#1
|
|||
|
|||
عقد الدرر فيما يتعلق بالقضاء والقدر
عقد الدرر فيما يتعلق بالقضاء والقدر جمع وإعداد/ أم حميد الفلاسي عفى الله عنها وغفر لها مراجعة وتصحيح الشيخ بدر العتيبي حفظه الله (من طلاب الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، فبلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده ، حتى أتاه اليقين ، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد : إن الإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان .. ولا يتم إيمان المسلم حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطؤه .. وما أخطأه لم يكن ليصيبه .. وأن كل شيء بقضاء الله وقدره كما قال سبحانه وتعالى .. (( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ )) .(1) ويجب على المؤمن الصبر على أقدار الله .. والصبر على طاعة الله .. والصبر عن معاص الله .. ومن صبر أعطاه الله الأجر يوم القيامة بغير حساب كما قال سبحانه: (( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ )). (2) والمؤمن خاصة مأجور في حال السراء والضراء .. قال عليه الصلاة والسلام .."عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير , وليس ذلك لأحد إلاّ للمؤمن , إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له , وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له". (3) و في هذه المقالة سنبحث إن شاء الله في أمر مهم ، يهم جميع المسلمين ، ألا وهو: قضاء الله وقدره ، الذي ما زال النزاع فيه بين الأمة قديماً وحديثاً ، فقد روي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر فنهاهم عن ذلك وأخبر أنه إنما أهلك من كان قبلهم هذا الجدال. ولكن فتح الله تعالى على عباده المؤمنين - السلف الصالح - الذين سلكوا طريق العدل فيما علموا وفيما قالوا ، وذلك أن قضاء الله وقدره هو من مقتضى ربوبيته تبارك وتعالى التي هي أحد أقسام التوحيد الثلاثة التي قسم أهل العلم ألا وهى: توحيد الألوهية: وهو إفراد الله تعالى بالعبادة. وتوحيد الربوبية: وهو إفراد الله تعالى بالخلق والملك والتدبير. وتوحيد الأسماء والصفات: وهو توحيد الله بأسمائه وصفاته. فالإيمان بالقدر من مقتضى ربوبية الله عز وجل، ولهذا قال الإمام أحمد: القدر قدرة الله، لأنه من قدرته ومن عمومها بلا شك وهو أيضاً سر الله تعالى المكتوم الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه و تعالى؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ في الكتاب المكنون الذي لا يطلع عليه أحد ، ونحن لا نعلم بما قدره الله تعالى لنا أو علينا ، أو بما قدره في مخلوقاته إلا بعد وقوعه أو الخبر الصادق عنه. إن فرق الأمة - هذه الأمة الإسلامية - انقسموا في القدر إلى ثلاثة أقسام: فقسم غالوا في إثباته وسلبوا العبد قدرته واختياره ، وقالوا: إن العبد ليس له قدرة ولا اختيار ، إنما هو مسير لا مخير ، ولا فرق بين فعل العبد الواقع باختياره ، وبين فعله الواقع بغير اختياره ، ولا شك أن هؤلاء ضالون ، لأنه مما يعلم بالضرورة من الدين والعقل والعادة أن الإنسان يفرق بين فعل الاختيار وبين فعل الإجبار. قسم آخر غالوا في إثبات قدرة العبد واختياره ، حتى نفوا أن يكون لله تعالى مشيئة أو اختيار أو خلق فيما يفعله العبد ، وزعموا أن العبد مستقل بعمله ، حتى غلا طائفة منهم وقالوا: إن الله تعالى لا يعلم ما يفعله العباد إلا بعد أن يقع منهم وهؤلاء أيضاً غلوا وتطرفوا تطرفاً عظيماً في إثبات قدرة العبد واختياره ، فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق . وسلك القسم الثالث أهل السنة والجماعة في ذلك مسلكاً وسطاً قائماً على الدليل الشرعي والدليل العقلي، وقالوا: إن الأفعال التي يحدثها الله تعالى في الكون تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما يجريه الله تبارك وتعالى من فعله في مخلوقاته لهذا لا اختيار لأحد فيه ، كإنزال المطر وإنبات الزرع وكالإحياء والإماتة والمرض والصحة وغير ذلك من الأمور الكثيرة التي تشاهد في مخلوقات الله ، فإن هذه بلا شك ليس لأحد فيها اختيار وليس لأحد فيها مشيئة ، وإنما المشيئة فيها لله الواحد القهار. والقسم الثاني: ما يفعله الناس بل ما تفعله الخلائق كلها من ذوات الإرادة فإن هذه - أعني هذه الأفعال - تكون باختيار فاعليها وإرادتهم بعلم من الله تعالى وإرادة ؛ لأن الله تبارك وتعالى جعل ذلك إليهم ، قال الله تعالى: (( لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ )) . (4) وقال تعالى: ((وَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ )) .(5) والإنسان يعرف الفرق بين ما يقع منه باختيار ، وبين ما يقع منه باضطرار وإجبار ، فـالإنسان ينزل من السطح في السلم نزولاً اختيارياً يعرف أنه مختار ، ولكنه يسقط هاوياً من السطح ويعرف أنه ليس مختاراً لذلك ، ويعرف الفرق بين الفعلين ، وأن الثاني إجبار والأول اختيار ، وكل إنسان يعرف ذلك . كذلك الإنسان يعرف أنه إذا أصيب بمرض سلس البول فكان البول يخرج منه بغير اختيار ، وإذا كان سليماً من هذا المرض فإن البول يخرج منه باختياره ، ويعرف الفرق بين هذا وبين هذا ، ولا أحد ينكر الفرق بينهما . وهكذا جميع ما يقع من العبد يعرف فيه الفرق بين ما يقع اختيارياً وبين ما يقع اضطراراً وإجباراً ، بل إن من رحمة الله عز وجل أن من الأفعال ما هو من جنس ما يقع باختيار العبد ولكنه يكتب بغير اختياره ، أي أنه لا يلحقه منه شيء كما في فعل الناسي والنائم ، يقول الله تعالى في قصة أصحاب الكهف: ((وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ))(6) وهم الذين يتقلبون ولكن الله تعالى نسب الفعل إليه ؛ لأن النائم لا فعل له ولا اختيار له ، فنسب فعله إلى الله عز وجل ، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: " (7)من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه ؛ فإنما أطعمه الله وسقاه " ، فنسب هذا الإطعام وهذا الإسقاء إلى الله عز وجل ؛ لأن الفعل وقع منه بغير ذكر فكأنه صار بغير اختياره. كلنا يعرف الفرق بين ما يجده الإنسان من ألم بغير اختياره ، وما يجده من خفة في نفسه أحياناً بغير اختياره ، ولا يدري ما سببه ، وبين أن يكون الألم هذا ناشئاً من فعل هو الذي اكتسبه أو هذا الفرح ناشئاً من فعل هو الذي اكتسبه ، وهذا الأمر ولله الحمد أمر واضح لا غبار عليه. إننا لو قلنا بقول الفريق الأول - الذين غالوا في إثبات القدر - لبطلت الشريعة من أصلها، لأنه في الحقيقة إذا قلنا: إن فعل العبد ليس فيه اختيار صار لا يحمد على فعل محمود، ولا يلام على فعل مذموم؛ لأنه في الحقيقة بغير اختياره وبغير إرادة منه ، وعلى هذا فالنتيجة إذاً أن الله تبارك وتعالى يكون ظالماً لمن عصاه إذا عاقبه وعذبه على معصيته ؛ لأنه عاقبه على أمر لا اختيار له فيه ولا إرادة ، وهذا بلا شك مخالف للقرآن صريحاً. يقول الله تبارك وتعالى: ((وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ )) (8) ، فيبين سبحانه أن هذا العقاب منه ليس ظلماً بل هو كمال العدل ؛ لأنه قدم إليهم بالوعيد ، وبين لهم الطرق ، فبين لهم الحق وبين لهم الباطل ، ولكنهم اختاروا لأنفسهم أن يسلكوا طريق الباطل ، فلم يبق لهم حجة عند الله عز وجل. لو قلنا بهذا القول الباطل لبطل قول الله تعالى.(( رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ً )) (9) ، فإن الله تبارك وتعالى نفى أن يكون للناس حجة بعد إرسال الرسل ، لأنهم قامت عليهم الحجة بذلك ، ولو كان القدر حجة لهم لكانت هذه الحجة باقية حتى بعد بعث الرسل ؛ لأن قدر الله لم يزل ولا يزال موجوداً قبل إرسال الرسل وبعد إرسال الرسل: إذن فهذا القول تبطله النصوص ويبطله الواقع ، كما فصلنا في الأمثلة السابقة. أما من غالوا في إثبات فعل العبد وأنه مستقل به فإن هؤلاء أيضاً ترد عليهم النصوص والواقع ، ذلك لأن النصوص صريحة في أن مشيئة الإنسان تابعة لمشيئة الله عز وجل (( لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * )) . (10) ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ )) . (11) ((وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )) . (12) والذين يقولون بهذا القول هم في الحقيقة مبطلون لجانب من جوانب الربوبية ، وهم أيضاً مدعون بأن في ملك الله تعالى ما لا يشاء ولا يخلقه ، والله تبارك وتعالى لكل شيء بإرادته ، خالق لكل شيء ، مقدر لكل شيء. وهم أيضاً مخالفون لما يعلم بالاضطرار من أن الخلق كله ملك لله عز وجل ، ذواته وصفاته لا فرق بين الصفة وبين الذات، ولا بين المعنى وبين الجسد، إذن فالكل لله عز وجل ، ولا يمكن أن يكون في ملكه ما لا يريده تبارك وتعالى، ولكن يبقى علينا إذا كان الأمر راجعاً إلى مشيئة الله تبارك وتعالى وأن الأمر كله بيده. فما طريق الإنسان إذن وما حيلة الإنسان إذا كان الله تعالى قد قدر عليه أن يضل و لا يهتدي؟ نقول - الجواب عن ذلك -: إن الله تبارك وتعالى إنما يهدي من كان أهلاً للهداية ، ويضل من كان أهلاً للضلالة ؛ يقول الله تبارك وتعالى: (( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ )) . (13( ويقول تعالى: (( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ )) . (14 فبين الله تبارك وتعالى أن أسباب إضلاله لمن ضل إنما هو بسبب من العبد نفسه ، والعبد كما أسلفنا قريباً لا يدري ما قدر الله له ؛ لأنه لا يعلم بالقدر إلا بعد وقوع المقدور فهو لا يدري هل قدر الله له أن يكون ضالاً، أم أن يكون مهتدياً ، فما باله يسلك طريق الضلال، ثم يحتج بأن الله قدر له ذلك ؟! ، أفلا يجدر به أن يسلك طريق الهداية ثم يقول: إن الله تعالى قد هداني للصراط المستقيم، أيحق له أو أيجدر به أن يكون جبرياً عند الضلالة، وأن يكون قدرياً عند الطاعة؟! كلا لا يليق بالإنسان أن يكون جبرياً عند الضلالة والمعصية، فإذا ضل أو عصى الله قال: هذا أمر كتب عليّ ، وقدر عليّ ، ولا يمكنني أن أخرج عما قضى الله وقدر ، وإذا كان في جانب الطاعة ووفقه الله تعالى للطاعة والهداية زعم أن ذلك منه ، ثم منَّ به على الله وقال: أنا أتيت به من عند نفسي فيكون قدرياً في جانب الطاعة ويكون جبرياً في جانب المعصية. هذا لا يمكن أبداً؛ فالإنسان في الحقيقة له قدرة وله اختيار ، وليس باب الهداية بأخفى من باب الرزق و بأخفى من أبواب طلب العلم . والإنسان نحن نعرف جميعاً أنه قد قدر له ما قدر من الرزق ومع ذلك هو يسعى بأسباب الرزق ، يسعى بها في بلده وخارج بلده ويميناً وشمالاً ، ليس يجلس في بيته ويقول: إن قدر لي رزق فإنه يأتيني ، تجده يسعى بأسباب الرزق مع أن الرزق نفسه مقرون بالعمل ، كما ثبت عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد ". (15) هذا الرزق أيضاً مكتوب كما أن العمل من صالح أو سيئ مكتوب ، فكذلك الرزق فما بالك أنت تذهب يميناً وشمالاً وتجوب الأرض والفيافي لطلب الرزق ولا تعمل عملاً صالحاً لطلب رزق الآخرة بدار النعيم ، إن البابين واحد وليس بينهما فرق ، فكما أنك تسعى لرزقك ، وتسعى لحياتك وامتداد أجلك ، إذا مرضت بمرض ذهبت إلى أقطار الدنيا تريد الطبيب الذي يداوي مرضك ومع ذلك فإن لك ما قدر من الأجل لا يزيد ولا ينقص، لست تصمت على هذا وتقول: سأبقى في بيتي مريضاً طريحًا ، وإن قدر الله لي أن يمتد الأجل امتد ، نجدك تسعى بكل ما تستطيع من قوة وبحث لتبحث عن الطبيب الذي ترى أنه أقرب الناس إلى أن يقدر الله الشفاء على يديه ، إذاً لماذا لا يكون طريقك في عمل الآخرة وفي العمل الصالح كطريقك فيما تعمل للدنيا ، وقد سبق أن قلنا: إن القضاء سر مكتوم لا يمكن أن تعلم عنه ، فأنت الآن بين طريقين: طريق يؤدي بك إلى الفوز والسلامة . طريق يؤدي بك إلى الهلاك والعطب ، وأنت الآن واقف بينهما ومخير ليس أمامك من يمنعك من هذا الطريق اليمين ، ولا من هذا الطريق الشمال ، وإذا شئت ذهبت إلى هذا ، وإذا شئت ذهبت إلى هذا ، فما بالك تسلك الطريق الشمال ثم تقول: إنه قد قدر عليّ . أفلا يليق بك أن تسلك طريق اليمين وتقول: إنه قد قدّر لي ، لو أنك أردت السفر إلى الرياض ، وكان أمامك طريقان ، أحدهما معبد قصير ، والثاني غير معبد وطويل لوجدنا أنك تختار المعبد القصير المستقيم ، ولا تذهب إلى الطريق الذي ليس بمعبد وليس بمستقيم ، هذا الطريق الحسي إذن، فالطريق المعنوي موازن له ولا يختلف عنه أبداً ، ولكن النفوس وأهواؤها هي التي تتحكم في العقل وتغلب على العقل ، والمؤمن ينبغي أن يكون عقله غالباً على هواه ، وهو إذا حكم عقله فالعقل بالمعنى الصحيح يعقل صاحبه عما يضره ويدخله فيما ينفعه ويسره. بعد هذه المقدمة التي تبين لنا أن الإنسان يسير في عمله الاختياري سيراً اختيارياً ليس إجبارياً ولا اضطرارياً ، وأنه كما يسير لعمل دنياه سيراً اختيارياً، وهو إن شاء جعل هذه السلعة تجارته أو السلعة الأخرى أو الثالثة أو الرابعة ، فكذلك أيضاً هو في سيره إلى الآخرة يسير سيراً اختيارياً ، بل إن طريق الآخرة أبين بكثير من طريق الدنيا ، لأن الذي بيّن طريق الآخرة هو الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فلا بد أن تكون طرق الآخرة أكثر بياناً وأجلى وضوحاً من طرق الدنيا ، ومع ذلك فإن الإنسان يسير في طرق الدنيا التي ليس ضامناً لنتائجها.. ويدع طريق الآخرة التي نتائجها مضمونة ؛ لأنها ثابتة بوعد الله ، والله تبارك وتعالى لا يخلف الميعاد. بعد هذه المقدمة نقول: إن أهل السنة والجماعة قرروا هذا وجعلوه عقيدتهم ومذهبهم. إن الإنسان يفعل باختيار وإنه يسير كما يريد ، ولكن إرادته واختياره تابعة لإرادة الله ومشيئته ، ثم يؤمن أهل السنة والجماعة بأن مشيئته تعالى تابعة لحكمته .... ؛ لأن من أسماء الله تعالى: ((الحكيم)) . والحكيم هو: الحاكم المحكم الذي يحكم الأشياء كوناً وشرعاً ويحكمها عملاً وصنعاً ، والله تعالى بحكمته يقدر الهداية لمن أرادها ، لمن يعلم سبحانه وتعالى أنه يريد الحق وأن قلبه يريد الاستقامة، ويقدر الضلالة لمن لم يكن كذلك ، لمن إذا عرض عليه الإسلام يضيق صدره كأنما يصعد في السماء ، فإن حكمة الله تبارك وتعالى تأبى أن يكون هذا من المهتدين ، إلا أن يجدد الله له عزماً ويقلب إرادته إلى إرادة أخرى ، فالله تعالى على كل شيء قدير ، ولكن حكمة الله تأبى إلا أن تكون الأسباب مربوطة بها مسبباتها. يقول أهل السنة والجماعة: إن قضاء الله وقدره أربع مراتب: المرتبة الأولى: مرتبة العلم: وهى أن يؤمن الإنسان إيماناً جازماً بأن الله تبارك وتعالى بكل شيء عليم ، وأنه يعلم ما في السموات وما في الأرض جملة وتفصيلاً ، سواء كان ذلك من فعله أو من فعل المخلوقات ، وأنه لا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء. وأما المرتبة الثانية: فهي مرتبة الكتابة: وهي أن الله تبارك وتعالى كتب عنده في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء ، وقد جمع الله بين هاتين المرتبتين في قوله: (( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )) . (16) فبداً بالعلم وقال: إن ذلك في كتاب ، وهو مكتوب في اللوح المحفوظ كما جاء في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن أول ما خلق الله القلم ، قال: اكتب ، قال: ربي ، ماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن ، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة ". ولهذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم -: عما نعمله، أشيء مستقبل أم شيء قد قضي وفرغ منه. فقال: " إنه قد قضي" قالوا: يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل؟ قال: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له ". فقال لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "اعملوا". (17) فأنت يا أخي اعمل ؛ فأنت ميسر لما خلقت له. قال تعالى: . (( فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى )). (18) هاتان المرتبتان: العلم والكتابة. أما المرتبة الثالثة: فهي مرتبة المشيئة: بمعنى: أن الله تبارك وتعالى أراد لكل موجود أو معدوم في السموات أو في الأرض ، فما وجد موجود إلا بمشيئة الله وإرادته ، ولا عدم معدوم إلا بمشيئة الله وإرادته ، وهذا ظاهر في القرآن الكريم ، وقد أثبت الله تعالى مشيئته في فعله ، ومشيئته في فعل العباد ؛ فقال الله تعالى: (( لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ *وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )) . (19) وقال تعالى: (( وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ )) (( وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ )) أية أخرى ، وقال تعالى: (( ِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ )) ، فبين تعالى أن فعل الناس كائن بمشيئته ، وأما فعله تعالى فتعليقه بالمشيئة كثير ، قال الله تعالى: (( وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا )) ، ((وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً )).(21) إلى آيات كثيرة تثبت المشيئة في فعله تبارك وتعالى ، فإذن لا يتم الإيمان بالقدر إلا أن نؤمن بأن مشيئة الله عامة وشاملة لكل موجود أو معدوم فما من معدوم إلا وقد شاء الله عدمه ، وما من موجود إلا قد شاء الله تعالى وجوده ولا يمكن أن يقع شيء في السموات ولا في الأرض إلا بمشيئة الله. المرتبة الرابعة: مرتبة الخلق: أي أن نؤمن بأن الله تعالى خالق كل شيء فما من موجود في السموات و الأرض إلا الله خلقه ، حتى الموت يخلقه الله تبارك وتعالى ، وإن كان هو عدم الحياة ، يقول تعالى: (( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ ))(22) ، فكل شيء في السموات أو في الأرض فإن الله تعالى خالقه ، ولا خالق إلا الله ، وكلنا يعلم أن ما يقع من فعله تعالى فإنه مخلوق له ، فالسموات والأرض والجبال والأنهار والشمس والقمر والنجوم والرياح كلها نعرف أنها مخلوقة من مخلوقات الله ، وكذلك ما يحدث لهذه المخلوقات من صفات وتقلبات، أحوال كلها مخلوقة لله عز وجل ، ولكن قد يشكل على المرء كيف يصح أن نقول في فعلنا وقولنا الاختياري: إنه مخلوق لله عز وجل ، نقول: نعم ، يصح أن نقول ذلك ؛ لأن فعلنا وقولنا ناتج عن أمرين، أحدهما: القدرة ، والثاني: الإرادة ، فإذا كان فعل العبد ناتجاً عن إرادته وقدرته فإن الذي خلق هذه الإرادة ، وجعل قلب الإنسان قابلاً لهذه الإرادة هو الله عز وجل ، وكذلك أيضاً الذي خلق فيه القدرة هو الله عز وجل ، ويخلق السبب التام الذي يتولد عنه المسبب ، نقول: إن خالق السبب التام خالق للمسبب. أي أن خالق المؤثر خالق للأثر ، خالق السبب خالق للمسبب، ......... وبهذا الطريق عرفنا كيف يمكن أن نقول: إن الله تعالى خالق لفعل العبد ، وإلا فالعبد هو الفاعل في الحقيقة فهو المتطهر، وهو المصلي ، وهو الصائم ، وهو المزكي ، وهو الحاج ، وهو المعتمر ، وهو العاصي ، وهو المطيع ، ولكن هذه الأفعال كلها كانت وجدت بإرادة وقدرة مخلوقتين لله عز وجل ، وبهذا علم كيف يكون الإنسان، وكيف يكون فعل الإنسان مخلوقاً لله عز وجل. والأمر - ولله الحمد - واضح ، ولولا أن التساؤلات كثرت، ولولا أن الأمر اشتبه على كثير من الناس لكنا نقول: إن الخوض في هذا ، نوع من فضول القول ، ولكن نظراً إلى أن الأهواء انتشرت وكثرت ، وصار الفاسق يريد أن يبرر فسقه بشيء يقدره في ذهنه ، ولو تدبر الأمر لوجد أنه على خلاف ما قدره في ذهنه ، لولا هذا ما تكلمنا في هذا الأمر. إذن القدر والإيمان بالقدر يكون له مراتب أربع : المرتبة الأولى: العلم . والثانية: الكتابة . والثالثة: المشيئة . والرابعة: الخلق . كل هذا يجب أن يثبت لله عز وجل ، وهذا لا ينافى أن يضاف الفعل إلى فاعله من ذوي الإرادة،..... و قد دل الكتاب العزيز والسنة الصحيحة وإجماع سلف الأمة على وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره وأنه من أصول الإيمان الستة التي لا يتم إسلام العبد ولا إيمانه إلا بها كما دل على ذلك آيات من القرآن الكريم وأحاديث صحيحة مستفيضة بل متواترة عن الرسول الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم ومن ذلك قوله عز وجل : ((أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )) (23) وقوله تعالى : ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ))(24 وقال تعالى: (( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ )) وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبرائيل عن الإيمان قال عليه الصلاة والسلام : "أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث وتؤمن بالقدر كله قال صدقت " (25) الحديث وهذا لفظ مسلم . وخرج مسلم في صحيحه من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبرائيل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فأجابه بقوله : "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره فقال له جبرائيل صدقت "(26)والأحاديث في هذا المعنى كثيرة . وقد قال ابن تيميه رحمه الله في كتاب القدر – العقيدة – أن الله تعالى خالق كل شيء وربه ومليكه لا رب غيره ولا خالق سواه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو على كل شيء قدير وبكل شيء عليم والعبد مأمور بطاعة الله وطاعة رسوله منهي عن معصية الله ومعصية رسوله ؛ فإن أطاع كان ذلك نعمة وإن عصى كان مستحقا للذم والعقاب وكان لله عليه الحجة البالغة ولا حجة لأحد على الله تعالى وكل ذلك كائن بقضاء الله وقدره ومشيئته وقدرته ؛ لكن يحب الطاعة ويأمر بها ويثيب أهلها على فعلها ويكرمهم ويبغض المعصية وينهى عنها ويعاقب أهلها ويهينهم . وما يصيب العبد من النعم فالله أنعم بها عليه وما يصيبه من الشر فبذنوبه ومعاصيه كما قال تعالى : (( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ )) .(26( وقال تعالى : ((مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ)) .(27) أي ما أصابك من خصب ونصر وهدى فالله أنعم به عليك وما أصابك من حزن وذل وشر فبذنوبك وخطاياك وكل الأشياء كائنة بمشيئة الله وقدرته وخلقه فلا بد أن يؤمن العبد بقضاء الله وقدره وأن يوقن العبد بشرع الله وأمره . فمن نظر إلى الحقيقة القدرية وأعرض عن الأمر والنهي والوعد والوعيد كان مشابها للمشركين ومن نظر إلى الأمر والنهي وكذب بالقضاء والقدر كان مشابها للمجوسيين ومن آمن بهذا وبهذا فإذا أحسن حمد الله تعالى وإذا أساء استغفر الله تعالى وعلم أن ذلك بقضاء الله وقدره فهو من المؤمنين فإن آدم - عليه السلام - لما أذنب تاب فاجتباه ربه وهداه وإبليس أصر واحتج فلعنه الله وأقصاه فمن تاب كان آدميا ومن أصر واحتج بالقدر كان إبليسيا فالسعداء يتبعون أباهم والأشقياء يتبعون عدوهم إبليس . فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . آمين يا رب العالمين. [line] *** فتاوى السؤال : ما معنى [ الإيمان] بالقدر؟ الجواب: الحمد لله القَدَر: تقدير الله تعالى لكل ما يقع في الكون ، حسبما سبق به علمه ، واقتضته حكمته. والإيمان بالقدر يتضمن أربعة أمور : الأول : الإيمان بأن الله تعالى علم بكل شيء جملةً وتفصيلاً ، أزلاً وأبداً ، سواء كان مما يتعلق بأفعاله سبحانه أو بأفعال عباده . الثاني : الإيمان بأن الله تعالى كتب ذلك في اللوح المحفوظ . وفي هذين الأمرين يقول الله تعالى : (( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )) . (29) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ )). (30) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ : اكْتُبْ . قَالَ : رَبِّ ، وَمَاذَا أَكْتُبُ ؟ قَالَ : اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ )) . (31) الثالث : الإيمان بأن جميع الكائنات لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى . سواء كانت مما يتعلق بفعله سبحانه وتعالى ، أم مما يتعلق بفعل المخلوقين . قـال الله تعالى فيما يتعلق بفعله : (( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ)). (32) وقـال : ((وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ )). (33) وقال : (( هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ )) . (34( وقال تعالى فيما يتعلق بفعل المخلوقين : (( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ )) . (35) وقال : (( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ )) . (36) فجميع الحوادث والأفعال والكائنات لا تقع إلا بمشيئة الله تعالى ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن. الرابع : الإيمان بأن جميع الكائنات مخلوقة لله تعالى بذواتها ، وصفاتها ، وحركاتها . قـال الله تعالى : (( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ )) . (37) وقال : (( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً )) . وقال عن نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه : (( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)) . (39) فذا آمن الإنسان بهذه الأمور فقد آمن بالقدر إيماناً صحيحاً . والإيمان بالقدر على ما وصفنا لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الاختيارية وقدرة عليها ، بحيث يستطيع الاختيار هل يفعل أو يترك ما يكون ممكناً له من فعل الطاعات أو تركها ، وفعل المعاصي أو تركها والشرع والواقع دالان على إثبات هذه المشيئة للعبد . أمـا الشرع : فقد قـال الله تعالى في المشيئة : (( ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً)). (40) قال : (( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ )).(41) ( وقال في القدرة : (( َاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )) . (42) (( ُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ )) . (43) فهذه الآيات تثبت للإنسان مشيئة وقدرة بهما يفعل ما يشاء أو يتركه . وأما الواقع : فإن كل إنسان يعلم أن له مشيئة وقدرة بهما يفعل وبهما يترك ، ويفرق بين ما يقع بإرادته كالمشي ، وما يقع بغير إرادته كالارتعاش ، لكن مشيئة العبد وقدرته واقعتان بمشيئة الله تعالى وقدرته ، لقول الله تعالى : (( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ - وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)). (44) ولأن الكون كله ملك لله تعالى فلا يكون في ملكه شيء بدون علمه ومشيئته . والله تعالى أعلم . (45) *** السؤال: ما هي الأشياء التي يمكن أن تغير القدر وما قد كتبه الله لنا ؟. الجواب: الحمد لله لا يوجد شيء يغير القدَر ؛ لأن الله تعالى قال : (( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )) (46)لقول صلى لله عليه وسلم وجفَّت الصحف " رواه الترمذي ( 2516 ) وصححه من حديث ابن عباس. قال المباركفوري : " رفعت الأقلام وجفت الصحف " أي : كُتب في اللوح المحفوظ ما كتب من التقديرات ، ولا يكتب بعد الفراغ منه شيء آخر . " تحفة الأحوذي " ( 7 / 186 ). والكتابة نوعان : نوع لا يتبدل ولا يتغير وهو ما في اللوح المحفوظ. ونوع يتغير ويتبدل وهو ما بأيدي الملائكة ، وما يستقر أمره أخيراً عندهم هو الذي قد كتب في اللوح المحفوظ ، وهو أحد معاني قوله تعالى : (( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)). (47) ومن هذا يمكننا فهم ما جاء في السنة الصحيحة من كون صلة الرحم تزيد في الأجل أو تُبسط في الرزق ، أو ما جاء في أن الدعاء يرد القضاء ، ففي علم الله تعالى أن عبده يصل رحمه وأنه يدعوه فكتب له في اللوح المحفوظ سعةً في الرزق وزيادةً في الأجل . *** سئل شيخ الإسلام ابن تيمية : عن الرزق هل يزيد أو ينقص ؟ وهل هو ما أكل أو ما ملكه العبد ؟ فأجاب : الرزق نوعان : أحدهما : ما علمه الله أنه يرزقه فهذا لا يتغير . والثاني : ما كتبه وأعلم به الملائكة ، فهذا يزيد وينقص بحسب الأسباب ، فإن العبد يأمر الله الملائكة أن تكتب له رزقاً ، وإن وصل رحمه زاده الله على ذلك ، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم َه أن يبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصِل رحِمه " ، وكذلك عُمُر داود زاد ستين سنة فجعله الله مائة بعد أن كان أربعين ، ومِن هذا الباب قول عمر : " اللهم إن كنت كتبتَني شقيّاً فامحني واكتبني سعيداً فإنك تمحو ما تشاء وتُثبت " ، ومن هذا الباب قوله تعالى عن نوح(( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى )) . (48) وشواهده كثيرة ، والأسباب التي يحصل بها الرزق هي من جملة ما قدَّره الله وكتبه ، فإن كان قد تقدم بأنه يرزق العبد بسعيه واكتسابه : ألهمه السعي والاكتساب ، وذلك الذي قدره له بالاكتساب لا يحصل بدون الاكتساب ، وما قدره له بغير اكتساب كموت موروثه يأتيه به بغير اكتساب . والسعي سعيان : سعي فيما نصب للرزق كالصناعة والزارعة والتجارة . وسعي بالدعاء والتوكل والإحسان إلى الخلق ومحو ذلك ، فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه . "مجموع الفتاوى " ( 8 / 540 ، 541 ). *** السؤال: هل الإنسان مخير أو مسير؟ . الجواب: الحمد لله سئل الشيخ ابن عثيمين هذا السؤال فأجاب : على السائل أن يسأل نفسه هل أجبره أحد على أن يسأل هذا السؤال وهل هو يختار نوع السيارة التي يقتنيها ؟ إلى أمثال ذلك من الأسئلة وسيتبين له الجواب هل هو مسير أو مخير . ثم يسأل نفسه هل يصيبه الحادث باختياره ؟ هل يصيبه المرض باختياره ؟ هل يموت باختياره ؟ إلى أمثال ذلك من الأسئلة وسيتبين له الجواب هل هو مسير أو مخير . والجواب: أن الأمور التي يفعلها الإنسان العاقل يفعلها باختياره بلا ريب واسمع إلى قول الله تعالى : (( فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً )) .(49) وإلى قوله : (( مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ )) .(50) وإلى قوله : (( وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً )) . (51) وإلى قوله : (( فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ )) (52) خير الفادي فيما يفدي به. ولكن العبد إذا أراد شيئاً وفعله علمنا أن الله - تعالى -قد أراده - لقوله – تعالى : (( لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )) .(53) وأما الأمور التي تقع على العبد أو منه بغير اختياره كالمرض والموت والحوادث فهي بمحض القدر وليس للعبد اختيار فيها ولا إرادة . والله الموفق . مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين ج2 . *** [line] الحــــــــــــــــــــــــــــــــــــواشي 1. (القمر- 49- الجزء السابع والعشرون). 2.( لزمر- 10- الجزء الثالث والعشرون ) 3.( رواه مسلم برقم2999 ) 4( التكوير- 28- الجزء الثلاثون ) 5. ( آل عمران- 152- الجزء الرابع ) 6 ( الكهف- 18- الجزء الخامس عشر ) 7. صحيح _ الإرواء 938 : وأخرجه البخاري ومسلم . 8. (ق- 23- 29- الجزء السادس والعشرون ) . 9. (النساء- 165 - الجزء السادس ) . 10. (التكوير- 28- 29-الجزء الثلاثون ) . 11. (القصص- 68 - الجزء العشرون ) . 12. (يونس- 25 - الجزء الحادي عشر ) . 13. ( الصف- 5 - الجزء الثامن والعشرون ) . 14. ( المائدة- 13- الجزء السادس ) . 15. (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة المجلد الخامس ) 16. (الحج- 70 - الجزء السابع عشر ) . 17. سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة المجلد الثالث . 18. (الليل- 5 - 9- الجزء الثلاثون ) . 19. (التكوير- 28 – 29 - الجزء الثلاثون ) . 20. ( السجدة- 13 - الجزء الحادي والعشرون ) . 21. (هود- 118 - الجزء الثاني عشر ) . 22. (الملك- 2 - الجزء التاسع والعشرون ) 23 . (الحج- 70 - الجزء السابع عشر ) . 24. (الحديد- 22 - الجزء السابع والعشرون ) . 25 . صحيح _ الارواء 3 : وأخرجه البخاري ومسلم - صحيح سنن ابن ماجة باختصار السند . 26. (الشورى- 30 - الجزء الخامس والعشرون ) . 27. (النساء- 79 - الجزء الخامس ). 28. (مجموع فتاوى ابن تيمية (العقيدة - كتاب القدر - مسألة : حقيقة القضاء والقدر وممن يكون الخير والشر). 29. (الحج-70). 30. صحيح مسلم (2653) 31. [ رواه أبو داود ( 4700) وصححه الألباني في صحيح أبي داود] 32. [ القصص / 68] . 33 . [ إبراهيم /27 ]. 34. [ آل عمران /6 ] . 35. [ النساء /90 ]. 36. [الأنعام /112]. 37. [ الزمر /62 ]. 38. [ الفرقان /2 ]. 39. [الصافات -96 ]. 40. [النبأ -39 ]. 41. [البقرة -223 ]. 42. [التغابن- 16]. 43. [البقرة /286 . 44. التكوير /28-29. 45. انظر : رسالة شرح أصول الإيمان للشيخ ابن عثيمين . 46. الحديد / 22. 47. [الرعد / 39 ]. 48.( المعراج-2-3). 49.( النبأ – 39- ) 50.( آل عمران - 152 - ). 51. ( الإسراء – 19 - ) . 52. ( البقرة – 196-). 53. ( التكوير – 28 -29 ). |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
الرد على الشيخ عبدالله بن جبرين فيما يتعلق بإباحته التصدق بالأموال الربوية | سلمان بن عبدالقادر أبو زيد | منبر البدع المشتهرة | 4 | 20-02-2012 07:28AM |
الحج عباده وميدان دعوه - الشيخ صالح آل الشيخ | احمد الشهري | منبر التوحيد وبيان ما يضاده من الشرك | 1 | 07-12-2007 11:19PM |
التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية | أبو عبد الرحمن السلفي1 | منبر التوحيد وبيان ما يضاده من الشرك | 4 | 25-10-2007 07:38PM |
إجتماع الشيخ ربيع مع هيئة كبار العلماء فيما يتعلق بخروج المشائخ في التلفاز | ماهر بن ظافر القحطاني | منبر أصول الفقه وقواعده | 0 | 03-03-2004 11:42PM |