاملة هي سورة التوبة التي فضح الله فيها المنافقين وأثنى فيها على المؤمنين، وهكذا حكمةُ الله سبحانه وتعالى يبتلي عبادَه. فكان للمنافقين كلمات، منها ما في هذا الحديث، حيث قال رجلٌ منهم: "ما رأينا مثل قُرَّائنا هؤلاء" يعني بالقُرّاء: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. "أرْغَبَ بطوناً، ولا أكذبَ ألسناً، ولا أجْبَنَ عند اللَّقاء" وهذه الصّفات في الواقع هي صفات المنافقين، لكنّهم وصفوا بها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه. فقال عوف بن مالك: "كذبت، ولكنك منافق، لأخبرنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم" وهذا مِن أنكار المنكر، ومن النصيحة لوُلاة الأُمور، فالمسلم يبلِّغهم مقالات المفسدين والمنافقين من أجل أنْ يأخُذوا على أيدي هؤلاء، لئلا يُخِلُّوا بالأمن ويفرِّقوا الكلِمة، فتبليغ وُلاة أمور المسلمين كلمات المنافقين ودعاة السوء، الذين يريدون تفريق الكلمة، والتحريش بين المسلمين؛ هو من الإصلاح ومن النَّصيحة، لا من النّميمة. "فذهب عوفٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُخبره فوجد القرآن قَدْ سَبَقه" لأنّ الله سبحانه وتعالى سَمِعَ مقالتهم وأنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم الخبر قبل أن يصل إليه عوف. فهذا فيه: سَعَةُ علم الله سبحانه وتعالى. وفيه: علامةٌ من علامات النبوّة، وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوحى إليه ويبلُغه الخبر بسرعة. ثم جاء ذلك الرجل الذي تكلّم بهذا الكلام- والعياذُ بالله-، ووجد النّبي صلى الله عليه وسلم: ج / 2 ص -190- فجاء ذلك الرجلُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله، إنّما كنا نخوضُ ونتحدث حديث الرَّكْب، نقطع به عناء الطريق. قال ابن عمر: كأني أنظُر إليه متعلِّقاً بِنِسْعَة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّ الحجارة تنكُبُ رجليه، وهو يقول: إنّما كنا نخوض ونلعب، فيقولُ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "{أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}"، ما يلتفتُ إليه وما يزيدُه عليه. "قد ارتحل وركِب ناقته" من أجل أن يُفسد على المنافقين خُطّتهم، ومن أجل أن يُنهيَ هذه الخُطّة الخبيثة. "فقال: يا رسول الله، إنما كنّا نخوض ونتحدّث حديثَ الرَّكْب، نقطع به عناء الطّريق. قال ابن عمر: كأنّي أنظرُ إليه متعلِّقاً بِنِسْعَة ناقة النّبي صلى الله عليه وسلم" النِّسْعَة هي الحبل الذي يُشَدُّ به الرحل. وهو يقول: يا رسول الله، إنّما كنا نخوض ونلعب" فالرسول صلى الله عليه وسلم يرُدُّ عليه بقوله تعالى: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}. فهذه القصّة فيها فوائد عظيمة: الفائدة الأولى: أن من استهزأ بالله أو برسوله أو بالقرآن ارتدّ عن دين الإسلام رِدّةً تنافي التّوحيد، وهذا وجه المناسبة من عقد المصنِّف لهذا الباب؛ أنّ مَنِ استهزأ بالله أو برسوله أو بالقرآن، أو استهان بشيء من ذلك؛ أنّه يرتدّ عن دين الإسلام رِدّة تنافي التّوحيد وتُخرج من دين الإسلام، لأن هؤلاء كانوا مؤمنين، فارتدّوا عن دينهم بهذه المقالة، بدليل قوله تعالى: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}. الفائدة الثانية: أن نواقض الإسلام لا يُعفى فيها عن اللّعب والمزح، سواءً كان جادّاً أو هازلاً، بل يُحكم عليه بالردّة والخُروج من دين الإسلام، لأنّ هؤلاء زعموا أنّهم يمزحون ولم يقبل الله جل وعلا عذرهم، لأنّ هذا ليس موضع لعب ولا موضع مزح. الفائدة الثالثة: وُجوب إنكار المنكر، لأنّ عوف بن مالك رضي الله عنه أنكر ذلك وأقرّه الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك. ج / 2 ص -191- الفائدة الرابعة: أنّ مَن لم يُنكر الكفر والشرك فإنّه يكون كافراً، لأنّ الذي تكلّم في هذا المجلس واحد والله نسب هذا إلى المجموع فقال: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، لأنّ الراضيَ كالفاعل، وهذه خطورة عظيمة. الفائدة الخامسة: أنّ إبلاغ وليّ الأمر عن مقالات المفسدين من المنافقين ودُعاة السوء الذين يريدون تفريق الكلمة والتحريش بين المسلمين من أجل الحَزْم يُعَدُّ من النصيحة الواجبة، وليس هو من النّميمة، لأنّ عوف بن مالك رضي الله عنه فعل ذلك ولم يُنكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فدلّ على أنّ هذا من النّصيحة، وليس من النّميمة المذمومة. الفائدة السادسة: فيه احترام أهلِ العلم وعدم السخرية منهم، أو الاستهزاء بهم، لأنّ هذا المنافق قال: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء" يريد بذلك العلماء، والعلماء وَرَثَةُ الأنبياء، وهم قُدوة الأُمَّة، فإذا طعنَّا في العلماء فإنَّ هذا يُحْدِثُ الخَلْخَلَةَ في المجتمع الإسلاميّ، ويقلِّل من قيمة العلماء، ويُحْدِث التشكيك فيهم. نسمع ونقرأ من بعض دُعاة السوء من يقول: "هؤلاء علماء حيض، علماء نفاس، هؤلاء عُمَلاء للسلاطين، هؤلاء علماء بغْلَة السلطان"، وما أشبه ذلك، وهذا القول من هذا الباب- والعياذُ بالله- وليس للعلماء ذنب عند هذا الفاسق إلاّ أنهم لا يوافقونه على منهجه المنحرف. فالوقيعة بالمسلمين عُموماً ولو كانوا من العوامّ لا تجوز، لأنّ المسلم له حُرمَة، فكيف بوُلاة أُمور المسلمين وعلماء المسلمين. فالواجب الحذر من هذه الأمور، وحفظ اللّسان، والسّعي في الإصلاح، ونصيحة مَن يفعل هذا الشيء. الفائدة السابعة: في الحديث دليلٌ على معجزة من معجزات الرّسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث إنّه بلغه الوحي عن القصّة قبل أن يأتيَ إليه عَوفُ بن مالك، وهذا مصداق قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)}. الفائدة الثامنة: في الحديث دليلٍ على أنّ نواقِض الإسلام لا يُعذَر فيها بالمزح ج / 2 ص -192- واللّعب، لأنها ليست مجالاً لذلك، وإنّما يُعذر فيها المُكْره على القول خاصة كما في آية النحل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ}. الفائدة التاسعة: في الحديث دليلٌ على وُجوب الغِلْظة على أعداء الله ورسوله من المنافقين والكُفّار ودُعاة الضّلال، وأنّ الإنسان لا يَلِين لهم، لأنّه إنْ لان معهم خدعوه ونفّذوا شرّهم، فلا بُدّ من الحَزْم من وليّ الأمر ومن العالِم نحو المنافقين والكُفّار ودُعاة السوء. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#8
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} ج / 2 ص -193- [الباب التاسع والأربعون:] * باب قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} الآية. قال مجاهد: "هذا بعملي، وأنا محقوقٌ به ". وقال ابن عبّاس: "يريد: من عندي ". هذا الباب بابٌ عظيم، تقدّم نظيره في باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}. وقوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ} الضمير في {أَذَقْنَاهُ} ضمير الغائب راجعٌ إلى الإنسان المذكور في الآية التي قبلها في قوله تعالى: {لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ(49)}، والمراد بالإنسان هنا: جنس الإنسان، يعني: لا يملّ الإنسان من طلب الدنيا، {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ} يعني: إذا أصابته مصيبة في ماله أو في بدنه، {فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} يستبْعِد الفَرَج من الله عزّ وجلّ ويقنط من رحمة الله، {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ} يعني: هذا الإنسان، أي: أعطيناه، {رَحْمَةً مِنَّا} عافية وصحّة في بدنه وغنىً من فقره، {مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ}مشته في بدنه من المرض والمصائب، أو في ماله من الفقر والإعواز. {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} ينسى الضرّاء التي مسّته، وينسى من أين جاءت هذه النعم، ويظنّ أنّ ما في يده إنما هو بحوله وقوّته، فيقول: {هَذَا لِي}، فلا يشكُر الله عزّ وجلّ ويعترف بنعمته، بل ينسِب هذه النعمة إليه هو وإلى كَدِّه وكسْبه، أو إلى آبائه وأجدادِه. "قال مجاهد" هو مجاهد بن جَبْر، الإمام الجليل، من كبار التابعين. "هذا بعملي، وأنا محقوقٌ به" يعني: هذه النعمة إنما حصلتُ عليها بعملي وكَدِّي وكسبي واحترافي، وأنا محقوق بها، أي: أستحقها، وأنا الذي حصّلتُها، وأنا الذي جمعتُها. "وقال ابن عبّاس: يريد: هذا مِن عندي" يعني: بعملي وبسببي، أنا الذي حصّلتُه وتعبْتُ فيه. ج / 2 ص -194- وقوله:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}. قال قتادة: "على علمٍ منِّي بوُجوه المكاسب". وقال آخرون: "على علم من الله أنّي له أهل ". وهذا معنى قولِ مجاهد: "أوتيتُه على شَرَف ". وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "إن ثلاثةً من بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى، فأراد الله أن يبتليَهم، فبعث إليهم مَلَكاً. "وقوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} قال قتادة: على علم منّي بوجوه المكاسب. وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل" القول الأول معناه: أنّني رجلٌ عالم بالاقتصاد وطُرق الكسب، كما يقوله اليوم الاقتصاديِّون، حيث يتباهون بالحِذْق بعلم الاقتصاد، ويظنون أنّ الأموال والثّروات التي يحُصلون عليها بسبب حِذْقهم ومعرفتهم وخِبْرَتهم، ولا ينسبون هذا إلى الله سبحانه وتعالى. والقولُ الثاني معناه: أن الله أعطاني هذا المال لأنّه يعلم أنّي أستحقُّه، ولا فضل لله عليّ فيه. قال الشيخ: "وهذا معنى قول مجاهد: أوتيتُه على شرف" أي: أن الله علم أنني رجل شريف وذو مكانة ومنزلة، فالله أعطانيه لمنزلتي، ومعنى هذا: إنكار الفضل من الله سبحانه وتعالى. قال العلماء: "هذه الأقوال لا تنافيَ بينَها"، لأنّ الآيتين تشملان كلّ هذه الأقوال، فاختلافهم إنّما هو اختلاف تنوُّع وليس اختلاف تضادّ. قال: "عن أبي هريرة رضي الله عنه: إنّ ثلاثةً من بني إسرائيل" بنوا إسرائيل هم ذرية يعقوب، وإسرائيل، ومعناه: عبد الله. "أبرص" الأبرص: مَن أُصيب بالبَرَص، وهو داءٌ يُصيب الجلد فيتحوّل إلى أَبْيَض كَريه المنظر، وهذا المرض لا يُمكِن علاجه في الطِبَّ البشري، ولذلك كان من معجزة عيسى- عليه الصلاة والسلام- أنه يُبْرئ الأبرص والأكمَهْ ويُحيي الموتى بإذن الله، وهذا ما لا يقوى عليه الطب البشري. ج / 2 ص -195- فأتى الأَبْرَص فقال: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟، قال: لونٌ حسن، وجِلْدٌ حسن، ويَذْهَبُ عني الذي قد قَذِرَنِي النّاس به. قال: فمسحه فذهب عنه قذره، فأُعطي لوناً حسناً وجِلْداً حسناً. قال: فأيُّ المالِ أحبُّ إليك؟، قال: الإبل، أو البقر [شكَّ إسحاق]. فأُعطيَ ناقة عُشراء، وقال: باركَ الله لك فيها. "وأقرع" وهو الذي لا ينبُت لرأسه شعر، لأنّ هذا الشعر الذي ينْبَت على الرأس فيه فوائد عظيمة منها: الجمال، ومنها منافع صحيّة، وغير ذلك، فمن فقد شعر الرأس فإنّه يفقد منافع كثيرة أعظمُها الجمال، ويُصبح كريه المنظر. وأما "الأعمى" فهو الذي ذهب بصرهُ كلُّه، أمّا الذي ذهب منه بصرُ عينٍ واحدة؛ فهذا يسمّى أعور. وقوله: "فأراد الله" الله جل وعلا يوصَف بالإرادة، والمخلوق- أيضاً- يوصف بالإرادة، ولكنْ إرادةُ الله خاصّةٌ به، وإرادة المخلوق خاصّة به، وإرادة الله تنقسم إلى قسمين: إرادة كونيّة، وإرادة شرعيّة. "أن يبتليهم" يعني: أن يختبرهم. "فبعث إليهم مَلَكاً" المَلك: واحدُ الملائكة، وهم: خَلْقٌ من خَلْق الله ومن عالم الغيب، خلقهم الله جل وعلا لعبادته، وخلقهم- أيضاً- لتنفيذ أوامره تعالى في مُلْكه، فمنهم الموكّل بالوحي، ومنهم الموكّل بالقَطْر والنّبات، ومنهم الموكّل بالنفخ في الصّور، ومنهم الموكّل بالأجنّة، ومنهم الموكّل بحفظ أعمال بني آدم، كُلُّ من الملائكة له عمل: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. فأتى الأَبْرَص فقال: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟، قال: لونٌ حسن، وجِلْدٌ حسن، ويَذْهَبُ عني الذي قد قَذِرَنِي النّاس به. قال: فمسحه الملَك" مسح على هذا الأبرص فبرئ، وعاد إليه لونٌ حسن وجلدٌ حسن، وهذا بقدرة الله تعالى لأنّ المَلك رسولُ الله. " قال: فأيُّ المالِ أحبُّ إليك؟، قال: الإبل، أو البقر [شكَّ إسحاق]" المراد: إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، راوي الحديث، شكّ هل قال الرّسول صلى الله عليه وسلم الإبل، أو قال البقر؟، وهذا من التحفُّظ والدِّقة في الرواية. ج / 2 ص -196- قال: فأتى الأقرع فقال: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟، قال: لونٌ حسن وشعر حسن، ويَذْهَبُ عني الذي قد قَذِرَنِي النّاس به، فمسحه فذهب عنه قدّره، وأُعطِي شعراً حسناً. فقال: أيُّ المالِ أحبُّ إليك؟، قال: البقر، أو الإبل. فأُعْطيَ بقرة حاملاً، قال: بارك الله لك فيها. فأتى الأعمى فقال: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟، قال: يردّ الله إليَّ بَصري فأُبصر به النّاس، فمسحه فردّ الله إليه بصره. قال: فأيُّ المال أحبُّ إليك؟، قال: الغنم، فأُعطي شاةً والداً. فأنتج هذان وولَّد هذا، فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم. "فأُعطيَ ناقة عُشراء" العُشَراء هي: الحامل التي تمّ لها ثمانية أشهر، لأنّها أنفس الأموال، قال تعالى: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ(4)}، عند قيام الساعة يذهلون فيتركون أنفس الأموال، ويعطِّلونها من شدّة الهَوْل. "وقال: بارك الله لك فيها" دعا له بالبركة، ودعوةُ المَلك مستجابة، وهذا بأمر الله سبحانه وتعالى من أجل الامتحان والابتلاء. "ثم أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟، قال: لونٌ حسن وشعر حسن، ويَذْهَبُ عني الذي قد قَذِرَنِي النّاس به، فمسحه فذهب عنه قدّره، وأُعطِي شعراً حسناً. فقال: أيُّ المالِ أحبُّ إليك؟، قال: البقر، أو الإبل. فأُعْطيَ بقرة حاملاً" البقرة الحامل هي التي في بطنها جَنين. "وقال: بارك الله لك فيها" دعا له مثل الأوّل. "فأتى الأعمى فقال: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟، قال: يردّ الله إليَّ بَصري فأُبصر به النّاس، فمسحه فردّ الله إليه بصره. قال: فأيُّ المال أحبُّ إليك؟، قال: الغنم، فأُعطي شاةً والداً" يعني: قد ولدت حملَها. "فأنتج هذان" أنتج أصحاب الإبل والبقر. "وولّد هذا" أي: صاحب الشّاة. "فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم" بسبب بركة دعوة المَلك ولأجل الابتلاء والامتحان. ج / 2 ص -197- قال: ثم إنّه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجلٌ مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بيَ الحبال في سفري، فلا بلاغ ليَ اليوم إلاّ بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجِلْد الحسن والمال؛ بعيراً أتبلّغ به في سفري. فقال: الحُقوق كثيرة. فقال له: كأنِّي أعرِفُك!، ألم تكن أبرص يقذِرك النّاس، فقيراً فأعطاك الله عزّ وجلّ تامال؟ فقال: إنما ورثتُ هذا المال كابِراً عنْ كابر. فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت. "ثم إنّه أتى الأبرص في صورته وهيئَته" أي: في صورة رجل أبرص، لأنّ الله أعطى الملائكة القُدرة على التشكُّل، فيظهَرون في صور مختلفة. "فقال: رجلٌ مسكين " يَعْرِض حالَه عليه ليتصدّق عليه. "وابنُ سبيل" ابنُ السّبيل هو: المسافر الذي انقطع ما معه من الزّاد، وقد جعل الله له حقًّا في الزكاة ما يوصِّلُه إلى بلده، ولو كان غنيّاً في بلده. "قد انقطعت بيَ الحبال" يعني: الأسباب، جمعُ حبل وهو السّبب، وفي رواية: "انقطعت بيَ الحيال" -بالياء- يعني: الحِيَل. ثم ذكّره بحالته الأولى فقال: "أسألُك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال؛ بعيراً أتبلغ به في سفري. فقال: الحقوق كثيرة" يعني: أن الحقوق التي عليّ كثيرة وينفد المال لو أعطيتك، وأعطيت هذا ممّن لهم عليّ حقوق، وهذا اعتذارٌ منه. ثم ذكّره المَلَك مرّة ثانية وقال له: "كأنِّي أعرِفُك!، ألم تكن أبرص يُقْذُرُك النّاس، فقيراً فأعطاك الله عزّ وجلّ المال؟ ". ثم إنه جحد نعمة الله عليه، وجحد هذه الحالة التي مرّت به، وقال: "إنما وَرثْتُ هذا المال كابِراً عن كابر" يعني: هذا ليس بمال جديد كما تقول، بل هو معي من قديم ومع آبائي من قبل، وهذا جُحود لنعمة الله عزّ وجلّ. فدعا عليه المَلَك، وقال: "إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كُنت " يعني: صيّرك الله فقيراً أبرص. ج / 2 ص -198- قال: وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، وردّ عليه مثل ما ردّ عليه هذا. فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجلٌ مسكين وابن سبيل، قد انقطعتْ بِيَ الحبال في سفري، فلا بلاغ ليَ اليوم إلاّ بالله ثم بك، أسألُك بالذي ردّ عليك بصرك؛ شاةً أتبلّغ بها في سفري. قال: كنتُ أعمى فردّ الله عليَّ بصري، فخُذ ما شئتَ، فوالله لا أجْهَدُك اليوم بشيء أخذته لله، فقال له الملَك: أَمْسِكْ عليك مالك، فإنّما ابتُلِيتُم؛ فقد رضيَ الله عنك وسخِط على صاحبيْك" أخرجاه. "قال: وأتَى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا" أي: رجل مسكين وابن سبيل... إلى آخره. "وردّ عليه مثل ما ردّ عليه هذا" قال له: الحقوق كثيرة. وذكّره المَلَك بحالته من قبل، فأنكر ذلك، فدعا عليه الملك كما دعى على الأبرص بأن يصيره الله إلى ما كان عليه من قبل. قال: " وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجلٌ مسكين وابن سبيل، قد انقطعتْ بِيَ الحبال في سفري، فلا بلاغ ليَ اليوم إلاّ بالله ثم بك، أسألُك بالذي ردّ عليك بصرك؛ شاةً أتبلّغ بها في سفري"، فاعترف الأعمى بنعمة الله وقال: "كنتُ أعمى فردّ الله عليّ بصري، فخذ ما شئتَ" يعني: خذ الذي تريده. "فوالله لا أجْهَدُك" أي: لا أمنعك، "بشيء أخذته لله"، وفي رواية: "لا أَحْمَدُك على شيء أخذته لله" لأنّه ليس مالي وإنما هو مالُ الله سبحانه وتعالى. ثم ظهرت نتيجة الامتحان: "فقال له الملَك: أَمْسِكْ عليك مالك، فإنّما ابتُلِيتُم" يعني: اختُبِرْتُم أنت وصاحباك. "وقد رضي الله عنك" بسبب شكرك لنعمة الله عزّ وجلّ. "وسخِط على صاحبيْك" بسبب كفرهم بنعمة الله عزّ وجلّ. فهذا الأعمى فاز برضى الله تعالى وسلم عليه مالُه، أمّا أولئك فعاقبهم الله وسَخِط عليهم، وهذه نتيجة الابتلاء والامتحان. فدلّت هاتان الآيتان وهذا الحديث العظيم على مسائل: المسألة الأولى: فيه: أنّ نسبة النعم إلى الله عزّ وجلّ توحيد، وأنّ نسبتها إلى غيرِه شرك، لكن إن اعتقد أنّ غيرَه هو الذي أوجدَها فهو شركٌ أكبر، وإن اعتقد أنّ غيرَه سبب والله هو الذي أوجدها، ولكن نسبها إلى السبب فهو شركٌ أصغر، لأنّه لا يجوز النِّسبة إلى الأسباب، حتى ولو كانت أسباباً صحيحة، وإنّما تُضاف النّعم إلى الله سبحانه وتعالى، ولهذا مَرّ بنا الحديث: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، أنّه قولُ الرجل: "لولا كُليبة هذا لأتانا اللّصوص، لولا البطّ في الدّار لأتانا اللصوص" لولا كذا، لولا كذا، فلا تجوز النّسبة إلى الأسباب، وإنّما تُنسب النعم إلى مسبِّب الأسباب، وهو الله سبحانه وتعالى. المسألة الثانية: فيه: أنّ النعم والنِّقَم ابتلاءُ واختبارٌ من الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}. المسألة الثالثة: فيه: أنّ الله سبحانه أعطى الملائكة القُدرة على التشكُّل بأشكال مختلفة، وهذا ثابتٌ من النُّصوص الكثيرة، فتشكُّلُهم لأجل مصالح العباد، لأنَّهم لا يُطيقون رؤية الملائكة. المسألة الرابعة: في الحديث دليلٌ على مشروعيّة ذكر قَصَص الأوّلين من بني إسرائيل وغيرِهم من أجل الاعتبار والاتّعاظ إذا كانت القصص صحيحة. المسألة الخامسة: في الحديث دليل على أنّ من شكر نعمة المال: إخراج الحقوق الواجبة فيه من زكاة وإطعام جائع وكسوة عارٍ، وما أشبه ذلك من الحقوق الواجبة والحقوق المستحبّة، وأنّ البُخْل بحقوق المال من كفر النعمة. المسألة السّادسة: في الحديث دليل على أنّ الجزاء من جنس العمل؛ فقد رضيَ الله عن هذا الأعمى بسبب إحسانه، وسخِط على صاحبيه بسبب بخلهما بحقوق الفقراء والمساكين. المسألة السّابعة: فيه وصفٌ الله جل وعلا بالرِّضا والسخط، صفتان من صفاته اللاَّئقة به سبحانه وتعالى، ليس كرضى المخلوق ولا كسخط المخلوق. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#9
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} ج / 2 ص -200- [الباب الخمسون:] * باب قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} الآية. هذا الباب المقصود به: بيان أنّ تعبيد الأسماء لغير الله شرك ينافي كمال التّوحيد، إنْ كان المقصود مجرّد التسمية، أما إنْ كان المقصود تعبيد التألُّه لغير الله فإنّه شرك أكبر ينافي التّوحيد. وقولُه رحمه الله: "بابُ قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}" يريد: بيان ما جاء في تفسير الآية. والآية التي قبلها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يعني آدم وحواء عليهما السلام. {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} يعني وطئها. {حَمَلَتْ} يعني: عَلِقَتْ رَحِمُها بالنُّطْفَة. {حَمْلاً خَفِيفاً} هذا شأن الحمل في أوّل أطواره: كونُه نُطفة، ثم عَلَقَة، ثم مُضْغَة، ويكون خفيفاً في هذه الأطوار. {فَمَرَّتْ بِهِ} يعني: ما أجلسها ولا عوّقها عن العمل، فهي تمرّ وتمشي وتقوم وتقعد. {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} يعني: في طور نفخ الروح فيه. {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} دعا آدم وحواء، وطلبا من الله جل وعلا. {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} رزقتنا مولوداً سَوِيًّا في خِلْقَتِهِ. {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} لأنّ هذا هو الواجب في النعمة أن تُشكر. {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً} استجاب الله دعوتهما وآتاهُما ولداً إنساناً سوياًّ صالحاً. {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} بأن سمّياهُ (عبد الحارث)، فعبّداهُ لغير الله. وهذا من الشّرك في التسمية، حيث عبّداه لغير الله. ثم ذكر عن ابن حزْم، وهو الإمام الجليل، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حَزْم، الأندلسي، القُرطبيّ، الظاهريّ، له المؤلَّفات العظيمة مثل: ج / 2 ص -201- قال ابنُ حزم: "اتّفقوا على تحريم كلّ اسم مُعَبَّدِ لغير الله؛ كعبد عمرٍو، وعبد الكعبة، وغير ذلك، حاشا عبد المطّلب". "المحلّى" و"الفِصَل في الملل والنِّحل"، و"الأنساب"، و"جوامع السيرة"، فهو إمامٌ جليل خصوصاً في علم الحديث، إلاّ أنه رحمه الله يؤخذ عليه سلاطة اللسان في ردّه على المخالفين، واعتناقه لمذهب الظاهرية، والظاهرية معناها: الأخذ بظواهر النُّصوص دون النظر في معانيها وأسرارها، وعدم القول بالقياس، وهذا نقصٌ في هذا المذهب. ولكن على كلّ حال هو إمامٌ جليل، له نفعٌ عظيم في الإسلام، ومؤلَّفاتُه خصوصاً "المحلّى" وما فيه من الآثار والأحاديث والرواية بالأسانيد، ففضائلُه كثيرة رحمه الله. قال: "اتّفقوا" يعني: أجمعوا، وليس المراد الاتّفاق عند المتأخِّرين الذي هو قولُ جماعةٍ من أهل العلم. "على تحريم كلِّ اسم مُعَبَّدٍ لغير الله" كـ (عبد الحُسين)، و (عبد الرّسول) و (عبد الكعبة)، و (عبد الحارث) وغير ذلك، لأنّ التعبيد يجب أن يكون لله سبحانه وتعالى، لأنّ الخلْق كلهم عبادُ الله كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً(93)}، فكلُّ الخلق عباد الله المؤمن والكافر. ولكن العبودية على قسمين:عبوديّة عامّة: وهذه تشمل جميع الخلق المؤمن والكافر كلُّهم عبادُ لله تعالى، بمعنى: أنّهم مملوكون لله، مخلوقون لله، يتصرّف فيهم، ويدبِّرُ أمورَهم، لا يخرُج عن هذا أحد من الخلق. النوع الثاني: عبوديّة خاصّة: وهي عبوديّة التألُّه والمحبّة، وهذه خاصّة بالمؤمنين: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}، {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ(68)}، فهذه عبوديّة خاصّة بالمؤمنين. قال: "حاشا" حاشا: كلمة استثناء. "عبد المطّلب" هو جدّ الرّسول صلى الله عليه وسلم، لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم هو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلِب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصي بن كِلاب، فـ (عبد المطلِّب) هذا استثناهُ ابن حزم من التحريم. ج / 2 ص -202- وعن ابن عبّاس في الآية، قال: "لَمّا تغشّاها آدمُ حملت، فأتاهُما إبليس فقال: إني صاحبُكما الذي أخرجكما من الجنّة، لتُطيعانني، أو لأجعلنّ له قرنْي أيِّل، فيخُرج من بطنك فيشقه، ولأفعلنَّ –يخوِّفهما-، سمِّياه عبد الحارث. فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميِّتاً. ولكن ليس الأمر كما قال رحمه الله فلا يجوز أن يسمّى أحد الآن عبد المطّلب، فلا وجه للاستثناء، وإنّما يقال عبد المطّلب لجد الرسول خاصة، حكاية للماضي، كما يقال؛ (عبد الكعبة) و (عبد شمس)، و (عبد مناف)، حكاية لِمَا مضى. أما بعد الإسلام فلا يجوز أن يسمّى أحد بهذه الأسماء. أما حكاية شيء مضى وانتهى فلا بأس بذلك، وقد قال النّبي صلى الله عليه وسلم: "أنا النّبي لا كذب، أنا ابن عبد المطّلب" هذا من ناحية. النّاحية الثانية: يقولون: إنّ عبد المطّلب ليس اسم جد الرسول، وإنما اسمُه: (شَيْبَة الحمد)، ولكن قيل له: عبد المطّلب لأنّ عمّه المطّلب بن عبد مناف جاء به وهو صغير من أخواله بني النجار في المدينة، وكان تأثّر لونه بالسواد بسبب السفر، فظنوه عبداً مملوكاً للمطلب، فقالوا: عبد المطّلب. قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: "فأتاهما" أي آدم وحواء" إبليس فقال: إني صاحبُكما الذي أخرجكما من الجنّة "يشير إلى القصة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه من وَسْوَسَة الشيطان لآدم عليه السلام لَمّا حرّم الله عليه أن يأكُل من شجرة معيَّنة في الجنة، وجاءه الشيطان وزيّنها له وأغراهُ بالأكل منها، فعصى ربَّه وأكل منها، فحصلت المصيبة، وأُخرج من الجنّة بسبب ذلك، وأُهْبِط إلى الأرض. ولكنّ آدم وحوّاء تابا إلى الله- عليهما السلام- تابا إلى الله فتاب الله عليهما. "لتُطِيعاني" أي: تمتثلان ما آمركما به. "أو لأجعلنّ له قرنْي أيِّل" الأَيِّل هو ذكر الأوعال. "فيخرج من بطنك فيشقه" يعني: بقرنيه. " ولأفعلنَّ –يخوِّفهما-" من التخويفات والتهديدات، فلم يلتفتا إليه، ولم يطيعاه لأنه عدوهما. ج / 2 ص -203- ثم حملت، فأتاهُما، فذكر لهما، فأدركُهما حبُّ الولد، فسمّياه عبد الحارث. فذلك قوله تعالى: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} رواه ابن أبي حاتم. وله بسند صحيح عن قتادة: "شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته". "فخرج ميِّتاً" وهذا من باب الامتحان والابتلاء من الله سبحانه وتعالى. "ثم حملت فأتاهُما فذكر لهما" ذلك، لأن الشيطان- لعنه الله- يحاوِل مع الإنسان ولا ييأس. "فأدركهما حُبّ الولد، فسمّياه عبد الحارث" والحارث قيل: هو اسم إبليس، قبل أن تحصل عليه اللعنة، ولكن بعد أن حصلت عليه اللعنة وطُرد من الملأ الأعلى سمّي بإبليس. "فذلك قولُ الله تعالى: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}" أي: هذا تفسير هذه الآية. "رواه ابن أبي حاتم". "وله" أي: ابن أبي حاتم. "بسند صحيح عن قتادة: شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته" وشركُ الطاعة شركٌ أصغر لا يُخرِج من الملّة، لاسيّما وأنّهما لم يفعلا هذا قصداً للمعنى، وإنّما فعلاه من باب حُبّ الولد، ومن أجل سلامته فقط، ومع هذا سمّاه الله شركاً، فيكون شركاً ولو لم يقصده الإنسان. فدلَّ هذا على أنَّ مَن تكلَّم بالشّرك أو فعل الشرك فإنّه يسمّى مشركاً، ولو لم يقصده ولم ينوِّه، فيُحكَم عليه بأنّ فعله هذا شرك، سواء من الشرك الأصغر أو الشرك الأكبر، ولهذا قال الرّسول صلى الله عليه وسلم للذي قال له: ما شاء الله وشئتَ: "أجعلتني لله نِدًّا؟" مع أنّ القائل ما أراد أن يجعل لله نِدًّا، ولكن هذا اللّفظ لا يجوز، فهو شرك ولو لم يقصده، فكيف إذا قصده؟ ج / 2 ص -204- وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: { لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} قال: أشفقا أن لا يكون إنساناً. وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرِهما. ففيه ردٌّ على من يقول: أن من قال كلمة الشرك أو فعل الشرك لا يُحكم عليه أنه مشرك حتى يعتقده بقلبه كما هو قول مرجئة هذا العصر. "وله" أي: ابن أبي حاتم. "بسند صحيح عن مجاهد في قوله: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} قال: أشفقا أن لا يكون إنساناً" أي: خافا من ذلك. "وذكر معناه عن الحسن" هو: الحسن البصري. "وسعيد" هو: سعيد بن المسيِّب، وهما من أئمّة التّابعين، أي: ورُوِيَ هذا التفسير عن هذين الإمامين، بل هذا قولُ أكثر المفسِّرين، كما ذكر ذلك الشوكاني في "فتح القدير"، ورجحه شيخُ المفسرين الإمام ابن جرير رحمه الله في "تفسيره " وقال: "هو أولى القولين في تفسير الآية الكريمة". وهو الذي اختاره الشيخ المصنِّف: محمد بن عبد الوهاب، واختاره الشارح الشيخ: سليمان بن عبد الله، وأنّ هذا الشرك المذكور في الآية وقع من آدم وحوّاء، لكنه شركٌ في الطاعة وليس في العبادة. وذهب بعض المفسِّرين- وهو القول الثّاني-: إلى أنّ الآية من أوّلها إلى آخرها لا تعني آدم ولا حوّاء، وإنّما تعني المشركين من بني آدم، واعتمدوا في هذا على شيئين: الشيء الأوّل: أنّه لا يجوز أن يقع من آدم وحوّاء مثل هذا، لأنّ آدم- عليه الصلاة والسلام- نبي من أنبياء الله، ولا يقع منه هذا الشيء. الشيء الثاني: أنّ الله خَتَم الآية بقوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وهذا لفظُ جمع، فيُراد به المشركون من بني آدم. واختار هذا القول ابن كثير في تفسيره، وَطَعَنَ فيما روي عن ابن عبّاس، وقال: "لعلّه من الإسرائيليّات". ج / 2 ص -205- ولكن الإمام ابن جرير يقول: "أولى القولين هو القول الأوّل" وهو الذي عليه أكثرُ المفسرين. ويرجّح القولُ الأوّل: أنّ الله سبحانه وتعالى ذكر الضّمير بلفظ التثنية، وأوّل الآية لا شك في آدم وحوّاء، وهو قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، ولا شك أن المراد: آدم وحوّاء، ثم أعاد الضمائر إليهما، وهذا أُسلوب العرب؛ أنهم يذكرون الاسم في الأوّل ثم يعيدون الضمائر إليه، إنْ كان مفرَداً مفرداً، وإنْ كان مثنى مثنى، وإنْ كان جمعاً فجمعاً، هذا الأسلوب العربي. والضمائر هي: {دَعَوَا}، {رَبَّهُمَا}، {لَئِنْ آتَيْتَنَ}، {فَلَمَّا آتَاهُمَا}، {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ}، كلُّ هذه الضمائر ترجع إلى آدم وحوّاء. أمّا آخِر الآية فهو التفاتٌ إلى الذريّة، وهذا أسلوبٌ عربي معروف في لغة العرب، وذلك أنه لَمّا ذكر قصة آدم وحوّاء وفرغ منها انصرف إلى الذريّة فقال: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: المشركون من العرب الذين بُعث إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فمعظم الآية في آدم وحوّاء، وآخِرُها التفاتٌ إلى ذريّة آدم وحوّاء، فكأنّ الله سبحانه وتعالى يستنكر الشرك من أصله، الشرك الذي وقع من آدم وحوّاء، وهو شركٌ أصغر، والشرك الأكبر الذي وقع من عَبَدَة الأوثان من ذريّة آدم. فيترجّح القول الأوّل من عِدّة وجوه: أوّلاً: أن الضمائر كلُّها مثنّاة، والقول بأنّ المراد الذريّة تعسُّفٌ في الألفاظ لا يجوز. ثانياً: إنّ ما فسّر به ابن عبّاس ورد من عدّة جهات، فهو تفسير صحيح من مجموع طُرُقِه. ثالثاً: أنّ عليه الأكثر من أهل العلم، كما قال الشوكاني. رابعاً: أنّه هو المعنى الذي رجّحه الإمام أبو جعفر ابن جرير، شيخ المفسِّرين، حيث قال: "أولى القولين: القولُ الأوّل"، وهذا الذي اختاره المصنِّف في هذا الباب. أمّا قول المخالفين: أنّ آدم عليه السلام لا يليقُ به ذلك. فنقول: هذا ليس بشرك أكبر، إنما هو شركٌ أصغر، وهو شركٌ في الطاعة والألفاظ، لا في المعاني والمقاصد والنيّات، وقد يقع من الأنبياء بعض الذنوب ج / 2 ص -206- الصغار التي عاتبهم الله عليها، ثم يتوبون منها ويتوب عليهم، والعِصمة إنما هي من الذنوب الكبائر، ومن الاستمرار على الصغائر. كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية. هذا، ويُستفاد من هذه القصة التي ذكرها الله في القرآن عدّة فوائد: الفائدة الأولى: بيان الحكمة من خلق الزوجات لبني آدم، وأن المقصود من ذلك السَّكَن والاستيلاد، وغير ذلك من الفوائد، والقوامة من الرجل على المرأة: وصيانتُها، إلى غير ذلك، لكن أهمّ شيء هو السَّكَن، كونُ الإنسان يأتي إلى بيتٍ فيه زوجة طيِّبة ملائِمة يسكُن إليها ويرتاح معها. الفائدة الثانية: أن حصول الأولاد الأسوياء في خِلْقَتِهم، الصالحين في دِينهِم؛ من أكبر النعم: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}، {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}. الفائدة الثالثة: في الآية دليل على بيان الحكمة من الزواج، وأنّها السكَن والاستيلاء، ويَتْبَعْ ذلك بقية الأغراض من الصيانة، والقوامَة، والنّفقة، وغير ذلك، فالمرأة بلا رجل تكون معذَّبة، والرجل بلا امرأة يكون معذّباً، أما إذا اجتمع زوجان متناسِبان فهذا من تمام النِّعمة. الفائدة الرابعة: في الحديث دليلٌ على أن تعبيد الأسماء لغير الله شرك. الفائدة الخامسة: التحذير من كَيْد إبليس، فإذا كان فعل جمع الأبوين ما فعل فإنّه سيفعل مع الذريّة أشدّ: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً}، {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(83)}، فهو يهدِّد ويتوعّد. الفائدة السادسة: أن تعبيد الأسماء لغير الله يُعتبر من الشرك الأصغر، وهو شرك الطّاعة، إذا لم يقصد به معنى العُبودية، فإنْ قصد به معنى العبوديّة والتألُّه صار من الشرك الأكبر، كما عليه عُبّاد القُبور الذين يسمّون أولادهم: (عبد الحسين) أو (عبد الرَّسول) أو غير ذلك، هؤلاء في الغالب يقصدون التألُّه، لا يقصدون مجرّد التّسمية وإنما يقصدون التألُّه بذلك والتعبُّد لهذه الأشياء لأنهم يعبدونها، فهذا يعتبر من الشرك الأكبر. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#10
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} ج / 2 ص -207- [الباب الواحد والخمسون:] * باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} الآية. هذا الباب عقده الشيخ رحمه الله في كتاب التّوحيد من أجل بيان وجوب إثبات أسماء الله وصفاته، ومن أجل أن يبيّن التوسُّل المشروع والتوسُّل الممنوع، لأن مسألة التوسُّل ضلَّ فيها خلقٌ كثير من قديم الزّمان، فالمشركون يعبُدون غيرَ الله ويسمّون معبوداتهم وسائل إلى الله، فيقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، فهم لا يعبدون هذه المعبودات لذاتها، لأنّهم يعلمون أنّها لا تخلُق ولا تَرزُق ولا تُحيي ولا تُميت، وإنّما زعموا أنّها تتوسّطُ لهم عند الله سبحانه وتعالى، من باب الوسيلة، فردّ الله تعالى عليهم في القرآن بأنّ هذا التوسُّل وهذا العمل كفرٌ وشركٌ، وأنّه لم يَشْرَعْهُ سبحانه وتعالى لعباده. وجاء مِن بعدهم القبوريُّون والصوفيّة ومن قبلهم الرّافضة والباطنيّة كلُّهم نَحَوا هذا المنحى الذي نحاه المشركون، فصاروا يعبدون الموتى، ويستغيثون بهم، ويدعونهم من دون الله، ويذبحون لهم، وينذُرون لهم، ويقولون: نحن نعلم أنّهم مخلوقون، وأنهم لا يخلُقون ولا يرزُقون، ولكننّا اتّخذناهم وسائل بيننا وبين الله، وربّما يحتجّون بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}، وبقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(35)}، فظنّوا أنّ الوسيلة التي أمر الله باتخاذها إليه أنّها جعل وسائط بينهم وبين الله. وهذا فهمٌ باطل، لم يُرِدْهُ الله سبحانه وتعالى، بل أنكره على المشركين، وحكم بأنّه كُفر، وأنّه شرك، ونزّه نفسَه عنه فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}، بيَّن أنّه كفر وأنه شرك، ونزّه نفسَه عنه، فهو لم يَشْرَع لعباده أبداً أن يجعلوا بينه وبينهم وسائط من الخلْق يبلِّغونه حاجات عبادِه، وإنما أمر بدعائه مباشَرة: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}. ج / 2 ص -208- "ينزل كلّ ليلة إلى سماء الدّنيا حين يبقى ثُلث الليل الآخر فيقول: هل من سائل فأعطيَه؟، هل من داعٍ فأستجيب له؟، هل من مستغفرٍ فأغفر له". فأمر بدعائه واستغفاره وسؤاله مباشرة، لأنه سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}، ويعلم أحوال عبادِه، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. إنّما تُتّخذ الوسائل والوسائط عند من لا يعلم أحوالَ النّاس ولا يعلم أحوال الرعيّة من المُلوك والرؤساء من البشر الذين تخفى عليهم أحوال الرعايا وأحوال النّاس وحاجات النّاس ويحتاجون إلى مَنْ يبلِّغُهم، أما الله جل وعلا فإنّه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ويعلم كلَّ شيء، ويسمع كلَّ شيء، يسمع السر، ويعلم ما في القلب، ولو لم يتكلّم الإنسان، فهو ليس بحاجة إلى اتّخاذ مبلِّغين ومتوسِّطين بينه وبين عباده. أما استدلالُهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}، وبقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}، فالآيتان لم يُرِد منها اتّخاذ وسائط بين الله وبين عباده. وإنّما معنى التوسُّل في اللغة: التقرُّب، يقال: توسّل إليه: تقرَّب إليه، ووسَل إليه: قَرُب منه، والواسل: اسم فاعل من وسل، هو المتقرِّب، والوسيلة هي: السبب والطريق الذي يوصل إلى الله سبحانه وتعالى، والذي يوصل إلى الله طاعتُه سبحانه وتعالى، وعبادته، وما شرعه على أَلْسُن أنبيائه ورسله. هذه الوسيلة. والمخلوق وإن كان له منزلة عند الله كالأنبياء والرُّسل- عليهم الصلاة والسلام- والصالحين والأولياء، لكنّ الله لم يَشْرَعْ لنا أن نسأل بمكانتهم ومنزلتهم عنده، وإنما أمرنا أن نتوسّل إليه بعملنا نحن لا بعمل غيرِنا، بأن نطيع الله ونتقرّب إليه، أما أنّ فلاناً له عند الله مكانة وله جاه، فهذا ليس من عملنا وليس لنا فيه شيء، هذا خاصٌ بهم، والله لم يشرع لنا أن نسأله بجاه أحد، ولا بذات أحد، ولا بمنزلة أحدٍ عنده سبحانه وتعالى، هذا كلُّه باطل. وإذا تبيَّن أنّ الوسيلة المذكورة في القرآن هي الطّاعة، وهي التي تقرِّب إلى الله عزّ وجلّ وتُدني من الله عزّ وجلّ، وأن اتّخاذ الوسائط من الخلْق بين الله وبين عبادِه لم ج / 2 ص -209- يَشْرَعْهُ الله ولا رسولُه؛ وجب علينا التقرّب إلى الله بطاعته. والتوسّل بالخلق إن صحِبَه شيءٌ من التقرُّب إلى المخلوق كالذبح له والنّذر له؛ صار شركاً أكبر، وإن لم يصحبه شيءٌ من التقرُّب إلى المخلوق، وإنما هو مجرّد توسُّط بالجاه ونحوه؛ فهذا بدعة ووسيلة إلى الشرك، كالسؤال بالجاه، والسؤال بحقّ النّبي، أو بمنزلة النّبي، أو بالنّبي ذاته. فهذا يُعتَبر بدعة في الدعاء لم يشرعها الله، وهي وسيلة من وسائل الشرك، لأنّه إذا بدأ يتوسّل بجاه المخلوق أو بمنزلته أو بحقِّه عند الله؛ فإنّه يتدرّج إلى أن يعبُد هذا المخلوق، مثل ما حصل للمشركين قديماً وحديثاً، حيث بدأتْ مسألتهم من مجرّد التوسُّل، وانتهت بالشّرك الأكبر المخرج من المِلّة، نسأل الله العافية والسلامة. وقد تعلّق بعض المغالطين بكلمة جاءت في بعض رسائل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، أنه قال: "إن التوسل من مسائل الفقه والاجتهاد التي لا إنكار فيها"، هكذا قالوا!!، ونسبوه إلى الشيخ!! والواقع أن الشيخ رحمه الله فصّل فقال: "إن التوسّل الخالي من عبادة المتوسِّل به، وإنما هو توسل بحق الشخص، أو جاهه؛ فهذا بدعة، وليس بشرك. وأما التوسل الذي معناه التقرب إلى المتوسِّل به بالذبح له، والنذر له، وغير ذلك من أنواع العبادة؛ فهذا شرك أكبر". هذا معنى ما قاله الشيخ، وهو ما قرّره المحققون من أهل العلم، وليس المراد: أن التوسل كله من مسائل الفقه؛ لأن منه ما هو شرك أكبر. وهذا بابٌ عظيم، لأنّ هذه الشبهة ضلّ بها أكثرُ الخلق قديماً وحديثاً، لأنّهم لم يفرقوا بين الوسيلة الممنوعة والوسيلة المشروعة. فالتوسُّل على قسمين: توسُّل ممنوع، وهو: التوسُّل بجاه المخلوق، أو بحق المخلوق ومنزلته، أو بذاته وهو إمّا شركٌ، وإما بدعة ووسيلة إلى الشرك. أما التوسُّل المشروع فهو: الذي جاء في الكتاب والسنّة ذكرُه والأمرُ به، ومن ج / 2 ص -210- ذلك: هذه الآيةُ الكريمة التي صدّر بها الشيخ هذا الباب: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}. والتوسُّل المشروع أنواع: النوع الأول: التوسُّل بأسماء الله وصفاته، تقول: (يا رحمن ارحمني)، (يا غفور اغفر لي)، (يا توّاب تُبْ عليّ)، (يا غنيّ اغنني)، وهكذا، تذكُر في دعائك كلَّ اسم يناسِب حاجتك. ولا يناسِب أنك تأتي باسم غير مناسب لحاجتك: فلا تقل: اللهم اغفر لي إنّك شديد العقاب. النوع الثاني: التوسُّل إلى الله جل وعلا بدعاء الصالحين: إذا كان هناك صالحٌ من الصالحين، حيٌّ موجود تأتي إليه وتقول: (ادعُ الله لي أن يغفر لي)، (أن يرزقني)، (أن يشفِيَني)، أو إذا قَحِطّ النّاس طلبوا من الصالحين أن يدعوا الله تعالى لهم بالغيث، فهذا مشروع. وقد استسقى عمر بن الخطّاب- رضي الله تعالى عنه- بدعاء العبّاس عمّ الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: "اللهم إنّا كُنّا نستسقي بنبينا فتسقينا، وإنا نستسقي بعمّ رسولك، قم يا عبّاس فادعو"، فيدعو العبّاس والنّاس يؤمنِّون. وهذا توسُّل بدعاء الصالحين، وكما توسّل معاوية رضي الله عنه بيزيد الجُرْشي، وغيرُهم. أما الميِّت فلا يجوز أن تطلُب منه شيئاً، فلا يجوز أن تذهب إلى قبر الرُسول صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الصالحين وتقول: (ادعُ الله لنا)، لأنّ الصّحابة ما كانوا يذهبون إلى قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم، بل إنّهم لَمّا أجدبوا وما بينهم وبين قبر الرّسول إلاّ أمتار ما ذهبوا إليه، إنّما طلبوا من العبّاس، لأنّ العبّاس حيٌّ حاضر يستطيع أن يدعو، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فإنّه ميِّت، ولا يجوز أن يُطلب من الميِّت شيء لا دُعاء ولا غيره. النوع الثالث: التوسُّل إلى الله بالأعمال الصالحة، مثل حديث أصحاب الغار الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصّخرة وسدّت عليهم المَخْرَجْ فكلٌّ منهم توسّل إلى الله ج / 2 ص -211- بالعمل الذي قدّمه لله عزّ وجلّ: هذا توسَّل بعِفّته عن الحرام، وهذا توسّل ببرِّه بوالديه، وهذا توسَّل بأمانته وحِفظه لحقّ الأجير حتى جاء وأعطَاه إيَّاه، ففرّج الله عنهم، وكما قال الله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ(193)} توسّلوا إلى الله بإيمانِهم بالرّسول صلى الله عليه وسلم: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ(53)} توسّلوا إلى الله بإيمانهم وإتّباعهم للرّسول صلى الله عليه وسلم. والتوسُّل بالتّوحيد: (أسألك بأنّك أنت الله لا إله إلاَّ أنت)، وكما توسّل ذو النون - عليه الصلاة والسلام- وهو في بطن الحوت: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}. قال: وقولُه تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} إخبارٌ من الله جلا وعلا أنّ له الأسماء وأنّها حُسنى. والحسنى: أي: البالغة في الحُسن أعلاه، لا شيء أحسن منها، فالحسنى هي: المتناهِيّة في الحُسن، فكلُّ أسماء الله حسنى. ولا يعلم عددها إلاّ الله سبحانه وتعالى كما قال النّبي صلى الله عليه وسلم: "أسألُك بكلّ اسمٍ هو لك سمَّيْتَ به نفسَك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرْتَ به في علم الغيب عندك"، فالله جل وعلا له أسماء كثيرة، منها ما أنزله في كتابه، ومنها ما علّمه بعضَ خلْقه ولم يُنزله في كتابه. وأمّا قولُه صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله تسعةً وتسعين اسماً، مَن أحصاها دخل الجنّة" فليس المراد الحصر، وإنّما هذه التسعة والتسعين موصوفة بأنّ مَن أحصاها دخل الجنّة، وليس المعنى: أنّها منتهى أسماء الله تعالى، وأن أسماء الله محصورة فيها. ومعنى إحصائها: عدها، ومعرفة معناها، والعمل بمقتضاها. أما مجرّد أنه يكتُبها، أو يعدّها عدّاً فقط، وهو لا يعرف معانيها، أو أنّه يعرف معانيها لكنّه لا يعمَلُ بها فإنَّه لا يحصُل على هذا الوعد الكريم. أما ما جاء في رواية التّرمذي من عدّ هذه الأسماء، فهذا لم يَثْبُت عن النّبي صلى الله عليه وسلم، وإنّما هو مُدْرَجٌ في الحديث من عمل بعض الرواة. ج / 2 ص -212- فهذه الآية تدلُّ: على إثْبات الأسماء لله تعالى رَدًّا على المشركين وعلى الجهميّة ومَن نفى أسماءَ الله سبحانه وتعالى. وفي الآية: أنها كلُّها حسنى. وفيها: مشروعيَّة التوسُّل إلى الله تعالى بها، ودعائه بها: {فَادْعُوهُ بِهَا} يعني: توسّلوا إلى الله بها، بأن تقول: يا رحمن ارحمني، يا غفور اغفر لي، يا كريم أكرِمني، يا توّاب تُبْ عليّ. إلى آخره، بأنْ تأتي بكل اسمٍ يناسب حاجتك. ثم قال: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} {وَذَرُوا} يعني: اترُكوا. والإلحاد في اللغة: المَيْل عن الشيء، ومنه سُمي اللحد في القبر لحداً لأنّه مائل عن سَمْت القبر. أما الإلحاد في أسماء الله: فذكروا له عدّة معانٍ: النوع الأول: جُحودها ونفيُها كما نفتْها الجهميّة. وهذا أعظم الإلحاد فيها، فالذي يقول: "إن الله ليس له أسماء، لأنّ الأسماء موجودة في المخلوقين، فإذا أثبتناها صار تشبيهاً". فهذا جاحدٌ لأسماء الله، ملحِدٌ فيها- والعياذُ بالله- أعظم الإلحاد، وهذا كُفرٌ بالله عزّ وجلّ. النوع الثاني: تأويلُها عما دلّت عليه، كما فعلت المعتزلة فإنهم يُثبتون الأسماء ولكنّهم ينفون معانيها وما تدل عليه من الصّفات، لأنّ هذه الأسماء كلُّ اسم منها يدلّ على صفة؛ {الرحمن} يدلّ على الرحمة، {الغفور} يدلّ على المغفرة، {العزيز} يدلّ على العزّة والقوة والمَنَعة والغَلَبة، وهكذا، كلُّ اسم يُشتَقُّ منه صفة من صفات الله تعالى: {السميع} يدلّ على السمع، {البصير} يدلّ على البصر، {العليم} يدلّ على العلم، {القدير} يدلّ على القدرة، وهكذا، كلُّ اسم منها يدلُّ على صفة. فالذي لا يُثْبِتُ الصّفات مُلحدٌ في أسماء الله، لأنّه جحد معانيها، وجعلها ألفاظاً مجرَّدة لا تدلّ على شيء. النوع الثالث: تسمية المخلوقين بأسماء الله، مثل ما فعل المشركون من تسمية اللات من اسم الإله، والعُزّى من اسم العزيز، فجعلوا أسماء الله أسماءً لمعبودات المشركين، وهذا من الإلحاد في أسماء الله سبحانه وتعالى. ج / 2 ص -213- ذكر ابنُ أبي حاتم عن ابن عبّاس: {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}: "يُشركون ". وعنه: "سموا اللآت من الإله، والعُزّى من العزيز". وعن الأعمش: "يُدخلون فيها ما ليس منها". النوع الرابع: أن يدخل فيها ما ليس منها. فدلّ على أنّ الذي يُنكر أسماء الله، أو يؤوِّلها بغير معانيها الصحيحة، أو يدخل فيها ما ليس منها أو يحرِّفها إلى مسمّيات الأصنام؛ أنّه ملحدٌ متوعَّدٌ بأشدّ الوعيد. ثم ذكر عن ابن أبي حاتم رحمه الله، عن ابن عبّاس: " {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}: يُشركون " أي: يُشركون في أسماء الله. "وعنه" أي: ابن عبّاس. " سَمُّوا اللآت من الإله، والعُزّى من العزيز" أي: أنهم سمّوا الأصنام الكبار المعروفة عند العرب (اللات) و (العُزّى) اشتقّوا لها من أسماء الله. "وعن الأعمش" هو: سُليمان بن مَهْران، الإمام الجليل في الحديث والفقه والتفسير. "يدخلون فيها ما ليس منها" لأنّ القاعدة في أسماء الله: أن لا يُسمّى إلاّ بما سمّى به نفسَه، أو سمّاه به رسولُه صلى الله عليه وسلم، فما لم يسمِّ الله به نفسَه ولم يسمِّه به رسولُه صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يُطلَق على الله، لكن المشركون سمّوا الله بما لم يسمِّ به نفسَه، وهذا من الإلحاد في أسماء الله، كما سمّت النصارى الله عزّ وجلّ بالأَبْ. فهذه الآية الكريمة وما جاء في تفسيرها عن ابن عبّاس وعن الأعمش تدلّ على مسائل: المسألة الأولى: بيان التوسُّل المشروع، وهو التوسُّل بأسماء الله وصفاته. المسألة الثانية: بيان التوسُّل الممنوع، وهو التوسُّل إلى الله بجعل واسطة في ج / 2 ص -214- الدعاء بين الداعي وبين الله عزّ وجلّ، كأنه يقول: أسألُك بنبيِّك، أو بجاه نبيِّك، أو بمنزلة نبيِّك، أو ما أشبه ذلك. المسألة الثالثة: فيه إثبات الأسماء الله سبحانه وتعالى. المسألة الرابعة: أن أسماء الله كلها حسنى، قوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، فليس فيها اسمٌ غير حسن. المسألة الخامسة: فيه: النّهي عن الإلحاد في أسماء الله عزّ وجلّ. المسألة السادسة: أن أسماء الله توقيفيّة، لا يجوز أن يُذكر فيها ما ليس ثابتاً في كتاب الله ولا سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنّ هذا من الإلحاد في أسماء الله، كما قال الأعمش: "يدخلون فيها ما ليس منها". المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#11
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب لا يقال: السلام على الله ج / 2 ص -215- [الباب الثاني والخمسون:] * باب لا يقال: السلام على الله في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كُنا إذا كنا مع النّبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة؛ قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان، فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا: السلام على الله؛ فإن الله هو السلام". مناسبة هذا الباب الكتاب التّوحيد: أنّه لَمّا كان السلام من أسماء الله سبحانه وتعالى فإنّه لا يقال: "السلامُ على الله" لأنّه هو السلام سبحانه وتعالى". وأيضاً: لَمّا كان معنى السلام الدعاء للمسلَّم عليه بالسّلامة من الآفات، والله جل وعلا منزّه عن أن ينالَه شيءٌ من النقص أو من الآفات أو من المكروهات، فليس بحاجة أن يدعى له سبحانه وتعالى لغِنَاهُ عن كلِّ شيء وحاجة كلِّ شيء إليه سبحانه وتعالى، بل هو المدعو، ولا يُدعى له سبحانه وتعالى، لأنّ الدعاء إنّما يكون للمخلوق المحتاج، أمّا الله جل وعلا فإنّه غنيٌّ لا يحتاج إلى شيء، فمن دعا لله فقد تنقّص الله عزّ وجلّ، وهذا يُخِلُّ بالتّوحيد. قال: "في الصحيح " يعني: في "الصحيحين ". "عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: في بعض الروايات: "السلامُ على جبريل وميكائيل"، فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا: السلام على الله، فإنّ الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيَّاتُ لله، والصلوات، والطيِّبات " إلى آخر الحديث في التشهُّد. فقولُه: "لا تقولوا: السلامُ على الله" هذا نهيٌ منه صلى الله عليه وسلم عن هذه الكلمة، والنّهيُ يقتضي التحريم. ثم بيَّن صلى الله عليه وسلم السبب في هذا النّهي فقال: "فإن الله هو السلام" أي: أنّ "السلام" من أسماء الله تعالى، كما قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ}. و"السلامُ" من أسمائه سبحانه وتعالى معناه: السالم من الآفات والعُيوب والنقائص، فالله جل وعلا سالمٌ من الآفات والعُيوب والنقائص لذاتِه سبحانه وتعالى لا أنّ أحداً يسلِّمه، وإنّما ج / 2 ص -216- هو سالم بذاته سبحانه وتعالى. وأيضاً: "السلام" هو الذي يُطلَبُ منه السلام، كما كان النّبي صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم من الصلاة قبل أن ينصرف إلى أصحابه يستغفرُ الله ثلاثاً وهو متوجِّهٌ إلى القبلة، ثم يقول: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام" "ومنك السلام ": أنت الذي تمنحُ السلام لعبادِك، وأنت الذي يُطلَب منك السلام، بمعنى: أنّ العباد يسألونك أن تسلِّمهم من الآفات والنقائص والمكاره. "السلام" من أسماء الله له معنيان كما ذكر أهلُ العلم: المعنى الأوّل: السالم من النقائص والعيوب. والثاني: المسلِّم لغيره. أي: السالم في نفسه، المسلِّّم لغيره، سبحانه وتعالى. فحينما يقول المسلِّم على النّاس: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) فمعناه: أنّه يقول: أدعوا لكم بالسَلامة من الله سبحانه وتعالى، أو (السلام عليكم) أي: اسمُ الله عليكم، بمعنى: أن الله يحفظُكم ممّا تكرهون. فهذا الحديث فيه مسائل: المسألة الأولى: أنه لا يُقال: "السلام على الله" من عبادِه، لأنّ هذا معناه: الدعاء، والله جل وعلا لا يدعى له. المسألة الثانية: في الحديث بيان الحكمة في النّهي عن أنْ يقال: "السلام على الله" لأنّ الله جل وعلا هو السلام، يعني: وإذا كان هو السلام فليس بحاجة إلى أن يسلَّم عليه. المسألة الثالثة: أنّ مَن نهى عن شيء فإنّه يبيِّن السبب في هذا النّهي، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لَمّا نهى بقوله: "لا تقولوا: السلام على الله" بيّن المعنى الذي من أجلِه نهى عنه فقال: "إن الله هو السلام"، ففيه: بيان الحكم بعِلَّته، لأنّ هذا أثبت في ذِهْنِ السامع وأدعى للامتثال. المسألة الرابعة: في الحديث دليلٌ على أنّ مَن نهى عن شيء وكان لهذا ج / 2 ص -217- الشيء بديلٌ صالح فإنه يأتي بالبديل، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لَمّا نهى عن هذه الصِّيغة أتى بالصيغة اللائقة فقال: "قولوا: التحيّات" إلى آخره، ففيه: أنّ مَن نهى عن شيء وله بديلٌ صالح فإنّه يأتي بالبديل، ولا يترُك الشخص لا يدري ماذا يفعل. المسألة الخامسة: في الحديث دليلٌ على أن الله جل وعلا يحيّي ولا يسلَّم عليه، لأن التحيّة تعظيم له والسلام دعاء له، والله جلّ وعلا يعظَّم ولا يُدعى له. المسألة السادسة: في الحديث دليل: على الفرق بين التحيّة والسلام: التحيّة تُقال في حقّ الله تعالى التحيات لله، وأمّا السلام فلا يقال في حق الله، وقد عرفنا الفرق: أن التحيّة تعظيم، والله مستحقٌّ للتعظيم، وأمّا السلام فإنّه دعاء والله ليس بحاجة إلى الدعاء. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#12
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت ج / 2 ص -218- [الباب الثالث والخمسون:] * باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت". اللهم ارحمني إن شئت. ليعزِم المسألة؛ فإن الله لا مُكرِهَ له". هذا الباب من جنس الباب الذي قبله، لأنّ الذي يدعو الله تعالى يجب أن يعزم الدعاء، ولا يعلِّقه بالمشيئة، لأنّه إذا علّقه بالمشيئة تضمّن ذلك أمرين: الأمر الأوّل: أنّ هذا يدلّ على فُتوره في طلب الدعاء من الله سبحانه وتعالى، كأنّه غنيّ عن الله، يقول: إن حصل شيء وإلاَّ ما هو بلازم، فكأنّه فاترٌ في طلبه، وكأنّه غنيّ عن الله سبحانه وتعالى. ولا شكّ أن العبد مفتقرٌ إلى الله جل وعلا في كلّ أحواله، لأنّه فقيرٌ إلى الله، ولا ينظُر إلى ما عنده من الأسباب ومن الإمكانيّات، فإنّ هذه الإمكانيّات يمكن أن تزول في لحظة، لا ينظُر إليها ولا يعتمد عليها، فهو فقيرٌ إلى الله مهما كان، ولو كان من أكثر النّاس مالاً وأولاداً ومُلكاً فهو فقيرٌ إلى الله في أن يُبقيَ عليه هذه النعمة وأن ينفعه بها، وإلاَّ فهي عُرضة للزوال في أسرع وقت. هذا معنى. والأمر الثاني: كأنّه يرى بأن الله جل وعلا قد يُجيب الدعاء وهو كاره، فـ "إنْ شئتَ"؛ معناه: أنا لستُ ملزماً لك، أخشى أن يشقّ عليك، لكن إنّ شئتَ اغفر لي وارحمني، وهذا لا يليق بالله سبحانه وتعالى لأنه تنقص له. والله جل وعلا لا مُكْره له، وهذا المعنى عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن الله لا مكره له". "في الصحيح" أي: في "الصحيحين". "عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكُم: اللهم اغفر لي إنْ شئتَ، اللهم ارحمني إنْ شئتَ، وليعزم المسألة، فإنّ الله لا مُكرِهَ له "علّل النّبي صلى الله عليه وسلم هذا النّهي بأمرين: الأمر الأوّل: أنّ هذا يدلّ على الفُتور من السائل، والمطلوب من السّائل العزم: "وليعزم المسألة". الأمر الثّاني: أنّ هذا يُشعر بأنّ السائل يخاف أنّ الله يفعل هذا وهو كارهٌ من ج / 2 ص -219- ولمسلم: "وليعظِم الرغبة؛ فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه". باب المجامَلة، والله جل وعلا لا مُكْرِهَ له، يفعل ما يشاء ويختار سبحانه، لا أحد يُكرهه أو يؤثِّر عليه، أو أنّه يجامِل أحداً، أو يخافُ من أحد. "وفي رواية لمسلم: "وليعظِّم الرغبة" مثل: "وليعزم المسألة" يعني: يلحّ على الله في الدعاء. "فإنّ الله لا يتعاظمه شيء أعطاه" يعطي سبحانه وتعالى ما يشاء ما لا يعلمُه إلاّ هو، بلا حصر ولا حساب، ولا تنفد خزائنُه سبحانه، بخلاف المخلوق فإنّه قد يعطي العطاء ولكن هذه العطيّة تكون ثقيلةً عليه وتُجحف بماله، قد يكون معسِراً ليس عنده شيء. أمّا الله جل وعلا فإنّه غنيّ لا يتعاظمه شيءٌ أعطاه، ولذلك: يعطي الجنّة التي هي غاية المطالب، ويعطي الدنيا والآخرة سبحانه وتعالى، يعطي بلا حساب، ولا تنفد خزائنه، كما في الحديث القدسي: "يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيتُ كلّ واحدٍ ما سألني ما نقص ذلك ممّا عندي إلاَّ كما ينقُص المِخْيَط إذا أُدخل البحر، ذلك بأنِّي جواد واجد ماجد عطائي كلام وعقابي كلام، أفعلُ ما أشاء"، هذا شأنه سبحانه وتعالى. فدلّ هذا الحديث على مسائل: المسألة الأولى: النّهي عن أن يقول: "اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إنْ شئت"، والنّهي للتحريم. المسألة الثانية: بيان علّة النّهي، وهي أنّ الله جل وعلا لا مكره له حتى يحتاج إلى أن تقول: "إنْ شئت"، ولا يتعاظمه شيء أعطاه ولو كان كثيراً، فإنّ هذا بالنسبة لله كلا شيء، خزائنُه ملأى لا تغيض مع كثرة الإنفاق، كلّ ما في الدنيا والآخرة فإنّه من جودِه سبحانه وتعالى، ومع هذا لا تغيضُ خزائنُه سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، كلّ ما في الدنيا وكلّ ما في الآخرة وكلّ ما في السموات وكلّ ما في الأرض من الخيرات والنعم فإنّه من خزائن الله سبحانه وتعالى. المسألة الثالثة: في الحديث دليلٌ على كمال غناه سبحانه وتعالى، وأنّ خزائنه لا مع كثرة الإنفاق وإعطاء السّائلين، أرأيتم ماذا أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنّه لم يَغِض ما في يمينه سبحانه وتعالى، كما في الحديث عن النّبي صلى الله عليه وسلم. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#13
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب لا يقول: عبدي وأمتي ج / 2 ص -220- [الباب الرابع والخمسون:] * باب لا يقول: عبدي وأمتي في "الصحيح" عن أبي هريرة أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضّئ ربّك. وليقل: سيّدي ومولاي. هذا الباب عقده المصنِّف رحمه الله كالباب الذي قبلَه، من أجل احترام أسماء الله وصفاتِه، ومن أجل سدّ الطّرق التي تُفضي إلى الشرك وحماية جانب التّوحيد، وذلك: بتجنُّب الألفاظ الموهمة التي قد يُفهم منها شيءٌ من الشرك، ولو كان المتكلِّم بها لا يقصد المعنى، ولكنّه يتجنّب ذلك من أجل سدّ الباب من أصلهِ، هذا هو المقصود. وقد سبق له نظائر في هذا الكتاب من حماية النّبي صلى الله عليه وسلم حمَى التّوحيد وسدّ الطُرق التي تُفْضي إلى الشرك، وهذا منها. ومن ذلك: لا يقُلْ السيِّد والمالك لرقيقه: عبدي وأَمَتي. لأنّ العباد عباد الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً(93)}، فليس هناك عبدٌ لأحد إلاّ لله سبحانه وتعالى، فالعبوديّة والتعبيد خاصٌّ بالله سبحانه وتعالى، أما المخلوقون فليس بعضُهم عبيداً للبعض، فالعباد كلّهم عبادُ الله، مؤمنُهم، وكافرُهم، هذه العبوديّة العامّة، أما العبودية الخاصّة فهي خاصّة بالمؤمنين: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}، {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}، {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ(68)}، هذه عبوديّة خاصّة بالمؤمنين، وهي عبوديّة تقرُّب إلى الله تعالى وإنابةٍ إليه، وجزاؤها الجنة. فالعبودية إذاً خاصّة لله. قوله: "أَمَتي": الأَمّة معناها- أيضاً- العبدة، فلا يقال: هذه أَمَة فلان، وإنّما يُقال: هذه أَمَةُ الله،. وهذا تأدُّبٌ مع التّوحيد ومع جناب الرّبوبيّة. هذا وجه عقد المصنِّف للترجمة. قوله: "في الصحيح" أي: الصحيحين: صحيح البخاري، وصحيح مسلم. "أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم"! هذا نهيٌ من الرّسول صلى الله عليه وسلم. ج / 2 ص -221- ولا يقل: عبدي وأَمَتي. وليقل: فتاي وفتاتي وغُلامي". "أطعم ربّك" أي: ناوِلْه الطعام. "وضِّئ ربّك" أي: ائتِه بالوضوء، أو أعنه على الوُضوء. ثم بيّن النّبي صلى الله عليه وسلم اللفظ الذي يقوله المملوك لمالكه، وهو: "سيدي ومولاي"، كما بيّن اللفظ الذي يقوله المالك لمملوكه، وهو: "فتاي، وفتاتي وغلامي"، لأن هذه الألفاظ لا محذور فيها، فتكون بدائل للألفاظ المحذورة. فدلّ هذا الحديث على مسائل: المسألة الأولى: فيه ما ترجم المصنِّف من أجلِه، وهو عدم جواز قول "عبدي" و"أَمتي"، لأنّ هذا ورد منصوصاً عليه في الحديث: "لا يقل: عبدي وأمتي". المسألة الثانية: فيه: أنّ لفظ (الرّبّ) لا يُطلق إلاّ على الله، لأنّه هو الرب سبحانه وتعالى الذي له الربوبيّة على عباده: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)}، وهكذا لم يَرِد إطلاق لفظ (الربّ) في القرآن إلاّ على الله سبحانه وتعالى، فلا يجوز استعمالُه لغيره، وإنْ كان المتكلَّم لا يقصد المعنى وإنّما يقصد مجرّد الملكيّة والرِّق، لكن من باب سدّ الذرائع- كما سبق- أما إذا قُيِّد لفظ الرب فإنه يجوز إطلاقه على المخلوق مثل رب الدار، وكقوله تعالى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}. المسألة الثالثة: فيه: القاعدة المعروفة وهو سدّ الذرائع التي تقضي إلى المحذور، كلّ ذريعة ووسيلة تُفضي إلى محذور فإنّها ممنوعة، وهي قاعدة عظيمة، تُسمّى عند الأُصولييّن: "قاعدة سدّ الذرائع"، قد تكلّم عليها بإسهاب الإمام ابن القيِّم في كتابَيْه: "إعلام الموقِّعين" و"إغاثة اللّهفان"، وذكر لها تسعة وتسعين مثالاً. المسألة الرّابعة: في الحديث: دليلٌ على أنّ مَن نهى عن شيء وله بديل صالح فإنّه يأتي بالبديل، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لَمّا نهى عن قول: "عبدي" و"أَمَتِي" قال: "وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي" هذا البديل الصّالح الذي لا محذور فيه، فإذا كان هناك بديل يقوم مقام هذا المنهي عنه فإنّه يُؤتى بالبديل الذي لا محذور فيه، مهما أمكن ذلك. وسبق لهذا نظائر، وتكرّر لهذا أمثلة في الأبواب السّابقة. المسألة الخامسة: في الحديث: دليلٌ على جواز لفظ "سيدي ومولاي" بالنسبة ج / 2 ص -222- للمخلوق، لأنّهما يحتملان معاني لا محذور فيها، فإذا كان اللفظ له معنى غير محذور فلا بأس به، لأنّ السيّد يُراد به الرّئيس. والمالك يقال له (سيد)، والزوج يقال له (سيد). والمولى يراد به المعتق، ويُراد به المناصِر، ويُراد به المحبوب، ويُراد به المالِك، كلّ هذا يقال له: (مولى). المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#14
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب لا يُرد من سأل بالله ج / 2 ص -223- [الباب الخامس والخمسون:] * باب لا يُرد من سأل بالله عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل بالله فأعطوه، ومن استعاذ بالله فأعيذوه، ومَن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإنْ لم تجدوا ما تكافئونَه فادعوا له حتى تُرَوا أنكم قد كافأتموه" رواه أبو داود والنسائيّ بإسناد صحيح. قول الشيخ رحمه الله: "باب لا يُرد مَن سأل بِالله" لأنّ هذا فيه تعظيمٌ لله سبحانه وتعالى، وهو من كمال التّوحيد، أمّا إذا رُدّ السائل بالله ففيه إساءة في حقّ الله سبحانه وتعالى. وفي ردّه نقصٌ في التّوحيد. والسؤال بالله جائز، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} ومعنى {تَسَاءَلُونَ بِهِ} يعني: يسأل بعضُكم بعضاً بالله، وفي هذا الحديث: "مَن سأل بالله فأعطوه " فدلّ على جواز السّؤال بالله. لكن من سُئل بالله لا يجوز له أن يردّ السائل إجلالاً لله سبحانه وتعالى. قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن سأل بالله" كأن يقول: أسألُك بالله، وهذا معناه: الإقسام بالله عزّ وجلّ، كأنّه قال: والله لتُعطينِّي هذا الشيء، لأنّ الباء باء القسم، فإذا قال: أسألُك بالله أي: أُقسم عليك بالله لتعطينِّي كذا وكذا. "فأعطوه" هذا أمرٌ من النّبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء مَن سأل بالله، وظاهرُه الوُجوب. ولكن هذا فيه تفصيل؛ فإذا سأل بالله شيئاً له فيه حقّ كالذي يسأل من بيت المال؛ فكلّ مسلم له حقٌّ في بيت المال، فإذا سأل بالله وجب إعطاؤه، وكذلك إذا سألك مضطرٌ إلى شيء من طعام أو كسوة أو غير ذلك مضطراً، وأنت عندك فضل زائد عن حاجتك؛ فإنّه يجب عليك أن تُعطيه دفعاً لضرورته، وإنْ لم تعطه فقد عصيتَ الله. وقد جاء في الحديث الذي سبق في قصّة الأعمى والأقرع والأبرص: أن الله غضب على اللذين سُئِلا في حالة ضرورة ولم يُعطيَا، فسؤال المضطّر والمحتاج من شيء فاضل عن حاجة المسؤول يجب بذلُه له، فإن لم يبذله فقد عصى الله. أما إذا سأل شيئاً ليس له فيه استحقاق، وهو ليس محتاجاً ولا مضطراً؛ فهذا يستحبّ للمسؤول أن يُعطيَه، فإن لم يعطِه في هذه الحالة الأخيرة يكون فاعلاً لمكروه، وإذا أعطاه كان فاعلاً لمستحبّ. "ومن استعاذ بالله فأعيذوه" استعاذ: طلبَ العوذ، وهو: اللُّجوء. فمن استعاذَ بالله عن شرك فإنّه يجب عليك أن تُعيذَه، ولا يجوز لك أن لا تُعيذَه. "ومن دعاكم" أي: طلب منكم حضور مناسبة عنده؛ كأن دعاكم إلى حُضور طعام وليمة، فإنه يجب عليكم الإجابة، إلاّ إذا كان هُناك مانع، لأنّ هذا من حقّ الأُخوة. وظاهرُ الحديث عامٌّ في كلّ دعوة، ولكن العلماء يقولون: إجابة الدعوة إنّما هي خاصّة بوليمة العُرس، أما ما عداها من الولائم فيستحبّ حُضورُها، أمّا وليمة العُرس فيجب حُضورُها لقوله صلى الله عليه وسلم: "شرُّ الطعام طعامُ الوليمة؛ يُدعى إليها الأغنياء ويُمنع منها الفقراء" وقال: "ومن لا يجب فقد عصى الله ورسولَه" الشَّاهدُ في قوله: "عصى الله ورسولَه"، فدلّ على وجوب الحُضور لولائم الزّواج. وإن لم يحضُر من غير عُذر يكون آثِماً. أمّا إذا كان هناك عُذر كأن يكون في الوليمة منكَر ولا يستطيع إزالة هذا المنكر فإنّه لا يحضُر، لأنّ هذا مانع من إجابة الدعوة؛ فإنْ كان يستطيع إزالته وجب عليه الحُضور، حتى إنّ الصائم يجب عليه الحُضور، ولكن إنْ كان صيامُه واجباً فإنّه يدعو وينصرِف، وإنْ كان صيامُه مستحباً فإنّه يخيّر بين أنْ يُفطِر ويأكُل أو يدعو وينصرف. "ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه" يعني: مَن أحسن إليك بإحسان مالي أو عملي أو قولي. والمعروف: ضدّ المنكر، والمراد به هنا: الخير، يعني: من أسدى إليك خيراً من مال أو جاه أو كلام طيِّب أو غير ذلك، فكلّ هذا من المعروف، فإنّه يجب عليك أن تكافئه، بمعنى: أن تفعل له من المعروف مثل ما عمِل لك، وتقابل إحسانه بالإحسان، وهذا من باب المكافأة من ناحية، وأيضاً فيه قطعٌ للمنّة من ناحية أُخرى، لأنك لو لم تكافئه بقيَ له منّة عليك، ورِقٌّ منك له. ج / 2 ص -225- حتى ولو كان صانعُ المعروف كافراً فإنّك تكافئه على معروفه، لأنّ هذا من باب مكارم الأخلاق ومن باب قطع المنّة ومن باب جزاء الإحسان بالإحسان: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ(60)}، وقال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(8)}، هذا في الكافر الذي يحسن إلى المسلم فالمسلم يكافئه، بل يتأكَّد في حقّ المسلم مكافأة الكافر على صنيعهِ ليقطع منّتَهُ عليه، ولا يكون منه رقٌّ للكافر، ولأنّ هذا يدخل في باب الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، فإذا رأى الكفّار من المسلمين هذه الأخلاق الطيِّبة والفاضلة كان ذلك مدعاة لدخولهم في الإسلام. "فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له" أي: ادعوا له بالخير والتيسير والتوفيق. "حتى تُرَوْا" بضمّ التّاء، يعني: تظنُّوا، ويجوز الفتح، بمعنى: تعلَموا. فدلّ هذا: على أنّ المحسِن يكافأُ على إحسانِه إمّا بالقول وإمّا بالفعل. فهذا الحديث فيه مسائل عظيمة: المسألة الأولى: فيه ما ترجم له المصنِّف وهو: لا يُرَدّ مَن سأل بالله، لقوله: "من سألكم بالله فأعطوه"، لأنّ في هذا إجلالاً لله سبحانه وتعالى الذي سَأل به، وفي ردِّه إساءة في حقّ الله تعالى ونقصٌ في التّوحيد، وفي إعطائِه احترامٌ لحقّ الله تعالى، وتكميلٌ للتّوحيد. المسألة الثانية: فيه وُجوب إعاذة من استعاذ بالله وعدم المساس به بمكروه، لأن هذا يكون تعدِّياً على من استجارَ بالله سبحانه وتعالى، وذلك من نقص التّوحيد، وفي إعاذَتِه إكمالٌ للتّوحيد. المسألة الثالثة: فيه وُجوب إجابة دعوة المسلم لأخيه المسلم، لِمَا، في ذلك من جَبْر القُلوب وتثبيت المحبّة وإزالة النُّفرة بين الإخوة، أمّا إذا لم يُجب فهذا يسبِّب العكس، يسبِّب النُّفرة ويسبِّب التباغُض بين النّاس والقطيعة. المسألة الرابعة: في الحديث دليلٌ على وجوب مكافأة صانع المعروف بمثل معروفِه إذا أمكن، فإن لم يمكن فإنّه يكافئه بالدعاء له بالخير. المسألة الخامسة: في الحديث: النّهي عن عدم مكافأة صانع المعروف، لأنّ ذلك من صفات اللّئيم التي لا تليق بالمسلم. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#15
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد بابٌ لا يُسأل بوجه الله إلاَّ الجنة ج / 2 ص -226- [الباب السادس والخمسون:] * بابٌ لا يُسأل بوجه الله إلاَّ الجنة هذا الباب عقده الشيخ رحمه الله في "كتاب التّوحيد" لأنّ تعظيم صفات الله سبحانه وتعالى من تعظيم الله، وتعظيمُها من التّوحيد، لأنه تعظيمٌ لله سبحانه وتعالى، وأمّا عدمُ تعظيمِها فإنّه تنقُّصٌ للتّوحيد، لأنّه تنقُّصٌ لله عزّ وجلّ. "ووجهُ الله" صفةٌ من صفاتِه سبحانه وتعالى الذّاتيّة، تواتَرتْ بإثباتِه الأدلّة في كتاب الله وفي سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه علماء السنّة والجماعة: قال الله تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ(27)} فأثبت له وجهاً ووصفه بالجلال ووصفه بالإكرام. كذلك قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، فقوله:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} مثل قوله تعالى:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإكْرَامِ(27)}. والسنّة: فيها أحاديث كثيرة في إثبات الوجه لله عزّ وجلّ، مثل الحديث الذي ساقَه المصنِّف: "لا يُسأل بوجه الله إلاَّ الجنة"، ومثل حديث: "أعوذُ بنور وجهك الذي أشرقت له الظُّلُمات، وصلح عليه أمرُ الدنيا والآخرة". ومثل أحاديث في هذا الباب كثيرة، ذكرها علماء السنّة والمصنِّفون في العقائد، الذين يسوقون الآيات والأحاديث، مثل كتاب "التّوحيد" لابن خُزيمة و "كتاب السنّة" للآجري، وكتاب "السنة" لابن أبي عاصم، وغيرها من الكتب المؤلَّفة في التّوحيد، كلُّهم يذكُرون النُّصوص الدّالة على صفاتِ الله سبحانه وتعالى، الصّفات الذّاتية كالوجه واليدين، والصّفات الفعليّة كالاستواء والنُّزول إلى سماء الدُّنيا، وغير ذلك من صفات الأفعال. فالوجه من الصّفات الذّاتيّة وهو أعظمُها، ولكن مع العلم واليقين والقطع بأنّ صفاتِ الله ليست كصفات خلْقِه، فالله له وجه والمخلوق له وجه، والله له يدان والمخلوق له يدان، والله جل وعلا له سمع وله بصر، والمخلوق له سمع وله بصر، ولكن صفات الله جل وعلا لائقةٌ به وبعظمتِه، وصفات المخلوقين تليقُ بهم وبخلقتهم، فلا تُشبه صفات المخلوقين صفات الخالق جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ ج / 2 ص -227- عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسأل بوجه الله إلاّ الجنة" رواه أبو داود. شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}، {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ(4)}، كلّ هذا ينفي المماثَلة والمشابهة بين صفات الخالق وصفات المخلوق، فلا تشابُه وإن اشتركَتْ في المعنى، فإنّها لا تشترك في الكيفيّة والحقيقة. ومَن شَبّه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسَه فقد كفَر، كما قال نُعيم بن حماد -شيخ البخاري- وغيرُه علماء السلف: من شبّه الله بخلقه فقد كَفر، لأنّ الله جل وعلا يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ومَن جحد ما وصف الله به نفسَه فقد كفَر، لأنّ الله تعالى يقول: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ويقول: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإكْرَامِ(27)}، فأثبت له الوجه، فمن نفى ما أثبته الله لنفسه فهو مكذِّبٌ لله، ويكون كافراً بالله عزّ وجلّ، لأنّ الإيمان أنْ تؤمن بالله عزّ وجلّ وملائكته، وكُتبه، ورُسله، واليوم الآخِر، وبالقدَر خيرِه وشرِّه، ومن الإيمان بالله: الإيمان بأسمائه وصفاتِه سبحانه وتعالى على الوجه اللائق به. فالله جل وعلا له وجهٌ كما أثبته لنفسه، ولكنه لا يشبه وجه المخلوق، ولا يدور بخلَد المؤمن- أو في ظنّ المؤمن- هذا الظنّ السيّء وهو المشابهة بين الله وبين خلقه، فمن دار بخلده ذلك فإنّه يكون ناقصَ الإيمان، فإنْ نفى ما وصف الله به نفسَه فإنّه يكون عديم الإيمان، نسأل الله العافية. ولذلك يقولون: المشبّه يعبُد صنماً، والمعطِّل يعبُد عدماً، والموحِّد يعبُد رباً فَرْداً صمَداً. فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يُسأل بوجه الله" يثبت أنّ لله وجهاً، لكن هذا الوجه عظيم يعظَّم، ولا يُسأل به الأشياء الحقيرة كمتاع الدنيا وأطماع الدنيا، وإنّما يُسأل به شيءٌ عظيم يليق بعظمتِه وهو الجنّة، لأنّ الجنة هي أعظم المطالِب، وهي غاية المطالب، فهي شيءٌ عظيم، أو ما يوصِّلُ إلى الجنة من الأعمال الصالحة، وفي الحديث: "أسألُك الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل". ج / 2 ص -228- فلا يُسأل بوجه الله إلاَّ الجنّة تعظيماً له أن يُسأل به شيءٌ من المحقَّرات. وكلُّ ما دون الجنّة فإنّه حقير، إلاَّ إذا كان يوصِّل إلى الجنّة من الأعمال الصّالحة، فإنّه يُسأل بوجه الله. ففي هذا الحديث مسألتان: المسألة الأولى: فيه إثبات الوجه لله سبحانه وتعالى. المسألة الثانية: فيه النّهي عن سؤال الأشياء الحقيرة بوجه الله عزّ وجلّ، وكلّ ما عدا الجنّة فإنّه حقير، فلا يُسأل بوجه الله عزّ وجلّ. بقي أنّ هذا الحديث رواه أبو داود، وفي إسناده: سليمان بن معاذ، وهو ضعيف، فهو حديث ضعيف فكيف أورده المصنِّف هنا؟. فنقول: المصنِّف رحمه الله في هذا الكتاب يستدل بالأحاديث الصحيحة أو الأحاديث الحسنة، أو الأحاديث الضعيفة التي لها شواهد تؤيدها، وهذا الحديث له شواهد في إثبات الوجه لله عزّ وجلّ من الكتاب والسنّة. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
[جمع] الجمع الثمين لكلام أهل العلم في المصرّين على المعاصي والمدمنين | أبو عبد الودود عيسى البيضاوي | منبر التوحيد وبيان ما يضاده من الشرك | 0 | 13-09-2011 09:33PM |
أقوال العلماء السلفيين في حكم من حكَّم القوانين | أبو حمزة مأمون | منبر التحذير من الخروج والتطرف والارهاب | 0 | 10-06-2010 01:51AM |
(الشيخ ربيع بين ثناء العلماء ووقاحة السفهاء) | أبوعبيدة الهواري الشرقاوي | منبر الجرح والتعديل | 0 | 21-12-2008 12:07AM |
مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد | أبو عبد الرحمن السلفي1 | منبر التوحيد وبيان ما يضاده من الشرك | 4 | 08-11-2007 12:07PM |
صحيح المقال في مسألة شد الرحال (رد على عطية سالم ) | ماهر بن ظافر القحطاني | منبر البدع المشتهرة | 0 | 12-09-2004 12:02PM |