تفريغ مادة صوتية عن بر الوالدين ، لفضيلة الشيخ : ماهر بن ظافر القحطاني ، ألقيت بعد صلاة العشاء في مسجد بلال ، ألقيت لية الإثنين الموافق 18-4-1438]
|
|
|
|
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله
عباد الله ! من الحقوق التي ضيّعها أكثر أهل الإسلام اليوم : حقّ الوالدين ، فتساهل كثيرٌ من النّاس في أداء هذا الحقّ ؛ فتجد الرّجل يخاطب والديه بإلزامات و نقاشات كأنّه يخاطب صاحبه ، و ربّما ارتفع صوته عليهما ، و ربّما نهرهما ، أو أومأ إلى زجرهما ،فنفض يده عندهما ، او اشتدّ بنظرة تدل على التبكيت لهما أو التّجهيل أو الاستعجاب ، و كلّ ذلك من العقوق .
و قد قرن الربّ سبحانه و تعالى برّ الوالدين بأعظم أمرٍ في القرآن و هو التّوحيد ، التّوحيد الذي ما خلق الله العبيد إلّا من أجله عطف عليه برّ الوالدين ، فقال سبحانه : (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) ، أي : أحسنوا لهم إحسانا ، وذلك يتضمّن الإحسان بالقول الطّيّب ، و الصحبة والزيارة و المال ، و الخدمة ، و قضاء الحوائج ، و الدفاع عنهما في غيبتهما ، و الدّعاء لهما ، كل ذلك يدخل في الإحسان ؛ ففرّق الله بين خطاب النّاس و خطاب الوالدين فقال : (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) ؛ فلا يجلس البارّ بين والديه جلسة القرين ، كأن والده قرين له ، يمد رجليه في حضرة والديه ، و يشوح بيديه ، بل كأن أميرا في المجلس ، أو سلطانا مهيبا ، و حينئذ قال : (وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) ، أي بأدب و توقير ، فكل من خاطب والديه بزجر ، أو بكلام معتاد ، يمكن أن يقوله لصاحبه ليس فيه أدب و توقير ؛ فقد خالف كلام الواحد القدير ؛ فليستحضر إن كان جالسا عن يمينه أخوه الأكبر ، و عن شماله والدته ، فخطاب الذي عن اليمين ، غير خطاب الذي عن الشمال ، فهذا أخ كبير أو أخ مثلك ، و هذا والدك ؛ فإذا تكلّمت مع هذا فله خطاب ، و إذا تكلّمت مع والدك فله خطاب ، و لذلك عطف الرّسول ﷺ ، أو قدم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله - مع أن الجهاد تقطع فيه الأيدي و تقتل فيه الأنفس ، خرّج البخاري في صحيحه(1) قال النّبيّ ﷺ : أحبّ الأعمال إلى الله : الصّلاة على وقتها ، -حين سئل : أيّ الأعمال أحبّ إلى الله - ، ثم أيّ؟ قال : برّ الوالدين ، قال : ثمّ أيّ ؟ قال : الجهاد في سبيل الله .
فقدّم برّ الوالدين على الجهاد في سبيل الله ؛ ذلك أنّ الرجل قد يسمع صيحة ؛ فيخرج في سبيل الله فيقتل ، لكن برّ الوالدين ، يلزم به المسلم ، منذ أن يكلّف ، إلى أن يموت، فلا يأتي وقت يقول أنا أتنفس الآن أظهر لوالديّ الغضب شويّ ، ما فيه ، بل يبرّهما حتى الموت ، و لا في موقف واحد يسمح له به ، فإذا فعل أضحكهما و أفرحمها كما أبكاهما ، فقدأراد النبي ﷺ غزوة ، فجار رجل يستأذن رسول الله ﷺ ، أو قال : خرجت و تركت والديّ يبكيان ، فأرجعه من الغزو إلى البرّ ، فدل على أنه أفضل من الغزو في سبيل الله ، فقال ﷺ : ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما (2) ؛
و لذلك ذكر النّبيّ ﷺ العقوق في المرتبة الثانية في الشّرّ بعد الشّرك ، كما ذكر برّ الوالدين في المرتبة الثّانية بعد أعظم مأمور و هو التّوحيد ، فقال - كما خرجه البخاري(3) من حديث أبي بكرة - : ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : الشّرك بالله -و هو الذي يخلد في النار و يحبط الأعمال - قال : و عقوق الوالدين ، و كان متكئا فجلس و قال : ألا و قول الزّول و شهادة الزّور ، حتى قلنا ليته سكت .
فانظر رحمك الله : شهادة الزور التي تطير بها رقاب البرآء ، يعطى هذا مليون ، و هذا مليون ، و يقول اشهدا أن فلانا قتل بهؤلاء ؛ فيذهبان عند القاضي و يتمكنان من الشهادة ، فتطير رأسه بشهادتهما ، فقدم على هذا الذي يسفك الدم بشهادة الزّور ، و يقطع اليد بشهادة الزور ، قدم عليه في الإثم عقوق الوالدين ، فقال : عقوق الوالدين ، ثمّ عطف عليه شهادة الزور ؛ و لذلك كان برّ الوالدين يؤهل الرجل ليسكن في أعالي الجنة ، كما خرّج ذلك مسلم في صحيحه (4)، قال النّبيّ ﷺ : الوالد -يعني و الوالدة - أوسط أبواب الجنة ( معناه : إن بررتهما و تحملت أذاهما و اكرمتهما ؛ يؤهلانك إلى أعالي الجنّة ) فإن شئت -إن كنت ذكيا - فأمسك به و إن شئت -و كنت أحمقا غبيّا - فأضعه ، فإن توفّيا و لم يقم ببرّهما ، فقد أضاعه ، و لذلك لمّا صعد النّبي ﷺ المنبر قال : آمين ، الثانية آمين ، الثالثة آمين ، فقالوا : لم قلت ذلك يا رسول الله ؟ قال جاءني جبريل فكان مما قاله له : من أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة فبعد(5) ( يعني عن رحمة الله ) أو في رواية : فرغم أنفه(6) .
فدعا جبريل على من لم يهتم بوالديه ، حتى ماتا و لم تتسبب حياتهما و إكرامهما في دخول الجنة ؛ فدعى جبريل أن يبعده الله عن رحمته ، و النّبيّ ﷺ أمّن على هذا الدّعاء ، و لذلك تجد العبد العاق لأبويه مشرد ، ليس بهنيّ العيش ، إن جاءه رزق فاستدراج ، مذموم عن الخلق ، مبغوض عند الخالق سبحانه و تعالى .
و حقّ الأمّ أعظم ، فإنّ النّبيّ ﷺ عندما سئل ، فقيل له : من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك ، ثم أمك ، ثم أمك ، ثم أبوك (7)؛فلو قدر أن إنسان كان له والدان ، فتطلقا و انفصلا ، فصار له دون زوجه و عمله أربع ساعات فراغ ، فيجلس عند أبيه ساعة و عند أمه ثلاث ، و لو تنازع النداءان فقال الأب تعال يا ولد ، و قالت الأم : بل تعال أريدك ضروري ، فلا بدّ أن يجيب الأبّ ، و لو توفيا يقدم العمرة عن الأم قبل العمرة عن الأبّ ، فإن الربّ ذكر في الأم مالم يذكر في الأب فقال : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ ) ، و حمل رجل في عهد ابن عمر أمه من اليمن على ظهره ، فكان كأنه بعير لها ، و هذه مشقة عظيمة جدا ، فحملها من اليمن و جاء بها يطوف في الكعبة و يحج بها ، فصادف ابن عمر و أراد أن يسليه بما يجمل أيامه من البشرى ، يقول له : هذه أمي جئت بها من اليمن ، و ها هي على ظهري و أنا أطوف بها (و سأحج بها يعني ) ، فهل أديت حقها ؟ جاء بها من اليمن ، إلى أن طاف، قال : و لا زفرة من زفراتها ( طلقة من طلقاتها ) (8)
و لهذا كان بر الأم مؤهلا لأن يكفر الكبائر ، كما خرج ذلك البخاري في الأدب المفرد(9)، أن رجلا سأل ابن عباسٍ فقال : يا ابن عبّاس : إنه كانت لي ابنة عم أحبها ، فخطبتها فأبت أن تزوجني ، فتقدم لها رجل غيري فخطبها فقبلته و نكحته ؛ فغرت فقتلتها ، فهل لي من توبة ؟ فقال له ابنُ عباس : هل لك من أم ؟ قال عطاء : لم سألته عن امه ؟ فقال : لم أجد من الأعمال فضلا (يصل به إلى تكفير الكبائر يعني) مثل بر الأم ؛ و لذلك كان أويس القرني مستجاب الدعاء ، و من أعظم أسباب ذلك : برّه بأمّه . فقال النّبيّ ﷺ - كما رواه مسلم في صحيحه (10) - : يأتيكم أويس من أمداد اليمن ، كان فيه برص فشفاه الله إلا موضع درهم ، ترك أما له في اليمن لم يترك غيرها ، إذا رأيتموه فاسألوه أن يستغفر لكم ، فكان عمر بن الخطاب يترصد كل عام في الحجيج ينادي : فيكم أويس بن عامر ؟ فلم يجيبوا ، حتى بعد سنين ظهر أويس ، فقال أنا أويس ، فقال من مراد ثم من قرن ؟، فلما عرّف بنفسه و عرفه قال عمر - الذي قال عنه النّبيّ ﷺ -كما في صحيح البخاري (11) - : دخلت البارحة الجنة فرأيت قصرا من ذهب ، فقال لمن هذا ؟ قيل لرجل من قريش ، فقال النّبيّ ﷺ ، و هو النّبيّ : أنا من قريش ، فقيل : لعمر بن الخطّاب ، فقال النّبيّ ﷺ لعمر : لولا غيرتك لدخلت ، لأنّ كل قصر للرجل في الجنة فيه حوريات ، فخشي النّبي ﷺ ، أن يؤذى عمر بالغيرة ، فبكى عمر قال : منك أغار يا رسول الله ؟ - فهذا عمر و قد بشره الرسولﷺ بالجنة ، يقول لأويس : استغفرلي ، فإنّ النّبيّ ﷺ أمرنا إذا رأيناك أن تستغفر لنا ، و ما الذي رفع أويس إلى هذه المرتبة ؟ إنّه كان براّ بأمّه ، يخدمها و يقوم على شؤونها حتى رفعه الله إلى هذه المرتبة العليا فخلد اسمه ، و بيننا و بين وفاته الآن نحو ألف و أربع مئة سنة ، و نحن نذكره بعد العشاء !
هذا لأنّه كان براّ بأمّه فخلد الله ذكره ، أسأله أن ينفعنا و إياكم بما سمعنا و تعلمنا ،
و الحمد لله رب العالمين . |
|
|
|
|
رابط المادة الصوتية :
http://d.top4top.net/m_381krt131.mp3
الرابط
======================
الحواشي :
1- برقم (527) من حديث ابن مسعود .
2- رواه البخاري في الأدب المفرد برقم (13).
3- رواه البخاري في صحيحه برقم (5976).
4- خرجه أحمد في المسند برقم (21717) ، و ابن ماجة برقم (2089) ، كما قال العلامة الألباني.
5-أخرجه ابن خزيمة برقم (1888) ، رواه الحاكم في المستدرك برقم (7256) ، و صححه و وافقه الذهبي.
6- رواه البخاري في الأدب المفرد برقم (646) .
7-رواه البخاري برقم ( 5971) .
8- رواه البخاري في الأدب برقم (10).
9-أخرجه البخاري في الأدب برقم (4).
10-رواه مسلم برقم :(6492).
11-رواه البخاري برقم (3679 -3680) و زيادة ( أنا من قريش) رواها الترمذي برقم (3689) في حديث طويل .
.................................
و أي تنبيه على خطأ أرجو مراسلتي .
[