|
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | التقييم: | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد لفضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان - حفظه الله-
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد لفضيلة الشيخ العلامة الفقيه / صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان - حفظه الله ورعاه - «إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد» كتاب شرح فيه الشيخ صالح الفوزان كتاب «التوحيد» للشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي (المتوفى 1206 هـ) رحمه الله - وأصل هذا الشرح، دروس كان ألقاها الشيخ في الرياض وفي الطائف ثم كثر الطلب على تفريغ هذه الدروس، فأذن الشيخ في ذلك، ثم نظر في التفريغ، فهذبه ونقحه، فجزاه الله خيرا . إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة الثالثة، 1423هـ 2002م عن المؤلف: صالح بن فوزان الفوزان ( معاصر ) فضيلة الشيخ د / صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان، من آل فوزان من أهل الشماسية، الوداعين من قبيلة الدواسر. الوظيفة : عضو اللجنة الدائمة وعضو هيئة كبار العلماء. المرتبة : الممتازة. تاريخ التعيين : 15/7/1412 هـ . المناصب التي عمل بها : عمل أستاذا مشاركا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. نشأته ودراسته: ولد عام 1363 هـ، وتوفي والده وهو صغير، فتربى في أسرته، وتعلم القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة على يد إمام مسجد البلد، وكان قارئا متقنا وهو فضيلة الشيخ: حمود بن سليمان التلال، الذي تولى القضاء أخيرا في بلدة ضرية في منطقة القصيم. ثم التحق بمدرسة الحكومة حين افتتاحها في الشماسية عام 1369 هـ، وأكمل دراسته الابتدائية في المدرسة الفيصلية ببريدة عام 1371 هـ، وتعين مدرسا في الابتدائي، ثم التحق بالمعهد العلمي ببريدة عند افتتاحه عام 1373 هـ، وتخرج منه عام 1377 هـ، والتحق بكلية الشريعة بالرياض، وتخرج منها عام 1381 هـ، ثم نال درجة الماجستير في الفقه، ثم درجة الدكتوراه من هذه الكلية في تخصص الفقه أيضا. أعماله الوظيفية: بعد تخرجه من كلية الشريعة عين مدرسا في المعهد العلمي في الرياض، ثم نقل للتدريس في كلية الشريعة، ثم نقل للتدريس في الدراسات العليا بكلية أصول الدين، ثم في المعهد العالي للقضاء، ثم عين مديرا للمعهد العالي للقضاء، ثم عاد للتدريس فيه بعد انتهاء مدة الإدارة، ثم نقل عضوا في اللجنة الدائمة للإفتاء والبحوث العلمية، ولا يزال على رأس العمل. أعماله الأخرى: فضيلة الشيخ عضو في هيئة كبار العلماء، وعضو في المجمع الفقهي بمكة المكرمة التابع للرابطة، وعضو في لجنة الإشراف على الدعاة في الحج، إلى جانب عمله عضوا في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وإمام وخطيب ومدرس في جامع الأمير متعب بن عبد العزيز آل سعود في الملز، ويشارك في الإجابة في برنامج (نور على الدرب) في الإذاعة، كما أن لفضيلته مشاركات منتظمة في المجلات العلمية على هيئة بحوث ودراسات ورسائل وفتاوى، جمع وطبع بعضها، كما أن فضيلته يشرف على الكثير من الرسائل العلمية في درجتي الماجستير والدكتوراه، وتتلمذ على يديه العديد من طلبة العلم الذين يرتادون مجالسه ودروسه العلمية المستمرة. مشايخه: تتلمذ فضيلة الشيخ على أيدي عدد من العلماء والفقهاء البارزين، ومن أشهرهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وسماحة الشيخ عبد الله بن حميد، حيث كان يحضر دروسه في جامع بريدة، وفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وفضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي، وفضيلة الشيخ صالح بن عبد الرحمن السكيتي، وفضيلة الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي، وفضيلة الشيخ محمد بن سبيل، وفضيلة الشيخ عبد الله بن صالح الخليفي، وفضيلة الشيخ إبراهيم بن عبيد العبد المحسن، وفضيلة الشيخ حمود بن عقلا، والشيخ صالح العلي الناصر. وتتلمذ على غيرهم من شيوخ الأزهر المنتدبين في الحديث والتفسير واللغة العربية. مؤلفاته: لفضيلة الشيخ مؤلفات كثيرة، من أبرزها: 1- [ التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية] في المواريث، وهو رسالته في الماجستير، مجلد. 2- [أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية]، وهو رسالته في الدكتوراه، مجلد. 3- [الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد] مجلد صغير. 4- [شرح العقيدة الواسطية] مجلد صغير. 5- [البيان فيما أخطأ فيه بعض الكتاب] مجلد كبير. 6- [مجموع محاضرات في العقيدة والدعوة] مجلدان. 7- [الخطب المنبرية في المناسبات العصرية] في أربع مجلدات. 8- [من أعلام المجددين في الإسلام]. 9- رسائل في مواضيع مختلفة. 10- [مجموع فتاوى في العقيدة والفقه] مفرغة من نور على الدرب، وقد أنجز منه أربعة أجزاء. 11- [نقد كتاب الحلال والحرام في الإسلام]. 12- [شرح كتاب التوحيد- للشيخ محمد بن عبد الوهاب]، شرح مدرسي. 13- [التعقيب على ما ذكره الخطيب في حق الشيخ محمد بن عبد الوهاب]. 14- [الملخص الفقهي] مجلدان. 15- [إتحاف أهل الإيمان بدروس شهر رمضان]. 16- [الضياء اللامع من الأحاديث القدسية الجوامع]. 17- [بيان ما يفعله الحاج والمعتمر]. 18- [كتاب التوحيد] جزآن مقرران في المرحلة الثانوية بوزارة المعارف. 19- [فتاوى ومقالات نشرت في مجلة الدعوة]، وهو هذا الذي نشر ضمن [كتاب الدعوة]. علاوة على العديد من الكتب والبحوث والرسائل العلمية، منها ما هو مطبوع، ومنها ما هو في طريقه للطبع. نسأل الله تعالى أن ينفع به، وأن يجعله في موازين حسنات شيخنا الجليل، إنه سميع مجيب. كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf قراءة صوتية لمتن كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب التميمي - رحمه الله تعالى - http://subulsalam.com/site/audios/Mo...wheed_lite.mp3 متن كتاب التوحيد كاملاً http://safeshare.tv/w/VFcpRJYvdI |
#2
|
|||
|
|||
بسم الله ارحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد كتاب التوحيد ج / 1 ص -5- المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه، وأسبغ عليهم نعمه ليشكروه. والصلاة والسلام على نبينا محمد، دعا إلى توحيد الله وصبر على الأذى في سبيل ذلك حتى استقرت عقيدة التّوحيد، واندحر الشرك وأهله. وعلى آله وأصحابه الذين اقتفوا أثره وساروا على نهجه، وجاهدوا في الله حق جهاد. أما بعد: فإن التّوحيد هو الأصل في بني آدم، والشرك طارئ ودخيل، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على التّوحيد". وأول ما حدث الشرك في الأرض في قوم نوح لما غلوا في الصالحين، وصوروا صورهم، فآل بهم الأمر إلى أن عبدوهم من دون الله، فبعث الله نبيه نوحاً عليه الصلاة والسلام ينهى عن الشرك ويأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وجاء الرسل من بعده كلهم على هذا النمط، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}(25). وأما الشرك في قوم موسى فحدث عندما اتخذوا العجل، وكان موقف كليم الله موسى وأخيه هارون عليهما السلام معهم ما قصه الله في كتابه. وأما الشرك في النصارى فحدث بعد رفع المسيح عليه السلام إلى السماء، على يد اليهودي (بولس)، الذي أظهر الإيمان بالمسيح مكراً وخداعاً، فأدخل في دين النصارى التثليث وعبادة الصليب، وكثيراً من الوثنيات. وأما الشرك في بني إسماعيل عليه السلام وهم العرب فحدث على يد عمرو بن لحي ج / 1 ص -6- الخزاعي، الذي غير دين إبراهيم عليه السلام وجلب الأصنام إلى أرض الحجاز، وأمر بعبادتها. وأما الشرك في بعض المسلمين فحدث على يد الشيعة الفاطميين بعد المائة الرابعة، حينما بنوا المشاهد على القبور، وأحدثوا بدعة الموالد في الإسلام، والغلو في الصالحين. وكذلك عندما حدث التصوف المنحرف المتمثل بالغلو في المشايخ وأصحاب الطرق. ولكن الله سبحانه قد تكفل بحفظ هذا الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على يد العلماء المصلحين والدعاة المجددين، الذين يبعثهم الله على رأس كل مائة سنة، كما في الحديث، فبقي للحق أنصاره وللدين حماته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى وهم على ذلك". ولهذا يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في مقدمة كتابه: الرد على الجهمية: "الحمد لله الذي جعل في وقت كل فترة من الرسل بقايا من أهل العلم؛ ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ويدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، فكم من ضال قد هدوه، وكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم". ومن هؤلاء الذين وصفهم الإمام أحمد بهذه الأوصاف العظيمة؟ شيخ الإسلام الإمام المجدد الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فقد وقف موقفاً عظيماً، من مواقف هؤلاء الأئمة في مواجهة التغيرات التي حدثت في مجتمعه؛ من انحراف في العقيدة، وانقسام في الحكم، واستشراء للعادات الجاهلية في الحاضرة والبادية، شرك في العبادة، ومخالفات للشرع في الحكم بين الناس، ورواج لسوق الشعوذة والسحر، وتعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ رغم كثرة وجود العلماء فيهم؛ المتبحرين في مسائل الفقه الفرعية، لكن العبرة ليست بوجود العلماء ووفرتهم دون أن يكون لهم أثر فعال في الإصلاح، فبنوا إسرائيل هلكوا وفيهم العلماء، فما لم يقم علماؤهم بما أوجب الله عليهم من النصح والإصلاح تسلط عليهم الشيطان. قال- تعالى-: {وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبئْسَ مَا ج / 1 ص -7- كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}(63). إنه لما وقف هذا الإمام من مجتمعه المنحرف موقف الصدق والنصيحة؛ خلص هذا المجتمع مما وقع فيه من أسباب هلاكه، مع أنه رجل واحد، ولكن كما قيل: والناس ألف منهموا كواحد وواحد كالألف إن أمر عنى وهكذا سنة الله لا تتغير، فالأمة لا تنهض من كبوتها ولا تستيقظ من رقدتها إلاّ بتوفيق الله ثم بجهود علمائها المخلصين ودعاتها الناصحين، ورحم الله الإمام مالكاً حيث يقول: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلاَّ ما أصلح أولها". وما امتازت هذه الأمة على غيرها من الأمم إلا بقيامها بالإصلاح والدعوة إلى الله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(104).* الشيخ محمد بن عبد الوهاب و (كتاب التّوحيد): هو الإمام العلامة، والمجاهد الصابر، والداعي إلى الله على بصيرة، والمجدد لدين الله في القرن الثاني عشر من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ الشيخ: محمد بن عبد الوهاب بن سليمان المُشَرَّفي التميمي النجدي. ولد في العيينة سنة 1115هـ، ونشأ في بيت علم ورئاسة وشرف، فأبوه عبد الوهاب كان فقيهاً قاضياً، وجده سليمان كان مفتي بلاد نجد ورئيس علمائها، وأعمامه وأبناء أعمامه كانوا أهل رفعة وعلم ومكانة، كانت بلدته العيينة وما جاورها من بلاد نجد تعج بالعلماء، الذين كانوا على صِلَة وثيقة بعلماء الحنابلة في الشام وفلسطين وغيرها فكان فيهم فقهاء متبحرون في الفقه. حفظ الشيخ محمد القرآن صغيراً، وقرأ الفقه والتفسير والحديث على أبيه وعلماء بلده، حتى ألم بما عندهم في وقت يسير، مع التروي والمناقشة والتدقيق، حتى أعجب به والده ومشايخه وزملاؤه. ثم تطلع إلى المزيد من العلم فأقبل على كتاب الله، وتفسيره قراءة وتدبراً ج / 1 ص -8- واستنباطاً، وعلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته، واستنتج منهما الاستنتاجات العجيبة، وقد دوَّن هذه الاستنباطات المفيدة في كتبه ورسائله وفتاويه، وعكف على كتب الشيخين: شيخ الإسلام ابن تيمية. والشيخ الإمام ابن القيم، خصوصاً كتب العقيدة. ثم علت به همته وطموحاته فسافر إلى علماء الحرمين وعلماء الأحساء وعلماء البصرة في العراق، والتقى بهم، وأخذ عنهم علماً غزيراً في الفقه والحديث وعلومه، حتى تضلع بالعلم، وأخذه عن كل من تمكن من الالتقاء به من علماء عصره، ومطالعة كتب من تقدمهم من الأئمة المحققين، ودراسة التفسير والحديث دراسة فاحصة مدققة. وعندما نظر إلى واقع أهل عصره وجد البون شاسعاً بين هذا الواقع وبين ما دل عليه الكتاب والسنة، وما كان عليه أئمة السلف الصالح في الاعتقاد والمنهج. فالعلماء في وقته في الغالب مشغولون بدراسة الفقه وعقائد علماء الكلام المخالفة لاعتقاد السلف، دون تمييز بين الصحيح والسقيم. والعامة منهمكون في البدع والخرافات والشركيات ودعاء الأموات، دون أن يهب أحد من العلماء-فيما نعلم- لإصلاح هذا الواقع الأليم، والمرتع الوخيم. عند ذلك لم يسع الشيخ محمداً رحمه السكوت عن التغيير والإنكار، والدعوة إلى الإصلاح، والعودة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتصفية العقيدة الإسلامية مما علق بها، وغير وجهها وبهجتها، وعكَّر صفوها ونظرتها. فعزم على القيام بالدعوة إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وباشر الدعوة في بلدة- حريملاء- التي استقر بها والده، ثم طورد منها ثم ذهب إلى العيينة ولم يستقر فيها فذهب إلى الدرعية فوجد فيها القبول والترحيب على يد أميرها: محمد بن سعود رحمه الله {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} (3) فواصل الشيخ رحمه الله عمله في الدعوة إلى الله، وراسل علماء البلدان وأمراءها يدعوهم إلى الله، ويبين لهم ما هم واقعون فيه من مخالفات، وألف الكتب، وأجاب عن استشكالات من التبس عليهم الحق بالباطل؛ فاستجاب لدعوة الشيخ من كان رائده الحق، وعاند من كان دافعه التعصب للباطل، فلم ير الشيخ رحمه الله بداً من جهاد هؤلاء بالحجة واللسان من قبله وبالسيف والسنان من قبل ولاة الأمر من آل سعود أثابهم الله. ج / 1 ص -9- فكتب الله له النصر، ولدعوته الامتداد والانتشار؛ نتيجة لجهاد الإمامين: محمد بن عبد الوهاب، ومحمد بن سعود- هذا بالحجة واللسان، وهذا بالسيف والسنان، وهكذا إذا اجتمع كتاب الله وسيف الجهاد انتصر الحق واندحر الباطل، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}(25). ولقد صدق الشاعر حيث يقول: وما هو إلاَّ الوحي أوحد مرهف تزيل ضباه أخدعي كل مائل فهذا شفاء للقلوب من العمى وهذا شفاء العي من كل جاهل وما هي إلا فترة وجيزة حتى دانت العباد والبلاد لدعوة الحق، واستقامت فيها عقيدة التّوحيد، وامتد خيرها عبر الزمان والمكان إلى البلاد البعيدة والأجيال اللاحقة، فلا يزال صداها يتردد، وخيرها يتجدد. وكان من أعظم ثمارها: قيام دولة التّوحيد، وتحكيم الشريعة الغراء، التي توالت- ولا تزال- ولله الحمد على هذه البلاد مهما عارضها من معوقات واعترض في طريقها من عقبات: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}. لقد لقي الشيخ رحمه الله كغيره من الدعاة المصلحين معارضات من خصومه واتهامات باطلة. فقيل عنه: إنه يريد الملك والسيطرة والتسلط. وهذا قيل في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام: إن هو إلاَّ رجل {يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ}، {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} فكيف بأتباعهم؟ وقيل: إنه جاء بمذهب خامس، ولذلك صاروا يلقبون أتباعه بـ (الوهابية) لأنه دعا إلى ما يخالف ما ألفوه من البدع والشركيات. وهذه فرية يكذبها واقع دعوته وكتبه وفتاويه، وأنه في الاعتقاد على عقيدة السلف، وفي الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لم ينفرد عن المذاهب الأربعة بقول واحد، فكيف يكون له مذهب خاص؟ {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. ومن أراد معرفة الشبهات التي أثيرت حوله وحول دعوته فليراجع كتبة، وما ج / 1 ص -10- أجاب به عن تلك الشبه، والحق واضح ولله الحمد وضوح الشمس لا يغطيه الكذب والتلبيس فلا يعتمد على كلام خصومه فيه وفي دعوته. ومنهم من أنكر ما قام به الشيخ من تجديد وإصلاح، وقال: إن حالة أهل نجد في وقته كانت على الاستقامة والصلاح، وفيهم علماء ووعي، وما ذُكر عن دعوة الشيخ وعن فساد الأحوال قبل دعوته إنما هو تهويل من المؤرخين، وتعتيم على الواقع. ورد مثل هذا الهراء والجحود لما هو معلوم ومتواتر، لا يحتاج إلى كثير عناء. وكتب خصومه من معاصريه وغيرهم تعج بالافتراءات والدعوة إلى الباطل. وما أظن هذه الفكرة إلا من إيحاء المستشرقين. وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل ومنهم من يقول: إن الشيخ لا يعتبر مجدداً لأنه حنبلي مقلد. وكأن هذا القائل يرى أن العالم لا يكون مجدداً حتى يخرج على المذاهب الأربعة وعن أقوال الفقهاء، ومثل هذا لا يعرف معنى التجديد، فهو يهرف بما لا يعرف. إن التجديد معناه: إزالة ومحاربة ما علق بالدين من خرافات وشركيات ومبتدعات ما أنزل الله بها من سلطان، وبيان الدين الحق والمعتقد السليم. كما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس من شرط ذلك أن يخرج المجدد على المذاهب الأربعة وأقوال الفقهاء ويأتي بفقه جديد. وها هم الأئمة من المحدثين الكبار كانوا مذهبيين، فشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم كانا حنبليين، والإمام النووي وابن حجر كانا شافعيين، والإمام الطحاوي كان حنفياً، والإمام ابن عبد البرّ كان مالكياً. ليس التمذهب بأحد المذاهب الأربعة ضلالاً حتى يعاب به صاحبه، ولا نقصاً في العلم. بل إن الذي يخرج عن أقوال الفقهاء المعتبرين وهو غير مؤهل للاجتهاد المطلق هو الذي يعتبر ضالاً وشاذاً. والشيخ رحمه الله لا يأخذ قول المذهب الذي ينتسب إليه قضية مسلمة حتى يعرضه على الدليل، فما وافق الدليل أخذ به، ولو لم يكن في المذهب الذي يقلّده إذا وافق قول أحد الأئمة الآخرين، لأن هدفه موافقة الدليل، وهذا في حد ذاته يعتبر تجديداً في الفقه- أيضاً- بخلاف التقليد الأعمى والتعصب الممقوت. ج / 1 ص -11- وأما (كتاب التّوحيد الذي هو حق الله على العبيد) فهو من أعظم مؤلفات الإمام المجدد الشيخ: محمد بن عبد الوهاب. ألَّفه في بيان توحيد الألوهية، وهو إفراد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه، والبراءة من ذلك، وبيان ما يناقضه من الشرك الأكبر، أو ينقص كماله الواجب أو المستحب من الشرك الأصغر. وخص الشيخ هذا النوع من التّوحيد لأنه هو الذي يدخل في الإسلام، ويُنجي من عذاب الله، وهو التّوحيد الذي بعثت به الرسل وأُنزلت به الكتب، وخالف فيه المشركون في كل زمان ومكان. وأما توحيد الربوبية فقد أقر به المشركون، ولم يدخلهم في الإسلام، ولم يحرم دماءهم وأموالهم. ولا ينجيهم من النار، وإنما هو دليل وبرهان لتوحيد الألوهية. وإن كان علماء الكلام قد أتعبوا أنفسهم في تحقيق هذا النوع، وبنوا عليه مؤلفاتهم في العقائد، وهو تحصيل حاصل، وسعي بلا طائل، وليس هو التّوحيد الذي جاءت به الرسل، وإنما التّوحيد الذي جاءت به الرسل ودعت إليه هو توحيد الألوهية. كما قال- تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ولذلك جعل الشيخ موضوع هذا الكتاب الذي نحن بصدد شرحه في توحيد الألوهية، وقسمه إلى أبواب، وأورد في كل باب ما يشهد له من الآيات والأحاديث، فهو مبني على الكتاب والسنة: قال الله، قال رسوله، كما قال الشاعر: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس خلف فيه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين النصوص وبين رأي فقيه ولم يورد الشيخ رحمه الله في هذا الكتاب إلاَّ ما صح من الأحاديث، أو كان حسن الإسناد، أو هو ضعيف الإسناد وله شواهد تقوّيه. أوهو داخل تحت أصل عام يشهد له الكتاب والسنة، مما ترجم له الشيخ في أبواب الكتاب. ثم إن الشيخ رحمه الله يذكر في آخر كل باب ما يستفاد من الآيات والأحاديث التي أوردها فيه من مسائل العقيدة؛ مما يعتبر فقهاً لنصوص الباب، بحيث يخرج القارئ بحصيلة علمية جيدة من كل باب. إن هذا الكتاب مبني على الكتاب والسنة، ولم يبنِ على قواعد المنطق * شروح الكتاب: لقد نفع الله بهذا الكتاب، وصار الطلاب يحفظونه، والعلماء يشرحونه ويوضحونه. وأول من شرحه حفيد المؤلف، الشيخ: سليمان بن عبد الله، بشرح واف، لكنه توفي رحمه الله، قبل أن يتمه. واسم شرحه: تيسير العزيز الحميد. فجاء حفيد الشيخ الآخر، الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، فهذب هذا الشرح، وأتمه. واسم شرحه: فتح المجيد. ثم اختصر هذا الشرح بعدة مختصرات: منها: مختصر الشيخ: حمد بن عتيق واسم مختصره: إبطال التنديد. ومختصر الشيخ: عبد الرحمن بن قاسم في حاشيته ومختصر الشيخ: سليمان بن حمدان. وله شروح أخرى قديمة وحديثة. وهناك كتابات حوله لباحثين جامعيين. نسأل الله أن يكتب الاستمرار لنفع هذا الكتاب في الأجيال اللاحقة، كما انتفعت به الأجيال السابقة. * قصتي مع هذا الكتاب: درّست هذا الكتاب في الرياض وفي الطائف أثناء الإجازة الصيفية، وكان بعض الطلاب يسجلون تلك الدروس، وتشاركهم إحدى دور التسجيل، وعندما أنهيت الكتاب- والحمد لله-، وانتشرت تسجيلاته كثرت عليَّ الطلبات في تفريغها من الأشرطة وطباعتها على شكل شرح للكتاب، وكنت أرفض هذه الطلبات وأعتذر ج / 1 ص -13- بأن الكتاب- ولله الحمد- قد شرح بشروح كثيرة وكافية، وما جئت بجديد، إلاَّ أنها لما كثرت عليَّ الطلبات في ذلك، قلت: لعل في تحقيق رغبة أصحابها خيراً: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، فأذنت بتفريغ الأشرطة، وكتابة ما فيها، وأشرفت على ذلك، وهذبته ونقحته حسب استطاعتي، وها هو بين يديك أيها القارئ، فما وجدت فيه من خير فهو من الله، وما وجدت فيه من نقص أو خطأ فهو بسبب تقصيري وقصوري، وأنت تفعل خيراً إذا نبهتني وأعنتني على إصلاحه. وأسأل الله لي ولمن كان سبباً في إخراج هذا الكتاب التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. المؤلف المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf التعديل الأخير تم بواسطة ام عادل السلفية ; 19-01-2015 الساعة 01:58AM |
#3
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد كتاب التوحيد ج / 1 ص -15- مقدمة الشارح بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن عقيدة التّوحيد هي أساس الدين، وكل الأوامر والنواهي والعبادات والطاعات كلها مؤسسة على عقيدة التّوحيد، التي هي معنى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله، الشهادتان اللتان هما الركن الأول من أركان الإسلام؛ فلا يصح عملٌ، ولا تقبل عبادةٌ ولا ينجو أحد من النار ويدخل الجنة؛ إلاَّ إذا أتى بهذا التّوحيد، وصحّح العقيدة. ولهذا كان اهتمام العلماء- رحمهم الله- في هذا الجانب اهتماماً عظيماً؛ لأنه هو الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، كما يأتي شرحه- إن شاء الله، ثم بعد ما تصح العقيدة فإنه حينئذٍ يُطلب من الإنسان أن يأتي ببقية الأعمال. ولهذا سيأتي في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن، قال له:"إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة" أ إلى آخر الحديث. الشاهد منه: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلاَّ الله". وقال صلى الله عليه وسلم: " أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلاَّ الله؛ فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل". فدلّ هذا على أن عقيدة التّوحيد هي الأساس الذي يجب العناية به أولاً وقبل ج / 1 ص -16- كل شيء، ثم بعدما يتحقق فإنه يتوجه إلى بقية أمور الدين، وأمور العبادات. ولهذا- كما ذكرنا- كان اهتمام العلماء- رحمهم الله- بهذا الجانب اهتماماً عظيماً، ألَّفوا فيه كتباً كثيرة، مختصرة ومطوّلة، سموها: (كتب التّوحيد)، أو (كتب العقيدة) أو (كتب السنة). ومن هذه الكتب هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وهو: (كتاب التّوحيد الذي هو حق الله على العبيد) تأليف شيخ الإسلام المجدد في القرن الثاني عشر من الهجرة النبوية. الشيخ: محمد بن عبدالوهاب رحمه الله. وهذا الكتاب من أنفس الكتب المؤلَّفة في باب التّوحيد؛ لأنه مبني على الكتاب والسنة، بحيث إنه رحمه الله، يورد في كل باب من أبوابه آيات من القرآن وأحاديث من السنة الصحيحة السند أو المعنى، وكلام أهل العلم الأئمة؛ الذين بَيَّنوا معاني هذه الآيات وهذه الأحاديث، فعل هذا في كل باب من أبواب الكتاب. فلم يكن هذا الكتاب قولاً لفلان أو فلان، أو أنه كلام من عند المؤلف، وإنما هو كلام الله وكلام رسول الله، وكلام أئمة هذه الأمة من الصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة المقتدى بهم. فتأتي أهمية هذا الكتاب من هذه الناحية؛ انه مبني على الكتاب والسنة من الآيات والأحاديث، فلا يقال: إن هذا كلام فلان، أو كلام ابن عبد الوهاب، بل يقال: هذا كلام الله وكلام رسول الله، وكلام أئمة الإسلام. وهكذا ينبغي أن يكون التأليف. ج / 1 ص -17- قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم [الباب الأول:] * كتاب التّوحيد قال رحمه الله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} بدأ كتابه بـ "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}"؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان يكتب "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}" في أول رسائله إلى الناس، وكان يبدأ- عليه الصلاة والسلام- أحاديثه مع أصحابه بـ "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}". وقال صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم؛ فهو أبتر" أي: ناقص البركة. وفي رواية: "بالحمد لله". وكما كتبها سليمان عليه السلام فيما ذكر الله عنه لمّا كتب إلى بلقيس ملكة سبأ، وقرأت الكتاب على قومها: {}. فالبداءة بـ "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}" في الأمور المهمّة في المؤلَّفات، والخطب، والمحاضرات، والأكل والشرب، وجميع الأمور التي هي من الأمور المهمة؟ تُبدأ بـ"{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}" تبركاً بهذه الكلمة العظيمة، وافتتاحاً للأمور بها. ومن هنا نعلم أن هؤلاء الذين لا يكتبون "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}" في أول مؤلفاتهم في هذا العصر؛ أنهم قد خالفوا السنة، واقتدوا بالغربيين، وإلاَّ فإن المشروع في حق المسلم أن يبدأ بهذه الكلمة في أموره؛ في مؤلفاته، في خطبه، في محاضراته، في رسائله، إلاَّ أن هذه الكلمة لا تُكتب أمام الشعر الذي فيه هجاء أو فيه ذَم، ولا تُكتب أمام الكلام الذي فيه سِباب أو شتم أو كلام قبيح، تُنزّه هذه الكلمة، لا تُكتب أمام الشعر، وأعني: الشعر غير المحترم، أما الشعر النزيه الطيب فلا بأس، كذلك لا تُكتب أمام الهجاء، وأمام السب والشتم، وإنما تكتب أمام الكلام النزيه، ولهذا جاءت هذه الكلمة العظيمة في مبدأ كل سورة من سور القرآن ج / 1 ص -18- العظيم، سوى براءة والأنفال فإنها لم تأتِ بينهما؛ وقد أجاب أهل العلم عن ذلك، والله أعلم أنهما سورة واحدة، لأنهما في موضوع القتال، فهما في موضوع واحد وكأنهما سورة واحدة، أما في بقية السور فإنها تأتي في أول ومطلع كل سورة. ومعناها- كما قرر أهل العلم-: "{بِسْمِ اللَّهِ}" الجار والمجرور متعلق بمحذوف يجب أن يكون مؤخَّراً، تقديره: أستعين، بـ "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}"، أو أبتدئ بـ "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}" كتابي ومؤلَّفي، أو ابتدئ كلامي بـ "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}"، فالجار والمجرور متعلق بمحذوف مؤخر. و "{اللَّهِ} الله" عَلَمٌ على الذات المقدّسة، وهو لا يُسمّى به غير الرّب سبحانه وتعالى، لا أحد تسمّى بهذا الاسم أبداً، حتى الجبابرة، حتى الطواغيت والكفرة، ما أحد منهم سمّى نفسه "{اللَّهِ}" أبداً، فرعون قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} ما قال: أنا الله، مع كفره لم يجرؤ أن يسمّي نفسه هذا الاسم"{اللَّهِ}"، وإنما هذا خاص بالله سبحانه وتعالى. و"الله" معناه: ذو الألوهية، والألوهية معناها: العبادة، يقال: أَلَهَ يألَهُ: بمعنى: عبَد يعبُد، فالألوهية معناها: العبادة، فـ"{اللَّهِ} معناه: ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، كما جاء في الأثر عن ابن عباس رضي الله عنه. و "{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}" اسمان لله عز وجل يتضمنان الرحمة، والرحمة صِفة لله عز وجل، وكل اسم لله فإنه يتضمن صِفة من صفاته سبحانه وتعالى. و"{الرَّحْمَنِ}": رحمة عامة لجميع المخلوقات. و"{الرَّحِيمِ}": رحمة خاصة بالمؤمنين، كما قال- تعالى-: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}. فـ "{الرَّحْمَنِ}": رحمة عامة لجميع المخلوقات، حتى الكفار والبهائم والدواب إنما تعيش برحمة الله، وسخّر الله بعضها لبعض من رحمته سبحانه وتعالى، فهي رحمة عامة لجميع الخلق، بها يتراحمون، حتى إن البهيمة ترفع رجلها عن ولدها رحمة به. وأما "{الرَّحِيمِ}" فإنه رحمة خاصة بالمؤمنين {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}. والرحمة: صِفة من صفات الله عز وجل تليق بجلاله- سبحانه- ليست كرحمة ج / 1 ص -19- المخلوق، وإنما هي كسائر صفاته سبحانه وتعالى، نصِفه بها كما وصف بها نفسَه، ولكن لا نشبّه رحمته -سبحانه- برحمة خلقه. ثم قال بعد ذلك: "كتاب التّوحيد". قد يسأل سائل فيقول: لماذا لم يبدأ كتابه بالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: أنه اكتفى رحمه الله بـ"{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}"؛ فإنها كافية في الثناء على الله سبحانه وتعالى، وكافية بالابتداء. هذا جواب. والجواب الثاني كما ذكر الشارح العلامة الشيخ: عبد الرحمن بن حسن رحمه الله يقول: "عندي نسخة بخط المؤلِّف فيها أنه بدأ هذا الكتاب بقوله: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد). فإذاً؛ يكون في هذه النسخة جمع بين الفضيلتين؛ البداءة بـ"{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}"، والبداءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وهذا أكمل بلا شك، ثم قال: "كتاب التّوحيد". "كتاب": مصدر كَتَبَ، والكَتْب في اللغة معناه: الجمعُ، سُمّيَ الكتاب كتاباً لأنه جمع الكلمات والنصوص، ففيه معنى الجمع، ولذلك سُمّي كتاباً، ومنه "الكتيبة" من الجيش، لأنها تجمع أفراداً من الجنود، ومنه سُمَي الخرّاز كاتباً؛ لأنه يجمع بين الرقاع. و"التّوحيد" فصدر وَحَّدَ توحيداً، ومعناه: إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة؛ فمن أفرد الله بالعبادة فقد وَحَّده، يعني: أفرده عن غيره، يقال: وَحَّد وَثَنَّى وَثَلّث، وَحَّد معناه: جعل الشيء واحداً، وثَنّى يعني: جعل الشيء اثنين، وثَلّث: جعل الشيء ثلاثة، إلى آخره. فـ"التّوحيد" معناه لغةً: إفراد الشي عن غيره. أما معناه شرعاً: فهو إفراد الله- تعالى- بالعبادة. هذا هو التّوحيد شرعاً. و "التّوحيد" ثلاثة أنواع- على سبيل التفصيل-: ج / 1 ص -20- النوع الأول: توحيد الربوبية، وهو: إفراد الله- تعالى- بالخلق، والرزق، والتدبير، والإحياء، والإماتة، وتدبير الخلائق. هذا توحيد الربوبية، أنه لا خالق، ولا رازق، ولا محيي، ولا ضار، ولا نافع؛ إلا الله سبحانه وتعالى. هذا يُسمّى: توحيد الربوبية، وهو: توحيده بأفعاله سبحانه وتعالى، فلا أحد يخلق مع الله، ولا أحد يرزق مع الله، ولا أحد يحي ويميت مع الله سبحانه وتعالى. وهذا النوع من أقرّ به وحده لا يكون مسلماً؛ لأنه قد أقرّ به الكفار، كما ذكر الله - جل وعلا- في القرآن في آيات كثيرة: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} "{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}(31)" {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}، إلى غير ذلك من الآيات التي أخبر الله أن المشركين يقرّون بأن الله هو الخالق، والرازق، والمحيي، والمميت، ومع هذا لا يكونون مسلمين، لماذا؟ لأنهم لم يأتوا بالنوع الثاني، الذي هو مدار المطلوب. النوع الثاني: توحيد الألوهية، ومعناه: إفراد الله- تعالى- بالعبادة، هذا غير إفراده بالخلق والرزق والتدبير، بل إفراد الله بالعبادة؛ بأن لا يُعبَد إلا الله سبحانه وتعالى لا يُصَلّى، ولا يُدعى، ولا يُذبَح، ولا يُنذَر، ولا يُحَج، ولا يُعتَمر، ولا يُتصَدق، ولا... إلى آخره؛ إلا لله سبحانه وتعالى، يبتغى بذلك وجه الله سبحانه وتعالى. وهذا هو الذي وقعت الخصومة فيه بين الرسل والأمم. أما الأول فما وقعت فيه خصومة، لأن الأمم مقِرّة بأن الله هو الخالق الرازق، المحيي المميت، المدبر، ولم يُنكِر توحيد الربوبية إلاَّ شُذّاذ من الخلق، أنكروه في الظاهر، ولكنهم مستيقنون به في الباطن، من ذلك: فرعون، وإن كان جحد وجود الرّب سبحانه وتعالى، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} فهذا في الظاهر، وإلاَّ فهو يقر في قرارة نفسه أنه ليس برب، وأنه لا يخلق، ولا يرزق، وإنما في قرارة نفسه يعترف بأن الله هو الخالق الرازق، كذلك الشيوعية في عصرنا الحاضر جحودها للرّب، هذا في الظاهر، وإلا كل عاقل يعلم أن هذا الكون ما وُجِدَ من دون خالق، ومن دون مدبِّر، ومن دون موجد، أبداً، كل عاقل يعترف بتوحيد الربوبية. ج / 1 ص -21- أما توحيد الألوهية والعبادة، فهذا قَلّ من الخلق من أقرّ به، ما أقرّ به إلاَّ المؤمنون أتباع الرسل- عليهم الصلاة والسلام، هم الذين أقرّوا به، أما عموم الكفار فإنهم ينكرون توحيد الألوهية، بمعنى: أنهم لا يفردون الله بالعبادة، حتى وإن أقرّوا بالنوع الأول وهو: توحيد الربوبية وإن عبدوا الله ببعض أنواع العبادة. ولهذا لما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا: لا إله إلاَّ الله تفلحوا" قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ(5) وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ(7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ(8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ(9)} ، فهم أبوا أن يقولوا {لا إله إلاَّ الله} مع أنهم يعترفون بتوحيد الربوبية، لكن أبوا أن يعترفوا بتوحيد الألوهية، الذي هو إفراد الله بالعبادة، هم يقولون: نحن نعبد الله ونعبد معه غيره من الشفعاء والوسطاء، الذين يقربونهم -بزعمهم- إلى الله زُلفى، اتخذوهم وسائط- بزعمهم، وأبوا أن يفردوا ا لله- جل وعلا- بالعبادة {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} هذا في قوم نوح، والوتيرة واحدة من أول الكفار إلى آخرهم {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}. وكذلك عُبَّاد القبور اليوم، يقولون: لا تذرُن الحسن والحسين، والبدوي وغيرهم هؤلاء لهم فضل، ولهم مكانة؛ اذبحوا لهم، وانذروا لهم، وطوفوا بقبورهم، وتبرَّكوا بهم، لا تذروهم، لا تطيعوا هؤلاء الجفاة الذين يدعون إلى ترك عبادة القبور، ولا يعرفون حق الأولياء. الوتيرة واحدة مثل قوم نوح: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}. الحاصل: أن النوع الثاني هو توحيد الألوهية، وهو: إفراد الله- تعالى- بالعبادة، وترك عبادة من سواه، وهذا هو الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به لكتب، كما تقرأون في هذه الآيات التي سمعتم وكما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ما قال: إلاَّ ليقروا بأني أنا الرّب، لأن هذا موجود {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ما قال: أن أقروا، بأن الله هو الخالق الرازق؛ لأن هذا موجود، وهو وحده لا يكفي. ج / 1 ص -22- وهذا النوع- توحيد الألوهية- جحده المشركون، وهم أكثر أهل الأرض في قديم الزمان وحديثه، أبوا أن يتركوا آلهتهم، وأن يفردوا العبادة لله عز وجل، ويخلصوا الدين لله عز وجل؛ زاعمين أن هذه الوسائط وهؤلاء الشفعاء يشفعون لهم عند الله، وأنهم يقرِّبونهم إلى الله، وأنهم... وأنهم.. إلى آخره {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}. النوع الثالث: توحيد الأسماء والصفات، بمعنى: أننا نثبت لله سبحانه وتعالى ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، على حد قوله- تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. فنثبت لله الأسماء كما قال- تعالى-: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. وكذلك الصفات، نصِف الله عز وجل بما وصف به نفسه؛ أنه عليم، وأنه رحيم، وأنه سميع بصير، يسمع ويُبصر سبحانه وتعالى، ويعلم، ويرحم، ويغضب، ويُعطي ويمنع، ويخفض ويرفع. وهذه صفات الأفعال. وصفات الذات كذلك؛ أن له وجهاً- سبحانه، وأن له يدين، وأن له سبحانه وتعالى الصفات الكاملة، نثبت لله ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله من صفات الذات ومن صفات الأفعال، ولا نتدخل بعقولنا وآرائنا وأفكارنا، ونقول: هذه الصفات أو هذه الأسماء موجودة في البشر، فإذا أثبتناها شبهنا- كما يقوله المعطِّلة، بل نقول: إن لله سبحانه وتعالى أسماءً وصفات تليق بجلاله سبحانه وتعالى، وللمخلوقين أسماء وصفات تليق بهم، والاشتراك في الاسم، أو الاشتراك في المعنى؛ لا يقتضي الاشتراك في الحقيقة. خذ- مثلاً-: الجنة، فيها أعناب وفيها نخيل- كما ذكر الله، وفيها رمان، وفيها أسماء موجودة عندنا في الدنيا، لكن ليس ما في الجنة مثل ما في الدنيا، أبداً، ليس النخيل التي في الجنة مثل النخيل التي في الدنيا، الرمان ليس مثل الرمان الذي في الدنيا، وإن اشترك في الاسم والمعنى، كذلك أسماء الله وصفاته وإن اشتركت مع أسماء المخلوقين وصفاتهم باللفظ والمعنى، فالحقيقة والكيفية مختلفة، لا يعلمها ج / 1 ص -23- إلا الله سبحانه وتعالى، فلا تشابه إذاً في الخارج والواقع أبداً، لأن الخالق - سبحانه- لا يشبهه شيء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ولا يلزم من إثبات الأسماء والصفات التشبيه- كما يقول المعطِّلة والمؤوِّلة، وإنما هذا من قصور أفهامهم، أو ضلالهم، ورغبتهم عن الحق، وإلاَّ كلٍّ يعلم الفرق بين المخلوق والخالق- سبحانه وتعالى، كما أن المخلوقات نفسها فيها فوارق، فليس- مثلاً- الفيل مثل الهرة والبعوضة أبداً، وان اشتركت في بعض الصفات، البعوضة لها سمع- مثلاً، والفرس له سمع، البعوضة لها بصر، والفيل والفرس لهما بصر، هل يقتضي هذا أن تكون البعوضة مثل الفيل أو مثل الفرس؟ لا، وإن اشتركت في الأسماء فلا تشترك في الحقائق والمعاني. إذا كان هذا الفارق بين المخلوقات، فكيف بين الخالق سبحانه وتعالى والمخلوقين؟ نحن نُقِرُ لله سبحانه وتعالى بما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، الله- تعالى- قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} نفى المثلية وأثبت السمع والبصر؛ فدل على أن إثبات السمع والبصر وغيرهما من الصفات لا يقتضي المثلية {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(74)}. الله سبحانه وتعالى لا يشبهه أحد من خلقه. هذه أنواع التّوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية: وهذا في الغالب لم ينكره أحد من الخلق. توحيد الألوهية: وهذا أنكره أكثر الخلق، ولم يثبته إلاَّ أتباع الرسل- عليهم الصلاة والسلام- كما قال- تعالى-: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ(116)} وقال تعالى:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ(106)}. ما أثبت توحيد الألوهية إلاَّ أتباع الرسل- عليهم الصلاة والسلام- وهم المؤمنون من كل أمة، هم الذين أثبتوا توحيد الألوهية، وأبى عن الإقرار به المشركون في كل زمان ومكان. ج / 1 ص -24- وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} الآية. والثالث: أثبته أهل السنة والجماعة، فأثبتوا لله الأسماء والصفات، وحرّفها وأوَّلها الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، ومشتقاتهم من سائر الطوائف التي سارت في ركابهم؛ فهؤلاء منهم من نفاها كلها، منهم من نفى بعضها وأثبت بعضها، المهم أن نعرف مذهب أهل السنة والجماعة في هذا. وتقسيم التّوحيد إلى هذه الأنواع الثلاثة مأخوذ من الكتاب والسنة وليس تقسيماً مبتدعاً كما يقوله الجهال والضلال اليوم {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(8)} وليس مصدر هذا التقسيم علم الكلام وقواعد المتكلمين التي هي مصدر عقائد هؤلاء المخذولين الذين يتكلمون بما لا يعرفون، بل هذا التقسيم مأخوذ بالاستقراء من الكتاب والسنة. فالآيات التي تتحدث عن أفعال الله وأسمائه وصفاته فهي في توحيد الربوبية. والآيات التي تتحدث عن عبادة الله، وترك ما سواه؛ فهي في توحيد الألوهية. قوله: "وقول الله" بالكسر معطوف على "التّوحيد"، وهو مجرور بالإضافة، (وقول الله- تعالى-) معطوف على المجرور، ويجوز الرفع (وقولُ الله- تعالى-) يكون على الابتداء. "{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}" لاحظوا دِقّة الشيخ رحمه الله، قال: "كتاب التّوحيد. وقول الله- تعالى- {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}" ليُبَيّن لكم ما هو معنى التّوحيد؟، بأن التّوحيد معناه: إفراد الله بالعبادة، وليس معناه: ا لإقرار بالربوبية، بل معناه: إفراد الله بالعبادة، بدليل هذه الآية وغيرها. يقول الله- جل وعلا-: "{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}" يُبَيِّن الله سبحانه وتعالى الحِكمة من خلقه للجن وخلقه للإنس. أما {الْجِنَّ} فهم عالم من عالم الغيب، نؤمن بهم، ولكننا لا نراهم، ولذلك سُمُّوا بـ {الْجِنَّ} من الاجتنان وهو الاستتار، ويقال: جَنَّه الليل إذا سَتَرَه، ويقال: الجنين في البطن، لماذا سُمِّي جنيناً؟، لأنه مستتر، فـ {الْجِنَّ}، سُمُّوا جناً لأنهم مستترون عن أبصارنا لا نراهم {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} فهم من عالم ج / 1 ص -25- الغيب، والإيمان بهم واجب، ومن جحد وجود الجن فهو كافر؛ لأنه مُكَذِّبٌ لله ورسوله وإجماع الأمة على وجود الجن، وهؤلاء الذين أنكروا وجودهم على أي شيء يعتمدون؟، ما يعتمدون على شيء إلاَّ لأنهم لا يرونهم، وهل كل موجود لابد أن تراه؟ هناك أشياء كثيرة ما تراها وهي موجودة، مثلاً: الروح التي فيك، هل تراها؟، هل الروح التي تحركك؛ تمشي بها وتقعد هل تراها، والعقل موجود ومع هذا لا تراه. الحاصل؛ أنه ما كل شيء موجود لابد أننا نراه، هناك أشياء كثيرة وكثيرة وكثيرة لا نراها، وربما تكون تعيش معنا، ولله الحِكمة سبحانه وتعالى، ومن ذلك {الْجِنَّ} وهم عالم عظيم، إلاَّ أننا لا نراهم، وهم مكلّفون مثل الإنس. وأما {وَالأِنْسَ} معناها: بنو آدم، من الاستئناس لأنهم يأنس بعضهم ببعض، ويألف بعضهم بعضاً. الله سبحانه وتعالى بَيّن لنا الحِكمة من خلقه الثقلين: الجن والإنس، وهي: أنه إنما خلقهم لشيء واحد، وهو: العبادة، ولهذا جاء بالحصر "{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}" حَصَر الحِكمة من خلق الجن والإنس في شيء واحد وهو: أنهم يعبدونه، فالحِكمة من خلق المخلوقات هي: عبادة الله سبحانه وتعالى، خلق الله الجن والإنس للعبادة، وخلق كل الأشياء لمصالحهم، سَخَّرها لهم ليستعينوا بها على عبادته سبحانه وتعالى. ومعنى {لِيَعْبُدُونِ} أي: يفردوني بالعبادة، أو تقول بعبارة أخرى: {لِيَعْبُدُونِ} ليوحِّدون، لأن التّوحيد والعبادة شيء واحد. ومع كونه سبحانه وتعالى خلقهم لعبادته؛ فمنهم من قام بالعبادة وعبد الله، ومنهم من لم يعبد الله، إذ لا يلزم من كونه خلقهم لعبادته أن يعبدوه كلهم، بل يعبده من شاء الله - سبحانه وتعالى- له الهداية، ويكفر به من شاء الله له الضلالة، ومعنى: "{إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}" أي: إلاَّ لآمرهم بعبادتي، أو لآمرهم وأنهاهم، كما قال- تعالى-:{أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً(36)} أي: لا يؤمر ولا يُنَهى. وما دام أن الله سبحانه وتعالى خلق الثقلين لعبادته فهذا يدل على أن العبادة هي الأصل، وأن التّوحيد هو الأصل والأساس. ج / 1 ص -26- وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}. ثم قال- جل وعلا-:{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57)} هذا فيه بيان أن الله- جل وعلا- ليس بحاجة إلى عبادتهم، وإنما هم المحتاجون إلى عبادة الله { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ(58)}، فالله خلق الثقلين لعبادته، ولكنه- جل وعلا- ليس محتاجاً إلى عبادتهم، إذاً من هو المحتاج إلى العبادة؟. هم العباد أنفسهم. ولهذا قال: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ(8)}، فالله لا تضره معصية العاصي، ولا تنفعه طاعة المطيع، وإنما الطاعة تنفع صاحبها، والمعصية تضر صاحبها، قال- تعالى-: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وفي الحديث القدسي، أن الله سبحانه وتعالى يقول: "يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً"، وفي ختام الحديث العظيم، قال: "يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إيّاها؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلاَّ نفسه". والله يقول: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57)}، لا ليتكثَر بهم من قِلّة، ولا ليتعزّز بهم من ذِلَّة سبحانه وتعالى، وإنما خلقهم لعبادته، ومصلحة العبادة راجعة إليهم هم. فهذه الآية فيها بيان معنى (التّوحيد) وأنه: العبادة، وليس "التّوحيد" المطلوب معناه: الإقرار بالربوبية - كما يقول الضلال، وإنما معناه العبادة، أي إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى. قال: "وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}" يُخبرِ سبحانه وتعالى أنه بعث في كل أمة، و (الأمة) معناها: الجماعة والجيل والطائفة من الناس {فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً}، و (الرسول) هو: من أوحي إليه بشرع ج / 1 ص -27- وأُمِرَ بتبليغه، والرسل كثيرون، منهم من سَمّى الله- جل وعلا- لنا في القرآن، ومنهم من لم يُسَمِّ لنا {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ}، فنحن نؤمن بجميع الرسل من أوّلهم إلى آخرهم، من سمى الله لنا ومن لم يسم، والإيمان بالرسل أحد أركان الإيمان الستة. "{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}" هذا مثل: "{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}"، فكما أن الله خلق الخلق لعبادته كذلك أرسل الرسل- أيضاً- لعبادته سبحانه وتعالى، ما أرسل الرسل يعلمون الناس الفلاحة والزراعة والصناعة، ولا ليعلموهم ا لأكل والشرب، ولا ليعلموهم أن يقروا بوجود الرب والربوبية، إنما أرسل الرسل ليأمروا الناس بعبادة الله سبحانه وتعالى الذي هو ربهم، والذي يعترفون أنه ربهم وخالقهم سبحانه وتعالى. {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} هذا أمر، {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} هذا أمر بمعنى النهي. والطاغوت: مأخوذ من الطغيان، وهو: مجاوزة الحَدّ في كل شيء، والطاغوت يُطلق ويُراد به الشيطان، وهو رأس الطواغيت- لعنه الله- ويُطلق ويُراد به الساحر والكاهن، والحاكم بغير ما أنزل الله، والذي يأمر الناس باتباعه في غير طاعة الله، فالطاغوت- كما يقول ابن القيم-: "كل ما تجاوز به العبد حَدّه من معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله فهو طاغوت". فالله أمرنا بعبادته سبحانه وتعالى واجتناب الطاغوت، والمراد بالطاغوت هنا: كل ما عُبِد من دون الله من الأصنام والأوثان، والقبور والأضرحة وغير ذلك، كلها تسمى طواغيت، لكن من عُبد من دون الله ولم يرضَ بذلك فهذا لا يُسمى طاغوتاً، مثل: عيسى عليه السلام؛ كذلك: عباد الله الصالحين كالحسن والحسين، والأولياء الذين لم يرضوا أن يُعبَدوا من دون الله؛ هؤلاء لا يسمون طواغيت، ولكن عبادتهم عبادة للطاغوت الذي هو الشيطان، فهؤلاء الذين يعبدون الحسين وأمثاله، هؤلاء يعبدون الشيطان؛ لأنه هو الذي أمرهم بهذا: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} يعني: الشياطين، {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}. ج / 1 ص -28- فـ " {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}" يعني: كل ما يُعبد من دون الله عز وجل. وفي الآية الأخرى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} فهذا هو معنى "لا إله إلاَّ الله"، لأن "لا إله إلاَّ الله" معناها: الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، مثل قوله: "{اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}" نفيٌ وإثبات. ولاحظوا قوله:"{وَاجْتَنِبُوا}" ، ما قال: اتركوا عبادة الطاغوت؛ لأن "اجتنبوا" أبلغ؛ يعني: اتركوا كل الوسائل التي توصِّل إلى الشرك 4 والاجتناب أبلغ من الترك، فالاجتناب معناه: أننا نترك الشيء ونترك الوسائل والطرق التي توصِّل إليه، فهذه الآية فيها: أن الرسل بُعثوا بالتّوحيد، الذي هو عبادة الله وترك عبادة الطاغوت، من أولهم إلى آخرهم. إذاً جميع الرسل جاءوا بالدعوة إلى التّوحيد والنهي عن الشرك، هذه مِلَّة الرسل- عليهم الصلاة والسلام-، وهي مِلَّة واحدة، وإن اختلفت شرائعهم، إلاَّ إن أصل دينهم وعقيدتهم هو: التّوحيد، وعبادة الله في كل وقت بما شرع، فمثلاً: الصلاة إلى بيت المقدس في أوّل الإسلام؛ عبادة لله، لأن الله أمر بها، لكن بعدما نُسِخَت وحُوِّلَت القِبلة إلى الكعبة صارت العبادة هي الصلاة إلى الكعبة، والصلاة إلى بيت المقدس أصبحت منتهية، فمن صلى إلى بيت المقدس بعد النسخ يُعتَبر كافراً، فعبادة الله في كل وقت بما شرعه في ذلك الوقت، وإذا نُسِخ فإنه يُنتَقَل إلى الناسخ ويتُرك الدين المنسوخ، فدين الرسل واحد وإن اختلفت شرائعهم، وقد شبههم النبي صلى الله عليه وسلم بالإخوة لعلات، وهم الإخوة من الأب، أبوهم واحد ولكن أمهاتهم مختلفات، كذلك الرسل دينهم واحد وشرائعهم مختلفة، حسب حِكمة الله سبحانه وتعالى، لأن الله يشرع لكل وقت ما يناسبه، ولكل أمة ما يصلحها وهو أعلم سبحانه وتعالى {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} فما دام الدين لم ينسخ فهو عبادة لله، وإذا نُسِخ فالعبادة لله هي الانتقال إلى الناسِخ وترك المنسوخ. {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} يعني: منهم من أجاب الرسل، ومنهم من أبى، و{حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} القدر السابق المقدّر باللوح المحفوظ بسبب كفره وعناده. ج / 1 ص -29- وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الآية. قوله: "وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}" القضاء له عِدة معان، منها: القضاء والقدر، ومنها: الحُكم والشرع، ومنها: الإخبار {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ} يعني: أخبرناهم، ومنها: الفراغ {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} {)فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} يعني: فرغتم منها. فالقضاء له عدة إطلاقات، المراد منها هنا: الأمر والشرع، و"{وَقَضَى}" معناه: شرع "{أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}"، والله لم يشرع عبادة غيره أبداً، لم يشرع عبادة الأصنام، ولم يشرع عبادة الأولياء والصالحين، ولم يشرع عبادة الأضرحة والقبور، ولم يشرع عبادة الأشجار والأحجار، أبداً، هذا شرعه الشيطان، أما شرع الله فهو عبادة الله -سبحانه- وحده لا شريك له. وهذا هو معنى "لا إله إلاَّ الله " "{أَلاَّ تَعْبُدُوا}" هذا نفي، "{إِلاَّ إِيَّاهُ}" هذا إثبات، فهو معنى "لا إله إلاَّ الله" تماماً. ولما أمر بحقه- سبحانه- أمر بحق الوالدين: "{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}" فيأتي حق الوالدين بعد حق الله سبحانه وتعالى مباشرة؛ لأن الوالدين هما أعظم محسِن عليك بعد الله- سبحانه- ومعنى "{إِحْسَاناً}" يعني: أحسن إليهما كما أحسنا إليك. والشاهد من الآية: "{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}" لأنها تفسِّر التّوحيد، وهو: عبادة الله وترك عبادة ما سواه، هذا هو التّوحيد، أما عبادة الله بدون ترك عبادة ما سواه فهذا لا يسمى توحيداً، فالمشركون يعبدون الله ولكنهم يعبدون معه غيره فصاروا مشركين، فليس المهم أن الإنسان يعبد الله فقط، بل لابد أن يعبد الله ويترك عبادة ما سواه، وإلاَّ لا يكون عابداً لله، ولا موحِّداً، فالذي يصلي ويصوم وبحج ولكنه لا يترك عبادة غير الله ليس بمسلم، ولا تنفعه صلاته ولا صيامه ولا حجّه؛ لأنه لم يتمثل قوله- تعالى-: "{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}"، "{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}" يعني: لا تعبدوا معه غيره، وفي الحديث القدسي عن الله سبحانه وتعالى أنه يقول: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه"، وفي رواية: "فهو للذي أشرك، وأنا منه بريء". ج / 1 ص -30- وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} الآية. والآية الرابعة: "{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}"، الآيات على نَسَق واحد، ومنهجها واحد فـ "{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}" مثل: "{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}" تماماً؛ لأنها تخرج من مِشكاة واحدة "{وَاعْبُدُوا اللَّهَ}" هذا أمر من الله سبحانه وتعالى بعبادته "{وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}" هذا نهي عن الشرك، وهذا هو معنى {لا إله إلاَّ الله}، لأن {لا إله إلاَّ الله} معناها: نفي الشرك وإثبات العبادة لله عز وجل، ومعنى "{َاعْبُدُوا اللَّهَ}" أي: أخلصوا له العبادة، والعبادة لابد من معرفة معناها، هي: الذل والخضوع، هذا أصلها، في اللغة، يقال: طريق معبَّد يعنى: طريق ذلّلته الأقدام بوطئها. وأما العبادة في الشرع فهي كما عرّفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة"، فالعبادة هي: فعل ما شرعه الله سبحانه وتعالى. فالصلاة عبادة، والصوم عبادة، والحج عبادة، وصلة الأرحام عبادة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبادة، والإحسان إلى اليتيم عبادة، إلى آخره، كل ما شرعه الله فهو عبادة، ليست العبادة: أن الإنسان يتقرب إلى الله بشيء من عند نفسه فهذه بدعة، وكل بدعة ضلالة، إذاً العبادة: ما شرعه الله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، لأن العبادة منها ما هو على الجوارح والأعضاء الظاهرة، مثل: الصلاة، والجهاد في سبيل الله، هذا ظاهر على الجوارح، تتحرك، تعمل، ومنها ما هو على اللسان مثل: الذكر "سبحان الله والحمد لله" هذه عبادة باللسان، ومنها ما هو بالقلب مثل: الخوف، والخشية، والرغبة، والرهبة، والرجاء، هذه أعمال قلوب؛ فالعبادة تكون على القلوب، وتكون على الألسنة، وتكون على الجوارح. "{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}" لمََّا أمر بعبادته- سبحانه- نهى عن الشرك، لأن الشرك يفسد العبادة، كما أن الحدث يفسد الصلاة والطواف، كذلك الشرك يفسد العبادة، ولذلك نهى الله سبحانه وتعالى عنه. ج / 1 ص -31- وقول الله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} الآيات. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من أراد أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} إلى قوله {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} الآية. ثم يواصل الشيخ رحمه الله سياق الآيات والأحاديث في هذا الباب فيقول: "وقول الله - تعالى-: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} إلى آخر الآيات الثلاث في آخر سورة الأنعام، التي آخرها: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآيات الثلاث: "من أراد أن ينظر إلى وصّية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتَمه فليقرأ هذه الآيات الثلاث". "{أَتْلُ}" أي: أقرأ، "{مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}" دلّ على أن التحليل حقٌّ للربوبية؛ فالرب هو الذي يحلِّل ويحرِّم؛ لا ما حرّمتموه، أو حرّمه أولياؤكم من الشياطين من الإنس والجن، كالأنعام التي يحرِّمونها للأصنام. بدأ بأعظم المحرَّمات فقال: "{أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}"، فأعظم المحرمات هو:- الشرك بالله- سبحانه-؛ فإذا قيل لك: ما هو أعظم المحرّمات؟، تقول: الشرك بالله عز وجل، وإذا قيل لك: ما أعظم ما نهى الله عنه؟، تقول: الشرك بالله؛ وإذا قيل: ما أعظم المنكرات؟ تقول: الشرك بالله؛ وإذا قيل: ما هو أكبر الكبائر؟، تقول: الشرك بالله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أكبر الكبائر: الشرك بالله". فالشرك- والعياذ بالله- هو أخطر الذنوب، وأعظم ذنب عُصي الله به، وهو: عبادة غيره معه سبحانه وتعالى بصرف أيِّ نوع من أنواع العبادة لغير الله. فقوله: "{أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}" هذا نهيٌ من الله سبحانه وتعالى عن الشرك به؛ وهو أعظم ما حرم ربكم عليكم؛ فأنتم تستحلُّون أعظم المحرّمات- وهو الشرك-. وكلمة "{شَيْئاً}" يقول العلماء: نكرة في سياق النهي تعمُّ كلّ ما عُبد من ج / 1 ص -32- دون الله عز وجل، سواءً كان مَلَكاً أو نبياً أو وليًّا أو صالحاً من الصالحين أو شجراً أو حجراً أو قبْراً أو غير ذلك؛ كله يعمُّه كلمة: "{شَيْئاً}" فهي كلمة عامة؛ يعني: أي شيء من الأشياء لا يجوز أن يُصرف له شيء من عبادة الله سبحانه وتعالى. وأيضاً "{أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}" يشمل كل أنواع الشرك الأكبر والأصغر، فليس هناك شيء من الشرك يُتَسامَح فيه لا أكبر ولا أصغر، لأن قوله- تعالى-: "{شَيْئاً}" كلمة عامّة تنفي جميع الشرك كبيره وصغيره، كما أنها تمنع أن يُشرك مع الله أحد كائناً من كان، لا الملائكة المقرّبون، ولا الأنبياء والصالحون، ولا الجمادات، ولا الأشجار، ولا الأحجار، ولا القبور، ولا أيّ شيء؛ لا يجوز أن يُصرف شيءٌ من العبادة لغير الله، لا النذور، ولا الذبائح، ولا الطواف، ولا الدعاء، ولا الخوف، ولا الرجاء، ولا الرغبة، ولا الرهبة؛ لا يجوز ذلك سواءً كان شركاً أكبر أو شركاً أصغر، سواء كان شركاً جَلياً ظاهراً أو شركاً خفياً في القلوب. "{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}" أي: وصّاكم أن تُحسنوا بالوالدين إحساناً؛ فكلمة: "{إِحْسَاناً}" منصوبٌ على فعل محذوف، تقديره: وأحسنوا بالوالدين إحساناً؛ وهذا - كما ذكرنا في القاعدة المتقرِّرة-: أن الله- سبحانه- يبدأ بحقه أوّلاً ثم يثنِّي بحق الوالدين دائماً وأبداً، إذا أمر بتوحيده أمر أيضاً ببرِّ الوالدين، هذا في كثير من الآيات. فهذا فيه الأمر بالإحسان إلى الوالدين بالبر، والصِّلة، والإكرام، والتوقير أحياءاً وأمواتاً: أما برُّهم في الحياة فبالإحسان إليهما بالكلام اللِّين، والتواضُع، والنفقة، والقيام بخدمتهما، والتماس رضاهما في غير معصية الله سبحانه وتعالى كما قال- تعالى-: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً(24)}؛ ففي حال حياتهما يَبَرُّ بهما بأنواع البر، ولا يسيء إليهما أيَّ إساءة، لأن الإحسان إليهما بر، والإساءة إليهما عقوق، والعقوق من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله سبحانه وتعالى؛ ففي الأمر بالإحسان إليهما نهيٌ عن الإساءة إليهما. وقد جاء في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم صعِد المنبر فقال: "آمين، آمين، آمين"، ج / 1 ص -33- ثم قال لأصحابه: "إنَّ جبريل عليه السلام عَرَض له فقال له: يا محمد مَن أدرك شهر رمضان فلم يُغفر له فمات فدخل النار، قل: آمين، قلت: آمين، قال: يا محمد من أدْرك أبويه أو أحدهما ولم يُدخلاه الجنة فمات فدخل النار، قل: آمين، فقلت: آمين، قال: يا محمد مَن ذُكرتَ عنده فلم يصلِّ عليك فمات فدخل النار، قل: آمين، فقلت: آمين"؛ الشاهد من هذا: أن من أدرك أبويه- أو أحدهما- فلم يَبَرَّهما فمات دخل النار بسبب العقوق دعا عليه جبريل بدخوله النار وأَمَّن على ذلك محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
هذا الإحسان إليهما في حال الحياة. أما الإحسان إليهما بعد الموت فقد سُئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث سأله رجلٌ فقال: يا رسول الله ما بقي من بر والديِّ بعد موتهما؟، قال: "أن تصلِّيَ عليهما مع صلاتك" يعني: تدعو لهم إذا دعوت لنفسك، "وإنفاذ عهدهما"؛ يعني: الوصية التي أوصيا بها، و"صلة الرحم التي لا توصَل إلاَّ بهما، وإكرام صديقهما"، إذا كان لوالدك صديق أو لأمك صديقة فأكرم هذا الصديق، لأن إكرام صديق والدك أو صديقة والدتك إكرامٌ لوالديك؛ هذا ما يبقى من البر بعد وفاة الوالدين: الدعاء، وتنفيذ وصاياهما، وصلة الرحم المرتبطة بهما من الأعمام والعمات، والأخوال والخالات؟، وسائر القرابة، والأخوة والأخوات، وأبناء الأخوة وأبناء الأخوات... إلى آخره؛ كلُّ من تربطك به قرابةٌ من جهة أبيك أو من جهة أمك فهو من ذوي الأرحام، وإذا وصلته فقد بَرَرْت بوالديك. ثم قال- تعالى-: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} هذه الوصية الثالثة، وهي: تحريم قتل الأولاد من إملاق، يعني بسبب الفقر، كانوا في الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الفقر، يسيئون الظن بالله- تعالى- كأن الرزق من عندهم، ولهذا قال في الآية الأخرى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً (31)} وهنا قال: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} إذا كنتم أنتم لا ترزقون أنفسكم فكيف ترزقون غيركم. ومن الناس اليوم من ورِث هذه الخصْلة الذميمة فصاروا يسعون لتحديد النسل ج / 1 ص -34- خشية الفقر، يقولون: يحصُل في الأرض انفجار سُكّاني من كثرة النسل، والموارد قليلة فيحصل مجاعات؛ فيطلبون تحديد النسل؛ فالآن قضية المطالبة بتحديد النسل قائمة على قدم وساق، والدافع لهذا هو خشيتهم الفقر، وهذا لأنهم لا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، ولا يؤمنون أنّ الأرزاق من الله سبحانه وتعالى. وانْخدع بهذه الدعاية بعض المسلمين، فصاروا يكرهون كثرة الأولاد، وبعضهم يحاول تنظيم النسل، وبعضهم يحاول تحديد النسل، وهناك كلام فارغٌ يردّد، وكلُّ هذا باطل. وطلب الذرية، وكثرة الذرية، وكثرة الإنجاب أمرٌ مطلوبٌ في الإسلام، لأن هذا فيه تقوية للمسلمين، وتكثير لعدد المسلمين، وأما الرزق فهو على الله سبحانه وتعالى:{نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}. قال- تعالى-: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} هذه الوصية الرابعة؛ الفواحش جمع فاحشة، والمراد بها: المعصية، سُمِّيت المعصية فاحشة لقبْحها وشناعتها، يعني: لا تقربوا المعاصي. ولاحظوا قوله: {وَلا تَقْرَبُوا} ما قال: ولا تفعلوا الفواحش، بل قال: {وَلا تَقْرَبُوا}؛ ليشمل ذلك المنع من الوسائل التي تؤدِّي إلى المعاصي. حرّم المعاصي وحرّم الوسائل المؤدِّية إليها، فمثلاً: تبرُّج النساء من قُرْبان الفواحش، لأن تبرُّج النساء وسيلة إلى الزنا، فالزينة والسُّفور من التطرُّق إلى الزنا؛ ونهى الله عن قُربان الزنا: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى}، ما قال: ولا تفعلوا الزنا، قال: {وَلا تَقْرَبُوا} لأن النهي عن القُربان أبلغ من النهي عن نفس الفعل ليمنع الوسيلة إليه؛ وحرّم النظر إلى ما حرّم الله لأن النظر إلى ما حرّم الله- كالنظر إلى المرأة- وسيلة إلى الزنا، وحرّم السماع- سماع الكلام الماجن، والأغاني، والمزامير- لأنها وسائل إلى المحرّمات. فقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} يعني: لا تتعاطوا الأسباب التي تؤدِّي إلى المعاصي، بل تجنّبوها من نظر وسماعٍ وسُفور وتبرُّج وغير ذلك من الوسائل والأسباب التي تؤدي إلى الفواحش. ج / 1 ص -35- فإنا كانت الأسباب محرّمة فكيف بنفس الفواحش؟، تكون أشدَّ تحريماً {مَا ظَهَرَ} يعني: ما رآه الناس في الأسواق وفي الدكاكين وفي المجمّعات. {وَمَا بَطَنَ} المعاصي الخفية في البيوت، وفي المحلاَّت المستورة؛ فالمؤمن يتقي الله عز وجل ظاهراً وباطناً، يتقي الله في الشارع ويتقي الله في البيت، يتقي أينما كان، يتقي الله في النهار ويتقيه في الليل، يتقيه في الضياء ويتقيه في الظلمة، لأنه دائماً معه- سبحانه-، لا يخفى عليه. فليس المقصود أن الإنسان يتجنب المعاصي الظاهرة فقط، وأما إذا خلا فإنه مسموحٌ له، لا، الحرام حرام على أي حال، والرب هو الرب- سبحانه- مطّلع في سائر الأحوال ظاهراً وباطناً لا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى، مهما حاولتم التستُّر فإنكم لا تخفون على الله سبحانه وتعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ}، بل إنه قال: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(13)}، إذا كان كذلك فيجب عليك أن تتقي الله سبحانه وتعالى على كل حال، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت"، يقول- تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} يعني: في حال غيبتهم عن الناس، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. ثم قال- تعالى-: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} النفس التي حرم الله هي: النفس المؤمنة، وكذلك النفس المعاهَدة، ولو كانت كافرة؛ فالله حرّم قتل المؤمنين، وكذلك حرّم قتل المعاهدين من الكفّار الذين لهم عهدٌ عند المسلمين بالذمة أو بالأمان: فالذمة وهم الذين يدفعون الجزية، أو بالأمان وهم الذين دخلوا بلادنا بالأمان، لا يجوز قتلهم والتعدِّي عليهم، لأنهم في ذمّة المسلمين، وفي أمان المسلمين، لا يجوز خيانة ذمة المسلمين، ولهذا جاء في الحديث: "من قتل معاهَداً لَمْ يَرَحْ رائحة الجنة". {إِلاَّ بِالْحَقِّ} أي: إلاَّ بإحدى هذه الثلاث: قصاص أو زنا أر ردة؛ هذا قتل بالحق شرعه الله سبحانه وتعالى، ما عدا ذلك فلا يجوز قتل المسلم، قال- تعالى-: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً(93)} وقتل النفس من أعظم الكبائر بعد الشرك بالله سبحانه وتعالى. ج / 1 ص -36- {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} {لَعَلَّكُمْ} هنا تعليلية، أي: لأجل أن تعقلوا؛ والعقل معناه: الكَفُّ عمّا لا يجوز؛ سُمي العقل عقلاً لأنه يكفُّ الإنسان عن الأشياء التي لا تليق، كما أن العقال للبعير يمنعه عن الضياع كذلك العقل، وهو خلقٌ جعله الله في الإنسان يمنع من تعاطي ما لا يجوز. ثم قال: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} من الكبائر المحرّمات: أكل أموال اليتامى بغير حق. واليتيم هو: الصغير الذي مات أبوه؛ هذا هو اليتيم؛ أما إذا بلغ فإنه يخرُج عن حدِّ اليُتْم، وكذلك لو ماتتْ أمه، وأبوه حيٌّ لا يسمى يتيماً، لأن أباه يقوم عليه ويُنفق عليه ويربيه، ويتعاهده، ويحميه؛ فاليتم هو: فُقدان الآباء في وقت الصغر. فاليتيم بحاجة إلى من يعينه، وإلى من يحميه، وإلى من يربيه، وإلى من يدافع عنه؛ فهو ضعيف؛ ومن ذلك: المحافظة على ماله، فلا ينتهز فرصة صغره ويُتْمه فيعتدى على ماله، لأنه لا يدافع، ولهذا يقول: سبحانه وتعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} إلى قوله- تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً(1)}. فقوله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} ما قال: لا تأكلوا مال اليتيم، بل قال: {لا تَقْرَبُوا} يعني: لا تعملوا الوسائل التي تُفضي إلى تَلَف مال اليتيم؛ فكيف بإتْلاف مال اليتيم؟، هذا من باب أولى. {إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} إلاَّ بشيء فيه مصلحة لليتيم: كأن تتاجر فيه؛ من أجل أن يربح وينمو. {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} هذا من الوصايا الربّانية؛ للإنسان الذي يبيع على الناس السِّلع بالوزن أو بالكيل، أو بالأكياس، أو بالصناديق يجب عليه أن لا يبخسها، بل يوفيها بالمكيال والميزان. المكيال للحبوب- مثلاً- والأشياء التي تُكال؛ والميزان للأشياء المائعة التي توزن؛ فالمعيار الشرعي هو المكيال أو الميزان. ج / 1 ص -37- وقد يكون المكيال- أيضاً- بالكيس، كأن يباع بالكيس، أو بالصندوق-مثلاً-، أو بالعلبة، هذا كله يدخل في الكيل والميزان؛ فلا يجوز للإنسان أنه ينقص هذه الأشياء ويبيعها على أنها وافية وقد بخسها وأخذ منها، كما يفعل بعض الخونة الذين يبيعون على الناس الأشياء على أنها تامة وهي مبخوسة، أو يبيع الأشياء والخضار على الناس على أنه سليم، ويجعل عُلُوّ الشيء الطيب، ولكن أسفله معيب أو تالف؛ هذا من البخس أيضاً {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}، وأهلك الله أمة من الأمم بسبب البخس- وهو قوم شعيب-، والنبي صلى الله عليه وسلم لمّا مرّ بالسوق ووجد بائع طعام فأدخل النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه في الطعام فوجد في أسفله بَلَلاً فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟"، قال: أصابته السماء يا رسول الله- يعني: أصابه المطر-، قال: "ألا جعلته ظاهراً حتى يراه الناس؛ من غشّنا فليس منّا". فلا يجوز للإنسان أن يخفي الأشياء المعيبة في أسفل الشيء؛ في أسفل الصندوق، في أسفل الإناء، في أسفل السطل، يعني: يجعل الأشياء النَّضِرة في أعلاه، ويقول للناس كله من هذا النوع. هذا حرام. ويجعل أحسنه أعلاه وأسوأه أسفله هذا لا يجوز، هذا من بخس الناس أشياءهم، ومن النقص في الكيل والميزان: { )وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ(1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ(2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3)أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ(4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ(5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)}، يعني: يحسبون أن المسألة انتهت لو أفلت من الخلق، ومن رقابة (البلدية)، ومن رقابة السلطان؛ ء فإنه لا يفلت من رقابة الله سبحانه وتعالى: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ(4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ(5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)}. لم فقوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} يعني: بالعدل؛ فالقسط معناه: العدل، بأن تزِنْ بالميزان العادل، وتكيل بالمكيال العادل الذي لا يظلم البائع ولا يظلم المشتري. {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} يعني: لو حصل أن الإنسان اجتهد في أن يوفي الحق وأن يوفي الكيل، ولكن حصل نقص يسير لم يتعمّده، فهذا لا يؤاخذه الله عليه {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} أنت أعدل بقدر ما تستطيع فإذا حصل شيءٌ لا تستطيعه ولا تعلم عنه فإنك لا تؤاخذ لأن الله لا يكلِّف نفساً إلاَّ وسعها، إنما الكلام في ج / 1 ص -38- الإنسان الذي يتعمّد الخديعة، ويتعمّد البخس، ويتعمّد النقص، لأن العدل تماماً لا أحد يستطيعه إلاَّ الله سبحانه وتعالى، الإنسان يعجز، ولكن الله عز وجل يعفو عمّا لا يستطيعه الإنسان {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}. {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} لمّا أمر بالوفاء بالكيل والوزن أمر بالوفاء بالكلام أيضاً؛ إذا تكلّمت في شخص فعليك بالعدل لا تمدحه بشيء ما هو فيه. ولا تذمُّه بشيء ما هو فيه، بل الزم العدل، قل ما تعلم فيه من الصفات، لا تمدحه مدحاً لا يستحقَّه، ولا تذمُّه ذمّاً لا يستحقُّه؛ وإذا كنت لا تعرفه فقل: لا أدري، لا أعرفه، لا تدخل نفسك في شيء لا تعرفه. كذلك من ناحية الشهادة: إذا أردت أن تشهد على أحد فلا تشهد إلاَّ بالحق؛ لا تحابي مع أحد وتشهد له لأنه قريبك، أو لأنه صديق لك، تشهد له بالباطل؛ أو تكتم الشهادة عن أحد لأنه عدوٌٌّ لك، قل الحق ولو على نفسك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً(135)}، وقال- تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا} {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ} يعني: لا يحملكم بغض قوم على أن لا تعدلوا فيهم، وأن تتكلموا فيهم بغير حق، حتى ولو كانوا كفّاراً، ولو كانوا أعداءاً قولوا فيهم الحق. فالعدل مطلوب، قامتْ به السموات والأرض. العدل مطلوب مع العدو، ومع الصديق، ومع القريب، ومع البعيد، ومع كلِّ أحد؛ لا يجوز للإنسان أن يتبع الهوى وشهوات النفس ويتكلّم على حسب رغبته، أو يكتم الشهادة على حسب رغبته. {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} قلتم بالتزكية، قلتم في الشهادة، قلتم في التجريح- تجريح الرواة أو تعديلهم-، {فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} يعني: ولو كان المتكلّم فيه قريبٌ لك، لا يحملك قرابته والشفقة عليه أن تحيد في حقه، بل قل فيه الحق، واشهد عليه بالحق؛ واشهد بالحق ولو كان لعدوك وخصمك، هذا هو العدل الصحيح. ج / 1 ص -39- {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} وهذا من الوصايا العظمية: الوفاء بعهد الله عز وجل؛ والوفاء بعهد الله المراد به: الوفاء بالمواثيق التي تكون بين العبد وبين ربه، والتي تكون بين الناس بعضهم مع بعض؛ العهد الذي بينك وبين الله أن تعبده ولا تشرك به شيئاً {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)} هذا عهدٌ بينك وبين الله تعاهده أن لا تعبد إلاَّ إياه، ولا تستعين إلاَّ به؛ فالعهد الذي بين العبد وبين ربه هو: أن يقوم بعبادة الله سبحانه وتعالى. والعهد الذي بينك وبين الناس: إذا عاهدت سلطاناً، أو أميرًا، أو عاهدت أحداً من الناس فلا تغدر العهد الذي بينك وبين الله، ولا بالعهد الذي بينك وبين الناس؛ إذا عاهدت وجب عليك الوفاء بالعهد قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذَب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر"، فالغدر بالعهود من صفات المنافقين. بل إذا كان بيننا وبين الكفار عهد فلا يجوز لنا أن نغدر به، بل يجب الوفاء مع الكفار المعاهَدين. وإذا أراد ولي الأمر أن ينهي المعاهدة مع الكفار فلا يلغيها فجأة، بل يعطيهم؛ مُهلة: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ(58)}. ومبايعة السلطان عهد يجب على الرعية أن يفوا به، وأن لا يغدروا به، وأن لا يعصوا ولّي الأمر، إلاَّ إذا أَمر بمعصية فإنه لا يُطاع في المعصية، لكن يُطاع في الأمور الأخرى التي ليستْ بمعصية، هذا من العهد الذي بينك وبين وليّ الأمر. كذلك العهد الذي بينك وبين الناس؛ العهد الذي بين دولتك ودولة أخرى، كلّ هذا من العهد الذي أمر الله بالوفاء به، ولا يُستهان به أبداً؛ فالعهود أمرها عظيم، ولذلك أضافها الله إليه قال- تعالى-: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} قال - تعالى-: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} وهنا يقول: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} أضاف العهد إليه ليدل على عظمته. {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} {لَعَلَّ} هنا للتعليل أيضاً، أي: لأجل أن تتذكّروا ما عليكم من الحقوق والواجبات فتقوموا بها خير قيام. ج / 1 ص -40- ثم ختم هذه الوصايا بالوصية العاشرة العظيمة فقال- جل وعلا-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي}: الصراط في اللغة معناه: الطريق؛ والمراد بالصراط هنا: كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنهما طريقٌ إلى الجنة، أي: ما أوحيته إليكم بواسطة رسولي من الأوامر والنواهي في هذا القرآن العظيم وفي السنة النبوية هذا هو الصراط. فالذي يسأل عن الطريق إلى الله، نقول هو كتاب الله، وكذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم لأنها، تابعة للقرآن، ومفسِّرة للقرآن؛ فالسنة داخلة في كتاب الله عز وجل. {مُسْتَقِيماً} نُصب على الحال؛ والمستقيم هو: المعتدل، فطريق الله عز وجل معتدل، ليس فيه ميلان، وليس فيه منعطفَات، وليس فيه غموض، طريق واضح يوصلك إلى الجنة، تمشي فيه على نور، وعلى برهان، وعلى طريق واضح. وأضاف {الصِّرَاطَ} إليه سبحانه وتعالى إضافة تشريف وتكريم؛ ثم وصفه بأنه مستقيم، يعني: معتدلٌ بخلاف الطرق الأخرى فإنها معوجَّة ومتعرِّجة، تضلِّل صاحبها؛ لأن هناك طرقاً كثيرة للشياطين؛ شياطين الإنس والجن، ومذاهب، وهناك جماعات متعدّدة، هناك.. وهناك..، لكن طريق الله واحدة، ما فيها تعدُّد، ولا فيها انقسام، ولهذا وحّد صراطه وعدّد السبل قال: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} لأن الطرق والسبل التي غير القرآن وغير الشريعة طرقٌ كثيرة ليس لها حصر، كل صاحب مذهب له طريقة، وكل صاحب نِحْلة له طريق، وكل جماعة من الضُّلاَّل لهم طريق، وكل، مَن اخْتلف عن الحق صار له طريق غير طريق الآخر؛ وهذه علامة أهل الضَّلاَّل أنهم لا يجتمعون على شيء، ولا يتوافقون أبداً، بخلاف أهل الحق فإنهم يتوافقون، لماذا؟ لأنهم يسيرون على طريق الله سبحانه وتعالى. فميزه أهل الحق أنهم لا يختلفون، وإن حصل اختلاف فإنه يُحْسَم بالرجوع إلى كتاب الله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}؛ فالصحابة رضي الله عنهم قد يقع بينهم اختلافات لكن سرعان ما تذهب، لماذا؟، لأنهم يرجعون إلى كتاب الله؛ فقد اختلفوا بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم من الخليفة بعده؟، ثم سَرْعان ما انْحَسَم النزاع وعاهدوا أبا بكر الصدِّيق- رضي الله تعالى عنه- لما ج / 1 ص -41- رجعوا إلى السنة، واختلفوا في حروب الردة، وسرعان ما اتّفقوا على قتال المرتدِّين، لأنهم رجعوا إلى كتاب الله وسنة رسوله. فأهل الحق حتى لو حصل بينهم خلاف ناتج عن اجتهاد، فإنهم يرجعون إلى كتاب الله، بخلاف أهل الضلال فإن كل واحد يركب رأسه، ولا يُصْغي للآخر، كل واحد يريد أن يكون هو الشيخ والمعظَّم، لأنه يريد تعظيم نفسه، ولا يريد الحق؛ فلذلك تجدون أهل الضلال دائماً في اختلاف، ودائماً في صراع، وتجدون أهل الضلال تتشعّب مناهجهم، وتتنوّع، وكل حين يخرج مذهب جديد، هذه صفة أهل الضلال- والعياذ بالله- وهذا مذكور في هذه الآية: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وضّح النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية بتوضيحٍ محسوسٌ: ذلكم أنه خط صلى الله عليه وسلم على الأرض خطّاً معتدلاً، ثم خطّ على جَنَبَتَيْه خطوطاً، فقال صلى الله عليه وسلم للخط المعتدِل: "هذا صراط الله"، وقال لهذه الطرق: "وهذه سُبُل، على كل سبيل منها شيطان يدعو الناس إليه"، هذا مثال واضح من الرسول صلى الله عليه وسلم لبيان الآية الكريمة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}. وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: "ومن يَعِشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي؛ تمسّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ؛ وإياكم ومحدَثات الأمور، فإن كلّ محدَثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة"، وقال صلى الله عليه وسلم: "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلاَّ واحدة"، فقالوا: من هي يا رسول الله؟، قال: "مَنْ كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي" هذا صراط الله عز وجل في الآيات وفي الأحاديث. ولا نستغرب إذ حصل اختلافات، ونشأتْ مذاهب ضالّة، وحصل صراعات بين الناس، لا نستغرب هذا، لأن هذه سنة الله سبحانه وتعالى لابتلاء العباد وامتحانهم، ومن هو الذي يثبت على الطريق ومن هو الذي لا يثبت؟ والنبي صلى الله عليه وسلم عندما حضرته الوفاة أراد أن يكتُب كتاباً لأصحابه، يَعْهَد إليهم فيه، ولكنه عدل عن ذلك، وتُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص ولم يَعْهَد إليهم، فتأسّف بعضهم، فابن مسعود يقول: لستم بحاجة إلى كتاب يكتبه الرسول صلى الله عليه وسلم لأن عندكم القرآن. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf التعديل الأخير تم بواسطة ام عادل السلفية ; 19-01-2015 الساعة 02:30AM |
#4
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد كتاب التوحيد / 1 ص -42- عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال لي: "يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟"، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً"، قلت: أفلا أبشّر الناس؟، قال: "لا تبشرهم فَيَتَّكِلُوا" أخرجاه في الصحيحين. فقول ابن مسعود رضي الله عنه: "من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه" يعني: التي تعوِّض عن هذه الكتابة التي هَمّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. "فليقرأ هذه الآيات" لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يوصي إلاَّ بكتاب الله، وأيضاً الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إني تاركٌ فيكم ما إنْ تمسَّكْتم به لن تضلوا من بعدي: كتاب الله وسنتي". فالحمد لله، عندنا ما أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه أوصانا باتّباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . ثم ساق الشيخ رحمه الله حديث معاذ والكلام عليه أن نقول: في هذا الحديث العظيم: فضيلة لمعاذ رضي الله عنه، وفضائله كثيرة، وهو معاذ بن جبل الخَزْرَجي الأنصاري، أحد أَوْعِيَة العلم، وأعلم هذه الأمة بالحلال والحرام، وقد استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على مكة لما فتحها قاضياً ومعلِّماً، ثم أرسله- أيضاً- في السنة التاسعة أو العاشرة إلى اليمن قاضياً ومعلِّماً- كما سيأتي-، ثم جاء من اليمن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فأرسله عمر إلى الشام قاضياً ومعلِّماً، وتوفي هناك- رضي الله تعالى عنه- في الشام في طاعون عُمْوَاس المشهور. قوله: "قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم"، يعني: راكباً معه. "على حمار" هذا فيه: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يركب الحمار، مع أنه أشرف الخلق على الإطلاق، وتواضعه- أيضاً- صلى الله عليه وسلم في إرداف صاحبه معه، وفيه: جواز الإرداف على الدّابّة إذا كانت تُطيق ذلك، ولا يشق عليها. "فقال لي: يا معاذ" أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه هذا الحكم العظيم، ولكنه صلى الله عليه وسلمج / 1 ص -43- أراد أن يُلْقِيَه إليه بطريقة السؤال والجواب، ليكون ذلك أَدْعى إلى الانتباه والاهتمام، فإن التعليم عن طريق السؤال والجواب من أعظم الطرق الناجحة في تعليم العلم، لأنك لما تسأل الطالب عن شيء يجهله ثم يتطلع إلى الجواب، أحسن من أن تلقي إليه المسألة ابتداءً، وهو على غير انتباه واستعداد لاستقبالها، وهذه طريقة من طرق التعليم، وهي طريقة نبويّة، استعملها النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحوال. "أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله" هذه مسألة عظيمة. قال معاذ: "قلت: الله ورسوله أعلم" هذا فيه: تأدب طالب العلم في أنه إذا سُئل عن شيء وهو لا يعرفه، أن يقول: الله ورسوله أعلم، ولا يدخل ويَتَخَرَّص في شيء لا يعرفه، بل يَكِلُ العلم إلى عالِمه، هذه- أيضاً- من طرق التعلُّم الناجحة، هي: أن الإنسان إذا سُئل عن علم لا يعلمه أو عن مسألة وهو لا يعرفها، لا يحمله الأنفة بأن لا يقول: لا أدري، بل يقول: لا أدري، أو يقول: الله أعلم، ولا غَضَاضة عليه في ذلك، بل هذا يدل على فضله وورعه وأدبه مع الله سبحانه وتعالى، وأدبه مع المعلم. وقد سُئل الإمام مالك عن أربعين مسألة، فأجاب عن أربع مسائل منها، وقال عن البقيّة: لا أدري، فقال السائل: جئتك من بلاد كذا وكذا أسألك عن مسائل، وتقول لا أدري؟ فقال له: اركب راحلتك واذهب إلى البلد الذي جئت منه، وقل: سألت مالكاً وقال: لا أدري. هكذا أدب العلماء. وهذا معاذ رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: "الله ورسوله أعلم"، ففي هذا: رَدُّ العلم إلى عالمه، وعدم تدخُّل الإنسان في شيء وهو لا يدري عن حكمه، والله- تعالى- يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، ويقول سبحانه وتعالى لما ذكر المحرّمات في قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، ختمها بقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(144)}، والآيات والأحاديث في هذا كثيرة، فمن يريد النجاة لنفسه، ويريد السلامة، وأيضاً يريد السلامة للناس؛ فإنه لا يتدخل في شيء لا يعرفه، ج / 1 ص -44- لأنه يُوَرَّطُ نفسه، ويُوَرِّطُ الآخرين معه، لأنه إذا أجاب بخطأ ضلّل الناس {لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، فهذه مسألة عظيمة، يجب علينا أن نتعقّلها، وأن الإنسان لا يتسرّع في الإجابة عن شيء، إلاَّ إذا كان يعلمه تماماً، وإلاَّ فليقف على شاطئ السلامة، ولا يدخل في لِجَّة البحر وهو لا يُحسن السباحة. "قلت: الله ورسوله أعلم" هذا يُقال في حياة النبي صلى الله عليه وسلم: الله ورسوله أعلم، أما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يقال: الله أعلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد انتقل من هذه الدار إلى الرّفيق الأعلى إلى الدار الآخرة، فيُوكل العلم إلى الله سبحانه وتعالى لأن الله سبحانه وتعالى أعطى رسوله علماً عظيماً {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}، فالرسول صلى الله عليه وسلم عنده علم عظيم من الله، ويجيب في حياته، ولكن بعد وفاته قد بلّغ البلاغ المُبين صلى الله عليه وسلم وأنهى مهمّته ورسالته، وانتقل إلى ربه عز وجل، فلا يجيب في مسألة.، فلما تهيّأ معاذ للجواب وتنبّه وتطلع؛ ألقى عليه النبي صلى الله عليه وسلم الجواب، فقال: "حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" هذا هو حق الله سبحانه وتعالى على عباده، من أولهم إلى آخرهم، كما في الآية التي في مطلع الباب:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ(56)}، هذا هو حق الله على العباد، وهو أول الحقوق، وآكد الحقوق، لأن الإنسان منّا عليه حقوق، أعظمها: حق الله، ثم حق الوالدين، ثم حق الأقارب، ثم حق اليتامى والمساكين والجيران والمماليك، كما في قوله- تعالى-: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فهذه عشرة حقوق، ذكرها الله- سبحانه- في هذه الآية، أولها: حق الله سبحانه وتعالى وكما في الآيات في سورة الإسراء التي ذكر الله فيها خمسة عشر حقًّا، أولها: حق الله في قوله- تعالى-: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ}، ثم جاء بحق الوالدين {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا}، إلى قوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ}، ختم الآيات بما بدأها به وهو حق الله على عباده أن يعبدوه، ولا يكفي هذا، أن يعبدوه، بل ولا يشركوا به شيئاً، لأن العبادة لا تكون عبادة إلاَّ إذا خَلَصَتْ من الشرك، أما إذا خالطها شرك فإنها ج / 1 ص -45- لا تكون عبادة لله، كما قال- تعالى-: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}، لأن الشرك يُبطل العبادة، ويُبطل سائر الأعمال، ولا يصحُّ معه عمل، مهما كلّف الإنسان نفسه بالعبادات، إذا كان عنده شيء من الشرك الأكبر فإن عبادته تكون هباءً منثوراً: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً}، قال- تعالى-:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ(66)}، وقال- تعالى- لما ذكر الأنبياء في سورة الأنعام: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} إلى آخر الأنبياء الذين ذكرهم الله، ج / 1 ص -46- أنا أريد زيادة خير، أصَلِّي فريضة سادسة، زيادة خير، نقول: لا، هذا باطل، لأن هذا شيء لم يَشْرعه الله ولا رسوله، وإن كان قصدك حسناً، فهو عمل مردود وباطل، ولهذا لما جاء ثلاثة نفر من الصحابة إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن يقتدوا به، فذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الرَّهْط عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فكأنهم تقالُّوها، ولكن اعتذروا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر، وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أنا أصلي ولا أنام، وقال الآخر: أنا لا أتزوج النساء- يعني: يريد التَّبَتُّل -، وقال الثالث: أنا أصوم ولا أُفطر،- وفي رواية: ولا آكل اللحم-، فلما بلغ ذلك رسول الله غضب غضباً شديداً، وقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأعلمكم بالله وأتقاكم له وأخشاكم له، وإني أصلي وأنام، وأصوم وأُفطر، وأتزوج النساء، ومن رغب عن سنتي فليس مني"، وهكذا، فالعبادة لابد أن تكون مطابقة لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها بدع، ولا خرافات، ولا محدثات، ولا استحسانات للعقول، أو اقتداء بفلان أو علاَّن، ما دام أن هذا المُقتدى به ليس متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم فليس بقدوة، هذه هي العبادة، قال- جلَّ وعلا-: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، فالشرك يُحبط الأعمال، ولهذا كثيراً ما يأتي الأمر بالعبادة مقروناً بالنهي عن الشرك: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} "أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً"، وهذا هو معنى لا إله إلاَّ الله، لأن لا إله إلاَّ الله تشتمل على النفي وعلى الإثبات، النفي: نفى الشرك، والإثبات: إثبات التّوحيد. "أن يعبدوه" والعبادة- أيضاً- كما أنها لا تكون عبادة إلاَّ مع التّوحيد، كذلك لا تكون عبادة إلاَّ إذا كانت موافقة لما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم، فالعبادة وسائر الأعمال لا تصح إلاَّ بشرطين: الشرط الأول: الإخلاص لله عز وجل. الشرط الثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم. فلو أن الإنسان جاء بعبادات مُحْدَثة ليس فيها شرك أبداً كلها خالصة لله، ولكنها ليست من شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي بدع مردودة لا تُقبل، قال صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدْ" وفي رواية: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رَدْ"، فالعبادة لا تكون عبادة إلاَّ بشرطين: الإخلاص لله عز وجل، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو معنى الشهادتين: شهادة أن لا إله إلاَّ الله، فمعناها: الإخلاص لله عز وجل، وشهادة أن محمداً رسول الله ومعناها: المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، فالعبادات لا يصلح أن يكون فيها شيء من الاستحسانات البشريّة، أو استدراكات العقول، أو غير ذلك، مهما حسُنت نية الفاعل ما دام أنه بدعة: فلو أن إنساناً- مثلاً- قال: الصلوات خمس، ولهذا يقول العلامة ابن القيّم رحمه الله في "النونية": حق الإله عبادة بالأمر لا بهوى النفوس فذاك للشيطان حق الإله عبادة بالأمر، يعني: بالشرع، فالأمر المراد به: الشرع؛ فلا تحدث شيئاً من عندك. لا بهوى النفوس فذاك للشيطان، فالذي يعبد الله باستحسان عقله، وشهوة نفسه بشيء لم يَشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ليس عابداً لله، وإنما هو عابد للشيطان، لأنه هو الذي أمره بذلك، فالشيطان يأمر بالبدع والخرافات.وقال في موضع آخر: وعبادة الرحمن غاية حُبّه مع ذُلِّ عابده هما قُطْبان وعليهما فَلَك العبادة دائر ما دار حتى قامت القُطْبان ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان ج / 1 ص -47- هكذا تكون العبادة، لابد أن تكون العبادة خالصة لوجه الله عز وجل، ليس فيها شرك، وأن تكون- أيضاً- على وفق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم تماماً ليس فيها بدعة. "وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً"، هذا الحق للعباد على الله ليس بحق واجب على الله، وإنما هو تفضُّل منه سبحانه وتعالى، لأن الله لا يجب عليه حق لأحد، ولا أحد يوجب على الله شيئاً، كما هو مذهب المعتزلة، فهم الذين يرون أن الله يجب عليه أن يعمل كذا، يوجبون على الله بعقولهم، أما أهل السنة والجماعة فيقولون: الله سبحانه وتعالى ليس عليه حق واجب لخلقه، وإنما هو شيء تفضَّل به- سبحانه- وتكرَّم به، كما قال- تعالى-: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}، هذا حق تفضل به، ونظم ذلك الشاعر بقوله: ما للعباد عليه حق وجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عُذِّبوا فبعد له أو نُعِّموا فبفضله وهو الكريم الواسع فمعنى "حق العباد على الله" يعني: الحق الذي تفضل الله- تعالى- به، وأوجبه على نفسه، من دون أن يوجبه عليه أحد من خلقه، بل هو الذي أوجبه على نفسه، تكرّماً منه بموجب وعده الكريم الذي لا يُخلفه- سبحانه- {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ}."أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً" فدلّ هذا على أن من سَلِم من الشرك الأكبر والأصغر فإنه يسلم من العذاب، وهذا إذا جَمعته مع النصوص الأخرى التي جاءت بالوعيد على العُصاة والفسقة، فإنك تقول: العُصاة من الموحّدين الذين لم يشركوا بالله شيئاً، ولكن عندهم ذنوب دون الشرك من سرقة، أو زنا، أو شرب خمر، أو غيبة، أو نميمة أو، إلى آخره، فهذه ذنوب يستحق أصحابها العذاب، ولكن هي تحت مشيئة الله إن شاء الله غفر لهم من دون عذاب وأدخلهم الجنة، وإن شاء عذبهم بقدر ذنوبهم، ثم يخرجهم بتوحيدهم، ويدخلهم الجنة، فالموحّدون مآلهم إلى الجنة، إما ابتداءً وإما انتهاءً، وقد جاء في الأحاديث أنه يُخرج من النار من في قلبه أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان، ويُخرج من النار أُناس كالفحم، قد ج / 1 ص -48- امتحشوا، ثم يُنبت الله أجسامهم بأن يُلقوا في نهر على باب الجنة، يُقال له نهر الحياة، فتنبت أجسامهم، ثم يدخلون الجنة، ويُخَلَّدون فيها، فأهل التّوحيد مآلهم إلى الجنة، حتى ولو عذبوا في النار فإنهم لا يخلدون فيها وذلك بسبب التّوحيد، أما الكفار والمشركون والمنافقون النفاق الأكبر، فهؤلاء مآهلم النار خالدين مخلَّدين فيها، لا يدخلون الجنة أبداً {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}. فقوله صلى الله عليه وسلم: "أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً" هذا وعد من الله سبحانه وتعالى؛ إن شاء غفر هذه الذنوب، وإن شاء عذب أصحابها، ثم يدخلهم الجنة بعد ذلك، وقد يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين، وقد يخرجهم برحمته سبحانه وتعالى، فحتى ولو عذَّبوا مآلهم إلى الجنة {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، فالتّوحيد يَعصم من الخلود في النار، وإذا كان التّوحيد كاملاً فإنه يَعصم من دخول النار أصلاً، وإذا كان ناقصاً فإنه يَعصم من الخلود فيها، ولا يعصم من الدخول فيها، وإنما يَعصم من الخلود فيها، كما قال- تعالى- لما ذكر مناظرة إبراهيم الخليل عليه السلام مع عَبَدَة الأصنام قال: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ}، المؤمنون أو المشركون، {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قال الله- تعالى-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}، هؤلاء هم أهل التّوحيد، {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} يعني: بشرك، ولهذا لما نزلت هذه الآية شقَّتْ على الصحابة وقالوا: أيُّنا لم يظلم نفسه؟، فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس الذي تَعْنُون، إنه الشرك، ألم تسمعوا قول العبد الصالح:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، فالمراد بالظلم هنا: الشرك، فالذين سلِموا من الشرك لهم الأمن، إما الأمن المطلق، وإما مطلق الأمن، والأمن المطلق هو الذي ليس معه عذاب، وأما مطلق الأمن فهذا الذي قد يكون معه شيء من العذاب على حسب الذنوب، فالحاصل: أن أهل التّوحيد لهم الأمن بلا شك، ولكن قد يكون أمناً مطلقاً، وقد يكون مطلق أمنٍ، هذا هو الجواب الصحيح عن هذه المسألة. بخلاف مذهب الخوارج والمعتزلة، فعندهم أن أصحاب الكبائر مخلّدون في ج / 1 ص -49- النار- والعياذ بالله، من هذا المذهب الباطل، فعندهم أن متى دخل النار لا يخرج منها بزعمهم، ويغالطون النصوص الصحيحة من الكتاب والسنة التي تدل على أن أهل التّوحيد ولو كان عندهم ذنوب ومعاص فإنهم لا يخلدون في النار، قال الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} يعني: هذه الأمة، والمراد بالكتاب: القرآن، {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا}، انظروا كيف ذكر الظالم لنفسه مع المقتصد ومع السابق بالخيرات، ووعدهم جميعاً بالجنة: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ(34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ(35)}، ذكر منهم الظالم لنفسه- بل بدأ به-؛ مما يدل على أن أهل التّوحيد يرجى لهم الخير، ويرجى لهم دخول الجنة، ولو كان عندهم ذنوب كبائر دون الشرك. وسيأتي في الأحاديث: "من مات وهو يشرك بالله شيئاً دخل النار،. ومن مات وهو لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة"، "إن الله حرم على النار من قال لا إله إلاَّ الله يبتغي بذلك وجه الله"، إلى كير ذلك من الأحاديث التي فيها أن التّوحيد يعصم من دخول النار، أو يعصم من الخلود فيها، وسيأتي باب مستقل في هذا الكتاب المبارك اسمه "باب فضل التّوحيد وما يكفِّر من الذنوب". ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً" فمعاذ الله استبشر بهذا الحديث الشريف، وفرح به غاية الفرح، وقال: يا رسول الله ألا أبشر الناس؟، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تبشرهم فيَتَّكِلُوا"، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم خشي إذا سمعه الناس فإنهم يتّكِلون على جانب الرجاء ويتساهلون في المعاصي، ويقولون: ما دمنا موحّدين فالمعاصي لا تضرنا، لأن الرسول يقول: "أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً"، ونحن والحمد لله لسنا مشركين، ونحن لا نعبد إلاَّ الله، فيتساهلون في المعاصي، فيغلِّبون جانب الرجاء على جانب الخوف، فهذا من ج / 1 ص -50- الحكمة؛ أن العلم لا يوضع إلاَّ في مواضعه، فإذا خيف من إلقاء المسائل على بعض الناس محذور أكبر، فإنهم تُكتم عنهم بعض المسائل من أجل الشفقة بهم، ورحمتهم من الوقوع في المحذور، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكتمان هذا النوع من العلم عن عامة الناس، ج / 1 ص -51- لا يعرفها العوام، ولا تتسع لها عقولهم، من المسائل العلمية، فلا تُلقى على العوام، وإنما تُلقى على طلبة العلم، وعلى الناس الذين يستوعبونها، ولهذا يقول ابن مسعود: "ما أنت بمحدث قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم إلاَّ كان لبعضهم فتنة" وقال علي رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله". وأخبر به معاذاً، لأن معاذاً من الجهابذة، ومن خواص العلماء، فدلَّ على أنه يجوز كتمان العلم للمصلحة، إذا كان يترتب على إيضاح بعض المسائل للناس محذور: بأن يفهموا خطأً، أو يَتَّكِلوا على ما سمعوا، فإنهم لا يُخبَرون بذلك، وإنما تلقى هذه المسائل على خواص العلماء الذين لا يُخشى منهم الوقوع في المحذور، فأخذ العلماء من هذا الحديث جواز كتمان العلم للمصلحة، وإنما أخبر معاذ رضي الله عنه بهذا الحديث عند وفاته، خشية أن يموت وعنده شيء من الأحاديث لم يبلِّغه للناس، كما في حديث علي رضي الله عنه: "حدِثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله"، يعني: لا يُلقى على كل الناس بعض المسائل التي فيها أمور يَخفى عليهم معناها، أو تشوِّش عليهم، وإنما يُلقى على الناس ما يفهمونه، ويستفيدون منه، أما نوادر المسائل، وخواص المسائل، فهذه تلقى على طلبة العلم، والمتفقهين المتمكِّنين، وهذا من الحكمة ووضع الشيء في موضعه، لمّا تكون أمام عُصاة يشربون الخمور، ويزنون، ويسرقون، وتقول: الله غفور رحيم، الله قريب مجيب، الله سبحانه وتعالى يغفر ويسمح، فيزيدون في الشرور، لكن حين تقول لهم: اتقوا الله، الله سبحانه وتعالى توعّد الزناة بالعذاب وتوعّد على السرقة، وعلى المعاصي بالعذاب الشديد، فتذكر لهم نصوص الوعيد، من أجل التوبة، ولو أتيت عند متمسِّكين وطيبين فذكرت لهم آيات الوعيد، فهذا ربما يزيدهم وسواساً، أو تشدّداً، فأنت تذكر لهم آيات التيسير، وأحاديث التيسير، والتسهيل، والرحمة، الفرج، إلى غير ذلك، من أجل أن لا يزيدوا ويشتدوا ويغلوا، فكل مقام له مقال، وتوضع الأمور في مواضعها، هذا هو الميزان الصحيح، والناس ليسوا على حد سواء، كل يخاطب بما يستفيد منه ولا يتضرر به، فلا تأتي بآيات الوعد والرجاء عند المتساهلين، ولا تأتي بآيات الوعيد عند المتشددّين، بل تكون كالطبيب تضع الدواء في موضعه المناسب، هكذا يكون طالب العلم، إذا كانت هناك أمور غامضة، فالحاصل؛ أن طالب العلم والواعظ والمعلم يجب عليه أن يراعي أحوال الحاضرين وأحوال الناس، ويعطيهم ما يحتاجون إليه من المسائل، ولا يُلقى عليهم المسائل الغريبة التي لم يتوصلوا إليها، فلو أتيت عند طلبة علم مبتدئين، فلا تلق عليهم غرائب المسائل التي لا يعرفها إلاَّ الراسخون في العلم، بل تعلمهم مبادئ مبسطة سهلة يتدرّجون بها شيئاً فشيئاً، لا تطلب من طالب مبتدئ أن يقرأ في "صحيح البخاري"، لأنه لم يصل إلى هذا الحد لكن لَقِّنه "الأربعين النووية"، والأحاديث القريبة، وشروط الصلاة، وأحكام الطهارة، إلى آخره، وإنسان مبتدئ بعلم العربية، لا تأمره بقراءة كتاب سيبويه؟، لكن تأمره بقراءة "الأجرُّوميَّة"، ومسائل مبسطة، يدخل بها على اللغة العربية والنحو، شيئاً فشيئاً، ولذلك ألف العلماء المختصرات والمتوسطات والمطوّلات، من أجل إن طالب العلم يمشي مراحل، شيئاً فشيئاً، الحاصل: أن كل شيء له شيء، وكل مقام له مقال. وقوله رحمه الله: "أخرجاه في الصحيحين" أخرجه البخاري: محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه "الجامع الصحيح"، الذي هو أصح كتاب عند المسلمين بعد كتاب الله عز وجل، وبالمنزلة الأولى من كتب السنة، ثم يليه "صحيح الإمام مسلم"رحمه الله، فالصحيحان: "صحيح البخاري" و "صحيح مسلم" هما أعلى شيء في كتب السنّة، وأصح الأحاديث ما اتفق عليه البخاري ومسلم، ثم ما رواه البخاري، ثم ما رواه مسلم، ثم بقية الأحاديث، لأن هناك صحاحاً غير الصحيحين: مثل: "صحيح ابن خزيمة"، وهذا يُثني عليه أهل العلم، و"صحيح الحاكم"، و"صحيح ابن حبّان"، وهذه يشترط أهلها الصحة، ولكن تصحيحهم دون تصحيح الإمامين البخاري ومسلم. ج / 1 ص -52- فهذا الباب اشتمل على فوائد عظيمة: الفائدة الأولى: بيان تفسير التّوحيد، وأنه عبادة الله وحده لا شريك له، هذا هو التّوحيد، لأن كل الآيات التي في الباب تأمر بالعبادة وتنهى عن الشرك: "{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ(56)}"، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}، {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}، فهذه الآيات تفسر التّوحيد بأنه العبادة. الفائدة الثانية: أن الرسل بعثوا بالدعوة إلى توحيد العبادة، لا بالدعوة إلى توحيد الربوبية، فليس هناك آية واحدة قالت أقروا بالربوبية، أو أَقِرُّوا أن الله هو الخالق الرازق، لماذا؟، لأن هذا موجود في الناس. فهم مقرُّون بأن الله هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، المدبّر، فتوحيد الرُّبوبية موجود في غالب البشر، لأن الفِطَر تقتضيه، لأن العاقل من الناس يعلم أن هذا الخلق لابد له من خالق: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ(35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ(36)}، {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ(17)}، فالآيات ما جاء تطالب الناس بالإقرار بتوحيد الرّبوبية، لأن هذا موجود، والإقرار به لا يكفي في الدخول في الإسلام، وإنما جاءت كلها على نَسَق واحد تأمر بالعبادة، وإنما تذكر توحيد الربوبية للاستدلال به على توحيد الألوهية. الفائدة الثالثة: في قوله: "{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ(56)}" هذه الآية فيها: أن الحكمة من خلق الجن والإنس هي عبادة الله سبحانه وتعالى، الآية الثانية: "{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}" فيها: أن الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم جاءوا بالأمر بعبادة الله، وترك عبادة ما سواه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، فدلّ على أن التّوحيد هو الذي بُعثت به الرسل، كما أنه هو الذي خلق الخلق من أجله. الفائدة الرابعة: أن العبادة لا تنفع مع الشرك، فمن أشرك بالله شيئاً فإنه لم ج / 1 ص -53- يُؤَذِّ حق الله سبحانه وتعالى، فالذي لا يَعبد الله مطلقاً كالملاحدة، وكذلك الذي يعبد الله مع الشرك، كلهم سواء، الملحد والمشرك، إنما الذي يعبد الله حقاً هو الذي يعبده ولا يشرك به شيئاً، هذا هو الذي يعبد الله حق عبادته وهو الذي تنفعه عبادته. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#5
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب فضل التّوحيد وما يكفر من الذنوب. ج / 1 ص -54- [الباب الثاني:] * باب فضل التّوحيد وما يكفر من الذنوب. ج / 1 ص -55- وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الآية.قال الشيخ رحمه الله: "باب فضل التّوحيد وما يكفِّر من الذنوب"، ثم ساق في هذا الباب آية من كتاب الله، وأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُبيّن فضل التّوحيد، وتُبيّن ما يكفِّره من الذنوب، والمناسبة بين هذا الباب والذي قبله، مناسبة ظاهرة، فإنه رحمه الله لما بيّن في الباب الذي قبله حقيقة التّوحيد، ومعنى التّوحيد المطلوب، ووضّح ذلك بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ناسب أن يذكِّر فضله ليرغب فيه، ويحث عليه، لأن الشيء إذا عُرفت مزاياه فإن النفس تتعلق به وتحرص عليه، وهذا التصنيف بين البابين في غاية الحكمة، مما يدل على دقة فهمه رحمه الله، لأنه لو ذكر فضل التّوحيد قبل أن يبيّن معنى التّوحيد لم يكن ذلك مناسباً، فلابد أن تُبيّن حقيقة الشيء ومعناه، ثم بعد ذلك تبين فضله، أما أن تذكر الفضائل لشيء غير معروف، فهذا لا يُجْدِي شيئاً، ومن هنا نُدرك خطأ كثير من الدعاة اليوم، أو من المؤلفين المعاصرين، الذي يزعمون أنهم يكتبون عن الإسلام، وعن الدعوة، ويمدحون الإسلام مدحاً كثيراً، في محاضراتهم، وفي كتبهم، وهذا حق، لكن ما هو الإسلام أوّلاً، لم يبيّنوا ما هو الإسلام، تقرأ الكتاب من أوله إلى آخره، أو تستمع إلى المحاضرة- أو الشريط- من أوله إلى آخره، وهو مدح للإسلام وثناء عليه، وبيان لمزاياه، لكن ما هو الإسلام، لأن كل واحدة من الفرق الضالة والمنحرفة تفسِّر الإسلام بمذهبها، وينزِّلون هذا المدح، وهذا الثناء على مذهبهم، فلا يكفي أننا نمدح الإسلام ونثني عليه فقط، لابد أن تبيّن ما هو الإسلام، ما هي حقيقة الإسلام الذي يُنجي من الكفر، ويدخل في التّوحيد، ويُنجي من النار ويدخل في الجنة، وما هي نواقض الإسلام التي تُفسد الإسلام، وتُخرج منه، وما هي مكمِّلاته، وما هي منقِّصاته، لابد من هذا، أما مجرد المدح، وذكر الفضائل بدون إنك تبيّن حقيقة الشيء، فهذا خطأ عظيم، والإسلام هو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عليه صحابته الكرام، وكان عليه القرون المفضلة، أما ما خالف ذلك فليس من الإسلام في شيء، وإن كان صاحبه يدَّعي أنه هو الإسلام، ومن هنا تجدون الشيخ بيّن في الباب الأول حقيقة التّوحيد لئلا يدعي كل واحد أن مذهبه هو التّوحيد، أو ما هو عليه هو التّوحيد، وهذا أمر مهم جدًّا، لأنهم يقولون أدعوا إلى الإسلام وبينوا مزايا الإسلام فقط، ولا تبينوا للناس حقيقة الإسلام، لأن هذا يفرق عنكم الناس. قال رحمه الله تعالى: "وقول الله- تعالى- {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}"، هذه الآية جاءت بعد ذكر مناظرة إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام- لقومه، لأن قومه كانوا يعبدون الكواكب، وهم الصابئة، في أرض العراق، فالله سبحانه وتعالى بعث نبيّه ورسوله إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام- للدعوة إلى التّوحيد، وإنكار هذا الشرك، ولم يكن هناك مسلم وقت بعثته- عليه الصلاة والسلام-، كلهم على الوثنيّة- والعياذ بالله-، وذكر الله ذلك في القرآن في عدة مواضع منها: في سورة الأنعام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ}بدأ بأبيه، لأنه يجب على الإنسان أول ما يبدأ بنفسه، ثم بأقرب الناس إليه، وأهل بيته، وجيرانه، ثم ينتشر في الدعوة إلى الله شيئاً فشيئاً، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، وفي الآية الأخرى يقول- جلّ وعلا-: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ(51) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ(52)} إلى آخر الآيات. وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أطلعه الله سبحانه وتعالى، على ذلك من أجل أن يؤهله لحمل الرسالة، والدعوة إلى الله عز وجل والمناظرة، {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} الموقنين بالله سبحانه وتعالى وتوحيده، ويزول عنه أي شك أو أي ارتياب، أو أي شبهة، يكون على وضح اليقين، {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} يعني: غَشَى عليه الليل بظلامه، {رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} هذا من باب المناظرة، وليس من باب النظر- كما يقول الفلاسفة أو علماء الكلام- لأن إبراهيم يعرف ربه من قبل، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ}، ولكنه قال ذلك لأجل المناظرة، هذا ربي بزعمكم، {فَلَمَّا أَفَلَ} يعني: غاب واختفى، {قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} لأنه لو كان رباً ما غاب ولا اختفى، فهذا مما يُبطل ربوبية هذا الكوكب، { قَالَ لا أُحِبُّ ج / 1 ص -56- الآفِلِينَ} لأنه لو كان ربًّا ما عرض له هذا العارض وهذا الزوال بعد الوجود، {فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي} يتدرج شيئاً فشيئاً، {فَلَمَّا أَفَلَ} يعني: غاب وانتقل، صار هذا القمر يُتصرّف فيه، ويُديّر، مثل النجم الذي قبله، يُسَيَّرْ من المطلع إلى المغرب، فهو ليس برب إذاً، {قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ(77) فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً} تدرج إلى أكبر الكواكب هي الشمس، وإذا بطلت عبادة الشمس بطلت عبادة بقية الكواكب من باب أولى، {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} الآن صرّح بالتّوحيد، وبين بطلان عبادة هذه الكواكب التي يعبدونها، تقرّر عقلاً وشرعاً وفطرة أنها ليست بآلهة، وأعلن البراءة، وهي الهجر والترك والابتعاد عنه، {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} هذا هو الرب سبحانه وتعالى الذي فطر السموات والأرض، يعني: خلقهما وأبدعهما على غير مثال سابق، فالخالق هو الذي يستحق العبادة، أما الكواكب فهي مخلوقة، والمخلوق لا يستحق العبادة، مدبَّرة ليس لها في نفسها تدبير فكيف بغيرها؟، {حَنِيفاً} الحنيف معناه: المقبل على الله، المعرض عما سواه، يعني: لا ألتفت إلى غيره سبحانه وتعالى، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} هذه براءة أيضاً، لما تبرّأ من الأصنام تبرّأ من أصحابها، {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} ناظروه على ترك هذه الدعوة، وأن يسلك مسلك الناس، ويمشي مع الناس، حتى أبوه وقف في وجهه، كما ذكر الله ذلك في سورة مريم، فإن أباه وقف منه موقف المُعادي {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً(46)}، أفحمهم بالحجة {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ} لأنهم توعدوه بأصنامهم، {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ(80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} كيف تهدِّدونني بآلهتكم وأنتم لا تخافون الله الذي خلق السموات والأرض وجعلتم معه شريكاً؟، إن كان هناك تهديد أو وعيد فهو عليكم أنتم، {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ} ما تهمني أصنامكم ولا وعيدكم، لأني متوكل على الله سبحانه وتعالى {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ} إذا كنتم تهدّدون بالوعيد والتخويف، وأنا أخوّفكم بالله عزّ وجلّ، وأبيّن لكم أنكم إن لم تتوبوا إليه فسيعذبكم، فـ { فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ ج / 1 ص -57- أَحَقُّ بِالأَمْنِ} أنا أو أنتم؟، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، فَصَل الله الحكم بينهم فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(82)} هذا هو الحكم الإلهي، {الَّذِينَ آمَنُوا}، وهذا عام في قوم إبراهيم، وغيرهم من الخلق، يعني: الذين وحّدوا الله، وأخلصوا له العبادة، {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} المراد بالظلم هنا: الشرك، لأن الظلم- كما بيّن أهل العلم- ثلاثة أنواع: النوع الأول: وهو أعظمها-: ظلم الشرك، قال- تعالى-: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} لماذا سُمي الشرك ظلماً؟ لأن الظلم في الأصل: وضع الشيء في غير موضعه، والشرك معناه: وضع العبادة في غير موضعها، وهذا أعظم الظلم، لأنهم لما وضعوا العبادة في غير موضعها، أعطوها لغير مستحقها، وسوَّوْ المخلوق بالخالق، سوَّوْ الضعيف بالقوي الذي لا يُعجزه شيء، وهل بعد هذا ظلم؟ والنوع الثاني: ظلم العبد نفسه بالمعاصي، فالعاصي إنما ظلم نفسه، لأنه عرّض نفسه للعقوبة، وكان الواجب عليه أن يُنقذ نفسه، وأن يضعها في موضعها اللائق بها، وهو الطاعة، والكرامة {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}. النوع الثالث: ظلم العبد للناس: بأخذ أموالهم، أو غيبتهم، أو نميمتهم، أو سرقة أموالهم، أو التعدي عليهم في أعراضهم بالغيبة والنميمة والقذف والهمز واللمز وغير ذلك من التنقُّص، أو في دمائهم بقتل الأبرياء بغير حق، أو بالضرب والجرح والإهانة بغير حق، فهذا تعدِّ على الناس. هذه هي أنواع الظلم: ظلم الشرك؛ وهذا أعظم أنواعه، وظلم العبد نفسه، وظلم العبد لغيره من المخلوقين. أما النوع الأول وهو: ظلم الشرك، فهذا لا يغفره الله أبداً إلاَّ بالتوبة {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. وأما النوع الثالث وهو: ظلم العبد للناس، فهذا لا يترك الله منه شيئاً، لابد من القصاص، إلاَّ أن يسمح المظلومون، جاء في الحديث: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها ج / 1 ص -58- يوم القيامة، حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القَرْنَاء" الشاة الجَلحَاء هي التي ليس لها قرون، والشاة القَرْنَاء التي لها قرون، إذا نطحتها بقرونها لابد من القصاص يوم القيامة حتى بين البهائم، قال- تعالى-: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} تحشر البهائم يوم القيامة، ويُقْتَصُّ بعضها من بعض، ثم يقول الله لها: "كوني تراباً"، فعند ذلك يقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}. وكذلك بنو آدم، يقام القصاص بينهم يوم القيامة، فيُقْتَصُّ من المظلومين للظلمة، ولا يُترك من حقوقهم شيء إلاَّ إذا سمحوا بها، أما النوع الثاني وهو ظلم العبد لنفسه بما دون الشرك فهذا تحت مشيئة الله، إن شاء الله غفره، وإن شاء عذب به، كما يقول أهل العلم: الدواوين ثلاثة: ديوان لا يغفره الله، وهو الشرك. وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وهو مظالم العباد. وديوان تحت المشيئة إن شاء الله غفر لصاحبه، وإن شاء عذبه، وهو الذنوب والمعاصي التي دون الشرك. فهذا معنى قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} يعني: بشرك، هذا هو الذي فسَّرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها لما نزلت هذه الآية شقت على الصحابة، قالوا: يا رسول الله أيُّنا لم يظلم نفسه؟، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس بالذي تَعْنُون، إنه الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ} هل المراد في: الأمن المطلق يعني: أنهم لا يعذبون أبداً، أو المراد مطلق الأمن أي أنهم وإن عذبوا فلابد أن يدخلوا الجنة؟، الآية محتملة، وعلى كلا التفسيرين فالآية تدلُّ على فضل التّوحيد، وأنه أمن من العذاب إما مطلقاً وإما يُؤَمّن من العذاب المؤبّد، فالآية فيها فضل التّوحيد، وأنه يمنح الله لأصحابه الأمن على حسب درجاتهم في التّوحيد والسلامة من الذنوب والمعاصي، ودلّت الآية بمفهومها على أن من أشرك بالله وخلط توحيده بشرك أنه ليس له أمن- والعياذ بالله، فهذا فيه خطر الشرك، وأن من عبد الله، ولكنه يدعو ج / 1 ص -59- مع الله غيره، ويستغيث بالموتى، ويذبح للقبور، ويطوف بالأضرحة مستعيناً بها، فهذا خلط إيمانه بشرك، وليس له أمن أبداً حتى يتوب إلى الله عزّ وجلّ، ويُخلص التّوحيد، فليس المقصود أن الإنسان يعبد الله فقط، بل لابد- أيضاً- أن يتجنّب الشرك، وإلاَّ فالمشركون لهم عبادات، كانوا يحجون، وكانوا يتصدقون، وكانوا يطعمون الأضياف، وكانوا يُكرمون الجيران، ولهم أعمال لكنها ليست مبنيّة على التّوحيد، فهي هباء منثور، لا تنفعهم شيئاً يوم القيامة، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً(23)}، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} لا يثبّت الأعمال إلاَّ التّوحيد، ما دام هناك شرك فالأعمال لا قيمة لها، مهما أتعب الإنسان نفسه فيها، وهذا يدلُّنا على فضل التّوحيد، ومكانة التّوحيد، وأنه مُؤَمّن من عذاب الله عزّ وجلّ بخلاف المشرك فإنه لا أمن له من عذاب الله، والأمن يكون في الدنيا، كالأمن من الأعداء، والأمن من الحروب، تعرفون قيمته، وخطر الخوف، هذا في الدنيا فكيف بالأمن في الآخرة من النار؟، النار أشد من الحروب، وأشد من الأعداء، وأشد من كل شيء، إذا كان الأمن في الدنيا هذه قيمته، وهذه منافعه، فكيف بالأمن في الآخرة. ثم قال: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} هذه مزيّة ثانية من مزايا التّوحيد، وهي حصول الهداية للموحّدين المخلصين لله، أنهم في الدنيا يكونون مهتدين في أعمالهم، يعبدون الله على بصيرة، سالمين من الشرك في الأعمال، وسالمين من البدع والخرافات، بخلاف أهل الشرك، فإنهم غير مهتدين في الدنيا، بل هم ضالون، لأنهم يعبدون الله، ويخلطون العبادة بالشرك، ويعبدون غير الله، فهم ضالون لا مهتدون، إذاً الموحّد يعطيه الله مزيتين: المزيّة الأولى: الأمن من العذاب. المزيّة الثانية: الهداية من الضلال. بحيث أنه يعبد الله على بصيرة وعلى نور وبرهان، متبعاً للسنّة متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم يمشي على الجادة الصحيحة، بخلاف المشرك فإنه يمشي على غير هدى، وعلى غير دين، وعلى غير برهان، يتعب نفسه في هذه الدنيا، وهو يتقدم إلى النار، ويمشي ج / 1 ص -60- عن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" أخرجاه. إلى النار، كما قال- تعالى- في الآية الأخرى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} لا يضل في الدنيا عن الحق، ولا يشقى في الآخرة، وهذا ضمان من الله سبحانه وتعالى لمن اتبع القرآن أنه لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة. قوله: " من شهد أن لا إله إلاَّ الله"، يعني: نطق بالشهادة عارفاً لمعناها، عاملاً بمقتضاها، موقناً بها، لأنه لا يكفي التلفظ، بالشهادة من غير معرفة لمعناها، كذلك النطق بالشهادة مع معرفة بمعناها، لكن لا يعمل بمقتضاها، هذا -أيضاً- لا يكفي، بل لابد من النطق والعلم والعمل بمقتضى هذه الكلمة العظيمة، فليست هي مجرد لفظ يردَّدُ على اللسان من غير فهم لمعناها، ولا يكفي العلم بمعناها، بل لابد من العمل بمقتضاها، بأن يُفرد الله بالعبادة، ويترك عبادة ما سواه، هذا معنى أشهد أن لا إله إلاَّ الله فإذا لم ينطق بها فإنه لا يحكم بإسلامه، ولو كان يعرفها بقلبه، ولو كان يعبد الله في أعماله، لكنه أبى أن ينطق بالشهادة، فهذا لا يُعتبر مسلماً، حتى ينطق بالشهادة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلاَّ الله" وكذلك من نطق بها بلسانه ولكنه لا يعتقدها في قلبه، هذا -أيضاً- ليس بمسلم، بل هو منافق، فالمنافقون يقولون: لا إله إلاَّ الله، وهم في الدرك الأسفل من النار، لماذا؟ لأنهم لا يعتقدون معناها، وعُبّاد القبور اليوم يقولون لا إله إلاَّ الله بألسنتهم، لكنهم لا يعملون بمقتضاها، بل يعبدون القبور والأضرحة، ويدعون الأولياء والصالحين، فهم أقرُّوا بها لفظاً، وخالفوها معنىً، فالمشركون جحدوا لفظها ومعناها، والقبوريُّون أقرُّوا بلفظها وجحدوا معناها، هم سواء لا فرق بينهم أبداً، كذلك المنافقون تلفّظوا بها، لكنهم لا يؤمنون بها في قلوبهم -أيضاً- هم سواء، بل هم شر من الكفّار، قال- تعالى-: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ ج / 1 ص -61- تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} وهم ينطقون، ويقولون: لا إله إلاَّ الله، ويصلّون، ويصومون، لكن لما كانوا مُنكرين بقلوبهم، غير معترفين بها في قلوبهم، وإنما قالوها لأجل المصالح الدنيوية فقط، صاروا- والعياذ بالله- في الدرك الأسفل، من النار. فالحاصل أنها كلمة عظيمة، لكن لابد أن يتوفّر.أولاً: النطق بها. وثانياً: العلم بمعناها. وثالثاً: العمل بمقتضاها. ومعنى: {لا إله إلاَّ الله} نفي العبادة عما سوى الله، وإثباتها لله سبحانه وتعالى، يعني: إبطال عبادة كل ما سوى الله، وإثبات العبادة لله، فقوله: {لاَ إله}: هذا إبطال لجميع المعبودات من دون الله عزّ وجلّ، وإنكار لها {إلاَّ اللهَ}: هذا إثبات للعبادة لله سبحانه وتعالى، فعلى هذا معنى لا إله إلاَّ الله: لا معبود بحق- أو لا معبود حقاً- إلاَّ الله سبحانه وتعالى، أما لو قلت: معناها: لا معبود إلاَّ الله، نقول: هذا ضلال عظيم، لأنك أدخلت كل المعبودات وجعلتها هي الله، جعلت الأصنام والأضرحة والكواكب وكل ما عُبد من دون الله هو الله، وهذا غلط، وهو مذهب أهل وحدة الوجود. فلابد أن تأتي بكلمة حق، لأن المعبودات على قسمين: معبود بحق، ومعبود بالباطل، المعبود بحق هو الله، والمعبود بالباطل هو ما سوى الله من كل المعبودات، قال- تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}، هذا معنى: لا إله إلاَّ الله. وقوله: "وحده لا شريك له" كلمتان جيء بهما للتأكيد، وحده: تأكيد للإثبات، لا شريك له: تأكيد للنّفي، فهما كلمتان مؤكِّدتان للا إله إلاَّ الله، لما فيها من النفي والإثبات. وهذه الكلمة كلمة عظيمة، جاءت في القرآن بلفظها وجاءت بمعناها، كما في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ(35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ(36)} وجاءت بمعناها مثل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} فقوله: ج / 1 ص -62- {إِنَّنِي بَرَاءٌ} هذا هو معنى النّفي: لا إله، {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} هذا هو معنى الإثبات: إلاَّ الله، فهي كلمة عظيمة. وقوله: "وأن محمداً عبده ورسوله" هذا يدل على أنه لا يكفيه شهادة أن لا إله إلاَّ الله، بل لابد معها من شهادة أن محمداً رسول الله، فلو شهد أن لا إله إلاَّ الله، وأبى أن يشهد أن محمداً رسول الله؛ لم يدخل في الإسلام، لأن هذه قرينة هذه، وكما في الأذان، وفي الإقامة، وفي الخطب، وإذا جاءت لا إله إلاَّ الله وحدها، تدخل فيها شهادة أن محمداً رسول الله ضِمناً. وقوله:"وأن محمداً عبده ورسوله" هذا نفي للإفراط والتفريط، عبده هذا نفي للإفراط والغلو في حق الرسول صلى الله عليه وسلم بجعل شيء له من الربوبية، كما يعتقد المخرِّفون، فالرسول صلى الله عليه وسلم عبدٌ ليس له من الرُّبوبية شيء، وقد سمَّاه الله عبداً في أشرف المقامات، في مقام الوحي: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} وفي مقام الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وفي مقام الإنزال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً(1)} وفي مقام التحدي: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} فهو عبد لا يُعبد- عليه الصلاة والسلام-، ورسول لا يُكذّب صلى الله عليه وسلم بل يُطاع ويُتبع، فليس له من العبادة شيء، فالذين يطلبون منه المدد، ويطلبون منه النصر على الأعداء، ويطلبون منه قضاء الحاجات، وتفريج الكُرُبات، هؤلاء رفعوه من العبودية إلى الألوهية- والعياذ بالله-، ما أقرُّوا أنه عبد الله، بل جعلوه شريكاً لله في ربوبيّته وإلهيّته، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تُطْرُوني كما أَطْرَت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله"، يقول الله سبحانه وتعالى له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ(128)}، ويقول سبحانه: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(188)}، ويقول سبحانه: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً(21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ}. فقوله: "ورسوله " هذا رد على أهل التفريط والتساهل في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم الخلق- عليه الصلاة والسلام-، وأشرف الخلق، وأفضل الرسل، فلا يُتساهل في حقه صلى الله عليه وسلم لكن ليس معنى هذا أننا نغلوا فيه، ونجعل له شيئاً من الربوبية، فلا إفراط ولا تفريط. وقوله صلى الله عليه وسلم: "وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه" عيسى -عليه الصلاة والسلام- هو عيسى بن مريم، خلقه الله من أم بلا والد، وذلك ليُظهر للعباد قدرته سبحانه على كل شيء، وقصة مريم عليها السلام ذكرها الله في القرآن، من نشأتها: أنها من بيت طيّب، وبيت عبادة، وأن والدها توفي وهي صغيرة، وكَفَلَها زكريا نبي الله- عليه الصلاة والسلام-، لأن خالتها كانت زوجة زكريا {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} يعني: أم مريم، {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} نذرت حَمْلَها أن يكون خادماً لبيت المقدس، الذي هو أحد المساجد الثلاثة في الأرض، {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} كانت ترجو أن يكون ذكراً، لأن الذكر هو الذي يستطيع القيام بهذه المهمة العظيمة، {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} لأنها قالت هذا من باب الدعاء، لا من باب إخبار الله عزّ وجلّ أنها وضعتها، وقرئت الآية: {والله أعلم بما وَضَعْتُ}، هذا لبيان أن الله سبحانه وتعالى عالم بكل شيء، وأنه لا يَخفى عليه هذه المولودة، وليست امرأة عمران تُخبر ربها عزّ وجلّ، وإنما تدعوه {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} بمعنى: أن الذكر أفضل من الأنثى في القيام بالمهمات، فالذكر يستطيع ما لا تستطيعه الأنثى، لما جعل الله في خِلقة الذكر من الامتياز عن خِلقة الأنثى، وهذا من حيث الجنس، ج / 1 ص -64- لا من حيث الأفراد، قد يكون في أفراد الإناث من هو خير من كثير من الذكور، أما من حيث الجنس فالذكور أفضل من الإناث، لأنهم يستطيعون من الأعمال ما لا تستطيعه الإناث، ولأن عقولهم أوفى من عقول الإناث، بلا شك، {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ* فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} يعني: تقبل مريم: {بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً}، نشأت في العبادة والطاعة {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} وفي قراءة: {كَفَلَها} لأن بني إسرائيل اختصموا في مريم أيهم يكفلها، لأنها بنت عالمهم وحَبْرِهِمْ وشيخهم، فهم تنافسوا أيهم يكفل مريم، كما قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} عملوا القُرعة أيهم يكفل مريم {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} يعني: أنك يا محمد لم تشهد هذه القرون الماضية وما حصل فيها، ولكن هذا من آيات الله، ومن معجزات هذا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أخبره بما جرى كأنه حاضر، وحتى إن بني إسرائيل انبهروا لأنه جاءهم بمعلومات هم لا يعرفونها من أمورهم، وهي مذكورة في كتبهم وتواريخهم، ويعرفها علماؤهم وأحبارهم، فيكون هذا الرسول يحدث بما جرى من قرون طويلة، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم لأنه ليس من عنده، فهو أُمّي لا يقرأ ولا يكتب، وإنما هو من عند الله عزّ وجلّ، كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} وهذا من العجائب، أنه آخر ما نزل من الكتب ومع هذا يقصُّ أخبار الماضين كما وقعت، وهذا من أعظم معجزات هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، فوقعت القُرعة لزكريا عليه السلام، وكانت خالتها- أخت أمها- تحته، فكَفَلَها زكريا {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} يعني: المكان الذي تصلي فيه، لأن المحراب معناه: المكان الذي يصلى فيه، فليس المحراب خاصاً بالزاوية التي تكون في المسجد الآن {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} هذا من كرامات الأولياء، كان يجد عندها في الشتاء فاكهة الصيف، ويجد عندها في الصيف فاكهة الشتاء، كان هذا يحضره ربه لها إكراماً لها، وهي تصلي في هذا المكان، ولا يتصل بها أحد من الخلق، ثم مع هذا يجد عندها نبي الله هذا الرزق، ثم ذكر قصة زكريا ودعائه لربه، ثم ذكر بقية قصة مريم وحملهما بعيسى {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ ج / 1 ص -65- وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ(42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}، هذه هي المعجزة، يعني: كيف علمت: أيها الرسول وأنت آخر الرسل، و- أيضاً- أنت أُمّي لا تقرأ ولا تكتب، هذا من أعظم المعجزات لك {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} يعني ما الذي أدراك؟، لولا الله سبحانه، وهذا من أنباء الغيب، يعني: من الأخبار الماضية، ويطلق الغيب على المستقبل- أيضاً-، والغيب لا يعلمه إلاَّ الله، الماضي والمستقبل أو من علّمه الله من رسله، وقوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ(46)} هذه بَشَارة لها، لكنها انبهرت كيف يحصل لها ولد وهي لم تكن تزوجت: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ} إلى آخر الآيات. هذا ما ذكره الله من قصة نشأة مريم، ونشأة ابنها عيسى عليه السلام، وهذا البيت الطاهر العظيم، ولهذا لما قرأ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه هذه الآيات التي في بيان نشأة عيسى عليه السلام عند النجاشي بحضرة البطارقة وكبار النصارى؛ اعترف النجاشي بأن هذا وحي من الله سبحانه وتعالى، وقال: "هذا هو والذي أنزل على موسى يخرج من مشكاة واحدة"، فأسلم النجاشي رحمه الله، لما سمع ما ذكره الله من نبأ عيسى عليه السلام، وتفاصيل ولادته، لأنه لا يمكن أن يكون من عند محمد صلى الله عليه وسلم. فقوله صلى الله عليه وسلم: "وأن عيسى عبد الله ورسوله" هذا فيه ردٌّ على اليهود وردٌّ على النصارى. أما اليهود فلأنهم جحدوا رسالة عيسى عليه السلام، ورموه بالبُهْت- والعياذ بالله- وقالوا: إنه ولد بغي، قبّحهم الله وأخزاهم، وحاولوا قتله، وسلّمه الله منهم ورفعه إليه، وألقى عليهم الخزي. وفيه ردٌّ على النصارى الذين لم يقرِّوا بأن عيسى عبد الله، وإنما ادعوا أنه ابن الله، أو أنه ثالث ثلاثة، أو أنه هو الله، ثلاث مقالات لهم، ذكرها الله جل ج / 1 ص -66- وعلا في القرآن: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} وفي قوله تعالى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} ولا يزالون يقولون هذا إلى الآن في إذاعتهم يرددون هذه الأقوال الكفرية الشنيعة، ولا يزالون يقولون: إن عيسى هو ابن الله، وأنه مخلِّص، ويرددون عقائد النصارى السابقة، المهم أنهم لا يزالون على هذه الفِرية: أن عيسى ابن الله، تعالى الله عما يقولون، وأنه الإله المخلِّص، وأنه مَكَّن من نفسه للقتل، وقتلوه وصلبوه من أجل أن يخلِّص العباد من الخطيئة التي ارتكبها آدم عليه السلام، كما يقولون، قبْحهم الله، فيسمونه المخلِّص ويسمون هذا العمل الفداء، وأن عيسى فعل هذا من باب الفداء لبني آدم، ليخلِّصهم من إثم العقوبة. وقوله: "وكلمته ألقاها إلى مريم"، الكلمة قوله تعالى لعيسى: {كُن}، لأن عيسى وُجد من غير أب، بل وُجد بكلمة {كُن} وليس هو الكلمة، وإنما سُمِّيَ بالكلمة لأنه خُلق بها، بخلاف بقية البشر فإنهم يُخلقون من أب وأم، وكما قال في آدم: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، فإذا كنتم تعجبون من كون عيسى وُلد من أم بلا أب، ووجد على أثر الكلمة {كُن} فكيف لا تعجبون من خلق آدم من تراب بدون أم ولا أب، بل بكلمة {كُن}، ليس في هذا غرابة على قدرة الله سبحانه وتعالى. وقوله: "وروح منه" ليس المراد أن عيسى روح من الله، بمعنى أنه من ذات الله، وإنما من روحه المخلوق، لأن الله خلق الأرواح جميعاً، ومنها روح عيسى- عليه الصلاة والسلام-، فكلمة "منه" لابتداء الغاية، يعني كلمة مبتدأة من الله، وروح مبتدأة من الله، كما تقول مثلاً هذا الرزق من الله، معناه أن الله هو الذي يسّر هذا الشيء، وهو الذي هيّأه وخلقه، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} معناه: أنه حاصل ونازل وكائن من الله سبحانه وتعالى، فـ "مِنْ" لابتداء الغاية، وقد تسأل وتقول كل أرواح بني آدم من الله على هذا التفسير، فما وجه اختصاص عيسى بذلك نقول: نعم كل أرواح بني آدم من الله، لكن عيسى عليه السلام خُصَّ بذلك لأنه من غير أب، بل هو روح من دون أب. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#6
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب فضل التّوحيد وما يكفر من الذنوب. ج / 1 ص -67- وقوله: "والجنة حق، والنار حق" يعني: ومن شهد أن الجنة -وهي دار المتقين-، والنار- دار الكافرين-؛ كل منهما حق، وأنهما داران موجودتان مخلوقتان، وباقيتان لا تفنيان أبداً، الجنة للمتقين، والنار للكافرين، فالدُّور- كما ذكر ابن القيّم- ثلاث: الأولى: دار الدنيا، وهي دار العمل والاكتساب. الدار الثانية: دار البرزخ، وهي دار القبور، برزخ بين الدنيا والآخرة، والبرزخ معناه الفاصل، والحياة في القبور، تسمى بالحياة البرزخيّة، وفيها عجائب، فيها نعيم أو عذاب، إما حفرة من حفر النار، أو روضة من رياض الجنة، ويبقى الأموات في قبورهم إلى أن يشاء الله جل وعلا بَعْثَهُم وحَشْرَهُم للحساب والجزاء، وهذه الدار، مَحَطَّة انتظار. والثالثة: دار الجزاء، التي هي يوم القيامة، الجنة أو النار، وهذه الدار لا تفنى ولا تبيد أبداً، وإذا آمن الإنسان بهاتين الدارين، فإن ذلك يحمله على العمل الصالح والتوبة من الذنوب والسيئات، فإذا تيقّن أن هناك جنة، وأن هذه الجنة لا يدخلها إلاَّ بالأعمال الصالحة، فإنه يعمل، وإذا تيقن أن هناك ناراً، وأنه يدخلها بالمعاصي والكفر والسيئات، فإنه يحذر من ذلك ويتوب إلى الله عزّ وجلّ، فالإيمان باليوم الآخر والجنة والنار يحمل العبد على العمل الصالح والتوبة من الذنوب والسيئات، أما الذي لا يؤمن بالآخرة، فهذا يعمل ما تُمليه عليه شهواته، وما ترغبه نفسه ولا يحاسب نفسه أبداً، لأنه لا يؤمن ببعث ولا بحساب، تعالى الله عما يقوله الظالمون والكافرون علواً كبيراً، {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} ينكرون البعث، {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ(35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ(36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ(37)}، هكذا يقولون، لأن الكفار الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينكرون البعث والنشور، ومثلهم الملاحدة والدهريون الذين لا يؤمنون برب ولا ببعث ولا بحساب، ومثلهم الفلاسفة الذين يقولون: "إن هذه الأمور إنما هي من باب التخييلات من أجل مصالح الناس"، فالرسل أو الأنبياء يقولون: هذه الأشياء من باب التخييلات من أجل مصالح ج / 1 ص -68- الناس، وإلاَّ ليس هناك جنة، وليس هناك نار، وليس هناك بعث، وإنما يخيِّلون هذه الأشياء، من باب الكذب للمصلحة، من أجل أن الناس يستقيمون، ويتركون الأعمال الدنيئة، ويعملون الأعمال الطيبة، وإن لم يكن هناك حقيقة للجنة والنار. وهؤلاء يسمّون (المخيّلة)، وهم فئة من الفلاسفة؛ ومن الطوائف الباطنية من ينكر الجنة والنار، ويقولون: هما عبارة عن رموز فقط، وليس هناك حقائق، فالكَفَرَة على اختلاف أصنافهم: من مشركيّة، ودهريّة، وفلاسفة، وباطنية، كلهم لا يؤمنون باليوم الآخر، ولهذا توعد الله سبحانه وتعالى هؤلاء بقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ(115)} يعني: لو كان ليس هناك بعث ولا حساب، صار خلق الله لهذه المخلوقات في باب العبث، لأنها لا تؤدِّي إلى غاية ولا نتيجة، فالظالم يظلم في هذه الدنيا، والقاتل يقتل، والعاصي يعصي، والمطيع يُتعبُ نفسه بالطاعة والعبادة ولا يلقى جزاء- تعالى الله عما يقولون، أما إذا كان هناك بعث ونشور وجزاء على الأعمال. المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، كان خلق الخلق إذاً لحكمة وغاية، وليس عبثاً، فهناك من الظَلَمة من يموت وهو ما جوزي في هذه الدنيا، وهناك من الصالحين من يموت وهو فقير مريض، لماذا؟ لأن الجزاء في الآخرة، هؤلاء ينتظرهم جزاؤهم في الآخرة. هذا الكافر، وهذا الظالم، وهذا الطاغية، وهذا الجبّار، ينتظرهم جزاؤهم في الآخرة، وهذا المؤمن التقي الصالح الذي مات بالمرض والفقر هذا ينتظره جزاؤه في الآخرة في الجنّة، لأن الله ما خلق الخلق وأجرى هذه الأمور عبثاً، لابد لها من نتيجة، ولابد لها من غاية تنتهي إليها: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ(115)}، {أَيَحْسَبُ الإنسان أَنْ يُتْرَكَ سُدىً(36)} يعني: لا يُؤمر، ولا يُنهى، ولا يُبعث، ولا يُجازى، يأكل ويشرب ويمكر ويفسق وينتهي أمره إلى لا شيء؟، أو يتقي ويطيع ويتعب نفسه بالعبادة وينتهي أمره إلى لا شيء؟، فهذا وجه النص على الإيمان بالجنة والنار، لأن الإيمان بهما يحدو على العمل الصالح، والتوبة من العمل السيئ، ولأن البعث والحساب أنكره كثير من الطوائف الكافرة، فلابد من الإيمان به، والتصديق به، والإقرار به، وهو أحد أركان ا لإيمان الستة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ج / 1 ص -69- والإيمان بالقدر خيره وشره، أحياناً نجد أن الله يذكر الأركان الستة، وأحياناً يذكر أربعة، وأحياناً يذكر اثنين فقط: الإيمان بالله واليوم الآخر: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، ذكر الإيمان بالله وذكر الإيمان باليوم الآخر، لأن الإيمان بالله وباليوم الآخر يلزم منه الإيمان ببقيّة الأركان. وقد ذكر في هذا الحديث البراءة من الملل الثلاث: "ملة اليهود؛ وملة النصارى، وملة المشركين" فهو حديث عظيم. فقوله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله" هذا فيه البراءة من دين المشركين. وفي قوله: "وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم" هذا فيه البراءة من دين اليهود والنصارى، لأن اليهود كفروا بعيسى، والنصارى غلوا فيه، حتى جعلوه ربًّا، وأيضاً اليهود والنصارى كل منهم كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. فهذا فيه البراءة من الملل الثلاث: ملة المشركين، وذلك بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والبراءة من ملة اليهود والنصارى، وذلك في شهادة أن عيسى عبد الله ورسوله. والشاهد من هذا الحديث للباب: "باب فضل التّوحيد وما يكفر من الذنوب " أن الرسول قال في آخره: "أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" هذا وعد من الله سبحانه وتعالى لأهل التّوحيد بأن الله يدخلهم الجنة، وأهل التّوحيد هم: الذين شهدوا أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، هؤلاء هم أهل التّوحيد، وعدهم الله أن يدخلوا الجنة، فهذا فيه فضل التّوحيد، وأنه سبب لدخول الجنة. لكن ما معنى: "على ما كان من العمل"؟، في ذلك قولان لأهل العلم: القول الأول: أدخله الله على ما كان من العمل، يعني: ولو كان له سيئات دون الشرك فإن ذلك لا يحول بينه وبين دخول الجنة، إما من أول وَهْلَة، وإما في النهاية، ففيه: فضل التّوحيد، وأنه يكفر الذنوب بإذن الله أو يمنع من الخلود في النار. ج / 1 ص -70- والمعنى الثاني: أدخله الله الجنة على ما كان من العمل، أي: أنه يدخل الجنة، فتكون منزلته فيها بحسب عمله، لأن أهل الجنة يتفاوتون في منازلهم بحسب أعمالهم، فمنهم من هو في أعلى الجنة، ومنهم من هو دون ذلك، فأهل الجنة يتفاضلون في منازلهم، والجنة درجات، بعضها فوق بعض، كما أن النار دركات بعضها تحت بعض، والنار أسفل سافلين، أما الجنة فإنها أعلى عِلِّيِّين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن في الجنة مائة درجة، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله"، دلّ على أن الجنة درجات، وأن الناس ينزلون منها فيها بحسب أعمالهم، منهم من يُرى منزله كالكوكب الدُّرَّي الغابر في المشرق أو المغرب لبعد ما بينهم من التفاضل، ومنهم من يكون دون ذلك. وفي هذا الحديث الرد على سائر الطوائف الكفريّة، ففيه ردٌّ على المشركين الوثنيين، وفيه ردٌّ على اليهود، وفيه ردٌّ على النصارى. وفي الحديث -أيضاً-: وجوب الإيمان بجميع الرسل- عليهم الصلاة والسلام-، لأنه نص على الإيمان بعيسى وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك إشارة إلى أنه يجب الإيمان بجميع الرسل كما في قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}، فلابد من الإيمان بجميع الرسل - عليهم الصلاة والسلام-، ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بالجميع، فاليهود الذين يزعمون أنهم آمنوا بموسى قد كفروا بموسى، لأنهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم كفروا بموسى، لأن موسى اخبر ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم كما هو موجود في التوراة التي جاء بها موسى عليه السلام، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}- كذلك عيسى- عليه السلام أخبر بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمر بالإيمان به {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}، فعيسى عليه السلام بشّر بني إسرائيل بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا معناه: أنه أمرهم بالإيمان به، فالنصارى لما لم يؤمنوا ج / 1 ص -71- ولهما في حديث عتبان: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلاَّ الله؛ يبتغي بذلك وجه الله". بمحمد صلى الله عليه وسلم كفروا بعيسى، لأنه بشرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فمعنى هذا: أنهم كذبوا نبيّهم عيسى الذي يزعمون أنهم آمنوا به، والرسل كلهم يصدِّق بعضهم بعضاً، ويؤمن بعضهم ببعض، فالرسل- عليهم الصلاة والسلام- سلسلة واحدة من أولهم إلى آخرهم، أولهم يُبشر بلاحقهم ومتأخرهم، وآخرهم يصدِّق بأولهم ويؤمن بأولهم، فهم سلسلة واحدة، ولهذا يقول جل وعلا في سورة الشعراء: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ(105)} مع أنهم ما كذبوا إلاَّ نبيهم فقط، لكن لما كذبوا نبيهم كذبوا جميع المرسلين، كما قال تعالى: { )إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً}. قوله: "أخرجاه" أي: "البخاري ومسلم في صحيحيهما. وقوله: "ولهما" أي: البخاري ومسلم. "في حديث عتبان" هو عتبان بن مالك الأنصاري، صحابي مشهور رضي الله عنه. "حرّم على النار" التحريم: المنع، أي: منعه من دخول النار، أو منع النار أن تمسه. "من قال: لا إله إلاَّ الله" أي: نطق بها بلسانه وأعلنها. "يبتغي بذلك" أي: بقوله لها ونطقه بها. "وجه الله" أي: مخلصاً له بها، لم يقلها رياءً ولا سمعةً ولا نفاقاً، بل يعتقد ما دلّت عليه من إفراد الله بالعبادة، وترك عبادة ما سواه، واعتقاد بطلانها، والبراءة منها ومن أهلها. فدل هذا الحديث: على أنه لا يكفي مجرّد النطق بلا إله إلاَّ الله من غير معرفة لمعناها، وعمل بمقتضاها، واعتقاد لمدلولها. ج / 1 ص -72- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال موسى عليه السلام: يا رب، علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى: لا إله إلاَّ الله. قال: يا رب، كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلاَّ الله في كفة؛ مالت بهن لا إله إلاَّ الله". رواه ابن حبان والحاكم، وصححه. قوله: "وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه " هو سَعْدُ بن مالك بن سنان الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل، وأبوه صحابي. "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال موسى: يا رب، علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به" طلب من ربه أن يعلمه كلاماً يعظّمه به، ويطلب منه به حاجاته، ويتوسل به إليه. "قل يا موسى: لا إله إلاَّ الله" أي: لا معبود بحق إلاَّ الله. "قال" أي: موسى، "يا رب، كل عبادك يقولون هذا" أي: وإنما أريد شيئاً تخصني به من بين عموم عبادك. "قال" أي: الرب سبحانه وتعالى مبيناً لموسى وغيره فضل هذه الكلمة على غيرها من ألفاظ الذكر، "لو أن السماوات السبع" أي: الطباق، "وعامرهن" أي: من فيهن من العمّار "غيري" أي: غير الله سبحانه، لأنه سبحانه في السماء. ففيه دليل على إثبات العلو "والأرضين السبع" أي: ومن فيهن من السكان. وفيه أن الأرض سبع طباق كالسماء، "في كِفَّة" أي: إحدى كفتي الميزان، "ولا إله إلاَّ الله في كفة" أي: في الكفة الأخرى، "مالت بهن لا إله إلاَّ الله" أي: رجحت بالسماوات السبع ومن فيهن غير الله، وبالأرضين السبع ومن فيهن، وذلك لما اشتملت عليه هذه الكلمة من نفي عبادة غير الله، وإثبات العبادة لله، وتقرير التّوحيد، وإبطال الشرك. ففي هذا الحديث: فضل لا إله إلاَّ الله، وأنها أفضل الذكر، وأنه لابد من الإتيان بها كلها، وما فيها من النفي والإثبات، وأنه لا يكفي الإتيان بلفظ الجلالة (الله) أو لفظ (هو هو) كما تفعله الصوفية الضلاَّل. وفيه أن الذكر وغيره من أنواع العبادة توقيفي، لأن موسى عليه السلام طلب من ربه أن يعلمه شيئاً يذكره به، فيه أن لا إله إلاَّ الله ذكر ودعاء. ج / 1 ص -73- وللترمذي - وحسنه- عن أنس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً؛ لأتيتك بقرابها مغفرة". قوله "وللترمذي وحسّنه" أي: رواه في سننه، وقال: إنه حديث حسن. "عن أنس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا" قراب الأرض- بضم القاف- : ملؤها أو ما يقاربه، "لأتيتك بقرابها مغفرة". فيه: أن مغفرة الذنوب مشروطة بتجنب الشرك، وفيه فضل التّوحيد، وفيه الرد على الخوارج الذين يكفّرون بالكبائر، وفيه سعة فضل الله ورحمته. وبالله التوفيق. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#7
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب من حقق التّوحيد دخل الجنة بغير حساب ج / 1 ص -74- [الباب الثالث:] * باب من حقق التّوحيد دخل الجنة بغير حساب هذا هو الباب الثالث من أبواب هذا الكتاب المبارك (كتاب التّوحيد) وهو: "باب من حقق التّوحيد دخل الجنة بغير حساب". ولما ذكر الشيخ رحمه الله في الباب الأول معنى التّوحيد، وحقيقته من الكتاب والسنّة، وليس من كلام البشر الذين يؤلفون في العقائد، وكلٌّ يفسر التَّوحيد على حسب مذهبه، من المعتزلة، والأشاعرة، وعلماء الكلام، أما الشيخ رحمه الله فإنه فسَّر التّوحيد من الكتاب والسنة، بالآيات والأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر الباب الثاني وهو فضل هذا التّوحيد، الذي جاء به الكتاب والسنّة، وما يكفِّر من الذنوب، ثم جاء هذا الباب الثالث من حقّق هذا التّوحيد دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب. وتحقيق التّوحيد: تصفيته من الشرك والبدع والذنوب. فإن قيل: (باب فضل التّوحيد)، و (باب من حقّق التّوحيد) ما الفرق بينهما؟": الفرق: فضل التّوحيد في حق الموحّد الذي ليس عنده شرك، ولكن قد يكون عنده بعض المعاصي التي تكفر بالتّوحيد. أما هذا الباب فهو أعلى من الباب الذي قبله: "من حقق التوحيد" يعني: أنه لم يشرك بالله شيئاً، ولم يكن عنده شيء من المعاصي، هذا تحقيق التّوحيد، ومن بلغ هذه المرتبة دخل الجنة بلا حساب، أما من كان في المرتبة التي قبلها، وهو الموحّد الذي عنده ذنوب فهذا قد يُغفر له، وقد يعذب بالنار، ثم يُخرج منها، لأن الموحّدين على ثلاث طبقات: كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32) جَنَّاتُ عَدْنٍ} الآية. الطبقة الأولى: الذين سلموا من الشرك، وقد لا يسلمون من الذنوب التي هي دون الشرك وهم الظالمون لأنفسهم وهم معرضون للوعيد. الطبقة الثانية: المقتصدون الذين فعلوا الواجبات وتركوا المحرمات وقد ج / 1 ص -75- وقول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(120)}. يفعلون بعض المكروهات ويتركون بعض المستحبات وهم الأبرار. الطبقة الثالثة: التي سَلِمَت من الشرك الأكبر والأصغر ومن البدع وتركت المحرمات والمكروهات وبعض المباحات واجتهدت في الطاعات من واجبات ومستحبات وهؤلاء هم السابقون بالخيرات ومن كان بهذه المرتبة دخل الجنة بلا حساب ولا عذاب. قال: "وقول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} إبراهيم عليه السلام هو إمام المحققين للتوحيد، بعثه الله عزّ وجلّ لما غطّى الشرك على وجه الأرض في وقته، وهو وقت النَّمرود الكافر الملحد الذي ادعى الربوبية، وكان قومه يعبدون الكواكب، ويبنون لها الهياكل ويُسَمَّوْن بالصابئة، وهم في أرض بابل من العراق، ثم حصل بينه وبينهم مصادمة ذكرها الله تعالى في القرآن، انتهى بهجرة إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- من أرض العراق إلى أرض الشام وإلى الحجاز، حيث جعل قسماً من ذريته في الشام وهم إسحاق وذرّيته، أولاد زوجه ي سارة، وذهب بإسماعيل بن سُرِّيته هاجر وأمه إلى مكة، أرض الحرم، بأمر الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} أي: مهاجر من أرض الكفر والشرك إلى أرض التّوحيد بالشام والحجاز، تلك المواطن المباركة، التي صار فيها بيت المقدس، وفيها البيت العتيق أول بيت وُضع للناس، وهو الكعبة المشرفة بمكة، فأورثه الله هذه البلاد وهذه البيوت إكراماً له ولذريّته- عليه الصلاة والسلام-، عوّضه الله أرضاً خيراً من أرضه، وقد وصفه الله تعالى في هذه الآية بأربع صفات، كلها من تحقيق التّوحيد: الصفة الأولى: {كَانَ أُمَّةً}، والأمة معناها: القدوة في الخير، فهو إمامٌ للناس، كما قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} يعني: قدوة لأهل الخير إلى أن تقوم الساعة، فقوله أُمّة يعني: إماماً وقدوة، لأن الأمة لها ثلاث إطلاقات في القرآن، هذا أحدها؛ أُمَّة بمعنى قدوة، كما في هذه الآية. الإطلاق الثاني: الأمة بمعنى: مقدار من الزمان {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ ج / 1 ص -76- أُمَّةٍ} أي: بعد زمن وبعد مدة. وتطلق الأمة ويراد بها الجماعة من الناس {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} يعني: جماعة، لأن دين الإسلام دين جماعة، لا دين تفرّق واختلاف، فليس فيه تفرّق وأحزاب، وجماعات وجمعيات متفرقة {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(105)}، فالمطلوب من المسلمين أن يكونوا أمة واحدة، على منهج واحد، وعلى دين واحد، وعلى ملة واحدة، كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضاً، وكالجسد إذا اشتكى منه عضواً تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ولا يكون ذلك إلاَّ بعقيدة التّوحيد، أما التفرّق والاختلاف والتناحر والتهاجر والتباغض والتنابُذ بين الجماعات وبين الفرق فهذا ليس من دين الإسلام وهذا يكون مع فساد العقيدة: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(159)} نعم قد يوجد الاختلاف في الاجتهاد، ولكن هذا الاختلاف يحسم بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالمخطئ يرجع، والمصيب يثبت قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}. الصفة الثانية لإبراهيم أنه:{قَانِتاً لِلَّهِ} والقنوت في اللغة معناه: الثبوت والدّوام، أي: مداوماً وثابتاً على طاعة الله، لا يتزحزح عنها، ويُطلق القنوت على طول القيام في الصلاة، قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ(238)}، وقال الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ(9)}، فمعنى وصف إبراهيم بأنه كان قانتاً أي: أنه كان مداوماً على طاعة الله، ثابتاً عليها، بخلاف الذي يجتهد في يوم أو شهر أو سنة ثم بعد ذلك يتراجع انتكاساً بعدما بدأ بالخير لكنه لم يُكمل، فالمطلوب من الإنسان أن يثبت على الخير، بمعنى أنه يلازم عمل الخير، ولا يتخلى عنه، ولو كان قليلاً فـ"أحب العمل إلى الله أدومه وإن قَلَّ". وكذلك {قَانِتاً لِلَّهِ} يعني: أنه يعمل هذا مخلصاً لله، لا يقصد به رياءً ولا سُمعة، ويؤخذ من هذا وجوب الإخلاص، لأن بعض الناس قد يصلي ويحسن صلاته، ويطول قيامه وركوعه من أجل رياء الناس، فإذا أحَسَّ أن عنده أحد يطوّل ج / 1 ص -77- الركوع والسجود؛ من أجل أن يوصف بأنه صاحب طاعة، وإذا صلى وحده نقر الصلاة، وخفّفها، والإخلاص: أن الإنسان يقصد بعمله وجه الله، ولا يقصد بذلك طمعاً من مطامع الدنيا، أو مدحاً، وثناءً من الخلق، ولا يستمع إلى لومهم إذا لاموه في طاعة الله. قالوا: فلان متشدّد، فلان كذا، ما دام أنه على الطريق الصحيح، وعلى السنة، فلا يضره ما يقوله الناس، ولا تأخذه في الله لومة لائم. الصفة الثالثة: {حَنِيفاً} والحنيف من الحَنَف وهو في اللغة: الميل، والمراد به هنا: الإقبال على الله، وأنه مُعرض عن الناس مُقبل على الله سبحانه وتعالى، يطلب الخير أ من الله وحده. الصفة الرابعة: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وهذا محل الشاهد من الباب، ومعناه: أنه تبرّأ من المشركين، براءة تامة، أي: قطع ما بينه وبين المشركين من المودّة من أجل الله سبحانه وتعالى، لأنهم أعداء الله، والمؤمن لا يحب أعداء الله. فإبراهيم عليه السلام لم يكن من المشركين لا بقليل ولا بكثير، قطع صلة المحبة بينه وبينهم، أما صلة التعامل الدنيوي في المصالح المباحة فهذا شيء آخر، إنما المراد قطع صلة المحبة والموالاة والمناصرة، هذا هو المطلوب، أما التعاون الدنيوي فيما فيه نفع للمسلمين، فهذا لا بأس به، يوضِّح هذا قوله في الآية الأخرى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} يعني: لا تقارب بيننا وبينكم في المودة والمناصرة والمؤاخاة أبداً، إلاَّ إذا آمنتم بالله وحده، وكفرتم بما يعبد من دون الله عزّ وجلّ، وتركتم عبادة الأصنام، فحينئذٍ نكون إخواناً {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} ثم قال في الآية التي بعدها: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(6)} ثم قال بعدها: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(8)}. فهذه أربع صفات وصف الله بها إبراهيم: وهي: الصفة الأولى: أنه كان أمة، يعني: قدوة في الخير. ج / 1 ص -78- وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ(59)}. الصفة الثانية: أنه كان قانتاً لله ثابتاً على الطاعة مخلصاً عمله لله. الصفة الثالثة: أنه كان حنيفاً، مقبلاً على الله معرضاً عما سواه. الصفة الرابعة: أنه لم يك من المشركين. أي بريء منهم ومن دينهم. وهذا هو تحقيق التّوحيد يكون بهذه الأمور، وأعظمها البراءة من المشركين، فمن تبرأ من المشركين فهو ممن حقق التّوحيد، ولو كانوا أقرب الناس إليه، فإبراهيم تبرأ من أبيه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً(42)} إلى أن انتهت المحاورة بقوله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً(49)} "من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه" لما تبرأ من المشركين عوضه الله ذرية أنبياء. واليوم جماعات يدَّعون أنهم دعاة إلى الله لا يتبرءون من المشركين ما داموا على منهجهم الحزبي!! ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله. والواجب على المسلم أن يتقي الله سبحانه وتعالى، وإذا كان يريد أن يدعو إلى الله فليعرف ما هي الدعوة، وما هي أصول الدعوة، وما المطلوب من الداعية، وأن يكون على طريقة إبراهيم عليه السلام وغيره من النبيّين الذين تبرّأوا من المشركين وقاطعوهم بعدما تبرءوا من الشرك وأخلصوا العبادة لله وحده. ثم قال الشيخ رحمه الله : "وقال: "{وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ(59)}" هذه صفة من الصفات التي ذكرها الله في سورة المؤمنون، في السابقين بالخيرات، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)} هذه الصفة الأولى. الصفة الثانية: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(58)}. الصفة الثالثة- وهي العظيمة-: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ(59)}. الصفة الرابعة: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ(60)}. هذه الصفات العظيمة هي تحقيق التّوحيد من جميع الشوائب، هذا مجملها وإليك تفصيلها: ج / 1 ص -79- الصفة الأولى:{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)} الخشية من أعمال القلب، وهي الوَجَل من الله عزّ وجلّ، والخوف من عقابه، خشيةً منه سبحانه وتعالى أن يعاقب العاصي والمذنب على معصيته، ومن أعظم أنواع العبادة، الخوف والخشية والرغبة والرهبة والرجاء، وكل هذه من أعمال القلب، إلاَّ أن الخوف لا يجوز أن يصل إلى حد القنوط، بل يكون خوفاً مقروناً بالرجاء، لا يَيْأَسُون من روح الله {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}، والرجاء لا يكون بدون خوف من مكر الله. ولا يأمنون من مكر الله، ويعتمدون على الرجاء فقط، ويتركون الخوف: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(99)}، بل المطلوب الجمع بين الخوف والرجاء، فلا يخاف حتى يَقْنَط، ولا يرجوا حتى يأمن من مكر الله، بل يكون متعادلاً، ولهذا يقول العلماء: "المؤمن بين الخوف والرجاء كالطائر بجناحين لو اختل جناح من الأجنحة سقط الطائر، كذلك المؤمن إذا اختل خوفه أو رجاؤه سقط". الصفة الثانية: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(58)}، يؤمنون بآيات الله أي يصدقون بها، ويعملون بها، وآيات الله: القرآن، ويؤمنون به بمعنى: أنهم يصدقون أنه كلام الله سبحانه وتعالى، تكلم الله به وَحْياً، ونزل به جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحفظه النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل، وبلّغه للناس، {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ(193)} يعني: جبريل- عليه الصلاة والسلام-، {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ(194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195)}، هذه صفات القرآن، فيؤمن هؤلاء المؤمنون بأن هذا القرآن هو خطاب ربهم لهم أمراً ونهياً، وتعريفاً به سبحانه وبصفاته، وإخباراً لهم عن الغيوث الماضية والغيوب المستقبَلة، وهذا القرآن أعظم الكتب التي نزلت من السماء، وقد أودع الله فيه من العلوم العظيمة والأسرار العظيمة ما لا يعلمه إلاَّ الله سبحانه وتعالى. والعوام يفهمون من القرآن، والمبتدءون في التعليم يفهمون من القرآن، والراسخون في العلم يفهمون أكثر من غيرهم، كل على قدر ما أعطاه الله سبحانه وتعالى، لأن القرآن- كما يقول ابن عباس-. على أربعة أنواع: منه ما تعرفه العرب من لغتها، كالنار، والجنة، والزنا، والخمر، والشرك، والكفر، والربا. ومنه ما لا يُعذر أحد بجهل الله مثل: معرفة ج / 1 ص -80- الصلاة، والصيام، والحج، وأركان الإسلام، كل واحد مطالب بأن يعرفها. ومنه ما يعرفه العلماء، خاصة كالمحكم، والمتشابه، والمطلق، والمقيد، والناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، هذه الأنواع إنما يعرفها العلماء الذين درسوا علوم الشريعة. والنوع الرابع: ما لا يعلمه إلاَّ الله، وهو حقائق ما ذكره الله في القرآن من الجنة والنار، وكيفية صفات الرب سبحانه وتعالى، فنحن نعرف معانيها، لكن كيفيَّتها لا يعلمها إلاَّ هو سبحانه وتعالى؛ سمعه، وبصره، وعلمه ووجهه، ويده سبحانه وتعالى، لا يعلم كيفيّتها إلاَّ الله، ونزوله إلى السماء الدنيا، واستواؤه على العرش، كيفيتها لا يعلمها إلاَّ الله سبحانه وتعالى، لكن المعاني اللغوية نعرفها ونفهمها. فمعنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(58)} أي: يصدقون بهذا القرآن ويتدبّرونه، ويشتغلون به، ويعتنون به، ويعملون بما فيه، ما أمرهم به فعلوه، وما نهاهم عنه تركوه، وما أخبرهم به صدّقوه وآمنوا به، وما اشتبه عليهم ردُّوا علمه إلى الله سبحانه وتعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، هذه طريقة المؤمنين مع القرآن، بخلاف المنحرفين فإنهم لهم مع القرآن مواقف سيّئة، فمنهم الذين قالوا إن القرآن مخلوق، والذين قالوا إن القرآن: له ظاهر وله باطن، وهم الباطنية هؤلاء لا يؤمنون بآيات الله عزّ وجلّ. والذين قالوا إن ظاهر القرآن غير مراد لأنه يوهم التشبيه والتجسيم فيما يخبر عن الله عزّ وجلّ. الصفة الثالثة: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ(59)} هذا هو تحقيق التّوحيد، لا يشركون أبداً، شركاً أصغر ولا شركاً أكبر، يعني: لا يقع منهم شرك أبداً، هؤلاء الذين حقّقوا التّوحيد، وسلموا من الشرك الأكبر والأصغر والخفي والجلي، وكل أنواع الشرك والبدع والمخالفات. الصفة الرابعة: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} من الطاعات، {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} يعني: خائفة {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} نفى عنهم الإعجاب بأعمالهم، فهم يعملون الأعمال الجليلة، ويخافون من الله أن يردّها عليهم. فهم يخافون أن تردّ عليهم أعمالهم بخلل وقع فيها، لأن الإنسان ليس معصوماً، فهم جمعوا بين الطاعة والخوف، أما أهل التفريط فجمعوا بين الكسل والأمن من مكر الله عزّ وجلّ. ج / 1 ص -81- وعن حُصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟، قال: "ولا أنا، إلاَّ أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل"، هذا هو مقام تحقيق التّوحيد، فالجنة لا تُدرك بالأعمال، وإنما الأعمال سبب لدخول الجنة {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، قال العلماء: الباء باء السببيّة، وليست الباء للثمنيّه، فالعمل الصالح سبب لدخول الجنة، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وإدخاله عباده الصالحين الجنة تفضل منه، وإحسان منه سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} إذا كنت لا تستطيع عدَّها، فكيف تستطيع الشكر؟، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت "أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"، هذا سيّد الأنبياء، وإمام المرسلين، وأفضل الخلق يعترف أنه لا يُحصي الثناء على الله سبحانه وتعالى، فكيف بغيره؟ فهؤلاء يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، لأن أعمالهم أقل بكثير مما يجب عليهم، ثم - أيضاً- لا يضمنون أنها تكون متقبلة، قد تكون مردودة بسبب من الأسباب، ولهذا يقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ومن يضمن لنفسه أنه من المتقين؟، لكن الإنسان يعمل ولا ييأس ولا يقنط، ويُحسن الظن بالله عزّ وجلّ، إنما لا يستكثر عمله، أو يتمنّن على الله، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، للنبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا سمعت هذه الآية {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ(60)}، قالت: يا رسول الله، أهم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر، ويخافون أن يعذبوا بذنوبهم؟، قال: "لا، يا ابنة الصديق، ولكنهم يصلون ويصومون ويجاهدون، ويخافون أن تُردّ عليهم أعمالهم". قوله: "وعن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير" إلخ. ساق الشيخ رحمه الله، هذا الحديث، في "باب من حقق التّوحيد"، بعد أن ذكر الآيات السابقة، لأن هذا الحديث، هو فيمن حقق التّوحيد وما له عند الله من ج / 1 ص -82- فقلت: أنا، ثم قلت، أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لُدِغْت، قال: فما صنعت؟، قلت: ارتقيت. الكرامة، وسبق لنا معنى تحقيق التّوحيد، وأنه تخليصه من شوائب الشرك الأكبر والأصغر، ومن البدع والمخالفات وهذه مرتبة السابقين من هذه الأمة. قال: "عن حُصين بن عبد الرحمن" السُّلمي، أحد التابعين الثقات. "قال: كنت عند سعيد بن جُبير" سعيد بن جُبير من أكابر التابعين علماً وورعاً وفقهاً، وهو من تلاميذ ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قتله الحجّاج بن يوسف الثَّقفي قبل أن يبلغ الخمسين من عمره، وبقتله أُصيبت الأمة بفقد عالم من أجلِّ علمائها. "فقال: أيُّكم رأى الكوكب الذي أنقض البارحة؟"، يسأل الجالسين عنده، والكوكب معناه: الشِّهاب الذي يُرمى به الشياطين الذين يَسْتَرِقُون السمع، وليس معناه أن الكوكب نفسه يسقط، ولكن ينفصل منه شَظِيَّة. "الذي انقض البارحة"، أي: الذي سقط. قال: حُصين بن عبد الرحمن: "أنا"، والبارحة كلمة تُطلق على الليلة الماضية، ما قبل الزوال يقال له: الليلة، وما بعد الزوال يقال له: البارحة، مِن "بَرَح الشيء" إذا فات وذهب، هذا عند العرب. وقوله: "قلت: أنا" يعني: أنا رأيت الكوكب، فدلّ هذا على أن هذا الرجل لم يَنَم. ثم إنه خشي على نفسه من الرياء، فاستدرك وقال: "أما إني لم أكن في صلاة" يعني: لا تظنوا أني سهرت أتهجّد، خشِي على نفسه الرياء، أن يمدح بشيء ليس فيه، وهذا من ورع السّلف وابتعادهم عن الرياء وتزكية النفس، لأن هذا ينافي الإخلاص. وقوله: "ولكني لُدِغْت" يعني: السبب في كوني كنت مستيقظاً وقت نزول الشهاب أنني لُدِغْت، واللَّدْغ معناه: إصابة ذات السموم من العقارب ونحوها. وقوله: "قال: فما صنعت؟" لأن من عادة المَلْدُوغ أنه يتعاطى شيئاً من العلاج. ج / 1 ص -83- قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي. قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: لا رُقية إلاَّ من عين أو حُمَة. وقوله: (ارْتَقَيت) يعني: طلبت من يَرْقِينِي بالقرآن، والرُّقية معناها: أن يُقرأ على المصاب بالمرض أو باللَّدْغ من القرآن والأدعية، ويُنْفَث على موضع الإصابة وموضع الألم. وهذا من أنفع العلاج إذا صدر عن يقين من الرّاقي ويقين من المَرْقي، لأن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا القرآن شفاءً للأمراض المعنويّة: أمراض الشِّرك، والنفاق، والمعاصي، والأمراض الحسيّة: أمراض الأجساد، لأنه كلام رب العالمين سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} فالرُّقية مشروعة، وقد رَقَى النبي صلى الله عليه وسلم ورُقي- عليه الصلاة والسلام-، رَقَاه جبريل لما أصابه السحر، ورَقَى صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فالرُّقية بالكتاب والأدعية أمر مشروع. قوله: "قال: فما حملك على هذا؟" هذا فيه أن السلف يطلبون الدليل على ما يفعلون وما يقولون، وفيه طلب الدليل على المذهب والاجتهاد. فمن قال بمسألة من المسائل، أو فعل فعلاً، فإنه يطلب منه الدليل على جوازه، أو على مشروعيّته من الكتاب والسنّة. هذا أدب السلف- رحمهم الله- أنهم لا يُقْدِمون على شيء إلاَّ بدليل من كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم خصوصاً في أمور العلاج، لأن النفوس تتشبث بأي شيء لطلب الشفاء، حتى ولو كان غير مشروع. فسعيد بن جُبير رضي الله عنه خَشِي من هذا الأمر. فهذا فيه أن العلاج لا يكون إلاَّ بما دل عليه دليل من كتاب الله وسنّة رسوله، أما الذهاب إلى المشعوذين والدجّالين والسَّحرة والكَذَبة فهو محرّم، وقد يكون شركاً أكبر يُخرج صاحبه من الملّة؛ إذا ذبح لغير الله، أو دعا غير الله، أو استغاث بالجن أو الشياطين، فإنه يخرج من الملّة، ولو فرضنا أنه شُفي، ماذا ينفعه إذا ذهبت عقيدته وصحّ جسمه، هذا أمر وباب خطير جدًّا، ويجب التحرُّز منه. وقوله: "قلت: حديث حدثنيه الشَّعْبي" يعني: هذا دليلي على ما فعلت، والشعبي هو: عامر بن شُرَاحيل، الإمام الجليل من أئمة التابعين. "قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بُريدة بن الحُصيب" بُريدة بن ا لحُصيب ا لأسلمي، من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا التابعي- الذي هو الشَّعْبي- يروي عن هذا الصحابي. ج / 1 ص -84- قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع. قوله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا رُقية إلاَّ من عين أو ُحمة" لا رُقية يعني: أنفع وأشفى إلاَّ من عين، أي: إصابة العين بسبب الحسد الذي يكون في بعض الناس، إذا نظر إلى الأشياء أصيبت على أثر نظرته، لأن نظره مسموم، وهذا من عجائب- خلق الله سبحانه وتعالى وقدرته، أنه يجعل بعض الأنظار مسمومة، إذا نظر صاحبها إلى شخص، أو إلى حيوان، أو إلى شيء، أصيب بإذن الله عزّ وجلّ، والعين حق- كما في الحديث، قال صلى الله عليه وسلم: "العين حق، ولو أن شيئاً سبق القدر لسبقته العين"، هذا في الصحيح، وقد أصيب رجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من الذي عانه، أن يغتسل، ثم أخذت غُسالته وصبّت على المصاب، فشُفي بإذن الله، وقال: "العين حق، وإن استغسلتم فاغسلوا"، هذا هو علاجها، أنه يَأمر العائن أن يغتسل، ويغسل بواطن إزاره، ثم تُصَب هذه الغُسالة على المصاب، فيُشفى- بإذن الله-، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك مِن علاجها: الرُّقية، بأن يُقرأ على المصاب بالعين، فاتحة الكتاب، والمعوّذتان. وقوله: "أو حُمَة" الحُمَة هي: اللَّدْغة من ذوات السّموم، وهذا محل الشاهد من الحديث لما فعله حصين رحمه الله. ثم قوله: "لا رُقية إلاَّ من عين أو حُمَة" قال العلماء: هذا من باب التأكيد، لا من باب الحَصْر، فالرُّقية تنفع من غير العين والحُمَة أيضاً ومن سائر الأمراض، ولكن أنفع ما يُشفى بالرُّقية هذان المرضان: العين والحُمَة، وإلاّ فإن الرّقية تنفع - أيضاً- من جميع الأمراض- بإذن الله-، فهذا من باب الحصر النِّسبي والتأكيد، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا ربا إلاَّ في النّسيئة"، مع أن هناك ربا الفضل، فمعنى الحديث: "لا ربا إلاَّ في النسيئة" يعني: لا ربا أعظم وأشد من ربا النسيئة، فهو أشد من ربا الفضل، لأنه ربا الجاهلية، فليس هذا من باب الحَصْر، وإنما هو حَصْر إضافي. ولما أتى حُصين بن عبد الرحمن بالدليل على ما فعل، قال له سعيد بن جبير رحمه الله: "قد أحسن من انتهى إلى ما سمع" أثنى عليه، وصوّبه على هذا الفعل، ء وأنه عَمِل عملاً جائزاً ومباحاً، واستدل بدليل صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتأدّب سعيد مع الحديث، ولم يكن مثل بعض الجهّال الذين إذا بلغهم الحديث وهو لا يوافق ج / 1 ص -85- ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عُرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرَّهْط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد؛ إذ رُفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه. هواهم، أو لا يوافق مذهبهم، راحوا يطعنون فيه أكبر الطّعن، ويجرّحون ولو كان الحديث في "البخاري"، فإنهم قالوا في أحاديث في "البخاري": "حتى ولو قالها الرسول صلى الله عليه وسلم فإن معناها ليس بصحيح عندهم"!!، قال ذلك بعض الكُتّاب، فهذا أمر خطير. وسعيد بن جُبير لما بلغه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قد أحسن من انتهى إلى ما سمع"، هذا هو أدب العلماء، وهذا أدب الصحابة رضي الله عنه، والتابعين، وسائر أئمة العلماء، فهم يتأدّبون مع السنّة إذا بلغتهم عن رسول الله. قوله: "ولكن حدثنا ابن عباس" معناه أن: سعيد بن جُبير عنده دليل آخر، العمل به أحسن من العمل بحديث حُصين بن عبد الرحمن، وإن كان العمل بحديث حُصين بن عبد الرحمن حسناً، ولكن هناك حسن وهناك ما هو أحسن، فأراد أن يرقيه من الحسن إلى الأحسن. قال: "حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عُرضت عليّ الأمم" فيه معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم حيث عُرضت عليه الأمم، أي: أُرِيَ الأمم السابقة. قيل: كان هذا ليلة الإسراء والمعراج. "فرأيت النبي ومعه الرَّهْط" الرَّهْط: هم الجماعة دون العشرة، يعني: لم يتبعه من أمته إلاَّ دون العشرة، وبقية الأمة كفروا به. "والنبي ومعه الرجل والرجلان" هذا أقل، تبعه من قومه رجل أو رجلان، والبقيّة أَبَوْ أن يؤمنوا بالله ورسوله. "والنبي وليس معه أحد" فيه من الأنبياء من كذبه قومه كلهم، ولم يتبعه أحد، فهذا فيه دليل على أنه لا يُحتج بالكثرة، وإنما يُحتج بمن كان على الحق، ومعه الدليل، ولو كانوا قليلين، ولو كان شخصاً واحداً، فمن كان على الحق، ومعه دليل من كتاب الله وسنّة رسوله، فهذا هو الذي يُؤخذ بقوله ويُقتدى به، أما من خالف ج / 1 ص -86- فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب". الدليل فلا عبرة به حتى ولو كانوا كثرة، والله تعالى يقول في نوح: {وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ} ويقول: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} ويقول جل وعلا: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ(116)}، فالكثرة ليست هي الضابط في إصابة الحق، ولا يُغتر بها، فربما تكون الكثرة على الباطل، إنما إذا اجتمع الكثرة مع إصابة الحق، فهذا طيّب، أما إذا كانت كثرة بدون حق فلا، ولا يُزَهِّدُنا في الحق قلّة أتباعه، لأن بعض الناس اليوم إذا نُبّه على خطأ يقول: هذا عليه أكثر الناس، إذا قلت له- مثلاً- عن تحريم تأويل الصفات، قال: تسعة أعشار العالم الإسلامي أشاعرة يئولون الصفات وهذا ليس عذراً أمام الله صلى الله عليه وسلم ما دام تبيّن الحق، وأما أمر الناس فهو موكول إلى الله سبحانه، ويجب على المسلم أنه يتبع الحق، ولا يكابر بكثرة من خالفه أو جانبه، نبي من أنبياء الله ليس معه إلاَّ دون عشرة، ونبي من أنبياء الله ليس معه إلاَّ رجل أو رجلان، ونبي من أنبياء الله ليس معه أحد. نسأل الله أن يوفقنا وإيّاكم لقول الحق والعمل به، ومخالفة الهوى والنفس والشيطان. قوله: "إذ رُفع لي سواد عظيم" السواد هو: الأشباح البعيدة. "فظننت أنهم أمتي" ظن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا السواد العظيم هم أمته، لأنه أكثر الأنبياء أتباعاً، عليه الصلاة والسلام. "فقيل لي: هذا موسى وقومه" هذا فيه فضل موسى عليه السلام، كليم الله، وأنه اتبعه من قومه خَلْق كثير، آمنوا به واتبعوه، فهو من أكثر الرسل أتباعاً بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه فضيلة لموسى عليه الصلاة والسلام. فهذا يدل على أن موسى عليه السلام آمن به خَلْقٌ كثير من بني إسرائيل، وإنما حدث التحريف والكفر بعد موسى عليه السلام. قوله: "فنظرت فإذا سوادٌ عظيم"، وفي رواية: "ولكن انظر إلى الأفق"، والرواية في "صحيح مسلم". "فنظرت فإذا سوادٌ عظيم، فقيل لي: هده أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون ج / 1 ص -87- ثم نهض فدخل منزله. فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم ائذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين وُلدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً. وذكروا أشياء. الجنة بلا حساب ولا عذاب"، وفي رواية: "ومنهم سبعون ألفاً"، السبعون الألف هؤلاء من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب. هذا فضل عظيم، والبقيّة من الخلائق تُحاسب، منهم من يُحاسب حساباً يسيراً، ومنهم من يناقش الحساب. واختلف العلماء في الكُفار هل يُحاسبون أو يدخلون النار بدون حساب؟، والذي قرّره شيخ الإسلام ابن تيمية- كما في "العقيدة الواسطية"- أنهم يقرّرون بأعمالهم فقط، ولا يحاسبون محاسبة من يوازن بين حسناته وسيئاته، لأنهم لا حسنات لهم، ولكنهم يقرّرون بكفرهم وأعمالهم الكفريّة، ثم يُؤمر بهم إلى النار - والعياذ بالله-. وان كان لهم حسنات في الدنيا فإنهم يجازون بها في الدنيا، وتعجّل لهم حسناتهم، فإن الله لا يظلم أحداً، أما في الآخرة فليس لهم ثواب ولا حسنات- والعياذ بالله-. قوله: "ثم نهض صلى الله عليه وسلم" أي: قام. "ودخل منزله" دون أن يبيّن من هم هؤلاء السبعون الألف. والصحابة رضي الله عنهم اهتموا بهذا الأمر، لأن هذا أمر عظيم، فصاروا يخوضون في هؤلاء السبعين من هم؟. فقوله: "خاض الناس في أولئك" يعني: بحثوا من هم، وهذا من حرص الصحابة رضي الله عنهم على الخير، واهتمامهم بأمور الآخرة، لأنهم لا يهتمُّون بأمور الدنيا، وإنما يهتمُّون بأمور الآخرة، بخلاف أهل الدنيا، إذا سمعوا بتجارة صاروا يتحدثون عنها ولا يهمهم أمر الآخرة. قوله: "فقال بعضهم: فلعلهم الذين صَحِبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم" لأن أفضل الأمة هم الصحابة رضي الله عنهم، لا أحد يساوي الصحابة في الفضيلة، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ج / 1 ص -88- ولا نصيفه"، فالصحابة هم أفضل الأمة، ولا أحد يساويهم في الفضل- رضي الله تعالى عنهم-، بسَبْقِهم إلى الإسلام، وصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجهادهم في سبيل الله، وبذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيل الله عزّ وجلّ، فلذلك قالوا: "فلعلهم الذين صحبوا"، لأنهم لا يعلمون أحداً أفضل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: "وقال بعضهم: فلعلهم الذين وُلدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئاً" يعني: الذين وُلدوا بعد بِعْثَة النبي صلى الله عليه وسلم من أولاد المسلمين، وبقوا على الفطرة الصحيحة، وآمنوا بالله ورسوله، ولم يشركوا بالله شيئاً. وهذا- أيضاً- فيه فضل من سَلِم من الشرك، بحيث إن الصحابة توقَّعوا أنهم هم الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، ففيه فضل من سَلِم من الشرك، ولكن من وقع في الشرك ثم تاب تاب الله عليه، وصار من أفضل المسلمين لأن التوبة تَجُبُّ ما قبلها، والله تعالى يقول: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}، ولكن الصحابة توقَّعوا أن مواليد الإسلام الذين لم يشركوا بالله شيئاً، هم المعنيُّون بهذا الحديث. وهذا- أيضاً- يدل على المحافظة على الأولاد، والمحافظة على فطرتهم. ويدل على وجوب التربية على الإسلام، والتربية على التّوحيد، وتصحيح العقيدة، لأن بعض الناس اليوم لا تهمهم العقيدة، ويقولون العقيدة أمرها سهل، والناس أحرار في عقائدهم، ولا يهتمون بأمر الشرك، ويقولون هذه اجتهادات، ولا يهتمون بالدعوة إلى التّوحيد، والتحذير من الشرك، وتصحيح العقائد. فقول الصحابة: "فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئاً"يدل على خطر الشرك، وأن الإنسان لو وُلد في الإسلام فإن هذا لا يكفي، لابد أن يَسْلم من الشرك، ولا يسلم من الشرك إلاَّ إذا عرفه وعرف طرقه، حتى يتجنّبه ويحذّر منه، أما من يجهل الشيء فربما يقع فيه، لأنه لا يدري عنه؛ وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "إنما تُنْقَضُ عُرى الإسلام عُروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية"، وحذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه"، فهذا أمر عظيم جدًّا، الاهتمام بأمر العقيدة، والخوف من الشرك، ومن خاف من شيء فإنه يهرب منه، ولا يمكن أن ج / 1 ص -89- فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال: "هم الذين لا يَسْتَرْقُون، ولا يَكْتَوُون، ولا يَتَطَيَّرون، وعلى ربهم يتوكلون". يهرب منه إلاَّ إذا عرف من أن يأتيه هذا العدو، ومن أين يدركه، فهذا أمر عظيم. وقوله: "ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه" ذكروا ما بحثوا فيه، وما خاضوا فيه، والاجتهادات التي أبدَوْها حول هذا الأمر. وهذا فيه دليل على مشروعية المباحثة في أمور العلم، والبحث عن معاني كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حتى نعمل به، وننتفع به. وقوله: "قال: هم الذين لا يَسْتَرْقُون" يعني: لا يطلبون من غيرهم أن يَرقيهم، لماذا؟، لأن طلب الرُّقية من الناس سؤال للمخلوق، والسؤال للمخلوق فيه ذِلّة، فهم يستغنون عن الناس، ويعتمدون على الله سبحانه وتعالى، وهذا من تمام التّوحيد: أن الإنسان لا يسأل الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم بايع بعض أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئاً، فكان أحدهم إذا سقط سوطه من على راحلته لا يقول لأحد: ناولني السوط، لأنهم يريدون الاستغناء عن الناس، لكن سؤال أهل العلم عما أشكل ليس من هذا، وهو واجب قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، إذا كان ذلك عن حاجة، أما سؤال التعنّت والاستكبار وتعجيز المسؤول، فهذا لا يجوز، لأنه ليس عن حاجة، وإنما هو عن إظهار عَظَمة، وأن السائل أعلم من المسؤول، وهذا لا يجوز، وسؤال المال، يجوز للحاجة إذا كان الإنسان مضطرًّا، فإنه يجوز أن يسأل الناس حتى ترتفع ضرورته، أما سؤال الإنسان وهو غني، فهذا حرام: "من سأل الناس تكثّراً، فإنما يسأل جمراً، فليُقِل أو ليستكثر". وقوله: "ولا يَكْتَوُون" كذلك لا يطلبون من غيرهم أن يكويهم بالنار من أجل العلاج. والكَيْ بالنار نوع من أنواع الطب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الشفاء في ثلاث: شَرْبة عسل، أو شَرْطة مِحْجَم، أو كيّة بنار"، وفي رواية أخرى: "وأنا أكره الكَيْ "، فالكَيُّ عند الحاجة علاج مباح، ولكنه إذا طلبته من غيرك، يكون مكروهاً لأنه من مسألة الناس، وكذلك يكره الكيّ ذاته، لما فيه من التعذيب بالنار. قوله: "ولا يَتَطَيَّرون" التطيّر هو: التشاؤم بالطيور وغيرها، ثم يرجع المتطير ج / 1 ص -90- فقام عُكّاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "أنت منهم" ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "سبقك بها عُكّاشة". عن ما عزم عليه، هذا هو التّطيُّر، أما التفاؤل فهو مشروع، وكان النبي يعجبه الفَأْل، لأن الفَأْل حسن ظن بالله سبحانه وتعالى، أما الطِّيَرة فهي سوء الظن بالله. فهؤلاء السبعون الألف استحقوا هذه المنزلة، لأنهم تركوا أموراً محرمة وهي الطيرة، أو مكروهة وهي طلب الرقية والكي من الناس، فهم تركوها استغناء عن الناس، وتوكلاً على الله سبحانه وتعالى. أما أن الإنسان يَرْقِي نفسه أو يَرْقِي غيره، فهذا فعله النبي صلى الله عليه وسلم فرقى نفسه ورقى غيره ورقاه غيره فلا كراهة في ذلك. يبقى قضية التداوي بالمباح كالحبوب- مثلاً-، أو بالأعشاب، أو بإجراء العمليّات الجراحيّة: واستئصال الأورام أو الزوائد؛ فهذا مباح، من غير كراهة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تداووا ولا تداووا بحرام"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله داءاً إلاَّ وأنزل له شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله" ومن العلماء من يرى أن التداوي مستحب، ومن العلماء من يرى أنه واجب، والتدواي سواءً كان مباحاً أو مستحبًّا أو واجباً لا ينافي التوكل، لأن بعض الجهّال يقول: اتْرُك التدواي توكّلاً على الله، نقول: الأخذ بالأسباب لا ينافى التوكل، والتداوي سبب، والأخذ بالأسباب قد أمر الله تعالى به. قوله: "فقام عُكّاشة بن مُحصَن" عُكّاشة بن مُحصَن الأسدي، من السابقين إلى الإسلام، شهد غزوة بدر، وغيرها من المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم وقاتل في حروب الرّدة حتى قُتل، رضي الله عنه. "فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم" هذا فيه مشروعيّة طلب الدعاء من أهل الخير، الأحياء، لأن هذا الصحابي طلب الدعاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرّه على ذلك، فدلّ على جواز، طلب الدعاء من الصالحين الأحياء. "قال: أنت منهم" أخبر صلى الله عليه وسلم أن عُكّاشة من السبعين الألف الذين يدخلون الجنة ج / 1 ص -91- بلا حساب ولا عذاب، وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فإنه قُتل شهيداً في سبيل الله عزّ وجلّ وفي هذا دليل من أدلة النبوّة، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم أن عُكّاشة من السبعين الألف، وقتل شهيداً في سبيل الله عزّ وجلّ، فصار في زُمْرة الشهداء في سبيل الله، مع سَبْقه إلى الإسلام، وشهوده بدراً وغيرها مع الرسول صلى الله عليه وسلم. " ثم قام رجل آخر، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "سبقك بها عُكّاشة"، كأن الرسول صلى الله عليه وسلم علم أن هذا الرجل لا يصل إلى هذه المرتبة، ولكن ما جابهه بكلام يكرهه، ولم يقل له: أنت لا تستحق، أو أنت لست من أهل هذه المنزلة، وهذا من حُسن أدب الرسول صلى الله عليه وسلم بل جاء بكلمة لم تؤثر على الرجل، وهي وافية بالمقصود، فقال: "سبقك بها عُكّاشة". قال الشيخ رحمه الله في مسائله: "هذا فيه استعمال المعاريض" يعني: الكلمات التي تُستعمل بدل الكلمات المكروهة، لأنه لو قال لا تستحق هذا، أو أنت لا تصل إلى هذه المرتبة، لحصل عند الرجل انكسار نفس وخجل، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان كما قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)}، وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}، فالرسول صلى الله عليه وسلم علم أن هذا الرجل - بما علّمه الله سبحانه وتعالى- لا يصل إلى هذه المرتبة، ولكنه جاء بكلمة ليّنة لطيفة ليس فيها تجريح، فهذا فيه حُسن الأدب مع المسلمين، وعدم مواجهتهم بما يكرهون من الكلمات النابية، حتى ولو كانوا على خطأ، فهم يواجهون بكلمات فيها تطييب لخواطرهم، وعدم تجريح لنفوسهم. فهذا حديث عظيم دلَّ على مسائل: أولاً: دلَّ على جواز الرُّقية من العين ومن الحُمة وغيرهما، لأنه فعله حُصين بن عبد الرحمن، واستدل بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم. ثانياً: في الحديث دليل على فضل موسى عليه السلام وأمته الذين آمنوا به. ثالثاً: فيه دليل على عدم الاحتجاج بالكثرة، وهذه مسألة مهمة. ورابعاً: فيه حرص الصحابة على مسائل العلم ومعرفتها، حيث خاضوا في طلب معنى هذا الحديث الذي ألقاه عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحثوا فيه، قال الشيخ: فيه المناظرة في العلم. ج / 1 ص -92- خامساً: في الحديث دليل على كراهية سؤال الناس: "لا يَسْتَرْقُون، ولايُكْتَوُون"، ففيه كراهيّة سؤال الناس، وأن سؤال الناس فيه تنقيص للتوحيد، أما الاستغناء عنهم فهذا فيه كمال للتّوحيد، وهو من تحقيق التّوحيد. سادساً: الحديث دليل على جواز العلاج بالكَيْ، مع الكراهة بشرط أن يكون المعالج به من أهل المعرفة، الذي يعرفون موضع الألم وموضع الكَيْ، ومقدار الكَيْ، وفيه دليل على أن الإصابة بالعين حق، وأنها تُعالج بالرُّقية، وتعالج بما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الاستغسال- أيضاً-. سابعاً: فيه دليل على علم من أعلام نبوّته صلى الله عليه وسلم حيث أخبر أن عُكّاشة من السبعين الألف، وقد قُتل شهيداً في سبيل الله بعد ذلك. ثامناً: وفيه دليل على استعمال المعاريض في الأمور التي يُكره مواجهة الناس بها، وحُسن خلقه صلى الله عليه وسلم في تعامله مع أصحابه، وكذلك يجب أن يقتدي به أهل العلم وأهل الدعوة في مخاطبتهم للناس. تاسعاً: وفيه دليل على طلب الدليل على المذهب، حيث إن سعيد بن جُبير طلب من حُصين بن عبد الرحمن الدليل على ما فعله من طلب الرقية فلما جاء بالدليل استحسنه، وقال له: "قد أحسن من انتهى إلى ما سمع". عاشراً: وفيه دليل على ما تَرْجَم له المصنف، وهو الشاهد للباب أن من حقّق التّوحيد دخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، وأن تفسير ذلك بأن يترك الشرك الأكبر والأصغر، ويترك الأمور المكروهة، احتياطاً لعقيدته. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#8
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب الخوف من الشرك ج / 1 ص -93- [الباب الرابع:] * باب الخوف من الشرك هذا الباب في غاية المناسبة للأبواب السابقة، وهذا من دقّة فقهه وفهمه رحمه الله، وحُسن تأليفه، فإنه لما ذكر في الباب الأول: معرفة حقيقة التّوحيد، وذكر في الباب الثاني: فضل التّوحيد وما يكفّر من الذنوب، وذكر في الباب الثالث: من حقّق التّوحيد دخل الجنة بلا حساب ولا عذاب. لما ذكر هذه الأبواب ناسب أن يذكر ضدّ التّوحيد وهو الشرك، لأنه لا يكفي أنّ الإنسان يعرف التّوحيد ويعمل به، بل لابد أن يعرف ضدّه وهو الشرك، خشية أن يقع فيه، ويُفسد عليه توحيده، لأن من لا يعرف الشيَّء يوشك أن يقع فيه، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يوشك أن تُنْقَض عُرى الإسلام عُروة عُروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية" لأنه لا يدري عن أمور الجاهلية أو يحسبها شيئاً طيّباً وهي من أمور الجاهلية، فبجهله بحقيقتها الْتَبَسَتْ، فصار يفعلها وهي من الجاهلية، فكذلك وأخطر من ذلك من لا يعرف الشرك ومداخله، وأنواعه، وأخطاره، فإنه حَرِّيٌ أن يقع في الشرك من حيث لا يدري، لأن الجهل داء قاتل، والشاعر يقول: والضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتبين الأشياء فلا يعرف قيمة الصحة إلاَّ من ذاق المرض، ولا يعرف قيمة النور إلاَّ من وقع في الظلام، ولا يعرف قيمة الماء إلاَّ من عطش، وهكذا، ولا يعرف قيمة الطعام إلاَّ من مسّه الجوع، ولا يعرف قيمة الأمن إلاَّ من أصابه الخوف، إذاً لا يعرف قيمة التّوحيد، وفضل التّوحيد، وتحقيق التّوحيد إلاَّ من عرف الشرك وأمور الجاهلية حتى يتجنّبها، ويحافظ على التّوحيد، ومِن هنا يظهر خطأ هؤلاء الذين يقولون: لا داعي أن نتعلم العقائد الباطلة ونعرف المذاهب الباطلة، ونرد على المعتزلة والجهمية، لأنهم بادوا وذهبوا، علموا الناس التّوحيد ويكفي، أو بعضهم يقول لا تعلّموهم التّوحيد لأنهم أولاد فطرة، ونشأوا في بلاد المسلمين، علّموهم أمور الدنيا: الصناعات والاختراعات والأمور الحديثة، أما التّوحيد فيحصلونه بفطرتهم وبيئتهم، نعم وجُد من يقول هذا، وبعض الناس يقول: الناس تجاوزوا مرحلة الخرافات،ج / 1 ص -94- لأنهم تثقفوا وعرفوا، فلا يمكن أنهم يشركون تتعد ذلك، لأن الشرك كان في الجاهلية، يوم كان الناس سذج ويسمون الشرك في العبادة شركاً ساذجاً، والشرك عندهم ما يسمونه بالشرك السياسي أو شرك السلاطين أو شرك الحاكمية. ولذلك لا يهتمون بإنكار هذا الشرك الذي بعثت الرسل لإنكاره، وإنما ينصبّ إنكارهم على الشرك في الحاكمية فقط. وكل هذه من حيَل الشيطان لبني آدم، والواجب أننا، كما نعرف الحق؛ يجب أن نعرف الباطل، من أجل أن نعمل بالحق، ونتجنّب الباطل، ولهذه المناسبة العظيمة ذكر الشيخ "باب الخوف من الشرك" بعدما ذكر أبواب التّوحيد وفضله، وما يكفر من الذنوب، وتحقيق التّوحيد وهذه نعمة عظيمة لكن إذا حازها الإنسان، فإنه يخشى من ضدها، فلابد أن يعرف ضدّها حتى يتجنّبه، فلنتنبّه لهذا الأمر، فإن هناك أناساً الآن كثيرين يزهِّدون في تعلم هذه الأمور: تعلّم التّوحيد، تعلّم الشرك، معرفة الشُّبَه والضلال، يزهدون في هذه الأمور، وهذا إما من جهلهم، وعدم معرفتهم، وإما لأنهم يريدون الدّس على المسلمين، وإفساد عقيدة المسلمين، فلنحذر من هذا الأمر، سمعنا من يقول إن الذي يدرس عقائد المعتزلة والرد عليهم مثل الذي يرجم القبر، لأنهم ماتوا، يقولون كذا، نقول: يا سبحان الله هم ماتوا بأشخاصهم، لكن مذاهبهم باقية، وشبهاتهم باقية، وكتبهم، تطبع الآن وتحقق، وينفق عليها الأموال، وتُرَوّج، فكيف نقول نتركهم لأنهم ماتوا، والله تعالى ذكر شبهات المشركين من الأمم السابقة: فرعون وهامان وقارون وقوم ونوح وعاد وثمود، مع أنها أمم بائدة، ذكر شبهها ورد عليها، فالعبرة ليست بالأشخاص، العبرة بالمذاهب، والعبرة بالشُّبَه الباقية ولكل قوم وارث. ولهذا قال الشيخ: "باب الخوف من الشرك" أي: أن الموحّد يجب أن يخاف من الشرك، ولا يقول أنا موحّد وأنا عرفت التّوحيد، ولا خطر علي من الشرك، هذا إغراء من الشيطان، لا أحد يزكي نفسه، ولا أحد لا يخاف من الفتنة ما دام على قيد الحياة، فالإنسان معرّض للفتنة، ضلّ علماء أحبار، وزلّت أقدامهم، وخُتم لهم بالسّوء، وهم علماء، فالخطر شديد، ولا يأمن الإنسان على نفسه أن تَنْزَلِق قدمه فيج / 1 ص -95- وقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. وقال الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}. الضلال، وأن يقع في الشرك، إلاَّ إذا تعلم هذه الأمور من أجل أن يجتنبّها، واستعان بالله، وطلب منه العصمة والهداية: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} خافوا من الزّيغ بعد الهداية، والمهتدي يكون أشد خوفاً أن يزيغ، وأن تزلّ قدمه، وأن تسوء خاتمته، وأن يكون من أهل النار، نسأل الله العافية. قال: "وقول الله عزّ وجلّ: "{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}" هذا خبر من الله عن نفسه سبحانه وتعالى مؤكّد بـ "إنّ". أنه: "{لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}" فهذا فيه خطورة الشرك، فالله لا يغفر للمشرك مع أن رحمته وسعت كل شيء، ولكن المشرك لا يدخل فيها، لعِظم جريمته- والعياذ بالله، فمن مات على الشرك فإنه لا يغفر له، وهذا يدلّ على خطورة الشرك، فإذا كان الشرك بهذه الخطورة، فإنه يجب الحذر منه غاية الحذر، كل الذنوب مَظِنّة المغفرة ورجاء المغفرة إلاَّ الشرك. والشرك لا يمكن تجنبه إلاَّ إذا عرف وعرف خطره. وفي الآية الأخرى أخبر سبحانه أنه حرم الجنة على المشرك، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} والحرام: الممنوع، فلا يمكن أنّ المشرك يذوق طعم الجنة، أو يشم رائحة الجنة. وفي الآية الثالثة: يقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، منعهم الله من دخول المسجد الحرام لأنهم نجس، ونجاسة الشرك نجاسة معنويّة، والمسجد الحرام لا يدخله إلاَّ أهل التّوحيد {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} كذلك المشرك حلال الدم والمال، قال صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاَّ الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاَّ بحقها، وحسابهم على الله عزّ وجلّ". قوله.: "وقال الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} الخليل هو إبراهيم عليه السلام، سمي بالخليل لأن الله سبحانه اتخذه خليلاً، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذَ ج / 1 ص -96- وفي الحديث قال: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، فسئل عنه، فقال: "الرياء". اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} من الخُلَّة، وهي أعلى درجات المحبة، أي: أن الله يحبه أعلى المحبة، وهذه مرتبة لم ينلها إلاَّ إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام. قوله: "{وَاجْنُبْنِي}" أي أبعدني واجعلني في جانب بعيد "{أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}" خاف من عبادتها. مع هذه المنزلة العظيمة التي نالها إبراهيم عليه السلام من ربه، ومع أنه قاوم الشرك وكسر الأصنام بيده، وتعرض لأشد الأذى في سبيل ذلك حتى ألقي في النار، مع ذلك خاف على نفسه من الوقوع في الشرك، لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، والحي لا تؤمن عليه الفتنة، ولهذا قال بعض السلف: "ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟"، فإبراهيم خاف على نفسه الوقوع في الشرك لما رأى كثرة وقوعه في الناس، وقال عن الأصنام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ}. وفي هذا أبلغ الرد على هؤلاء الذين يقولون: لا خوف على المسلمين من الوقوع في الشرك بعدما تعلموا وتثقفوا، لأن الشرك بعبادة الأصنام شرك ساذج يترفع عنه المثقف والفاهم، وإنما الخوف على الناس من الشرك في الحاكمية، ويركزون على هذا النوع خاصة، وأما الشرك في الألوهية والعبادة فلا يهتمون بإنكاره، وعلى هذا يكون الخليل عليه السلام وغيره من الرسل إنما ينكرون شركاً ساذجاً!!، ويتركون الشرك الخطير وهو شرك الحاكمية كما يقول هؤلاء. قال: "وفي الحديث" أي الحديث الذي رواه أحمد والطبراني والبيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأبي بكر وعمر ولسادات المهاجرين والأنصار، الذين بلغوا القمّة في التّوحيد والإيمان والجهاد في سبيل الله، ومع هذا الرسول يخاف عليهم، فمن يأمن بعد هؤلاء؟: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، فسئل عنه فقال: "الرياء" هذا دليل على اهتمام الصحابة في الأمر، والرياء معناه: أن الإنسان يتصنّع أمام الناس بالتقوى، والعمل الصالح، وإتقان الصلاة، وغير ذلك، من أجل أن يمدحوه، فالرياء من الرؤية أن يحب الإنسان أن يراه الناس وهو يعمل العمل الصالح من أجل أنج / 1 ص -97- يمدحوه، والسُّمعة أن يحب الإنسان أن الناس يسمعون كلامه ويسمعون عمله ويمدحونه، فالرياء لما يُرى من الأعمال، والسُّمعة لما يسمع منها. والرياء شرك خفي، لأن الشرك على نوعين: شرك ظاهر وشرك خفي، الشرك الظاهر: الذي يتمثل في الأعمال والأقوال، بأن يدعو غير الله، أو يذبح لغير الله، أو يستغيث بغير الله، هذا ظاهر يراه الناس ويسمعونه، لكن هناك شرك خفي لا يدري عنه الناس، لأنه في القلب، لا يعلمه إلاَّ الله سبحانه وتعالى، وهو الشرك في النيّة والإرادة، فالإنسان إذا سَلِم من الشرك الأكبر فإنه قد لا يسلم من الشرك الأصغر الذي يكون في القلوب، وهذا مما يُعطي المؤمن الحذر الشديد. والرياء من صفات المنافقين، يقول الله تعالى في المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً(142)} والله تعالى توعّد المرائين، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ(5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ(6)} فوعدهم الله بالويل، وجاء في الحديث أن الله يقول للمرائين يوم القيامة: "اذهبوا إلى الذين كنتم تراءونهم في الدنيا هل تجدون عندهم جزاءً". فهذا الحديث فيه الخوف من الشرك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خافه على سادات المهاجرين والأنصار، وعلى أفضل هذه الأمة، فكيف بمن دونهم، وإذا كان هذا في الشرك الأصغر الذي لا يُخرج من الملّة فكيف بالشرك الأكبر- والعياذ بالله-. وفيه دليل على وجوب إخلاص النية لله عزّ وجلّ، وان الإنسان لا يقصد مدح الناس أو ثناء الناس أو مطامع دنيا بأعماله الصالحة، وإنما يخلص النيّة لله عزّ وجلّ، يريد وجه الله، فإن عَمِل من أجل الرياء فعمله باطل. فهذا الحديث يدل أولاً: على الخوف من الشرك. ثانياً: أن الرياء شرك، ومعناه- كما ذكرنا-: أن يحب الإنسان أن يراه الناس على الطاعة فيُثنوا عليه بها. وثالثاً: أن الرياء شرك خفي، لا يعلمه الناس، وإنما الله جل وعلا هو الذي يعلمه، لأنه في القلوب. ولمسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار". قال: "وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وهو يشرك بالله شيئاً دخل النار" هذا خبر من الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ من مات على الشرك فهو من أهل النار، ولا يُغفر له. ولاحظوا كلمة "شيئاً" تعم الشرك كله، ما أشرك مع الله من نبي أو ولي أو ملك، لأن الشرك لا يقبله الله أبداً: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}. ومن يدري متى يموت؟، ومن يدري ماذا يموت عليه؟، فالإنسان يخاف على نفسه من سوء الخاتمة، وأن يموت وهو يشرك بالله، فيكون من أهل النار، فالإنسان يجب عليه أن يحذر من الشرك طول حياته لأنه لا يدري في أي لحظة يموت، فيكون من أهل النار. فهذا فيه الخوف من الشرك، وأن الإنسان قد يُختم له بالشرك فيكون من أهل النار، ولو كان من أهل التّوحيد قبل ذلك، وعارف به، ومستقيم، لكن يخاف على نفسه من أنه يتنكس بعد ذلك، ويشرك بالله، ويموت على ذلك فيكون من أهل النار، فنسأل الله الثبات، فيكون عنده حذر دائماً وأبداً من الشرك. قال: "ولمسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة" هذا فيه فضل التّوحيد، وأن من مات عليه دخل الجنة، وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى، والله لا يخلف وعده، حتى ولو كان عنده ذنوب ومعاص دون الشرك، فقد يغفرها الله له ويدخله الجنة من غير عذاب، وقد يعذبه الله بها ثم يدخله الجنة، فمآل الموحّد إلى الجنة، إما ابتداءً وإما في النهاية. فقوله: "من لقي الله " يعني: مات. "ومن لقيه يُشرك به شيئاً دخل النار" هذا مثل حديث ابن مسعود، من مات على الشرك، فإنه من أهل النار،- نسأل الله العافية-. فهذا فيه الحذر من سوء الخاتمة. ج / 1 ص -99- وفيه- كما ذكر الشيخ رحمه الله قرب الجنة والنار من الإنسان، فما بينه وبين الجنة والنار إلاَّ أن يموت، ولا يدري، ربما يموت في الحال، ربما يموت بعد دقائق، أو بعد شهر، أو بعد سنة، ما بينه وبين النار والجنة إلاَّ الموت، فإذا مات دخل النار أو دخل الجنة، ففيه قُرب الجنة والنار من الإنسان، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شِراك نعله، والنار مثل ذلك"، والشاعر يقول: كل امرئ مُصَبِّح في أهله والموت أدنى من شراك نعله تصبح في الدنيا وتمسي في الجنة، أو بالعكس-. فهذا الحديث فيه الخوف من الشرك، وأن الإنسان يخشى أن يلقى الله وهو على الشرك فيكون من أهل النار، والعياذ بالله. وفي نصوص الباب أن الإنسان لا يغتر بنفسه مهما بلغ من العلم والإيمان والمعرفة، بل يعترف بعجزه وفقره إلى الله سبحانه وتعالى، وأنه إن لم يعصمه الله فإنه على خطر. كما أن في الباب - أيضاً- بيان معنى لا إله إلاَّ الله- كما يقول الشيخ في مسائله-: "في الباب معنى لا إله إلاَّ الله، وذلك في الحديث الأخير: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار"، هذا هو معنى لا إله إلاَّ الله، لأن في هذا الحديث التّوحيد والشرك، ولا إله إلاَّ الله أثبتت التّوحيد ونفت الشرك، فلا إله نفي للشرك، وإلاَّ الله إثبات للتّوحيد. نسأل الله عزّ وجلّ أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا وإياكم الثبات على دينه، وأن يُرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، وأن يُرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن لا يجعله ملتبساً علينا فنضل، ونعوذ بالله من الغرور، ونعوذ بالله من الإعجاب، ونعوذ بالله من تزكية النفس المنهي عنها بقوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#9
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله ج / 1 ص -100- [الباب الخامس:] * باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله ج / 1 ص -101- وقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} الآية.قال المؤلف رحمه الله: "باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله". مناسبة هذا الباب لما قبله من الأبواب ظاهرة جدّاً، فإنه في الأبواب السابقة ذكر في الباب الأول: معرفة التّوحيد، وفي الباب الثاني: ذكر فضل التّوحيد، وفي الباب الثالث: ذكر فضل من حقق التّوحيد، وفي الباب الرابع: ذكر ما يضاد التّوحيد، وهو الشرك. فإذا كان طالب العلم ألَمَّ بهذه الأبواب، وعرفها معرفة جيدة، عرف التّوحيد وفضله وتحقيقه، وعرف ما يضاده من الشرك الأكبر أو ينقصه من الشرك الأصغر والبدع وسائر المعاصي، فإنه حينئذٍ تأهّل للدعوة إلى الله عزّ وجلّ، لأنه لا يجوز للإنسان إذا علم شيئاً من هذا العلم أن يختزنه في صدره، ويُغلق عليه، ويختصه لنفسه، هذا العلم مشتَرك بين الأمة، فمن عرف شيئاً منه فإنه يجب عليه أن ينشره، وأن يدعو الناس إليه، فإن هذه الأمة أمة دعوة، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)}، فلا يجوز للمسلم الذي عرف شيئاً من العلم أن يسكت عليه وهو يرى الناس في حاجة إليه، خصوصاً علم التّوحيد وعلم العقيدة، لأنه إذا فعل ذلك فقد ترك واجباً عظيماً، ولا يقول الإنسان أنا ما علي إلاَّ من نفسي- كما يقوله بعض الجهلة أو الكسالى-، أنا ما عليَّ من الناس!! بل عليك نفسك أولاً، ثم عليك أن تدعو الناس إلى دين الله عزّ وجلّ، فإن اقتصرت على نفسك تركت واجباً عظيماً تحاسب عنه يوم القيامة، وتعرّض نفسك لغضب الله عزّ وجلّ حيث تركت ما أوجبه عليك من الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، هذا وجه المناسبة، وهي ظاهرة. فقوله: "باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله" أي: الدعوة، وأن المسلم الذي منّ الله عليه بمعرفة التّوحيد، ومعرفة الشرك لا يسعه أن يسكت وهو يرى الناس يجهلون التّوحيد، ويقعون في الشرك الأكبر والأصغر، ويسكت على ذلك، كما هو واقع كثير من طلبة العلم والعلماء، الذين يرون الناس على العقائد الفاسدة والعقائد الباطلة وعبادة الأضرحة، ويسكتون على ذلك، ويقولون: نحن لا نهتم إلاَّ بأنفسنا. بهذا ضيّعوا واجباً عظيماً، ولو أن العلماء وطلبة العلم قاموا بما أوجب الله عليهم من هذا الأمر في جميع الأمصار لرأيت للمسلمين حالة غير هذه الحالة، فالآن بلاد الإسلام تعج بالشرك الأكبر، تُبنى فيها المشاهد، والمزارات الشركية، ويُنفق عليها الأموال، ودول الكفر تساعد على ذلك، والمسلمون ساكتون على هذا الوضع، وهذا خطر عظيم أصاب الأمة، وما أصيبت به من حروب ومجاعات وأمور تعرفونها إنما هو نتيجة لهذا الإهمال- والعياذ بالله-، فهذا واجب عظيم. قال رحمه الله تعالى: "وقول الله تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(108)} هذه الآية في آخر سورة يوسف، يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يُعلن للناس عن بيان منهجه ومنهج أتباعه، وهو الدعوة إلى الله على بصيرة، فدل على أن من لم يدع على بصيرة فإنه لم يحقق اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان عالماً وفقيهاً. قوله تعالى: {قُلْ} أي: قل يا محمد للناس. {هَذِهِ سَبِيلِي} السبيل معناها: الطريق التي أسير عليها. {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} إلى توحيد الله عزّ وجلّ وإفراده بالعبادة، وترك عبادة ما سواه، وكذلك الدعوة إلى بقيّة شرائع الدين، فتكون الدعوة للكفار للدخول في الإسلام، وتكون الدعوة للعصاة من المسلمين للتوبة إلى الله عزّ وجلّ وأداء الواجبات والتحذير من الوقوع في الشرك، واجتناب المحرمات، فالدعوة ليست مقصورة على دعوة الكفار، بل حتى المسلمون الذين هم بحاجة إلى الدعوة لوقوعهم في المعاصي والمخالفات يحتاجون إلى دعوة، دعوة إلى التوبة، وأداء الواجبات، وترك المحرمات، والمخافة من الله عزّ وجلّ، فالدعوة عامة. والدعوة إلى معرفة التّوحيد ومعرفة ضده. {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} قال الشيخ رحمه الله: "فيه التنبيه على الإخلاص، فإن بعض الناس إنما يدعو إلى نفسه" فقد يكون الإنسان يدعو، ويحاضر ويخطب، لكن قصده من ذلك أنه يتبيّن شأنه عند الناس، ويصير له مكانة، ويمدح من الناس، ويتجمهرون ج / 1 ص -102- عليه، ويكثرون حوله، فإذا كان هذا قصده، فهو لم يدع إلى الله، وإنما يدعو إلى نفسه والإنسان الذي يترك الدعوة فإنه ترك واجباً عظيماً، والإنسان الذي لم يُخلص في الدعوة يقع في محظور عظيم، بل لابد من الدعوة وأن تكون خالصة لوجه الله عزّ وجلّ، ويكون القصد منها إقامة شرع الله، والقصد منها هداية الناس ونفع الناس، مدحوك أو ذمُّوك، فبعض الناس، إذا لم يُمدح ويشجّع تَرَكَ الدعوة، وهذا دليل على أنه لا يدعو إلى الله، وإنما يدعو إلى نفسه، فليتنبّه المسلم ويكون رائده وقصده من دعوته هو الإخلاص لوجه الله عزّ وجلّ، ونفع الناس، وتخليصهم من الشرك، ومن البدع، ومن المخالفات، وأن يؤدي الواجب الذي عليه، والكثرة حول الشخص لا تدل على فضله، بعض الأنبياء لم يتبعه إلاَّ القليل: "النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحداً"، هل هذا يدل على عدم فضل هذا النبي؟، لا، حاشا وكلاّ، فالإنسان لا ينظر إلى كثرة الحاضرين، "لأن يهدي الله بك وجلاً واحداً خير لك من حُمُر النعم". اجتمع الناس على باب ابن مسعود رضي الله عنه وهو يريد الخروج إلى الصلاة فلما خرج ومشوا خلفه، التفت إليهم وقال: "ارجعوا، فإنه فتنة للمتبوع، ذِلّة للتابع". {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} البصيرة معناها: العلم، بل هي أعلى درجات العلم. وفي هذا دليل على أنه يُشترط في الداعية أن يكون على بصيرة، أي: على علم بما يدعو إليه، أما الجاهل فلا يصلح للدعوة، بل لابد أن يتزوّد بالعلم قبل أن يَشْرَع في الدعوة، لأنه في دعوته يتعرض إلى شبهات ومناظرات، فمن أين يجيب إذا وقف في وجه معاند أو معارض أو مشبِّه، كيف يستطيع الخلاص. إنه يفشل، ويصير نَكْسَة على الدعوة، أو يجيب بجهل ويكون الأمر أخطر، إما أن يسكت عن الجواب وينتصر عليه الخصم، وإما أن يجيب بجهل فيكون الأمر أخطر. هذا من ناحية. والناحية الثانية: أن الداعية يحتاج إلى معرفة الحلال والحرام، فقد يقول بجهله هذا الشيء حرام وهو حلال، وقد يقول بجهله: هذا الشيء حلال وهو حرام، فالداعية يجب أن يكون على علم بما يدعو إليه، بحيث أنه يعرف الحلال والحرام، ويعرف ج / 1 ص -103- الواجب والمستحب والمحرّم والمكروه والمباح، ويعرف كيف يجيب على الاعتراضات والشبه والمجادلات، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، كيف يستطيع أن يجادل بالتي هي أحسن وهو ليس عنده علم؟!، فيُشترط في الداعية: أن يتأهل بالعلم، فإن بعض الدعاة اليوم ليس عندهم علم، وإنما يجيد الكلام والشَّقْشَقَة والخطابة، لكن ليس عنده علم، بحيث لو عرضت له أدنى شُبهة، أو سئل عن أدنى مسألة في الحرام والحلال تخبّط فيها. {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} أي: وأتباعي يدعون إلى الله على بصيرة، فدلّ على أن من لم يدع إلى الله لم يحقق إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وأن من دعا إلى الله على جهل لم يحقق إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إنه أدخل نفسه فيما ليس من شأنه، وصار خطراً على الدعوة، وعلى الدعاة. ثم قال: {وَسُبْحَنَ اللَّهِ} سبحان: اسم مصدر من سبّح بمعنى: نَزَّه الله عما لا يليق به من الشرك والقول عليه سبحانه وتعالى بلا علم، فإن الله يُنَزَّه عن الشرك ويُنَزَّه عن القول عليه بلا علم، فهذا فيه وجوب تنزيه الله سبحانه وتعالى عن النقائص، وأعظمها الشرك. {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} هذه براءة من الرسول صلى الله عليه وسلم من المشركين، كما تبرّأ منهم خليل الله إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، ففيه البراءة من المشركين، يعني: قطع المحبة والمودّة والمناصرة بينك وبين المشركين، لأنهم أعداء الله وأعداء رسوله، فلا يجوز لك أن تَوَدَّهم بقلبك أو تناصرهم أو تدافع عنهم: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}، {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ج / 1 ص -104- آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }. ففي هذا دليل على أنه يجب البراءة من المشركين، وأن من أصول الدعوة إلى الله: البراءة من المشركين، أما الداعية الذي لا يتبرأ من المشركين، فهذا ليس بداعية، وليس على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وإن زعم أنه يدعو إلى الله، والكفر بالطاغوت مقدم على الإيمان بالله، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}، فلابد من البراءة من المشركين، أما الذين يقولون: "ما علينا من عقائد الناس، من دخل في جماعتنا وصار معنا فهو أخونا، وعقيدته له" هذه ليست دعوة إلى الله عزّ وجلّ، وإنما هي دعوة إلى الحزبية والعصبية. ففي هده الآية الكريمة مسائل عظيمة: المسألة الأولى: أن طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وطريقة أتباعه على الحقيقة: الدّعوة إلى الله. المسألة الثانية: أن من لم يدع إلى الله وهو يستطيع الدعوة إلى الله، فإنه لم يحقق إتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم بل إتباعه فيه نقص عظيم. المسألة الثالثة: وهي المسألة التي نبّه عليها الشيخ في مسائله: التنبيه على الإخلاص في الدعوة لقوله: {إِلى اللَّهِ} فإن بعض الناس إنما يدعو إلى نفسه، فالذي يقصد المدح والثناء وكثرة الأتباع وكثرة الجماعة وكذا وكذا والفَخْفَخَة، هذا لا يدعو إلى الله. المسألة الرابعة: -وهي المسألة العظيمة-: أن الداعية إلى الله لابد أن يكون على بصيرة، مؤهّلاً بالعلم النافع الذي يستطيع به أن يدعوَ إلى الله، وأن يجادله المُغرضين والمعارضين، ويَدْحضَ حججهم بلسانه وبقلمه، الدعوة إلى الله تكون باللسان وتكون بالقلم أيضاً، وتكون بالسيف والجهاد، فيُشترط في الداعية شرط أساسي، بل أصلي، بأن يكون على علم، وأما الجاهل فلا يصلح للدعوة، وإن كان عنده عبادة، وعنده. ورع، وعنده تُقى، وعنده غيرة على الدين، وعنده محبة للدين، هذا شيء طيّب، وصفات طيّبة، لكن نقول له: يا أخ الدعوة لا يدخل فيها إلاَّ من ج / 1 ص -105- كان على علم، أما مجرّد الخوف والخشية والعبادة والورع والغيرة والصلاح، فهذا شيء طيّب، لكن أنت لا تصلح للدعوة لأنك لست على علم، والله تعالى يقول: {عَلَى بَصِيرَةٍ}. ويقول: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ}، والحكمة هي العلم، فأنت لا تصلح للدعوة، تعلّم أولاً، فإذا تعلّمت تعال للدعوة، فالدعوة ليست بالمسألة الهيّنة، ولذلك عندما حصل هذا الإهمال في الدعوة حصل ما ترون الآن من التفكك والتخاذل لأن الدعوة دخل فيها ما هب ودب، من الجهال والمُغرضين وأصحاب المطامع، ولا تنجح دعوة لم يتوفر فيها الشروط الإلهية التي اشترطها الله تعالى، ولا يبقى إلاَّ الأصلح دائماً وأبداً، ولو كثرت الجماعات الدعوية، ما دامت أنها ليست على الشروط التي اشترطها الله، والمنهج الذي رسمه الله ورسوله، فإنها لا تنجح مهما بلغت من الكثرة والقوة، وستتلاشى وتصاب بالنَكْسَة والفشل، أما إذا كانت مؤسَّسة على العلم وعلى الإخلاص والنصيحة، فهذه هي التي تنجح بإذن الله ولو كانت من فرد واحد.المسألة الخامسة: أن الشرك نقص عظيم يجب تنزيه الله عنه، لأن الله عزّ وجلّ كامل، له الكمال المطلق فمن أشرك به فقد تنقصه ومن نفى صفات الله عزّ وجلّ أو أوّلها فقد تنقص الله عزّ وجلّ، فالمؤوّلة والمشبهة الذين يشبهون الله بخلقه، أو يؤوِّلون صفات الله، أو يُلحدون في أسمائه، هؤلاء تنقّصوا الله عزّ وجلّ، وهذا نقص ينزّه الله جل وعلا عنه، ومن وصفه بما لا يليق به أو سماه بغير ما سمى به نفسه فقد تنقصه، ومن حكم بغير ما أنزل فقد تنقصه، ومن عصى أمره أو ارتكب نهيه فقد تنقصه سبحانه. المسألة السادسة:- وهي مهمة جدًّا-: البراءة من المشركين، فالذي يدعو إلى الله -بل وكل مسلم- لكن الذي يدعو إلى الله من باب أولى، لأنه قدوة، يجب عليه أن يتبرّأ من المشركين، لأنهم أعداء الله، وأعداء رسوله، وأعداء المؤمنين، {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، فمن لم يتبرأ من المشركين فإنه لم يحقق الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، حتى وإن انتسب إليها، وهذه مسألة عظيمة. ج / 1 ص -106- وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله لما بعث معاذاً إلى اليمن، قال له: " إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلاَّ الله". قوله: "بعث معاذاً" البعث معناه: ا لإرسال. "إلى اليمن" القُطر المعروف، جنوب الجزيرة، سُمِّيَ باليمن لأنه يقع أيمن الكعبة، والشام سُمِّيَ بالشام لأنه يقع شاميَّ الكعبة. وكان بعث معاذ في السنة العاشرة، وقيل: في آخر السنة التاسعة قبل وفاته صلى الله عليه وسلم. أرسل قاضياً ومعلّماً وداعياً إلى الله عزّ وجلّ، ينوب عن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المهمات. فهذا أولاً: فيه مشروعية إرسال الدعاة إلى الله عزّ وجلّ، وأنه سنة نبوية. وثانياً: فيه فضيلة لمعاذ رضي الله عنه، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم اختاره لهذه المهمة العظيمة، مما يدل على فضله وعلمه، لأن الرسول لا يرسل إلاَّ من توفّرت فيه الشروط المطلوبة، وقد توفّرت في معاذ رضي الله عنه، وكان أعلم الناس بالحلال والحرام. وفيه- أيضاً- العمل بخبر الواحد، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل معاذاً وحده. وهذا يدل على أنه يعتمد خبر الواحد ولا يشترط التواتر- كما يقوله بعض الضُّلاّل-، يقولون: أمور العقائد لا يقبل فيها خبر الواحد. والرسول صلى الله عليه وسلم اكتفى بخبر الواحد، فأرسل معاذاً إلى اليمن يدعو إلى الله ويعلم التّوحيد، وهكذا، ما كان الرسول يُرسل رسله جماعات وإنما كان يرسلهم أفراداً، كما بعث عليًّا، وبعث معاذاً، وبعث أبا عبيدة بن الجرّاح، وهذا يدل على قبول خبر الواحد في أصول الدين وفروعه، وأما ما قاله علماء الكلام فهو باطل. "قال له: "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب" هذا فيه وصية الإمام لمندوبه حينما يرسله، أنه يخط له المنهج، ويرسم له الطريق الذي يسير عليه، وهذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في بعوثه، أنه إذا أرسل جيشاً أو سَرِيَّة يوصيهم. "أهل الكتاب" أهل الكتاب المراد بهم: اليهود والنصارى، سُمُّوا أهل الكتاب لأن الله أنزل عليهم التوراة والإنجيل، التوراة على موسى عليه السلام والإنجيل على عيسى - عليهما الصلاة والسلام-، فسُمَّيَ أتباع الرسولين بأهل الكتاب، فرقاً بينهم وبين الوثنيين، الذين ليس لهم كتاب، ولا يؤمنون بالرسل. ج / 1 ص -107- وقصْد النبي صلى الله عليه وسلم من هذا أن يتأهّب معاذ لمن سيقدَم عليهم، وأنهم أهل كتاب يحتاجون إلى استعداد علمي للمجادلة والمناظرة. وفي هذا أنه يجب على الداعية معرفة حالة المدعوين، وهذا من منهج الدعوة: أن الداعية ينظر في حالة المدعوين، ويخاطب كلاً منهم بحسب ما يليق به، فإن كان يخاطب علماء فإنه يخاطبهم بما يليق بهم، وإن كان يخاطب عواماً يخاطبهم بما يليق بهم، الناس ليسوا على حد سواء، فلا يليق بالداعية أنه يخاطب العلماء بخطاب الجهال، ولا يليق به أنه يخاطب الجهال بخطاب العلماء، ولا يليق بالداعية أنه يخاطب السلاطين بخطاب عامة الناس، أو يخاطب عامة الناس بخطاب السلاطين، كل يخاطبه بما يرى أنه أقرب إلى قبوله للحق، قال الله تعالى لرسوليْه موسى وهارون عليه السلام لما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}. قوله: "فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلاَّ الله" هذا فيه التدرّج في الدعوة، وأنه يبدأ بالأهم فالأهم، وهذه طريقة الرسل، أنهم أول ما يبدءون بالدعوة إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، لأنها الأصل والأساس، الذي يُبنى عليه الدين، فإذا تحققت شهادة أن لا إله إلاَّ الله، فإنه يمكن البناء عليها بالأمور الأخرى، أما إذا لم تحقق شهادة أن لا إله إلاَّ الله، فلا فائدة من بقية الأمور، فلا تأمر الناس بالصلاة وعندهم شرك، ولا تأمرهم بالصيام والصدقة والزكاة وصلة الأرحام وكذا وكذا وهم يشركون بالته، لأنك لم تضع الأساس أولاً، وهذا بخلاف كثير من دعاة اليوم الذين لا يهتمون بشهادة أن لا إله إلاَّ الله، وإنما يدعون الناس إلى ترك الربا، والى المعاملات الحسنة، وإلى الحكم بما أنزل الله، وإلى، وإلى، لكن التّوحيد لا يذكرونه، ولا يلتفتون له، وكأنه ليس مفروضاً، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله، فهؤلاء مهما أتعبوا أنفسهم فإن عملهم لا ينفع، حتى يحققوا الأصل في الأساس الذي تُبنى عليه أمور الدين، من: حاكمية، ومن صلاة، ومن زكاة، ومن حج، إلى آخره، هذا منهج الأنبياء: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، وكذلك ذكر الله عن نوح عليه السلام أنه قال أول ما قال لقومه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا ج / 1 ص -108- "وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله". فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة. نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}،{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ}، فكل رسول أول ما يبدأ بالدعوة يبدأ بشهادة أن لا إله إلاَّ الله، فيدعو إلى التّوحيد، وإلى تصحيح العقيدة، ثم بعد ذلك يأمرهم ببقية أوامر الدين، أما إنه يبدأ بالعكس، يبدأ بالأمور الجزئية والأمور الفرعية، ويترك الأصل، فهذا العمل لا ينفع، فلو فرضنا أن المجتمع صار بعيداً عن الربا، ويحافظ على الصلاة، وتمتلئ المساجد، وكل الأعمال تُعمل، لكن ليس هناك إخلاص في التّوحيد فهم يدعون غير الله، يدعون الأولياء والصالحين والأنبياء والقبور، فلا فائدة في أعمالهم، وهؤلاء ليسوا مسلمين، مهما صلوا وصاموا. "وفي رواية: "إلى أن يوحدوا الله" لماذا جاء الشيخ بهذه الرواية؟، لأنها تفسِّر شهادة أن لا إله إلاَّ الله، بأن معناها: توحيد الله سبحانه وتعالى وإفراده بالعبادة، ليس المقصود منها اللفظ فقط، بأن يقول أشهد أن لا إله إلاَّ الله، بل لابد أن يوحّد الله في العبادة، أما إذا نطق بها بلسانه ولم يوحّد الله في العبادة، فلا تنفعه شهادة أن لا إله إلاَّ الله. وفي هذا دليل على عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه مبعوث إلى العالم كله، بما فيهم أهل الكتاب، كما كتب صلى الله عليه وسلم لهِرَقْل عظيم الروم، وكما كتب للمُقَوْقِس ملك مصر، وكما كتب لكِسْرى ملك الفُرس، وكما كتب لملوك الأرض، لأن الله أرسله إلى الناس عامة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}. وقوله: "فإن هم أطاعوك لذلك" يعني: شهدوا أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله وعملوا بمقتضاهما. "فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل بوم وليلة" هذا الركن ج / 1 ص -109- فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم. فإن هم أطاعوك لذلك؛ فإياك وكرائم أموالهم. الثاني: لما حقق الركن الأول والأساس، انتقل إلى الركن الثاني وهو الصلاة، وهذا يدل على أهمية الصلاة، وأنها تأتي بعد التّوحيد مباشرة. فمن لم يصل فإنه ليس بمسلم، وإن كان يشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله. كما دلت على ذلك الأدلة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "بين العبد وبين الكفر والشرك ترك الصلاة" وغيره من الأدلة. وقوله: "فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم" هذه هي الزكاة، وهي قرينة الصلاة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي الركن الثالث من أركان الإسلام. "تُؤخذ من أغنيائهم" في هذا دليل على أن الزكاة لا تجب على الفقير، وإنما تجب على الغني وهو من يملك النِّصاب فأكثر. "فتردُّ في فقرائهم" هذا فيه مصرف من مصارف الزكاة، فالفقراء صنف واحد من الأصناف الثمانية المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} إلى آخر الآية. واستدل العلماء -رحمهم الله- بهذا على أن الزكاة لا تحل لغني، وأن مصرف الزكاة يجوز الاقتصار فيه على صنف واحد من الأصناف الثمانية، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هنا اقتصر على الفقراء، ويدخل فيهم المساكين. واستدلوا به- أيضاً- على أن مصرف الزكاة في البلد الذي فيه المال، لا ينبغي نقلها إلى بلد آخر، إلاَّ إذا كان البلد الذي فيه المال ليس فيه فقراء، فإنها تنقل إلى أقرب بلد فيه فقراء من بلدان المسلمين. "فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائم أموالهم" الكرائم جمع كريمة وهي: النفيسة من المال، يعني: لا تأخذ في الزكاة أحسن الأموال، لأن هذا فيه إجحاف بهم، كما أنك لا تأخذ أردأ المال، لأن هذا فيه ظلم للفقراء، ولكن خذ المتوسط، بين النفيس وبين الرديء، هذا هو العدل، إن أخذت النفيس ج / 1 ص -110- واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" أخرجاه. ج / 1 ص -111- ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خَيْبَر: ظلمت أصحاب الأموال، وإن أخذت الرديء ظلمت الفقراء، إذا أخذت الوسط اعتدلت. "وإياك وكرائم" تخدير من الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه وجب العدل على الولاة، وعدم الظلم. "واتق دعوة المظلوم" هذه وصيّة هامة، يجب على الراعي والأمير وكل مسلم أن يحذر من دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب، أي دعوة المظلوم مستجابة، حتى ولو كان كافراً: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} فالمظلوم ترفع دعوته إلى الله عزّ وجلّ، والله جل وعلا يجيب دعوة المظلوم. وهنا سؤال أورده العلماء على هذا الحديث، يقولون: الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة أركان، الشهادتان والصلاة والزكاة، ولم يذكر الصيام، ولم يذكر الحج، فما الجواب عن هذا؟ فيه أجوبة كثيرة، لكن أصحها والذي اختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله: أن الرسول صلى الله عليه وسلم اقتصر على الأركان العظيمة الأساسية التي يقاتَل من تركها، وهي: الشهادتان والصلاة والزكاة، قال الله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا} يعني: شهدوا أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}. فالرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ذكر الأركان التي يُقاتل عليها، وهي: الشهادتان والصلاة والزكاة. هذا من ناحية. والناحية الثانية: أن هذه أركان ظاهرة، يراها الناس ويسمعونها، أما الصيام فهو أمر خفي بين العبد وبين ربه، والحج لا يجب على كل أحد، وإنما يجب على من استطاع إليه سبيلاً، وأيضاً إنما يجب مرة في العمر، بخلاف الشهادتين، فإن الإنسان يلازمها طول الحياة، ولا يتخلى عنها، والصلاة تتكرر في اليوم والليلة خمس مرّات، والزكاة كل عام، أما الحج فإنه يجب مرة واحدة في العمر، ولا يجب إلاَّ على المستطيع، وأما الصيام فلأنه أمر خفي، وأيضاً من حافظ على الشهادتين، وأقام الصلاة وآتى الزكاة فإنه سيحافظ على الصيام ويحافظ على الحج من باب أولى. ما يستفاد من الحديث: دل هذا الحديث على مسائل كثيرة: أوّلاً: فيه إرسال الدعاة إلى الله عزّ وجلّ. ثانياً: فيه فضيلة لمعاذ بن جبل رضي الله عنه. ثالثاً: فيه قبول خبر الواحد في العقائد وغيرها. رابعاً: فيه بيان منهج الدعوة، وهذا أصل عظيم، وهو أنه يتدرج فيها، ويبدأ بالأهم فالأهم. خامساً: في الحديث دليل على عظم رسالته صلى الله عليه وسلم وأنه مبعوث إلى جميع العالم اليهود والنصارى وغيرهم، وإذا كان مبعوثاً إلى اليهود والنصارى وهم أهل كتاب، فغيرهم من باب أولى. سادساً: فيه المسألة التي أشار إليها الشيخ، وهي أن من العلماء من يجهل معنى لا إله إلاَّ الله، لأن أهل الكتاب يدعون إليها وهم أهل كتاب وأهل علم. سابعاً: في الحديث دليل على أنه لا يجوز أخذ الكرايم في الزكاة، وإنما يُؤخذ المتوسط. ثامناً: فيه دليل على التحذير من دعوة المظلوم، وأنه ليس بينها وبين الله حجاب. قال الشيخ رحمه الله: "ولهما" يعني: البخاري ومسلم. عن سهل بن سعد رضي الله عنه راوي الحديث هو سهل بن سعد الساعدي الأنصاري الخزرجي- رضي الله تعالى عنه، هو وأبوه صحابيان. "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خبير" خَيْبَر: حصن لليهود شمالي الحجاز، وكان به مزارع ونخيل، ولا يزال يحمل هذا الاسم إلى الآن، كانت بلاداً زراعيّة، وبلاد ج / 1 ص -112- تخيل وإنتاج للتمور، ويُضرب المثل فيقال: كجالب التمر إلى خَيْبَر، أو كجالب التمر إلى هجر، يعني: أن الذي يأتي بشيء إلى بلد هي تُنْتِج ذلك الشيء يصبح كجالب التمر إلى خَيْبَر، ولهذا يقول حسان رضي الله عنه. إنا ومن يُهدي القصائد نحونا كمُسْتَبْضِع تمراً إلى أهل خَيْبرَا وكانت خيبر بلاداً يَقْظُنُها اليهود، وجلا إليها اليهود من المدينة، لما أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بنو النضير الذين غدروا بالعهد فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اصطلحوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على أن يتركوا له ما معهم من السلاح والقوة، ويجلوا إلى خَيْبَر وإلى أَذْرِعات بأرض الشام، كما ذكر الله ذلك في أول سورة الحشر: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} إلى آخر الآيات، فهؤلاء هم بنوا النضير من اليهود، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزاهم في السنة السابعة من الهجرة، بعد صُلح الحُدَيْبِيَة، وقبل فتح مكة، ومكّنه الله منهم، وفتح خَيْبَر، وحصل المسلمون منها على خيرات كثيرة، ثم إنهم تعاقدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على أن يبقوا فيها عمّالاً للمسلمين، يزرعونها بأجرة، فأقرّهم النبي صلى الله عليه وسلم وبقوا فيها إلى أن أجلاهم عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- بعد ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرهم فيها إقراراً دائماً، وإنما قال: "نُقِرُّكُم فيها ما شئنا"، حاصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد الأمر بالمسلمين في الحصار من قلّة ذات اليد، ومن طول الحصار فبشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه البشارة من أجل أن يَذهب عنهم ما يجدون من المشقّة وطول الانتظار.قال الشيخ رحمه الله: "في هذا ما يجري على أولياء الله من الجوع، ومن الوباء" يعني: ما جرى عليهم في هذا الحصار من المشقّة، مع أنهم أولياء الله، وفيهم رسوله صلى الله عليه وسلم ومع هذا نالهم مشقّة وجوع في هذا الحصار، وفي هذا دليل على أن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، وأن الجوع والفقر ليسا دليلاً على بغض الله لمن يصيبه ذلك، فإن هذا قد يصيب أفضل الخلق. ج / 1 ص -113- "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله؛ يفتح الله على يديه" فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها". قال "لأعطين الراية"، الراية هي: العَلَمِ الذي يحمله الجُند، من أجل أن يهتدوا به، ويَلْتَفُّوا حوله في القتال، وحمل العَلَم في الغزو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وكان له رايات، وكان مكتوباً في رايته صلى الله عليه وسلم: لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله. "رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله"، هذه مِيزة عظيمة لهذا الرجل الذي يُعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية، ففيه فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم شهد له بهذه الشهادة العظيمة أنه يحب الله ورسوله، وأنه يحبه الله ورسوله، وله فضائل كثيرة، وان كان الله جل وعلا يحب المؤمنين كلهم، والمؤمنون يحبون الله، كما قال الله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}. فالحاصل؛ أن مِيزة محبة الله ورسوله للمؤمنين موجودة في كل مؤمن ومؤمنة عموماً، ولكن شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب بخصوصه فيها مزية له. ففي هذا ردٌّ على الخوارج ، الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وكفّروه،كما أن فيها ردّاً على النواصب الذين يُبغضون علياً، ويسبُّونه، وفيها إثبات فضيلة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ابن عم الرسول، ورابع الخلفاء الراشدين، وفي هذا-أيضاً- إثبات صفة لله سبحانه وتعالى، وأنه يحب عباده المؤمنين، فالله يحب عباده المؤمنين، ويحب أولياءه، ففيه إثبات المحبة لله عزّ وجلّ، ردًّا على من ينفي هذه الصفة من الأشاعرة وغيرهم. "يفتح الله على يديه" هذه المِيزة الثانية لعلي بن أبي طالب أن الله جل وعلا يفتح هذا البلد المستعصي على يد هذا الولي من أوليائه. وفيه: علامة من علامات النبوّة، حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عما يحصل في المستقبل، وقد حصل كما أخبر به صلى الله عليه وسلم. فالناس لما سمعوا هذه البشارة العظيمة، وسمعوا وصف هذا الرجل الذي يتولى ذلك، من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم اهتموا بهذا الأمر لمحبتهم للخير، وباتوا ليلتهم "يَدُوكُون"؛ يبحثون عنه، مثل ما مَرّ معنا في السبعين الألف الذين أخبر عنهم رسول الله: "ثم نهض ودخل منزله، فخاض الناس في أولئك"، وهذا دليل على أن ج / 1 ص -114- فلما أصبحوا غدو على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يُعْطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟". فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فأُتي به، فبصق في عينيه، ودعا له؛ فبرأ كأن لم يكن به وجع. الصحابة يهتمون بالفضائل، ويهتمون بأمور الآخرة، أكثر مما يهتم أهل الدنيا بدنياهم، وأنهم يتنافسون في الخيرات. حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "ما تمنيت الإمارة إلاَّ هذه الليلة"،"تمنى أن يكون هو ذلك الأمير الذي يقود الجيش، ويفتح هذا البلد، حتى ينال هذه الميزة: "يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله". وقوله: "فلما أصبحوا غدوا على رسول الله" يعني: ذهبوا إليه مبكِّرين، من الغَدْوة، يقال: غدا إذا ذهب في الغُدُو وهو الصباح، ويقال راح إذا ذهب في المساء، وقت الرّواح، فالغُدُوُّ: الذهاب في أول النهار، والرواح: الذهاب في آخر النهار. "كلهم يرجو أن يُعطاها" أي: كلٌ يرجو أن يكون هو ذلك الرجل، لرغبتهم في الجهاد في سبيل الله، وإعلاء كلمة الله، والحصول على هذه البَشارة العظيمة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين علي بن أبي طالب؟" قال الشيخ رحمه الله: في هذا دليل على: "الإيمان بالقدر، لحصولها لمن لم يسع لها، ومنعها عمن سعى"، وأن الإنسان وإن فعل السبب فإنه قد لا يحصل على المطلوب، لكنا مأمورون بفعل الأسباب، أما النتائج فأمرها إلى الله سبحانه وتعالى، لكن يُؤجرون على مسعاهم، وعلى نيتهم الطيّبة، وعلى رغبتهم في الخير، وعلى خطواتهم ومشيهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال الشيخ- أيضاً-: "فيه تَفَقُّد الإمام أو القائد لجنده" يعني: من حضر ومن تخلف. "قال: أين علي؟" هذا تَفَقُّد للجند، ما سكت وترك الذي لم يحضر، بل تَفَقُّده، فالإمام والقائد يَتَفَقَّد جنوده، يَتَفَقَّد رعيّته، ولا يسمح لأحد أن يتخلف من غير عذر. "قيل: هو يشتكي عينيه" أي أصابه رمد، وهو مرض من أمراض العيون ج / 1 ص -115- فأعطاه الراية فقال: "انفذ على رِسْلِك حتى تنزل بساحتهم". المعروفة عند الأطباء. ويُروى أنه أصابه في المدينة، وأنه لم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم بسبب المرض، ولكن بعدما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه من المدينة، ضاقت عليه نفسه، وقال: كيف أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، فخرج وهو مريض، ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وما طابت نفسه أن يبقى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا كان صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}. "فأرسلوا إليه" أرسل إليه من يأتي به. "فأتي به، فبصق في عينيه" يعني: تفل من ريقه الطيب الطاهر في عيني علي بن أبي طالب رضي الله عنه. "ودعا له" بالشفاء. "فبرأ كأن لم يكن به وجع" وهذا- أيضاً- كن معجزاته صلى الله عليه وسلم، حتى قال علي "لم يصبني رمد بعد ذلك" يعني: استمر هذا الشفاء طول حياته رضي الله عنه؛ ببركة ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن التبرك بريق النبي صلى الله عليه وسلم وبعَرَقِه وبوضوئه أمر مشروع، وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، أما غيره فلا يُتبرك بشيء منه، لا يتبرك بشيء من الصالحين والأولياء، لأن هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأفضل الأمة بعد نبيِّها هو أبو بكر رضي الله عنه، ومع ذلك لم يُتبرك بريقه ولا بعرقه رضي الله عنه، ما فعله الصحابة معه لعلمهم أن هذا لا يجوز إلاَّ في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وفيما انفصل من جسده صلى الله عليه وسلم، أما أن يُتبرّك بحجرته أو بقبره، فهذا لا يجوز، لأن هذا ليس منفصلاً عن جسد النبي صلى الله عليه وسلم، وسوف يأتينا باب خاص بمن تبرّك بشجرة أو حجر أو نحوها. وقوله: "فأعطاه الراية" دفعها إليه. ثم إنه صلى الله عليه وسلم أرشده وأوصاه على عادته صلى الله عليه وسلم مع قُوّاده وأمرائه إنه كان يوصي القُوّاد والأمراء حينما يبعثهم. ج / 1 ص -116- ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فهذا فيه دليل على أن وليّ الأمر يوصي قُوَّاده ويخط لهم الخِطط النافعة التي يسيرون عليها في مهمّتهم، ولا يتركهم لأنفسهم يذهبون بدون وصية، وبدون إرشاد، وبدون وضع خطة يسيرون عليها. وقال: "انفذ على رِسْلِك" "انفذ" يعني: أمض "على رِسْلِك" يعني: على هيّنتك، لا تُسرع في المشي، ولا يكون هناك أصوات أو صخب، بل يكون هناك هدوء تام، وسير بالرفق. فهذا فيه دليل على مشروعية الهدوء في الجهاد، وترك العجلة ورفع الأصوات، لأن ذلك يدل على الثبات والشجاعة، ويدل على التدبر في الأمر، وعدم العجلة والتسرع، بخلاف الطيش والركض ورفع الأصوات، فإن هذا يدل على الجبن، ويدل على عدم الثبات. "حتى تنزل بساحتهم" الساحة يُراد بها: ما قَرُب من المكان، أي: حتى تنزل قريباً من الحصن، وهذا فيه أن المجاهدين ينزلون قريباً من البلاد المحاصرة، ويقربون منها. وقوله: "ثم ادعهم إلى الإسلام" هذا محل الشاهد من الحديث للباب، "باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله". حيث قال: "ادعهم إلى الإسلام" فهذا فيه دليل على وجوب الدعوة إلى الإسلام، وأن العدو يُدعى قبل أن يُقاتل، ولا يُبدأ بالقتال قبل الدعوة. والإسلام هو: الاستسلام لله بالتّوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك وأهله، هذا هو الإسلام، انقياد مع خضوع وتعبد لله تعالى، من لم يستسلم لله كان مستكبراً، ومن استسلم لله ولغيره كان مشركاً، ومن استسلم لله وحده كان موحّداً مسلماً. "وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه " يعني. اشرح لهم معنى الإسلام، وبينّه لهم، وما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه من الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وغير ذلك من أركان الإسلام، فلا يكفي الدعاء إلى الإسلام ج / 1 ص -117- مجملاً، كما يُثَرْثِرُ به بعض الدعاة اليوم ممن يقومون بالدعوة المجملة إلى الإسلام. ولو تسألهم ما هو الإسلام؟، ما استطاعوا أن يُعرِّفوه، فكيف يدعون إلى شيء وهم لا يعرفونه؟، الذي يدعو إلى الإسلام لابد أن يعرف الإسلام ما هو، ويبينه للمدعوِّين، ويشرحه لهم، وإلاَّ ما معنى "ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه". أما الإسلام المجمل، فكل يقول: إنما هو عليه هو الإسلام؛ من الطوائف الضالة والمنحرفة والكافرة، كل يفسر الإسلام بمذهبه، وكلمة الإسلام غطاء كل يدّعيها الآن من الطوائف المنحرفة والضالة والكافرة: القاديانية، والباطنية، والقبورية، وغيرهم من الطوائف المنحرفة، كلهم يدّعون أن الإسلام هو ما هم عليه، لكن لو شُرح الإسلام بأنه التّوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من المشركين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام، وإفراد الله بجميع أنواع العبادات من الذبح والنذر والاستغاثة والاستعاذة، حينئذٍ يتبيّن الإسلام الصحيح من الإسلام المزيّف، وهذا لا يريدونه، لا يريدون أن يبين الإسلام على حقيقته لأنه يتبين بطلان ما هم عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ادعوا إلى الإسلام وبيّنوا ما هو الإسلام، كما أوصى علي بن أبي طالب بقوله: "ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه"، ولهذا لما ارتد من ارتد عن الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعزمَ أبو بكر على قتالهم، قال له الصحابة -ومنهم عمر-: يا خليفة رسول الله، كيف تقاتلهم وهم يقولون: لا إله إلاَّ الله؟، قال؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ("إلاَّ بحقها"، وإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه). فالإسلام ليس مجرّد انتساب ودعوى فقط، أو قول: لا إله إلاَّ الله بدون التزام بمعناها ومدلولها، حتى لو كان عِقالاً يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتبر من حق لا إله إلاَّ الله، فكيف بالذي لا يصلي وهو يقول: أنه مسلم؟، كيف بالذي يجحد وجوب الزكاة ويقول: أنا مسلم؟، كيف بالذي يجحد وجوب الصوم ويقول: أنا مسلم؟، بل أعظم من ذلك كيف بالذي يدعو غير الله وهو يقول أنا مسلم؟، يدعو القبور ج / 1 ص -118- فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْر النعم". يَدُوكُون أي: يخوضون". والأضرحة ويذبح لها وينذر لها ويقول أنا مسلم؟. هل هذا هو الإسلام؟. يجب أن نعرف هذا الأمر العظيم، وهذا الأصل العظيم، وهذه القاعدة العظيمة، وهذا الذي يجب أن يركِّز الدعاة عليه، إذا كانوا يريدون أن تكون دعوتهم إلى الله دعوة صحيحة، أما إذا كانت مجرد انتساب، كلٌ يدخل تحتها، ويجعل الإسلام مجرد غطاء، فهذا لا يُرضي الله عزّ وجلّ، وليس هو الإسلام، لأن كلاًّ يدعِّي أنه، على الإسلام ولو كان مشركاً. الإسلام والإيمان ليس مجرد دعوى، أو انتساب، أو هويّة تُكتب في حفيظة النفوس، أو يُكتب أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام؛ والعمل على خلافه، يأبى الله ذلك سبحانه وتعالى: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}. خذوا منهج الدعوة من هذا وأمثاله، لا تأخذوا، منهم الدعوة من نظام الجماعة الفلانية أو الجماعة العلاّنية، خذوا نظام الدعوة، ومنهج الدعوة من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو منهج الدعوة. ثم بيّن صلى الله عليه وسلم فضيلة الدعوة إلى الله، فقال: "فوالله" أقسم صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، والقَسَم أحياناً يُؤتى به من أجل الاهتمام بالشيء وتوكيده، ولهذا يقول الشيخ في مسائله فيه: "الحَلِف على الفتيا"، الإنسان إذا أفتى بفتوى وهو يتأكد أنها هي حكم الله عزّ وجلّ يقسم عليها، ويحلف عليها. "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمْر النَّعم" هذا ترغيب في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ. و"حُمْر النعم" الإبل الحُمْر، جمع حمراء، وهتي الناقة النفيسة، لأن الإبل الحُمْر أنفس أموال العرب. فكيف إذا اهتدى على يديك جماعة؟، أو اهتدى على يدك أمة، أو اهتدى على يدك أجيال تأتي من بعدك؟ هذا فيه: فضل الدعوة إلى الله. انظروا ماذا حقق الله من الخير بسبب دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ومن اهتدى بسببه من الأجيال التي لا تزال إلى الآن والحمد لله، ومن بركات دعوة ج / 1 ص -119- شيخ الإسلام ابن تيمية: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب تتلمذ على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية في أمور العقيدة، فقام بهذه الدعوة المباركة. إذاً ماذا يحصل للداعية الأول من الأجر؟ كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً"، فكيف بالأجر الذي يحصل للرسول صلى الله عليه وسلم سيّد الدعاة، وإمام الدعاة؟، من يؤمن من الخلق إلى يوم القيامة يحصل للرسول مثل أجره، وكذلك الأئمة من بعده، الدعاة الذين جاءوا بعد الرسول، يحصل لهم من الأجور مثل أجور من تبعهم، نسأل الله الكريم من فضله. فهذا فيه: فضل الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، والدعوة إلى الله أن تدعو الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإخلاص العبادة لله عزّ وجلّ، والحكم بما أنزل الله، هذه هي الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، ليست مجرد انتساب، أو مجرّد شكليّات، أو مجرّد شعارات، ولهذا كل دعوة ترتكز على المنهج الصحيح تنجح بإذن الله ولو بعد حين. هذا شيخ الإسلام عُذِّب ومات في السجن؛ لكن نجحت دعوته فيما بعد، لماذا؟، لأنها دعوة أصيلة، ترتكز على الكتاب و، لسنّة، كما قال الله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}. أما دعاة الضلال- حتى ولو تَجَمْهَر حولهم مئات الألوف- فإن هذا غثاء كغثاء السيل. فالدعوة الصحيحة يبقى خيرها وأثرها على مرِّ الأجيال، أما الدعوة غير الصحيحة، أو الدعوة المغرضة التي يُقصد منها أشياء أخرى؛ فهذه وإن تَجَمْهَر الناس حولها في وقت من الأوقات، إلاَّ أنها لا بركة فيها، ولا خير فيها، ولا تؤثر في الناس خيراً. وهذا الحديث فيه من المسائل ما مررنا عليه، ويمكن أن نجمله فيما يلي: أولاً: فيه مشروعية إرسال الدعاة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل علي بن أبي طالب داعياً إلى الله قبل الجهاد. ج / 1 ص -120- ثانياً: -وهي مسألة مهمة-: أن الدعوة تكون قبل القتال، ولا يجوز أن يكون القتال قبل الدعوة، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}. ثالثاً: فيه وصية الإمام لمن يبعثه للدعوة إلى الله، وأنه يخطط له المنهج السليم، ويُرشده إلى الطريق الصحيح الذي يسير عليه، وأن المُرسل يستمد الإرشادات من قائده ومن إمامه، ولا يستبد هو بشيء، لأن هذا أضبط للأمور. رابعاً: في الحديث دليل على إثبات صفة من صفات الله عزّ وجلّ، وهي المحبة، ردًّا على نُفاة الصفات، الذين ينفون صفات الله عزّ وجلّ. خامساً: في الحديث دليل على معجزات من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم. أحدها: قوله: "لأعطيّن الراية غداً"، وقد وقع هذا. ثانياً: إخباره عن وقوع الفتح، وقد وقع. ثالثاً: بصقه صلى الله عليه وسلم في عيني المريض فيُشفى في الحال. هذه كلها من معجزاته صلى الله عليه وسلم وعلامات نبوته- عليه الصلاة والسلام-. سادساً: فيه فضل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- رضي الله تعالى عنه-، ردّاً على أعدائه من الخوارج والنواصب وغيرهم ممَن يتنقّصون الصحابة، ويقلّلون من قدرهم وشأنهم، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ولاسيّما الخلفاء الراشدون رضي الله تعالى عنهم. سابعاً: في الحديث دليل على حرص الصحابة على الخير، وأنهم يتنافسون في أمور الخير، لأنهم باتوا ليلتهم "يَدُوكون" يعني: يبحثون من سيحصل على هذه الميزة العظيمة، وأيضاً بادروا كلهم في الصباح، كلهم يرجوا أن يُعطاها. ثامناً: فيه الإيمان بالقدر، وهو أن الأمر قد يحصل لمن لم يسع إليه، ولا يحصل لمن سعى إليه لكن السعي إلى الخير مأمور به وحصول النتائج من الله سبحانه. تاسعاً:- وهي المسألة المهمة التي ساق الشيخ رحمه الله - هذا الحديث في الباب من أجلها-: وهي بيان منهج الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، وأن الداعية يدعو إلى الإسلام ويشرحه للناس. ج / 1 ص -121- عاشراً: فيه بيان خطة الجهاد الشرع، حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "اذهب على رِسْلِك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام"، هذا فيه التدرّج في الدعوة، والتهيُّء لها شيئاً فشيئاً، بدون تسرّع، وبدون جَلَبَة، وفَخْفَخَة. حادي عشر: فيه كما ذكر الشيخ رحمه الله: دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام، مع أنهم أهل كتاب، ويزعمون أنهم مؤمنون، وأنهم على الإسلام، وبيان أن ما هم عليه ليس هو الإسلام، وإن كان ينتسبون إلى الأنبياء، فهم ليسوا على الإسلام، لماذا؟، لأن الله أوجب إتباع هذا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم على كل مخلوق على وجه الأرض، من اليهود والنصارى وغيرهم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، لأن الله نسخ الأديان السابقة بهذا الدين العظيم، وجعله هو الدين الباقي: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} يعني: هذه الأمة، فتحول الكتاب والدين والدعوة إلى ما جاء به هذا الرسول صلى الله عليه وسلم: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، أي: كما أنه يملك السموات والأرض فهو الذي أرسلني، والأمر له سبحانه وتعالى. ثاني عشر: فيه فضل الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، وأن الداعية يحصل له من الأجر مثل أجر المدعويِّن، وأيضاً يحصل له من الأجر ما هو خير وأنفس مما في الدنيا من الأموال. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#10
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب تفسير التّوحيد وشهادة أن لا إله إلاَّ الله . ج / 1 ص -122- [ الباب السادس:] * باب تفسير التّوحيد وشهادة أن لا إله إلاَّ الله . مناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة؛ لأن الباب الذي قبله: "باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله "، وهذا الباب في تفسير هذه الكلمة، وبيان معناها، لأن الذي يدعو إلى شيء ويطلب من الناس أن يفعلوه، فلابد أن يبيّنه لهم، ويوضّحه لهم توضيحاً تامًّا، ولا يكتفي بمجرد أن يقول للناس قولوا: لا إله إلاَّ الله1 أو يقول للناس: ادخلوا في الإسلام، بل لابد أن يبين لهم معنى لا إله إلاَّ الله، وأن يبين لهم معنى الإسلام الذي يدعوهم إليه، ولابد مع ذلك أن يبَيّن لهم ما يناقض الإسلام، وما يناقض لا إله إلاَّ الله، من أنواع الرِّدّة، وأنواع الشرك، حتى تكون دعوته مُثمرة، وحتى يستفيد الناس من دعوته، أما أن يدعوَهم إلى شيء مجمل، فهذا لا يكفي. وكثير من الذين يتسمَّون بالدعوة في هذه الأيام من الجماعات أو الأفراد، أكثرهم لا يعرفون معنى لا إله إلاَّ الله على الحقيقة، ولا يعرفون معنى الإسلام على الحقيقة، ولا يعرفون نواقض الإسلام، ونواقض الشهادتين، وإنما يَدْعُون إلى شيء مجمل، وربما أن بعضهم يفهم هذا، ولكن لا يحب أن يبين للناس هذه الأشياء لأنهم- بزعمه- يَنْفُرون منه، وهو يريد أن يجمِّع الناس، يُجمعهم على ماذا؟، على جهالة؟، يجمعهم على ضلالة؟. لابد أن تبين ما تدعو إليه، وتوضح ما تدعو إليه كما قال تعالى في حق نبيه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} والبصيرة معناها: العلم بما يدعو إليه، ومعرفة معناه، حتى يوضحه للناس، والنبي صلى الله عليه وسلم -كما سبق في آخر الباب الذي قبل هذا- لما بعث عليًّا رضي الله عنه وأعطاه الراية، قال: "ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه"، ما قال: "ادعهم إلى الإسلام" واكتفى بهذا، بل قال: "أخبرهم بما يجب عليهم"، إذا 1وأما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للمشركين: "قولوا لا إله إلاَّ الله" وقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاَّ الله". فلأن المشركين يعرفون معنى هذه الكلمة لأنه لما قال لهم ذلك قالوا: "أجعل الآلهة إلهاً واحداً". وكثير من الناس لا يعرفون معناها بدليل أنهم يقولونها ويدعون غير الله من الموتى وغيرهم ج / 1 ص -123- قبلوا أن يدخلوا في الإسلام، فبيّن لهم: معنى الإسلام، واشرحه لهم، حتى يدخلوا فيه على بصيرة. وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلاَّ الله، فإن هم أجابوك لذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات"، إلى آخر الحديث، ولم يقف عند قوله: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله "، بل أمره أن يبيّن لهم بعدما ينطقون بالشهادتين، أن يبيّن لهم مقتضى هاتين الشهادتين، وأنه ليس المراد مجرد النُّطق بهما والتلفظ بهما، بل لابد من الالتزام والعمل. من هنا عقد الشيخ رحمه الله هذا الباب، بعد "باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله"؛ ليتبين من ذلك أن من دعا إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، فلابد أن يفسِّرها، ويفسِّر التّوحيد، حتى تكون دعوته على بصيرة، أما إن كان لا يعرف هذا، فلا يدخل فيما ليس من شأنه، حتى يتعلم هو بنفسه أولاً، أو إن كان يعرف هذا ولكن لا يريد أن يبينه للناس لغَرَض في نفسه، أو لإرضاء جماعته أو حزبه؛ فليبتعد عن هذا، ولا يكون محسوباً على الدعوة، وهو لا يقوم بواجبها، لأن هذا يصبح سُبَّةً على الدعوة، ونَكْسَة على الدعوة. فهؤلاء الذين شغلونا بهموم الدعوة -كما يقولون-، هم لا يفهمون معنى الدعوة، ولا يفهمون ما يُطلب من الداعية، فالواجب أن يكون الدعاة على بصيرة، حتى تُجدي دعوتهم، وحتى تنفع، وحتى يكتب لهم الأجر عند الله سبحانه وتعالى. وقول الشيخ: "تفسير التّوحيد، وشهادة أن لا إله إلاَّ الله " هذا من عطف الدال على المدلول، المدلول هو التّوحيد، وشهادة أن لا إله إلاَّ الله هو الدال، لأن شهادة أن لا إله إلاَّ الله تدل على التّوحيد، فهو من عطف الدال على المدلول، والشيخ رحمه الله جمع بينهما في الترجمة ليبين أن معناهما واحد، فمعنى التّوحيد هو لا إله إلاَّ الله، ومعنى لا إله إلاَّ الله هو التّوحيد، من أجل أن لا يخفى هذا على أحد، فيظن أن التّوحيد غير لا إله إلاَّ الله، بل هما شيء واحد، فهذا معنى جمع الشيخ رحمه الله، بين اللفظتين في الترجمة. وقد ذكر الشيخ في هذا الباب أربع آيات، وذكر حديثاً واحداً. ج / 1 ص -124- وقول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} الآية. الآية الأولى: قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}"، تتمة الآية: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} قال جمهور المفسرين: إن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يعبدون المسيح وأُمَّه وعُزَيْراً، فبيّن الله سبحانه أن هؤلاء الذين تدعونهم هم عبادي يدعونني، وهم فقراء إليّ يدعونني، ويتقربون إليّ بالطاعة، فهم عباد من عبادي، والعبد لا يصلح أن يكون معبوداً، وليس هناك في السموات والأرض إلاَّ من هو عبد لله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً(93)}، {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}، فكل الخلق، كل سكان السموات والأرض كلهم عباد لله، فلا يصلح أن يُعبدوا من دون الله عزّ وجلّ، ولذلك قال الله في الآية التي قبلها: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً(56)} هذا تعجيز للمشركين، وتعجيز لآلهتهم التي يعبدونها من دون الله. "قل ادعوا" هذا أمر تهديد ووعيد، "الذين زعمتم" والزّعم مَطِيَّة الكذب، الزّعم يُطلق على الأمر الذي لا حقيقة له، {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أنهم ينفعون أو يضرون من دون الله عزّ وجلّ. {مِنْ دُونِهِ} يعني: غير الله سبحانه وتعالى، {فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} إذا نزل بكم مرض فإن كل هؤلاء الذين تدعونهم من دون الله- بما فيهم الملائكة والأنبياء والصالحون والأولياء- كلهم لا يملكون كشف الضر، إذا أنزل الله ضرًّا بعبد فلن يستطيع أحد رفعه إلاَّ الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} لا يملكون كشف الضر، لا يملك كشف الضر إذا نزل ولا يرفعه إلاَّ الله سبحانه وتعالى، وبذلك تبطل عبادة هؤلاء، {وَلا تَحْوِيلاً} أي: نقله من محل إلى محل، لا يملكون نقل المرض من عضو إلى عضو، إذا أنزله الله بالرأس فلا يستطيع كل الخلق أو الأطباء المَهَرَة، لا يستطيعون أن يحولوا وجع الرأس إلى اليد، أو وجع اليد إلى الرِّجل، أبداً، وكذلك لا يستطيعون أن يحولوه من شخص إلى شخص آخر، إذا نزل مرض بعبد من العباد فلن يستطيع أطباء العالم والمستشفيات والمنظمات الصحية العالمية أن تنقل المرض ج / 1 ص -125- من شخص إلى شخص، ويصبح المنقول عنه بريئاً صحيحاً، أو ينقلون المرض من بلد إلى بلد، لا يستطيعون هذا، وإنما هذا تقدير العزيز العليم، هو الذي يقدر على كشف الضر ورفعه نهائياً، ويقدر على تحويله من محل إلى محل إذا شاء سبحانه وتعالى. وهذا من التحديات التي يتحدّى الله بها المشركين، ولن يجيبوا عنها إلى أن تقوم الساعة، فدلّ على انقطاع حجتهم. لا أحد قال: بلى آلهتنا تستطيع كشف الضر، أو تستطيع تحويل الضر، ما أحد قال هذا، فدلّ على انقطاع حجتهم وانخصامهم، وعاد الأمر لله سبحانه وتعالى. ثم بيّن سبحانه وتعالى أن هؤلاء الذين تدعونهم من دون الله أنهم عباد لله، هم بأنفسهم يدعون الله عزّ وجلّ؛ يرجون رحمته، ويخافون عذابه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}، فالملائكة وعيسى عليه السلام وأُمُّه، وعُزَيْر، وكل الصالحين، والأولياء بهذه المثابة، كلهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة. والوسيلة معناها في الأصل السبب الذي يُوَصِّل إلى المقصود، فالسبب الذي يُوَصِّل إلى المقصود يسمى: وسيلة. وأما معناها هنا: فالوسيلة: الطاعة والقُرب، فالملائكة- عليهم الصلاة والسلام-، وعيسى- عليه الصلاة والسلام، وعُزَيْر عليه السلام، والأولياء والصالحون كلهم يتقرّبون إلى الله بالطاعة، يعبدون الله، يعبدون الله لأجل أي شيء؟. {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} كل واحد يرجو أن يكون أقرب إلى الله سبحانه وتعالى، يتقرّبون إليه بطاعته، {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}، فدلّ على أنهم عباد فقراء إلى الله سبحانه وتعالى، يرجون رحمة الله لأنهم بحاجة إليها، ويخافون عذاب الله أن ينزل بهم، إذاً هم لا يستطيعون أن يجلبوا لأنفسهم النفع، ولا يستطيعون أن يدفعوا عنها الضرر، فكيف يملكون ذلك لكم يا من تعبدونهم؟. فالوسيلة هنا معناها: الطاعة والعبادة، وليس معناها ما يظنُّه، القبوريُّون والمخرِّفون أن الوسيلة معناها: أن تجعل بينك وبين الله شخصاً يرفع حوائجك إلى الله. هذه هي الوسيلة عند المشركين قديماً وحديثاً، كما يتخذ الناس الوسائط عند الملوك وعند السلاطين، قاسوا الله جل وعلا بالخلق، فكما أن الناس ج / 1 ص -126- لا يتوصلون إلى الملوك والسلاطين إلاَّ بوسائط من الوزراء والمقرّبين لدى الملوك ليبلّغوا حوائجهم إلى الملوك والسلاطين، قاسوا الله جل وعلا على خلقه، فقالوا: لابد أن نجعل بيننا وبين الله واسطة ترفع حوائجنا إلى الله عزّ وجلّ. وتقرّبوا إلى هؤلاء الوسائط بأنواع العبادات: فذبحوا لهم من دون الله، ونذروا لهم من دون الله، كالحاصل عند قبور الأولياء اليوم، يذبحون للقبور، وينذرون لها، ويطوفون بها، ويتمرّغون على ترابها، ويتمسحون بجدرانها وشبابيكها؛ من أجل أن هؤلاء الموتى رجال صالحون، يرفعون حوائج هؤلاء إلى الله بزعمهم. ج / 1 ص -127- لا يغيب، ولا يخفى عليه شيء، ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: "هل من سائل فأعطيه؟، هل من داع فأستجيب له؟، هل من مستغفر فأغفر له؟، هل من تائب فأتوب عليه؟". هذه هي الوسيلة عند هؤلاء، الذين انتكست أفهامهم، وهذا تنقُّص لله سبحانه وتعالى، وقد رد الله عليهم بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}، اتخذوا الوسائط من الأولياء بزعمهم أنهم يقرّبونهم إلى الله زلفى، أو يشفعون لهم عند الله، فعبدوهم من دون الله، فصرفوا العبادة للمخلوقين من أجل أن المخلوقين يتوسطون عند الله سبحانه وتعالى. هذا شرك الأولين وشرك أهل هذا الزمان باتخاذ الوسائط والشفعاء من الأموات والغائبين بينهم وبين الله سبحانه وتعالى، وصرفوا لهم أنواع العبادات والقُربات، بما زيّن لهم شياطين الإنس والجن من هذه الأباطيل، هذه هي الوسيلة عند هؤلاء. أما الوسيلة في القرآن والسنة فمعناها: الطاعة والعبادة، وليست اتخاذ الأشخاص وسائط، وإنما هي الطاعة والعبادة لله عزّ وجلّ، والله تعالى قريب مجيب، يعلم كل شيء، ليس بحاجة بأن تجعل بينك وبينه وسائط، بل ارفع حوائجك إليه، مباشرة، وصلِّ له، وانحر له، وانذر له، واعبده، وهو سبحانه وتعالى قريب مجيب: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، ما الداعي إلى إنك تجعل بينك وبين الله وسائط وهو قريب يسمعك ويراك سبحانه وتعالى ويجيب؟، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، باب الله مفتوح في الليل والنهار، وهو قريب من عباده سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى أنك تتخذ بينك وبينه وسائط من الأشخاص؛ من الأنبياء والصالحين والملائكة، بل ادعُهُ مباشرة، وتقرّب إليه مباشرة. وخواص عباده من الملائكة والأنبياء يبتغون إليه الوسيلة، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً}، يخاف منه أولياء الله سبحانه وتعالى العارفون به. فهذه الآية فيها أن من معنى لا إله إلاَّ الله: أن لا يُدعى إلاَّ الله، وأنها لا تتخذ الوسائط بين العباد وبين الله من الخلق، فمن اتخذ بينه وبين الله واسطة فقد أخلّ بمعنى: لا إله إلاَّ الله. هذه الآية الأولى في الباب: تدل على أن من معنى لا إله إلاَّ الله أن يُصرف الدعاء والتقرّب والعبادة لله سبحانه وتعالى، لا تُصرف لأحد من خلقه بحجة أنه واسطة بين العبد وبين ربه عزّ وجلّ، لأن الله ليس بينه وبين عباده واسطة من هذا النوع. أما الواسطة في تبليغ الوحي فإن بين الله وبين عباده واسطة لتبليغ الوحي والرسالات. أما الواسطة بين العباد وبين الله في رفع حوائجهم؛ فهذه غير موجودة، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "هناك واسطة من جحدها فقد كفر، وهناك واسطة من أقرّ بها فقد كفر". فما هي هذه الواسطة التي من جحدها فقد كفر؟ هم الرسل- عليهم الصلاة والسلام-، فهم واسطة بين الله وبين عباده في تبليغ الرسالات والأوامر والنواهي، فمن جحدها فقد كفر، لأنه جحد رسالة الرسل. وهناك واسطة من اقرّ بها فقد كفر، وهي أن يجعل إنسان بينه وبين الله واسطة في تبليغ حوائجه ورفع دعائه، يتقرّب إلى هذه الواسطة بالعبادة، وهذه الواسطة- بزعمه- تطلب له من الله ما يحتاجه. ج / 1 ص -128- وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} الآية. الآية الثانية: قوله سبحانه وتعالى: "{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(28)}" إبراهيم هو الخليل- عليه الصلاة والسلام-، الذي تكرّر ذكره في القرآن الكريم، وأثنى الله عليه، وأمر باتباعه والاقتداء به، وهو أبو الأنبياء- عليه الصلاة والسلام-، اتخذه الله خليلاً، وجعله إماماً للناس، أي: قُدوة يُقتدى به، وجعل الأنبياء الذين جاءوا من بعده من ذريته: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}، فكل الأنبياء الذين جاءوا بعد إبراهيم فهم من ذرية إبراهيم عليه السلام، فأنبياء بني إسرائيل من ذرية إسحاق، ومحمد صلى الله عليه وسلم من ذرية إسماعيل، فكلهم إذاً من ذرية إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-، ولهذا سُمِّي "أبا الأنبياء". "{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ}" أول ما بدأ بأبيه. "{وَقَوْمِهِ}" الذين بعثهم الله إليهم، وهم الأمة التي كانت تعبد الكواكب، وهم الصابئة المشركون الذين كانوا يعبدون الكواكب، وكان ملكهم النُّمْرُود الذي قال الله فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ}، جادله وجحد أن يكون هناك رب غيره {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} يعني: بسبب أن الله أعطى النُّمْرُود الملك تكبّر وعصى، بدل أن يشكر الله عزّ وجلّ ما أعطاه، {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}، بمعنى أن يقتل من شاء ويترك من شاء فأراد إبراهيم أن يأتي بأمر لا يمكنه أن يُغالط فيه: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ}، فلم يمكنه أن يغالط في هذا الأمر، لأنه لا يمكنه أنه يُغالط ويدَّعي أنه يأتي بالشمس من المغرب، معاكسة لتدبير الله سبحانه وتعالى، {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. وقوله: "{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}" براء وبريء بمعنىً واحد، معناه: قطع الصِّلة والبعد عن المُتَبَرَّأُ منه، بخلاف الموالاة، فإن معناها: القُرب والاتصال بالمُوَالى، أما البراءة فمعناها: البعد والانقطاع، يقال برأ القلم إذا قطعه. ج / 1 ص -129- "{مِمَّا تَعْبُدُونَ}" يعني مما تعبدون من الأصنام والكواكب وغيرها، وهذا تحدٍّ لهم، تحدَّى آلهتهم وتبرّأ منها، ولو كانت قادرة لانتقمت منه، لأنه يتبرّأ منها على رؤوس الأشهاد، ويكفر بها، ومع ذلك لا تمسُّه بسوء؟، هذا دليل على بُطلانها. "{إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي}" يعني: الله سبحانه وتعالى، و"{فَطَرَنِي}"، يعني: خلقني، فالفَطْر معناه: ابتداء الخلق من غير مثال سابق، فلم يتبرّأ منه لأنه ربه وحده لا شريك له. "{فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}" وهذا معنى: لا إله إلاَّ الله، لأن قوله: "{إِنَّنِي بَرَاءٌ}" معناه: النفي؛ لا إله، "{ِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي}" معناه، الإثبات؛ إلاَّ الله. فهذه الآية فيها معنى لا إله إلاَّ الله، إذاً فهي تفسر لا إله إلاَّ الله بأن معناها ترك عبادة الأصنام، والبراءة منها، وإخلاص العبادة لله. أما الذي يعبد الله ويعبد معه غيره، فهذا لم يحقق لا إله إلاَّ الله، وان كان يتلفظ بها بلسانه، فالذي يقول: لا إله إلاَّ الله ثم يذهب إلى القبور، ويطلب منها الحوائج، ويتمسح بها، ويستغيث بها، يطلب المدد منها، ويطوف بها. فهذا لم يتبرّأ من الشرك، فلا تنفعه لا إله إلاَّ الله ولو قالها عدد الأنفاس، لأن لا إله إلاَّ الله ليست مجرد لفظ يقال باللسان، وإنما لها مقتضى ومدلول ومعنى لابد أن يحقق، وهو عبادة الله والبراءة من الشرك والمشركين. فالذي لا يتبرّأ من الشرك فإنه لم يحقق لا إله إلاَّ الله، وإن تلفظ بها، وجعل له منها أوراداً صباحية ومسائية، ومعه سبْحَة طول الباع يسبِّح بها، ومعه أوراد يردِّدها وفيها لا إله إلاَّ الله آلاف المرّات، لا تنفعه أبداً حتى يفعل ما فعل إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-، فيتبرّأ من الشرك. "{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً}" جعل لا إله إلاَّ الله كلمة باقية في عقبه، في ذرية إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-، فلا يزال فيها من يقول هذه الكلمة ويعمل بها إلى أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم بها، ودعا إليها. بقيت في عَقِبه، وإن خالفها الأكثر، إلاَّ أنه يوجد في ذرية إبراهيم عليه السلام من التزم بها ولو كانوا قليلين، إلى أن بُعث محمد صلى الله عليه وسلم، فلم تَخْلُ الأرض من التّوحيد ولله الحمد، ولا تخلو إلاَّ عند قيام الساعة، وإذا خلت الأرض من التّوحيد قامت القيامة، كما في الحديث: "لا تقوم الساعة وفي الأرض ج / 1 ص -130- وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية. من يقول: الله الله"، لأن الأرض لا تبقى إلاَّ فع التّوحيد، لأن لا إله إلاَّ الله كلمة قامت بها السموات والأرض، ونُصبت من أجلها الموازين، وأُسست المِلّة، وفُرض الجهاد، من أجل لا إله إلاَّ الله، فهذه الكلمة لا تزال، لكن أحياناً يكثر أنصارها والقائمون بها، وأحياناً يقلُّون، إلاَّ أنهم لا ينعدمون إلاَّ عند قيام الساعة، حتى ولو كثر الشرك، فإنه يكون في الأرض من يعبد الله وحده لا شريك له إلى قرب قيام الساعة. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: يرجعون إليها، ويحققونها، وهذا حاصل والحمد لله، فإنه وإن حصل الشرك وكثر، فإن من ذرية إبراهيم عليه السلام من يرجع إلى التّوحيد الصحيح ويدعو إليه ويجدّده للناس، فهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى. فهذه الآية- كما ذكرنا- دلّت على أن معنى التّوحيد، وشهادة أن لا إله إلاَّ الله: البراءة من الشرك، وإفراد الله تعالى بالعبادة، فهي تفسِّر لا إله إلاَّ الله. الآية الثالثة: قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} تتمة الآية: {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} {أَحْبَارَهُمْ} الأحبار: جمع حَبْر، أو حِبِر، وهو العالم. والرهبان: جمع راهب، وهو العابد. والأحبار والرهبان موجودون في اليهود والنصارى، فاليهود والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، بأيِّ شيءٍ اتخذوهم أرباباً من دون الله، فسرّ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لَعَدِّي بن حاتم الطائي؛ لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم: " {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}"، واستشكلها عدي، لأنه كان نصرانيًّا، فقال: يا رسول الله لسنا نعبدهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أليسوا يحرّمون ما أحل الله، فتحرمونه؟"، قال: بلى، قال: "أليسوا يحلُّون ما حرّم الله، فتحلُّونه؟"، قال: بلى، قال: "فتلك عبادتهم". فمعنى: "{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}" أنهم أطاعوهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال؛ فدلّ هذا على أن من أطاع مخلوقاً في تحليل ما ج / 1 ص -131- حرّم الله أو تحريم ما أحل الله، فقد اتخذه ربًّا يعبده من دون الله، وهذا ما يسميه العلماء بشرك الطاعة. والشاهد من الآية للباب: أنها دلّت على أن من معنى لا إله إلاَّ الله: أن لا يُطاع إلاَّ الله سبحانه وتعالى، وأن من أطاع أحداً في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله فقد اتخذه ربًّا من دون الله. لكن إذا كان يعتقد أن تحليل الحرام وتحريم الحلال أمر جائز، فهذا شرك أكبر يخرجه من الملّة، أما إذا لم يعتقد جواز هذا، بل يعتقد أن التحليل والتحريم حقٌّ لله سبحانه وتعالى، ولكنه فعله من باب الهوى، أو من باب تحصيل بعض المصالح، فهذه معصية عظيمة، لكنها لا تصل إلى حد الشرك الأكبر فطاعة المخلوقين في تحليل الحرام وتحريم الحلال، لا تجوز أبداً، لكن فيها تفصيل من حيث الكفر والشرك وعدم ذلك. والحاصل من هذا كله: أن الآية الكريمة دلّت على أن من تفسير التّوحيد وشهادة أن لا إلاَّ الله أن لا يُطاع إلاَّ الله سبحانه وتعالى في الحلال والحرام، وأن من أطاع مخلوقاً في التحليل والتحريم فقد اتخذه ربًّا من دون الله عزّ وجلّ. ويشهد لهذه آيات أخر كما ذكر الله في سورة الأنعام لما ذكر أن المشركين يستبيحون الميتة، مع أن الله حرّمها ونهى عباده عنها، وأخبر أن المشركين سيجادلون المؤمنين في ذلك، ثم قال: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} إن أطعتم المشركين في استباحة الميتة {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}. ويقول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} {شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ} يعني: من الحلال والحرام والعبادة ما لم يأذن به الله، فالتشريع حق لله سبحانه وتعالى، لا يجوز أن يُطاع فيه أحد من المخلوقين غير الرسل، فمن أطاع أحداً من المخلوقين في التشريع؛ فإنه قد اتخذه شريكاً لله عزّ وجلّ، وهذا من معنى لا إله إلاَّ الله وهو إفراد الله تعالى بالطاعة في تحريم ما حرّمه وتحليل ما أحلّه. ج / 1 ص -132- وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} الآية. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال: لا إله إلاَّ الله، وكفر بما يُعبد من دون الله، حَرُم ماله ودمه، وحسابه على الله عزّ وجلّ". الآية الرابعة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} تتمة الآية: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}. "{وَمِنَ النَّاسِ}" بعض الناس يعني: المشركين. "{مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ}" يعني: غير الله. "{أَنْدَاداً}" جمع نِدْ، والنِّد معناه: الشبيه والنظير والمثيل، يقال: فلان نِدُّ فلان، بمعنى: أنه يشبهه، وأنه نظيره، وأنه يساويه. فاتخاذ الأنداد من دون الله معناه اتخاذ الشركاء، سُمُّوا أنداداً لأن المشركين سوّوهم بالله عزّ وجلّ، وشبّهوهم بالله عزّ وجلّ وأحبوهم محبة عبادة وتذلل. "{يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}" الحب عمل قلبي ضد البُغض. فالمشركون اتخذوا من الأحجار والأشجار والأصنام شركاء لله سوّوهم بالله في المحبة، يحبونهم كما يحبون الله عزّ وجلّ، فالمراد هنا محبة العبادة، فالمشركون يحبون أصنامهم كما يحبون الله عزّ وجلّ محبة عبادة وتذلل. "{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}" من المشركين لله، فالمشركون يحبون الله، والمؤمنون يحبون الله، ولكن المشركين يحبون الله ويحبون معه غيره، أما المؤمنون فيحبون الله وحده، ولا يشركون معه غيره في المحبة، فلذلك صار المؤمنون أشد حبًّا لله، لأن محبتهم خالصة، ومحبة المشركين مشتركة، فدلّت الآية على أن المشركين يحبون الله، ولكنهم لمّا أحبوا معه غيره صاروا مشركين، وأن التّوحيد لا يصح إلاَّ بإخلاص المحبة لله عزّ وجلّ. فدلّت الآية الكريمة على: أن من تفسير لا إله إلاَّ الله وتفسير التّوحيد إفراد الله بالمحبّة، وأن لا يُحَبَّ معه غيره محبة عبادة بل يُفرد الله جل وعلا بالمحبّة، ولا يُحَبَّ معه غيره، محبة العبادة. قال الشيخ رحمه الله: "وفي الصحيح" يعني: صحيح الإمام مسلم. "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لا إله إلاَّ الله، وكفر بما يُعبد من دون الله؛ حَرُم ج / 1 ص -133- ماله ودمه وحسابه على الله" علّق حُرمة المال والدم على شيئين: الشيء الأول: أن ينطق بكلمة لا اله إلاَّ الله. الشيء الثاني: أن يكفر بما يُعبد من دون الله، فإذا تحقق هذان الشيئاًن حرُم ماله ودمه، لأنه صار مسلماً، والمسلم يحرُم دمه وماله. "وحسابه على الله " فإن كان صادقاً في قول هذه الكلمة فإنه يكون مسلماً حقًّا، باطناً وظاهراً ويدخل الجنة، وإن كان قالها ظاهراً فقط فهذا هو النفاق، وذلك يحقن دمه ويحرم ماله، ولكنه في الآخرة يكون في النار {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}. فمن قال لا إله إلاَّ الله كَفَفْنا عنه وحقنا دمه وحرّمنا ماله، أما دخوله الجنة، وكونه مؤمناً حقًّا، فهذا عند الله سبحانه وتعالى، هو الذي يعلم ما في القلوب، ويجازي عليها، وحسابه على الله عزّ وجلّ. وإن ظهر منه ما يناقض هذه الكلمة حكم عليه بالردة. الحاصل؛ أن هذا الحديث بيّن معنى التّوحيد، ومعنى لا إله إلاَّ الله، وأنه النطق بالشهادة مع الكفر بما يُعبد من دون الله عزّ وجلّ والبراءة منه، أما لو قال لا إله إلاَّ الله وهو لا يكفر بما يُعبد من دون الله بأن كان يعبد القبور، ويدعو الأولياء والأضرحة، فهذا لم يكفر بما يُعبد من دون الله، ولا يحرُم دمه ولا يحرُم ماله، لأنه لم يأت بالأمرين، وإنما أتى بأمر واحد، وهو قول: لا إله إلاَّ الله، ولكنه لم يكفر بما يُعبد من دون الله، لأنه يقول إن عبادة القبور ليست بشرك، فهو لم يكفر بما يُعبد من دون الله، فمعناه أنه لا يحقن دمه، ولا يَحْرُم ماله، لأنه ما دام أنه لم يكفر بما يُعبد من دون الله، فإنه لم يحصل المقصود. فهذا الحديث عظيم جدًّا، وهو حجة للموحّدين على أصحاب الشبه والمشركين، الذين يقولون: من قال لا إله إلاَّ الله فهو المسلم ظاهراً وباطناً ولو فعل ما فعل، يعبد القبور، ويذبح للأولياء والصالحين، ويعمل السحر والشعوذة، ويعمل كل شيء، هو مسلم حقاً ما دام يقول: لا إله إلاَّ الله. ولهذا يقول الشيخ رحمه الله: "لم يجعل النطق بلا إله إلاَّ الله، بل ولا كونه لا يدعو إلاَّ الله، بل ولا معرفة معنى هذه الكلمة، لم يجعل كل هذه الأمور عاصمة للدم والمال حتى يضيف إليها الكفر بما ج / 1 ص -134- وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب: يُعبد من دون الله"، فالذي يقول أنا ما أكفِّر هؤلاء، أنا ما أكفر من يعبدون الحسن والحسين والبدوي، لا أكفّرهم لأنهم يقولون: لا إله إلاَّ الله؛ هم إخواننا، لكن أخطئوا، نقول له: أنت مشرك مثلهم، لأنك لم تكفر بما يُعبد من دون الله، والله تعالى قدّم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} فلابد من الكفر بالطاغوت، ولابد من الكفر بما يعبد من دون الله عزّ وجلّ، واعتقاد بطلانه، والبراءة منه ومن أهله، وإلا فلا يصير الإنسان مسلماً، لأن هذا تلفيق بين الإسلام والكفر، ولا يجتمع الكفر والإسلام أبداً. فهذا الحديث على اختصاره منهج عظيم، يبيّن معنى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأنها ليست مجرد لفظ يقال باللسان ويردّد في الأذكار والأوراد، وإنما هي حقيقة تقتضي منك أن تكفر بما يُعبد من دون الله، وأن تتبرّأ من المشركين، ولو كان أقرب الناس إليك، كما تبرأ الخليل- عليه الصلاة والسلام- من أبيه وأقرب الناس إليه. ثم قال رحمه الله: "وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب" أي: أن الأبواب الآتية إلى آخر كتاب التّوحيد، كلها تفسير لهذه الكلمة، مثل باب: النهي عن لبس الحَلْقَة والخيط، والتبرك بالأشجار والأحجار وباب السِّحر، وباب التَّنْجيم، وباب ما جاء في الطِّيَرة، وباب الرُّقى والتمائم، إلى آخر ما في هذا الكتاب من الأبواب، كله يفسِّر التّوحيد، ويفسِّر معنى: لا إله إلاَّ الله. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#11
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد بابُ من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه ج / 1 ص -135- [الباب السابع:] * بابُ من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه مناسبة هذا الباب لما قبله من الأبواب: أن الشيخ رحمه الله لما ذكر في الباب الذي قبله بيان معنى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وتفسير التّوحيد، وأن ذلك هو عبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه؛ ناسب أن يذكر في هذا الباب وما بعده أشياء من الشرك الأكبر أو الأصغر، الذي هو ضدّ التّوحيد، وضدّ شهادة أن لا إله إلاَّ الله أو منقص لهما. وقوله رحمه الله تعالى: "بابٌ من الشرك" أي: من أنواع الشرك، "لبس الحلْقة والخيط ونحوهما" مما يعلّق على البدن أو على الدابة، أو على السيارة أو على الأبواب من الأشياء التي يعتقدون فيها أنها تدفع عين الحاسد، وأنّها تحرس البدن، أو تحرس الدابة، أو تحرس السيارة أو تحرس البيت أو المتجر من الشرور والمحاذير، وهذه عادة جاهلية لا تزال في بعض الناس إلى اليوم، بل تتزايد بسبب الجهل، فإنهم يعلّقون هذه الأشياء على أجسامهم، وعلى أجسام الأطفال، وعلى السيارات، والدكاكين، والبيوت، قصدهم من ذلك أن هذه الأشياء تدفع عنهم الشرور والمحاذير، وهذا من الشرك لأنه تعلق على غير الله سبحانه وتعالى، لأن الله جل وعلا وهو الذي يدفع الشر، وهو الذي إذا أراد بعبده شيئاً فلابد أن يقع إما في نفسه أو في ماله أو في أهله، فلا أحد يدفعه، وإذا منع شيئاً فلا أحد ينزله {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2)}، الأمر كله بيد الله جلّ وعلا، فيجب أن تتعلق القلوب بالله عزّ وجلّ، وأن تُخلص العبادة لله عزّ وجلّ، وأن لا يخاف إلاَّ من الله عزّ وجلّ، فمن تعلّق قلبه بالله ووحّد الله، فإنه لا يضره شيء إلاَّ بإذن الله سبحانه وتعالى، أما من تعلّق على غير الله، فإن الله يَكِلُه إلى ما تعلق عليه، ويبتليه- كما يأتي-. ج / 1 ص -136- وقول الله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} الآية. قال: "وقول الله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ}، تتمة الآية: {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}". هذه الآية من سورة الزمر، السورة العظيمة التي قرّر الله فيها التّوحيد، وأبطل فيها أنواع الشرك، فالسورة من أولها إلى آخرها تعالج قضية العقيدة، وتعالج قضية أنواع الشرك التي كان المشركون يزاولونها، فأبطلتها هذه السورة ونقضتها، ومن ذلك هذه الآية الكريمة. "{قُلْ}" يا محمد، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي قل لهؤلاء المشركين: "{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}" من الأصنام والأحجار والأشجار والقبور والأضرحة والأولياء والصالحين، وكل ما يُعبد من دون الله. فالسؤال موجّه إلى كل مشرك على وجه الأرض إلى أن تقوم الساعة، هل يستطيع الإجابة عنه؟، لا. "{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ}" أي: أخبروني "{مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}" "{مَا}" عامة لكل ما يُدعى من دون الله، لا يُستثنى منها شيء، سواء كان من البشر أو من الجماد أو غير ذلك. "{إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ}" يعني: بضرر، أو بفقر، أو بموت، أو أرادني بضياع مال، أو إصابة في قريب، أو غير ذلك مما يضرّني في بدني أو في مالي أو في أهلي. "{هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ}" هل هذه المعبودات التي تعبدونها تستطيع أن تكشف الضر عمّن دعاها؟، وهذا مثل ما سبق في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً(56)}، "{هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ}"؟، سؤال استنكار ونفي، أي. لا تكشف الضر عمن دعاها. ولذلك المشركون يمرضون، ويُقتلون، ويُصابون، وتذهب أموالهم، ولا تستطيع معبوداتهم أن تدفع عنهم شيئاً نزل من الله سبحانه وتعالى. "{أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ}" من صحة وغنىً وغير ذلك من أنواع الرحمة، هل أحد ج / 1 ص -137- من الخلق يستطيع أن يمنع نزول الرحمة على أحد من عباد الله؟، فظهر بذلك عجز آلهة المشركين. والنبي صلى الله عليه وسلم قال لهم هذا وتلا عليهم القرآن، وسألهم هذا السؤال، وأعلنه على رؤوس الأشهاد، ولم يُجيبوه، ولن يجيبوه إلى أن تقوم الساعة. هذه من جملة الأسئلة التي وجهها الله في القرآن إلى المشركين ولم يجيبوا عنها. فدلّ على بطلان الشرك. "{قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ}" أي: هو كافيني، لأن الحَسْب معناه: الكافي، فهذا فيه تفويض الأمور إلى الله سبحانه وتعالى، وتعليق القلوب بالله سبحانه وتعالى دون ما سواه، لما أبطل الشوك في أول الآية قرّر التّوحيد بقوله: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} أي: هو كافيني ولن يستطيع أحد أن يضرني من دون الله أو ينفعني من دون الله، ولهذا يقول هود -عليه الصلاة والسلام- لقومه: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ(55)} ثم قال{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56)}. "{عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}" ولا يتوكلون على الحلْقة والخيط والصنم والقبر والولي أو غير ذلك، بل الذي يُتوكّل عليه هو الله سبحانه وتعالى، لأنه بيده مقادير الأشياء. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عباس: "واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلاَّ بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلاَّ بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجَفَّت الصحف". فالأمور كلها مرجعها إلى الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يستحق أن يُعبد، وأن يُتوكّل عليه، وأن يُدعى، ويُرجى، ويُخاف سبحانه وتعالى، وما عداه فإنه خلق من خلق الله، مسخّر بيد الله سبحانه وتعالى، إن شاء سلّطه عليك وإن شاء منعه عنك، ما في الأرض من الأشرار من بني آدم ومن الشياطين ومن الجن ومن الإنس ومن الحيّات والسباع ومن سائر الأشياء الضارة، كلها بيد الله سبحانه وتعالى، إن شاء سلّطها عليك وإن شاء أمسكها عنك، فلا تخف من غير الله عزّ وجلّ، وكذلك الخير بيد الله سبحانه وتعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍج / 1 ص -138- عن عمران بن حُصين رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلْقة من صُفْر، فقال: "ما هذا؟". قَدِيرٌ}، بيده الخير فلا يملك أحد من الخلق أن يُعطيك شيئاً من الخير إلاَّ إذا أراده الله سبحانه وتعالى لك، ويكون هذا الشيء سبب فقط أجرى الله على يده الخير لك، أو سبب أجرى الله على يده الضرر عليك فهي، مجرّد أسباب، وإلا فما من شك أن النار تُحرق، وأن السَّبُع يفترس، وأن العدو يَفْتِك بعدوه، ولا شك أن الله خلق أشياء فيها ضرر، ولكن هذه الأشياء جنود من جنود الله سبحانه وتعالى، نواصيها بيد الله: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}، فإذا أراد الله سلّط عليك هذه الجنود، وإذا أراد الله حبس عنك هذه الجنود، إذاً فلا تعلق قلبك إلاَّ بالله عزّ وجلّ، ولا تتوكل إلاَّ عليه، ولا تُفوِّض أمورك إلاَّ عليه سبحانه وتعالى، ولا يمنع هذا من أن تتخذ الأسباب- الجالبة للخير والأسباب الواقية من الشر، ولكن الاعتماد على الله سبحانه وتعالى. قوله: "عمران بن حُصين" بن عُبيد الخزاعي، هو وأبوه صحابيّان رضي الله عنهما، ومن أفاضل الصحابة. "وفي يده حلقة" الحلْقة هي: الشيء المستدير الذي يُدار على العضد، أو على الذِّراع، أو على الأصبع. فالشيء المستدير يسمى حلْقة، ومنه تحلّق القوم إذا استداروا في الجلوس. "من صُفر" الصفر نوع من المعدن معروف. "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هذا؟"" الظاهر أنه سؤال إنكار، وقيل: إنه سؤال استفهام، فالنبي صلى الله عليه وسلم سأله عن قصده في هذه الحلقة. ففيه دليل على وجوب إنكار المنكر، وفيه دليل على أن الإنسان لا ينكر شيئاً حتى يعرف مقصود صاحبه إذا كان الشيء محتمِلاً، فإن كان مقصود صاحبه شرًّا فإنه ينكره. ج / 1 ص -139- قال: من الواهِنَة. فقال: "انزعها، فإنها لا تزيدك إلاَّ وهناً، فإنك لو متّ وهي عليك ما أفلحت أبداً"، رواه أحمد بسند لا بأس به. "قال: من الواهنة" يعني: لبستها من أجل دفع الواهنة، لتقيني منها، والواهنة مرض يصيب اليد، يُسَمَّى عند العرب بالواهنة، وكان من عادتهم لبس الحلْقة من أجل توقِّي هذا الوجع، يزعمون أن هذه الحلْقة تدفع هذا الوجع. "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "انزعها" النزع معناه: الرفع بشدّة، أي: ارفعها مسرعاً بنزعها ونشيطاً في رفعها لا تتوانى، في تركها على جسمك، لأنها مظهر شرك- والعياذ بالله-. ففيه المبادرة بإزالة مظاهر الشرك، وأن الإنسان لا يتوانى في تركه. ثم علّل صلى الله عليه وسلم ما في بقائها عليه من الضرر، قال: "فإنها لا تزيدك إلاَّ وهناً" إلا ضعفاً، فالوهن معناها: الضعف والمرض. فهذا فيه دليل على أن لبس هذه الأشياء فمن الحلْقة ونحوها بقصد دفع الضرر أنه يسبّب عكس المقصود، فإنه لبسها من أجل توقِّي المرض، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنها تجلب المرض، وذلك ظاهر في الذين يتعاطون هذه الأشياء؛ تجدهم دائماً في قَلَق وفي خوف، لكن الذي يتوكل على الله لا يهمّه شيء فتجده نشيطاً، قويّ العزيمة، مرتاح الضمير، منشرح الصدر، وتجد الذي يخاف من غير الله ويستعمل هذه، الرباطات ضعيف الجسم، منهك القوى، مهموماً حزيناً، يتخوّف من كل شيء. "فإنك لو متّ وهي عليك ما أفلحت أبداً" أي: لو مات ولم يتب منها ما أفلح أبداً. فهذا فيه دليل على أن الشرك لا يُغفر حتى ولو كان شركاً أصغر، يُعذّب به، وإن كان لا يعذّب تعذيب المشرك الشرك الأكبر؛ فلا يخلّد في النار، لكن يعذّب بها بقدره. قال الشيخ رحمه الله في مسائله: "فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر"، فالشرك الأصغر أكبر من الكبائر، لأن المعاصي وإن كانت كبائر إذا لم تكن شركاً، فلا تخل بالعقيدة وأما الشرك الأصغر فإنه يخلّ بالعقيدة، وأيضاً لا يُغفر على الصحيح، والمعاصي الكبائر التي دونه مظِنّة المغفرة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. ج / 1 ص -140- والشاهد من هذا الحديث ظاهر: لأن النبي صلى الله عليه وسلم استنكر لبس الحلْقة التي يُقصد منها دفع الضرر، وأخبر أنها لا تزيد صاحبها إلاَّ مرضاً، وأنه لو مات وهي عليه ما أفلح أبداً، وهذا فيه دليل على منع لبس الحلْقة ونحوها من أجل دفع الضرر، أو من أجل دفع العين، أو غير ذلك من المقاصد السيّئة. ومثله: ربط الخيط على الساق، فبعض الناس يربطون خيوطاً على سيقانهم، أو على أذرعهم، أو على أصابعهم، ويقولون: إن هذا يمنع من المرض، وهذا هو نفسه فعل الجاهلية، وهو مثل الذي استنكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث. قال: "رواه أحمد" الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، الإمام الجليل، أحد الأئمة الأربعة، شيخ المحدّثين رحمه الله، وهو الإمام الذي امتُحن وصبر، امتُحن في العقيدة على يد المأمون والمعتصم والواثق من خلفاء بني العباس، لأن المأمون تأثّر بالمعتزلة، وأدخلوا عليه أشياء مستنكرة، منها: القول بخلق القرآن- والعياذ بالله-، ومنها: تعريب الكتب الرُّومية وكتب الأمم الكافرة، التي لما عُرِّبت دخل على عقائد المسلمين منها الشر الكثير، وهذا كله بسبب المعتزلة، لأنهم غرّروا بهذا الخليفة. ففي هذا خطر الفِرق الضالة، وخطر مصاحبتها والقُرب منها، ولهذا كان السلف يُحذِّرون من مصاحبة المبتدعة ومن مجالستهم، لأنهم يُؤثِّرون على من صاحبهم. وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}. فهؤلاء لما صاحبوا هذا الخليفة استمالوه معهم، فصار ضد أهل السنّة، ووقف الإمام أحمد في وجهه، وأبى أن يقول بخلق القرآن، حتى ضُرب وسُجن وعُذّب، ولكنه صبر رحمه الله وصابر، وتعاقب عليه ثلاثة خلفاء، كلهم ضدّه: المأمون، والمعتصم، والواثق، ولكنه صبر ووقف بحزم وثبات، ولم يَخْضع لهم، وصبر على الضرب وعلى الحبس، وعلى الإهانة حتى نصره الله عزّ وجلّ، وجاء المتوكِّل ورفع عنه المحنة، وناصره، وصارت العاقبة للمتقين- والحمد لله-، وأخزى الله المعتزلة ومن تابعهم. فهذا الإمام يجب أن نعرف موقفه من أجل أن نقتدي به، وأن نعرف- أيضاً- ج / 1 ص -141- وله عن عُقبة بن عامر مرفوعاً: "من تَعَلّق تَمِيمَة؛ فلا أتم الله له، ومن تَعَلَّق وَدَعَة؛ فلا وَدَعَ الله له". موقفنا من الفِرق الضالة والفِرق المخالفة لأهل السنة والجماعة حتى لا نتساهل معها، ونعمل عمليّة تجميع، ونقول: نحن نجمِّع ولا نفرّق كما تقوله بعض الجماعات!. بل يجب أن نفرّق بين أهل الحق وأهل الباطل، نحن مع أهل الحق وإن قَلُّوا، ولسنا مع أهل الباطل وإن كثروا، هذا هو الموقف الصحيح. فالإمام أحمد وحده وقف في وجه أمة، ونصره الله عليهم، ولابد أن الإنسان يناله أذى في مقابل موقفه وصبره وثباته، لكن ما دام على الحق لا يهمه ذلك، وهذا في موازينه وفي حسناته عند الله سبحانه وتعالى. فهذا الحديث: "رواه أحمد" في مسنده "بسند لا بأس به"، ورواه الحاكم في مستدركه، وقال: "صحيح الإسناد"، ووافقه الإمام الذهبي رحمه الله. قال: "وله" أي: للإمام أحمد رحمه الله "من تعلق تميمة فلا أتم الله له" إلخ. قوله: "من تَعَلَّق" أي: من علّق هذا الشيء على جسمه، أو علّق قلبه به، واعتقد فيه أنه ينفعه أو يضره من دون الله عزّ وجلّ. "تميمية" التَمِيمَة: خرزات تعلّق على الأولاد يتّقون بها العين، وكذلك ما شابهها من كل ما يُعلّق من الخرزات وغيرها من الحُرُوز والحُجُب، فهذا ليس بخاص بالخرز، وإنما هذا التفسير لبيان نوع من أنواع المعلّقات، ومنهم من يعلّق النعل على الباب، ويجعل وجه النعل مقابلاً للشخص الآتي، أو على السيارة، ويظنون أن هذه الأشياء تدفع عنهم شر الحسد، وكل هذا من أمور الجاهلية. وقوله: "فلا أتم الله له" هذا دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله لا يتمّ له أموره، ويعكس مقصوده عليه؛ والرسول صلى الله عليه وسلم مجاب الدعوة، فهذه الدعوة تتناول كل من علّق على نفسه أو على غيره شيئاً من الحُجُب والحُرُوز والتمائم يريد بها كفّ الشر عنه إلى يوم القيامة، إلاَّ أن يتوب إلى الله عزّ وجلّ، فمن تاب تاب الله عليه، ومن لم يتب "فلا أتمّ الله له" يعني: لا أتم الله له أمره ومقصوده، بل أصابه بعكس ما يريد من الضرر والشر والخوف والقلق، ولهذا تجدون من يعلِّقون هذه الأشياء من أكثر الناس ج / 1 ص -142- وفي رواية: "من تَعَلَّق تَمِيمَة؛ فقد أشرك". خوفاً وهمًّا وحزناً وضعفاً وخوراً، بعكس الموحّدين المعتمدين على الله، فتجدونهم أقوى الناس عزيمة وأقوى الناس عملاً، وتجدونهم لأن أيضاً- في أمن واستقرار وانشراح الصدور، لأنهم يؤمنون بالله عزّ وجلّ وحده، ويعلّقون آمالهم بالله عزّ وجلّ، والله يكفيهم سبحانه وتعالى: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}. وقوله: "ومن تعلق وَدْعَة؛ فلا وَدَع الله له" الوَدْع: شيء يُستخرج من البحر، يشبه الصّدف، يعلقونه على صدورهم أو على أعناقهم أو على دوابهم يتقون به العين. "فلا وَدَعَ الله له" أي: لا تركه في دَعَة وسُكُون وراحة، بل سلّط عليه الهموم والأحزان والوساوس والأعداء حتى يُصبح في قلق وهمّ وغمّ دائم، وهذا دعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يسلب الله راحته واستقراره وأمنه، ويصبح في خوف وهمّ وقلق دائم، يخاف من كل شيء، إلى أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا ظاهر في كل من يتعاطون هذه الأشياء، تجدونهم من أشد الناس قلقاً وهمًّا وخوفاً وتوقُّعاً للمكروه في كل لحظة ومن كل شخص. قال: "وفي رواية" يعني: للإمام أحمد رحمه الله. "من تعلّق تَمِيمَة؛ فقد أشرك" هذه فيها زيادة على دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عليه بأنه قد أشرك، فهذا تصيبه مصيبتان: مصيبة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، والمصيبة الثانية في عقيدته، وهي أنه قد أشرك بالله عزّ وجلّ باتخاذ هذا الشيء، وهذا هو الشاهد من الحديث للباب، لان الباب: "باب من الشرك تعليق الحلْقة والخيط ونحوهما". فإن قلت: ما نوع هذا الشرك؟، هل هو الشرك الأكبر، نقول: فيه تفصيل إن كان يرى أنها تقيه من دون الله فهذا شرك أكبر. وإن كان يعتقد أنها سبب فقط والواقي هو الله سبحانه وتعالى فهذا شرك أصغر لأن الله لم يجعل هذه الأشياء سبباً. ج / 1 ص -143- ولابن أبي حاتم عن حذيفة: أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحُمّى، فقطعه، وتلا قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ(106)}. قوله: "ولابن أبي حاتم عن حذيفة: أنه رأى رجلاُ في يدّه خيط من الحُمّى" يعني: اتخذه أن يقيه من الحُمّى، والحُمّى: ارتفاع الحرارة في الجسم. فالرجل ربط الخيط من أجل أن يتقي الحُمّى، فحذيفة بن اليمان رضي الله عنه قطع هذا الخيط من هذا الرجل، فهذا فيه إزالة المنكر، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الحلْقة قال: "انزعها". قوله: "وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ(106)}"، {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ} أكثر الناس "{وَهُمْ مُشْرِكُونَ}" قيل معناه أنهم لا يؤمنون بالربوبية إلاَّ وهم مشركون في الألوهية، لأن المشركين كلهم يقرُّون بالربوبية، ولكنهم يشركون في الألوهية، إما الشرك الأكبر وإما الشرك الأصغر، وربط الخيط حسب ما فصّلنا من أنه إذا كان يرى أن النفع والضرر بيد الله، وإنما الخيط سبب؛ فهذا شرك أصغر، لأن الله لم يجعل ربط الخيط سبباً من الأسباب الواقية. أما إذا كان يعتمد على هذا الخيط من دون الله في دفع الضرر؛ فهذا شرك أكبر. فدلّ على أن الشرك قد يقع ويكثر وقوعه حتى من أهل الإيمان، إن كان المراد الشرك الأصغر، فالشرك الأصغر قد يصدر من المؤمن، كما قد يصدر منه النفاق لا العملي، ويصدر منه الرياء. أما إذا كان القصد الاعتماد عليه فإنه يكون من الشرك الأكبر المنافي للإيمان، فالشرك الأصغر ينقّص الإيمان، وينقّص التّوحيد، أما الشرك الأكبر فإنه ينافي الإيمان وينافي التّوحيد. قال الشيخ رحمه الله في مسائله فيه: "أن الصحابة يستدلُّون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر"، لأن حذيفة بن اليمان استدل بالآية النازلة في الشرّك الأكبر على الشرك الأصغر، هذا إذا فُسِّرت الآية بأن المراد بها أهل الجاهلية، لأن أهل الجاهلية يقرّون بتوحيد الربوبية ويشركون في توحيد الألوهية، ولكن إقرارهم بتوحيد الربوبية لا يدخلهم في الإسلام، فيكون حذيفة رضي الله عنه استدل بالآية النازلة على الشرك الأكبر على الشرك الأصغر، لأنها تتناوله بعمومها، مثل ما استدل ابن عباس بقوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قال: "هو قول الرجل: ما شاء الله وشئت، لولا الله وأنت، لولا كُليبة هذا لأتانا اللصوص وما أشبه ذلك"، فسّرها بالشرك ج / 1 ص -144- الأصغر، لأن الآية شاملة للشرك الأكبر والشرك الأصغر، فهو استدل بها على بعض ما دلّت عليه، كذلك حذيفة استدل بهذه الآية على بعض ما دلت عليه، لأنها تشمل الشرك الأكبر والشرك الأصغر، وبعض المسلمين يؤمنون بالله في توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ولكن يصدر منهم بعض الشرك الأصغر الذي لا ينافي الإيمان، فدلّ على الحذر من الشرك، وأنه إذا كان هذا يحصل من بعض المؤمنين، فإن الإنسان لا يأمنه على نفسه، ويستعيذ بالله من الشرك الأكبر والأصغر ويقول: "اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم"، وفي الدعاء المشهور: "أعوذ بك من الشك والشرك والكفر والنفاق وسوء الأخلاق"، فالمسلم يخاف على نفسه، ويدعو الله عزّ وجلّ بالعافية من هذه الأمور، ولا يزكي نفسه، ولا يأمن على نفسه. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#12
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب ما جاء في الرقى والتمائم ج / 1 ص -145- [الباب الثامن:] *باب ما جاء في الرقى والتمائم في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولاً: "أن لا يُبقين في رقبة بعير قلادة من وَتَر، أو قلادة إلاَّ قُطِعت". قال الشيخ رحمه الله: "باب ما جاء في الرّقى والتمائم" أي: ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين من الأحاديث والآثار في النهي عن الرُّقى والتّمائم. هذا الباب مناسبته لما قبله: وهو: "بابٌ من الشرك لبس الحلْقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه"؛ أن هذا الباب مكمِّلٌ للباب الذي قبله، لأنه ذكر أنواعاً أخرى مكمِّلة لما ذُكر في الباب الذي قبله، ولكن الباب الذي قبله صرّح الشيخ في ترجمته بأن لبس الحلْقة والخيط من الشرك، وأما هنا فلم يصرّح، بل قال: "ما جاء في الرُّقى والتمائم"، وهذا من دقّة فقهه ومعرفته رحمه الله، فإنه إذا كان الحُكم واضحاً منصوصاً عليه في الحديث ذكره في الترجمة، وإذا كان الحكم فيه تفصيل، أو فيه احتمال؛ فإنه لا يجزم في الترجمة، وإنما يورد الأدلة في الباب ويُؤخذ منها الحكم مفصّلاً. فهذا من دقّة فقهه رحمه الله، وشدّة تورّعه عن إطلاق الأحكام، مما يُرَبِّي في طلبة العلم هذه الخَصْلَة الطيّبة، وهي أنهم يتورّعون في إطلاق الأحكام ويتثبتون فيها، لأن الأمر خطير جدًّا. قوله: "عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه" هكذا كان مشهوراً بكُنْيته، ولم يُعرف له اسم -كما قال ابن عبد البر. "أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره" لم يعين هذا السفر، قال الحافظ: لم أقف على تعيينه". "فأرسل رسولاً" أي: مندوباً. "أن لا يبقيّن في رقبة بعير قلادة" "يبقيّن" مؤكّد بنون التأكيد الثقيلة، وقلادة فاعل. كانوا في الجاهلية يعلّقون القلائد على رقاب الإبل، يعتقدون أن ذلك يدفع ج / 1 ص -146- عنها العين والضرر، والنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يزيل هذه العادة الجاهلية، ويقرر التّوحيد. والقلادة ما أحاط بالعنق. و الـ"وَتَر" -بفتح الواو- المراد به: وَتَر القوس، والقوس آلة كانوا يرمون بها السهام. وكانوا في الجاهلية إذا اخْلَقَّ الوَتَر أخذوه وعلّقوه على رقاب الدواب، وأبدلوه بوَتَر جديد، يعتقدون أن هذا الوَتَر القديم الذي استعمل ورُمي به أنه يدفع العين عن الإبل. وقوله: "أو قلادة" هذا شك من الراوي، هل الرسول صلى الله عليه وسلم قال: قلادة من وَتَر، أو قال: قلادة مطلقة، سواء كانت من وَتَر أو من غيره؟. وهذا من دقتهم رضي الله عنهم في الرواية. وعلى كل حال؛ فيه دليل على منع هذا الشيء من أي نوع كان، سواء كان من وَتَر أو من غيره، ما دام أن المقصود منه عقيدة فاسدة، حتى ولو كان من السُّيور، أو من الخيوط، أو من الخرز، أو من غير ذلك، كل قلادة يُقصد بها هذا المقصد الشركي فهي ممنوعة. أما القلائد التي لا يُقصد منها مقصد شركي، مثل قلاد الهَدْي الذي يُهدى للبيت العتيق؛ فلا حرج فيها. "إلاّ قُطِعت" هذا فيه إزالة المنكر، ولاسيّما إذا كان هذا المنكر في العقيدة، فإن إزالته متأكِّدة. وفيه: أن الحاكم أو الإمام يرسل نوّاباً عنه في إزالة المنكر، وليس من شرط ذلك أن يباشره بنفسه. الشاهد من الحديث: تحريم عقد القلائد على الدواب، أو على الآدميين بقصد أن ذلك يدفع العين لأنه لا يدفع الضرر ولا يدفعه إلاَّ الله سبحانه وتعالى، وليست القلائد هي التي تدفع الضرر، أو تجلب النفع، وليست سبباً في ذلك وإنما هذا بيد الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(107)}، {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2)}، {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا ج / 1 ص -147- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرُّقى والتّمائم والتِّوَلَة شرك" رواه أحمد وأبو داود. تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}. قال: "وعن ابن مسعود" هو: عبد الله بن مسعود بن غافل الهُذلي الصحابي الجليل، من أئمة العلم المعروفين في الصحابة، ومن أشهر القرّاء لكتاب الله عزّ وجلّ، وهو الذي أُعجب النبي صلى الله عليه وسلم بقراءته، وقال: "من أراد أن يسمع القرآن غضًّا طريًّا كما أنزل؛ فليسمع إلى قراءة ابن أم عبد"، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه، فقال: يا رسول الله كيف أقرأ عليك وعليك أُنزل؟، قال صلى الله عليه وسلم: "إني أحب أن أسمعه من غيري"، قال عبد الله: فقرأت عليه من أول سورة النساء حتى بلغت قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً(41)} قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حسبك"، قال: فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم فإذا عيناه تذرفان. والشاهد من هذا: فضيلة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وكان من أَوْعِيَة العلم، وكان له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة، وكان مُفتياً من مشاهير المُفتين من الصحابة، وكان يقال له: صاحب السِّواد، لأنه كان يحمل نعليّ الرسول صلى الله عليه وسلم. وفضائله كثيرة رضي الله عنه، وكان من السابقين الأولين. وفي بعض الأسفار: أنه صعد شجرة وكان نحيلاً، فنظر الصحابة إلى ساقيه دقيقتين؛ فضحكوا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "تضحكون من دقّة ساقيه؟!، لهما في الميزان أثقل من جبل أحد". سبب ذكر عبد الله بن مسعود لهذا الحديث: أنه رأى على امرأته زينب رضي الله عنها خيطاً في عنقها، وقال: لأنتم يا آل عبد الله أغنياء عن الشرك، قالت: إن عيني كانت تَطْرف، فأذهب إلى فلان اليهودي فيرقاها فتكف، قال رضي الله عنه: إنما ذلك شيطان يَنْخَسُها بكفه، فإذا رُقي كفّ، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرُّقى والتّمائم والتوَلَة شرك". ج / 1 ص -148- وعن عبد الله بن عُكيم مرفوعاً: "من تعلّق شيئاً؛ وُكِل إليه". ـ فهو لما قطع هذا الخيط، وأنكر على زوجته هذا الفعل؛ ذكر الدليل من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الرُّقى والتّمائم والتِّوَلَة شرك" وسيأتي تفسير هذه الثلاثة. قال: "وعن عبد الله بن عُكيم مرفوعاً" عبد الله بن عُكيم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يثبت له سماع من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيكون تحديثه عن الرسول من باب المرسل، لأنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الشيخ: "مرفوعاً". "من تعلّق شيئاً وُكِل إليه" "من تعلّق شيئاً" سواءً قلادة، أو تَمِيمَة، أو حِرْزاً من الحُرُوز، أو خيطاً، أو حلقة، يعني: علّق قلبه بشيء أيّ شيء، يظن أنه ينفع ويضر، "وُكِل إليه" وَكَلَه الله إلى ما تعلق به. وهذه عقوبة من الله سبحانه وتعالى، وإهانة له من الله سبحانه وتعالى، لأن الله إذا تخلّى عنه وَوَكَلَه إلى غيره هلك. أما من توكّل على الله عزّ وجلّ وحده فإن الله سبحانه وتعالى يتولى أمره. أما من اعتقد بغيره فإنه يَكِلُه إليه ويتخلّى عنه، يَكِلُه إلى حلْقة من صُفْر، أو خيط، أو إلى تَمِيمَة، أو إلى وليّ من الأولياء، أو قبر من القبور، أو ضريح من الأضرحة، يَكِلُه إلى من اعتقد فيه. فهذا فيه خطر عظيم، وفيه حث على أن يعلِّق الإنسان قلبه بالله عزّ وجلّ، وأن يعتقد أنه لا ينفع إلاَّ الله، ولا يضر إلاَّ الله، ولا يشفي إلاَّ الله، ولا يرزق إلاَّ الله، ولا يُعطي ولا يمنع إلاَّ الله، يتوكّل على الله، مع أخذه بالأسباب المباحة التي جعلها الله أسباباً كالدواء المباح، وغير ذلك من الأسباب المباحة، لكن القلب يتعلق بالله. فقوله: "من تعلّق شيئاً وُكِل إليه" قاعدة عامة، تعمّ كل شيء يعلّق الإنسان قلبه به من دون الله عزّ وجلّ؟ من بشر، أو حجر، أو شجر، أو قبر، أو حلْقة، أو خيط، أو تَمِيمَة، أو غير ذلك، أو جن، أو إنس. ففي هذا وجوب التوكّل على الله، والنهي عن الاعتماد على غير الله في جلب خير أو دفع ضُر، والقرآن يقرّر هذا في آيات كثيرة. ج / 1 ص -149- "التّمائم": شيء يعلّقونه على الأولاد يتقون به العين. ج / 1 ص -150- و"الرُّقى": هي التي تُسَمَّى العزائم، وخص منها الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخّص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحُمَة.لكن إذا كان المعلّق من القرآن؛ فرخّص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخّص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه. ثم إن الشيخ محمد رحمه الله شرح هذه الألفاظ، فقال: "التّمائم شيء يعلِّقونه على الأولاد يتّقون به العين" ثم قال مفصِّلاً الحكم في هذا: "لكن إذا كان هذا المعلَّق من القرآن؛ فقد رخّص فيه بعض السلف" يعني: إذا كانت التَمِيمَة مكتوبة من القرآن؛ فقد رخّص فيها بعض السّلف، مثل: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، وعائشة، لأنها من القرآن، والتشافي بالقرآن ليس فيه محذور شركي، فهو كلام الله سبحانه وتعالى. "وبعضهم" أي: بعض الصحابة، "لم يرخِّص فيه " حتى لو كان من القرآن، منهم: عبد الله بن مسعود- راوي الحديث-، وسيأتي الأثر عن إبراهيم أنه قال: "كانوا يكرهون التّمائم من القرآن ومن غير القرآن"، وإبراهيم النخعي تلميذ لابن مسعود. هذا اختلاف السلف في تعليق التّمائم من القرآن، فقد اختلفوا في هذا على قولين: منهم من أجاز، نظراً لأن هذا من القرآن، وهو كلام الله سبحانه وتعالى، والتداوي بكتاب الله والاستشفاء بكتاب الله مشروع، ومنهم من منع هذا ولم يرخِّص فيه لعموم النهي عن التمائم. وبناءً على ذلك اختلف الفقهاء من بعد الصحابة في هذه المسألة على قولين: منهم من أجاز؛ أخذاً برأي من أجاز من الصحابة، ومنهم من منع. والصحيح: الرأي الثاني وهو المنع، والشيخ عبد الرحمن بن حسن وقبله الشيخ سليمان بن عبد الله رجَّحا منعه، وذلك لثلاثة أمور: الأمر الأول: عموم النهي، ولم يَرِد دليل يخصّص ذلك. الأمر الثاني: سدّ الوسيلة المُفضية إلى الشرك، لأننا إذا أجزنا تعليق القرآن انفتح الباب لتعليق غيره. الأمر الثالث: أن تعليق القرآن يعرِّضه للامتهان، لأنه يعلّق على الصبيان، والصبيان لا يتجنّبون النجاسة أو الدخول في مواضع القاذورات، وكذلك الجُهّال لا يحترمون القرآن كما ينبغي، ولا يتنّبهون لذلك، وما كان سبباً لتعريض القرآن للامتهان فهو محرّم. والذين أجازوا- وهم أصحاب الرأي الأول- اشترطوا ثلاثة شروط: الشرط الأول: أن تكون التَمِيمَة من القرآن. الشرط الثاني: أن تكون مكتوبة باللفظ العربي، فلا تُكتب بلفظ أعجمي أو بخط لا يُقرأ. الشرط الثالث: أن يعتقد أن الشفاء من الله لا من هذه التَمِيمَة، وإنما هذه التَمِيمَة سبب فقط. قال الشيخ: "والرُّقى: هي التي تُسمى العزائم" الرُّقى: جمع رقية، والرُّقْيَة: القراءة على المريض. ويسميها العوام العزيمة. قال الشيخ: "وخصّ منها الدليل ما خلا من الشرك" أي: استثناه من التحريم فهناك أدلة تفصِّل بأنه إن كانت الرُّقْية من القرآن أو من الأدعية المباحة فإنها ليست بشرك، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم رخّص في الرُّقْية من العين ومن الحُمَة كما جاء في حديث بُريدة بن الحُصين الذي سبق في "باب من حقق التّوحيد"، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم رَقى المرضى، ورُقي صلى الله عليه وسلم؛ رَقاه جبريل، وكذلك لما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه قالوا: كنا في الجاهلية لنا رُقى نرقي بها وأدوية نتداوى بها، قال صلى الله عليه وسلم: "اعرضوا علي رُقَاكُم، لا بأس بها ما لم تكن شركاً". وقوله: "فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة" الرُخصة عند الأصوليين: ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح، لأن الأحكام على قسمين: رُخصة، وعزيمة. فالشيء المستثنى من الممنوع بدليل يسمى: رُخصة، مثل: الأكل من الميتة، وقصر الصلاة للمسافر، هذا يسمى رخصة، كذلك الإفطار في نهار رمضان، كل هذه رُخص، رخّص فيها الشارع من أشياء كانت في الأصل ممنوعة، وذلك من أجل الرّحمة بالخلق، وكذلك الرقية في القرآن استثنيت من الرقى الممنوعة بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك"، فهي رخصة. ج / 1 ص -151- و"التِّوَلَة": هي شيء يصنعونه، يزعمون أنه يحبِّب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته. وروى أحمد عن رُوَيْفع قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يارُوَيْفِع، لعل الحياة ستطول بك؛ فأخبر الناس: أن من عقد لحيته، أو تقلّد وَتَراً، أو استنجى برجيع دابة أو عظم؛ فإن محمداً بريء منه". قوله: "والتِّوَلَة" بكسر التاء وفتح الواو، "شيء يصنعونه، يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته" "يزعمون" أي: يكذبون، والزعم: ا لكذب، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا}، يعني: يكذبون في قولهم أنهم آمنوا. " أنه يحبِّب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته" هذا يسمونه: الصّرف والعطف، وهو سحر، قال الله سبحانه وتعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}، فهو سحر يفرِّق ويَجْمع، لأنه عمل شيطاني، يعمل أشياء تنفِّر الإنسان من الإنسان، أو الرجل من زوجته، أو الزوجة من زوجها، وهو من عمل الشياطين. فالسحرة لما تقرّبوا من الشياطين وخدموهم وأشركوا بالله، فالشياطين في مقابل ذلك ساعدتهم في هذه الأمور. وهذا كثير في الناس، خصوصاً إذا ضعف في الإيمان، وخصوصاً في البلاد التي لا يُعتنى فيها بأمر العقيدة، فإن السحر يُتخذ حِرْفَة ومهنة في بعض البلاد، ولكن من نعمة الله على هذه البلاد أن هذا الشيء لا يوجد فيها إلاَّ خُفية، لكنه يُطارد، وأهله- والحمد لله- أذِلاء. قوله: "وروى أحمد عن رويفع". "رُوَيْفِع" هو رُوَيْفِع بن ثابت الأنصاري- رضي الله تعالى عنه- تولّى إمارة بُرْقة في عهد الخلفاء في مصر، وتوفي هناك رضي الله عنه، وقد طال عمره. قال: "لعل الحياة ستطول بك" هذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم أن رُوَيْفِعاً يعمّر، وقد عُمّر، ففيه: عَلَم من أعلام النبوة، وهو الإخبار عن شيء مستقبَل، ويقع كما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وهذا مما أطلعه الله تعالى عليه. "فأخبر الناس" هذا فيه دليل على تبليغ العلم، ونشر العقيدة، والدعوة إليها، ج / 1 ص -152- وإنكار الشرك، وأن الإنسان محمّل هذه الأمانة، لا يتخلى عنها، ويترك الناس يقعون في الشرك وفساد العقيدة، وهو ساكت، ثم يقول: اتركوا الناس مجتمعين، لا تفرقوا بين الناس، حاربوا الشيوعية وحاربوا المذاهب الهدّامة، واتركوا الشرك وهل هناك أشد من الشرك؟، الشرك هو أكبر المذاهب الهدّامة، وهذا القول يدسّه علينا الأعداء إما من اليهود والماسونية أو غيرهم، ويأخذه بعض المغرورين من شبابنا على أنه صحيح، وهو يقصد منه هدم الإسلام، وهدم العقيدة، لأنه إذا تُرك الشرك فسدت العقيدة. قوله: "أن من عقد لحيته" عقد اللحية اختلف العلماء في تفسيره، منهم من قال: عقد اللحية عادة عند الفُرس، أنهم كانوا عند الحروب يعقدون لحاهم تكبّراً وتجبّراً، ونحن قد نهينا عن التشبّه بالكفّار. والقول الثاني: المراد به عقد اللحية في الصلاة، لأن هذا من العبث في الصلاة، والحركة في الصلاة، وهذا مكروه في الصلاة، لأنه يدل على عدم الخشوع. القول الثالث: أن المراد بعقد اللحية ما يفعله أهل الترف من تجعيد لحاهم وتحسينها وكدّها، حتى تتجعّد، يقصدون بها الجمال، فهذا يكون من الترف، نعم لا بأس أن اللحية تصلح وأنها تُنظّف، وأنها تُكرم لكن لا يصل هذا إلى حد الإسراف. "أو تقلد وَتَراً" يعني: جعل الوَتَر قلادة عليه، أو على دابته، أو على ولده من أجل أن يتّقي به العين والضرر، كما كانت الجاهلية تفعل. وهذا محل الشاهد في الحديث، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: "وإذا كان هذا فيمن تقلدوا وتراً، فكيف بمن تعلّق على الأموات يسألهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات؟؟؟!!". "أو استنجي" الاستنجاء: إزالة أثر الخارج من السبيلين. لأن الواجب أن الإنسان إذا قضى حاجته أن ينقي المخرج إما بماء وإما باستجمار بالحجارة، فإن جمع بينهما فهذا أفضل. ج / 1 ص -153- وعن سعيد بن جبير قال: "من قطع تَمِيمَة من إنسان؛ كان كعدل رقبة" رواه وكيع. "برجيع دابة" الرجيع زوث الدواب، "أو عظم، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم بريء منه" وهذا وعيد شديد يدل على تحريم هذا الفعل، وهو الاستجمار بروث الدواب والعظام، لأن هاتين المادتين طعام الجن وطعام دوابهم فلا يلوثهما عليهم. قوله: "عن سعيد بن جبير قال: من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة" أي: كان كمن أعتق رقبة من الرِّق، والمناسبة أن اعتاق العبد فيه اعتاق من الرِّق، وقطع التَمِيمَة فيه إعتاق من الشرك، لأن الشرك رِقّ للشيطان بدل الرِّق للرحمن، ورحم الله الإمام ابن القيم حيث يقول: هربوا من الرِّق الذي خلقوا له فبُلُوا برق النفس والشيطان يعني: هم أرقاء لله، عبيد لله، لكن لما أشركوا به صاروا عبيداً للشيطان، وعبيداً للنفس والهوى، فالإنسان خلق لعبادة الله، فإذا تركها صار عبداً للشيطان، فهو عبد ولابد.فالذي يزيل هذه الظاهرة الشركية عن مسلم يكون كمن أعتقه من الرِّق في الأجر والثواب. وسعيد بن جبير رحمه الله اعتبر الشرك رقًّا، من أزاله فكأنما أعتق هذا العبد من هذا الرِّق الذّليل المهين، وجعله حُرًّا من عبادة المخلوق، عبداً لله سبحانه وتعالى لا يعبد غيره، فعبادة الله جل وعلا هي الحرية الصحيحة، ليست الحرية أن الإنسان يشرك ويكفر ويعتقد ما شاء، كما يقولون: الناس أحرار في اعتقادهم لا بل الناس خلقوا لعبادة الله، وعبادة الله ليست من باب الذل والمهانة، وإنما هو من الإكرام، ومن الرِّفعة، وهذا شرف، والله جل وعلا أكرم نبيه بالعبودية له، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، فعبودية الله شرف، أما عبودية غيره فهي ذلّ ومهانة. "رواه وكيع" ووكيع هو: وكيع بن الجراح، الإمام الجليل، روى عنه الإمام أحمد وغيره. ج / 1 ص -154- وله عن إبراهيم قال: "كانوا يكرهون التّمائم كلها؛ من القرآن وغير القرآن". قال: "وعن إبراهيم" أي: عن إبراهيم النخعي، أحد الأئمة من التابعين. وقوله: "يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن" أي: كان كبار التابعين من أصحاب ابن مسعود لا يفصِّلون في التّمائم، بل كانوا يكرهونها عموماً، كما سبق أن الراجح هو: تحريم تعليق التّمائم، ولو كانت من القرآن؛ من أجل الأمور الثلاثة التي ذكرناها هناك. وقوله: "يكرهون" أي يحرمون، لأن الكراهة عند السلف يريدون بها التحريم. فكلام إبراهيم هذا يؤيّد ترجيح المنع مطلقاً، ولأن هذا قول عبد الله بن مسعود، وتلاميذه من أئمة التابعين، أن التّمائم لا تفصيل فيها، حتى ولو كانت من القرآن، لا تُعلّق على الرِّقاب على شكل حُروز، أو على شكل رقاع، أو على شكل أكياس تعبّأ بالأوراق المكتوب فيها ويسمونها خطوطاً، أو عزائم، هذا لا يجوز وإن كان من القرآن، ولا تعلّق على السيارات أو الجدران لأن هذا وسيلة إلى الشرك، ولأنه لم يرد دليل على جوازه، ولأنه تعريض للقرآن للامتهان والابتذال- كما سبق-. وفي هذا دليل على بعد السلف عما يخدش العقيدة. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#13
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب من تبرّك بشجرة أو حَجْر ونحوهما ج / 1 ص -155- {الباب التاسع:] باب من تبرّك بشجرة أو حَجْر ونحوهما هذا الباب مكمِّلٌ للأبواب التي قبله، لأن الأبواب التي قبله في لبس الحلْقة والخيط ونحوهما، أو تعليق الرُّقى والتّمائم، وهذا فيه النهي عن التبرّك بالأشجار والأحجار، فهذه الأبواب كلها مؤدّاها الاعتقاد بغير الله سبحانه وتعالى أنه يضر أو ينفع، وهذا شرك، لأن الذي يقدر على دفع الضر وجلب النفع هو الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، هو القادر سبحانه وتعالى على ذلك، لا يشاركه أحد، وإن كان هناك أشياء يترتّب على استعمالها أو أكلها أو شُربها ضرر، أو يترتّب عليه نفع؛ فهذه أسباب فقط، أما الذي يخلق ذلك فهو الله سبحانه. مثلاً: الأكل والشرب من الطيبات هذا فيه نفع، لكن ليس الأكل والشرب هو الذي يخلق النفع، إنما الذي يخلق النفع هو الله سبحانه وتعالى. مثلاً: السُّم يقتل، والنار تُحرق، لكن ليست هي التي تفعل هذه الأشياء، لأنها مخلوقات لله سبحانه وتعالى، ولكنها أسباب، يقدِر القادر سبحانه أن يسلبها هذه الخاصيات، كما سلب النار الحرارة لما أُلقي فيها إبراهيم، وصارت برداً وسلاماً، فدلّ على أنها لا تستقل بالضرر. وقوله: "باب من تبرّك" أي: طلب البركة، وهي حصول ا لخير ونماؤه وثبوته وكثرته. "بحَجَر أو شجر" أي: طلب البركة من حَجَر أو من شجر، أو اعتقد أنها سبب للبركة وهي لم يجعلها الله أسباباً لها فقد أشرك بالله سبحانه وتعالى، لأن الحجر والشجر لا يخلق البركة ولا يوجدها، ولا هو مسبب في حصولها إلاَّ ما جعله سبباً في حصولها وإنما الذي يوجدها هو الله سبحانه وتعالى، وهو سبب الأسباب نعم قد يجعل الله بعض الأشياء مباركة، مثل: ماء زمزم، ومثل: الأنبياء عليهم السلام، ومثل: الكعبة المشرفة: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ(96)}، فالله هو الذي جعل الكعبة مباركة، أما الكعبة فليست هي التي تُوجِد البركة، أو تخلق البركة، لكن الله جعلها مباركة، فالبركة من الله سبحانه وتعالى وبركتها بالحج والعمرة واستقبالها في الصلاة والطواف بها والتعبد عندها في المسجد الحرام. ج / 1 ص -156- وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى(19)} الآيات. وقد يجعل الله بعض الأشياء مباركة، كما أن الله يجعل بعض الأشياء شرِّيرة، فقد جعل الشياطين شرِّيرة، وجعل بعض الدواب شرِّيرة، فالاعتماد على الله سبحانه وتعالى في كل الأمور، وإنما نتخذ الأسباب لأن الله أمرنا باتخاذ الأسباب، وأما النتائج فهي عند الله سبحانه وتعالى، نحن لا نعتمد على الأسباب، وإنما نعتمد على الله، ونحن لا نعطّل الأسباب، لأن الله أمرنا باتخاذها، وتعطيل الأسباب عجز وتعطيل للمنافع، التي جعلها الله سبحانه وتعالى في الأشياء، كما قال بعض العلماء: "الاعتماد على السبب شرك، وترك السبب قدح في الشرع" لأن الشرع أمرك باتخاذ الأسباب، و"الاعتماد على الأسباب شرك" لأنه اعتماد على غير الله. فهذه مسألة يجب على طالب العلم أن يفقهها وأن يعرفها، وأن يتأملها جيداً، وأن يوضحها للمسلمين، لإزاحة الشُّبُهات، وإزاحة التضليل الذي يَرُوج عند بعض الناس بسبب الجهل، أو بسبب سوء القصد. قوله: "وقول الله تعالى: "{ أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى(19)}" وتتمة الآيات: "{ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى(20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى(21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى(22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى(23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى(25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى(26)}" هذه الآيات في تقرير التّوحيد وتثبيت العقيدة في قلوب المؤمنين، والرد على المشركين. يقول الله تعالى للمشركين الذي يعبدون الأصنام، وفي مقدمتها الأصنام الثلاثة المشهورة عند العرب: اللات والعُزَّى ومَنَاة، هل تنفع هذه الأصنام أو تضر؟، فيقول: "{أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى(19)}" هل نفعتكم؟، هل دفعت عنكم الضرر؟، هل جلبت لكم شيئاً من الرزق؟، فلا يستطيعون الجواب بأنها تضر أو تنفع، لم تنفعهم في بدر وغيرها من الغزوات، ولم تدفع عنهم ما أوقع الله بهم من الهزائم، ما أجابوا عن هذا السؤال العظيم؛ فدلّ على انقطاع حجتهم. وهكذا في كل أسئلة القرآن الكريم التي هي من باب التحدِّي والتعجيز، لم ج / 1 ص -157- يصدر لها جواب من قبل المشركين، ولن يصدر لها جواب إلى أن تقوم الساعة. و"{اللاَّتَ}": صنم في الطائف لبني ثقيف. وفي تفسيرها قولان لأهل العلم: القول الأول: أنها بالتخفيف، وهو اسم حجر كبير أملس عليه نقوش، كانوا يتبرّكون به، ويطلبون منه قضاء حاجتهم، وتفريج كرباتهم. والقول الثاني: أنه بالتشدّيد اسم فاعل من لَتَّ يَلُتُّ: وهو في الأصل رجل صالح، كان يَلُتُّ السّويق للجاج، وكان يُطعم الحجّاج من هذا الطعام تقرّباً إلى الله سبحانه وتعالى، فلما مات عَكَفُوا على قبره يتبرّكون به، كما حصل لقوم نوح لما غَلَوْ في الصالحين. فالغُلُّو في الصالحين قديم، ولا يزال مستمرًّا وهو سنّة جاهلية من قديم الزمان، من عهد قوم نوح، ولا تزال. فعلى التفسير الأول هو: تبرّك بالأحجار، وعلى التفسير الثاني هو: تبرّك بالقبور. وكِلا التفسيرين حق، فالآية تدلّ على منع التبرّك بالأحجار، ومنع التبرّك بالقبور، وما زال هذا الصنم يُعبد من دون الله إلى أن فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة في السنة الثامنة من الهجرة، وأمر بهدم هذا الصنم كغيره من الأصنام التي هدمت. أما "وَالْعُزَّى" فكانت صنماً لأهل مكة، وهي عبارة عن شجرات ثلاث من السَّمْر، وعندها بَنِيَّة عليها أستار، وكانت لقريش ولأهل مكة يعبدونها من دون الله عزّ وجلّ. ولهذا قال أبو سفيان في يوم أحد بعد أن انتهت المعركة: لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أجيبوه، قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم"، هذا هو الرد الشافي، وفيما بعد منّ الله على أبي سفيان بالإسلام فأسلم، والإسلام يَجُبُّ ما قبله، والشاهد من هذا: أن العُزَّى كانت لأهل مكة، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة أرسل إليها خالد بن الوليد فهدمها وقطّع الأشجار، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، قال: "لم تفعل شيئاً"، فرجع خالد رضي الله عنه، إليها مرّة ثانية فوجد عندها السَّدَنة، فلما رأوه هربوا إلى الجبال، فجاء فإذ بامرأة عريانة ناشرة شعرها، فعلاها بالسيف وقتلها، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، قال: "تلك العُزَّى". والواقع أن المشركين ليست عبادتهم لهذه الأصنام، وإنما عبادتهم للشياطين، ج / 1 ص -158- وعن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حُنَيْن، ونحن حُدَثاء عهد بكفر، فالشياطين هي التي تُغريهم، وتدعوهم إلى عبادتها، وهي التي تكلّمهم أحياناً، ويظنون أن الصنم هو الذي يتكلم، أو أن الميت هو الذي يتكلم. أما "{وَمَنَاةَ}" فهي صنم قريب من المدينة، وكانت لقبائل من العرب. وكانوا يُحْرِمُون من عندها للحج والعمرة. ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة أرسل إلى مَنَاة علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهدمها. فأين ذهبت هذه الأصنام؟، لو كانت آلهة لدفعت عن نفسها. والشاهد من الآية الكريمة: بطلان التبرّك بالأشجار والأحجار، لأن هذه أشجار وأحجار، ولم تدفع عن نفسها فضلاً عن أن تدفع عن غيرها. ففي هذا: بُطلان التبرك بالأحجار والأشجار، وفيه: أن من تبرّك بقبر أو بحجر أو شجر يعتقد فيه أنه ينفع ويضر من دون الله، أو أنه سبب لحصول البركة، أو تقرب إليه بشيء من العبادة؛ فهو مثل من عبد اللات والعُزَّى سواء، ولا فرق، بل من غلا في قبر من القبور فهو كمن عبد اللات، لأن اللات- على التفسير الثاني- هو رجل صالح، غَلَوا في قبره بعد موته، فالذين يعبدون القبور اليوم مثل الذين يعبدون اللاتّ سواء بسواء، والقرآن واضح في هذا، لكن يحتاج إلى التدبّر، ونبذ للتقاليد والعادات والبيئات الفاسدة، والتحرر من الخرافات والأباطيل، ورجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله، ففيهما الشفاء للقلوب. قال "وعن أبي واقد الليثي" هذه كنيته، أما اسمه فهو الحارث بن عوف، و"الليثي" من بني الليث. "قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حُنَيْنِ" أي: غزوة حنين، وحنين اسم وادٍ بين مكة والطائف، وغزوة حُنَيْن كانت في شوال من السنة الثامنة من الهجرة، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، ونصره الله على قريش؛ خافت هوازِن على نفسها أن يصلها الرسول صلى الله عليه وسلم، فأرادوا أن يغزوا الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يغزوهم، وجمّعوا أمرهم ليغزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريدون الدفاع عن أنفسهم، فلم يمهلهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بل غزاهم هو بنفسه صلى الله عليه وسلم. وهذا هو الحزم والسياسة؛ أن ولي أمر المسلمين إذا علم أن ج / 1 ص -159- وللمشركين سِدْرَة يعكفون عندها وينُوطون بها أسلحتهم، يُقال لها: ذات أَنْواط، فمررنا بِسدْرَة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أَنْواط كما لهم ذات أَنْواط. هناك من الكفار من يريد غزو المسلمين يبادر إلى ذلك العدو، ولا يمهله. وأبو واقد كان من الذين أسلموا في هذا العام، ولهذا قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حُنَيْن ونحن حُدَثاء عهد بكفر" يعني: أن إسلامهم كان جديداً متأخراً، وهو يريد بذلك بيان العذر مما وقع منهم، أنهم كانوا جُهّالاً، لم يتفقّهوا كما كان الصحابة الذين مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقهاء، عرفوا العقيدة ودرسوها، لكن هؤلاء أسلموا قريباً، ولم يتمكّنوا من التفقّه في العقيدة، وكانوا آلفين لأشياء من دين الجاهلية، لم يتخلّصوا منها بعد. قال العلماء: فهذا فيه دليل على أن الإنسان إذا عاش في بيئة فاسدة ثم انتقل منها؛ أنه قد يبقى في نفسه منها شيء. فهذا كان في بيئة شركية، وأسلم قريباً. وهذا دليل على آفة الجهل، وأن الإنسان قد يقع في الشرك بسبب الجهل، وفيه الحث على تعلم العقيدة ومعرفتها والتبصّر فيها خشية أن يقع الإنسان في مثل ما وقع فيه هؤلاء، فالذين ينادون اليوم بتهوين أمر العقيدة، ويقولون: لماذا يدرسون العقيدة وهم مسلمون؟، يا سبحان الله، المسلم هو أولى بدراسة العقيدة من أجل أن يصحِّح إسلامه، ومن أجل أن يحفظ دينه، هؤلاء مسلمون ومع هذا وقعوا في هذه القضية بسبب أنهم لم يتعلموا، ففي هذا دليل على وجوب تعلم العقيدة الصحيحة، ووجوب تعلّم ما يضادها من الشرك والبدع والخرافات؛ حتى يكون الإنسان على حذر منها، وما أوقع اليوم عُبّاد الأضرحة- أو كثير منهم- في عبادة القبور إلاَّ بسبب الجهل، ويظنون أن هذه من الإسلام، فهذه مصيبة عظيمة، حتى سمعنا أن بعض الدعاة يدعون - في أمريكا وفي غيرها- إلى دين الصوفية وإلى دين القبوريّة، فهم أخرجوهم من كفر إلى كفر، وكونه يبقى على كفره، أخف من كونه ينتقل إلى كفر يسمّى باسم الإسلام. وقوله: "وللمشركين سِدْرَة يَعْكُفُون عندها" العُكُوف هو: البقاء في المكان، يقال: اعتكف في المكان إذا أطال الجلوس فيه، واعتكف في المسجد يعنى: جلس في المسجد للعبادة. ج / 1 ص -160- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، إنها السُّنَن، قلت- والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} لتركبن سُنَن من قبلكم" رواه الترمذي وصحَّحه. ج / 1 ص -161- الحجاز، فهو أول من غير دين إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-، فهذه هي الآفة، هذه هي السُّنَن التي تعجّب منها النبي صلى الله عليه وسلم. "ويُنَوطُون بها أسلحتهم" النَّوْط هو: التعليق، وغرضهم من هذا العكوف والنوط التبرك بهذه الشجرة. "فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أَنْوَاط كما لهم ذات أَنْوَاط" أعجبهم عمل المشركين، فظنوا أن هذا عمل سائغ، وهم يحرصون على تحصيل البركة، فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم شجرة يَعْكُفُون عندها، ويَنُوطُون بها أسلحتهم طلباً للبركة، ولكن انظروا إلى أدب الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم حيث لم يقدموا إلى هذا الأمر من عند أنفسهم، بل رجعوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فالمسلم إذا أعجبه شيء ويظن أنه خير فلا يستعجل حتى يعرض هذا على الكتاب والسنة ويسأل عنه أهل العلم الثقات. فهذا فيه دليل على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة في أمور العبادة، وأن الإنسان لا يعمل باستحساناته، أو استحسانات غيره، بدون أنه يرجع إلى الكتاب والسنة، وهذا يدل على أن العبادات توقيفية. فقوله: "فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أَنْواط" يعني: شجرة نعلّق بها أسلحتنا للبركة، ونجلس عندها للبركة. "فقال صلى الله عليه وسلم: "الله كبر، إنها السُّنَن" النبي صلى الله عليه وسلم غضب لما قالوا له هذا الكلام وتعجّب، وكبّر الله سبحانه وتعالى تنزيهاً لله عزّ وجلّ عن هذا العمل. وهذه عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أعجبه شيء أو استنكر شيئاً أنه يسبح أو يكبر. "إنها السُّنن" أي: الطرق المسلوكة، أي: السبب أن الذي أوقعكم في هذا هو التَّشَبُّه بما عليه الناس، فالتَّشَبُّه بالكفار في عباداتهم وتقاليدهم الخاصة بهم، آفة خطيرة: "من تشبه بقوم فهو منهم"، وما أصاب بعض المسلمين من الأمور الشنيعة، أغلبه من جهة التَّشَبُّه بالكفار، أوّل ما حدث الشرك في مكة هو بسبب التَّشَبُّه بالكفار، لأنه لما ذهب عمرو بن لُحَيْ إلى الشام، ووجد أهل الشام يعبدون الأصنام، أعجبه ذلك، وجلبها إلى الحجاز، ومن ذلك الوقت فشا الشرك في أرض ثم بيّن صلى الله عليه وسلم خطر هذه المقالة، فقال: "قلتم والذي نفسي بيده" أقسم صلى الله عليه وسلم ففي هذا مشروعية القسم على الفتوى إذا تحقق من إصابة الحق. "كما قالت بنوا إسرائيل لموسى: "{اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}" النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن هذه عادة قديمة في العالم، وأنها حصلت على عهد موسى عليه السلام، وذلك أن الله لما نجّى بني إسرائيل من فرعون، وأغرق فرعون وقومه، ونجّى موسى وقومه، ومرّوا في طريقهم على قوم يعكفون على أصنام لهم. {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} طلبوا من موسى أنه يجعل لهم صنماً يعبدونه كهؤلاء الذين يعبدون الصنم، قال موسى عليه السلام: "{إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}" السبب الذي أوقعكم في هذا هو الجهل بالتّوحيد، وهذا- كما ذكرنا- يُوجب على المسلمين أن يتعلموا العقيدة، ولا يكتفوا بقولهم: نحن مسلمون، نحن في بلاد إسلام، نحن في بيئة إسلامية، كما يقوله الجهال أو الذين يُثَبِّطون عن تعلّم العقيدة. ففيه آفة الجهل، وان الجهل قد يوقع في الكفر بالله عزّ وجلّ، وهذه خطورة عظيمة، ولا يُنجّي من هذا الجهل إلاَّ تعلّم العقيدة الصحيحة، والتأكُّد منها، وتدريسها، وتكرارها على الناس، وتعليمها للناس، ونشرها بكل وسيلة في المساجد، وفي المدارس، وفي وسائل الإعلام، وفي المجالس، وفي البيوت، وقوله: {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ}، أي: عمل هؤلاء زائل وتالف {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} لأنه شرك بالله عزّ وجلّ، {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(140)} أي: أنا لا أَشْرَع لكم الشرك، وهل هذا جزاء النعمة أن الله فضلكم على العالمين، يعني: عالم زمانهم، أما بعد بِعثة محمد صلى الله عليه وسلم فأفضل العالمين هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فالحاصل؛ أن التبرّك بالأشجار والأحجار هو من سنة المشركين، ومن سنة الجاهلية، ومن فعله فهو متشبه بالكفار، وهو كافر مثلهم، لا فرق بين من يعبد القبر ومن يعبد اللات والعُزَّى، أو الذي يطلب البركة من الشجرة والذي يطلبها من الصنم، لا فرق بينهما. ج / 1 ص -162- ففي هذا: بُطلان التبرّك بالأشجار والأحجار، وأنه شرك، لأن موسى عليه السلام قال: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً}، فدلّ على أن من تبرّك بشجر أو حجر فقد اتخذه إلهاً، وهذا هو الشرك، واختلاف اللفظ لا يؤثر مع اتفاق المعنى، هؤلاء قالوا: "اجعل لنا ذات أَنْوَاط كما لهم ذات أَنْوَاط"، وبنوا إسرائيل قالوا: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، والرسول صلى الله عليه وسلم جعل هذا مثل هذا، وإن اختلف اللفظ. والآن عَبَدَة القبور يقولون: هذا ليس بشرك، هذا توسُّل، وهذا محبة للأولياء والصالحين. إن أولياء الله الصالحين لا يرضون بهذا العمل، ولا يرضون أن تُجعل قبورهم أوثاناً تُعبد من دون الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، فدلّ على أن تعظيم القبور والتبرك بها يجعلها أوثاناً تُعبد من دون الله. فالحاصل؛ أن هذا فيه دليل على أن العبرة في المعاني لا في الألفاظ، فاختلاف الألفاظ لا يؤثر، وإن سموه توسّلاً، أو سموه إظهاراً لشرت الصالحين، أو وفاءً بحقهم علينا- كما يقولون-، هذا هو الشرك، سواء بسواء، فالذي يتبرّك بالحجر أو بالشجر أو بالقبر قد اتخذه إلهاً، وإن كان يزعم أنه ليس بإله، فالأسماء لا تغير الحقائق، إذا سمّيت الشرك، توسلاً، أو محبة للصالحين، أو وفاءً بحقهم، نقول: الأسماء لا تغير الحقائق. وفيه- أيضاً- مسألة مهمة: وهي أن حُسن المقاصد لا يغير من الحكم الشرعي شيئاً، هؤلاء لهم مقصد حسن، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر مقاصدهم، بل أنكر هذا، لأن الوسائل التي تُفضي إلى المحاذير ممنوعة، صحابي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل السيف للجهاد، ما قصد إلاَّ الخير هو ومن معه، ومع هذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم عند مقالتهم، وجعلها مثل مقالة بني إسرائيل، فدلّ على أن المقاصد الحسنة لا تبرِّر الغايات السيّئة والمنكرة. وفيه- أيضاً-: القاعدة العظيمة، وهي: خطورة التَّشَبُّه بالكفار والمشركين، لأنها تؤدِّي إلى الشرك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لتركبن سُنَن من قبلكم " وهذا فيه- أيضاً- عَلَم من أعلام النبوة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه في المستقبَل سيكون في المسلمين من ج / 1 ص -163- يقلِّد الكفار، وهذا وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فتقليد الكفار الآن على قدم وساق، إلاَّ من رحم الله سبحانه وتعالى وهذا خبر معناه التحذير وليس مجرد خبر. فهذا الحديث فيه التحذير من التَّشَبُّه بالمشركين والكفار في أفعالهم وعاداتهم الخاصة وتقاليدهم وطقوسهم.أما الأمور المباحة فلا بأس بالأخذ بها، نأخذ من المشركين الخِبْرات المفيدة، نأخذ منهم البضائع، نأخذ منهم الأسلحة، هذه أمور كانت في الأصل لنا، يقول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، هذه المنافع في الأصل للمسلمين، ولكن لما تكاسل المسلمون أخذها أعداؤهم، فلا مانع أن المسلمين يأخذون بهذه الأشياء المفيدة، وليس هذا من التَّشَبُّه، إنما لتَّشَبُّه هو تقليدهم في الأمور التي لا فائدة منها ولا قيمة لها، أو الأمور التي تدخل في العبادة والعقيدة والدين. قد يُقال: أنتم تحرمون التبرّك بالأشجار والأحجار والقبور، في حين أن الصحابة -رضي الله عنهم -كانوا يتبرّكون بريق النبي صلى الله عليه وسلم وشعره ووضوئه، أليس هذا تبركاً بمخلوق. فالجواب عن ذلك: أن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما انفصل من جسده صلى الله عليه وسلم لأنه مبارك، فما انفصل من جسده من ريق، أو عرق، أو شعر، أو وضوء، فإنه يُتبرّك به، أما التبرّك بغير النبي صلى الله عليه وسلم فهذا لم يَرِد حتى مع أفضل الأمة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، والعشرة المبشرين بالجنة، وأصحاب بدر، وأصحاب بيعة الرضوان، ما ذُكر أن المسلمين كانوا يتبرّكون بهؤلاء، لا بريقهم، ولا بعرقهم، ولا بشعورهم. فالتبرك لا يجوز؛ لا بالأشجار، ولا بالأحجار، ولا بالأشخاص، ولا بالحُجْرة النبوية، ولا بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، كل هذا لا يجوز، لأن هذه أمور لم تكن منفصلة عن النبي صلى الله عليه وسلم وليست من جسده صلى الله عليه وسلم فلابد أن نعرف الجواب عن هذه الشُّبَه، لأنهم يُدْلُون بها. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#14
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب ما جاء في الذبح لغير الله ج / 1 ص -164- [الباب العاشر:] * باب ما جاء في الذبح لغير الله ج / 1 ص -165- "{إنَّ صَلاتِي}" الصلاة في الشرع يُراد بها: العبادة المبتدئة بالتكبير المختتمة بالتسليم، التي تشتمل على عبادات قلبيّة وقوليّة وعملية، فالصلاة تشتمل على أنواع العبادة في القلب: من الخشوع، والخشية، والإقبال على الله سبحانه وتعالى، وباللسان: من التكبير، والتحميد، والثناء على الله، وتلاوة كتابه الكريم، ومناجاة الرب سبحانه وتعالى، وبالجوارح: من القيام، والرّكوع، والسجود، والجلوس. فالصلاة عبادة عظيمة، يجتمع فيها ما لا يجتمع في غيرها من أنواع العبادات، ولذلك جعلها الله عمود الإسلام، وجعلها الركن الثاني من أركان الإسلام. وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162) لا شَرِيكَ لَهُ} الآية. هذا الباب كالأبواب التي قبله في بيان أنواع من الشرك التي يمارسها بعض الناس في مختلف الأزمان، من عهد الجاهلية، ولا تزال مستمرَّة، وذلك من أجل أن يتميّز الخبيث من الطيّب، ولله الحكمة سبحانه وتعالى في بقاء هذا الشرك والكفر؛ من أجل أن يتميّز الخبيث من الطيّب، والموحِّد من المشرك، والمهتدي من الضال: {لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً}، ولكن لو هداهم جميعاً لم تكن هناك مِيزَة لأحد على أحد، ولكن اقْتَضَتْ حكمته سبحانه أن يُجري الامتحان من أجل أن يتميّز الخبيث من الطيّب. قال: "وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162) لا شَرِيكَ لَهُ} تتمة الآيات: " {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ* قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}" ختم الله هذه السورة العظيمة بهذه الآيات، لأن السورة تدور كلها على التّوحيد وبيان الشرك، وبيان ما يفعله المشركون مع الأصنام، وما حرّموه من المزارع والأنعام لأصنامهم. وختمها سبحانه وتعالى بالبراءة من كل ما يفعله المشركون، وهذا الغالب على السور المكية، فالسور المكية غالبها، بل تكاد تكون كلها في التّوحيد والنّهي عن الشرك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاثة عشرة سنة يدعو إلى التّوحيد، وينهى عن الشرك، وينزل عليه القرآن في ذلك، ومن جُملة ما نزل عليه في مكة هذه السورة العظيمة: سورة ا لأنعام. فقوله تعالى: "{قُلْ}" هذا أمر من الله جل وعلا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يُعلن للناس، ليس لناس وقته فقط، بل للناس جميعاً إلى أن تقوم الساعة، وليس لناس بلده، بل لناس العالم: "{وَنُسُكِي}" النُّسُك المُراد به: ما يذبح من بهيمة الأنعام على وجه التقرّب والعبادة، كهَدْي التمتُّع والقِران، وهَدْي التطوُّع، وهَدْي الجُبران، والأضاحي، والعقيقة، هذه كلها تُسمى نُسُكاً، فما ذُبح من بهيمة الأنعام على وجه التقرّب إلى الله تعالى بذبحه، فهو النُّسُك. وكان الذبح على وجه التقرُّب موجوداً في الجاهلية، كانوا يذبحون للأصنام، ويذبحون للجن، ويذبحون للكواكب، يذبحون لغير الله عزّ وجلّ، ولهذا يقول النابغة في قصيدته: لا والذي قد زردته حججا وما هريق على الأنصاب من جسد الأنصاب: الأصنام. وهُرِيق، يعني: سُفك من الدماء من جسد، يعني: من ذبيحة. فالنبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن دينه مخالف لدين المشركين، فالمشركون يذبحون لغير الله، والنبي صلى الله عليه وسلم ومَن اتبعه يذبحون لله وحده لا شريك له، كما أنهم لا يصلُّون إلاَّ لله فكذلك لا يذبحون إلاَّ لله سبحانه وتعالى، وقَرْن النُّسُك بالصلاة يدلّ على أنه عبادة عظيمة، لا يجوز صرفها لغير الله، والنسك قد تساهل فيه كثير من الناس فصاروا يذبحون للجن طاعة للمُشَعْوِذِين من أجل العلاج بزعمهم. "{وَمَحْيَايَ}": ما أحيا عليه في عمري من العبادة كله لله عزّ وجلّ. "{وَمَمَاتِي}": ما أموت عليه- أيضاً- لله عزّ وجلّ، فيموت على التّوحيد، فمعنى الآية: أنه يحيا على التّوحيد، ويموت على التّوحيد، ثم أكد ذلك بقوله: {لا شَرِيكَ لَهُ} في ذلك وفي سائر أنواع العبادة. ج / 1 ص -166- وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ(2)}. "{رَبِّ الْعَالَمِينَ}" الرب هو: المالك، والعالمين جمع عالَم، وهو: ما سوى الله عزّ وجلّ من المخلوقات، فكل المخلوقات ربها واحد، هو الله سبحانه وتعالى، لكن قد يُقال لمالك الشيء: ربه، مثل: رب البيت، رب الحاجة، رب السيارة، رب الدراهم، وهذا مقيّد، أما إذا قلت الرب، أو رب العالمين، فهذا لا يكون إلاّ لله سبحانه وتعالى. أما هذه الأصنام وهذه الأوثان، فلا تستحق العبادة لأنها مملوكة لله سبحانه وتعالى، ومعبدة لله سبحانه وتعالى، والعبد لا يُعبد، حتى ولو كان من أشرف العباد كالملائكة والرسل والأولياء، كلهم عبيد لله سبحانه وتعالى. وذكر عبادتين عظيمتين: الصلاة والنُّسُك، لأن الصلاة عبادة بدنيّة، والنُّسُك عبادة ماليّة، وهي من أفضل العبادات المالية. قال: "{ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ}" أمرني ربي سبحانه وتعالى، فدلّ على أن العبادات توقيفيّة، لا يصلح منها شيء إلاَّ بأمر الله سبحانه وتعالى. ثم قال: "{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}" أي: من هذه الأمة، فالأوليّة هنا نِسْبِيَّة، وإلاَّ فالرسل والمؤمنون من قبل النبي صلى الله عليه وسلم كلهم مسلمون، بمعنى أنهم مخلصون العبادة لله عزّ وجلّ. والإسلام هو الاستسلام لله بالتّوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك وأهله، هذا هو الإسلام، وهذا دين جميع الرسل- عليهم الصلاة والسلام، فقوله: " {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}" أي: من هذه الأمة. كما أنّ الآية- أيضاً- تدلّ على أن الرسول أول من يبادر إلى امتثال أمر الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يتأخر عن امتثال أمر الله سبحانه وتعالى، فكذلك يجب على المسلم أن لا يتأخر عن الامتثال والمبادرة إذا أمره الله بشيء يكون من أول من يفعل ذلك، فمن أمر بشيء من المعروف والطاعة، فإنه يجب عليه أن يكون أول من يفعله. قال: "وقوله:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ(2)}" هذا أمر من الله لنبيه أن يُخلص الصلاة لله عزّ وجلّ، وأن يخلص النحر- وهو: الذبح- لله عزّ وجلّ. قالوا: وهذا شكر لله سبحانه وتعالى لما أعطاه الكوثر، فإن الله سبحانه وتعالى أمره أن يشكره على ج / 1 ص -167- عن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله بأربع كلمات: "لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غير منار الأرض" رواه مسلم. هذه النعمة العظيمة، بأن يصلِّي ويذبح لله عزّ وجلّ، ولهذا ربط بما قبله بفاء السببيّة. والكوثر نهر في الجنة، وقيل: هو الخير الكثير، فهذا من باب الشكر لله سبحانه وتعالى على هذه النعمة، على إعطائه الكوثر، {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ(3)}، كان الكفار يذمّون الرسول صلى الله عليه وسلم ويقولون: إنه أبتر، ليس له ذرية، وليس له مال، وإنه إذا مات سينتهي ذكره. {شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}، والله جل وعلا يقول: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ(3)}، أما أنت فلست بأبتر، سيستمر ذكرك، ويستمر عملك، وتستمر دعوتك إلى يوم القيامة. وصدق الله العظيم، أين ذكر أبي جهل؟، وأين ذكر أبي لهب؟، وأين ذكر صناديد الكفار؟، انقطع، ولا يذكرون إلاَّ بالذم- والعياذ بالله، أما رسول الله فإنه يُذكر بالخير والثناء، ويُذكر بكل فضيلة، ودعوته باقية، ودينه باق -ولله الحمد- على مرّ الزمان، بينما تتهاوى المذاهب الأخرى وتتساقط، وإن قويت شوكتها في بعض الأحيان، إلاَّ أنها تتهاوى، ودين الرسول صلى الله عليه وسلم يتجدّد. انظروا إلى الشيوعية في وقتنا الحاضر ماذا بلغت من القوة والإرهاب وإخافة العالم، وفي فترة وجيزة ذابت كما يذوب الملح في الماء، وأين هي الآن؟، لكن دين الإسلام لا يزال- ولله الحمد- يظهر ويتجدّد، ولو ضعف أهله، إلاَّ أنه هو بنفسه- ولله الحمد- دين يتجدّد ويظهر في مرّ الزمان، ومرّ المكان. الشاهد من الآية: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي}، ومن الآية: "{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ(2)}": أن الله جل وعلا قَرَن النحر بالصلاة في الآيتين، فدلّ على أنه عبادة لا يجوز صرفها لغير الله. قوله: "بأربع كلمات" يعني: أربع جُمَل، فالكلمات المراد بها الجمل. وقوله: "لعن الله" اللعن معناه: الطرد والإبعاد عن رحمة الله سبحانه وتعالى. "من ذبح لغير الله" أي: تقرَّب بالذبح لغير الله من الأصنام، ومن الأضرحة، ومن الأشجار والأحجار، والجن، وغير ذلك. فكل من تقرَّب بالذبح إلى غير الله فإنه قد لعنه الله سبحانه وتعالى، وهذا يدلّ على شدّة هذه الجريمة، فإن الله جل وعلا لا يلعن ج / 1 ص -168- إلا على جريمة خطيرة، فدلّ على شدة جريمة من ذبح لغير الله، أيًّا كان هذا الذبح كثيراً أو قليلاً جليلاً أو حقيراً. وذلك بأن يذكر على الذبيحة غير اسم الله أو يكون في نيّته وقلبه واعتقاده أنه يتقرّب بهذه الذبيحة إلى غير الله، أو يريد بهذه الذبيحة دفع شر هذا المذبوح له، فيذبح للجن من أجل دفع شرهم، وخوفاً منهم، أو يذبح للصنم من أجل أن الصنم يجلب له الخير، كما يفعل بعض الجُهّال؛ إذا تأخر المطر ذهبوا بِثَوْر أو غيره من الحيوان وذبحوه في مكان معيّن، أو عند قبر يريدون نزول المطر، وقد يُبتلون فينزل المطر، وتحصل لهم حاجتهم ابتلاءً وامتحاناً من الله سبحانه وتعالى، وهذا لا يدلّ على جواز ما فعلوه، من الشرك والتقرّب لغير الله سبحانه وتعالى. فمن فعل ذلك فهو مشرك وملعون، سواء تلفّظ وقال: هذه الذبيحة للقبر، أو للبدوي، أو للسيد الحسين، أو لفلان أو لفلان، أو ونوى بقلبه فقط. وهذه الذبيحة حرام، لأنها تدخل في قوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} فما أهلّ به لغير الله يشمل ما ذُبح باسم غير الله، ويشمل ما ذُبح باسم الله ويُنْوى به الصنم أو الجن أو العفاريت، والمُشَعْوِذُون الآن إذا جاءهم المرضى يأمرونهم بالذبح لغير الله لأجل أن يشفوا من مرضهم. ويدخل في الذبح لغير الله أصناف: ما ذُبح لغير الله على وجه التقرّب، ولو قيل عليه: بسم الله، وهذا حرام بإجماع المسلمين، وهو شرك بالله عزّ وجلّ. وما ذُبح للّحم وسمي عليه بغير اسم الله. وما ذُبح من أجل التحيّة والتعظيم، مثل: ما يُذبح للملوك والرؤساء عند قدومهم إذا نزل من الطائرة، أو من السيارة، أو من الدابة؛ ذبحوا عند نزوله. وما يُذبح عند ابتداء المشروع، فبعض الجُهّال، أو بعض الذين لا يُبالون، إذا أنشؤوا مشروعاً- مصنعاً أو غير ذلك- يذبحون عند تحريك الآلة. وما يُذبح عند أول نزول البيت خوفاً من الجن، وهذا شرك، لأنه مما ذُبح لغير الله عزّ وجلّ. أما إذا ذبح ذبيحة عند نزول البيت من باب الفرح والسرور، ودعوة الجيران والأقارب، فهذا لا بأس به. فالحاصل؛ أن قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} وقوله: "{فَصَلِّ لِرَبِّكَ ج / 1 ص -169- وَانْحَرْ(2)}" وقول الرسول: "لعن الله من ذبح لغير الله" ج / 1 ص -170- التأديب والتعزير فلا يجوز لعن الآدميين، ولا لعن الدواب، ولا لعن المساكن، أو السيارات، أو غير ذلك.يشمل كل هذه الأمور: 1- ما ذُبح للأصنام تقرّباً إليها. 2- ما ذُبح للحم وذكر عليه اسم غير الله سبحانه وتعالى. 3- ما ذُبح تعظيماً لمخلوق وتحيّة له عند نزوله ووصوله إلى المكان الذي تستقبل فيه. 4- ما ذُبح عند انحباس المطر في مكان معين أو عند قبر لأجل نزول المطر. 5- ما يُذبح عند نزول البيوت خوفاً من الجن أن تصيبه، كل هذا يدخل في الذبح لغير الله، ويكون شركاً بالله سبحانه وتعالى. قوله: "لعن الله من لعن والديه" إن الله سبحانه وتعالى قَرَن حق الوالدين بحقه سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}، فحق الوالدين يأتي دائماً بعد حق الله سبحانه وتعالى، كذلك النهي عن الإساءة إلى الوالدين تأتي بعد الإساءة في حق الله سبحانه وتعالى كما في حديث السبع الموبقات. فالذبح لغير الله، إساءة في حق الله سبحانه وتعالى، ثم ذكر تنقّص الوالدين والإساءة إليهم بلعنهم، فلا يجوز للولد أن يشتم والديه، وهذا من الكبائر، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن من فعله، واللعن على الشيء يدل على أنه كبيرة، سواء لعنهما بالمباشرة أو بالتسبّب، فبعض الناس لا يلعن والديه مباشرة، لكن يتسبّب في ذلك، بأن يلعن والدي رجل آخر، ثم يرد عليه بالمثل، فيكون متسبّباً في لعن والديه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من الكبائر أن يشتم الرجل والديه"، قالوا: وكيف يشتم الرجل والديه يا رسول الله؟ قال: "يسبّ أبا الرجل فيسبّ أباه، ويسبّ أم الرجل فيسبّ أمه"، والمسلم لا يجوز أن يكون لعّاناً، ولا سبّاباً، ولا بذيئاً، المسلم يجب أن يكون مؤدباً، ويتكلم بالكلام الطيّب {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، هكذا ينبغي للمسلم أنه يحفظ لسانه عن القول البذيء، ولاسيّما إذا كان هذا القول من أقبح الكلام كاللعن والسبّ والشتم، حتى البهائم والدواب والدُّور والمساكن لا يجوز لعنها، فقد لعنت امرأة ناقة لها وهي تسير مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ ما على الناقة وتركها تمشي، لا يتعرّض لها أحد، من باب وقوله: "لعن الله من آوى محدثاً" آوى معناها: حَمَى، فالإيواء معناه: الحَمَى والدفع. والمُحْدِث: هو الذي فعل جُرماً يستحق عليه إقامة الحد، فيأتي واحد من الناس ويَحُول دون هذا المجرم ودون إقامة الحد عليه، بجاهه، أو بقوته وسلطانه، أو بجنوده، أو بغير ذلك، فيمنع هذا المجرم من أن يقام عليه الحد. وهذا لعنه رسول الله. وفي الحديث الآخر: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله؛ فقد ضادّ الله في أمره"، وفي حديث آخر: "تعافوا الحدود فيما بينكم، فإذا بلغت السلطان فلعن الله الشافع والمشفع". ولما سرق رجل رِدَاء صفوان بن أُميّة، وهو بالمسجد، فأمسكه صفوان، وذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يده، فقال صفوان: الرداء له يا رسول الله، أنا ما أردت هذا، قال: "هلاّ قبل أن تأتيني به"، يعني: هلا سمحت عنه قبل أن تأتني به؟. فإذا تقرّر الحد في المحكمة الشرعية فلابد من تنفيذه، إلاَّ إذا كان في إقامة الحد عليه ضرر على غيره، كالحامل إذا أُقيم عليها الحد تأثّر الحمل، فيؤخّر إلى أن تلد، وتجد من يرضعه وإلاّ تركت حتى تفطمه. الحاصل؛ أن إيواء أصحاب الجرائم التي تستوجب الحدود، ومنع إقامة الحدود عليهم، من الكبائر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من فعله. وفي بعض الروايات بفتح الدال "لعن الله من آوى محدثاً" والمحدَث معناه: البدعة، ومعنى آوى المحدَث أي: رضي به. فمن رضي بالبدعة، ولم يُنكرها وهو يقدر فقد آواها، يعني: من رأى البدع وسكت ولم يتكلم في إنكارها والبيان للناس أنها بدع، فقد آواها، يعني حماها بسكوته وتَرْكِه لها، فيكون مستوجباً للعنة، فكيف إذا دعا إليها ودافع عنها- والعياذ بالله-. ثم قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من غيّر منار الأرض" المنار: جمع منارة، وهي: العلامة. والمراد بمنار الأرض للعلماء فيه ثلاثة أقوال: ج / 1 ص -171- وعن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دخل الجنة رجلٌ في ذباب، ودخل ا لنار رجلٌ في ذباب"، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "مرّ رجلان على قوم القول الأول: أن المراد بمنار الأرض: المراسيم، ومعنى غيّرها يعني: قدّمها أو أخرّها عن مكانها، وفي الحديث: "من اقتطع شبراً من الأرض بغير حق طُوِّقه يوم القيامة من سبع أرضين". والقول الثاني: أن المراد بمنار الأرض: أعلام الحَرَم الذي يحرم قتل صيده وَتَنْفِيره، ويحرم قطع شجره وحشيشيه، وأخذ لُقَطَتِه فقد، جعل الله حول الكعبة حرماً من كل جانب، وهذه المنطقة، لا يدخلها مشرك، ولا يُنَفَّر صيدها، ولا يُخْتلى خلاها، ولا تُلْتَقَط لقطتها إلاَّ لمنشد، ولا يجوز القتال فيها إلاَّ دفاعاً، فالمراد بمنار الأرض على هذا القول: أنصاب الحَرَم، أي: الأعلام المجعولة على الحَرَم من كل جانب، من جهة التَّنْعيم، ومن جهة الحُدَيْبِيَة، ومن جهة عرفات ونَمِرة، ومن جهة الجِعْرانة، أنصاب مبنيّة وأعلام مقامة على حدود الحَرَم. القول الثالث: أن المراد بمنار الأرض: العلامات التي على الطرق، وكانت معروفة، وفي وقتنا الحاضر اللوحات التي تجعلها المواصلات على الطريق، هذه من منار الأرض، فلا يجوز لأحد أن يغير هذه الأعلام، لأنه يضلل الناس والراجح من هذه الأقوال هو القول الأول. قال: "وعن طارق بن شهاب" طارق بن شهاب البَجَلي الأَخْمَسي، صحابي جليل، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون حديثه عن الرسول مرسل صحابي، ومراسيل الصحابة مقبولة من غير شك، لأن الصحابي لا يرسل إلاّ عن صحابي مثله، فمراسيل الصحابة ليست كمراسيل غيرهم لأنهم كلهم عدول. "دخل الجنة رجل في ذباب" هذا حديث عجيب، ولذلك تعجّب منه الصحابة، والرسول صلى الله عليه وسلم ساقه ولم يبيّنه من أجل أن ينتبهوا ويتشوقوا لمعرفة معناه. "قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "مرّ رجلان على قوم " يعني: من الأمم السابقة. ج / 1 ص -172- لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرِّب له شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرِّب. قال: ليس عندي شيء أقرِّبه، قالوا به: قرِّب ولو ذباباً. فقرّب ذباباً، فخلَّوْ سبيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قرِّب. فقال: ما كنت لأقرِّب لأحد شيئاً دون الله عز وجل. فضربوا عنقه، فدخل الجنة" رواه أحمد. "لهم صنم" الصنم هو: ما كان على صورة حيوان، أما ما عُبد وهو على غير صورة حيوان، كالشجر والحجر والقبر فهذا يسمى وثناً، فالوثن أعم من الصنم، لأن الصنم لا يُطلق إلاَّ على التِّمثال، وأما الوثن فيُطلق على التِّمثال وغيره، حتى القبر وثن إذا عُبد، قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد"، فالوثن كل ما عُبد من دون الله على أي شكل كان. "لا يجوزه أحد" أي: يتجاوزه ولا يمرّ عليه أحد، "حتى يقرِّب له شيئاً" يعني: يذبح له تعظيماً له. "فقال لأحدهما: قرّب، قال: ليس عندي شيء أقرِّبه" اعتذر بالعدم، ولم يقل: إن الذبح لغير الله لا يجوز، أو هذا منكر- والعياذ بالله-، وهذا يدلّ على أنه لو كان عنده شيء لقربه. "قالوا له: قرِّب ولو ذباباً" فقرب ذباباً، يعني: اذبحه للصنم، "فقرِّب ذباباً فخلوا سبيله" سمحوا له بالمرور، "فدخل النار" بسبب الشرك، وأنه ذبح لغير الله، والعبرة بالنيّة والقصد لا بالمذبوح. والقصد أنه ما استنكر هذا الشيء، ولا تمنع منه، وإنما اعتذر بعدم وجود شيء فلذلك دخل النار- والعياذ بالله. "وقالوا للآخر: قرِّب. فقال: ما كنت لأقرِّب لأحد شيئاً دون الله عزّ وجلّ" امتنع وأنكر الشرك، "فضربوا عنقه" يعني: قتلوه، "فدخل الجنة" بسبب التّوحيد. فهذا الحديث حديث عظيم، فيه مسائل عظيمة: المسألة الأولى: هذا الحديث فيه جواز الإخبار عن الأمم السابقة، والتحدّث عنها بما ثبت لأجل العظة والعبرة. المسألة الثانية: في الحديث دليل على تحريم الذبح لغير الله، ومن ذبح ج / 1 ص -173- لغير الله فقد أشرك، لأن هذا الرجل الذي ذبح الذباب دخل النار، وحتى لو كان المذبوح شيئاً تافهاً، والرجل الثاني عظّم الشرك، وتجنبه ولو كان شيئاً حقيراً، فدخل الجنة. المسألة الثالثة: كما قال الشيخ رحمه الله في مسائله: أن المدار على أعمال القلوب، وإن كان الشيء الظاهر تافهاً، لكن المدار على عمل القلب. المسألة الرابعة: فيه دليل- كما قال الشيخ رحمه الله- على قُرب الجنة والنار من الإنسان، كما قال صلى الله عليه وسلم: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شِراك نعله، والنار مثل ذلك"، هذا ضربوا عنقه فدخل الجنة، وذاك خلو سبيله فدخل النار. المسألة الخامسة: أن هذا الرجل الذي ذبح الذباب كان مؤمناً، فدخل النار بذبحه الذباب، لأنه لو كان كافراً لدخل النار بكفره، لا بذبح الذباب، فدلّ على أنه كان مؤمناً، وهذه مسألة خطيرة جدًّا، فأين الذين يذبحون للقبور وللجن، وللشياطين، وللعفاريت، وللسخرة؟، فدلّ على أن الشرك الأكبر يخرج من الملة ولو كان شيئاً يسيراً، فأمور التّوحيد وأمور العقيدة لا يُتسامح فيها. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#15
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب لا يُذبح لله بمكان يُذبح فيه لغير الله ج / 1 ص -174- [الباب الحادي عشر: ] * باب لا يُذبح لله بمكان يُذبح فيه لغير الله وقول الله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} الآية. قال الشيخ رحمه الله: "بابٌ لا يُذبح لله بمكان يُذبح فيه لغير الله" هذا الباب تابعٌ للباب الذي قبله؛ لأن الباب الذي قبله: "ما جاء في الذبح لغير الله" يعني: أنه محرَّمٌ وأنه شرك، وهذا الباب فيه سدُّ الذريعة المُفْضية إلى الذبح لغير الله. وقوله: "باب لا يذبحُ" بضم (الحاء) على أنّ (لا) نافية، ويصلُح: "لا يُذبحْ" بإسكانها على أنّ (لا) ناهية، وحتى لو أخذناها على أنها نافية فالنفي هنا معناه: النهي، فالنفي يأتي بمعنى النهي، بل إذا جاء النهي بصيغة النفي كان أبلغ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلاَّ إلى ثلاثة مساجد" هذا نفيٌ معناه: النهي، ومثله قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} هذا نفي معناه النهي عن هذه الأمور. وقوله: "لا يذبحُ لله في مكان يذبح فيه لغير الله" لأن الذبح في هذا المكان وإن كان لله عزّ وجلّ، فإنه وسيلة إلى الشرك، وكذلك في الذبح في هذا المكان تعظيم له ومشابهة للمشركين، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسائل المُفْضية إلى الشرك، مثل: نهيه عن الصلاة إلى القُبور وإنْ كان المصلي لا يصلي إلاَّ لله عزّ وجلّ، ونهي عن الدعاء عند القُبور وإن كان الداعي لا يدعو إلاَّ الله وحده، لكن هذا المكان لا يصلُح التعبد لله فيه، لأنه وسيلةٌ إلى الشرك، وكذلك نهى عن الصلاة عند غروب الشمس لأنه وسيلة إلى عبادتها لأن المشركين كانوا يسجدون لها عند الغروب، ونهى عن الصلاة عند شروق الشمس لأن المشركين كانوا يسجدون لها في هذا الوقت؛ فكل موطن وكلُّ زمان قد اتخذه المشركون لعبادتهم فإننا نهينا أن نُشاركهم فيه، وأمرنا أن نبتعد عنه، من باب سدِّ الذرائع، ومن باب قطْع المشابهة للمشركين، ممّا يعطي دينَ الإسلام استقلالية تامّة عن كلِّ دين سواه في الأديان الباطلة. قوله: "وقول الله تعالى: "{لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً}" أي: في مسجد الضرار، نهيٌ للنبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في هذا المسجد. ج / 1 ص -175- وقصته: أنّ أبا عامر الفاسق كان قد قرأ الكتب السابقة في الجاهلية، وتعبّد حتى صار يُقال له: "أبو عامر الراهب"، ويعظِّمه الناس لِمَا يظهر عليه من الدين؛ فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حسده وكفر به، وأبغض الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وسمّاه النبي بـ "أبي عامر الفاسق"، لأنه خرج عن طاعة الله وكفر برسول الله صلى الله عليه وسلم. فوعدهم صلى الله عليه وسلم وقال: "إنا على سفر إلى غزوة تبوك، إنْ شاء الله إذا رجعنا نصلي فيه"، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك ولم يبق على وصوله إلى المدينة إلاَّ ليلة - أو ليلتان- أتاه الوحي من السماء، قال الله سبحانه وتعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً}، وبيّن سبحانه مقاصدهم الخبيثة في هذا البناء.ثم ذهب هذا الكافر إلى الشام يؤلِّب النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب وهو في الشام إلى جماعة من المنافقين في المدينة: أنِ ابْنوا لنا مكاناً من أجل أن نجتمع فيه ونتشاور. يريدون أن يكون هذَا المكان محل اجتماع لأعداء الرسول صلى الله عليه وسلم، يتشاورون فيه للكيْد للإسلام، وكانوا لم يجرءوا على أن يبنوه على أنه مَجْمَع، فأظهروه بصورة المسجد، وقالوا: بنيناه من أجل الضعيف والمريض والليلة المطيرة أو الليلة الشاتَية، وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصلّي فيه، يريدون من هذا التغطية والخديعة. وقوله: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} فيه: منع الرسول صلى الله عليه وسلم من الصلاة في هذا المسجد وتيئيس لهؤلاء. ففي هذه الآيات: أن النّيات تؤثِّر في الأمْكنة والمباني، النيّات الخبيثة تؤثر في الأمكنة والبِقاع خبثاً، والنيّات الصالحة تؤثِّر فيها بركة وخيراً. ففيها: الحث على إصلاح المقاصد، وفيها: دليلٌ على أن الاعتبار بالمقاصد لا بالمظاهر؛ هؤلاء بنوا مسجداً في الظاهر، ولكن ليس مقصودهم المسجد، فدلّ على أن ما كل من أظهر الصلاح يُقبَل منه حتى تُعرف حقيقته. وفيه: التنبيه على خِداع المخادِعين، وأن يكون المؤمنون على حذر دائماً من المشبوهين ومن تضليلهم، وأنهم قد يتظاهرون بالصلاح، ويتظاهرون بالمشاريع الخيرية، ولكن ما دامت سوابقهم وما دامت، تصرُّفاتهم تشهد بكذبهم فإنه لا يُقبل منهم، ولا ننخدع بالمظاهر دون نظر إلى ج / 1 ص -176- وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: نذر رجل أن ينحر إبلاً المقاصد وإلى ما يترتب -ولو على المدى البعيد- على هذه المظاهر. ففيه: تنبيه المسلمين إلى الحذر في كل زمان ومكان من تضليل المشبوهين، وأن كل من تظاهر بالخير والصلاح والمشاريع الخيرية لا يكون صالحاً، إلاَّ من لم يكن له سوابق في الإجرام، ولم يُعرف عنه إلاَّ الخير؛ فهذا يُقبل منه، لكن من كان معروفاً بالسوابِق السيِّئة والمكائد الخبيثة، أو يظهر عليه أو على فلتات لسانه أو على كَلامه شيء؛ فإننا نأخذ الحذر منه ولا ننخدع، لأنّ الله جل وعلا نهى رسوله أن يصليَ في مكان أُعِدَّ للمعصية، فدلّ هذا على أنه لا يذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله، كما لا يصلى لله في مكان أُعِدَّ للمعصية والكفر، كذلك لا يُذبح لله في مكان أُعِدَ للمعصية. وقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} هو مسجد قباء لصلاح نية أهله رضي الله عنهم. وفيه: دليلٌ على فضيلة مسجد قباء، وفضل أهله رضوان الله عليهم، وأنّ هذا المسجد بقيَ له الفضل في الإسلام إلى أنْ تقوم الساعة، ويقصد للصلاة فيه ممّن كان في المدينة اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم. قال: "وعن ثابت بن الضحّاك" الأشهلي رضي الله عنه، صحابيٌّ جليل. "أن رجلاً نذر" النذر في اللغة هو: الالتزام-؛ يقال: نذر كذا إذا التزمه، ونذر دم فلان بمعنى أنه التزم أن يقتله. وأما في الشرع: فالنذر معناه: "إلزام المكلَّف نفسه طاعة لله لم تجب عليه بأصل الشرع" من صلاة وصيام وحجٍّ وعمرة وصدقة وغير ذلك. والنذر -في الأصل- غير مشروع، ولا يُستحب للإنسان أنه ينذر لنهيه صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال: "إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يُستخرج به من البخيل"، وفي رواية: "لا تنذروا"- بالنهي- "فإن النذر لا يأتي بخير"، فما دام الإنسان على السَّعَة فإنه لا ينبغي له أن ينذر ليكون في سَعة، إنْ أراد أن يتعبّد ويأتي بالطاعة أتى بها، وإلاّ فليست لازمة له، ولكنه إذا نذر ورَّط نفسه، ووجب عليه الوفاء بالنذر، قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً(7)}، وقال تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}، قال ج / 1 ص -177- ببوانة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "هل كان فيها وثْن فن أوثان الجاهلية يُعبد؟ ". ـ تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ}، وقال صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه". "أن ينحر إبلاً" النحر معناه: ذبح الإبل في النحر -وهو اللَّبَّة-، يقال: نحر البعير، وذبح الشاة والبقرة. فالنحر خاصٌّ بالإبل، وأما الذبح فيكون لغير الإبل. "ببُوانة" (بُوانة) اسم موضع بين مكة والمدينة، قيل: إن قريبٌ من مكة عند (السعديّة) التي هي (يَلَمْلَم) ميقات أهل اليمن، وقيل إنه قريبٌ من المدينة عند (ينبع). فالحاصل؛ أنه اسم موضع بين مكة والمدينة. "فسَأل النبي صلى الله عليه وسلم" فيه دليل: على الرجوع إلى أهل العلم، وأن الإنسان لا يقدِم على شيء من العبادات حتى يعرف هل هو مشروع أو غير مشروع؟. "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل كان فيها وَثنٌ من أوثان الجاهلية يعبد؟" يعني: هل كان في هذا المكان - ببُوانة- وثن من أوثان الجاهلية يُعبد، يعني: وأُزيل الآن. والوثن: كل ما عُبد من دون الله من حجر ومن شجر أو صورة أو قبر، أما الصنم فهو خاصٌّ بما كان على صورة. و"الجاهلية" المراد بها: ما كان قبل الإسلام. وقد زالتْ -بحمد الله- ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن قد يبقى منها أشياء في بعض الناس، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: "إنك امرؤ فيك جاهلية"، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية؛ الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب والاستقاء بالنجوم والنياحة على الميِّت". فقد يبقى من أعمال الجاهلية شيء في بعض المسلمين. أما الجاهلية العامة فقد زالتْ ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، لا كما يقول بعض الكُتّاب: (جاهلية القرن العشرين)، أو (الجاهلية الحديثة) فلا يجوز مثل هذا التعبير لما فيه من التعميم. فهذا فيه: دليلٌ على أنّ الصنم ولو زال وأن الوثن ولو زال من المكان أنّ هذا المكان يُترك ولا يُذبح فيه، لأنه قال: "هل كان فيها؟"، يعني: في الزمان الماضي؛ فدلّ على أنّ مكان الوثن يجب أن يُهجَر قال تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ(5)} الرجز الأصنام وهجرها: تركها وترك المكان الذي كانت فيه. ج / 1 ص -178- قالوا: لا، قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟"، قالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم" رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما. ثم قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟" العيد: اسم لِمَا يعود ويتكرّر من الزمان أو المكان. فالعيد الزماني مثل: عيد الفطر وعيد الأضحى. والعيد المكاني: وهو المكان الذي يجتمع الناس فيه للعبادة مثل: عرفة، ومزدلفة، ومنى، هذه أعياد للمسلمين المكانية والزمانية. والشاهد من هذا الحديث للباب في قوله صلى الله عليه وسلم: "هل كان فيها وثنٌ من أوثان الجاهلية يُعبد... فهل كان فيها عيد من أعيادهم" فدلّ على أنه لا يُذبح لله في مكان كان في السابق يُذبح فيه لغير الله، لأن هذا وسيلةٌ إلى الذبح لغير الله عزّ وجلّ، كالصلاة عند القبر، وكالدعاء عند القبر، كل الوسائل التي تُفضي إلى الشرك ممنوعة؛ وكإسراج القبور نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه وسيلةٌ إلى الشرك، والبناء عنى القبور نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه وسيلة إلى الشرك؛ كل الوسائل التي تُفضي إلى الشرك نهى عنها صلى الله عليه وسلم، ومنها: الذبح لله في مكان يُذبح فيه لغير الله. وقوله: "أوف بنذرك" فيه دليل على وجوب الوفاء بالنذر إذا كان نذر طاعة. وقوله: "فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله" فيه تحريم الوفاء بنذر المعصية ومنه نذر الذبح في مكان يذبح فيه لغير الله. فهذا الحديث يدلُّ على مسائل عظيمة: المسألة الأولى: أنّ الذبح عبادة لا تجوز لغير الله. المسألة الثانية: فيه: مشروعية الرجوع إلى أهل العلم وسؤال أهل العلم؛ لأن هذا الرجل لم يُقدِم على تنفيذ النذر إلاَّ بعد أن سأل النبي صلى الله عليه وسلم. المسألة الثالثة: في الحديث دليل على مشروعية تثبُّت المفتي من حال السائل، ومقاصده قبل إصدار الفتوى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تثبّت قبل الفتوى؛ وبعض الناس يتسرّع في الفتوى مباشرة قبل أن يكمِّل السائل السؤال أو قبل أن يعرف مقصده. المسألة الرابعة: وهي الشاهد للباب: أنه لا يُذبح لله بمكان يُذبح فيه لغير الله عزّ وجلّ، لأن هذا من وسائل الشرك. ج / 1 ص -179- المسألة الخامسة: فيه: خطورة الذبح لغير الله؛ لأنه إذا كان لا يُذبح لله في المكان الذي يُذبح فيه لغير الله فكيف بالذبح لغير الله؟. المسألة السادسة: فيه: وُجوب الوفاء بالنذر إذا كان نذر طاعة. المسألة السابعة: فيه: أنّ النذر إذا كان نذر معصية أو أنه لا يجوز الوفاء به أو في شيء لا يملكه الناذر فإنه لا يلزمه؛ وإنما اختلف العلماء: هل عليه كفّارة يمين أو لا؟، على قولين أرجحهما ليس عليه شيء. المسألة الثامنة: في الحديث: دليلٌ على تحريم نذر المعصية، كمن نذر أن يقتل فلاناً- أو نذر الذبح لغير الله، أو نذر الذبح في مكان يُذبح فيه لغير الله، وفيه: دليل على تحريم الوفاء بنذر المعصية. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
[جمع] الجمع الثمين لكلام أهل العلم في المصرّين على المعاصي والمدمنين | أبو عبد الودود عيسى البيضاوي | منبر التوحيد وبيان ما يضاده من الشرك | 0 | 13-09-2011 09:33PM |
أقوال العلماء السلفيين في حكم من حكَّم القوانين | أبو حمزة مأمون | منبر التحذير من الخروج والتطرف والارهاب | 0 | 10-06-2010 01:51AM |
(الشيخ ربيع بين ثناء العلماء ووقاحة السفهاء) | أبوعبيدة الهواري الشرقاوي | منبر الجرح والتعديل | 0 | 21-12-2008 12:07AM |
مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد | أبو عبد الرحمن السلفي1 | منبر التوحيد وبيان ما يضاده من الشرك | 4 | 08-11-2007 12:07PM |
صحيح المقال في مسألة شد الرحال (رد على عطية سالم ) | ماهر بن ظافر القحطاني | منبر البدع المشتهرة | 0 | 12-09-2004 12:02PM |