القائمة الرئيسية
الصفحة الرئيسية للمجلة »
موقع الشيخ ماهر بن ظافر القحطاني »
المحاضرات والدروس العلمية »
الخطب المنبرية الأسبوعية »
القناة العلمية »
فهرس المقالات »
فتاوى الشيخ الجديدة »
برنامج الدروس اليومية للشيخ »
كيف أستمع لدروس الشيخ المباشرة ؟ »
خارطة الوصول للمسجد »
تزكيات أهل العلم للشيخ ماهر القحطاني »
اجعلنا صفحتك الرئيسية »
اتصل بنا »
ابحث في مجلة معرفة السنن والآثار »
ابحث في المواقع السلفية الموثوقة »
لوحة المفاتيح العربية
البث المباشر للمحاضرات العلمية
دروس الشيخ ماهر بن ظافر القحطاني حفظه الله والتي تنقل عبر إذاعة معرفة السنن والآثار العلمية حسب توقيت مكة المكرمة حرسها الله :: الجمعة|13:00 ظهراً| كلمة منهجية ثم شرح كتاب الضمان من الملخص الفقهي للعلامة الفوزان حفظه الله وشرح السنة للبربهاري رحمه الله :: السبت|19:00| شرح كشف الشبهات للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله :: الأحد|19:00 مساءً| شرح العقيدة الطحاوية لأبي العز الحنفي رحمه الله :: الاثنين|19:00 مساءً| شرح سنن أبي داود السجستاني:: الثلاثاء|19:00 مساءً| شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج وسنن أبي عيسى الترمذي رحمهما الله :: الأربعاء|19:00 مساءً| شرح الموطأ للإمام مالك بن أنس رحمه الله :: الخميس|19:00 مساءً| شرح صحيح الإمام البخاري رحمه الله
 
جديد فريق تفريغ المجلة


العودة   مجلة معرفة السنن والآثار العلمية > السـاحة الإســلاميـــة > منبر التوحيد وبيان ما يضاده من الشرك
مشاركات اليوم English
نود التنبيه على أن مواعيد الاتصال الهاتفي بفضيلة الشيخ ماهر بن ظافر القحطاني حفظه الله، ستكون بمشيئة الله تعالى من الساعة الحادية عشرة صباحاً إلى الثانية عشرة والنصف ظهراً بتوقيت مكة المكرمة، وفي جميع أيام الأسبوع عدا الخميس و الجمعة، آملين من الإخوة الكرام مراعاة هذا التوقيت، والله يحفظكم ويرعاكم «رقم جوال الشيخ: السعودية - جدة 00966506707220».

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع التقييم: تقييم الموضوع: 2 تصويتات, المعدل 5.00. انواع عرض الموضوع
  #46  
قديم 02-02-2015, 12:18AM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم






القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: قول ما شاء الله وشئت

ج / 2 ص -228- باب: قول ما شاء الله وشئت


عن قتيلة: "أن يهوديا أتى للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة.


مناسبة الباب لكتاب التوحيد
أن قول: (ما شاء الله وشئت) من الشرك الأكبر، أو الأصغر; لأنه إن اعتقد أن المعطوف مساو لله; فهو شرك أكبر، وإن اعتقد أنه دونه لكن أشرك به في اللفظ; فهو أصغر، وقد ذكر بعض أهل العلم: أن من جملة ضوابط الشرك الأصغر؛ أن ما كان وسيلة للأكبر فهو أصغر.


قوله: "أن يهوديا": اليهودي: هو المنتسب إلى شريعة موسى عليه السلام، وسموا بذلك من قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: من الآية 156]; أي: رجعنا، أو لأن جدهم اسمه يهوذا بن يعقوب; فتكون التسمية من أجل النسب، وفي الأول تكون التسمية من أجل العمل، ولا يبعد أن تكون من الاثنين جميعا.


قوله: "إنكم تشركون": أي: تقعون في الشرك أيها المسلمون.
قوله: "ما شاء الله وشئت": الشرك هنا أنه جعل المعطوف مساويا للمعطوف عليه، وهو الله عز وجل ؛ حيث كان العطف بالواو المفيدة للتسوية.
قوله: "والكعبة": الشرك هنا أنه حلف بغير الله، ولم ينكر


ج / 2 ص -229- فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت" رواه النسائي وصححه1.


النبي صلى الله عليه وسلم ما قال اليهودي، بل أمر بتصحيح هذا الكلام; فأمرهم إذا حلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة; فيكون القسم بالله.
وأمرهم أن يقولوا: ما شاء الله، ثم شئت; فيكون الترتيب بثم بين مشيئة الله ومشيئة المخلوق، وبذلك يكون الترتيب صحيحا، أما الأول; فلأن الحلف صار بالله، وأما الثاني; فلأنه جُعِل بلفظ يتبين به تأخر مشيئة العبد عن مشيئة الله، وأنه لا مساواة بينهما.


ويستفاد من الحديث:

1- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على اليهودي مع أن ظاهر قصده الذم واللوم للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه; لأن ما قاله حق.
2- مشروعية الرجوع إلى الحق وإن كان من نبه عليه ليس من أهل الحق.
3- أنه ينبغي عند تغيير الشيء أن يغير إلى شيء قريب منه; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يقولوا: "ورب الكعبة"، ولم يقل: احلفوا بالله، وأمرهم أن يقولوا: "ما شاء الله، ثم شئت".
إشكال وجوابه: وهو أن يقال: كيف لم ينبه على هذا العمل إلا هذا اليهودي؟
وجوابه: أنه يمكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمعه ولم يعلم به.



1أخرجه: الإمام أحمد (6/371, 372), والنسائي في (الأيمان, باب الحلف بالكعبة), (7/6), والطحاوي في "المشكل" (1/91, 357), والحاكم (4/297) -وصححه ووافقه، الذهبي-, والبيهقي (3/216), والمزي في "تهذيب الكمال" (3/ 1694). وصححه الحافظ في "الإصابة" (4/389).


ج / 2 ص -230- وله أيضا عن ابن عباس; أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: "أجعلتني لله ندا؟! بل ما شاء الله وحده"1.


ولكن يقال: بأن الله يعلم; فكيف يقرهم؟ فيبقى الإشكال.
لكن يجاب: إن هذا من الشرك الأصغر دون الأكبر; فتكون الحكمة هي ابتلاء هؤلاء اليهود الذين انتقدوا المسلمين بهذه اللفظة، مع أنهم يشركون شركا أكبر ولا يرون عيبهم.
قوله: في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم".


الظاهر أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم تعظيما، وأنه جعل الأمر مفوضا لمشيئة الله ومشيئة رسوله.
قوله: "أجعلتني لله ندا"؟!.
الاستفهام للإنكار، وقد ضُمِّن معنى التعجب، ومن جعل للخالق ندا; فقد أتى شيئا عجابا.
والند: هو النظير والمساوي; أي: أجعلتني لله مساويا في هذا الأمر؟!
قوله: "بل ما شاء الله وحده" أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يقطع عنه الشرك، ولم يرشده إلى أن يقول ما شاء الله ثم شئت؛ حتى يقطع عنه كل ذريعة عن الشرك وإن بَعُدَت.



1سبق (ص 29).


ج / 2 ص -231-

يستفاد من الحديث:
1- أن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ يقتضي مساواته للخالق شرك، فإن كان يعتقد المساواة; فهو شرك أكبر، وإن كان يعتقد أنه دون ذلك; فهو أصغر، وإذا كان هذا شركا; فكيف بمن يجعل حق الخالق للرسول صلى الله عليه وسلم؟! هذا أعظم; لأنه صلى الله عليه وسلم ليس له شيء من خصائص الربوبية، بل يلبس الدرع، ويحمل السلاح، ويجوع، ويتألم، ويمرض، ويعطش كبقية الناس، ولكن الله فضَّله على البشر بما أوحي إليه من هذا الشرع العظيم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: من الآية110] فهو بشر، وأكد هذه البشرية بقوله: (مثلكم)، ثم جاء التمييز بينه وبين بقية البشر بقوله تعالى: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: من الآية110]، ولا شك أن الله أعطاه من الأخلاق الفاضلة التي بها الكمالات من كل وجه؛ أعطاه من الصبر العظيم، وأعطاه من الكرم ومن الجود، لكنها كلها في حدود البشرية، أما أن تصل إلى خصائص الربوبية; فهذا أمر لا يمكن، ومن ادعى ذلك; فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وكفر بمن أرسله.


فالمهم أننا لا نغلو في الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فننزله في منزلة هو ينكرها، ولا نهضم حقه الذي يجب علينا؛ فنعطيه ما يجب له، ونسأل الله أن يعيننا على القيام بحقه، ولكننا لا ننزله منزلة الرب عز وجل.
2- إنكار المنكر، وإن كان في أمر يتعلق بالمنكِر; لقوله صلى الله عليه وسلم: "أجعلتني لله ندا"؟!، مع أنه فعل ذلك تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا إذا انحنى لك شخص عند السلام; فالواجب عليك الإنكار.


3- أن من حسن الدعوة إلى الله عز وجل ؛ أن تذكر ما يباح إذا


ج / 2 ص -232- ولابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة لأمها; قال: "رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود; قلت: إنكم لأنتم القوم؛ لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله. قالوا: وأنتم لأنتم القوم؛ لولا أنكم تقولون: ما شاء الله، وشاء محمد. ثم مررت بنفر من النصارى، فقلت: إنكم لأنتم القوم؛ لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله.


ذكرت ما يحرم; لأنه صلى الله عليه وسلم لما منعه من قوله: "ما شاء الله وشئت" أرشده إلى الجائز، وهو قوله: "بل ما شاء الله وحده".
قوله في حديث الطفيل: "رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود": أي: رؤيا في المنام.
وقوله: "كأن": اسمها الياء، وجملة "أتيت" خبرها.
وقوله: "على نفر": من الثلاثة إلى التسعة، واليهود أتباع موسى.
قوله: "لأنتم القوم": كلمة مدح; كقولك: هؤلاء هم الرجال.
وقوله: "عزير هو": رجل صالح، ادعى اليهود أنه ابن الله، وهذا من كذبهم، وهو كفر صريح، واليهود لهم مثالب كثيرة، لكن خُصَّت هذه; لأنها من أعظمها، وأشهرها عندهم.


قوله: "ما شاء الله، وشاء محمد": هذا شرك أصغر; لأن الصحابة الذين قالوا هذا ولا شك أنهم لا يعتقدون أن مشيئة الرسول صلى الله عليه وسلم مساوية لمشيئة الله، فانتقدوا عليهم تسوية مشيئة الرسول صلى الله عليه وسلم بمشيئة الله عز وجل باللفظ، مع عظم ما قاله هؤلاء اليهود في حق الله - جل وعلا -.
قوله: "تقولون: المسيح ابن الله": هو عيسى ابن مريم، وسمي


ج / 2 ص -233- قالوا: وإنكم لأنتم القوم؛ لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت; أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته; قال: هل أخبرت بها أحدا؟. قلت: نعم".



مسيحا بمعنى ماسح; فهو فعيل بمعنى فاعل; لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ بإذن الله; كالأكمه والأبرص.
والشيطان لعب بالنصارى، فقالوا: هو ابن الله; لأنه أتى بدون أب، كما في القرآن: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء: من الآية91]، قالوا: هو جزء من الله; لأن الله أضافه إليه، والجزء هو الابن.


والروح على الراجح عند أهل السنة: ذات لطيفة تدخل الجسم، وتحل فيه كما يحل الماء في الطين اليابس، ولهذا يقبضها المَلَك عند الموت وتُكَفَّن ويصعد بها، ويراها الإنسان عند موته; فالصحيح أنها ذات، وإن كان بعض الناس يقول: إنها صفة، ولكنه ليس كذلك، والحياة صحيح أنها صفة لكن الروح ذات، إذًا نقول لهؤلاء النصارى: إن الله أضاف روح عيسى إليه، كما أضاف البيت والمساجد والناقة إليه وما أشبه ذلك على سبيل التشريف والتعظيم، ولا شك أن المضاف إلى الله يكتسب شرفا وعظمة،

حتى إن بعض الشعراء يقول في معشوقته:

لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
قوله: "فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت": المقصود بهذه العبارة الإبهام; كقوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: من الآية78]، والإبهام قد يكون للتعظيم كما في الآية المذكورة، وقد يكون للتحقير حسب السياق، وقد يراد به معنى آخر.
قوله: " هل أخبرت بها أحدا ؟": سأل النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال; لأنه


ج / 2 ص -234- قال: فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد; فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة يمنعني كذا وكذا


لو قال: لم أخبر أحدا; فالمتوقع أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيقول له: لا تخبر أحدا، هذا هو الظاهر، ثم يبين له الحكم عليه الصلاة والسلام، لكن لما قال: إنه أخبر بها; صار لا بد من بيانها للناس عموما; لأن الشيء إذا انتشر يجب أن يعلن عنه، بخلاف ما إذا كان خاصا; فهذا يخبر به من وصله الخبر.
قوله: "فحمد الله": الحمد: وصف المحمود بالكمال، مع المحبة والتعظيم.
قوله: "وأثنى عليه": أي: كرر ذلك الوصف.
قوله: "أما بعد": سبق أنها بمعنى مهما يكن من شيء بعد; أي: بعد ما ذكرت; فكذا وكذا.


قوله: "يمنعني كذا وكذا": أي: يمنعه الحياء كما في رواية أخرى، ولكن ليس الحياء من إنكار الباطل، ولكن من أن ينهى عنها، دون أن يأمره الله بذلك، هذا الذي يجب أن تحمل عليه هذه اللفظة إن كانت محفوظة: أن الحياء الذي يمنعه ليس الحياء من الإنكار; لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستحي من الحق، ولكن الحياء من أن ينكر شيئا قد درج على الألسنة وألفه الناس قبل أن يؤمر بالإنكار، مثل الخمر بقي الناس يشربونها حتى حُرِّمت في سورة المائدة; فالرسول صلى الله عليه وسلم لما لم يؤمر بالنهي عنها سكت، ولما حصل التنبيه على ذلك بإنكار هؤلاء اليهود والنصارى؛ رأى صلى الله عليه وسلم أنه لا بد من إنكارها؛ لدخول اللوم على المسلمين بالنطق بها.


ج / 2 ص -235- أن أنهاكم عنها; فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده"1.


فيه مسائل:

الأولى: معرفة اليهود بالشرك الأصغر.
الثانية: فهم الإنسان إذا كان له هوى.
قوله: "قولوا ما شاء الله وحده" نهاهم عن الممنوع، وبيَّن لهم الجائز.


فيه مسائل:

الأولى: معرفة اليهود بالشرك الأصغر: لقوله: "إنكم لتشركون".
الثانية: فهم الإنسان إذا كان له هوى: أي: إذا كان له هوى فهم



1أخرجه: ابن ماجه في (الكفارات, باب النهي أن يقال: ما شاء الله وشئت), (1/685). وقال البوصيري: "رجال الإسناد ثقات على شرط البخاري". وهو عند ابن ماجه من طريق أبي عوانة اليشكري, وقد تابعه شعبة عند الدارمي, (2/295), والخطيب في "الموضِّح" (1/303), وحماد بن سلمة عند أحمد (5/ 72), والطبراني في "الكبير" (8214), والمزي في "تهذيب الكمال" (2/ 626, 627), وزيد بن أبي أنيسة عند الطبراني في "الكبير" (8215). وخالف سفيان بن عيينة; فأخرجه أحمد (5/393), وابن ماجه (1/685) من طريقه; عن حذيفة بن اليمان. وكذا معمر بن راشد; فأخرجه الطحاوي في "المشكل" (1/ 90) من طريقه عن جابر بن سمرة رضي الله عنهم، وقد رجح الحافظ أن الحديث من رواية الطفيل. انظر: "فتح الباري" (11/ 540).


ج / 2 ص -236- الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم "أجعلتني لله ندا" ؟!; فكيف بمن قال: " ما لي من ألوذ به سواك..."، والبيتين بعده؟


شيئا، وإن كان هو يرتكب مثله أو أشد منه; فاليهود - مثلا - أنكروا على المسلمين قولهم: "ما شاء الله وشئت"، وهم يقولون أعظم من هذا، يقولون: عزير ابن الله، ويصفون الله تعالى بالنقائص والعيوب.
ومن ذلك بعض المقلدين يفهم النصوص على ما يوافق هواه; فتجده يحمل النصوص من الدلالات ما لا تحتمل، كذلك أيضا بعض العصريين يحملون النصوص ما لا تحتمله حتى توافق ما اكتشفه العلم الحديث في الطب والفلك وغير ذلك، كل هذا من الأمور التي لا يحمد الإنسان عليها; فالإنسان يجب أن يفهم النصوص على ما هي عليه، ثم يكون فهمه تابعا لها، لا أن يُخضع النصوص لفهمه أو لما يعتقده، ولهذا يقولون: استدل ثم اعتقد، ولا تعتقد ثم تستدل; لأنك إذا اعتقدت ثم استدللت ربما يحملك اعتقادك على أن تحرف النصوص إلى ما تعتقده كما هو ظاهر في جميع الملل والمذاهب المخالفة لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، تجدهم يحرفون هذه النصوص لتوافق ما هم عليه، والحاصل أن الإنسان إذا كان له هوى; فإنه يحمل النصوص ما لا تحتمله من أجل أن توافق هواه.
الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم "أجعلتني لله ندا" ؟!: هو قوله: "ما شاء الله وشئت"1.


وقوله: "فكيف بمن قال: ما لي من ألوذ به سواك والبيتين بعده..." يشير رحمه الله إلى أبيات للبوصيري في البردة - القصيدة المشهورة -، يقول فيها:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم


1 النسائي: الأيمان والنذور (3773) , وأحمد (6/371).

ج / 2 ص -237- الرابعة: أن هذا ليس من الشرك الأكبر، لقوله: " يمنعني كذا وكذا".
الخامسة: أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي.


إن لم تكن في معاوي آخذا بيدي فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
غاية الكفر والغلو; فلم يجعل لله شيئا، والنبي صلى الله عليه وسلم شرفه بكونه عبد الله ورسوله، لا لمجرد كونه محمد بن عبد الله.
الرابعة: أن هذا ليس من الشرك الأكبر: لقوله: "يمنعني كذا وكذا"; لأنه لو كان من الشرك الأكبر ما منعه شيء من إنكاره.


الخامسة: أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي: تؤخذ من حديث الطفيل، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة"1 وهذا موافق للواقع بالنسبة للوحي الذي أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن أول الوحي كان بالرؤيا الصالحة من ربيع الأول إلى رمضان، وهذا ستة أشهر، فإذا نسبت هذا إلى بقية زمن الوحي، كان جزءا من ستة وأربعين جزءا; لأن الوحي; كان ثلاثا وعشرين سنة وستة أشهر مقدمة له.
والرؤيا الصالحة: هي التي تتضمن الصلاح، وتأتي منظمة، وليست بأضغاث أحلام.
أما أضغاث الأحلام; فإنها مشوشة غير منظمة، وذلك مثل التي قصها رجل على النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني رأيت رأسي قد قطع، وإني جعلت



1أخرجه: البخاري في (التعبير, باب القيد في المنام, 4/ 303), ومسلم في (الرؤيا, 4/ 1373); من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -238- السادسة: أنها قد تكون سببا لشرع بعض الأحكام.


أشتد وراءه سعيا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحدث الناس بتلاعب الشيطان بك في منامك"1، والغالب أن المرائي المكروهة من الشيطان، قال الله تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [المجادلة: من الآية 10]، ولذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم لمن رأى ما يكره أن يتفل عن يساره، أو ينفث ثلاث مرات، وأن يقول: "أعوذ بالله من شر الشيطان ومن شر ما رأيت. وأن يتحول إلى الجانب الآخر، وأن لا يخبر أحدا"2 وفي رواية: أمره أن يتوضأ، وأن يصلي.3


السادسة: أنها قد تكون سببا لشرع بعض الأحكام: من ذلك رؤيا إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه يذبح ابنه، وهذا الحديث، وكذلك أثبت النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا عبد الله بن زيد في الأذان، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها رؤيا حق"4 وأبو بكر رضي الله عنه أثبت رؤيا من رأى ثابت بن قيس بن



1أخرجه: مسلم في (الرؤيا, باب لا يخبر بتلعب الشيطان به في المنام), (4/1776) من حديث جابر رضي الله عنه.
2حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, وفيه: "... وإذا رأى غير ذلك مما يكره; فإنما هي من الشيطان, ولا يذكرها لأحد; فإنها لا تضره", أخرجه: البخاري في (التعبير, باب الرؤيا من الله), (4/296). وحديث جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم; قال: إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها; فليبصق عن يساره ثلاثا, وليستعذ من الشيطان ثلاثا, وليتحول عن جنبه الذي كان عليه , أخرجه: مسلم (4/ 1773).


3حديث أبي هريرة رضي الله عنه, وفيه: "... فمن رأى شيئا يكرهه; فلا يقصه على أحد, وليقم فليصل", أخرجه: البخاري في (التعبير, باب القيد في المنام), (4/303).
4أخرجه: أحمد (4/ 43), وأبو داود في (الصلاة, باب كيف الأذان), (1/337), والترمذي أخرج آخره دون صفة الأذان (1/ 236)- وقال: "حسن صحيح", وابن ماجه في (الأذان, باب بدء الأذان). وقال النووي في "المجموع" (3/76): "رواه أبو داود بإسناد صحيح, وروى الترمذي بعضه بطريق أبي داود".


ج / 2 ص -239-


شماس; فقال للذي رآه: إنكم ستجدون درعي تحت بُرْمَة، وعندها فرس يستن، فلما أصبح الرجل ذهب إلى خالد بن الوليد وأخبره، فذهبوا إلى المكان ورأوا الدرع تحت البرمة عندها الفرس1، فنفذ أبو بكر وصيته; لوجود القرائن التي تدل على صدقها، لكن لو دلت على ما يخالف الشريعة; فلا عبرة بها، ولا يلتفت إليها; لأنها ليست رؤيا صالحة.



1أورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/321), وقال: "رواه الطبراني, ورجاله رجال الصحيح".




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




رد مع اقتباس
  #47  
قديم 02-02-2015, 12:41AM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: من سب الدهر فقد آذى الله

ج / 2 ص -240- باب: من سب الدهر فقد آذى الله

السب: الشتم، والتقبيح، والذم، وما أشبه ذلك.
الدهر: هو الزمان والوقت.


وسب الدهر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يقصد الخبر المحض دون اللوم; فهذا جائز، مثل أن يقول: تعبنا من شدة حر هذا اليوم أو برده، وما أشبه ذلك; لأن الأعمال بالنيات، ومثل هذا اللفظ صالح لمجرد الخبر، ومنه قول لوط عليه الصلاة والسلام: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: من الآية77].


الثاني: أن يسب الدهر على أنه هو الفاعل، كأن يعتقد بسبه الدهر أن الدهر هو الذي يقلب الأمور إلى الخير والشر، فهذا شرك أكبر لأنه اعتقد أن مع الله خالقا; لأنه نسب الحوادث إلى غير الله، وكل من اعتقد أن مع الله خالقا; فهو كافر، كما أن من اعتقد أن مع الله إلها يستحق أن يعبد; فإنه كافر.


الثالث: أن يسب الدهر لا لاعتقاده أنه هو الفاعل، بل يعتقد أن الله هو الفاعل، لكن يسبه لأنه محل لهذا الأمر المكروه عنده; فهذا محرم، ولا يصل إلى درجة الشرك، وهو من السفه في العقل والضلال في الدين; لأن حقيقة سبه تعود إلى الله - سبحانه -; لأن الله تعالى هو الذي يصرف الدهر، ويُكَوِّن فيه ما أراد من خير أو شر، فليس الدهر فاعلا، وليس هذا السب يُكَفِّر; لأنه لم يسب الله تعالى مباشرة.


ج / 2 ص -241- وقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: من الآية24] الآية.


قوله: " فقد آذى الله": لا يلزم من الأذية الضرر; فالإنسان يتأذى بسماع القبيح أو مشاهدته، ولكنه لا يتضرر بذلك، ويتأذى بالرائحة الكريهة كالبصل والثوم ولا يتضرر بذلك، ولهذا أثبت الله الأذية في القرآن، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} [الأحزاب:57]. وفي الحديث القدسي: "يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار" 1 ونفى عن نفسه أن يضره شيء، قال تعالى: {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} [آل عمران: من الآية176]، وفي الحديث القدسي: "يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني" رواه مسلم2.
قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [الجاثية: من الآية24] المراد بذلك المشركون الموافقون للدُّهرية - بضم الدال على الصحيح عند النسبة; لأنه مما تُغيَّر فيه الحركة-، والمعنى: وما الحياة والوجود إلا هذا; فليس هناك آخرة، بل يموت بعض ويحيا آخرون، هذا يموت فيدفن وهذا يولد فيحيا، ويقولون: إنها أرحام تدفع، وأرض تبلع، ولا شيء سوى هذا.
قوله: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: من الآية24] أي: ليس هلاكنا بأمر الله وقدره، بل بطول السنين لمن طالت مدته، والأمراض، والهموم، والغموم، لمن قصرت مدته; فالمهلك لهم هو الدهر.



1سيأتي (ص 247).
2أخرجه: مسلم في (البر والصلة, باب تحريم الظلم), (4/1994) من حديث أبي ذر جندب بن جنادة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -242-


قوله: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الجاثية: من الآية24] "ما": نافية، و"علم": مبتدأ خبره مقدم "لهم"، وأكد ب"من" فيكون للعموم: أي ما لهم علم لا قليل ولا كثير، بل العلم واليقين بخلاف قولهم.
قوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: من الآية24] "إن": هنا نافية لوقوع "إلا" بعدها; أي: ما هم إلا يظنون.
الظن هنا بمعنى الوهم; فليس ظنهم مبنيا على دليل يجعل الشيء مظنونا، بل هو مجرد وهم لا حقيقة له; فلا حجة لهم إطلاقا، وفي هذا دليل على أن الظن يستعمل بمعنى الوهم، وأيضا يستعمل بمعنى العلم واليقين; كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: من الآية46].


والرد على قولهم بما يلي:-
أولا: قولهم: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [الجاثية: من الآية24] وهذا يرده المنقول والمعقول:
أما المنقول; فالكتاب والسنة تدل على ثبوت الآخرة، ووجوب الإيمان باليوم الآخر، وأن للعباد حياة أخرى سوى هذه الحياة الدنيا، والكتب السماوية الأخرى تقرر ذلك وتؤكده.
وأما المعقول; فإن الله فرض على الناس الإسلام والدعوة إليه، والجهاد لإعلاء كلمة الله، مع ما في ذلك من استباحة الدماء والأموال والنساء والذرية، فمن غير المعقول أن يكون الناس بعد ذلك ترابا لا بعث ولا حياة ولا ثواب ولا عقاب، وحكمة الله تأبى هذا، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: من الآية85]; أي: الذي أنزل عليك القرآن، وفرض العمل به والدعوة إليه، لا بد أن يردك إلى معاد؛ تجازى فيه، ويجازى فيه كل من بلغته الدعوة.
ثانيا: قولهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: من الآية24] أي: إلا مرور الزمن.


ج / 2 ص -243- وفي " الصحيح " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى:....


وهذا يرده المنقول والمحسوس:
فأما المنقول; فالكتاب والسنة تدل على أن الإحياء والإماتة بيد الله عز وجل، كما قال الله تعالى: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يونس:56]، وقال عن عيسى عليه الصلاة والسلام: {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: من الآية49].
وأما المحسوس; فإننا نعلم من يبقى سنين طويلة على قيد الحياة; كنوح عليه السلام وغيره، ولم يهلكه الدهر، ونشاهد أطفالا يموتون في الشهر الأول من ولادتهم، وشبابا يموتون في قوة شبابهم; فليس الدهر هو الذي يميتهم.

مناسبة الآية للباب

أن في الآية نسبة الحوادث إلى الدهر، ومن نسبها إلى الدهر; فسوف يسب الدهر إذا وقع فيه ما يكرهه.
قوله: "وفي "الصحيح" عن أبي هريرة... إلى آخره": هذا الحديث يسمى الحديث القدسي، أو الإلهي، أو الرباني، وهو كل ما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل، وسبق الكلام عليه في باب فضل التوحيد، وما يكفر من الذنوب (1/80).
قوله: "قال الله تعالى": تعالى مشتق من العلو، وجاءت بهذه الصيغة؛ للدلالة على ترفعه - جل وعلا - عن كل نقص وسفل; فهو متعال


ج / 2 ص -244- يؤذيني ابن آدم"،....

ــ
بذاته وصفاته، وهي أبلغ من كلمة علا; لأنها تحمل معنى الترفع والتنزه عما يقوله المعتدون علوا كبيرا.
قوله: "يؤذيني ابن آدم": أي: يلحق بي الأذى; فالأذية لله ثابتة ويجب علينا إثباتها; لأن الله أثبتها لنفسه، فلسنا أعلم من الله بالله، ولكنها ليست كأذية المخلوق; بدليل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: من الآية11]، وقدم النفي في هذه الآية على الإثبات؛ لأجل أن يرد الإثبات على قلب خال من توهم المماثلة، ويكون الإثبات حينئذ على الوجه اللائق به تعالى، وأنه لا يماثل في صفاته كما لا يماثل في ذاته، وكل ما وصف الله به نفسه; فليس فيه احتمال للتمثيل; إذ لو كان احتمال التمثيل جائزا في كلامه سبحانه، وكلام رسوله فيما وصف به نفسه; لكان احتمال الكفر جائزا في كلامه سبحانه، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.


قوله: "ابن آدم": شامل للذكور والإناث، وآدم هو أبو البشر، خلقه الله تعالى من طين وسواه ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة وعلمه الأسماء كلها.
واعلم أنه من المؤسف أنه يوجد فكرة مضلة كافرة، وهي أن الآدميين نشأوا من قرد لا من طين، ثم تطور الأمر بهم حتى صاروا على هذا الوصف، ويمكن على مر السنين أن يتطوروا حتى يصيروا ملائكة، وهذا القول لا شك أنه كفر، وتكذيب صريح للقرآن; فيجب علينا أن ننكره إنكارا بالغا، وأن لا نقره في كتب المدارس، فمن زعم هذه الفكرة يقال له: بل أنت قرد في صورة إنسان،


ومثلك كما قال الشاعر:

إذا ما ذكرنا آدما وفعاله وتزويجه بنتيه بابنيه في الخنا
علمنا بأن الخلق من نسل فاجر وأن جميع الناس من عنصر الزنا

ج / 2 ص -245- يسب الدهر، وأنا الدهر؛...


وأجابه بعض العلماء بجواب; فقال: أنت الآن أقررت أنك ولد زنا، وإقرارك على نفسك مقبول، وعلى غيرك غير مقبول، ومثلك كما قال الشاعر:

كذلك إقرار الفتى لازم له وفي غيره لغو كما جاء شرعن
ولكن أنا في الحقيقة يؤلمني أن يوجد هذا بين أيدي شبابنا; فبعض الناس أخذوا به على أنه أمر محتمل، والواقع أنه لا يحتمل سوى البطلان والكذب، والدس على المسلمين بالتشكيك بما أخبرهم الله به عن خلق آدم وبنيه.
وأيضا مما يحذر عنه كلمة (فكر إسلامي); إذ معنى هذا أننا جعلنا الإسلام عبارة عن أفكار قابلة للأخذ والرد، وهذا خطر عظيم، أدخله علينا أعداء الإسلام من حيث لا نشعر، والإسلام شرع من عند الله وليس فكرا لمخلوق.
قوله: "يسب الدهر": الجملة تعليل للأذية، أو تفسير لها، أي: بكونه يسب الدهر، أي: يشتمه ويقبحه ويلومه وربما يلعنه - والعياذ بالله - يؤذي الله، والدهر: هو الزمن والوقت، وقد سبق بيان أقسام سب الدهر.


قوله: "وأنا الدهر": أي: مدبر الدهر ومصرفه، لقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: من الآية140]، ولقوله في الحديث: "أقلب الليل والنهار"، والليل والنهار هما الدهر. ولا يقال بأن الله هو الدهر نفسه، ومن قال ذلك; فقد جعل الخالق مخلوقا، والمقلِّب (بكسر اللام) مقلَّبا (بفتح اللام).
فإن قيل: أليس المجاز ممنوعا في كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي اللغة؟


ج / 2 ص -246-


أجيب: إن الكلمة حقيقة في معناها الذي دل عليه السياق والقرائن، وهنا في الكلام محذوف تقديره: وأنا مقلب الدهر; لأنه فسره بقوله: "أقلب الليل والنهار"، والليل والنهار هما الدهر، ولأن العقل لا يمكن أن يجعل الخالق الفاعل هو المخلوق المفعول، المقلب هو المقلب، وبهذا عرف خطأ من قال: إن الدهر من أسماء الله، كابن حزم رحمه الله; فإنه قال: " إن الدهر من أسماء الله"، وهذا غفلة عن مدلول هذا الحديث، وغفلة عن الأصل في أسماء الله.


فأما مدلول الحديث; فإن السابين للدهر لم يريدوا سب الله، وإنما أرادوا سب الزمن; فالدهر هو الزمن في مرادهم.
وأما الأصل في أسماء الله; فالأصل في أسماء الله أن تكون حسنى; أي: بالغة في الحسن أكمله، فلا بد أن تشتمل على وصف ومعنى، هو أحسن ما يكون من الأوصاف والمعاني في دلالة هذه الكلمة، ولهذا لا تجد في أسماء الله تعالى اسما جامدا أبدا; لأن الاسم الجامد ليس فيه معنى أحسن أو غير أحسن، لكن أسماء الله كلها حسنى; فيلزم من ذلك أن تكون دالة على معان.
والدهر اسم من أسماء الزمن ليس فيه معنى إلا أنه اسم زمن، وعلى هذا;


فينتفي أن يكون اسما لله تعالى لوجهين:
الأول: أن سياق الحديث يأباه غاية الإباء.
الثاني: أن أسماء الله حسنى، والدهر اسم جامد، لا يحمل معنى إلا أنه اسم للأوقات، فلا يحمل المعنى الذي يوصف بأنه أحسن، وحينئذ فليس من أسماء الله تعالى، بل إنه الزمن، ولكن مقلب الزمن هو الله، ولهذا قال: "أقلب الليل والنهار".


ج / 2 ص -247- أقلب الليل والنهار"1.
وفي رواية: "لا تسبوا الدهر; فإن الله هو الدهر"2.

قوله: "أقلب الليل والنهار" أي: ذواتهما وما يحدث فيهما; فالليل والنهار يُقَلَّبان من طول إلى قصر إلى تساو، والحوادث تتقلب فيه في الساعة، وفي اليوم، وفي الأسبوع، وفي الشهر، وفي السنة، قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، وهذا أمر ظاهر، وهذا التقليب له حكمة قد تظهر لنا وقد لا تظهر; لأن حكمة الله أعظم من أن تحيط بها عقولنا، ومجرد ظهور سلطان الله عز وجل وتمام قدرته هو من حكمة الله لأجل أن يخشى الإنسان صاحب هذا السلطان والقدرة، فيتضرع ويلجأ إليه.


قوله: وفي رواية: "لا تسبوا الدهر; فإن الله هو الدهر"3 وفائدة هذه الرواية: أن فيها التصريح في النهي عن سب الدهر.
قوله: "فإن الله هو الدهر"4 وفي نسخة: "فإن الدهر هو الله"5، والصواب: "فإن الله هو الدهر".
وقوله: "فإن الله هو الدهر"6 أي: فإن الله هو مدبر الدهر ومصرفه، وهذا تعليل للنهي، ومن بلاغة كلام الله ورسوله قرن الحكم بالعلة؛ لبيان الحكمة وزيادة الطمأنينة، ولأجل أن تتعدى العلة إلى غيرها فيما إذا كان المعلل حكما; فهذه ثلاث فوائد في قرن العلة بالحكم.



1أخرجه: البخاري في (التفسير, تفسير سورة الجاثية), (3/291), ومسلم في (الأدب, باب النهي عن سب الدهر), (4/1762).
2أخرجها: مسلم في الموضع السابق (4/1763).
3 مسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246), وأحمد (2/395 ,2/491 ,2/496 ,2/499).
4 مسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأحمد (2/272 ,2/395 ,2/491 ,2/499) , ومالك: الجامع (1846).
5 البخاري: الأدب (6182) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246 ,2247) , وأحمد (2/259 ,2/272 ,2/275 ,2/318 ,2/394 ,2/395 ,2/491 ,2/499) , ومالك: الجامع (1846).
6 مسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأحمد (2/272 ,2/395 ,2/491 ,2/499) , ومالك: الجامع (1846).



ج / 2 ص -248- فيه مسائل:
الأولى.
النهي عن سب الدهر.
الثانية. تسميته أذى لله.
الثالثة. التأمل في قوله: "فإن الله هو الدهر".
الرابعة. أنه قد يكون سابا ولو لم يقصده بقلبه.


فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الدهر: لقوله: "لا تسبوا الدهر".
الثانية: تسميته أذى لله: تؤخذ من قوله: "يؤذيني ابن آدم".
الثالثة: التأمل في قوله: "فإن الله هو الدهر" فإذا تأملنا فيه؛ وجدنا أن معناه أن الله مقلب الدهر ومصرفه، وليس معناه أن الله هو الدهر، وقد سبق بيان ذلك.


الرابعة: أنه قد يكون سابا، ولو لم يقصده بقلبه: تؤخذ من قوله: "يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر" ولم يذكر قصدا، ولو عبر الشيخ بقوله: أنه قد يكون مؤذيا لله وإن لم يقصده; لكان أوضح وأصح; لأن الله صرح بقوله: "يسب الدهر"، والفعل لا يضاف إلا لمن قصده، وقد فات على الشيخ رحمه الله بعض المسائل، منها: تفسير آية الجاثية، وقد سبق ذلك.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979



رد مع اقتباس
  #48  
قديم 02-02-2015, 12:53AM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد
المجلد الثالث

باب: التسمي بقاضي القضاة ونحوه

ج / 2 ص -249- باب: التسمي بقاضي القضاة ونحوه


قوله: "باب التسمي بقاضي القضاة ": أي: وضع الشخص لنفسه هذا الاسم، أو رضاه به من غيره.
قوله: "قاضي القضاة": قاضي: بمعنى حاكم، والقضاة; أي: الحكام، و "أل" للعموم.
والمعنى: التسمي بحاكم الحُكَّام ونحوه، مثل ملك الأملاك، وسلطان السلاطين وما أشبه ذلك، مما يدل على النفوذ والسلطان; لأن القاضي جمع بين الإلزام والإفتاء، بخلاف المفتي; فهو لا يُلزِم، ولهذا قالوا: القاضي جمع بين الشهادة، والإلزام، والإفتاء; فهو يشهد أن هذا الحكم حكم الله، وأن الحق للمحكوم له على المحكوم عليه، ويفتي; أي: يخبر عن حكم الله وشرعه، ويُلزِم الخصمين بما حكم به.


مناسبة الباب لكتاب التوحيد

أن من تسمى بهذا الاسم; فقد جعل نفسه شريكا مع الله فيما لا يستحقه إلا الله; لأنه لا أحد يستحق أن يكون قاضي القضاة، أو حاكم الحكام، أو ملك الأملاك، إلا الله - سبحانه وتعالى-; فالله هو القاضي فوق كل قاض، وهو الذي له الحكم، ويُرجَع إليه الأمر كله، كما ذكر الله ذلك في القرآن.


ج / 2 ص -250-


وقد تقدم أن قضاء الله ينقسم إلى قسمين:
1- قضاء كوني.
2- قضاء شرعي. والقضاء الكوني لا بد من وقوعه، ويكون فيما أحب الله، وفيما كرهه، قال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء: من الآية 4]; فهذا قضاء كوني متعلق بما يكرهه الله; لأن الفساد في الأرض لا يحبه الله، والله لا يحب المفسدين، وهذا القضاء الكوني لا بد أن يقع ولا معارض له إطلاقا.


وأما النوع الثاني من القضاء، وهو القضاء الشرعي; فمثل قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23]، والقضاء الشرعي لا يلزم منه وقوع المقضي، فقد يقع وقد لا يقع، ولكنه يتعلق فيما يحبه الله، وقد سبق الكلام على ذلك.


فإن قلت: إذا أضفنا القضاة وحصرناها بطائفة معينة، أو ببلد معين، أو بزمان معين، مثل أن يقال: قاضي القضاة في الفقه، أو قاضي قضاة المملكة العربية السعودية، أو قاضي قضاة مصر، أو الشام، أو ما أشبه ذلك; فهل يجوز هذا؟
فالجواب: أن هذا جائز; لأنه مقيد، ومعلوم أن قضاء الله لا يتقيد، فحينئذ لا يكون فيه مشاركة لله عز وجل، على أنه لا ينبغي أيضا أن يتسمى الإنسان بذلك، أو يسمى به، وإن كان جائزا; لأن النفس قد تصعب السيطرة عليها، فيما إذا شعر الإنسان بأنه موصوف بقاضي قضاة الناحية الفلانية، فقد يأخذه الإعجاب بالنفس، والغرور، حتى لا يقبل الحق إذا


ج / 2 ص -251-


خالف قوله، وهذه مسألة عظيمة لها خطرها، إذا وصلت بالإنسان إلى الإعجاب بالرأي بحيث يرى أن رأيه مفروض على من سواه; فإن هذا خطر عظيم، فمع القول بأن ذلك جائز، لا ينبغي أن يقبله اسما لنفسه، أو وصفا له، ولا أن يتسمى به.
فإذا قُيِّد بزمان أو مكان ونحوهما; قلنا: إنه جائز، ولكن الأفضل ألا يفعل.
لكن إن قُيد بفن من الفنون; هل يكون جائزا؟
مقتضى التقييد أن يكون جائزا، لكن إن قُيِّد بالفقه، بأن قيل: (عالم العلماء في الفقه)، وقلنا: إن الفقه يشمل أصول الدين وفروعه على حد قول الرسول صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"1 صار فيه عموم واسع، ومعنى هذا أن مرجع الناس كلهم في الشرع إليه; فهذا في نفسي منه شيء، والأولى التنزه عنه.


وأما إن قُيد بقبيلة; فهو جائز، لكن يجب مع الجواز مراعاة جانب الموصوف؛ أن لا يغتر، ويعجب بنفسه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للمادح: "قطعت عنق صاحبك"2.
وأما التسمي ب (شيخ الإسلام)، مثل أن يقال: شيخ الإسلام ابن تيمية، أو شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، أي أنه الشيخ المطلق الذي يرجع إليه الإسلام; فهذا لا يصح; إذ إن أبا بكر رضي الله عنه أحق بهذا الوصف; لأنه أفضل الخلق بعد النبيين، ولكن إذا قصد بهذا الوصف أنه جدد في الإسلام، وحصل له أثر طيب في الدفاع عنه; فلا بأس بإطلاقه.


وأما بالنسبة للتسمي ب (الإمام); فهو أهون بكثير من التسمي ب (شيخ

1أخرجه: البخاري في (العلم, باب من يرد الله به خيرا), (1/42), ومسلم في (الزكاة, باب النهي عن المسألة), (2/718); من حديث معاوية رضي الله عنه.
2أخرجه: البخاري في (الأدب, باب ما يكره من التمادح), (4/102), ومسلم في (الزهد, باب النهي عن المدح), (4/2296); من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -252- في " الصحيح " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخنع اسم عند الله........


الإسلام); لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى إمام المسجد إماما، ولو لم يكن عنده إلا اثنان.
لكن ينبغي أن ينبه أنه لا يتسامح في إطلاق كلمة إمام، إلا على من كان قدوة وله أتباع; كالإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم ممن له أثر في الإسلام; لأن وصف الإنسان بما لا يستحق هضم للأمة; لأن الإنسان إذا تصور أن هذا إمام، وهذا إمام، هان الإمام الحق في عينه،


قال الشاعر:

ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
ومن ذلك أيضا: (آية الله، حجة الله، حجة الإسلام); فإنها ألقاب حادثة، لا تنبغي؛ لأنه لا حجة لله على عباده إلا الرسل.
وأما آية الله، فإن أريد به المعنى الأعم; فلا مدح فيه؛ لأن كل شيء آية لله، كما قيل:

وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
وإن أريد المعنى الأخص; أي: أن هذا الرجل آية خارقة; فهذا في الغالب يكون مبالغا فيه، والعبارة السليمة أن يقال: عالم، مفتٍ، قاضٍ، حاكم، إمام، لمن كان مستحقا لذلك.


قوله: "في الصحيح" انظر الكلام عليها فيما سبق: (1/157).
قوله: "إن أخنع اسم": أي: أوضع اسم، والمراد بالاسم المسمى، فأوضع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك ; لأنه جعل نفسه في مرتبة عليا، فالملوك أعلى طبقات البشر من حيث السلطة; فجعل مرتبته فوق


ج / 2 ص -253- رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله"1.


مرتبتهم، وهذا لا يكون إلا لله عز وجل، ولهذا عوقب بنقيض قصده; فصار أوضع اسم عند الله إذ قصده أن يتعاظم حتى على الملوك، فأهين، ولهذا كان أحب اسم عند الله ما دل على التذلل والخضوع، مثل: عبد الله، وعبد الرحمن، وأبغض اسم عند الله ما دل على الجبروت، والسلطة، والتعظيم.
قوله: "لا مالك إلا الله": أي: لا مالك على الحقيقة الملك المطلق إلا الله تعالى. وأيضا لا مَلِك إلا الله عز وجل ؛ ولهذا جاءت آية الفاتحة بقراءتين: "ملِكِ يوم الدين" و {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]; لكي يجمع بين الملك وتمام السلطان; فهو - سبحانه - ملك مالك، ملك ذو سلطة وعظمة وقول نافذ، ومالك متصرف مدبر لجميع مملكته.


فالله له الخلق والملك والتدبير; فلا خالق إلا الله، ولا مدبر إلا الله، ولا مالك إلا الله، قال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: من الآية3]; فالاستفهام بمعنى النفي، وقد أشرب معنى التحدي، أي إن وجدتموه فهاتوه، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [الحجر:86] فيها توكيد، وحصر، وهذا دليل انفراده بالخلق، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: من الآية73]; ف "الذين": اسم موصول يشمل كل من يُدعى من دون الله، {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً} [الحج: من الآية73] وهذا على سبيل المبالغة; وما كان على سبيل المبالغة; فلا مفهوم له كثرة أو قلة.



1أخرجه: البخاري في (الأدب, باب أبغض الأسماء إلى الله تعالى), (4/129), ومسلم في (الآداب,. باب تحريم التسمي بملك الأملاك), (3/1688).


ج / 2 ص -254- قال سفيان: " مثل شاهان شاه".
وفي رواية: "أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه"1.
قوله: " أخنع"، يعني: أوضع.


وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: من الآية1]، وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران: من الآية26]، وهذا دليل انفراده بالملك، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس: من الآية31]، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} (المؤمنون:88، 89).


قوله: "قال سفيان (هو ابن عيينة): مثل شاهان شاه": وهذا باللغة الفارسية; فشاهان: جمع بمعنى أملاك، وشاه مفرد بمعنى ملك، والتقدير أملاك ملك; أي: ملك الأملاك، لكنهم في اللغة الفارسية يقدمون المضاف إليه على المضاف.
قوله: وفي رواية: "أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه" أغيظ: من الغيظ وهو الغضب; أي: إن أغضب شيء عند الله عز وجل وأخبثه هو هذا الاسم، وإذا كان سببا لغضب الله وخبيثا; فإن التسمي به من الكبائر.
وقوله: "أغيظ": فيه إثبات الغيظ لله عز وجل، فهي صفة تليق بالله عز وجل، كغيرها من الصفات، والظاهر أنها أشد من الغضب.



1أخرجه: مسلم في (الآداب, باب تحريم التسمي بملك الأملاك), (3/1688).



ج / 2 ص -255- فيه مسائل:
الأولى: النهي عن التسمي بملك الأملاك
الثانية: أن ما في معناه مثله; كما قال سفيان
الثالثة: التفطن للتغليظ في هذا ونحوه، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه.


فيه مسائل:
الأولى: النهي عن التسمي بملك الأملاك: وتؤخذ من قول الرسول صلى الله عليه وسلم "إن أخنع اسم عند الله عز وجل رجل تسمى ملك الأملاك"1 والمؤلف يقول: النهي عن التسمي...، والنهي شرعا لا يستفاد من الصيغة المعينة المعروفة فحسب، بل إذا ورد الذم عليه، أو سب فاعله، أو ما أشبه ذلك; فإنه يفيد النهي، وصيغة النهي هي المضارع المقرون ب "لا" الناهية، مثل: لا تفعل، ولكن إذا كان هناك ذم، أو وعيد، أو ما أشبه ذلك; فهو متضمن للنهي وزيادة.


الثانية: أن ما في معناه مثله كما قال سفيان: والذي في معناه: قاضي القضاة، وحاكم الحكام، وشاهان شاه في الفارسية.
الثالثة: التفطن للتغليظ في هذا ونحوه، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه: أي: لم يقصد أنه ملك الأملاك أو قاضي القضاة; لعلمه أن هناك من هو أبلغ ملكا وأحكم قضاء. وإذا سمينا شخصا بقاضي القضاة، أو حاكم الحكام، وهو ليس كذلك، بل هو من أجهل القضاة، ومن أضعف الحكام; جمعنا بين أمرين: بين الكذب، والوقوع في اللفظ المنهي عنه، وأما إذا كان أعلم أهل زمانه، أو أعلم أهل مكانه، ويرجع القضاة إليه; فهذا وإن كان القول مطابقا للواقع لكنه منهي عنه، مع أن القلب لم يقصد معناه.



1 البخاري: الأدب (6206) , ومسلم: الآداب (2143) , والترمذي: الأدب (2837) , وأبو داود: الأدب (4961) , وأحمد (2/244).


ج / 2 ص -256- الرابعة: التفطن أن هذا لأجل الله سبحانه.


الرابعة: التفطن أن هذا لأجل الله - سبحانه -: يؤخذ من قوله: "لا مالك إلا الله"; فالرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى العلة، وهي: "لا مالك إلا الله"1 فكيف تقول: ملك الأملاك، ولا مالك إلا الله - عز وجل -؟!


الفرق بين ملك ومالك:
ليس كل ملك مالكا، وليس كل مالك ملكا; فقد يكون الإنسان ملكا، ولكنه لا يكون بيده التدبير، وقد يكون الإنسان مالكا، ويتصرف فيما يملكه فقط; فالملِكُ مَنْ ملك السلطة المطلقة، لكن قد يملك التصرف فيكون ملكا مالكا، وقد لا يملك فيكون ملكا وليس بمالك، أما المالك; فهو الذي له التصرف بشيء معين; كمالك البيت، ومالك السيارة، وما أشبه ذلك; فهذا ليس بملك; يعني: ليس له سلطة عامة.


ويستفاد من الحديث أيضا:

1- إثبات صفة الغيظ لله عز وجل، وأنه يتفاضل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أغيظ"، وهو اسم تفضيل.
2- حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في التعليم; لأنه لما بين أن هذا أخنع اسم، وأغيظه، أشار إلى العلة، وهو: "لا مالك إلا الله"، وهذا من أحسن التعليم والتعبير، ولهذا ينبغي لكل إنسان يعلم الناس؛ أن يقرن الأحكام بما تطمئن إليه النفوس من أدلة شرعية، أو علل مرعية، قال ابن القيم:

العلم معرفة الهدى بدليله ما ذاك والتقليد يستويان
فالعلم أن تربط الأحكام بأدلتها الأثرية، أو النظرية; فالأثرية ما كان من كتاب، أو سنة، أو إجماع، والنظرية: العقلية; أي: العلل المرعية التي يعتبرها الشرع.

1 مسلم: الآداب (2143) , وأحمد (2/315).





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





التعديل الأخير تم بواسطة ام عادل السلفية ; 02-02-2015 الساعة 03:14PM
رد مع اقتباس
  #49  
قديم 02-02-2015, 01:17AM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: احترام أسماء الله وتغيير الاسم لأجل ذلك

ج / 2 ص -257- باب: احترام أسماء الله وتغيير الاسم لأجل ذلك


باب احترام أسماء الله... إلخ
أسماء الله عز وجل هي: التي سمى بها نفسه، أو سماه بها رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد سبق لنا الكلام فيها في مباحث كثيرة، منها:
هل أسماء الله مترادفة أو متباينة؟
وقلنا: باعتبار دلالتها على الذات مترادفة; لأنها تدل على ذات واحدة، وهو الله عز وجل.


وباعتبار دلالتها على المعنى، والصفة التي تحملها متباينة، وإن كان بعضها قد يدل على ما تضمنه الآخر من باب دلالة اللزوم; فمثلا: (الخلّاق) يتضمن الدلالة على العلم المستفاد من اسم العليم، لكنه بالالتزام، وعلى القدرة المستفادة من اسم القدير، لكن بالالتزام.


الثاني: هل أسماء الله مشتقة أو جامدة (يعني: هل المراد بها الدلالة على الذات فقط، أو على الذات والصفة)؟
الجواب: على الذات والصفة، أما أسماؤنا نحن; فيراد بها الدلالة على الذات فقط، فقد يسمى محمدا وهو من أشد الناس ذما، وقد يسمى عبد الله وهو من أفجر عباد الله.


أما أسماء الله عز وجل، وأسماء الرسول صلى الله عليه وسلم وأسماء القرآن، وأسماء اليوم الآخر، وما أشبه ذلك; فإنها أسماء متضمنة للأوصاف.
الثالث: أسماء الله بعضها معلوم لنا، وبعضها غير معلوم، بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في دعاء الكرب: "أسألك اللهم بكل


ج / 2 ص -258-


اسم هو لك؛ سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي..."1 ومعلوم أن ما استأثر الله بعلمه لا يعلمه أحد.


الرابع: أسماء الله; هل هي محصورة بعدد معين؟
والجواب: غير محصورة، وقد سبق الكلام على ذلك، والجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم "إن لله تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة"23.
الخامس: أن هذه التسعة والتسعين غير معينة، بل موكولة لنا لنبحث حتى نحصل على التسعة والتسعين4، وهذا من حكمة إبهامها؛ لأجل البحث حتى نصل إلى هذه الغاية، ولهذا نظائر، منها: أن الله أخفى ليلة القدر، وساعة الإجابة يوم الجمعة، وساعة الإجابة في الليل; ليجتهد الناس في الطلب.
السادس: معنى إحصاء هذه التسعة والتسعين، الذي يترتب عليه دخول الجنة، ليس معنى ذلك أن تكتب في رقاع، ثم تكرر حتى تحفظ فقط،

ولكن معنى ذلك:
أولا: الإحاطة بها لفظا.
ثانيا: فهمها معنى؟
ثالثا: التعبد لله بمقتضاها.


ولذلك وجهان.
الوجه الأول: أن تدعو الله بها; لقوله تعالى: [وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى

1سبق (ص 186).
2 البخاري: الشروط (2736) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2677) , والترمذي: الدعوات (3508) , وابن ماجه: الدعاء (3860) , وأحمد (2/427, 2/499, 2/503 ,2/516).
3سبق (ص 186).
4وانظر تعيينها في: "القواعد المثلى" للشارح حفظه الله.


ج / 2 ص -259-


فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: من الآية180].بأن تجعلها وسيلة إلى مطلوبك، فتختار الاسم المناسب لمطلوبك، فعند سؤال المغفرة تقول: يا غفور! وليس من المناسب أن تقول: يا شديد العقاب! اغفر لي، بل هذا يشبه الاستهزاء، بل تقول: أجرني من عقابك.


الوجه الثاني: أن تتعرض في عبادتك لما تقتضيه هذه الأسماء; فمقتضى الرحيم الرحمة، فاعمل العمل الصالح الذي يكون جالبا لرحمة الله، ومقتضى الغفور المغفرة، إذن افعل ما يكون سببا في مغفرة ذنوبك.
هذا هو معنى إحصائها، فإذا كان كذلك; فهو جدير لأن يكون ثمنا لدخول الجنة، وهذا الثمن ليس على وجه المقابلة، ولكن على وجه السبب; لأن الأعمال الصالحة سبب لدخول الجنة وليست بدلا، ولهذا ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "لن يدخل الجنة أحد بعمله.


قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا; إلا أن يتغمدني الله برحمته"1.
فلا تغتر يا أخي بعملك، ولا تعجب فتقول: أنا عملت كذا وكذا، وسوف أدخل الجنة، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: من الآية17]، هذا باعتبار ما نراه نحن نحو أعمالنا; فيجب أن نرى لله المنة والفضل علينا، لكن باعتبار الجزاء، قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن:60]; فنؤمن بأن الله تعالى يجزي الإحسان بالإحسان.
السابع: أسماء الله عز وجل ودلالتها على الذات والصفة جميعا؛




1أخرجه: البخاري في (الرقاق, باب القصد والمداومة), (4/184), ومسلم في (المنافقين, باب لن يدخل أحد الجنة بعمله), (4/2169); من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -260-

دلالة مطابقة، ودلالتها على الذات وحدها، أو على الصفة وحدها؛ دلالة تضمُّن، ودلالتها على أمر خارج؛ دلالة التزام.
مثال ذلك: (الخلاق) دل على الذات، وهو الرب عز وجل وعلى الصفة وهي الخلق جميعا دلالة مطابقة، ودل على الذات وحدها أو على الصفة وحدها دلالة تضمن، ودل على القدرة والعلم دلالة التزام.


الثامن: أسماء الله عز وجل لا يتم الإيمان بها إلا بثلاثة أمور؛ إذا كان الاسم متعديا: الإيمان بالاسم اسما لله، والإيمان بما تضمنه من صفة، وما تضمنه من أثر وحكم; فالعليم مثلا لا يتم الإيمان به حتى نؤمن بأن العليم من أسماء الله، ونؤمن بما تضمنه من صفة العلم، ونؤمن بالحكم المرتب على ذلك، وهو أنه يعلم كل شيء، وإذا كان الاسم غير متعد; فنؤمن بأنه من أسماء الله، وبما يتضمنه من صفة.


التاسع: أن من أسماء الله ما يختص به; مثل الله، الرحمن، رب العالمين، وما أشبه ذلك، ومنها ما لا يختص به، مثل: الرحيم، السميع، العليم، قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2]، وقال تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: من الآية128].


قوله: "باب احترام أسماء الله": أي: وجوب احترام أسماء الله؛ لأن احترامها احترام لله عز وجل، ومن تعظيم الله عز وجل، فلا يسمى أحد باسم مختص بالله،

وأسماء الله تنقسم إلى قسمين:
الأول: ما لا يصح إلا لله; فهذا لا يسمى به غيره، وإن سمي وجب تغييره; مثل: الله، الرحمن، رب العالمين، وما أشبه ذلك.


ج / 2 ص -261- عن أبي شريح; أنه كان يكنى أبا الحكم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله هو الحكم، وإليه الحكم "..


الثاني: ما يصح أن يسمى به غير الله; مثل: الرحيم، والسميع، والبصير، فإن لوحظت الصفة منع من التسمي به، وإن لم تلاحظ الصفة جاز التسمي به على أنه علم محض.
قوله: "عن أبي شريح": هو هانئ بن يزيد الكندي، جاء وافدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه.


وقوله: "يكنى أبا الحكم": أي: ينادى به والكنية ما صدر بأب أو أم أو أخ أو عم أو خال، وتكون للمدح كما في هذا الحديث، وتكون للذم كأبي جهل، وتكون لمصاحبة الشيء وملازمته كأبي هريرة، وتكون لمجرد العلمية كأبي بكر رضي الله عنه، وأبي العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه ليس له ولد.


قوله: "إن الله هو الحكم وإليه الحكم" "هو الحكم"; أي: المستحق أن يكون حاكما على عباده، حاكما بالفعل، يدل له قوله: "وإليه الحكم".
وقوله: "وإليه الحكم": الخبر فيه جار ومجرور مقدم، وتقديم الخبر يفيد الحصر، وعلى هذا يكون الحكم راجعا إلى الله وحده.


وحكم الله ينقسم إلى قسمين:
الأول: كوني، وهذا لا راد له; فلا يستطيع أحد أن يرده، ومنه قوله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف: من الآية80].


ج / 2 ص -262- فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء; أتوني، فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين. فقال: ما أحسن هذا! فما لك من الولد؟ قلت: شريح، ومسلم، وعبد الله،.....


الثاني: شرعي، وينقسم الناس فيه إلى قسمين: مؤمن، وكافر; فمن رضيه وحكم به فهو مؤمن، ومن لم يرض به ولم يحكم به؛ فهو كافر، ومنه قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: من الآية10] وأما قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8] وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: من الآية50]; فهو يشمل الكوني والشرعي، وإن كان ظاهر الآية الثانية أن المراد الحكم الشرعي; لأنه في سياق الحكم الشرعي، والشرعي يكون تابعا للمحبة والرضا والكراهة والسخط، والكوني عام في كل شيء.


وفي الحديث دليل على أن من أسمائه تعالى: (الحكم).
وأما بالنسبة للعدل; فقد ورد عن بعض الصحابة أنه قال: "إن الله حكم عدل" ولا أعرف فيه حديثا مرفوعا، ولكن قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً} [المائدة: من الآية50]، لا شك أنه متضمن للعدل، بل هو متضمن للعدل وزيادة.


قوله: "فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني": هذا بيان لسبب تسميته بأبي الحكم.
قوله: "ما أحسن هذا": الإشارة تعود إلى إصلاحه بين قومه لا إلى تسميته بهذا الاسم; لأن النبي صلى الله عليه وسلم غيره.
قوله: "شريح، ومسلم، وعبد الله": الظاهر: أنه ليس له إلا الثلاثة; لأن الولد في اللغة العربية يشمل الذكر والأنثى، فلو كان عنده بنات لعدهن.


ج / 2 ص -263- قال: فمن أكبرهم؟. قلت: شريح. قال: فأنت أبو شريح" رواه أبو داود وغيره1.


فيه مسائل:

الأولى: احترام أسماء الله وصفاته، ولو لم يقصد معناه.

قوله: "فأنت أبو شريح": غيّره النبي صلى الله عليه وسلم

لأمرين:
الأول: أن الحكم هو الله، فإذا قيل: يا أبا الحكم! كأنه قيل: يا أبا الله!
الثاني: أن هذا الاسم، الذي جعل كنية لهذا الرجل، لوحظ فيه معنى الصفة وهي الحكم؛ فصار بذلك مطابقا لاسم الله، وليس لمجرد العلمية المحضة، بل للعلمية المتضمنة للمعنى، وبهذا يكون مشاركا لله - سبحانه وتعالى - في ذلك، ولهذا كناه النبي صلى الله عليه وسلم بما ينبغي أن يكنى به.


فيه مسائل:

الأولى: احترام أسماء الله وصفاته ولو لم يقصد معناه.
قوله: "ولو لم يقصد معناه": هذا في النفس منه شيء; لأنه إذا لم يقصد معناه; فهو جائز، إلا إذا سمي بما لا يصح إلا لله، مثل: الله،



1 أخرجه: البخاري في "التاريخ الكبير" (8/ 227) وفي "الأدب المفرد" (811), وأبو داود في (الأدب, باب في تغيير الاسم القبيح), (5/240), والنسائي في (القضاء, باب إذا حكموا رجلا فقضى بينهم), (8/226), والدولابي في "الكنى" (1/74), والبيهقي (10/145); عن يزيد بن مقدام بن شريح, عن أبيه شريح, عن أبيه هانئ أبي شريح الخزاعي. وأخرجه: ابن سعد (6/ 49), والحاكم (4/ 279), من طريق قيس بن الربيع. وفي توثيقه خلاف, والحديث صححه الألباني في "الإرواء" (8/ 237), وفي "تعليقه على المشكاة" (4766); وقال: "إسناده جيد".


ج / 2 ص -264- الثانية: تغيير الاسم لأجل ذلك.
الثالثة: اختيار أكبر الأبناء للكنية.


الرحمن، رب العالمين، وما أشبهه; فهذه لا تطلق إلا على الله مهما كان.
وأما ما لا يختص بالله; فإنه يسمى به غير الله إذا لم يلاحظ معنى الصفة، بل كان المقصود مجرد العلمية فقط؛ لأنه لا يكون مطابقا لاسم الله، ولذلك كان في الصحابة من اسمه "الحكم"1، ولم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لم يقصد إلا العلمية، وفي الصحابة من اسمه "حكيم"2 وأقره النبي صلى الله عليه وسلم.


فالذي يحترم من أسمائه تعالى ما يختص به، أو ما يقصد به ملاحظة الصفة.
الثانية: تغيير الاسم لأجل ذلك: وقد سبق الكلام عليه
الثالثة: اختيار أكبر الأبناء للكنية: تؤخذ من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم: "فمن أكبرهم؟ قال: شريح. قال: فأنت أبو شريح"3.
ولا يؤخذ من الحديث استحباب التكني; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يغير كنيته إلى كنية مباحة، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكني ابتداء.


ويستفاد من الحديث ما يلي:
1- أنه ينبغي لأهل الوعظ والإرشاد والنصح، إذا أغلقوا بابا محرما؛ أن يبينوا للناس المباح، وقد سبق تقرير ذلك.
2- أن الحكم لله وحده; لقوله صلى الله عليه وسلم "وإليه الحكم".
أما الكوني فلا نزاع فيه؛ إذ لا يعارض الله أحد في أحكامه الكونية.



1 كالحكم بن الحارث السلمي, والحكم بن سعيد بن العاص, والحكم بن عبد الله الثقفي, وغيرهم رضي الله عنهم. انظر: "الإصابة" (1/ 26- 32).
2 كحكيم بن حزام, وحكيم بن الحارث الطائفي, وحكيم بن طليق الأموي, وغيرهم رضي الله عنهم. انظر: "الإصابة" (1/ 32- 34).
3 النسائي: آداب القضاة (5387) , وأبو داود: الأدب (4955).


ج / 2 ص -265-


وأما الشرعي; فهو محك الفتنة والامتحان والاختبار، فمن شرّع للناس شرعا سوى شرع الله، ورأى أنه أحسن من شرع الله وأنفع للعباد، أو أنه مساو لشرع الله، أو أنه يجوز ترك شرع الله إليه; فإنه كافر لأنه جعل نفسه ندا لله عز وجل، سواء في العبادات، أو المعاملات، والدليل على ذلك قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]; فدلت الآية على أنه لا أحد أحسن من حكم الله، ولا مساو لحكم الله; لأن أحسن اسم تفضيل: معناه لا يوجد شيء في درجته، ومن زعم ذلك; فقد كذّب الله عز وجل. وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: من الآية44]، وهذا دليل على أنه لا يجوز العدول عن شرع الله إلى غيره، وأنه كفر.


فإن قيل: قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: من الآية47].
قلنا: قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:60، 61] وهذا دليل على كفرهم; لأنه قال: "يزعمون أنهم آمنوا"، وهذا إنكار لإيمانهم; فظاهر الآية أنهم يزعمون بلا صدق ولا حق.


فقوله صلى الله عليه وسلم "وإليه الحكم" يدل على أن من جعل الحكم لغير الله; فقد أشرك.
فائدة: يجب على طالب العلم أن يعرف الفرق بين التشريع الذي يجعل نظاما يمشي عليه، ويستبدل به القرآن، وبين أن يحكم في قضية معينة بغير


ج / 2 ص -266-


ما أنزل الله; فهذا قد يكون كفرا أو فسقا أو ظلما.
فيكون كفرا إذا اعتقد أنه أحسن من حكم الشرع أو مماثل له. ويكون فسقا إذا كان لهوى في نفس الحاكم.
ويكون ظلما إذا أراد مضرة المحكوم عليه، وظهور الظلم في هذه أبين من ظهوره في الثانية، وظهور الفسق في الثانية أبين من ظهوره في الثالثة.
3- تغيير الاسم إلى ما هو أحسن إذا تضمن أمرا لا ينبغي، كما غيّر النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأسماء المباحة، ولا يحتاج ذلك إلى إعادة العقيقة، كما يتوهمه بعض العامة.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





رد مع اقتباس
  #50  
قديم 02-02-2015, 02:22AM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول

ج / 2 ص -267- باب: من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول


هذه الترجمة فيها شيء من الغموض، والظاهر أن المراد من هزل بشيء فيه ذكر الله مثل الأحكام الشرعية، أو هزل بالقرآن، أو هزل بالرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون معطوفا على قوله بشيء.
والمراد بالرسول هنا: اسم الجنس، فيشمل جميع الرسل، وليس المراد محمدا صلى الله عليه وسلم; ف (أل) للجنس وليست للعهد.
قوله: "من هزل": سخر واستهزأ ورآه لعبا ليس جدا.


ومن هزل بالله، أو بآياته الكونية أو الشرعية، أو برسله، فهو كافر; لأن منافاة الاستهزاء للإيمان منافاة عظيمة.
كيف يسخر ويستهزئ بأمر يؤمن به؟! فالمؤمن بالشيء لا بد أن يعظمه، وأن يكون في قلبه من تعظيمه ما يليق به.
والكفر كفران: كفر إعراض، وكفر معارضة، والمستهزئ كافر كفر معارضة; فهو أعظم ممن يسجد لصنم فقط.
وهذه المسألة خطيرة جدا، ورب كلمة أوقعت بصاحبها البلاء، بل والهلاك وهو لا يشعر; فقد يتكلم الإنسان بالكلمة من سخط الله عز وجل، لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار.


فمن استهزأ بالصلاة - ولو نافلة -، أو بالزكاة، أو الصوم، أو الحج; فهو كافر بإجماع المسلمين، كذلك من استهزأ بالآيات الكونية، بأن قال مثلا: إن وجود الحر في أيام الشتاء سفه، أو قال: إن وجود البرد في أيام الصيف سفه; فهذا كفر مخرج عن الملة; لأن الرب عز وجل كل أفعاله مبنية على الحكمة، وقد لا نستطيع بلوغها، بل لا نستطيع بلوغها.


ج / 2 ص -268-


ثم اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن سب الله أو رسوله أو كتابه: هل تقبل توبته؟ على قولين:
القول الأول: أنها لا تقبل، وهو المشهور عند الحنابلة، بل يقتل كافرا، ولا يصلى عليه، ولا يدعى له بالرحمة، ويدفن في محل بعيد عن قبور المسلمين، ولو قال: إنه تاب أو إنه أخطأ; لأنهم يقولون: إن هذه الردة أمرها عظيم، وكبير، لا تنفع فيها التوبة.


وقال بعض أهل العلم: إنها تقبل؛ إذا علمنا صدق توبته إلى الله، وأقر على نفسه بالخطأ، ووصف الله تعالى بما يستحق من صفات التعظيم، وذلك لعموم الأدلة الدالة على قبول التوبة; كقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر: من الآية53]، ومن الكفار من يسبون الله، ومع ذلك تقبل توبتهم. وهذا هو الصحيح، إلا أن سابَّ الرسول صلى الله عليه وسلم تقبل توبته ويجب قتله، بخلاف من سب الله; فإنها تقبل توبته ولا يقتل، لا لأن حق الله دون حق الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لأن الله أخبرنا بعفوه عن حقه إذا تاب العبد إليه؛ بأنه يغفر الذنوب جميعا،


أما ساب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يتعلق به أمران:
الأول: أمر شرعي لكونه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هذا الوجه تقبل توبته إذا تاب.
الثاني: أمر شخصي؛ لكونه من المرسلين، ومن هذا الوجه يجب قتله لحقه صلى الله عليه وسلم، ويقتل بعد توبته على أنه مسلم، فإذا قتل; غسلناه، وكفناه، وصلينا عليه، ودفناه مع المسلمين. وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد ألف كتابا في ذلك اسمه: "الصارم المسلول في حكم قتل ساب الرسول"، أو:


ج / 2 ص -269- وقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: من الآية65] الآية.


"الصارم المسلول على شاتم الرسول"، وذلك لأنه استهان بحق الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذا لو قذفه; فإنه يقتل ولا يجلد.
فإن قيل: أليس قد ثبت أن من الناس من سب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقَبِل منه وأطلقه؟
أجيب: بلى، هذا صحيح، لكن هذا في حياته صلى الله عليه وسلم، وقد أسقط حقه، أما بعد موته; فلا ندري، فننفذ ما نراه واجبا في حق من سبه صلى الله عليه وسلم.


فإن قيل: احتمال كونه يعفو عنه أو لا يعفو موجبا للتوقف؟
أجيب: إنه لا يوجب التوقف; لأن المفسدة حصلت بالسب، وارتفاع أثر هذا السب غير معلوم، والأصل بقاؤه.
فإن قيل: أليس الغالب أن الرسول صلى الله عليه وسلم عفا عمَّن سبه؟
أجيب: بلى، وربما كان في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا عفا؛ قد تحصل المصلحة ويكون في ذلك تأليف، كما أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أعيان المنافقين ولم يقتلهم; لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، لكن الآن لو علمنا أحدا بعينه من المنافقين لقتلناه، قال ابن القيم: إن عدم قتل المنافق المعلوم إنما هو في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط.


قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} [التوبة: من الآية65] الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: سألت هؤلاء الذين يخوضون ويلعبون بالاستهزاء بالله وكتابه ورسوله والصحابة.


ج / 2 ص -270-


قوله: "ليقولن": جواب القسم، قال ابن مالك:

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أخرت فهو ملتزم1
ولهذا جاءت اللام التي تقترن بجواب القسم، دون الفاء التي تقع في جواب الشرط.
قوله: "ليقولن" ; أي: المسئولون.
قوله: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: من الآية65] أي: ما لنا قصد، ولكننا نخوض ونلعب، واللعب يقصد به الهزء، وأما الخوض; فهو كلام عائم لا زمام له. هذا إذا وصف بذلك القول، وأما إذا لم يوصف به القول; فإنه يكون الخوض في الكلام واللعب في الجوارح.


وقوله: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: من الآية65] "إنما": أداة حصر; أي: ما شأننا وحالنا إلا أننا نخوض ونلعب.
قوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: من الآية65] الاستفهام للإنكار والتعجب، فينكر عليهم أن يستهزئوا بهذه الأمور العظيمة، ويتعجب كيف يكون أحق الحق محلا للسخرية؟
قوله: "أبالله": أي: بذاته وصفاته.


قوله: "وآياته": جمع آية ويشمل: الآيات الشرعية; كالاستهزاء بالقرآن، بأن يقال: هذا أساطير الأولين -والعياذ بالله-، أو يستهزأ بشيء من الشرائع; كالصلاة والزكاة والصوم والحج.
والآيات الكونية; كأن يسخر بما قدّره الله تعالى، كيف يأتي هذا في



1 "ألفية ابن مالك" (ص 52).


ج / 2 ص -271-


هذا الوقت؟ كيف يخرج هذا الثمر من هذا الشيء؟ كيف يخلق هذا الذي يضر الناس ويقتلهم؟ استهزاء وسخرية.
قوله: "ورسوله": المراد هنا محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: "لا تعتذروا": المراد بالنهي التيئيس; أي: انههم عن الاعتذار تيئيسا لهم بقبول اعتذارهم.
قوله: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: من الآية66] أي: بالاستهزاء، وهم لم يكونوا منافقين خالصين، بل مؤمنين، ولكن إيمانهم ضعيف؛ ولهذا لم يمنعهم من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: من الآية66] "نعف": ضمير الجمع للتعظيم; أي: الله عز وجل.


وقوله: {عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} قال بعض أهل العلم: هؤلاء حضروا، وصار عندهم كراهية لهذا الشيء، لكنهم داهنوا؛ فصاروا في حكمهم لجلوسهم إليه، لكنهم أخف لما في قلوبهم من الكراهة، ولهذا عفا الله عنهم، وهداهم للإيمان، وتابوا.


قوله:" نُعَذِّبْ طَائِفَةً ": هذا جواب الشرط; أي: لا يمكن أن نعفو عن الجميع، بل إن عفونا عن طائفة; فلا بد أن نعذب الآخرين.
قوله:" بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ": الباء للسببية; أي: بسبب كونهم مجرمين بالاستهزاء، وعندهم جرم - والعياذ بالله -; فلا يمكن أن يوفقوا للتوبة حتى يُعفى عنهم.

ويستفاد من الآيتين:


ج / 2 ص -272-

1- بيان علم الله عز وجل بما سيكون; لقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ} [التوبة: من الآية65] وهذا مستقبل; فالله عالم ما كان وما سيكون، قال تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: من الآية123].
2- أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحكم بما أنزل الله إليه حيث أمره أن يقول: "أبالله وآياته".


3- أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله من أعظم الكفر; بدليل الاستفهام والتوبيخ.
4- أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله أعظم استهزاء وقبحا; لقوله: "أبالله وآياته..."، وتقديم المتعلق يدل على الحصر، كأنه ما بقي إلا أن تستهزئوا بهؤلاء الذين ليسوا محلا للاستهزاء، بل أحق الحق هؤلاء الثلاثة.
5- أن المستهزئ بالله يكفر; لقوله: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: من الآية66].


6- استعمال الغلظة في محلها، وإلا فالأصل أن من جاء يعتذر يرحم، لكنه هنا ليس أهلا للرحمة.
7- قبول توبة المستهزئ بالله ; لقوله: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ} وهذا أمر قد وقع، فإن من هؤلاء من عفي عنه، وهُدِيَ للإسلام، وتاب، وتاب الله عليه، وهذا دليل للقول الراجح؛ أن المستهزئ بالله تقبل توبته، لكن لا بد من دليل بيّن على صدق توبته; لأن كفره من أشد الكفر، أو هو أشد الكفر، فليس مثل كفر الإعراض أو الجحد.
وهؤلاء الذين حضروا السب مثل الذين سبوا، قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ


ج / 2 ص -273- عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة; دخل حديث بعضهم في بعض: "أنه قال رجل في غزوة تبوك:.......


عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء: من الآية140] وهم يستطيعون المفارقة، والنبي صلى الله عليه وسلم امتثل أمر الله بتبليغهم، حتى إن الرجل الذي جاء يعتذر صار يقول له: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: الآية65، 66]، ولا يزيد على هذا أبدا، مع إمكان أن يزيده توبيخا وتقريعا.
قوله: "عن ابن عمر": هو عبد الله.


وقوله: "ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة": والثلاثة تابعيون; فالرواية عن ابن عمر مرفوعة، وعن الثلاثة الآخرين مرسلة.
قوله: "دخل حديث بعضهم في بعض": أي: إن هذا الحديث مجموع من كلامهم، وهذا يفعله بعض أئمة الرواة كالزهري وغيره، فيحدثه جماعة بشأن قصة من القصص، كحديث الإفك مثلا، فيجمعون هذا ويجعلونه في حديث واحد، ويشيرون إلى هذا، فيقولون -مثلا-: دخل حديث بعضهم في بعض، أو يقول: حدثني بعضهم بكذا، وبعضهم بكذا، وما أشبه ذلك.
قوله: "في غزوة تبوك": تبوك في أطراف الشام، وكانت هذه الغزوة في رجب حين طابت الثمار، وكان مع الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة نحو ثلاثين ألفا، ولما خرجوا رجع عبد الله بن أبي بنحو نصف المعسكر، حتى قيل: إنه لا يدرى أي الجيشين أكثر: الذين رجعوا، أو الذين ذهبوا؟



ج / 2 ص -274- ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء; أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء (يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء)..........


مما يدل على وفرة النفاق في تلك السنة، وكانت في السنة التاسعة، وسببها أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما من الروم، ومن متنصرة العرب يجمعون له، فأراد أن يغزوهم صلى الله عليه وسلم ؛ إظهارا للقوة، وإيمانا بنصر الله عز وجل.
قوله: "ما رأينا": تحتمل أن تكون بصرية، وتحتمل أن تكون علمية قلبية.
قوله: "مثل قرائنا": المفعول الأول، والمراد بهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.


قوله: "أرغب بطونا": المفعول الثاني; أي: أوسع، وإنما كانت الرغبة هنا بمعنى السعة; لأنه كلما اتسع البطن رغب الإنسان في الأكل.
قوله: "ولا أكذب ألسنا": الكذب: هو الإخبار بخلاف الواقع، والألسن: جمع لسان، والمراد: ولا أكذب قولا، واللسان يطلق على القول كثيرا في اللغة العربية; كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: من الآية4]; أي: بلغتهم.


قوله: "ولا أجبن عند اللقاء": الجبن: هو خَوَر في النفس، يمنع المرء من الإقدام على ما يكره; فهو خلق نفسي ذميم، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه1؛ لما يحصل فيه من الإحجام عما ينبغي الإقدام إليه; فلهذا كان صفة ذميمة، وهذه الأوصاف تنطبق على المنافقين لا على المؤمنين، فالمؤمن يأكل بمعي واحد: ثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث




1 أخرجه: البخاري (في الجهاد, باب ما يتعوذ من الجبن), (2/312); من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.


ج / 2 ص -275- فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق; لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره".........


لنفسه، والكافر يأكل بسبعة أمعاء، والمؤمن أصدق الناس لسانا، ولاسيما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه; فإن الله وصفهم بالصدق في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8].
والمنافقون أكذب الناس; كما قال الله فيهم: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر: من الآية11]، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الكذب من علامات النفاق1، والمنافقون من أجبن الناس، قال تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: من الآية4]، فلو سمعوا أحدا ينشد ضالته; لقالوا: عدو، عدو، وهم أحب الناس للدنيا; إذ أصل نفاقهم من أجل الدنيا، ومن أجل أن تحمى دماؤهم وأموالهم وأعراضهم.


قوله: "كذبت": أي: أخبرت بخلاف الواقع، وفي ذلك دليل على تكذيب الكذب مهما كان الأمر، وأن السكوت عليه لا يجوز.
قوله: "ولكنك منافق": لأنه لا يطلق هذه الأوصاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رجل تسمى بالإسلام إلا منافق، وبهذا يعرف أن من يسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كافر; لأن الطعن فيهم طعن في الله ورسوله وشريعته.
فيكون طعنا في الله; لأنه طعن في حكمته، حيث اختار لأفضل خلقه أسوأ خلقه.


وطعنا في الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم أصحابه، والمرء على دين خليله، والإنسان يُستدل على صلاحه أو فساده أو سوء

ـــ

1 أخرجه: البخاري في (الإيمان, باب علامة المنافق), (1/27), ومسلم في (الإيمان, باب بيان خصال المنافق), (1/78); من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -276- فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق. قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الحجارة تنكب رجليه،........


أخلاقه، أو صلاحها بالقرين.
وطعنا في الشريعة: لأنهم الواسطة بيننا وبين الرسول صلى الله عليه وسلم في نقل الشريعة، وإذا كانوا بهذه المثابة; فلا يوثق بهذه الشريعة.
قوله: "فوجد القرآن قد سبقه": أي: بالوحي من الله تعالى، والله عليم بما يفعلون، وبما يريدون، وبما يبيتون، قال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: من الآية108].
قوله: "وقد ارتحل، وركب ناقته": الظاهر أن هذا من باب عطف التفسير; لأن ركوب الناقة هو الارتحال.


قوله: "كأني أنظر إليه": كأن إذا دخلت على مشتق; فهي للتوقع، وإذا دخلت على جامد; فهي للتشبيه، وهنا دخلت على جامد، والمعنى: كأنه الآن أمامي من شدة يقيني به.
قوله: "بنسعة": هي الحزام الذي يربط به الرحل.
قوله: "والحجارة تنكب رجليه": أي: يمشي والحجارة تضرب رجليه، وكأنه - والله أعلم - يمشي بسرعة، ولكنه لا يحس في تلك الحال; لأنه يريد أن يعتذر.



ج / 2 ص -277- وهو يقول: {إنما كنا نخوض ونلعب}. فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: من الآية65]; ما يلتفت إليه وما يزيده عليه"1.


فيه مسائل:

الأولى: وهي العظيمة; أن من هزل بهذا كافر.
الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنا من كان.
الثالثة: الفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله.


قوله: "وما يزيده عليه": أي: لا يزيده على ما ذكر من توبيخ؛ امتثالا لأمر الله عز وجل، وكفى بالقول الذي أرشد الله إليه نكاية وتوبيخا.


فيه مسائل:

الأولى - وهي العظيمة -: أن من هزل بهذا كافر: أي من هزل بالله وآياته ورسوله.
الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنا من كان: أي: سواء كان منافقا أو غير منافق ثم استهزأ; فإنه يكفر كائنا من كان.
الثالثة: الفرق بين النميمة والنصيحة لله ولرسوله: النميمة: من



1 أخرجه: ابن جرير (10/ 119), وابن أبي حاتم; كما في "الصحيح المسند" لمقبل بن هادي (ص 77).


ج / 2 ص -278- الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله، وبين الغلظة على أعداء الله.


نَمَّ الحديث; أي: نقله ونسبه إلى غيره، وهي نقل كلام الغير للغير بقصد الإفساد، وهي من أكبر الذنوب، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة نمام"1 وأخبر عن رجل يعذب في قبره; لأنه كان يمشي بالنميمة2.
وأما النصيحة لله ورسوله; فلا يقصد بها ذلك، وإنما يقصد بها احترام شعائر الله عز وجل، وإقامة حدوده، وحفظ شريعته، وعوف بن مالك نقل كلام هذا الرجل؛ لأجل أن يقام عليه الحد، أو ما يجب أن يقام عليه، وليس قصده مجرد النميمة.


ومن ذلك: لو أن رجلا اعتمد على شخص ووثق به، وهذا الشخص يكشف سره، ويستهزئ به في المجالس، فإنك إذا أخبرت هذا الرجل بذلك; فليس هذا من النميمة، بل من النصيحة.
الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله:
العفو الذي يحبه الله: هو الذي فيه إصلاح; لأن الله اشترط ذلك في العفو فقال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} [الشورى: من الآية40]; أي: كان عفوه مشتملا على الإصلاح، وقال بعضهم: أي أصلح الود بينه وبين من أساء إليه، وهذا تفسير قاصر، والصواب أن المراد به أصلح في عفوه; أي: كان في عفوه إصلاح. فمن كان عفوه إفسادا لا إصلاحا; فإنه آثم بهذا العفو، ووجه ذلك من الآية ظاهر; لأن الله قال: {عَفَا وَأَصْلَحَ}، ولأن العفو إحسان والفساد إساءة، ودفع الإساءة أولى، بل العفو حينئذ محرم.


والنبي صلى الله عليه وسلم غَلَّظ على هذا الرجل لكونه صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إليه، ولا


1 أخرجه: البخاري (10/ 476- فتح), ومسلم (1/ 101).
2 أخرجه: البخاري (1/ 317- فتح), ومسلم (1/ 240).


ج / 2 ص -279- الخامسة: أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل.


يزيد على هذا الكلام الذي أمره الله به مع أن الحجارة تنكب رجل الرجل، ولم يرحمه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرق له، ولكل مقام مقال; فينبغي أن يكون الإنسان شديدا في موضع الشدة، لينا في موضع اللين، لكن أعداء الله عز وجل الأصل في معاملتهم الشدة، قال تعالى في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: من الآية29]، وقال تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: من الآية73]، ذكرها الله في سورتين من القرآن؛ مما يدل على أنها من أهم ما يكون، لكن استعمال اللين أحيانا للدعوة والتأليف قد يكون مستحسنا.
الخامسة: أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل: فالأصل في الاعتذار أن يقبل، لاسيما إذا كان المعتذر محسنا، لكن حصلت منه هفوة، فإن علم أن الاعتذار باطل; فإنه لا يقبل.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




رد مع اقتباس
  #51  
قديم 02-02-2015, 02:32AM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم






القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: قول الله تعالي: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي}

ج / 2 ص -280- باب: قول الله تعالي: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت: من الآية50] الآية.


مناسبة الباب ل"كتاب التوحيد"
أن الإنسان إذا أضاف النعمة إلى عمله وكسبه؛ ففيه نوع من الإشراك بالربوبية، وإذا أضافها إلى الله لكنه زعم أنه مستحق لذلك، وأن ما أعطاه الله ليس محض تفضل، لكن لأنه أهل; ففيه نوع من التَّعلِّي والترفع في جانب العبودية.


وقد ذكر الشيخ فيه آيتين:
الآية الأولى: ما ترجم به المؤلف، وهي قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ} الضمير يعود على الإنسان، والمراد به الجنس. وقيل: المراد به الكافر.
والظاهر أن المراد به الجنس; إلا أنه يمنع من هذه الحال الإيمان، فلا يقول ذلك المؤمن، قال تعالى قبلها: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ لا يَسْأَمُ الأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ

ج / 2 ص -281-


وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت:47، 48، 49]، هذه حال الإنسان من حيث هو إنسان، لكن الإيمان يمنع الخصال السيئة المذكورة.
قوله: "منا": أضافه الله إليه; لوضوح كونها من الله، ولتمام منته بها.
قوله: {مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} أي: أنه لم يذق الرحمة من أول أمره، بل أصيب بضراء; كالفقر وفقد الأولاد وغير ذلك، ثم أذاقه بعد ذلك الرحمة حتى يحس بها وتكون لذتها والسرور بها أعظم مثل الذائق للطعام بعد الجوع.
قوله: "مسته" وهو: أي: أصابته وأثرت فيه.


قوله: {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} هذا كفر بنعمة الله وإعجاب بالنفس، واللام في قوله: "ليقولن" واقعة في جواب القسم المقدر قبل اللام في قوله:" وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ ".
قوله: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} بعد أن انغمس في الدنيا نسي الآخرة، بخلاف المؤمن إذا أصابته الضراء لجأ إلى الله، ثم إذا كشفها، وجد بعد ذلك لذة وسرورا يشكر الله على ذلك، أما هذا; فقد نسي الآخرة وكفر بها.


قوله: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: من الآية50] (إن): شرطية وتأتي فيما يمكن وقوعه وفيما لا يمكن وقوعه; كقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: من الآية65]، والمعنى: على فرض أن أرجع إلى الله إن لي عنده للحسنى. والحسنى: اسم تفضيل; أي: الذي هو أحسن من هذا، واللام للتوكيد.



ج / 2 ص -282- قال مجاهد: " هذا بعملي، وأنا محقوق به".
وقال ابن عباس: " يريد: من عندي".
وقوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: من الآية78]
قال قتادة: " على علم مني بوجوه المكاسب".


قوله: {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا} [فصلت: من الآية50] أي: فلننبئن هذا الإنسان، وأظهر في مقام الإضمار من أجل الحكم على هذا القائل بالكفر ولأجل أن يشمله الوعيد وغيره.
قول مجاهد: "هذا بعملي وأنا محقوق به": أي: هذا بكسبي، وأنا مستحق له.
قول ابن عباس: "يريد من عندي": أي: من حذقي وتصرفي، وليس من عند الله.


الآية الثانية: قوله تعالى: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: من الآية78] في القرآن آيتان: آية قال الله فيها: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: من الآية49]، الثانية: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} والظاهر من تفسير المؤلف أنه يريد الآية الثانية.


قوله: "على علم": في معناه أقوال:
الأول قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب، فيكون العلم عائدا على الإنسان; أي: إنني عالم بوجوه المكاسب، ولا فضل لأحد علي فيما أوتيته، وإنما الفضل لي، وعليه يكون هذا كفرا بنعمة الله، وإعجابا بالنفس.

ج / 2 ص -283- وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل.
وهذا معنى قول مجاهد: " أوتيته على شرف"1.


الثاني قال آخرون: على علم من الله أني له أهل; فيكون بذلك مدلا على الله، وأنه أهل ومستحق لأن ينعم الله عليه، والعلم هنا عائد على الله; أي: أوتيت هذا الشيء على علم من الله أني مستحق له وأهل له.
الثالث قول مجاهد: "أوتيته على شرف"، وهو من معنى القول الثاني،

فصار معنى الآية يدور على وجهين:
الوجه الأول: أن هذا إنكار أن يكون ما أصابه من النعمة من فضل الله، بل زعم أنها من كسب يده وعلمه ومهارته.
الوجه الثاني: أنه أنكر أن يكون لله الفضل عليه، وكأنه هو الذي له الفضل على الله; لأن الله أعطاه ذلك لكونه أهلا لهذه النعمة.


فيكون على كلا الأمرين غير شاكر لله عز وجل، والحقيقة أن كل ما نؤتاه من النعم فهو من الله; فهو الذي يسرها حتى حصلنا عليها، بل كل ما نحصل عليه من علم أو قدرة أو إرادة فمن الله; فالواجب علينا أن نضيف هذه النعم إلى الله سبحانه، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: من الآية53]، حتى ولو حصلت لك هذه النعمة بعلمك أو مهارتك; فالذي أعطاك هذا العلم أو المهارة هو الله عز وجل ثم إن المهارة أو العلم قد لا يكون سببا لحصول الرزق; فكم من إنسان عالم أو ماهر حاذق، ومع ذلك لا يوفق بل يكون عاطلا؟!


وشكر النعمة له ثلاثة أركان:
1- الاعتراف بها في القلب.



1 انظر: "تفسير ابن جرير" (10/ 107), و"الدر المنثور" (5/ 137).

ج / 2 ص -284- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى،....

2- الثناء على الله باللسان.
3- العمل بالجوارح بما يرضي المنعم.


فمن كان عنده شعور في داخل نفسه أنه هو السبب لمهارته وجودته وحذقه; فهذا لم يشكر النعمة، وكذلك لو أضاف النعمة بلسانه إلى غير الله، أو عمل بمعصية الله في جوارحه، فليس بشاكر لله تعالى.
قوله: "وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أن ثلاثة من بني إسرائيل": جميع القصص الواردة في القرآن وصحيح السنة، ليس المقصود منها مجرد الخبر، بل يقصد منها العبرة والعظة، مع ما تكسب النفس من الراحة والسرور، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: من الآية111].


قوله: " من بني إسرائيل ": في محل نصب نعت ل "ثلاثة"، وبنو إسرائيل هم ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والتسليم.
قوله: "أبرص": أي: في جلده برص، والبرص داء معروف، وهو من الأمراض المستعصية التي لا يمكن علاجها بالكلية، وربما توصلوا أخيرا إلى عدم انتشارها وتوسعها في الجلد، لكن رفعها لا يمكن، ولهذا جعلها الله آية لعيسى، قال تعالى: {وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي} [المائدة: من الآية110].


قوله: "أقرع": مَنْ ليس على رأسه شعر.
قوله: "أعمى": من فقد البصر.

ج / 2 ص -285- فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا: فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به"..........



قوله: "فأراد الله" وفي بعض النسخ: "أراد الله": فعلى إثبات الفاء يكون خبر (إن) محذوفا دل عليه السياق تقديره: إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى أنعم الله عليهم فأراد الله أن يبتليهم.
ولا يمكن أن يكون "أبرص وأقرع وأعمى" خبرا; لأنه بدل، وعلى حذف الفاء يكون الخبر جملة: "أراد الله"، والإرادة هنا كونية.


قوله: "يبتليهم": أي يختبرهم; كما قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: من الآية35]، وقال تعالى: [هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: من الآية40].
قوله: "ملكا": واحد الملائكة: وهم عَالَم غيبي، خلقهم الله من نور، وجعلهم قائمين بطاعة الله، لا يأكلون، ولا يشربون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، لهم أشكال وأعمال، ووظائف مذكورة في الكتاب والسنة، ويجب الإيمان بهم، وهو أحد أركان الإيمان الستة.


قال أهل اللغة: وأصل ال (ملك) مأخوذ من الأَلُوكَة، وهي الرسالة، وعلى هذا يكون أصله مَأْلكَ; فصار فيه إعلال قلبي، فصار مَلأَك، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام الساكنة، وحذفت الهمزة تخفيفا، فصار مَلَك؛ ولهذا في الجمع تأتي الهمزة: ملائكة.
قوله: "ويذهب": يجوز فيه الرفع والنصب، والرفع أولى.
قوله: "قذرني": أي: استقذرني وكرهوا مخالطتي من أجله.
وقوله: "به": الباء للسببية; أي: بسببه.



ج / 2 ص -286- قال: فمسحه، فذهب عنه قذره، فأعطي لونا حسنا، وجلدا حسنا. قال: فأي المال أحب إليك; قال: الإبل أو البقر (شك إسحاق). فأعطي ناقة عشراء، وقال: بارك الله لك فيها".
قال: "فأتى الأقرع، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني الذي قذرني الناس به،.........


قوله: "فمسحه": ليتبين أن لكل شيء سببا، وبرئ بإذن الله عز وجل "فذهب عنه قذره": بدأ بذهاب القذر قبل اللون الحسن والجلد الحسن; لأنه يبدأ بزوال المكروه قبل حصول المطلوب، كما يقال: التخلية قبل التحلية.
قوله: "قال: الإبل أو البقر - شك إسحاق -": والظاهر: أنه الإبل كما يفيده السياق، وإسحاق أحد رواة الحديث.


قوله: "عشراء": قيل: هي الحامل مطلقا، وقال في "القاموس": هي التي بلغ حملها عشرة أشهر أو ثمانية، سخرها الله عز وجل وذللها، ولعلها كانت قريبة من الملك فأعطاه إياها.
قوله: "بارك الله لك فيها": يحتمل أن لفظه لفظ الخبر ومعناه الدعاء، وهو الأقرب; لأنه أسلم من التقدير، ويحتمل أنه خبر محض، كأنه قال: هذه ناقة عشراء مبارك لك فيها ويكون المعنى على تقدير (قد); قد بارك الله لك فيها.
قوله: "فأتى الأقرع": وهو الرجل الثاني في الحديث.


قوله: "فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن"، ولم يكتف بمجرد الشعر، بل طلب شعرا حسنا.
قوله: "الذي قذرني الناس به": أي: القرع; لأنه إذا كان أقرع كرهه

ج / 2 ص -287- فمسحه، فذهب عنه قذره، وأعطي شعرا حسنا. فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر أو الإبل. فأعطي بقرة حاملا; قال: بارك الله لك فيها. فأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس. فمسحه، فرد الله إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم. فأعطي شاة والدا. فأنتج هذان وولد هذا،........


الناس واستقذروه، وهذا يدل على أنهم لا يُغَطُّون رءوسهم بالعمائم ونحوها، وقد يقال: يمكن أن يكون عليه عمامة يبدو بعض الرأس من جوانبها؛ فيكرهه الناس مما بدا منها.
قوله: "فذهب عنه قذره": يقال في تقديم ذهاب القذر ما سبق، وهذه نعمة من الله عز وجل ؛ أن يستجاب للإنسان.
قوله: "البقر أو الإبل": الشك من إسحاق، وسياق الحديث يدل على أنه أعطي البقر.


قوله: "فأتى الأعمى": هذا هو الرجل الثالث في هذه القصة.
قوله: "فأبصر به الناس": لم يطلب بصرا حسنا كما طلبه صاحباه، وإنما طلب بصرا يبصر به الناس فقط، مما يدل على قناعته بالكفاية.
قوله: "فرد الله إليه بصره": الظاهر أن بصره الذي كان معه من قبل هو ما يبصر به الناس فقط.
قوله: "قال: الغنم": هذا يدل على زهده كما يدل على أنه صاحب سكينة وتواضع; لأن السكينة في أصحاب الغنم.


قوله: "شاة والدا": قيل: إن المعنى قريبة الولادة، ويؤيده أن صاحبيه أعطيا أنثى حاملا، ولما يأتي من قوله: "فأنتج هذان وولد هذا"،

ج / 2 ص -288- فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم".
قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين، وابن سبيل،


والشيء قد يسمى بالاسم القريب; فقد يعبر عن الشيء حاصلا وهو لم يحصل، لكنه قريب الحصول.
قوله: "فأُنتج هذان": بالضم، وفيه رواية بالفتح: "فأنتج"، وفي رواية: "فَنَتَج هذان". والأصل في اللغة في مادة (نتج): أنها مبنية للمفعول، والإشارة إلى صاحب الإبل والبقر، و "أنتج"; أي: حصل لهما نتاج الإبل والبقر.
قوله: "وولد هذا": أي: صار لشاته أولاد، قالوا: والمنتج من أنتج، والناتج من نتج، والمولد من ولد، ومن تولى توليد النساء يقال له: القابلة، ومن تولى توليد غير النساء يقال له: منتج، أو ناتج، أو مولد.


قوله: "فكان لهذا واد من الإبل"1 مقتضى السياق أن يقول: فكان لذلك; لأنه أبعد المذكورين، لكنه استعمل الإشارة للقريب في مكان البعيد، وهذا جائز، وكذا العكس.
قوله: "في صورته وهيئته": الصورة في الجسم، والهيئة في الشكل واللباس، وهذا هو الفرق بينهما.
قوله: "رجل مسكين": خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: أنا رجل مسكين، والمسكين: الفقير، وسمي الفقير مسكينا; لأن الفقر أسكنه وأذله، والغني في الغالب يكون عنده قوة وحركة.
قوله: "وابن سبيل": أي: مسافر سمي بذلك لملازمته للطريق،



1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3464) , ومسلم: الزهد والرقائق (2964).

ج / 2 ص -289- قد انقطعت بي الحبال في سفري; فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال; بعيرا أتبلغ به في سفري،........


ولهذا سمي طير الماء ابن الماء لملازمته له غالبا، فكل شيء يلازم شيئا; فإنه يصح أن يضاف إليه بلفظ البنوة.
قوله: "انقطعت بي الحبال في سفري" الحبال الأسباب; فالحبل يطلق على السبب وبالعكس، قال تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج: من الآية15]، ولأن الحبل سبب يتوصل به الإنسان إلى مقصوده كالرِّشاء يتوصل به الإنسان إلى الماء الذي في البئر.


قوله: "فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك" "لا": نافية للجنس، والبلاغ بمعنى الوصول، ومنه تبليغ الرسالة; أي: إيصالها إلى المرسل إليه، والمعنى: لا شيء يوصلني إلى أهلي إلا بالله ثم بك; فالمسألة فيها ضرورة.
قوله: "أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن" السؤال هنا ليس سؤال استخبار بل سؤال استجداء; لأن "سأل" تأتي بمعنى استجدى وبمعنى استخبر، تقول: سألته عن فلان; أي: استخبرته، وسألته مالا; أي: استجديته واستعطيته، وإنما قال: "أسألك بالذي أعطاك" ولم يقل: أسألك بالله; لأجل أن يذكره بنعمة الله عليه; ففيه إغراء له على الإعانة لهذا المسكين; لأنه جمع بين أمرين: كونه مسكينا، وكونه ابن سبيل; ففيه سببان يقتضيان الإعطاء.
وقوله: "بعيرا": يدل على أن الأبرص أعطي الإبل، وتعبير إسحاق "الإبل أو البقر" من باب ورعه.


قوله: "أتبلغ به في سفري": أي: ليس أطيب الإبل، وإنما ما يوصلني إلى أهلي فقط.

ج / 2 ص -290- فقال: الحقوق كثيرة. فقال له: كأني أعرفك! ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرا، فأعطاك الله عز وجل المال؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر. فقال: إن كنت كاذبا; فصيرك الله إلى ما كنت".


قوله: "الحقوق كثيرة": أي: هذا المال الذي عندي متعلق به حقوق كثيرة، ليس حقك أنت فقط، وتناسى - والعياذ بالله - أن الله هو الذي مَنَّ عليه بالجلد الحسن واللون الحسن والمال.
قوله: "كأني أعرفك": كأن هنا للتحقيق لا للتشبيه; لأنها إذا دخلت على جامد فهي للتشبيه، وإذا دخلت على مشتق; فهي للتحقيق أو للظن والحسبان، والمعنى: أني أعرفك معرفة تامة.


قوله: "ألم تكن أبرص يقذرك الناس" ذَكَّرَه الملك بنعمة الله عليه، وعرفه بما فيه من العيب السابق حتى يعرف قدر النعمة، والاستفهام للتقرير لدخوله على "لم"; كقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1].
قوله: "كابرا عن كابر": أنكر أن المال من الله، لكنه لم يستطع أن ينكر البرص. و "كابرا" منصوبة على نزع الخافض; أي: من كابر; أي: ممن يكبرني وهو الأب، عن كابر له وهو الجد، وقيل: المراد الكبر المعنوي; أي: إننا شرفاء وسادة وفي نعمة من الأصل، وليس هذا المال مما تجدد، واللفظ يحتمل المعنيين جميعا.


قوله: "إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت" "إن": شرطية ولها مقابل، يعني: وإن كنت صادقا فأبقى الله عليك النعمة. فإن قيل: كيف يأتي ب "إن" الشرطية الدالة على الاحتمال مع أنه يعرف أنه كاذب؟

ج / 2 ص -291- قال: وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبا; فصيرك الله إلى ما كنت.


أجيب: إن هذا من باب التنزل مع الخصم، والمعنى: إن كنت كما ذكرت عن نفسك; فأبقى الله عليك هذه النعمة، وإن كنت كاذبا وأنك لم ترثه كابرا عن كابر; فصيرك الله إلى ما كنت من البرص والفقر، ولم يقل: "إلى ما أقول"; لأنه كان على ذلك بلا شك.


والتنزل مع الخصم يرد كثيرا في الأمور المتيقنة; كقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: من الآية59]، ومعلوم أنه لا نسبة، وأن الله خير مما يشركون، ولكن هذا من باب محاجة الخصم لإدحاض حجته.
قوله: "وأتى الأقرع في صورته" الفاعل المَلَك، وهنا قال: "في صورته" فقط وفي الأول قال: "في صورته وهيئته" فالظاهر أنه تصرف من الرواة، وإلا; فالغالب أن الصورة قريبة من الهيئة، وإن كانت الصورة تكون خلقة، والهيئة تكون تصنعا في اللباس ونحوه، وقد جاء في رواية البخاري: "في صورته وهيئته".


قوله: "فقال له مثل ما قال لهذا": المشار إليه الأبرص.
قوله: "فرد عليه": أي: الأقرع.
قوله: "مثل ما رد عليه هذا": أي: الأبرص. فكلا الرجلين - والعياذ بالله - غير شاكر لنعمة الله ولا معترف بها ولا راحم لهذا المسكين الذي انقطع به السفر.
قوله: "فصيرك الله إلى ما كنت عليه" أي: ردك الله إلى ما كنت عليه من القرع الذي يقذرك الناس به والفقر.



ج / 2 ص -292- قال: وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري; فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك; شاة أتبلغ بها في سفري. قال: قد كنت أعمى فرد الله عليّ بصري; فخذ ما شئت، فوالله; لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أمسك مالك; فإنما ابتليتم؛.......


قوله: "فرد الله عليّ بصري" اعترف بنعمة الله، وهذا أحد أركان الشكر والركن الثاني: العمل بالجوارح في طاعة المنعم، والركن الثالث: الاعتراف بالنعمة في القلب، قال الشاعر:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
قوله: "فوالله; لا أجهدك بشيء أخذته لله" الجهد: المشقة، والمعنى: لا أشق عليك بمنع ولا منة، واعترافه بلسانه مطابق لما في قلبه، فيكون دالا على الشكر بالقلب بالتضمن.


قوله: "خذ ما شئت ودع ما شئت" هذا من باب الشكر بالجوارح; فيكون هذا الأعمى قد أتم أركان الشكر.
قوله: "لله": اللام للاختصاص، والمعنى: لأجل الله، وهذا ظاهر في إخلاصه لله; فكل ما تأخذه لله فأنا لا أمنعك منه ولا أردك.
قوله: "إنما ابتليتم": أي: اختبرتم، والذي ابتلاهم هو الله تعالى، وظاهر الحديث أن قصتهم مشهورة معلومة بين الناس; لأن قوله: "إنما ابتليتم" يدل على أن عنده علما بما جرى لصاحبيه، وغالبا أن مثل هذه القصة تكون مشهورة بين الناس.



ج / 2 ص -293- فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك". أخرجاه.1


قوله: "فقد رضي الله عنك": يعني: لأنك شكرت نعمة الله بالقلب واللسان والجوارح.
قوله: "وسخط على صاحبيك" لأنهما كَفَرا نعمة الله - سبحانه -، وأنكرا أن يكون الله من عليهما بالشفاء والمال.
وفي هذا الحديث من العبر شيء كثير، منها:
1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقص علينا أنباء بني إسرائيل؛ لأجل الاعتبار والاتعاظ بما جرى، وهو أحد الأدلة لمن قال: إن شَرْع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه، ولا شك أن هذه قاعدة صحيحة.
2- بيان قدرة الله عز وجل بإبراء الأبرص والأقرع والأعمى من هذه العيوب التي فيهم بمجرد مسح المَلَك لهم.


3- أن الملائكة يتشكلون حتى يكونوا على صورة البشر; لقوله: "فأتى الأبرص في صورته" وكذلك الأقرع والأعمى، لكن هذا -والله أعلم- ليس إليهم، وإنما يَتَشَكَّلون بأمر الله تعالى.
4- أن الملائكة أجسام، وليسوا أرواحا، أو معاني، أو قوى فقط.
5- حرص الرواة على نقل الحديث بلفظه.


6- أن الإنسان لا يلزمه الرضاء بقضاء الله - أي بالمقضي -; لأن هؤلاء الذين أصيبوا قالوا: أحب إلينا كذا وكذا، وهذا يدل على عدم الرضا.



1 أخرجه: البخاري في (الأنبياء, باب حديث أبرص وأقرع وأعمى في بني إسرائيل), (2/494), ومسلم في (الزهد والرقاق), (4/ رقم (2964).

ج / 2 ص -294-


وللإنسان عند المصائب أربع مقامات:
جزع، وهو محرم.
صبر، وهو واجب.
رضا، وهو مستحب.
شكر، وهو أحسن وأطيب.
وهنا إشكال، وهو كيف يشكر الإنسان ربه على المصيبة، وهي لا تلائمه؟
أجيب: أن الإنسان إذا آمن بما يترتب على هذه المصيبة من الأجر العظيم؛ عرف أنها تكون بذلك نعمة، والنعمة تشكر.


وأما قوله صلى الله عليه وسلم "فمن رضي; فله الرضا، ومن سخط; فله السخط"1 فالمراد بالرضا هنا الصبر، أو الرضا بأصل القضاء الذي هو فعل الله; فهذا يجب الرضا به لأن الله عز وجل حكيم، ففرق بين فعل الله والمقضي. والمقضي ينقسم إلى: مصائب لا يلزم الرضا بها، وإلى أحكام شرعية يجب الرضا بها.


7- جواز الدعاء المعلق; لقوله: "إن كنت كاذبا; فصيرك الله إلى ما كنت" وفي القرآن الكريم قال الله تعالى: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7]، {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:9]، وفي دعاء الاستخارة: "اللهم! إن كنت تعلم... إلخ".



1 سبق (ص 121).

ج / 2 ص -295-


8- جواز التنزل مع الخصم، فيما لا يقر به الخصم المتنزل لأجل إفحام الخصم; لأن الملك يعلم أنه كاذب، ولكن بناء على قوله: إن هذا ما حصل، وإن المال ورثه كابرا عن كابر.
وقد سبق بيان وروده في القرآن، ومنه أيضا قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: من الآية24]، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه على هدى، وأولئك على ضلال، ولكن هذا من باب التنزل معهم من باب العدل.


9- أن بركة الله لا نهاية لها، ولهذا كان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم.
10- هل يستفاد منه أن دعاء الملائكة مستجاب أو أن هذه قضية عين؟
الظاهر أنه قضية عين، وإلا; لكان الرجل إذا دعا لأخيه بظهر الغيب، وقال الملك: آمين ولك بمثله، علمنا أن الدعاء قد استجيب.


11- بيان أن شكر كل نعمة بحسبها; فشكر نعمة المال أن يبذل في سبيل الله، وشكر نعمة العلم أن يبذل لمن سأله بلسان الحال أو المقال، والشكر الأعم أن يقوم بطاعة المنعم في كل شيء.
ونظير هذا ما مر أن التوبة من كل ذنب بحسبه، لكن لا يستحق الإنسان وصف التوبة المطلق؛ إلا إذا تاب من جميع الذنوب.


12- جواز التمثيل، وهو أن يتمثل الإنسان بحال ليس هو عليها في الحقيقة، مثل أن يأتي بصورة مسكين وهو غني، وما أشبه ذلك، إذا كان فيه مصلحة، وأراد أن يختبر إنسانا بمثل هذا; فله ذلك.
13- أن الابتلاء قد يكون عاما وظاهرا، يؤخذ من قوله: "فإنما ابتليتم"، وقصتهم مشهورة كما سبق.

ج / 2 ص -296-


14- فضيلة الورع والزهد، وأنه قد يجر صاحبه إلى ما تحمد عقباه; لأن الأعمى كان زاهدا في الدنيا; فكان شاكرا لنعمة الله.
15- ثبوت الإرث في الأمم السابقة; لقوله: "ورثته كابرا عن كابر".
16- أن من صفات الله عز وجل الرضا، والسخط، والإرادة، وأهل السنة والجماعة يثبتونها على المعنى اللائق بالله على أنها حقيقة.
وإرادة الله نوعان: كونية، وشرعية.


والفرق بينهما: أن الكونية يلزم فيها وقوع المراد ولا يلزم أن يكون محبوبا لله، فإذا أراد شيئا قال له: كن فيكون.
وأما الشرعية: فإنه لا يلزم فيها وقوع المراد ويلزم أن يكون محبوبا لله، ولهذا نقول: الإرادة الشرعية بمعنى المحبة، والكونية بمعنى المشيئة.
فإن قيل: هل الله يريد الخير والشر كونا أو شرعا؟
أجيب: إن الخير إذا وقع; فهو مراد لله كونا وشرعا، وإذا لم يقع; فهو مراد لله شرعا فقط، وأما الشر فإذا وقع; فهو مراد لله كونا لا شرعا وإذا لم يقع; فهو غير مراد كونا ولا شرعا.


واعلم أن الشر لا ينسب إلى فعل الله - سبحانه -; ولكن إلى مخلوقات الله; فكل فعل الله تعالى خير; لأنه صادر عن حكمة ورحمة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الخير بيديك والشر ليس إليك"1 وأما مخلوقات الله; ففيها خير وشر.
وإثبات صفة الرضا لله -سبحانه- لا يقتضي انتفاء صفة الحكمة، بخلاف رضا المخلوق، فقد تنتفي معه الحكمة، فإن الإنسان إذا رضي عن شخص مثلا؛ فإن عاطفته قد تحمله على أن يرضى عنه في كل شيء، ولا يضبط نفسه في معاملته لشدة رضاه عنه، قال الشاعر:



1 رواه: مسلم (771) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ج / 2 ص -297-


وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
لكن رضا الله مقرون بالحكمة، كما أن غضب الخالق ليس كغضب المخلوق; فلا تنتفي الحكمة مع غضب الخالق، بخلاف غضب المخلوق; فقد يخرجه عن الحكمة، فيتصرف بما لا يليق؛ لشدة غضبه.


ومن فسّر الرضا بالثواب أو إرادته; فتفسيره مردود عليه، فإنه إذا قيل: إن معنى "رضي"، أي: أراد أن يثيب، فمقتضاه أنه لا يرضى، ولو قالوا: لا يرضى لكفروا; لأنهم نفوها نفي جحود، لكن أَوّلُوها تأويلا يستلزم جواز نفي الرضا; لأن المجاز معناه نفي الحقيقة، وهذا أمر خطير جدا؛ ولهذا بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم: أنه لا مجاز في القرآن ولا في اللغة، خلافا لمن قال: كل شيء في اللغة مجاز.


17- أن الصحبة تطلق على المشاكلة في شيء من الأشياء، ولا يلزم منها المقارنة; لقوله: "وسخط على صاحبيك"; فالصاحب هنا: من يشبه حاله في أن الله أنعم عليه بعد البؤس.


18- اختبار الله عز وجل بما أنعم عليهم به.
19 أن التذكير قد يكون بالأقوال أو الأفعال أو الهيئات.
20- أنه يجوز للإنسان أن ينسب لنفسه شيئا لم يكن من أجل الاختبار; لقول الملك: إنه فقير وابن سبيل.
21- أن هذه القصة كانت معروفة مشهورة; لقوله: "فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك".



ج / 2 ص -298- فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية.
الثانية: ما معنى: {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت: من الآية50].
الثالثة: ما معنى قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: من الآية 78].
الرابعة: ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة.


فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية: وهي قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت: من الآية50] وقد سبق أن الضمير في قوله: "أذقناه" يعود على الإنسان باعتبار الجنس.
الثانية: ما معنى: {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} اللام للاستحقاق، والمعنى: إني حقيق به وجدير به.


الثالثة: ما معنى قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} وقد سبق بيان ذلك.
الرابعة: ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة: وقد سبق ذكر عبر كثيرة منها، وهذا ليس استيعابا، ومن ذلك الفرق بين الأبرص والأقرع والأعمى، فإن الأبرص والأقرع جحدا نعمة الله عز وجل، والأعمى اعترف بنعمة الله، عندما طلب الملك من الأعمى المساعدة; قال: "خذ ما شئت"; فدل هذا على جوده وإخلاصه; لأنه قال: "فوالله; لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله عز وجل" بخلاف الأبرص والأقرع، حيث كانوا أشحاء بخلاء منكرين نعمة الله عز وجل.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




رد مع اقتباس
  #52  
قديم 02-02-2015, 11:53AM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: قول الله تعالى:{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}

ج / 2 ص -299- باب: قول الله تعالى:{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: من الآية190] الآية.


قوله: {فلما آتاهما} الضمير يعود على ما سبق من النفس وزوجها، ولهذا ينبغي أن يكون الشرح من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأعراف: من الآية189].
قوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}


فيها قولان:
الأول: أن المراد بالنفس الواحدة: العين الواحدة; أي: من شخص معين، وهو آدم عليه السلام، وقوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي: حواء; لأن حواء خلقت من ضلع آدم.
الثاني: أن المراد بالنفس الجنس، وجعل من هذا الجنس زوجه، ولم يجعل زوجه من جنس آخر، والنفس قد يراد بها الجنس; كما في قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: من الآية164]; أي: من جنسهم.


قوله: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} سكون الرجل إلى زوجته ظاهر من أمرين:
أولا: لأن بينهما من المودة والرحمة ما يقتضي الأنس والاطمئنان والاستقرار.
ثانيا: سكون من حيث الشهوة، وهذا سكون خاص، لا يوجد له نظير حتى بين الأم وابنها.


ج / 2 ص -300-


قوله: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} تعليل لكونها من جنسه أو من النفس المعينة.
قوله: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} أي: جامعها، وعبارة القرآن والسنة التكنية عن الجماع، قال تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: من الآية43]، وقال: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: من الآية23]، وقال تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: من الآية21]، كأن الاستحياء من ذكره بصريح اسمه أمر فطري، ولأن الطباع السليمة تكره أن تذكر هذا الشيء باسمه إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، فإنه قد يصرح به، كما في قوله ( لماعز وقد أقرَّ عنده بالزنى: "أنِكْتَها"(1) لا يكني؛ لأن الحاجة هنا داعية للتصريح حتى يتبين الأمر جليا، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات.


وتشبيه علو الرجل المرأة بالغشيان أمر ظاهر، كما أن الليل يستر الأرض بظلامه، قال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1]، وعبر بقوله: "تغشاها" ولم يقل: غشيها; لأن تغشى أبلغ، وفيه شيء من المعالجة، ولهذا جاء في الحديث: ( إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها ((2)، الجلوس بين شعبها الأربع هذا غشيان، و "جهدها" هذا تغشي.
قوله: {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً} الحمل في أوله خفيف: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة.


قوله: "فَمَرَّتْ بِهِ": المرور بالشيء تجاوزه من غير تعب ولا إعياء، والمعنى: تجاوزت هذا الحمل الخفيف من غير تعب ولا إعياء.



(1) أخرجه: البخاري في (الحدود, باب هل يقول الإمام للمقر لعلك لمست), (4/256).
(2) أخرجه: البخاري في (الغسل, باب إذا التقى الختانان), (1/111), ومسلم في (الحيض, باب نسخ الماء من الماء), (1/271).


ج / 2 ص -301-


قوله: "فلما أثقلت": الإثقال في آخر الحمل.
قوله: "دعوا الله"، ولم يقل: دعيا; لأن الفعل واوي; فعاد إلى أصله.
قوله: "الله ربهما": أتى بالألوهية والربوبية; لأن الدعاء يتعلق به جانبان:
الأول: جانب الألوهية من جهة العبد أنه داع، والدعاء عبادة.
الثاني: جانب الربوبية; لأن في الدعاء تحصيلا للمطلوب، وهذا يكون متعلقا بالله من حيث الربوبية.


والظاهر أنهما قالا: اللهم ربنا، ويحتمل أن يكون بصيغة أخرى.
قوله: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} أي: أعطيتنا.
وقوله: {صَالِحاً}; هل المراد صلاح البدن، أو المراد صلاح الدين، أي: لئن آتيتنا بشرا سويا، ليس فيه عاهة ولا نقص، أو صالحا بالدين; فيكون تقيا قائما بالواجبات؟
الجواب: يشمل الأمرين جميعا، وكثير من المفسرين لم يذكر إلا الأمر الأول، وهو الصلاح البدني، لكن لا مانع من أن يكون شاملا للأمرين جميعا.
قوله: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أي: من القائمين بشكرك على هذا الولد الصالح. والجملة هنا جواب قسم وشرط، قسم متقدم، وشرط متأخر، والجواب فيه للقسم؛ ولهذا جاء مقرونا باللام: لنكونن.


قوله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً} هنا حصل المطلوب، لكن لم يحصل الشكر الذي وعدا الله به، بل جعلا له شركاء فيما آتاهما.


ج / 2 ص -302-


وقوله: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: من الآية190] هذا جواب "لما". والجواب متعقب للشرط وهذا يدل على أن الشرك منهما حصل حين إتيانه وهو صغير، ومثل هذا لا يعرف أيصلح في دينه في المستقبل أم لا يصلح؟ ولهذا كان أكثر المفسرين على أن المراد بالصلاح، الصلاح البدني.


فمعاهدة الإنسان ربه أن يفعل العبادة مقابل تفضل الله عليه بالنعمة الغالب أنه لا يفي بها; ففي سورة التوبة قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة:75، 76]، وفي هذه الآية قال تعالى: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ} [الأعراف: من الآية189، 190] فكانا من المشركين لا من الشاكرين، وبهذا نعرف الحكمة من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر; لأن النذر معاهدة مع الله عز وجل، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر، وقال: "إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل"1، وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى تحريم النذر، وظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يميل إلى تحريم النذر2؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه، ونفى أنه يأتي بخير.


إذن ما الذي نستفيد من أمر نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: إنه لا يأتي بخير؟
الجواب; لا نستفيد إلا المشقة على أنفسنا، وإلزام أنفسنا بما نحن



1 أخرجه مسلم في (النذر, باب النهي عن النذر), (3/1261). وأخرج البخاري نحوه في (الإيمان, باب الوفاء بالنذر, 4/227) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2 انظر: "الاختيارات" (ص 328).


ج / 2 ص -303-


منه في عافية، ولهذا; فالقول بتحريم النذر قول قوي جدا، ولا يعرف مقدار وزن هذا القول إلا من عرف أسئلة الناس وكثرتها، ورأى أنهم يذهبون إلى كل عالم لعلهم يجدون خلاصا مما نذروا.
فإن قيل: هذا الولد الذي آتاهما الله عز وجل كان واحدا; فكيف جعلا في هذا الولد الواحد شركا بل شركاء؟


فالجواب: أن نقول هذا على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن يعتقدا أن الذي أتى بهذا الولد هو الولي الفلاني، والصالح الفلاني، ونحو ذلك، فهذا شرك أكبر؛ لأنهما أضافا الخلق إلى غير الله.
ومن هذا أيضا ما يوجد عند بعض الأمم الإسلامية الآن; فتجد المرأة التي لا يأتيها الولد تأتي إلى قبر الولي الفلاني، كما يزعمون أنه ولي الله -والله أعلم بولايته-، فتقول: يا سيدي فلان! ارزقني ولدا.


الوجه الثاني: أن يضيف سلامة المولود ووقايته إلى الأطباء وإرشاداتهم، وإلى القوابل وما أشبه ذلك، فيقولون مثلا: سلم هذا الولد من الطلق; لأن القابلة امرأة متقنة جيدة; فهنا أضاف النعمة إلى غير الله، وهذا نوع من الشرك، ولا يصل إلى حد الشرك الأكبر; لأنه أضاف النعمة إلى السبب ونسي المسبب، وهو الله عز وجل.


الوجه الثالث: أن لا يشرك من ناحية الربوبية، بل يؤمن أن هذا الولد خرج سالما بفضل الله ورحمته، ولكن يشرك من ناحية العبودية; فيقدم محبته على محبة الله ورسوله ويلهيه عن طاعة الله ورسوله، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15]؛


ج / 2 ص -304-


فكيف تجعل هذا الولد ندا لله في المحبة، وربما قدمت محبته على محبة الله، والله هو المتفضل عليك به؟!
وفي قوله: "فلما آتاهما" نقد لاذع؛ أن يجعلا في هذا الولد شريكا مع الله، مع أن الله هو المتفضل به، ثم قال: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: من الآية190] أي: ترفع وتقدس عما يشركون به من هذه الأصنام وغيرها.
ومن تأمل الآية وجدها دالة على أن قوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي: من جنس واحد، وليس فيها تعرض لآدم وحواء بوجه من الوجوه، ويكون السياق فيها جاريا على الأسلوب العربي الفصيح الذي له نظير في القرآن; كقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: من الآية164] أي: من جنسهم، وبهذا التفسير الواضح البين يسلم الإنسان من إشكالات كثيرة.


أما على القول الثاني بأن المراد بقوله تعالى: {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} آدم {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: من الآية189] حواء، فيكون معنى الآية خلقكم من آدم وحواء. فلما جامع آدم حواء حملت حملا خفيفا، فمرت به، فلما أثقلت دعوا -أي آدم وحواء- الله ربهما: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: من الآية189، 190] فأشرك آدم وحواء بالله، لكن قالوا: إنه إشراك طاعة لا إشراك عبادة، {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: من الآية190] وهذا التفسير منطبق على المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وسنبين -إن شاء الله تعالى- وجه ضعفه وبطلانه.


وهناك قول ثالث: أن المراد بقوله تعالى: {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي: آدم وحواء، {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} انتقل من العين إلى النوع; أي: من آدم إلى النوع الذي هم بنوه، أي: فلما تغشى الإنسان الذي تسلسل من آدم وحواء


ج / 2 ص -305- قال ابن حزم: " اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله ; كعبد عمرو، وعبد الكعبة وما أشبه ذلك،...


زوجته... إلى آخره، ولهذا قال تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: من الآية190] بالجمع ولم يقل عما يشركان، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: من الآية5] أي: جعلنا الشهب الخارجة منها رجوما للشياطين، وليست المصابيح نفسها، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} [المؤمنون:12، 13] أي: جعلناه بالنوع، وعلى هذا فأول الآية في آدم وحواء، ثم صار الكلام من العين إلى النوع.
وهذا التفسير له وجه، وفيه تنزيه آدم وحواء من الشرك، لكن فيه شيء من الركاكة لتشتت الضمائر.


وأما قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} فجمع لأن المراد بالمثنى اثنان من هذا الجنس، فصح أن يعود الضمير إليهما مجموعا; كما في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: من الآية9]، ولم يقل: اقتتلتا; لأن الطائفتين جماعة.
قوله: "اتفقوا": أي: أجمعوا، والإجماع أحد الأدلة الشرعية التي تثبت بها الأحكام، والأدلة هي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
قوله: "وما أشبه ذلك": مثل: عبد الحسين، وعبد الرسول، وعبد المسيح، وعبد علي.


وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم..."1


1 أخرجه: البخاري في (الجهاد, باب الحراسة في الغزو), (2/327); من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -306- حاشا عبد المطلب".


الحديث; فهذا وصف وليس علما، فشبه المنهمك بمحبة هذه الأشياء، المقدم لها على ما يرضي الله بالعابد لها، كقولك: عابد الدينار; فهو وصف، فلا يعارض الإجماع.
قوله: "حاشا عبد المطلب": حاشا الاستثنائية إذا دخلت عليها (ما) وجب نصب ما بعدها، وإلا جاز فيه النصب والجر.
وبالنسبة لعبد المطلب مستثنى من الإجماع على تحريمه; فهو مختلف فيه، فقال بعض أهل العلم: لا يمكن أن نقول بالتحريم والرسول صلى الله عليه وسلم قال:

أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب1
فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يفعل حراما; فيجوز أن يعبد للمطلب إلا إذا وجد ناسخ، وهذا تقرير ابن حزم رحمه الله، ولكن الصواب تحريم التعبيد للمطلب; فلا يجوز لأحد أن يسمي ابنه عبد المطلب، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن عبد المطلب"2 فهو من باب الإخبار وليس من باب الإنشاء، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن له جدا اسمه عبد المطلب، ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه سمى عبد المطلب، أو أنه أذن لأحد صحابته بذلك، ولا أنه أقر أحدا على تسميته عبد المطلب، والكلام في الحكم لا في الإخبار، وفرق بين الإخبار وبين الإنشاء والإقرار، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنما بنو هاشم وبنو عبد مناف شيء واحد"3، ولا يجوز التسمي بعبد مناف.


وقد قال العلماء: إن حاكي الكفر ليس بكافر; فالرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم


1 أخرجه: البخاري في (الجهاد, باب من قاد دابة غيره في الجهاد, 2/ 322); من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
2 البخاري: المغازي (4316), ومسلم: الجهاد والسير (1776), والترمذي: الجهاد (1688), وأحمد (4/280 ,4/281 ,4/289 ,4/304).
3 أخرجه: البخاري في (الخمس, باب ومن الدليل على أن الخمس للإمام, 2/ 400); عن جبير بن مطعم رضي الله عنه.



ج / 2 ص -307- وعن ابن عباس في الآية; قال: "لما تغشاها آدم; حملت، فأتاهما إبليس، فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة، لتطيعاني أو لأجعلن له قرني أَيْلٍ، فيخرج من بطنك، فيشقه، ولأفعلن; يخوفهما، سمياه عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا.
ثم حملت، فأتاهما، فذكر لهما، فأدركهما حب الولد، فسمياه عبد الحارث; فذلك قوله: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}1") رواه ابن أبي حاتم2.

ـ
عن شيء قد وقع وانتهى ومضى; فالصواب أنه لا يجوز أن يعبد لغير الله مطلقا، لا بعبد المطلب ولا غيره، وعليه; فيكون التعبيد لغير الله من الشرك.
قوله: "إبليس": على وزن إفعيل، فقيل: من أبلس إذا يئس; لأنه يئس من رحمة الله تعالى.
قوله: "لتطيعاني": جملة قسمية; أي: والله لتطيعاني.
قوله: "أيل": هو ذكر الأوعال.
قوله: "سمياه عبد الحارث": اختار هذا الاسم; لأنه اسمه، فأراد أن يعبداه لنفسه.
قوله: "فخرج ميتا": لم يحصل التهديد الأول، ويجوز أن يكون من جملة: "ولأفعلن"، أو لأنه قال: "ولأخرجنه ميتا".


1 سورة الأعراف آية: 190.
2 أخرجه: ابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير" (2/ 275), وسعيد بن منصور (2/ 1387).


ج / 2 ص -308- وله بسند صحيح عن قتادة; قال: "شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته".
وله بسند صحيح عن مجاهد، في قوله: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً}1 قال: "أشفقا أن لا يكون إنسانا".
وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما2.


قوله: "شركاء في طاعته" أي: أطاعاه فيما أمرهما به، لا في العبادة، لكن عبدا الولد لغير الله، وفرق بين الطاعة والعبادة، فلو أن أحدا أطاع شخصا في معصية الله لم يجعله شريكا مع الله في العبادة، لكن أطاعه في معصية الله.
قوله: "أشفقا أن لا يكون إنسانا": أي: خاف آدم وحواء أن يكون حيوانا أو جنيا أو غير ذلك.


قوله: "وذكر معناه عن الحسن": لكن الصحيح أن الحسن -رحمه الله- قال: إن المراد بالآية غير آدم وحواء، وإن المراد بها المشركون من بني آدم كما ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" وقال: "أما نحن; فعلى مذهب الحسن البصري رحمه الله في هذا، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته3" ا ه.


وهذه القصة باطلة من وجوه:
الوجه الأول: أنه ليس في ذلك خبر صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا من الأخبار التي لا تتلقى إلا بالوحي، وقد قال ابن حزم عن هذه القصة: إنها رواية خرافة مكذوبة موضوعة.


1 سورة الأعراف آية: 189.
2 انظر: "تفسير ابن جرير" (9/98, 99), و"تفسير ابن كثير" (2/ 275).
3 (3/530).


ج / 2 ص -309-


الوجه الثاني: أنه لو كانت هذه القصة في آدم وحواء; لكان حالهما إما أن يتوبا من الشرك أو يموتا عليه، فإن قلنا: ماتا عليه; كان ذلك أعظم من قول بعض الزنادقة:

إذا ما ذكرنا آدما وفعاله وتزويجه بنتيه بابنيه بالخنا
علمنا بأن الخلق من نسل فاجر وأن جميع الناس من عنصر الزنا
فمن جوز موت أحد من الأنبياء على الشرك فقد أعظم الفرية، وإن كان تابا من الشرك; فلا يليق بحكمة الله وعدله ورحمته أن يذكر خطأهما ولا يذكر توبتهما منه، فيمتنع غاية الامتناع أن يذكر الله الخطيئة من آدم وحواء وقد تابا، ولم يذكر توبتهما، والله تعالى إذا ذكر خطيئة بعض أنبيائه ورسله ذكر توبتهم منها، كما في قصة آدم نفسه حين أكل من الشجرة وزوجه، وتابا من ذلك.
الوجه الثالث: أن الأنبياء معصومون من الشرك باتفاق العلماء.


الوجه الرابع: أنه ثبت في حديث الشفاعة أن الناس يأتون إلى آدم يطلبون منه الشفاعة، فيعتذر بأكله من الشجرة وهو معصية1، ولو وقع منه الشرك; لكان اعتذاره به أقوى وأولى وأحرى.
الوجه الخامس: أن في هذه القصة أن الشيطان جاء إليهما وقال: "أنا صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة"، وهذا لا يقوله من يريد الإغواء، وإنما يأتي بشيء يقرب قبول قوله، فإذا قال: "أنا صاحبكما الذي



1 أخرجه: البخاري في (التفسير, باب قول الله تعالى: ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا, (3/250), ومسلم في (الإيمان, باب أدنى أهل الجنة منزلة), (1/184); من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -310- فيه مسائل:
الأولى:
تحريم كل اسم معبد لغير الله.


أخرجكما من الجنة"، فسيعلمان علم اليقين أنه عدو لهما، فلا يقبلان منه صرفا ولا عدلا.
الوجه السادس: أن في قوله في هذه القصة: "لأجعلن له قرني أيل": إما أن يصدقا أن ذلك ممكن في حقه; فهذا شرك في الربوبية؛ لأنه لا يقدر على ذلك إلا الله، أو لا يصدقا; فلا يمكن أن يقبلا قوله وهما يعلمان أن ذلك غير ممكن في حقه.
الوجه السابع: قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}1 بضمير الجمع، ولو كان آدم وحواء; لقال: عما يشركان.
فهذه الوجوه تدل على أن هذه القصة باطلة من أساسها، وأنه لا يجوز أن يعتقد في آدم وحواء أن يقع منهما شرك بأي حال من الأحوال، والأنبياء منزهون عن الشرك، مبرءون منه باتفاق أهل العلم، وعلى هذا; فيكون تفسير الآية كما أسلفنا أنها عائدة إلى بني آدم الذين أشركوا شركا حقيقيا، فإن منهم مشركا، ومنهم موحدا.

فيه مسائل:

الأولى: تحريم كل اسم معبد لغير الله تؤخذ من الإجماع على ذلك، والإجماع الأصل الثالث من الأصول التي يعتمد عليها في الدين، والصحيح أنه ممكن، وأنه حجة إذا حصل; لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}2 و(إن) هذه شرطية، لا تدل



1 سورة الأعراف آية: 190.
2 سورة النساء آية: 59.


ج / 2 ص -311- الثانية: تفسير الآية.
الثالثة: أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها.


على وقوع التنازع، بل إن فرض ووقع; فالمرد إلى الله ورسوله، فعلم منه أننا إذا أجمعنا فهو حجة. لكن ادعاء الإجماع يحتاج إلى بينة، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية; الإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح; إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة، ولما قيل للإمام أحمد: إن فلانا يقول: أجمعوا على كذا; أنكر ذلك وقال: وما يدريه لعلهم اختلفوا، فمن ادعى الإجماع، فهو كاذب. ولعل الإمام أحمد قال ذلك; لأن المعتزلة وأهل التعطيل كانوا يتذرعون إلى إثبات تعطيلهم وشبههم بالإجماع، فيقولون: هذا إجماع المحققين، وما أشبه ذلك.


وقد سبق أن الصحيح أنه لا يجوز التعبيد للمطلب، وأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم "أنا ابن عبد المطلب"1 أنه من قبيل الإخبار، وليس إقرارا ولا إنشاء، والإنسان له أن ينتسب إلى أبيه وإن كان معبدا لغير الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "يا بني عبد مناف"2 وهذا تعبيد لغير الله لكنه من باب الإخبار.


الثانية: تفسير الآية: يعني قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً}3 الآية، وسبق تفسيرها.
الثالثة: أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها: وهذا بناء على ما ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية،



1 سبق (ص 306).
2 حديث أبي هريرة رضي الله عنه, وفيه: "... يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار..." الحديث. أخرجه: البخاري في (الوصايا , باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب), (2/291), ومسلم في (الإيمان, باب في قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين, (1/192).
3 سورة الأعراف آية: 190.



ج / 2 ص -312- الرابعة: أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم.
الخامسة: ذكر السلف الفرق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة.


والصواب: أن هذا الشرك حق حقيقة، وأنه شرك من إشراك بني آدم، لا من آدم وحواء، ولهذا قال تعالى في الآية نفسها: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}1 فهذا الشرك الحقيقي الواقع من بني آدم.


الرابعة: أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم هذا بناء على ثبوت القصة، وأن المراد بقوله: (صالحا) أي: بشرا سويا، وأتى المؤلف بالبنت دون الولد; لأن بعض الناس يرون أن هبة البنت من النقم، قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}2 وإلا; فهبة الولد الذكر السوي من باب النعم أيضا، بل هو أكبر نعمة من هبة الأنثى، وإن كانت هبة البنت بها أجر عظيم فيمن كفلها ورباها وقام عليها.


الخامسة: ذكر السلف الفرق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة: وقبل ذلك نبين الفرق بين الطاعة وبين العبادة; فالطاعة إذا كانت منسوبة لله; فلا فرق بينها وبين العبادة، فإن عبادة الله طاعته.
وأما الطاعة المنسوبة لغير الله; فإنها غير العبادة، فنحن نطيع الرسول صلى الله عليه وسلم لكن لا نعبده، والإنسان قد يطيع ملكا من ملوك الدنيا وهو يكرهه. فالشرك بالطاعة: أنني أطعته لا حبا وتعظيما وذلا كما أحب الله وأتذلل له وأعظمه، ولكن طاعته اتباع لأمره فقط، هذا هو الفرق. وبناء على القصة; فإن آدم وحواء أطاعا الشيطان ولم يعبداه عبادة، وهذا مبني على صحة القصة.



1 سورة الأعراف آية: 191.
2 سورة آية: 58-59.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979



رد مع اقتباس
  #53  
قديم 02-02-2015, 01:10PM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: قول الله تعالى:
{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}

ج / 2 ص -313- باب: قول الله تعالى:
{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}1 الآية.



هذا الباب يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات;
لأن هذا الكتاب جامع لأنواع التوحيد الثلاثة: توحيد العبادة، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات.
وتوحيد الأسماء والصفات هو إفراد الله عز وجل بما ثبت له من صفات الكمال على وجه الحقيقة، بلا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل؛ لأنك إذا عطلت لم تثبت، وإن مثلت لم توحد، والتوحيد مركب من إثبات ونفي; أي: إثبات الحكم للموحد ونفيه عما عداه، فمثلا إذا قلت: زيد قائم; لم توحده بالقيام; وإذا قلت: زيد غير قائم; لم تثبت له القيام، وإذا قلت: لا قائم إلا زيد; وحدته بالقيام وإذا قلت: لا إله إلا الله; وحدته بالألوهية، وإذا أثبت لله الأسماء والصفات دون أن يماثله أحد; فهذا هو توحيد الأسماء والصفات، وإن نفيتها عنه; فهذا تعطيل، وإن مثلت; فهذا إشراك.
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} طريق التوحيد هنا تقديم الخبر؛ لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر; ففي الآية توحيد الأسماء لله.
وقوله: (الحسنى): مؤنث أحسن; فهي اسم تفضيل، ومعنى الحسنى; أي: البالغة في الحسن أكمله; لأن اسم التفضيل يدل على هذا،



1 سورة الأعراف آية: 180.


ج / 2 ص -314-


والتفضيل هنا مطلق;
لأن اسم التفضيل قد يكون مطلقا مثل: زيد الأفضل، وقد يكون مقيدا مثل: زيد أفضل من عمرو. وهنا التفضيل مطلق; لأنه قال: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}1 فأسماء الله تعالى بالغة في الحسن أكمله من كل وجه، ليس فيها نقص لا فرضا ولا احتمالا. وما يخبر به عن الله أوسع مما يسمى به الله; لأن الله يخبر عنه بالشيء ويخبر عنه بالمتكلم والمريد، مع أن الشيء لا يتضمن مدحا، والمتكلم والمريد يتضمنان مدحا من وجه، وغير مدح من وجه،
ولا يسمى الله بذلك;
فلا يسمى بالشيء ولا بالمتكلم ولا بالمريد، لكن يخبر بذلك عنه.


وقد سبق لنا مباحث قيمة في أسماء الله تعالى:
الأول: هل أسماء الله تعالى أعلام أو أوصاف؟
الثاني: هل أسماء الله مترادفة أو متباينة؟
الثالث: هل أسماء الله هي الله أو غيره؟
الرابع: أسماء الله توقيفية.
الخامس: أسماء الله غير محصورة بعدد معين.
السادس: أسماء الله إذا كانت متعدية; فإنه يجب أن تؤمن بالاسم والصفة وبالحكم الذي يسمى أحيانا بالأثر، وإن كانت غير متعدية; فإنه يجب أن تؤمن بالاسم والصفة.


السابع: إحصاء أسماء الله معناه:
1- الإحاطة بها لفظا ومعنى.
2- دعاء الله بها; لقوله تعالى: {فَادْعُوهُ بِهَا} وذلك بأن تجعلها



1 سورة الأعراف آية: 180.


ج / 2 ص -315-
وسيلة لك عند الدعاء، فتقول: يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! وما أشبه ذلك.
3- أن تتعبد لله بمقتضاها، فإذا علمت أنه رحيم تتعرض لرحمته، وإذا علمت أنه غفور؛ تتعرض لمغفرته، وإذا علمت أنه سميع اتقيت القول الذي يغضبه، وإذا علمت أنه بصير اجتنبت الفعل الذي لا يرضاه.


قوله: (فادعوه بها): الدعاء هو السؤال، والدعاء قد يكون بلسان المقال، مثل: اللهم! اغفر لي يا غفور وهكذا، أو بلسان الحال وذلك بالتعبد له، ولهذا قال العلماء: إن الدعاء دعاء مسألة ودعاء عبادة; لأن حقيقة الأمر أن المتعبد يرجو بلسان حاله رحمة الله ويخاف عقابه. والأمر بدعاء الله بها يتضمن الأمر بمعرفتها; لأنه لا يمكن دعاء الله بها إلا بعد معرفتها. وهذا خلافا لما قاله بعض المداهنين في وقتنا الحاضر: إن البحث في الأسماء والصفات لا فائدة فيه، ولا حاجة إليه.


أيريدون أن يعبدوا شيئا لا أسماء له ولا صفات؟! أم يريدون أن يداهنوا هؤلاء المحرفين حتى لا يحصل جدل ولا مناظرة معهم؟! وهذا مبدأ خطير أن يقال للناس: لا تبحثوا في الأسماء والصفات، مع أن الله أمرنا بدعائه بها. والأمر للوجوب، ويقتضي وجوب علمنا بأسماء الله، ومعلوم أيضا أننا لا نعلمها أسماء مجردة عن المعاني، بل لا بد أن لها معان، فلا بد أن نبحث فيها; لأن علمها ألفاظا مجردة لا فائدة فيه، وإن قدر أن فيه فائدة بالتعبد باللفظ; فإنه لا يحصل به كمال الفائدة.

واعلم أن دعاء الله بأسمائه له معنيان:
الأول: دعاء العبادة، وذلك بأن تتعبد لله بما تقتضيه تلك الأسماء،


ج / 2 ص -316-
ويطلق على الدعاء عبادة، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}1 ولم يقل: عن دعائي; فدل على أن الدعاء عبادة.
فمثلا: الرحيم يدل على الرحمة، وحينئذ تتطلع إلى أسباب الرحمة وتفعلها. والغفور يدل على المغفرة، وحينئذ تتعرض لمغفرة الله عز وجل بكثرة التوبة والاستغفار كذلك وما أشبه ذلك. والقريب: يقتضي أن تتعرض إلى القرب منه بالصلاة وغيرها، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. والسميع: يقتضي أن تتعبد لله بمقتضى السمع، بحيث لا تسمع الله قولا يغضبه ولا يرضاه منك. والبصير: يقتضي أن تتعبد لله بمقتضى ذلك البصر بحيث لا يرى منك فعلا يكرهه منك.


الثاني: دعاء المسألة، وهو أن تقدمها بين يدي سؤالك متوسلا بها إلى الله تعالى.
مثلا: يا حي! يا قيوم! اغفر لي وارحمني، وقال صلى الله عليه وسلم "فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم"2 والإنسان إذا دعا وعلل; فقد أثنى على ربه بهذا الاسم طالبا أن يكون سببا للإجابة، والتوسل بصفة المدعو المحبوبة له سبب للإجابة; فالثناء على الله بأسمائه من أسباب الإجابة.


قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ}3 (ذروا): اتركوا، (الذين): مفعول به، وجملة يلحدون صلة الموصول. ثم توعدهم


1 سورة غافر آية: 60.
2 أخرجه: البخاري, في (الأذان, باب الدعاء قبل السلام), (1/268), ومسلم في (الذكر والدعاء, باب استحباب خفض الصوت بالذكر), (4/2078); من حديث أبي بكر رضي الله.
3 سورة الأعراف آية: 180.


ج / 2 ص -317-

بقوله: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}1 وهو الإلحاد; أي: سيجزون جزاءه المطابق للعمل تماما، ولهذا يعبر الله تعالى بالعمل عن الجزاء إشارة للعدل، وأنه لا يجزى الإنسان إلا بقدر عمله.
والمعنى: ذروهم; أي: لا تسلكوا مسلكهم ولا طريقهم؛ فإنهم على ضلال وعدوان، وليس المعنى عدم مناصحتهم وبيان الحق لهم; إذ لا يترك الظالم على ظلمه، ويحتمل أن المراد بقوله: (ذروا) تهديدا للملحدين.
والإلحاد: مأخوذ من اللحد، وهو الميل، لحد وألحد بمعنى مال، ومنه سمي الحفر بالقبر لحدا; لأنه مائل إلى جهة القبلة.


والإلحاد في أسماء الله الميل بها عما يجب فيها، وهو أنواع:
الأول: أن ينكر شيئا من الأسماء، أو مما دلت عليه من الصفات، أو الأحكام، ووجه كونه إلحادا أنه مال بها عما يجب لها; إذ الواجب إثباتها وإثبات ما تتضمنه من الصفات والأحكام.


الثاني: أن يثبت لله أسماء لم يسم الله بها نفسه; كقول الفلاسفة في الله: إنه علة فاعلة في هذا الكون تفعل، وهذا الكون معلول لها، وليس هناك إله. وبعضهم يسميه العقل الفعال; فالذي يدير هذا الكون هو العقل الفعال، وكذلك النصارى يسمون الله أبا وهذا إلحاد.

الثالث: أن يجعلها دالة على التشبيه; فيقول: الله سميع بصير قدير، والإنسان سميع بصير قدير، اتفقت هذه الأسماء; فيلزم أن تتفق المسميات، ويكون الله -سبحانه وتعالى- مماثلا للخلق، فيتدرج بتوافق الأسماء إلى التوافق بالصفات.


ووجه الإلحاد: أن أسماءه دالة على معان لائقة بالله لا يمكن أن تكون مشابهة لما تدل عليه من المعاني في المخلوق.


1 سورة الأعراف آية: 180.


ج / 2 ص -318-


الرابع: أن يشتق من هذه الأسماء أسماء للأصنام; كتسمية اللات من الإله أو من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان، حتى يلقوا عليها شيئا من الألوهية؛ ليبرروا ما هم عليه.
واعلم أن التعبير بنفي التمثيل أحسن من التعبير بنفي التشبيه; لوجوه ثلاثة:
1. أنه هو الذي نفاه الله في القرآن; فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}1.


2. أنه ما من شيئين موجودين إلا وبينهما تشابه من بعض الوجوه، واشتراك في المعنى من بعض الوجوه.
فمثلا: الخالق والمخلوق اشتركا في معنى الوجود، لكن وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه، وكذلك العلم والسمع والبصر ونحوها اشترك فيها الخالق والمخلوق في أصل المعنى، ويتميز كل واحد منهما بما يختص به.
3. أن الناس اختلفوا في معنى التشبيه حتى جعل بعضهم إثبات الصفات تشبيها، فيكون معنى بلا تشبيه; أي: بلا إثبات صفات على اصطلاحهم.
قوله تعالى: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}2 لم يقل سيجزون العقاب إشارة إلى أن الجزاء من جنس العمل، وهذا وعيد، وهو كقوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}3 وليس المعنى أن الله عز وجل مشغول الآن، وسيخلفه الفراغ فيما بعد.


قوله: (يعملون): العمل يطلق على القول والفعل،قال تعالى:

1 سورة الشورى آية: 11.
2 سورة الأعراف آية: 180.
3 سورة الرحمن آية: 31.


ج / 2 ص -319- ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس: {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}1 "يشركون".
وعنه: " سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز"2.


{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُوَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}3 وهذا يكون في الأفعال والأقوال.
قول ابن عباس: "يشركون".


تفسير للإلحاد، ويتضمن الإشراك بها من جهتين:
1. أن يجعلوها دالة على المماثلة.
2. أو يشتقوا منها أسماء للأصنام; كما في الرواية الثانية عن ابن عباس التي ذكرها المؤلف، فمن جعلها دالة على المماثلة; فقد أشرك لأنه جعل لله مثيلا، ومن أخذ منها أسماء لأصنامه; فقد أشرك لأنه جعل مسميات هذه الأسماء مشاركة لله عز وجل.
وقوله: "وعنه": أي: ابن عباس.


قوله: "سموا اللات من الإله...": وهذا أحد نوعي الإشراك بها أن يشتق منها أسماء للأصنام.
تنبيه:
فيه كلمة تقولها النساء عندنا وهي: (وعزالي); فما هو المقصود بها؟


1 سورة الأعراف آية: 180.
2 أخرجه: ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" (3/ 149).
3 سورة آية: 7-8.


ج / 2 ص -320- وعن الأعمش: " يدخلون فيها ما ليس منها".


الجواب: المقصود أنها من التعزية; أي: أنها تطلب الصبر والتقوية، وليست تندب العزى التي هي الصنم; لأنها قد لا تعرف أن هناك صنما اسمه العزى، ولا يخطر ببالها هذا، وبعض الناس قال: يجب إنكارها، لأن ظاهر اللفظ أنها تندب العزى، وهذا شرك، ولكن نقول: لو كان هذا هو المقصود لوجب الإنكار، لكنا نعلم علم اليقين أن هذا غير مقصود، بل يقصد بهذا اللفظ التقوي والصبر، والثبات على هذه المصيبة.


قوله: "عن الأعمش: يدخلون فيها ما ليس منها": هذا أحد أنواع الإلحاد، وهو أن يسمى الله بما لم يسم به نفسه، ومن زاد فيها فقد ألحد; لأن الواجب فيها الوقوف على ما جاء به السمع.


تتمة:
جاءت النصوص بالوعيد على الإلحاد في آيات الله تعالى، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا}1 فقوله: {لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} فيه تهديد; لأن المعنى سنعاقبهم، والجملة مؤكدة بإن.


* وآيات الله تنقسم إلى قسمين:
1. آيات كونية، وهي كل المخلوقات؛ من السماوات والأرض والنجوم والجبال والشجر والدواب وغير ذلك، قال الشاعر:

فواعجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد


والإلحاد في الآيات الكونية ثلاثة أنواع:

1 سورة فصلت آية: 40.


ج / 2 ص -321-


1. اعتقاد أن أحدا سوى الله منفرد بها أو ببعضها.
2. اعتقاد أن أحدا مشارك لله فيها.
3. اعتقاد أن لله فيها معينا في إيجادها وخلقها وتدبيرها.
والدليل قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}1 ظهير; أي: معين.

وكل ما يخل بتوحيد الربوبية; فإنه داخل في الإلحاد في الآيات الكونية.
2. آيات شرعية، وهي ما جاءت به الرسل من الوحي كالقرآن، قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}2.


والإلحاد في الآيات الشرعية ثلاثة أنواع:
1. تكذيبها فيما يتعلق بالأخبار.
2. مخالفتها فيما يتعلق بالأحكام.
3. التحريف في الأخبار والأحكام.
والإلحاد في الآيات الكونية والشرعية حرام.
ومنه ما يكون كفرا; كتكذيبها، فمن كذب شيئا مع اعتقاده أن الله ورسوله أخبرا به; فهو كافر.
ومنه ما يكون معصية من الكبائر; كقتل النفس والزنا.


ومنه ما يكون معصية من الصغائر; كالنظر لأجنبية لشهوة.
قال الله تعالى في الحرم: {يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}3 فسمى الله المعاصي والظلم إلحادا; لأنها ميل



1 سورة سبأ آية: 22.
2 سورة العنكبوت آية: 49.
3 سورة الحج آية: 25.


ج / 2 ص -322- فيه مسائل:
الأولى: إثبات الأسماء.
الثانية: كونها حسنى.
الثالثة: الأمر بدعائه بها.
الرابعة: ترك من عارض من الجاهلين الملحدين.

عما يجب أن يكون عليه الإنسان; إذ الواجب عليه السير على صراط الله تعالى، ومن خالف; فقد ألحد.


فيه مسائل:

الأولى:
إثبات الأسماء: يعني لله تعالى، وتؤخذ من قوله: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ} وهذا خبر متضمن لمدلوله من ثبوت الأسماء لله، وفي الجملة حصر لتقديم الخبر، والحصر باعتبار كونها حسنى لا باعتبار الأسماء.
وأنكر الجهمية وغلاة المعتزلة ثبوت الأسماء لله تعالى.
الثانية: كونها حسنى: أي: بلغت في الحسن أكمله; لأن "حسنى" مؤنث أحسن، وهي اسم تفضيل.
الثالثة: الأمر بدعائه بها: والدعاء نوعان: دعاء مسألة، ودعاء عبادة، وكلاهما مأمور فيه أن يدعى الله بهذه الأسماء الحسنى، وسبق تفصيل ذلك1.
الرابعة: ترك من عارض من الجاهلين الملحدين: أي: ترك


1 انظر: (ص 315).


ج / 2 ص -323- الخامسة: تفسير الإلحاد فيها.
السادسة: وعيد من ألحد.


سبيلهم، وليس المعنى أن لا ندعوهم ولا نبين لهم، والآية تتضمن أيضا التهديد.
الخامسة: تفسير الإلحاد فيها: وقد سبق بيان أنواعه.
السادسة: وعيد من ألحد وتؤخذ من قوله تعالى: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}1.


1 سورة الأعراف آية: 180.






المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




رد مع اقتباس
  #54  
قديم 02-02-2015, 01:26PM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم






القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: لايقال: السلام علي الله

ج / 2 ص -324- باب: لايقال: السلام علي الله

هذه الترجمة أتى بها المؤلف بصيغة النفي، وهو محتمل للكراهة والتحريم، لكن استدلاله بالحديث يقتضي أنه للتحريم وهو كذلك.


والسلام له عدة معان:
1. التحية; كما يقال: سلم على فلان; أي: حياه بالسلام.
2. السلامة من النقص والآفات; كقولنا: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته".
3. السلام: اسم من أسماء الله تعالى، قال تعالى: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ}1.
قوله: "لا يقال السلام على الله": أي: لا تقل: السلام عليك يا رب; لما يلي:
أ. أن مثل هذا الدعاء يوهم النقص في حقه، فتدعو الله أن يسلم نفسه من ذلك; إذ لا يدعى لشيء بالسلام من شيء إلا إذا كان قابلا أن يتصف به، والله -سبحانه- منزه عن صفات النقص.


ب. إذا دعوت الله أن يسلم نفسه; فقد خالفت الحقيقة; لأن الله يدعى ولا يدعى له، فهو غني عنا، لكن يثنى عليه بصفات الكمال مثل غفور، سميع، عليم...

1 سورة الحشر آية: 23.

ج / 2 ص -325-


ومناسبة الباب لتوحيد الصفات ظاهرة;
لأن صفاته عليا كاملة كما أن أسماءه حسنى، والدليل على أن صفاته عليا قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى}1 وقوله تعالى: {لَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ(}2 والمثل الأعلى: الوصف الأكمل، فإذا قلنا: السلام على الله أوهم ذلك أن الله -سبحانه- قد يلحقه النقص، وهذا ينافي كمال صفاته.


ومناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة;
لأن موضوع الباب الذي قبله إثبات الأسماء الحسنى لله، المتضمنة لصفاته، وموضوع هذا الباب سلامة صفاته من كل نقص، وهذا يتضمن كمالها; إذ لا يتم الكمال إلا بإثبات صفات الكمال ونفي ما يضادها، فإنك لو قلت: زيد فاضل أثبت له الفضل، وجاز أن يلحقه نقص، وإذا قلت: زيد فاضل ولم يسلك شيئا من طرق السفول; فالآن أثبت له الفضل المطلق في هذه الصفة. والرب -سبحانه وتعالى- يتصف بصفات الكمال، ولكنه إذا ذكر ما يضاد تلك الصفة صار ذلك أكمل، ولهذا أعقب المؤلف رحمه الله الباب السابق بهذا الباب إشارة إلى أن الأسماء الحسنى والصفات العلى لا يلحقها نقص.


والسلام اسم ثبوتي سلبي. فسلبي: أي أنه يراد به نفي كل نقص أو عيب يتصوره الذهن أو يتخيله العقل، فلا يلحقه نقص في ذاته أو صفاته أو أفعاله أو أحكامه. وثبوتي: أي يراد به ثبوت هذا الاسم له، والصفة التي تضمنها وهي السلامة.



1 سورة النحل آية: 60.
2 سورة الروم آية: 27.

ج / 2 ص -326- في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة; قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان......


قوله: "في الصحيح": هذا أعم من أن يكون ثابتا في "الصحيحين"، أو أحدهما، أو غيرهما، وانظر: باب تفسير التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله (1/157)، وهذا الحديث المذكور في "الصحيحين".
قوله: "كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة": الغالب أن المعية مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة لا تكون إلا في الفرائض; لأنها هي التي يشرع لها صلاة الجماعة، ومشروعية صلاة الجماعة في غير الفرائض قليلة; كالاستسقاء.


قوله: "قلنا: السلام على الله من عباده": أي: يطلبون السلامة لله من الآفات، يسألون الله أن يسلم نفسه من الآفات، أو أن اسم السلام على الله من عباده; لأن قول الإنسان السلام عليكم خبر بمعنى الدعاء،

وله معنيان:
1. اسم السلام عليك; أي: عليك بركاته باسمه.
2. السلامة من الله عليك; فهو سلام بمعنى تسليم، ككلام بمعنى تكليم.
قوله: "السلام على فلان وفلان": أي: جبريل وميكائيل، وكلمة فلان يكنى بها عن الشخص، وهي مصروفة; لأنها ليست علما ولا صفة; كصفوان في قوله تعالى: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ}1 وقد جاء في



1 سورة البقرة آية: 264.

ج / 2 ص -327- فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تقولوا: السلام على الله ; فإن الله هو السلام"1.


فيه مسائل:

الأولى: تفسير السلام.
ـــــ
لفظ آخر: "السلام على جبريل وميكال"2، كانوا يقولون هكذا في السلام.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تقولوا: السلام على الله; فإن الله هو السلام"3 وهذا نهي تحريم، والسلام لا يحتاج إلى سلام، هو نفسه عز وجل سلام سالم من كل نقص ومن كل عيب.


وفيه دليل على جواز السلام على الملائكة; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه، ولأنه عليه الصلاة والسلام لما أخبر عائشة أن جبريل يسلم عليها قالت: "عليه السلام"4.

فيه مسائل:

الأولى:
تفسير السلام: فبالنسبة لكونه اسما من أسماء الله معناه السالم من كل نقص وعيب، وبالنسبة لكونه تحية له معنيان:


1 أخرجه: البخاري في (الأذان, باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد, 1/269). وأخرجه أيضا; في (الأذان, باب التشهد في الآخرة, 1/268), ومسلم في (الصلاة, باب التشهد في الصلاة بلفظ: "إن الله هو السلام, فإذا صلى أحدكم; فليقل: التحيات لله...", 1/301).


2 أخرجه: البخاري في (الأذان, باب التشهد في الآخرة, 1/268).
3 البخاري: الأذان (835), ومسلم: الصلاة (402), والنسائي: التطبيق (1168, 1169) والسهو (1298), وأبو داود: الصلاة (968), وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (899), وأحمد (1/431 ,1/464) , والدارمي: الصلاة (1340).


4 حديث عائشة رضي الله عنها; قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا جبريل يقرأ عليك السلام. قالت: قلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته. أخرجه: البخاري في (بدء الخلق, باب ذكر الملائكة, 11/33), ومسلم في (الاستئذان باب تسليم الرجال على النساء, 4/1895).

ج / 2 ص -328- الثانية: أنه تحية.
الثالثة: أنها لا تصلح لله.
الرابعة: العلة في ذلك.
الخامسة: تعليمهم التحية التي تصلح لله

الأول: تقدير مضاف; أي: اسم السلام عليك; أي: اسم الله الذي هو السلام عليك.
الثاني: أن السلام بمعنى التسليم اسم مصدر كالكلام بمعنى التكليم، أي: تخبر خبرا يراد به الدعاء; أي: أسأل الله أن يسلمك تسليما.
الثانية: أنه تحية: وسبق ذلك.
الثالثة: أنها لا تصلح لله: وإذا كانت لا تصلح له كانت حراما.
الرابعة: العلة في ذلك: وهي أن الله هو السلام، وقد سبق بيانها.
الخامسة: تعليمهم التحية التي تصلح لله: وتؤخذ من تكملة الحديث: "فإذا صلى أحدكم، فليقل: التحيات لله...".


وفيه حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم من وجهين:
الأول: أنه حينما نهاهم علل النهي.

وفي ذلك فوائد:
1. طمأنينة الإنسان إلى الحكم إذا قرن بالعلة.
2. بيان سمو الشريعة الإسلامية، وأن أوامرها ونواهيها مقرونة بالحكمة; لأن العلة حكمة

ج / 2 ص -329-
ـ
3. القياس على ما شارك الحكم المعلل بتلك العلة.
الثاني: أنه حين نهاهم عن ذلك بين لهم ما يباح لهم; فيؤخذ منه أن المتكلم إذا ذكر ما ينهى عنه فليذكر ما يقوم مقامه مما هو مباح، ولهذا شواهد كثيرة من القرآن والسنة سبق شيء منها.


ويستفاد من الحديث:
أنه لا يجوز الإقرار على المحرم ; لقوله: "لا تقولوا: السلام على الله"، وهذا واجب على كل مسلم، ويجب على العلماء بيان الأمور الشرعية؛ لئلا يستمر الناس فيما لا يجوز، ويرون أنه جائز، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ}1.


1 سورة آل عمران آية: 187.




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979



رد مع اقتباس
  #55  
قديم 02-02-2015, 01:36PM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: قول: اللهم اغفر لي إن شئت

ج / 2 ص -330- باب: قول: اللهم اغفر لي إن شئت

في الصحيح عن أبي هريرة; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:.....


قوله: "باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت": عقد المؤلف هذا الباب لما تضمنه هذا الحديث من كمال سلطان الله وكمال جوده وفضله، وذلك من صفات الكمال.
قوله: "اللهم!"; معناه: يا الله! لكن لكثرة الاستعمال حذفت يا النداء، وعوض عنها الميم، وجعل العوض في الآخر تيمنا بالابتداء بذكر الله.
قوله: "اغفر لي": المغفرة: ستر الذنب مع التجاوز عنه; لأنها مشتقة من المغفر، وهو ما يستر به الرأس للوقاية من السهام، وهذا لا يكون إلا بشيء ساتر واق، ويدل له قول الله عز وجل للعبد المؤمن حينما يخلو به، ويقرره بذنوبه يوم القيامة: "قد سترتها عليك في الدنيا وأنا اغفرها لك اليوم"1
قوله: "إن شئت": أي: إن شئت أن تغفر لي فاغفر، وإن شئت فلا تغفر.


قوله: "في الصحيح": سبق الكلام على مثل هذه العبارة في كلام المؤلف، والمراد هنا الحديث الصحيح; لأن الحديث في "الصحيحين" كليهما.


1 أخرجه البخاري في (التفسير, باب وكان عرشه على الماء, 4680), ومسلم في (التوبة, باب توبة القاتل, 2768); عن ابن عمر رضي الله عنهما.


ج / 2 ص -331- "لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ليعزم المسألة; فإن الله لا مكره له"1.

ــــ
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقل أحدكم": لا: ناهية بدليل جزم الفعل بعدها.
قوله: "اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني": ففي الجملة الأولى: "اغفر لي" النجاة من المكروه، وفي الثانية: "ارحمني" الوصول إلى المطلوب; فيكون هذا الدعاء شاملا لكل ما فيه حصول المطلوب وزوال المكروه.
قوله: "ليعزم المسألة": اللام لام الأمر، ومعنى عزم المسألة: أن لا يكون في تردد، بل يعزم بدون تردد ولا تعليق.


و"المسألة": السؤال; أي: ليعزم في سؤاله فلا يكون مترددا بقوله: إن شئت.
قوله: "فإن الله لا مكره له": تعليل للنهي عن قول: "اللهم! اغفر لي إن شئت، اللهم! ارحمني إن شئت"; أي: لا أحد يكرهه على ما يريد فيمنعه منه، أو ما لا يريد فيلزمه بفعله; لأن الأمر كله لله وحده.


والمحظور في هذا التعليق من وجوه ثلاثة:
الأول: أنه يشعر بأن الله له مكره على الشيء، وأن وراءه من يستطيع أن يمنعه، فكأن الداعي بهذه الكيفية يقول: أنا لا أكرهك، إن شئت فاغفر، وإن شئت فلا تغفر.
الثاني: أن قول القائل: "إن شئت" كأنه يرى أن هذا أمر عظيم على الله، فقد لا يشاؤه لكونه عظيما عنده، ونظير ذلك أن تقول لشخص من الناس -والمثال للصورة بالصورة لا للحقيقة بالحقيقة-: أعطني مليون



1 أخرجه: البخاري في (الدعوات, باب ليعزم المسألة, 4/ 160), ومسلم في (الذكر والدعاء, باب العزم بالدعاء, 4/ 2063).


ج / 2 ص -332- ولمسلم: "وليعظم الرغبة; فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه"1.

ــ
ريال إن شئت، فإنك إذا قلت له ذلك; ربما يكون الشيء عظيما يتثاقله، فقولك: إن شئت; لأجل أن تهون عليه المسألة; فالله عز وجل لا يحتاج أن تقول له: إن شئت; لأنه -سبحانه وتعالى- لا يتعاظمه شيء أعطاه، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "وليعظم الرغبة; فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه".


"وليعظم الرغبة"; أي: ليسأل ما شاء من قليل وكثير ولا يقل: هذا كثير لا أسأل الله إياه، ولهذا قال: "فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه"; أي: لا يكون الشيء عظيما عنده حتى يمنعه ويبخل به - سبحانه وتعالى- كل شيء يعطيه، فإنه ليس عظيما عنده; فالله عز وجل يبعث الخلق بكلمة واحدة، وهذا أمر عظيم، لكنه يسير عليه، قال تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}2 وليس بعظيم; فكل ما يعطيه الله عز وجل لأحد من خلقه فليس بعظيم يتعاظمه; أي: لا يكون الشيء عظيما عنده حتى لا يعطيه، بل كل شيء عنده هين.


الثالث: أنه يشعر بأن الطالب مستغن عن الله، كأنه يقول: إن شئت فافعل، وإن شئت فلا تفعل فأنا لا يهمني، ولهذا قال: "وليعظم الرغبة"; أي: يسأل برغبة عظيمة، والتعليق ينافي ذلك; لأن المعلق للشيء المطلوب يشعر تعليقه بأنه مستغن عنه، والإنسان ينبغي أن يدعو الله تعالى وهو يشعر أنه مفتقر إليه غاية الافتقار، وأن الله قادر على أن يعطيه ما سأل، وأن الله ليس يعظم عليه شيء، بل هو هين عليه، إذا من آداب الدعاء أن لا يدعو بهذه الصيغة، بل يجزم فيقول: اللهم! اغفر لي،



1 انظر الموضع السابق (ص 331).
2 سورة التغابن آية: 7.


ج / 2 ص -333-


اللهم! ارحمني، اللهم! وفقني، وما أشبه ذلك، وهل يجزم بالإجابة؟
الجواب: إذا كان الأمر عائدا إلى قدرة الله; فهذا يجب أن تجزم بأن الله قادر على ذلك، قال الله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}1. أما من حيث دعائك أنت باعتبار ما عندك من الموانع، أو عدم توافر الأسباب; فإنك قد تتردد في الإجابة، ومع ذلك ينبغي أن لحسن الظن بالله; لأن الله عز وجل قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}2 فالذي وفقك لدعائه أولا سيمن عليك بالإجابة آخرا، لا سيما إذا أتى الإنسان بأسباب الإجابة وتجنب الموانع، ومن الموانع الاعتداء في الدعاء، كأن يدعو بإثم أو قطيعة رحم.


ومنها أن يدعو بما لا يمكن شرعا أو قدرا; فشرعا كأن يقول: اللهم! اجعلني نبيا. وقدرا بأن يدعو الله تعالى بأن يجمع بين النقيضين، وهذا أمر لا يمكن; فالاعتداء بالدعاء مانع من إجابته، وهو محرم، لقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}3 وهو أشبه ما يكون بالاستهزاء بالله -سبحانه-.


مناسبة الباب للتوحيد

من وجهين:
1. من جهة الربوبية، فإن من أتى بما يشعر بأن الله له مكره لم يقم بتمام ربوبيته تعالى; لأن من تمام الربوبية أنه لا مكره له، بل إنه لا يسأل عما يفعل; كما قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}4 وكذلك فيه نقص من ناحية الربوبية من جهة أخرى، وهو أن الله يتعاظم الأشياء التي يعطيها; فكان فيه قدح في جوده وكرمه.
2. من ناحية العبد; فإنه يشعر باستغنائه عن ربه، وهذا نقص في



1 سورة غافر آية: 60.
2 سورة غافر آية: 60.
3 سورة الأعراف آية: 55.
4 سورة الأنبياء آية: 23.


ج / 2 ص -334-


توحيد الإنسان، سواء من جهة الألوهية أو الربوبية أو الأسماء والصفات، ولهذا ذكره المصنف في الباب الذي يتعلق بالأسماء والصفات.


فإن قلت: ما الجواب عما ورد في دعاء الاستخارة: "اللهم! إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم; فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم! إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري; فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري; فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به"1 وكذا ما ورد في الحديث المشهور: "اللهم! أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي"2 ؟


فالجواب: أنني لم أعلق هذا بالمشيئة، ما قلت: فاقدره لي إن شئت، لكن لا أعلم أن هذا خير لي أو شر، والله يعلم; فأقول: إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي فاقدره لي; فالتعليق فيه لأمر مجهول عندي، لا أعلم هل هو خير لي أو لا؟ وكذا بالنسبة للحديث الآخر; لأن الإنسان لا يعلم هل طول حياته خير أو شر؟ ولهذا كره أهل العلم أن تقول للشخص: أطال الله بقاءك; لأن طول البقاء لا يعلم; فقد يكون خيرا، وقد يكون شرا، ولكن يقال: أطال الله بقاءك على طاعته وما أشبه ذلك حتى يكون الدعاء خيرا بكل حال، وعلى هذا; فلا يكون في حديث الباب معارضة لحديث الاستخارة ولا حديث: "اللهم! أحيني ما كانت



1 أخرجه: البخاري في (التوحيد, باب قول الله تعالى: قل هو القادر , 4/382); من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
2 أخرجه: البخاري في (المرضى, باب تمني المريض الموت, 4/30); من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.



ج / 2 ص -335- فيه مسائل:
الأولى:
النهي عن الاستثناء في الدعاء.
الثانية: بيان العلة في ذلك.

ــ
الحياة خيرا لي"؛ لأن الدعاء مجزوم به وليس معلقا بالمشيئة، والنهي إنما هو عما كان معلقا بالمشيئة. لكن لو قال: اللهم! اغفر لي إن أردت، وليس إن شئت; فالحكم واحد لأن الإرادة هنا كونية، فهي بمعنى المشيئة; فالخلاف باللفظ لا يعتبر مؤثرا بالحكم.


فيه مسائل:

الأولى: النهي عن الاستثناء في الدعاء: والمراد بالاستثناء هنا الشرط، فإن الشرط يسمى استثناء بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير: "حجي واشترطي; فإن لك على ربك ما استثنيت"1 ووجهه أنك إذا قلت: أكرم زيدا إن أكرمك; فهو كقولك: أكرم زيدا إلا ألا يكرمك; فهو بمعنى الاستثناء في الحقيقة.

الثانية: بيان العلة في ذلك:

وقد سبق أنها ثلاث علل:
1. أنها تشعر بأن الله له مكره، والأمر ليس كذلك.

1 أخرجه البخاري في (النكاح, باب الأكفاء في الدين, 3/360), ومسلم في (الحج, باب جواز اشتراط المحرم, 2/868). وقوله صلى الله عليه وسلم: فإن لك على ربك ما استثنيت, أخرجه: النسائي في (المناسك, باب كيف يقول إذا اشترط, 5/168), والدارمي (2/ 34- 35), وأبو نعيم (9/224). وهو صحيح كما في "الإرواء" (4/186).


ج / 2 ص -336- الثالثة: قوله: (ليعزم المسألة).
الرابعة: إعظام الرغبة.
الخامسة: التعليل لهذا الأمر.

ـ
2. أنها تشعر بأن هذا أمر عظيم على الله، قد يثقل عليه، ويعجز عنه، والأمر ليس كذلك.
3. أنها تشعر باستغناء الإنسان عن الله، وهذا غير لائق، وليس من الأدب.
الثالثة: قوله: "ليعزم المسألة": تفيد أنك إذا سألت فاعزم ولا تتردد.
الرابعة: إعظام الرغبة: لقوله صلى الله عليه وسلم: "وليعظم الرغبة" أي: ليسأل ما بدا له، فلا شيء عزيز أو ممتنع على الله.
الخامسة: التعليل لهذا الأمر: يستفاد من قوله: "فإن الله لا يتعاظمه شيء، أو لا مكره له"1 وقوله: "وليعظم الرغبة"، وفي هذا حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شيئا قرنه بعلته.


وفي ذكر علة الحكم فوائد:
الأولى: بيان سمو هذه الشريعة، وأنه ما من شيء تحكم به إلا وله علة وحكمة.
الثانية: زيادة طمأنينة الإنسان; لأنه إذا فهم العلة مع الحكم اطمأن، ولهذا لما سئل صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر لم يقل حلال أو حرام، بل قال: "أينقص إذا جف؟ قالوا: نعم فنهى عنه"2.



1 البخاري: الدعوات (6339) والتوحيد (7477) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2679) , والترمذي: الدعوات (3497) , وأبو داود: الصلاة (1483) , وابن ماجه: الدعاء (3854) , وأحمد (2/243 ,2/318 ,2/457 ,2/463 ,2/486 ,2/500 ,2/530) , ومالك: النداء للصلاة (494).
2 أخرجه: الإمام أحمد (1/ 175, 176), وأبو داود في (البيوع, باب في التمر بالتمر, 3/654- 657), والترمذي في (البيوع, باب في النهي عن المحاقلة, 4/221)- وقال: "حسن صحيح"-, والنسائي في (البيوع, باب اشتراء التمر بالرطب, 7/269), وابن ماجه في (التجارات, باب بيع الرطب بالتمر, 2/761), ومالك في "الموطأ" في (البيوع, باب ما يكره من بيع التمر, 2/624), والشافعي في "الرسالة" (907), وكذا أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/38) وصححه من حديث سعد بن أبي وقاص.


ج / 2 ص -337-


"والرجل الذي قال: إن امرأتي ولدت غلاما أسود -لم يقل صلى الله عليه وسلم الولد لك-، بل قال: "هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حمر قال: هل فيها من أورق"1 -الأورق: الأشهب الذي بين البياض والسواد-؟ "قال: نعم. قال: من أين؟ قال: لعله نزعة عرق، قال: لعل ابنك نزعه عرق"2 فاطمأن، وعرف الحكم، وأن هذا هو الواقع; فقرن الحكم بالعلة يوجب الطمأنينة، ومحبة الشريعة، والرغبة فيها.


الثالثة: القياس، إذا كانت المسألة في حكم من الأحكام، فيلحق بها ما شاركها في العلة.



1 البخاري: الطلاق (5305), ومسلم: اللعان (1500), والترمذي: الولاء والهبة (2128), والنسائي: الطلاق (3478 ,3479) , وأبو داود: الطلاق (2260) , وابن ماجه: النكاح (2002) , وأحمد (2/233 ,2/239 ,2/279 ,2/409).
2 أخرجه: البخاري في (الطلاق, باب إذا عرض بنفي الولد, 3/413), ومسلم في (اللعان, 2/1137); من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




رد مع اقتباس
  #56  
قديم 02-02-2015, 01:46PM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: لا يقول: عبدي وأمتي

ج / 2 ص -338- باب: لا يقول: عبدي وأمتي


في الصحيح عن أبي هريرة; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك،......

هذه الترجمة تحتمل كراهة هذا القول وتحريمه، وقد اختلف العلماء في ذلك، وسيأتي التفصيل فيه.
قوله: "في الصحيح": سبق التنبيه على مثل هذه العبارة في كلام المؤلف، وهذا الحديث في "الصحيحين"; فيكون المراد بقوله "في الصحيح"; أي: في الحديث الصحيح، ولعله أراد "صحيح البخاري"; لأن هذا لفظه، أما لفظ مسلم; فيختلف عنه.
قوله صلى الله عليه وسلم "لا يقل": الجملة نهي. "عبدي"; أي: للغلام. و"أمتي"; أي: للجارية.


والحكم في ذلك ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يضيفه إلى غيره، مثل أن يقول: عبد فلان أو أمة فلان; فهذا جائز، قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}1 وقال النبي صلى الله عليه وسلم "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة"2.
1. الثاني: أن يضيفه إلى نفسه، وله صورتان:


1 سورة النور آية: 32.
2 أخرجه: البخاري في (الزكاة, باب ليس على المسلم في عبده صدقة, 1/ 454), ومسلم في (الزكاة, باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه, 2/ 675); من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -339-


الأولى: أن يكون بصيغة الخبر، مثل: أطعمت عبدي، كسوت عبدي، أعتقت عبدي، فإن قاله في غيبة العبد أو الأمة; فلا بأس به، وإن قاله في حضرة العبد أو الأمة; فإن ترتب عليه مفسدة تتعلق بالعبد أو السيد منع، وإلا; فلا لأن قائل ذلك لا يقصد العبودية التي هي الذل، وإنما يقصد أنه مملوك.
الثانية: أن يكون بصيغة النداء، فيقول السيد: يا عبدي! هات كذا; فهذا منهي عنه.


وقد اختلف العلماء في النهي: هل هو للكراهة أو التحريم; والراجح التفصيل في ذلك، وأقل أحواله الكراهة.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك... إلخ": أي: لا يقل أحدكم لعبد غيره، ويحتمل أن يشمل قول السيد لعبده، حيث يضع الظاهر موضع المضمر تعاظما.
واعلم أن إضافة الرب إلى غير الله تعالى تنقسم إلى أقسام:
القسم الأول: أن تكون الإضافة إلى ضمير المخاطب; مثل: أطعم ربك، وضئ ربك; فيكره ذلك للنهي عنه;

لأن فيه محذورين:

1. من جهة الصيغة: أنه يوهم معنى فاسدا بالنسبة لكلمة رب; لأن الرب من أسمائه سبحانه، وهو سبحانه يطعم ولا يطعم، وإن كان بلا شك أن الرب هنا غير رب العالمين الذي يطعم ولا يطعم، ولكن من باب الأدب في اللفظ.
2. من جهة المعنى أنه يشعر العبد أو الأمة بالذل; لأنه إذا كان السيد ربا كان العبد أو الأمة مربوبا.


القسم الثاني: أن تكون الإضافة إلى ضمير الغائب; فهذا لا بأس به;


ج / 2 ص -340-


كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أشراط الساعة: "أن تلد الأمة ربها"1 وأما لفظ: "ربتها"2 فلا إشكال فيه لوجود تاء التأنيث، فلا اشتراك مع الله في اللفظ; لأن الله لا يقال له إلا رب، وفي حديث الضالة -وهو متفق عليه-: "حتى يجدها ربها"3، وقال بعض أهل العلم: إن حديث الضالة في بهيمة لا تتعبد ولا تتذلل; فليست كالإنسان، والصحيح عدم الفارق; لأن البهيمة تعبد الله عبادة خاصة، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ}4 وقال في الناس: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} ليس جميعهم: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ}5 وعلى هذا; فيجوز أن تقول: أطعم الرقيق ربه، ونحوه...


القسم الثالث: أن تكون الإضافة إلى ضمير المتكلم، بأن يقول العبد: هذا ربي; فهل يجوز هذا؟
قد يقول قائل: إن هذا جائز; لأن هذا من العبد لسيده، وقد قال تعالى عن صاحب يوسف: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}6 أي: سيدي، ولأن المحذور من قوله: (ربي) هو إذلال العبد، وهذا منتف; لأنه هو بنفسه يقول: هذا ربي.
القسم الرابع: أن يضاف إلى الاسم الظاهر، فيقال: هذا رب الغلام; فظاهر الحديث الجواز، وهو كذلك ما لم يوجد محذور فيمنع، كما لو ظن السامع أن السيد رب حقيقي خالق ونحو ذلك.



1 أخرجه البخاري في (الإيمان, باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم, 1/33), ومسلم في (الإيمان, باب بيان الإيمان, 1/39).
2 أخرجه البخاري في (التفسير, باب إن الله عنده علم الساعة , 3/275), ومسلم في (الإيمان, باب بيان الإيمان, 1/36).
3 أخرجه: البخاري في (المساقاة, باب شرب الناس والدواب من الأنهار, 2/167), ومسلم في (اللقطة, 3/1346); من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.
4 سورة الحج آية: 18.
5 سورة الحج آية: 18.
6 سورة يوسف آية: 23.


ج / 2 ص -341- وليقل: سيدي ومولاي."1....


قوله: "وليقل: سيدي ومولاي": المتوقع أن يقول: وليقل سيدك ومولاك; لأن مقتضى الحال أن يرشد إلى ما يكون بدلا عن اللفظ المنهي عنه بما يطابقه، وهنا ورد النهي بلفظ الخطاب، والإرشاد بلفظ التكلم، وليقل: "سيدي ومولاي"; ففهم المؤلف رحمه الله -كما سيأتي في المسائل- أن فيه إشارة إلى أنه إذا كان الغير قد نهي أن يقول للعبد: أطعم ربك; فالعبد من باب أولى أن ينهى عن قول: أطعمت ربي، وضأت ربي، بل يقول: سيدي ومولاي.


وأما إذا قلنا بأن "أطعم ربك" خاص بمن يخاطب العبد؛ لما فيه من إذلال العبد بخلاف ما إذا قال هو بنفسه: أطعمت ربي، فإنه ينتفي الإذلال; فإنه يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما وجه الخطاب لمن يخاطب العبد، وجه الخطاب إلى العبد نفسه، فقال: "وليقل: سيدي ومولاي"، أي بدلا عن قوله: أطعمت ربي، وضأت ربي.


قوله: "سيدي": السيادة في الأصل علو المنزلة; لأنها من السؤدد والشرف والجاه وما أشبه ذلك.
والسيد يطلق على معان، منها: المالك، والزوج، والشريف المطاع.
وسيدي هنا مضافة إلى ياء المتكلم، وليست على وجه الإطلاق؛ فالسيد على وجه الإطلاق لا يقال إلا لله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: "السيد الله"2 وأما السيد مضافة; فإنها تكون لغير الله، قال تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ}



1 البخاري: العتق (2552) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2249).
2 أخرجه: أحمد (4/24, 35), والبخاري في "الأدب المفرد" (211), وأبو داود في (الأدب, باب في كراهة التمادح, 5/154), والنسائي في "عمل اليوم والليلة"; كما في "تحفة الأشراف" (4/360), وابن السني (389), والبيهقي في "الأسماء والصفات" (ص 22); من حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه. وقال ابن مفلح في "الآداب" (3/464): "إسناده جيد", وقال الحافظ في "الفتح" (5/179): "رجاله ثقات", وقد صححه غير واحد, وصححه صاحب "عون المعبود" (4/402).
3 سورة يوسف آية: 25.


ج / 2 ص -342-


وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة"1، والفقهاء يقولون: إذا قال السيد لعبده; أي: سيد العبد لعبده.
تنبيه: اشتهر عند بعض الناس إطلاق السيدة على المرأة، فيقولون مثلا: هذا خاص بالرجال، وهذا خاص بالسيدات، وهذا قلب للحقائق; لأن السادة هم الرجال، قال تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ}2 وقال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}3 وقال صلى الله عليه وسلم "إن النساء عوان عندكم"4 أي: بمنزلة الأسير، وقال في الرجل: "راع في أهله ومسئول عن رعيته"5، فالصواب أن يقال للواحدة امرأة، وللجماعة منهن نساء.


قوله: "ومولاي": أي: وليقل مولاي،

والولاية تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ولاية مطلقة، وهذه لله عز وجل، لا تصلح لغيره; كالسيادة المطلقة.
وولاية الله نوعان:
النوع الأول: عامة، وهي الشاملة لكل أحد، قال الله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}6 فجعل له ولاية على هؤلاء المفترين، وهذه ولاية عامة.



1 سبق (1/269).
2 سورة يوسف آية: 25.
3 سورة النساء آية: 34.
4 أخرجه: الإمام أحمد (5/72), والترمذي في (الرضاع, باب في حق المرأة على زوجها, 4/143, 144)- وقال: "حسن صحيح"-, وابن ماجه في (النكاح: باب حق المرأة على زوجها, 1/594), والنسائي في "الكبرى" في (كتاب عشرة النساء); من حديث عمرو بن الأحوص الجشمي رضي الله عنه.
5 أخرجه: البخاري في (الجمعة, باب الجمعة في القرى, 1/285), ومسلم في (الإمارة, باب فضيلة الإمام العادل, 3/1459); من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
6 سورة الأنعام آية: 62.


ج / 2 ص -343-


النوع الثاني: خاصة بالمؤمنين، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ}1 وهذه ولاية خاصة، ومقتضى السياق أن يقال: وليس مولى الكافرين، لكن قال: {لا مَوْلَى لَهُمْ} أي: لا هو مولى للكافرين، ولا أولياؤهم الذين يتخذونهم آلهة من دون الله موالي لهم لأنهم يوم القيامة يتبرءون منهم.


القسم الثاني: ولاية مقيدة مضافة; فهذه تكون لغير الله، ولها في اللغة معان كثيرة، منها: الناصر، والمتولي للأمور، والسيد، والعتيق.
قال تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}2 وقال صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه: "من كنت مولاه; فعلي مولاه"3 وقال صلى الله عليه وسلم "إنما الولاء لمن أعتق"4 ويقال للسلطان ولي الأمر، وللعتيق مولى فلان لمن أعتقه، وعليه يعرف أنه لا وجه لاستنكار بعض الناس لمن خاطب ملكا بقوله: مولاي; لأن المراد



1 سورة محمد آية: 11.
2 سورة التحريم آية: 4.
3 أخرجه: الإمام أحمد (1/ 84, 118, 119, 152), وابن حبان (ص 544); عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وأخرجه أحمد (5/368, 370), وابن ماجه في (المقدمة, فضل علي ابن أبي طالب, 1/43); عن البراء بن عازب. وفيه علي بن زيد, وهو ضعيف; كما في "الزوائد". وأخرجه: أحمد (4/638), والترمذي في "المناقب" (مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه, 9/300)- وقال: "حسن, صحيح, غريب"-, والنسائي في "الخصائص" (ص 21), والحاكم (3/110), والدولابي في "الكنى" (2/61); عن زيد بن أرقم. وأخرجه: أحمد (5/347), والنسائي في "الخصائص" (ص 21) ; عن بريدة. وانظر: "مجمع الزوائد (9/103). وإسناده صحيح. وانظر: "فيض القدير" (6/218).
4 أخرجه: البخاري في (المكاتب, باب استعانة المكاتب, 2/225), ومسلم في (العتق, باب إنما الولاء لمن أعتق, 2/1141); من حديث عائشة.


ج / 2 ص -344- ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي......


بمولاي أي متولي أمري، ولا شك أن رئيس الدولة يتولى أمورها; كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}1.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي"2 هذا خطاب للسيد أن لا يقول: عبدي وأمتي لمملوكه ومملوكته; لأننا جميعا عباد الله، ونساؤنا إماء الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"3 فالسيد منهي أن يقول ذلك، لأنه إذا قال: عبدي وأمتي فقد تشبه بالله عز وجل، ولو من حيث ظاهر اللفظ; لأن الله عز وجل يخاطب عباده بقوله: عبدي، كما في الحديث: "عبدي استطعمتك فلم تطعمني..."4 وما أشبه ذلك.


وإن كان السيد يريد بقوله: "عبدي"; أي: مملوكي; فالنهي من باب التنزه عن اللفظ الذي يوهم الإشراك، وقد سبق بيان حكم ذلك.5
وقوله: "وأمتي": الأمة; الأنثى من المملوكات، وتسمى الجارية.
والعلة من النهي: أن فيه إشعارا بالعبودية، وكل هذا من باب حماية التوحيد، والبعد عن التشريك حتى في اللفظ، ولهذا ذهب بعض أهل العلم، ومنهم شيخنا عبد الرحمن السعدي رحمه الله إلى أن النهي في الحديث ليس على سبيل التحريم، وأنه على سبيل الأدب والأفضل والأكمل، وقد سبق بيان حكم ذلك مفصلا.



1 سورة النساء آية: 59.
2 البخاري: العتق (2552) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2249) , وأبو داود: الأدب (4975) , وأحمد (2/316).
3 أخرجه: البخاري في (الجمعة, باب حدثنا عبد الله بن محمد, 1/286), ومسلم في (الصلاة, باب خروج النساء, 1/327); عن ابن عمر رضي الله عنهما.
4 أخرجه: مسلم في (البر والصلة, باب فضل عيادة المريض, 4/1990); عن أبي هريرة رضي الله عنه.
5 انظر: (ص 338).


ج / 2 ص -345- وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي"1.


قوله: "وليقل: فتاي وفتاتي": مثله جاريتي وغلامي; فلا بأس به.


وفي هذا الحديث من الفوائد:
1- حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ حيث إنه إذا نهى عن شيء فتح للناس ما يباح لهم، فقال: "لا يقل: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي"2 وهذه كما هي طريقة النبي صلى الله عليه وسلم فهي طريقة القرآن أيضا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا}3، وهكذا ينبغي أيضا لأهل العلم وأهل الدعوة إذا سدوا على الناس بابا محرما، أن يفتحوا لهم الباب المباح، حتى لا يضيقوا على الناس ويسدوا الطرق أمامهم; لأن في ذلك

فائدتين عظيمتين:
الأولى: تسهيل ترك المحرم على هؤلاء; لأنهم إذا عرفوا أن هناك بدلا عنه هان عليهم تركه.
الثانية: بيان أن الدين الإسلامي فيه سعة، وأن كل ما يحتاج إليه الناس; فإن الدين الإسلامي يسعه، فلا يحكم على الناس أن لا يتكلموا بشيء، أو لا يفعلوا شيئا إلا وفتح لهم ما يغني عنه، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية.


2- أن الأمر يأتي للإباحة; لقوله: "وليقل: سيدي ومولاي"، وقد قال العلماء: إن الأمر إذا أتى في مقابلة شيء ممنوع صار للإباحة، وهنا جاء الأمر في مقابلة شيء ممنوع، ومثله قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}4.



1 أخرجه: البخاري في (العتق, باب كراهة التطاول على الرقيق, 2/221), ومسلم في (الأدب, باب حكم إطلاق لفظ العبد والأمة, 4/1765).
2 البخاري: العتق (2552) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2249) , وأبو داود: الأدب (4975) , وأحمد (2/316 ,2/423 ,2/444 ,2/463 ,2/484 ,2/491 ,2/496 ,2/508).
3 سورة البقرة آية: 104.
4 سورة المائدة آية: 2.



ج / 2 ص -346- فيه مسائل:
الأولى: النهي عن قول: عبدي وأمتي.
الثانية: لا يقول العبد: ربي، ولا يقال له: أطعم ربك.
الثالثة: تعليم الأول قول: فتاي وفتاتي وغلامي.
الرابعة: تعليم الثاني قول: سيدي ومولاي.
الخامسة: التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد، حتى في الألفاظ.


فيه مسائل:
الأولى: النهي عن قول: "عبدي وأمتي": تؤخذ من قوله: "ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي"1 وقد سبق بيان ذلك.
الثانية: لا يقول العبد: ربي، ولا يقال له: أطعم ربك: تؤخذ من الحديث، وقد سبق بيان ذلك.
الثالثة: تعليم الأول (وهو السيد) قول: فتاي، وفتاتي، وغلامي.
الرابعة: تعليم الثاني (وهو العبد) قول: سيدي، ومولاي.
الخامسة: التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ: وقد سبق ذلك.
وفي الباب مسائل أخرى لكن هذه المسائل هي المقصود.



1 البخاري: العتق (2552) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2249) , وأبو داود: الأدب (4975) , وأحمد (2/316).





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




رد مع اقتباس
  #57  
قديم 02-02-2015, 01:57PM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: لا يرد من سأل بالله

ج / 2 ص -347- باب: لا يرد من سأل بالله

ـ
قوله: "باب لا يرد": "لا": نافية بدليل رفع المضارع بعدها، والنفي يحتمل أن يكون للكراهة، وأن يكون للتحريم.
قوله: "من سأل بالله": أي: من سأل غيره بالله.


والسؤال بالله ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: السؤال بالله بالصيغة، مثل أن يقول: أسألك بالله كما تقدم في حديث الثلاثة حيث قال الملك: "أسألك بالذي أعطاك الجلد الحسن واللون الحسن بعيرا"1.
الثاني: السؤال بشرع الله عز وجل أي: يسأل سؤالا يبيحه الشرع; كسؤال الفقير من الصدقة، والسؤال عن مسألة من العلم، وما شابه ذلك.
وحكم رد من سأل بالله الكراهة أو التحريم حسب حال المسئول والسائل،


وهنا عدة مسائل:
المسألة الأولى: هل يجوز للإنسان أن يسأل بالله أم لا؟
وهذه المسألة لم يتطرق إليها المؤلف رحمه الله; فنقول
أولا: السؤال من حيث هو مكروه ولا ينبغي للإنسان أن يسأل أحدا شيئا إلا إذا دعت الحاجة إلى



1 سبق (ص 289).


ج / 2 ص -348-

ــ
ذلك، ولهذا كان مما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئا، حتى إن عصا أحدهم ليسقط منه وهو على راحلته; فلا، يقول لأحد: ناولنيه، بل ينزل ويأخذه1. والمعنى يقتضيه; لأنك إذا أعززت نفسك ولم تذلها لسؤال الناس بقيت محترما عند الناس، وصار لك منعة من أن تذل وجهك لأحد; لأن من أذل وجهه لأحد; فإنه ربما يحتاجه ذلك الأحد لأمر يكره أن يعطيه إياه، ولكنه إذا سأله اضطر إلى أن يجيبه، ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ازهد فيما عند الناس يحبك الناس"2 فالسؤال أصلا مكروه أو محرم إلا لحاجة أو ضرورة. فسؤال المال محرم، فلا يجوز أن يسأل من أحد مالا إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك، وقال الفقهاء رحمهم الله في باب الزكاة: "إن من أبيح له أخذ شيء أبيح له سؤاله"، ولكن فيما قالوه نظر; فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر من السؤال، وقال: "إن الإنسان لا يزال يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وما في وجهه



1 أخرجه مسلم في (الزكاة, باب كراهة المسألة للناس, 2/721); عن عوف بن مالك رضي الله عنه.
2 أخرجه ابن ماجه في (الزهد, باب الزهد في الدنيا, 2/1374). وقال في "الزوائد": "في إسناده خالد بن عمرو وهو ضعيف متفق على ضعفه, واتهم بالوضع, وأورد له العقيلي هذا الحديث, وقال: ليس له أصل من حديث الثوري". وأخرجه: الحاكم (4/313). وقال: "صحيح الإسناد", ونازعه الذهبي; فقال: "خالد وضاع". وأخرجه: أبو نعيم في "الحلية" (3/253, 7/ 136), والعقيلي في "الضعفاء" 2/11), من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه. والحديث حسنه النووي في "الرياض" (473), وفي "الأربعين النووية" (حديث رقم 31). وصححه الألباني في "الصحيحة" (944), وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" (4/ 157): "وقد حسن بعض مشايخنا إسناده, وفيه بعد; لأن من رواته خالد بن عمرو, وخالد هذا قد ترك واتهم". وضعفه ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (ص 272).




ج / 2 ص -349- عن ابن عمر رضي الله عنهما; قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سأل بالله، فأعطوه،....


مزعة لحم"1، وهذا يدل على التحريم إلا للضرورة.
وأما سؤال المعونة بالجاه أو المعونة بالبدن; فهذه مكروهة، إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
وأما إجابة السائل; فهو موضوع بابنا هذا، ولا يخلو السائل من أحد أمرين:
الأول: أن يسأل سؤالا مجردا; كأن يقول مثلا: يا فلان! أعطني كذا وكذا، فإن كان مما أباحه الشارع له فإنك تعطيه; كالفقير يسأل شيئا من الزكاة.
الثاني: أن يسأل بالله; فهذا تجيبه وإن لم يكن مستحقا; لأنه سأل بعظيم، فإجابته من تعظيم هذا العظيم، لكن لو سأل إثما، أو كان في إجابته ضرر على المسئول; فإنه لا يجاب.


مثال الأول: أن يسألك بالله نقودا؛ ليشتري بها محرما كالخمر.
ومثال الثاني: أن يسألك بالله أن تخبره عما في سرك، وما تفعله مع أهلك; فهذا لا يجاب لأن في الأول إعانة على الإثم، وإجابته في الثاني ضرر على المسئول.


قوله: صلى الله عليه وسلم "من سأل بالله": "من": شرطية للعموم.
قوله: "فأعطوه": الأمر هنا للوجوب ما لم يتضمن السؤال إثما أو ضررا على المسئول; لأن في إعطائه إجابة لحاجته، وتعظيما لله عز وجل



1 أخرجه: البخاري في (الزكاة, باب من سأل الناس تكثرا, 1/457), ومسلم في (الزكاة, باب كراهة المسألة, 1/720), عن ابن عمر رضي الله عنهما.


ج / 2 ص -350- ومن استعاذ بالله; فأعيذوه، ومن دعاكم; فأجيبوه 1،.......


الذي سأل به. ولا يشترط أن يكون سؤاله بلفظ الجلالة بل بكل اسم يختص بالله، كما قال الملك الذي جاء إلى الأبرص والأقرع والأعمى: "أسألك بالذي أعطاك كذا وكذا".2
قوله: "ومن استعاذ بالله فأعيذوه" أي قال: أعوذ بالله منك; فإنه يجب عليك أن تعيذه; لأنه استعاذ بعظيم، ولهذا لما قالت ابنة الجون للرسول صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بالله منك" قال لها: "لقد عذت بعظيم -أو معاذ-، الحقي بأهلك"3. لكن يستثنى من ذلك لو استعاذ من أمر واجب عليه; فلا تعذه، مثل أن تلزمه بصلاة الجماعة، فقال: أعوذ بالله منك. وكذلك لو ألزمته بالإقلاع عن أمر محرم، فاستعاذ بالله منك; فلا تعذه لما فيه من التعاون على الإثم والعدوان، ولأن الله لا يعيذ عاصيا، بل العاصي يستحق العقوبة لا الانتصار له وإعاذته. وكذلك من استعاذ بملجأ صحيح يقتضي الشرع أن يعيذه -وإن لم يقل أستعيذ بالله-; فإنه يجب عليك أن تعيذه كما قال أهل العلم: لو جنى أحد جناية ثم لجأ إلى الحرم; فإنه لا يقام عليه الحد ولا القصاص في الحرم، ولكنه يضيق عليه; فلا يبايع، ولا يشترى منه، ولا يؤجر حتى يخرج، بخلاف من انتهك حرمة الحرم بأن فعل الجناية في نفس الحرم; فإن الحرم لا يعيذه لأنه انتهك حرمة الحرم.


قوله: "ومن دعاكم فأجيبوه": "مَنْ": شرطية للعموم، والظاهر أن المراد بالدعوة هنا الدعوة للإكرام، وليس المقصود بالدعوة هنا النداء.



1 النسائي: الزكاة (2567) , وأبو داود: الزكاة (1672) , وأحمد (2/99 ,2/127).
2 سبق (ص 289).
3 أخرجه: البخاري في (الطلاق, باب من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق, 3/401); عن أبي أسيد رضي الله عنه.


ج / 2 ص -351-


وظاهر الحديث وجوب إجابة الدعوة في كل دعوة، وهو مذهب الظاهرية. وجمهور أهل العلم على أنها مستحبة إلا دعوة العرس; فإنها واجبة لقوله صلى الله عليه وسلم فيها: "شر الطعام طعام الوليمة، يدعى إليها من يأباها ويمنعها من يأتيها، ومن لم يجب; فقد عصى الله ورسوله"1.
وسواء قيل بالوجوب أو الاستحباب;

فإنه يشترط لذلك شروط:
1- أن يكون الداعي ممن لا يجب هجره أو يسن.
2- ألا يكون هناك منكر في مكان الدعوة، فإن كان هناك منكر، فإن أمكنه إزالته;

وجب عليه الحضور لسببين:
- إجابة الدعوة.
- وتغيير المنكر.
وإن كان لا يمكنه إزالته حرم عليه الحضور; لأن حضوره يستلزم إثمه، وما استلزم الإثم; فهو إثم.
3- أن يكون الداعي مسلما، وإلا لم تجب الإجابة; لقوله صلى الله عليه وسلم "حق المسلم على المسلم ست..."2، وذكر منها: "إذا دعاك فأجبه"3 قالوا: وهذا مقيد للعموم الوارد.
4- أن لا يكون كسبه حراما; لأن إجابته تستلزم أن تأكل طعاما

ـ
1 أخرجه: البخاري في (النكاح, باب من ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله, 3/381), ومسلم في (النكاح, باب الأمر بإجابة الداعي, 2/1055); عن أبي هريرة رضي الله عنه.
2 مسلم: السلام (2162) , والترمذي: الأدب (2737) , والنسائي: الجنائز (1938) , وأحمد (2/372 ,2/412).
3 أخرجه: مسلم في (السلام, باب من حق المسلم للمسلم, 4/1705); عن أبي هريرة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -352-


حراما، وهذا لا يجوز، وبه قال بعض أهل العلم.
وقال آخرون: ما كان محرما لكسبه; فإنما إثمه على الكاسب لا على من أخذه بطريق مباح من الكاسب، بخلاف ما كان محرما لعينه; كالخمر والمغصوب ونحوهما، وهذا القول وجيه قوي، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما لأهله1، وأكل من الشاة التي أهدتها له اليهودية بخيبر2، وأجاب دعوة اليهودي3، ومن المعلوم أن اليهود معظمهم يأخذون الربا، ويأكلون السحت، وربما يقوي هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم في اللحم الذي تصدق به على بريرة: "هو لها صدقة ولنا منها هدية"4.


وعلى القول الأول; فإن الكراهة تقوى وتضعف حسب كثرة المال الحرام وقلته، فكلما كان الحرام أكثر كانت الكراهة أشد، وكلما قل كانت الكراهة أقل.
5- أن لا تتضمن الإجابة إسقاط واجب، أو ما هو أوجب منها، فإن تضمنت ذلك حرمت الإجابة.
6- أن لا تتضمن ضررا على المجيب، مثل أن تحتاج إجابة الدعوة إلى سفر أو مفارقة أهله المحتاجين إلى وجوده بينهم.



1 أخرجه: البخاري في (البيوع, باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة, 2/79), ومسلم في (المساقاة, باب الرهن, 3/1226); عن عائشة رضي الله عنها.
2 أخرجه: البخاري في (الهبة, باب قبول الهدية من المشركين, 2/241), ومسلم في (السلام, باب السم, 4/1721); عن أنس رضي الله عنه.
3 أخرجه: الإمام أحمد في "المسند" (3/210, 211, 252, 270, 289), وفي "الزهد" وانظر: "الإرواء" (1/71).
4 أخرجه البخاري في (الزكاة, باب إذا تحولت الصدقة, 1/463), ومسلم في (العتق, باب إنما الولاء لمن أعتق, 2/1144).


ج / 2 ص -353- ومن صنع إليكم معروفا; فكافئوه،......


مسألة: هل إجابة الدعوة حق لله أو للآدمي؟
الجواب: حق للآدمي، ولهذا لو طلبت من الداعي أن يقيلك فقبل; فلا إثم عليك، لكنها واجبة بأمر الله عز وجل ولهذا ينبغي أن تلاحظ أن إجابتك طاعة لله، وقيام بحق أخيك، لكن لصاحبها أن يسقطها، كما أن له أن لا يدعوك أيضا، ولكن إذا أقالك حياء منك وخجلا من غير اقتناع; فإنه لا ينبغي أن تدع الإجابة.


مسألة: هل بطاقات الدعوة التي توزع كالدعوة بالمشافهة؟
الجواب: البطاقات ترسل إلى الناس، ولا يدرى لمن ذهبت إليه; فيمكن أن نقول: إنها تشبه دعوة الجفلى، فلا تجب الإجابة، أما إذا علم أو غلب على الظن أن الذي أرسلت إليه مقصود بعينه; فإن لها حكم الدعوة بالمشافهة.


قوله: "من صنع إليكم معروفا؛ فكافئوه": المعروف: الإحسان، فمن أحسن إليك بهدية أو غيرها; فكافئه، فإذا أحسن إليك بإنجاز معاملة وكان عمله زائدا عن الواجب عليه; فكافئه، وهكذا، لكن إذا كان كبير الشأن ولم تجر العادة بمكافأته; فلا يمكن أن تكافئه; كالملك والرئيس... مثلا إذا أعطاك هدية، فمثل هذا يدعى له; لأنك لو كافأته لرأى أن في ذلك غضا من حقه، فتكون مسيئا له، والنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن تكافئه لإحسانه.


وللمكافأة فائدتان:
1- تشجيع ذوي المعروف على فعل المعروف.
2- أن الإنسان يكسر بها الذل الذي حصل له بصنع المعروف إليه، لأن من صنع إليك معروفا فلا بد أن يكون في نفسك رقة له، فإذا رددت


ج / 2 ص -354- فإن لم تجدوا ما تكافئونه; فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه" رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح1.


فيه مسائل:

الأولى: إعاذة من استعاذ بالله.


إليه معروفه زال عنك ذلك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اليد العليا خير من اليد السفلى"2 واليد العليا هي يد المعطي، وهذه فائدة عظيمة لمن صنع له معروف; لئلا يرى لأحد عليه منة إلا الله عز وجل، لكن بعض الناس يكون كريما جدا، فإذا كافأته بدل هديته أعطاك أكثر مما أعطيته; فهذا لا يريد مكافأة، ولكن يدعى له; لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن لم تجدوا ما تكافئونه; فادعوا له"3 وكذلك الفقير إذا لم يجد مكافأة الغني; فإنه يدعو له. ويكون الدعاء بعد الإهداء مباشرة; لأنه من باب المسارعة إلى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولأن به سرور صانع المعروف.


قوله: "حتى تروا أنكم قد كافأتموه": "تروا"; بفتح التاء بمعنى تعلموا، وتجوز بالضم بمعنى تظنوا; أي: حتى تعلموا أو يغلب على ظنكم أنك قد كافأتموه، ثم أمسكوا.


فيه مسائل:

الأولى:
إعاذة من استعاذ بالله: وسبق أن من استعاذ بالله وجبت إعاذته، إلا أن يستعيذ عن شيء واجب فعلا أو تركا; فإنه لا يعاذ.



1 سبق (1/121).
2 أخرجه: البخاري في (الزكاة, باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى, 3/345- فتح), ومسلم في (الزكاة, باب بيان أفضل الصدقة, 2/717); عن حكيم بن حزام رضي الله عنه.
3 النسائي: الزكاة (2567) , وأبو داود: الأدب (5109) , وأحمد (2/68).


ج / 2 ص -355- الثانية: إعطاء من سأل بالله.
الثالثة: إجابة الدعوة.
الرابعة: المكافأة على الصنيعة.
الخامسة: أن الدعاء مكافأة لمن لا يقدر إلا عليه.
السادسة: قوله: " حتى تروا أنكم قد كافأتموه".


الثانية: إعطاء من سأل بالله: وسبق التفصيل فيه.
الثالثة: إجابة الدعوة: وسبق كذلك التفصيل فيها.
الرابعة: المكافأة على الصنيعة: أي: على صنيعة من صنع إليك معروفا، وسبق التفصيل في ذلك.
الخامسة: أن الدعاء مكافأة لمن لا يقدر إلا عليه: وسبق أنه مكافأة في ذلك، وفيما إذا كان الصانع لا يكافأ مثله عادة.
السادسة: قوله: "حتى تروا أنكم قد كافأتموه": أي: أنه لا يقصر في الدعاء، بل يدعو له حتى يعلم أو يغلب على ظنه أنه قد كافأه. وفيه مسائل أخرى، لكن ما ذكره المؤلف هو المقصود.






المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979



رد مع اقتباس
  #58  
قديم 02-02-2015, 02:04PM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: لا يسأل بوجه الله إلا الجنة

ج / 2 ص -356- باب: لا يسأل بوجه الله إلا الجنة


عن جابر; قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يسأل بوجه الله إلا الجنة" رواه أبو داود 1.


مناسبة هذا الباب للتوحيد
أن فيه تعظيم وجه الله عز وجل بحيث لا يسأل به إلا الجنة.
قوله: "لا يسأل بوجه الله إلا الجنة"2 اختلف في المراد بذلك على قولين:
القول الأول: أن المراد: لا تسألوا أحدا من المخلوقين بوجه الله، فإذا أردت أن تسأل أحدا من المخلوقين; فلا تسأله بوجه الله; لأنه لا



1 أخرجه: أبو داود في (الزكاة, باب كراهية المسألة بوجه الله, 2/309), وابن منده في "الرد على الجهمية" (ص 98) , والبيهقي في " سننه " (4/199) وفي " الأسماء والصفات " (ص 306), والخطيب في "الموضح" (1/352, 353)! عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وقال المنذري في "مختصر السنن" (2/253): "وسليمان بن قرم تكلم فيه غير واحد". والحديث ضعفه عبد الحق وابن القطان ; كما في "الفيض" (6/451) , والمناوي في "التيسير" (2/505). لكن يشهد لعموم النهي حديث أبي موسى رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ملعون من سأل بوجه الله, وملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله ما لم يسأل هجرا. أخرجه: الطبراني; كما في "المجمع" (3/103), وحسنه العراقي; كما في "الفيض" (6/4), و "التيسير" (2/478) للمناوي.
2 أبو داود: الزكاة (1671).


ج / 2 ص -357-

ــ
يسأل بوجه الله إلا الجنة، والخلق لا يقدرون على إعطاء الجنة، فإذا لا يسألون بوجه الله مطلقا، ويظهر أن المؤلف يرى هذا الرأي في شرح الحديث، ولذلك ذكره بعد: "باب لا يرد من سأل بالله".
القول الثاني: أنك إذا سألت الله، فإن سألت الجنة وما يستلزم دخولها; فلا حرج أن تسأل بوجه الله، وإن سألت شيئا من أمور الدنيا; فلا تسأله بوجه الله; لأن وجه الله أعظم من أن يسأل به لشيء من أمور الدنيا. فأمور الآخرة تسأل بوجه الله; كقولك مثلا: أسألك بوجهك أن تنجيني من النار، والنبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بوجه الله لما نزل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ}1 قال: أعوذ بوجهك، {مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}2 قال: أعوذ بوجهك، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}3 قال: "هذه أهون أو أيسر"45.


ولو قيل: إنه يشمل المعنيين جميعا، لكان له وجه.
وقوله: "بوجه الله": فيه إثبات الوجه لله عز وجل وهو ثابت بالقرآن والسنة وإجماع السلف، فالقرآن في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ}6 وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ}7 والآيات كثيرة. والسنة كما في الحديث السابق: "أعوذ بوجهك".8
واختلف في هذا الوجه الذي أضافه الله إلى نفسه: هل هو وجه حقيقي، أو أنه وجه يعبر به عن الذات، وليس لله وجه بل له ذات، أو أنه يعبر به عن الشيء الذي يراد به وجهه، وليس هو الوجه الحقيقي، أو أنه يعبر به عن الجهة، أو أنه يعبر به عن الثواب؟



1 سورة الأنعام آية: 65.
2 سورة الأنعام آية: 65.
3 سورة الأنعام آية: 65.
4 البخاري: تفسير القرآن (4628) والاعتصام بالكتاب والسنة (7313) والتوحيد (7406), والترمذي: تفسير القرآن (3065) , وأحمد (3/309).
5 أخرجه: البخاري في (التوحيد, باب قول الله تعالى: كل شيء هالك إلا وجهه , 4/385); عن جابر رضي الله عنه.
6 سورة القصص آية: 88.
7 سورة الرعد آية: 22.
8 سبق (ص 145).


ج / 2 ص -358- ..


فيه خلاف، لكن هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فقالوا: إنه وجه حقيقي; لأن الله تعالى قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ}1 ولما أراد غير ذاته; قال: " {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ}2 ف (ذي) صفة لرب وليست صفة لاسم، و (ذو) صفة لوجه وليست صفة لرب، فإذا كان الوجه موصوفا بالجلال والإكرام; فلا يمكن أن يراد به الثواب أو الجهة أو الذات وحدها; لأن الوجه غير الذات..


وقال أهل التعطيل: إن الوجه عبارة عن الذات أو الجهة أو الثواب، قالوا: ولو أثبتنا لله وجها حقيقيا للزم أن يكون جسما، والأجسام متماثلة، ويلزم من ذلك إثبات المثل لله عز وجل، والله تعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}3 وإثبات المثل تكذيب للقرآن، وأنتم يا أهل السنة تقولون: إن من اعتقد أن لله مثيلا فيما يختص به فهو كافر;

فنقول لهم:
أولا: ما تعنون بالجسم الذي فررتم منه; أتعنون به المركب من عظام وأعصاب ولحم ودم بحيث يفتقر كل جزء منه إلى الآخر؟ إن أردتم ذلك; فنحن نوافقكم أن الله ليس على هذا الوجه، ولا يمكن أن يكون كذلك، وإن أردتم بالجسم الذات الحقيقية المتصفة بصفات الكمال; فلا محذور في ذلك، والله تعالى وصف نفسه بأنه أحد صمد، قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ}4 قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الصمد: الذي لا جوف له" 5.
ثانيا: قولكم: إن الأجسام متماثلة، قضية من أكذب القضايا; فهل



1 سورة الرحمن آية: 27.
2 سورة الرحمن آية: 78.
3 سورة الشورى آية: 11.
4 سورة آية: 1-2.
5 أخرجه: ابن جرير (30/ 742).


ج / 2 ص -359-


جسم الدب مثل جسم النملة؟ فبينهما تباين عظيم في الحجم والرقة واللين وغير ذلك. فإذا بطلت هذه الحجة بطلت النتيجة، وهي استلزام مماثلة الله لخلقه. ونحن نشاهد البشر لا يتفقون في الوجوه; فلا تجد اثنين متماثلين من كل وجه ولو كانا توأمين، بل قالوا: إن عروق الرجل واليد غير متماثلة من شخص إلى آخر.


ويلاحظ أن التعبير بنفي المماثلة أولى من التعبير بنفي المشابهة; لأنه اللفظ الذي جاء به القرآن، ولأنه ما من شيئين موجودين إلا ويشتبهان من وجه ويفترقان من وجه آخر; فنفي مطلق المشابهة لا يصح، وقد تقدم.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق آدم على صورته"1 ووجه الله لا يماثل أوجه المخلوقين، فيجاب عنه: بأنه لا يراد به صورة تماثل صورة الرب عز وجل بإجماع المسلمين والعقلاء، لأن الله عز وجل وسع كرسيه السماوات والأرض، والسماوات والأرضون كلها بالنسبة للكرسي -موضع القدمين- كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة; فما ظنك برب العالمين؟ فلا أحد يحيط به وصفا ولا تخييلا، ومن هذا وصفه لا يمكن أن يكون على صورة آدم ستون ذراعا،


وإنما يراد به أحد معنيين:
الأول: أن الله خلق آدم على صورة، اختارها وجعلها أحسن صورة في الوجه، وعلى هذا; فلا ينبغي أن يقبح أو يضرب لأنه لما أضافه إلى نفسه اقتضى من الإكرام ما لا ينبغي معه أن يقبح أو أن يضرب.
الثاني: أن الله خلق آدم على صورة الله عز وجل، ولا يلزم من


ـ
1 أخرجه: البخاري في (الاستئذان, باب بدء السلام, 4/135), ومسلم في (البر, باب النهي عن ضرب الوجه, 4/2017).



ج / 2 ص -360- فيه مسائل:
الأولى: النهي عن أن يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب.
الثانية: إثبات صفة الوجه.

ـ
ذلك المماثلة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أضوإ كوكب في السماء"1 ولا يلزم أن يكون على صورة نفس القمر; لأن القمر أكبر من أهل الجنة، وأهل الجنة يدخلونها طول أحدهم ستون ذراعا، وعرضه سبعة أذرع كما في بعض الأحاديث. وقال بعض أهل العلم: على صورته; أي: صورة آدم; أي: أن الله خلق آدم أول أمره على هذه الصورة، وليس كبنيه يتدرج في الإنشاء نطفة ثم علقة ثم مضغة. لكن الإمام أحمد رحمه الله أنكر هذا التأويل، وقال: هذا تأويل الجهمية، ولأنه يفقد الحديث معناه، وأيضا يعارضه اللفظ الآخر المفسر للضمير وهو بلفظ: "على صورة الرحمن".


فيه مسائل:

الأولى:
النهي عن أن يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب: تؤخذ من حديث الباب، وهذا الحديث ضعَّفه بعض أهل العلم، لكن على تقدير صحته؛ فإنه من الأدب أن لا تسأل بوجه الله إلا ما كان من أمر الآخرة: الفوز بالجنة، أو النجاة من النار.
الثانية: إثبات صفة الوجه: وقد سبق الكلام عليه



1 أخرجه: البخاري في (بدء الخلق, باب ما جاء في صفة الجنة, 2/ 432), ومسلم في (الجنة ونعيمها, باب أول زمرة تدخل الجنة, 4/ 2179); عن أبي هريرة رضي الله عنه.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979



رد مع اقتباس
  #59  
قديم 02-02-2015, 02:20PM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: ما جاء في ال (لو)

ج / 2 ص -361- باب: ما جاء في ال (لو)

ــ
قوله: في "اللو": دخلت "أل" على "لو" وهي لا تدخل إلا على الأسماء، قال ابن مالك:

بالجر والتنوين والندا وأل ومسند للاسم تمييز حصل1
لأن المقصود بها اللفظ; أي: باب ما جاء في هذا اللفظ. والمؤلف رحمه الله جعل الترجمة مفتوحة ولم يجزم بشيء;

لأن "لو" تستعمل على عدة أوجه:
الوجه الأول: أن تستعمل في الاعتراض على الشرع، وهذا محرم، قال الله تعالى: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}2 في غزوة أحد حينما تخلف أثناء الطريق عبد الله بن أبي في نحو ثلث الجيش، فلما استشهد من المسلمين سبعون رجلا اعترض المنافقون على تشريع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا: لو أطاعونا ورجعوا كما رجعنا ما قتلوا، فرأينا خير من شرع محمد، وهذا محرم وقد يصل إلى الكفر.


الثاني: أن تستعمل في الاعتراض على القدر، وهذا محرم أيضا، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا}3 أي: لو أنهم بقوا ما قتلوا; فهم يعترضون على قدر الله.



1 "ألفية ابن مالك" (ص 3).
2 سورة آل عمران آية: 168.
3 سورة آل عمران آية: 156.


ج / 2 ص -362-


الثالث: أن تستعمل للندم والتحسر، وهذا محرم أيضا; لأن كل شيء يفتح الندم عليك فإنه منهي عنه; لأن الندم يكسب النفس حزنا وانقباضا، والله يريد منا أن نكون في انشراح وانبساط، قال صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا; فإن لو تفتح عمل الشيطان"1.


مثال ذلك: رجل حرص أن يشتري شيئا يظن أن فيه ربحا فخسر، فقال: لو أني ما اشتريته ما حصل لي خسارة; فهذا ندم وتحسر، ويقع كثيرا، وقد نهي عنه.
الرابع: أن تستعمل في الاحتجاج بالقدر على المعصية; كقول المشركين: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا}2 وقولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ}3 وهذا باطل.


الخامس:
أن تستعمل في التمني، وحكمه حسب المتمنى: إن كان خيرا فخير، وإن كان شرا فشر، وفي "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة النفر الأربعة قال أحدهم: "لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان"4 فهذا تمنى خيرا، وقال الثاني: "لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان"5 فهذا تمنى شرا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم في الأول: "فهو بنيته، فأجرهما سواء"6 وقال في الثاني: "فهو بنيته، فوزرهما سواء"7.
السادس: أن تستعمل في الخبر المحض. وهذا جائز، مثل: لو



1 يأتي (ص 440).
2 سورة الأنعام آية: 148.
3 سورة الزخرف آية: 20.
4 الترمذي: الزهد (2325) , وابن ماجه: الزهد (4228).
5 الترمذي: الزهد (2325) , وابن ماجه: الزهد (4228).
6 الترمذي: الزهد (2325).
7 أخرجه: الإمام أحمد (4/230, 231), والترمذي في (الزهد, باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر, 7/81)- وقال: "حسن صحيح"- , وابن ماجه في (الزهد, باب النية, 2/1413); عن أبي كبشة عمرو بن سعد الأنماري رضي الله عنه.



ج / 2 ص -363- وقول الله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}1.


حضرت الدرس لاستفدت، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم"2 فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لو علم أن هذا الأمر سيكون من الصحابة ما ساق الهدي ولأحل، وهذا هو الظاهر لي. وبعضهم قال: إنه من باب التمني، كأنه قال: ليتني استقبلت من أمري ما استدبرت حتى لا أسوق الهدي. لكن الظاهر: أنه خبر لما رأى من أصحابه، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يتمنى شيئا قدر الله خلافه.


وقد ذكر المؤلف في هذا الباب آيتين:
الآية الأولى قوله تعالى: (يقولون): الضمير للمنافقين.
قوله: "مَا قُتِلْنَا": أي: ما قتل بعضنا; لأنهم لم يقتلوا كلهم، ولأن المقتول لا يقول.
قوله: "لو كان لنا من الأمر" (لو): شرطية، وفعل الشرط: (كان)، وجوابه: {مَا قُتِلْنَا}3 ولم يقترن الجواب باللام; لأن الأفصح إذا كان الجواب منفيا عدم الاقتران، فقولك: لو جاء زيد ما جاء عمرو أفصح من قولك: لو جاء زيد لما جاء عمرو، وقد ورد قليلا اقترانها مع النفي; كقول الشاعر:

ولو نعطى الخيار لما افترقنا ولكن لا خيار مع الليالي


1 سورة آل عمران آية: 154.
2 أخرجه: البخاري في (الحج, باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف, 1/506), ومسلم في (الحج, باب بيان وجوه الإحرام, 2/885); عن جابر رضي الله عنه.
3 سورة آل عمران آية: 154.


ج / 2 ص -364- وقوله: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}1.


قوله: "ها هنا": أي: في أحد.
قوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}2 هذا رد عليهم; فلا يمكن أن يتخلفوا عما أراد الله بهم.
وقولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}3 هذا من الاعتراض على الشرع; لأنهم عتبوا على الرسول صلى الله عليه وسلم حيث خرج بدون موافقتهم، ويمكن أن يكون اعتراضا على القدر أيضا; أي: لو كان لنا من حسن التدبير والرأي شيء ما خرجنا فنقتل.
قوله: (وقعدوا): الواو إما أن تكون عاطفة، والجملة معطوفة على (قالوا)،


ويكون وصف هؤلاء بأمرين:
1- بالاعتراض على القدر بقولهم: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}4.
2- وبالجبن عن تنفيذ الشرع "الجهاد" بقولهم: (وقعدوا).
أو تكون الواو للحال والجملة حالية على تقدير "قد"; أي: والحال أنهم قد قعدوا; ففيه توبيخ لهم حيث قالوا مع قعودهم، ولو كان فيهم خير لخرجوا مع الناس، لكن فيهم الاعتراض على المؤمنين، وعلى قضاء الله وقدره.


قوله: (لإخوانهم): قيل: في النسب لا في الدين، وقيل: في الدين ظاهرا; لأن المنافقين يتظاهرون بالإسلام، ولو قيل: إنه شامل للأمرين; لكان صحيحا.
قوله: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} هذا غير صحيح، ولهذا رد الله عليهم بقوله: {قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين َ}5 وإن كنتم قاعدين; فلا تستطيعون أيضا أن تدرءوا عن أنفسكم الموت



1 سورة آل عمران آية: 168.
2 سورة آل عمران آية: 154.
3 سورة آل عمران آية: 154.
4 سورة آل عمران آية: 168.
5 سورة آل عمران آية: 168.


ج / 2 ص -365- وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه ؛.......


فهذه الآية والتي قبلها تدل على أن الإنسان محكوم بقدر الله كما أنه يجب أن يكون محكوما بشرع الله.


مناسبة الباب للتوحيد
أن من جملة أقسام (لو) الاعتراض على القدر ومن اعترض على القدر; فإنه لم يرض بالله ربا، ومن لم يرض بالله ربا; فإنه لم يحقق توحيد الربوبية. والواجب أن ترضى بالله ربا، ولا يمكن أن تستريح إلا إذا رضيت بالله ربا تمام الرضا، وكأن لك أجنحة تميل بها حيث مال القدر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر; فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر; فكان خيرا له"1 ومهما كان; فالأمر سيكون على ما كان، فلو خرجت مثلا في سفر ثم أصبت في حادث; فلا تقل: لو أني ما خرجت من السفر ما أصبت; لأن هذا مقدر لا بد منه.
قوله: "وفي الصحيح": أي: "صحيح مسلم"، وانظر ما سبق في: باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله (1/157). والمؤلف رحمه الله حذف منه جملة، وأتى بما هو مناسب للباب، والمحذوف قوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير"2.



1 أخرجه: مسلم في (الزهد, باب المؤمن أمره كله خير, 4/ 2295); عن صهيب بن سنان رضي الله عنه.
2 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366 ,2/370).


ج / 2 ص -366-


شرح الحديث:
قوله: "القوي": أي: في إيمانه وما يقتضيه إيمانه، ففي إيمانه; يعني: ما يحل في قلبه من اليقين الصادق الذي لا يعتريه شك، وفيما يقتضيه; يعني: العمل الصالح: من الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والحزم في العبادات وما أشبه ذلك.


وهل يدخل في ذلك قوة البدن؟
الجواب: لا يدخل في ذلك قوة البدن إلا إذا كان في قوة بدنه ما يزيد إيمانه، أو يزيد ما يقتضيه; لأن "القوي" وصف عائد على موصوف وهو المؤمن; فالمراد: القوي في إيمانه أو ما يقتضيه، ولا شك أن قوة البدن نعمة، إن استعملت في الخير فخير، وإن استعملت في الشر فشر.


قوله: "خير وأحب إلى الله": خير في تأثيره وآثاره; فهو ينفع ويقتدى به، وأحب إلى الله باعتبار الثواب.
قوله: "من المؤمن الضعيف": وذلك في الإيمان أو فيما يقتضيه، لا في قوة البدن.
قوله: "وفي كل خير": أي: في كل من القوي والضعيف خير، وهذا النوع من التذييل يسمى عند البلاغيين بالاحتراس حتى لا يظن أنه لا خير في الضعيف.
فإن قيل: إن الخيرية معلومة في قوله: "خير وأحب"; لأن الأصل في اسم التفضيل اتفاق المفضل والمفضل عليه في أصل الوصف ؟
فالجواب: أنه قد يخرج عن الأصل; كما في قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً}1 مع أن أهل النار لا خير في مستقرهم. كذلك الإنسان إذا سمع هذه الجملة: "خير وأحب" صار في



1 سورة الفرقان آية: 24.


ج / 2 ص -367- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احرص على ما ينفعك 1،..........

نفسه انتقاص للمؤمن المفضل عليه، فإذا قيل: "وفي كل خير" رفع من شأنه، ونظيره قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}2.
قوله: "احرص على ما ينفعك": الحرص: بذل الجهد لنيل ما ينفع من أمر الدين أو الدنيا.


وأفعال العباد بحسب السبر والتقسيم لا تخلو من أربع حالات:
1- نافعة، وهذه مأمور بها.
2- ضارة، وهذه محذر منها.
3- فيها نفع وضرر.
4- لا نفع فيها ولا ضرر، وهذه لا يتعلق بها أمر ولا نهي، لكن الغالب أن لا تقع إلا وسيلة إلى ما فيه أمر أو نهي، فتأخذ حكم الغاية; لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.


فالأمر لا يخلو من نفع أو ضرر; إما لذاته أو لغيره، فحديثنا العام قد لا يكون فيه نفع ولا ضرر، لكن قد يتكلم الإنسان ويتحدث؛ لأجل إدخال السرور على غيره، فيكون نفعا، ولا يمكن أن تجد شيئا من الأمور والحوادث ليس فيها نفع ولا ضرر; إما ذاتي، أو عارض إنما ذكرناه لأجل تمام السبر والتقسيم. والعاقل يشح بوقته أن يصرفه فيما لا نفع فيه ولا ضرر، قال النبي صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر; فليقل خيرا أو ليصمت"3.



1 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366 ,2/370).
2 سورة الحديد آية: 10.
3 أخرجه: البخاري في (الأدب, باب حق الضيف, 4/116), ومسلم في (الإيمان, باب الحث على إكرام الجار, 1/68); عن أبي هريرة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -368- واستعن بالله،....


واتصال هذه الجملة بما قبلها ظاهر جدا; لأن من القوة الحرص على ما ينفع. و"ما": اسم موصول بفعل (ينفع)، والاسم الموصول يحول بصلته إلى اسم فاعل، كأنه قال: احرص على النافع، وإنما قلت ذلك لأجل أن أقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالحرص على النافع، ومعناه أن نقدم الأنفع على النافع; لأن الأنفع مشتمل على أصل النفع وعلى الزيادة، وهذه الزيادة لا بد أن نحرص عليها; لأن الحكم إذا علق بوصف كان تأكد ذلك الحكم بحسب ما يشتمل عليه تأكد ذلك الوصف، فإذا قلت: أنا أكره الفاسقين كان كل من كان أشد في الفسق إليك أكره; فنقدم الأنفع على النافع لوجهين:
1- أنه مشتمل على النفع وزيادة.


2- أن الحكم إذا علق بوصف كان تأكد ذلك الحكم بحسب تأكد ذلك الوصف وقوته.
ويؤخذ من الحديث وجوب الابتعاد عن الضار; لأن الابتعاد عنه انتفاع وسلامة لقوله صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك"1.
قوله: "واستعن بالله": الواو تقتضي الجمع; فتكون الاستعانة مقرونة بالحرص، والحرص سابق على الفعل; فلا بد أن تكون الاستعانة مقارنة للفعل من أوله.
والاستعانة: طلب العون بلسان المقال; كقولك: "اللهم أعني"، أو: "لا حول ولا قوة إلا بالله" عند شروعك بالفعل أو بلسان الحال، وهي أن تشعر بقلبك أنك محتاج إلى ربك عز وجل أن يعينك على هذا الفعل، وأنه إن وكلك إلى نفسك وكلك إلى ضعف وعجز وعورة. أو طلب



1 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366 ,2/370).


ج / 2 ص -369- ولا تعجزن،...


العون بهما جميعا، والغالب أن من استعان بلسان المقال; فقد استعان بلسان الحال.
ولو احتاج الإنسان إلى الاستعانة بالمخلوق كحمل صندوق مثلا; فهذا جائز، ولكن لا تشعر نفسك أنها كاستعانتك بالخالق، وإنما عليك أن تشعر أنها كمعونة بعض أعضائك لبعض، كما لو عجزت عن حمل شيء بيد واحدة; فإنك تستعين على حمله باليد الأخرى، وعلى هذا; فالاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه كالاستعانة ببعض أعضائك، فلا تنافي قوله صلى الله عليه وسلم "استعن بالله".


قوله: "ولا تعجزن": فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة، و"لا": ناهية، والمعنى: لا تفعل فعل العاجز من التكاسل وعدم الحزم والعزيمة، وليس المعنى: لا يصيبك عجز; لأن العجز عن الشيء غير التعاجز; فالعجز بغير اختيار الإنسان; ولا طاقة له به، فلا يتوجه عليه نهي، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "صل قائما، فإن لم تستطع; فقاعدا، فإن لم تستطع; فعلى جنب"1 فإذا اجتمع الحرص وعدم التكاسل، اجتمع في هذا صدق النية بالحرص والعزيمة بعدم التكاسل؛ لأن بعض الناس يحرص على ما ينفعه ويشرع فيه، ثم يتعاجز ويتكاسل ويدعه، وهذا خلاف ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، فما دمت عرفت أن هذا نافع، فلا تدعه، لأنك إذا عجزت نفسك خسرت العمل الذي عملت ثم عودت نفسك التكاسل والتدني من حال النشاط والقوة إلى حال العجز والكسل، وكم من إنسان بدأ العمل -ولا سيما النافع- ثم أتاه الشيطان



1 أخرجه: البخاري في (تقصير الصلاة, باب إذا لم يطق قاعدا صلى على جنب, 1/348); عن عمران بن حصين رضي الله عنه.


ج / 2 ص -370- وإن أصابك شيء; فلا تقل: لو أني فعلت كذا، لكان كذا وكذا،


فثبطه؟! لكن إذا ظهر في أثناء العمل أنه ضار; فيجب عليه الرجوع عنه; لأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
وذكر في ترجمة الكسائي أنه بدأ في طلب علم النحو ثم صعب عليه، فوجد نملة تحمل طعاما تريد أن تصعد به حائطا، كلما صعدت قليلا سقطت، وهكذا حتى صعدت; فأخذ درسا من ذلك، فكابد حتى صار إماما في النحو.
قوله: "إن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا"1 هذه هي المرتبة الرابعة مما ذكر في هذا الحديث العظيم إذا حصل خلاف المقصود.


فالمرتبة الأولى: الحرص على ما ينفع.
والمرتبة الثانية: الاستعانة بالله.
والمرتبة الثالثة: المضي في الأمر، والاستمرار فيه، وعدم التعاجز. وهذه المراتب إليك.
المرتبة الرابعة: إذا حصل خلاف المقصود; فهذه ليست إليك، وإنما هي بقدر الله، ولهذا قال: "وإن أصابك..."; ففوض الأمر إلى الله تعالى.
قوله: "وإن أصابك شيء": أي: مما لا تحبه ولا تريده، ومما يعوقك عن الوصول إلى مرامك فيما شرعت فيه من نفع.


فمن خالفه القدر ولم يأت على مطلوبه، لا يخلو من حالين:
الأولى: أن يقول: لو لم أفعل ما حصل كذا.



1 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79).


ج / 2 ص -371- ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل;....

الثانية: أن يقول: لو فعلت كذا، لأمر لم يفعله لكان كذا.
مثال الأول قول القائل: لو لم أسافر ما فاتني الربح.
ومثال الثاني أن يقول: لو سافرت لربحت.


وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الثاني دون الأول; لأن هذا الإنسان عامل فاعل; فهو يقول: لو أني فعلت الفعل الفلاني دون هذا الفعل لحصلت مطلوبي، بخلاف الإنسان الذي لم يفعل، وكان موقفه سلبيا من الأعمال.
قوله: "كذا": كناية عن مبهم، وهي مفعول لفعلت.
قوله: "لكان كذا": فاعل كان، والجملة جواب لو.
قوله: "قدر الله": خبر لمبتدأ محذوف; أي: هذا قدر الله.


وقدر بمعنى مقدور; لأن قدر الله يطلق على التقدير الذي هو فعل الله، ويطلق على المقدور الذي وقع بتقدير الله، وهو المراد هنا; لأن القائل يتحدث عن شيء وقع عليه، فقدر الله أي مقدوره، ولا مقدر إلا بتقدير; لأن المفعول نتيجة الفعل.


والمعنى: إن هذا الذي وقع قدر الله وليس إلي، أما الذي إلي فقد بذلت ما أراه نافعا كما أمرت، وهذا فيه التسليم التام لقضاء الله عز وجل، وأن الإنسان إذا فعل ما أمر به على الوجه الشرعي; فإنه لا يلام على شيء، ويفوض الأمر إلى الله.
قوله: "وما شاء فعل": جملة مصدرة ب "ما" الشرطية، و"شاء": فعل الشرط، وجوابه: "فعل"; أي: ما شاء الله أن يفعله فعله; لأن الله لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}1 وقد سبق ذكر قاعدة، وهي أن كل



1 سورة الرعد آية: 41.


ج / 2 ص -372- فإن (لو) تفتح عمل الشيطان"1.


فعل لله تعالى معلق بالمشيئة; فإنه مقرون بالحكمة، وليس شيء من فعله معلقا بالمشيئة المجردة، لأن الله لا يشرع ولا يفعل إلا لحكمة، وبهذا التقرير نفهم أن المشيئة يلزم منها وقوع المشاء، ولهذا كان المسلمون يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.


وأما الإرادة ووقوع المراد; ففيه تفصيل:
فالإرادة الشرعية لا يلزم منها وقوع المراد، وهي التي بمعنى المحبة، قال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}2 بمعنى يحب، ولو كانت بمعنى يشاء لتاب الله على جميع الناس.
والإرادة الكونية يلزم منها وقوع المراد; كما قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}3.
قوله: "فإن لو تفتح عمل الشيطان": "لو": اسم إن قصد لفظها; أي: فإن هذا اللفظ يفتح عمل الشيطان.


وعمله: ما يلقيه في قلب الإنسان من الحسرة والندم والحزن; فإن الشيطان يحب ذلك، قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}4 حتى في المنام يريه أحلاما مخيفة ليعكر عليه صفوه ويشوش فكره، وحينئذ لا يتفرغ للعبادة على ما ينبغي، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة حال تشوش الفكر; فقال صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان"5 فإذا رضي الإنسان بالله ربا، وقال: هذا قضاء الله وقدره، وأنه لا بد أن يقع; اطمأنت نفسه وانشرح صدره.



1 أخرجه: مسلم في (القدر, باب في الأمر بالقوة وترك العجز, 4/2052); عن أبي هريرة رضي الله عنه.
2 سورة النساء آية: 27.
3 سورة البقرة آية: 253.
4 سورة المجادلة آية: 10.
5 أخرجه: مسلم في (المساجد, 1/393).


ج / 2 ص -373-


ويستفاد من الحديث:
1- إثبات المحبة لله عز وجل لقوله: "خير وأحب".
2- اختلاف الناس في قوة الإيمان وضعفه; لقوله: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"1.
3- زيادة الإيمان ونقصانه؛ لأن القوة زيادة والضعف نقص، وهذا هو القول الصحيح الذي عليه عامة أهل السنة.
وقال بعض أهل السنة: يزيد ولا ينقص; لأن النقص لم يرد في القرآن، قال تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً}2 وقال تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ}3.


والراجح القول الأول;
لأنه من لازم ثبوت الزيادة ثبوت النقص عن الزائد، وعلى هذا يكون القرآن دالا على ثبوت نقص الإيمان بطريق اللزوم، كما أن السنة جاءت به صريحة في قوله صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن"4 يعني: النساء.


والإيمان يزيد بالكمية والكيفية; فزيادة الأعمال الظاهرة زيادة كمية، وزيادة الأعمال الباطنة كاليقين زيادة كيفية، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}5.
والإنسان إذا أخبره ثقة بخبر، ثم جاء آخر فأخبره نفس الخبر; زاد يقينه، ولهذا قال أهل العلم: إن المتواتر يفيد العلم اليقيني، وهذا دليل



1 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366 ,2/370).
2 سورة المدثر آية: 31.
3 سورة الفتح آية: 4.
4 أخرجه: مسلم في (الإيمان, باب نقصان الإيمان, 1/86); عن ابن عمر رضي الله عنه. وأخرجه: البخاري (304), ومسلم (80); عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
5 سورة البقرة آية: 260.


ج / 2 ص -374-


على تفاوت القلوب بالتصديق، وأما الأعمال; فظاهر، فمن صلى أربع ركعات أزيد ممن صلى ركعتين.
4- أن المؤمن وإن ضعف إيمانه فيه خير; لقوله: "وفي كل خير".
5- أن الشريعة جاءت بتكميل المصالح وتحقيقها; لقوله: "احرص على ما ينفعك"1 فإذا امتثل المؤمن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو عبادة، وإن كان ذلك النافع أمرا دنيويا.
6- أنه لا ينبغي للعاقل أن يمضي جهده فيما لا ينفع; لقوله: "احرص على ما ينفعك"2.


7- أنه ينبغي للإنسان الصبر والمصابرة; لقوله: "ولا تعجزن".
8- أن ما لا قدرة للإنسان فيه فله أن يحتج عليه بالقدر; لقوله: "ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل"3 وأما الذي يمكنك; فليس لك أن تحتج بالقدر.
وأما محاجة آدم وموسى حيث لام موسى آدم عليهما الصلاة والسلام; وقال له: "لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة; فقال: أتلومني على شيء قد كتبه الله علي";4 فهذا احتجاج بالقدر.


فالقدرية الذين ينكرون القدر يكذبون هذا الحديث; لأن من عادة أهل البدع أن ما خالف بدعتهم، إن أمكن تكذيبه كذبوه، وإلا حرفوه، ولكن هذا الحديث ثابت في "الصحيحين" وغيرهما.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن هذا من باب الاحتجاج بالقدر



1 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366، 2/370).
2 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366 ,2/370).
3 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366، 2/370).
4 أخرجه: البخاري في (القدر, باب تحاج آدم وموسى, 4/212), ومسلم في (القدر, باب حجاج آدم وموسى, 4/2044); عن أبي هريرة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -375-

ـ
على المصائب لا على المعائب; فموسى لم يحتج على آدم بالمعصية التي هي سبب الخروج، بل احتج بالخروج نفسه.
معناه: أن فعلك صار سببا لخروجنا، وإلا; فإن موسى عليه الصلاة والسلام أبعد من أن يلوم أباه على ذنب تاب منه، واجتباه ربه وهداه، وهذا ينطبق على الحديث.


وذهب ابن القيم رحمه الله إلى وجه آخر في تخريج هذا الحديث، وهو أن آدم احتج بالقدر بعد أن مضى وتاب من فعله، وليس كحال الذين يحتجون على أن يبقوا في المعصية، ويستمروا عليها; فالمشركون لما قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا}1 كذبهم الله; لأنهم لا يحتجون على شيء مضى ويقولون: تبنا إلى الله; ولكن يحتجون على البقاء في الشرك.
9- أن للشيطان تأثيرا على بني آدم; لقوله: "فإن لو تفتح عمل الشيطان"2 وهذا لا شك فيه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم"3.


فقال بعض أهل العلم: إن هذا يعني الوساوس التي يلقيها في القلب، فتجري في العروق.
وظاهر الحديث: أن الشيطان نفسه يجري من ابن آدم مجرى الدم، وهذا ليس ببعيد على قدرة الله عز وجل، كما أن الروح تجري مجرى الدم،



1 سورة الأنعام آية: 148.
2 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366، 2/370).
3 أخرجه: البخاري في (الاعتكاف, باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه, 2/68), ومسلم في (السلام, باب بيان أنه يستحب لمن رئي خاليا بامرأة, 4/1712); عن صفية بنت حيي رضي الله عنها.



ج / 2 ص -376- فيه مسائل:
الأولى:
تفسير الآيتين في آل عمران.


وهي جسم، إذا قبضت تكفن وتحنط وتصعد بها الملائكة إلى السماء.
ومن نعمة الله أن للشيطان ما يضاده، وهي لمة الملك; فإن للشيطان في قلب ابن آدم لمة وللملك لمة، ومن وفق غلبت عنده لمة الملك لمة الشيطان، فهما دائما يتصارعان، نفس مطمئنة، ونفس أمارة بالسوء، وأما النفس اللوامة فهي وصف للنفسين جميعا.
10- حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم حين قرن النهي عن قول "لو" ببيان علته; لتتبين حكمة الشريعة، ويزداد المؤمن إيمانا وامتثالا.


فيه مسائل:

الأولى: تفسير الآيتين في آل عمران: وهما:
الأولى: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}1.
الثانية: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}2 أي: ما أخرجنا وما قتلنا، ولكن الله تعالى أبطل ذلك بقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}3 والآية الأخرى: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}4 فأبطل الله دعواهم هذه بقوله: {فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}5 أي: إن كنتم صادقين في البقاء وأن عدم الخروج مانع من القتل; فادرءوا عن أنفسكم الموت، فإنهم لن يسلموا من الموت، بل لا بد أن يموتوا، ولكن لو أطاعوهم وتركوا الجهاد; لكانوا على ضلال مبين.



1 سورة آل عمران آية: 168.
2 سورة آل عمران آية: 154.
3 سورة آل عمران آية: 154.
4 سورة آل عمران آية: 168.
5 سورة آل عمران آية: 168.


ج / 2 ص -377- الثانية: النهي الصريح عن قول (لو) إذا أصابك شيء
الثالثة: تعليل المسألة بأن ذلك يفتح عمل الشيطان.
الرابعة: الإرشاد إلى الكلام الحسن.
الخامسة: الأمر بالحرص على ما ينفع مع الاستعانة بالله.
السادسة: النهي عن ضد ذلك، وهو العجز.


الثانية: النهي الصريح عن قول "لو" إذا أصابك شيء: لقول الرسول صلى الله عليه وسلم "فإن أصابك شيء; فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا"1.
الثالثة: تعليل المسألة بأن ذلك يفتح عمل الشيطان: فالنهي عن قول "لو" علتها أنها تفتح عمل الشيطان وهو الوسوسة، فيتحسر الإنسان بذلك ويندم ويحزن.
الرابعة: الإرشاد إلى الكلام الحسن: يعني قوله: "ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل"2.
الخامسة: الأمر بالحرص على ما ينفع مع الاستعانة بالله: لقوله صلى الله عليه وسلم "احرص على ما ينفعك واستعن بالله"3.
السادسة: النهي عن ضد ذلك، وهو العجز: لقوله: "ولا تعجزن"، فإن قال قائل: العجز ليس باختيار الإنسان، فالإنسان قد يصاب بمرض فيعجز; فكيف نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر لا قدرة للإنسان عليه؟
أجيب: بأن المقصود بالعجز هنا التهاون والكسل عن فعل الشيء; لأنه هو الذي في مقدور الإنسان.



1 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79).
2 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366، 2/370).
3 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366، 2/370).





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




رد مع اقتباس
  #60  
قديم 02-02-2015, 02:29PM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: النهي عن سب الريح

ج / 2 ص -378- باب: النهي عن سب الريح


المؤلف رحمه الله أطلق النهي ولم يفصح: هل المراد به التحريم أو الكراهة، وسيتبين إن شاء الله من الحديث.
قوله: "الريح": الهواء الذي يصرفه الله عز وجل، وجمعه رياح.
وأصولها أربعة: الشمال، والجنوب، والشرق، والغرب، وما بينهما يسمى النكباء; لأنها ناكبة عن الاستقامة في الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب. وتصريفها من آيات الله عز وجل فأحيانا تكون شديدة تقلع الأشجار، وتهدم البيوت، وتدفن الزروع، ويحصل معها فيضانات عظيمة، وأحيانا تكون هادئة، وأحيانا تكون باردة، وأحيانا حارة، وأحيانا عالية، وأحيانا نازلة; كل هذا بقضاء الله وقدره.


ولو أن الخلق اجتمعوا كلهم على أن يصرفوا الريح عن جهتها التي جعلها الله عليها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولو اجتمعت جميع المكائن العالمية النفاثة لتوجد هذه الريح الشديدة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، ولكن الله عز وجل بقدرته يصرفها كيف يشاء وعلى ما يريد; فهل يحق للمسلم أن يسب هذه الريح؟
الجواب: لا; لأن هذه الريح مسخرة مدبرة، وكما أن الشمس أحيانا تضر بإحراقها بعض الأشجار، ومع ذلك لا يجوز لأحد أن يسبها; فكذلك الريح، ولهذا قال: "لا تسبوا الريح".




ج / 2 ص -379- عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا الريح; فإذا رأيتم ما تكرهون; فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح.....


قوله: "لا تسبوا الريح": "لا": ناهية، والفعل مجزوم بحذف النون، والواو فاعل، والريح مفعول به. والسب: الشتم، والعيب، والقدح، واللعن، وما أشبه ذلك، وإنما نهى عن سبها; لأن سب المخلوق سب لخالقه، فلو وجدت قصرا مبنيا وفيه عيب، فسببته; فهذا السب ينصب على من بناه، وكذلك سب الريح; لأنها مدبرة مسخرة على ما تقتضيه حكمة الله عز وجل. ولكن إذا كانت الريح مزعجة; فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يقال حينئذ في قوله صلى الله عليه وسلم: "ولكن قولوا: اللهم إنا نسألك... إلخ".


قوله: "من خير هذه الريح": الريح نفسها فيها خير وشر; فقد تكون عاصفة تقلع الأشجار، وتهدم الديار، وتفيض البحار والأنهار، وقد تكون هادئة تبرد الجو وتكسب النشاط.
قوله: "وخير ما فيها": أي: ما تحمله; لأنها قد تحمل خيرا; كتلقيح الثمار، وقد تحمل رائحة طيبة الشم، وقد تحمل شرا; كإزالة لقاح الثمار، وأمراض تضر الإنسان والبهائم.


قوله: "وخير ما أمرت به": مثل إثارة السحاب، وسوقه إلى حيث شاء الله.
قوله: "ونعوذ بك": أي: نعتصم ونلجأ.
قوله: "من شر هذه الريح": أي: شرها بنفسها; كقلع الأشجار، ودفن الزروع، وهدم البيوت.


ج / 2 ص -380- وشر ما فيها، وشر ما أمرت به" صححه الترمذي1.


فيه مسائل:

الأولى:
النهي عن سب الريح.


قوله: "وشر ما فيها": أي: ما تحمله من الأشياء الضارة، كالأنتان، والقاذورات، والأوبئة، وغيرها.
قوله: "وشر ما أمرت به": كالإهلاك والتدمير، قال تعالى في ريح عاد: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}2 وتيبيس الأرض من الأمطار، ودفن الزروع، وطمس الآثار والطرق; فقد تؤمر بشر لحكمة بالغة قد نعجز عن إدراكها.
وقوله: "ما أمرت به": هذا الأمر حقيقي; أي: يأمرها الله أن تهب ويأمرها أن تتوقف، وكل شيء من المخلوقات فيه إدراك بالنسبة إلى أمر الله، قال الله تعالى للأرض والسماء: {ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}3 "وقال للقلم: اكتب قال: ربي وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة"4.


فيه مسائل:

الأولى: النهي عن سب الريح: وهذا النهي للتحريم; لأن سبها سب لمن خلقها وأرسلها.



1 أخرجه: أحمد (5/123), والترمذي في (الفتن, باب ما جاء في النهي عن سب الريح, 7/33)- وقال: "حسن صحيح" -, والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (933, 934), وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (299), والطحاوي في "المشكل" (1/398). وأخرجه: النسائي (935, 936, 937), والخرائطي في (مكارم الأخلاق" (ص 83), والطحاوي في "المشكل" (1/398); عن أبي بن كعب موقوفا. والحديث له شاهد مرفوع عن أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما.
2 سورة الأحقاف آية: 25.
3 سورة فصلت آية: 11.
4 سيأتي تخريجه (ص 422).


ج / 2 ص -381- الثانية: الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره.
الثالثة: الإرشاد إلى أنها مأمورة.
الرابعة: أنها قد تؤمر بخير وقد تؤمر بشر.

ـــ
الثانية: الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره: أي: منها، وهو أن يقول: "اللهم إني أسألك من خيرها..." الحديث، مع فعل الأسباب الحسية أيضا; كالاتقاء من شرها بالجدران أو الجبال ونحوها.
الثالثة: الإرشاد إلى أنها مأمورة: لقوله: "ما أمرت به".
الرابعة: أنها قد تؤمر بخير وقد تؤمر بشر: لقوله: "خير ما أمرت به، وشر ما أمرت به".


والحاصل: أنه يجب على الإنسان أن لا يعترض على قضاء الله وقدره، وأن لا يسبه، وأن يكون مستسلما لأمره الكوني كما يجب أن يكون مستسلما لأمره الشرعي; لأن هذه المخلوقات لا تملك أن تفعل شيئا إلا بأمر الله -سبحانه وتعالى-.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979



رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
[جمع] الجمع الثمين لكلام أهل العلم في المصرّين على المعاصي والمدمنين أبو عبد الودود عيسى البيضاوي منبر التوحيد وبيان ما يضاده من الشرك 0 13-09-2011 09:33PM
أقوال العلماء السلفيين في حكم من حكَّم القوانين أبو حمزة مأمون منبر التحذير من الخروج والتطرف والارهاب 0 10-06-2010 01:51AM
(الشيخ ربيع بين ثناء العلماء ووقاحة السفهاء) أبوعبيدة الهواري الشرقاوي منبر الجرح والتعديل 0 21-12-2008 12:07AM
مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد أبو عبد الرحمن السلفي1 منبر التوحيد وبيان ما يضاده من الشرك 4 08-11-2007 12:07PM
صحيح المقال في مسألة شد الرحال (رد على عطية سالم ) ماهر بن ظافر القحطاني منبر البدع المشتهرة 0 12-09-2004 12:02PM




Powered by vBulletin®, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd