|
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | التقييم: | انواع عرض الموضوع |
#31
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد بابُ ما جاء في النُّشرة ج / 1 ص -377- [الباب السابع و العشرون:] * بابُ ما جاء في النُّشرة عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النُّشرة؟ فقال: "هي من عمل الشيطان" رواه أحمد بسند جيد، وأبو داود، وقال: سئل أحمد عنها؟، فقال: "ابن مسعود يكره هذا كله". مناسبة هدا الباب لما قبله: أن الشَّيخ لَمّا ذكر في الأبواب السابقة السّحر وما جاء فيه، وذكر أنواعاً من السحر، وذكر ما يعمّ السحر وغيره من أعمال الشياطين؛ وهو الكِهانة والعِرافة وكل ما هو من هذا القبيل من الشعوذات؛ انتقل إلى بيان حكم النُّشرة، فقال: "باب ما جاء في النُّشرة" يعني: من الأحاديث والآثار التي تدلّ على حكمها في الشرع. وهذا في غاية المناسبة؛ لأن النّاس في حاجة إلى معرفة ذلك، لأن السحر موجود، ومن النّاس من يُبتلى به ويقع عليه السحر ويتضرّر به، والله تعالى ما أنزل داء إلاَّ أنزل له شفاء، علِمه مَنْ علِمه وجهله مَن جهِله، فلابد أن نعرف ما هو الدواء الصحيح للسحر، الدواء الذي لا يمس العقيدة، ونعرف- أيضاً ما يخالف العقيدة فنتجنّبه، وأيضاً: هناك من السحرة من يقول للناس: أنا أُعالج السحر، وأنا.. وأنا؛ فهذا أمرٌ واقع لابد من معرفته وبيان حكمه للناس. والنُّشرة- بضم النون وسكون الشين- مأخوذة من (النّشر) وهو التفريق؛ وهي - كما فسّرها الإمام ابن القيم-: حلّ السحر عن المسحور. وهي ضرب من العلاج، سمي نشرة: لأنه يُنشر به، أي: يزال ما أصاب المريض وما خامره من الداء. وقوله في حديث جابر: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن النُّشرة" أي: النُّشرة المعهودة في الجاهلية، وهي التي كانت من عمل الشيطان. "فقال: "هي من عمل الشيطان""، لأنها سحر، والسحر من عمل الشيطان- كما مرّ في الأبواب السابقة-. ج / 1 ص -378- وفي البخاري عن قتادة: قلت لابن المسيّب: رجل به طب، أو يؤخذ عن امرأته؛ أَيُحَلُّ عنه أو يُنْشَر؟، قال: "لا بأس به؛ إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم يُنَه عنه". "رواه" الإمام "أحمد" في مسنده بسند جيِّد، وأبو داود" في سننه. "وقال" أي: أبو داود، لأن أبا داود من تلاميذ الإمام أحمد، وروى عنه كثيراً من المسائل في المذهب، ويوجد الآن مجلّد مطبوع اسمه "مسائل أبي داود" وهي المسائل التي رواها أبو داود من أجوبة الإمام أحمد على الأسئلة التي تَرِدُ عليه. "قال: سُئل أحمد عنها" يعني: عن النُّشرة؛ ما حكمها؟ "فقال: "ابن مسعود يكره هذا كله"" أي: يحرم النُّشرة، لأن السلف يريدون بالكراهة التحريم، والمراد النُّشرة التي هي من عمل الجاهلية. قال: "وفي البخاري" أي: في "صحيح البخاري". عن قَتادة هو: قتادة بن دِعامة السدوسي، نسبةً إلى جده سَدوس، وكان من أكبر علماء التابعين، ويُقال: إنه وُلد أكْمه يعني: ليس له عينان. وكان نادراً في الحفظ والذّكاء والفقه رحمه الله، حتى كان من كبار التّابعين. "قلت لابن المسيّب" المراد به: سعيد بن المسيّب، أحد أعلام التّابعين وأحد الفقهاء السبعة الذين اتتهت إليهم الفتوى في زمانهم، وهو عالِم المدينة وفقيهها. "رجلٌ به طِب" يعني: أنّ قتادة بن دِعامة سأل شيخه سعيد بن المسيّب عن رجل به طبّ. والطِّبّ معناه: السحر، يقال: مطبوب يعني: مسحور، قالوا: وهذا من باب التّفاؤل، لأنّ الطب معناه العلاج، كما يقولون للديغ: سليم، من باب التفاؤل بالشّفاء. "أو يؤخّذ عن امرأته" يؤخّذ: معناه: يُمنع عن جماع امرأته فلا يستطيع جماعها بسبب السّحر. "أَيُحَلُّ عنه أو يُنشر" يُحَل وينشَّر بمعنىً واحد، يعني: هل يجوز أن يحلّ عن هذا المطبوب أو هذا المؤخَّذ ما أصابه؟. فأجابه ابن المسيّب رحمه الله بقوله: "لا بأس" لا بأس أن يحلّ عنه أو ينشّر. ج / 1 ص -379- ورويَ عن الحسن؛ أنه قال: "لا يحل السحر إلاَّ ساحر". قال ابن القيم: "النُّشرة: حلّ السحر عن المسحور، وهي نوعان: حلٌّ بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان. وعليه يحمل قول الحسن. فيتقرّب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب؛ فيبطل عمله عن المسحور. وقوله: "إّنما يريدون به الإصلاح" أي: حلّ السحر يراد به ا الإصلاح، بخلاف السحر نفسه فإنّما يُراد به الضّرر، أما حلّه فيُراد به الإصلاح وإزالة المرض عن الإنسان. "فأمّا ما ينفع فلم يُنْهَ عنه" أي: أنّ الشارع جاء بإباحة ما ينفع وتحريم ما يضرّ، والنُّشرة من القسم الثني، أي: من الشيء النّافع. قوله: "ورويَ عن الحسن" الحسن هو: ابن أبي الحسن البصري، أحد أعلام التّابعين بالفقه والعلم والوَرع والعبادة- رحمه الله. وقوله: "لا يحلّ السحر إلاَّ ساحر" هذا يتّفق مع الحديث ومع قول ابن مسعود، ويختلف مع قول ابن المسيب. قوله: "قال ابن القيم: "النُّشرة حلّ السحر عن المسحور، وهي نوعان". جمع ابن القيم- رحمه الله- بين هذا الحديث وهذه الآثار في كتابه: "زاد المعاد" فقال: "وهي نوعان: أحدهما: حلٌّ بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يُحمل قول الحسن" يعني: في قوله السابق: "لا يحلّ السحر إلاَّ ساحر" وقصده: حلّ السحر بسحر مثله، وهذه هي النُّشرة التي سُئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم . "قوله: "فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب" النّاشر هو: الذي يعمل النُّشرة. والمنتشر هو: الذي تُعمل له النُّشرة، كلٌّ منهما- المريض والساحر- يتقرّب إلى الشيطان بما يحبّه، فيخضعان له، فيطيعانه فيما يريده منهما من الشرّك والكفر بالله عزّ وجلّ، وفعل المحرّمات، فيبطل الشيطان عمله عن المسحور، لأنّ السحر من عمل الشيطان، وذلك في مقابل إفساد دينهم وعقيدتهم. فهذا هو الممنوع. فلا يجوز لمن أصابه السحر أن يذهب إلى السحرة، لأنّه إذا ذهب إلى السّحرة ج / 1 ص -380- والثاني: النُّشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة. فهذا جائز". فإنه حينئذ يتقرّب إلى الشيطان بما يحبّ، وحينئذ يُزيل الشيطان عمله عن المسحور، لكن بعدما يفسد عقيدته ودينه، فيخسر الدّنيا والآخرة. قال الإمام ابن القيم: "والثاني: النُّشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة؛ فهذا جائز" أي: النّوع الثّاني من النُّشرة: حلّ السحر بغير السّحر ممّا أباحه الله عزّ وجلّ، فالله ما أنزل داء إلاَّ أنزل له دواء، علمه من علمه وجهله من جهله، والسحر داء ولابد أن الله أنزل له شفاء والرقية المباحة أنواع: النوع الأول: حلُّ السحر "بالرقية" بأن يُقرأ على المسحور من كتاب الله عزّ وجلّ، فتُقرأ عليه الفاتحة التي هي أعظم الرقى، ويقرأ عليه الآيات التي تتعلّق بذكر السحر وإبطاله، مثل قوله تعالى في سورة الأعراف: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ(119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ(120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ(122)}، وفي سورة يونس: {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ(82)}، وفي سورة طه: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى(69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى(70)}. هذه الآيات من سورة الأعراف ومن سورة يونس ومن سورة طه، يقرأها الرّاقي على المسحور بقلب حاضر وتوكّل على الله سبحانه وتعالى، وحسن ظنّ بالله، واعتقاد أنّ الله يشفي هذا المريض. ثم على المقروء عليه أن يعتقد هذه العقيدة؛ فيرجو الشفاء من الله، ويثق بالله عزّ وجلّ، ويتوكّل عليه، ويعتقد أنّ كلام الله جل وعلا فيه الشّفاء. فإذا حصل هذا التوجه إلى الله والتوكّل عليه من الرّاقي والمرقي حصلت النتيجة بلا شكّ ولا رَيْب. وإنّما تتخلّف النتيجة إذا تخلّف اعتقاد الإنسان، أو غفل عن ذلك. النوع الثاني: حلّ السِّحر "بالتعوذات"، وهي الأدعية التي وردت عنج / 1 ص -381- النبي صلى الله عليه وسلم، فإننا نذكر بعضاً منها: "أعيذك بكلمات الله التامّات من شرّ ما خلَق"، أُعيذك بكلمات الله التامّة من كلّ شيطان وهامّة ومن كلّ عين لامّة"، "أُعيذك بكلمات الله التّامّات التي لا يجاوزهنّ بَرّ ولا فاجر، من شرّ ما خلق وذَرَأ وبرأَ، ومن شرّ طوارق اللّيل والنهار، إلاَّ طارقاً يطرق بخير يا رحمن"، "باسم الله أرقيك، من كلّ داء يؤذيك، من شر كلّ نفس وعين حاسد، الله يشفيك"، "باسم الله، أذهب البأس ربّ النّاس، واشفه أنت الشّافي لا شفاء إلاَّ شفاءُك، شفاء لا يغادر سقماً"، "ربّنا الله الذي في السّماء، تقدّس اسمك، أمرُك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت ربّ الطيّبين، أنزل رحمةً من رحمتك وشفاءً من شفائك على هذا المرض. فيبرأ بإذن الله". هذه هي التعوّذات. فالحاصل؛ أنّ النشرة كما ذكر ابن القيِّم: منها شيء محرّم، وهي النّشرة التي كانت تُعمل في الجاهليّة، وهي ما يعمله السحرة. ومنها شيء مباح وهي النشرة الشرعية، لكن يشترط لها أن يتولاها من يوثق بعلمه ودينه، لا أن يتولاها أصحاب المطامع الدنيوية، أو المشعوذين الذين يفسدون عقائد الناس، ويرهبونهم بالكذب والتدجيل. انتهى الجزء الأول ويليه بإذن الله تعالى الجزء الثاني، وأوله: "باب ما جاء في التطيّر" المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#32
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب ما جاء في التطيُّر ج / 2 ص -5- [الباب الثامن والعشرون:] * باب ما جاء في التطيُّر قول الشيخ رحمه الله: "باب ما جاء في التطيُّر" أي: ما ورد في التطيُّر من الوعيد، وبيان أنه شرك. ومناسبة هذا الباب لِمَا قبله: أنّ فيه بيان نوع من أنواع الشرك والاعتقاد الباطل المُخِلُّ بالتّوحيد. وكان الشيخ رحمه الله يذكُر في هذا الكتاب حقيقة التّوحيد وما يناقضه أو ينقِّصه من العقائد والأقوال والأفعال الباطلة، ومن ذلك: التطيُّر. والتطيُّر مصدر: تطيّر تطيُّراً وطِيَرة، وهو: التشاؤم بالأشياء، واعتقاد أنه يصيب الإنسان منها شيء من الشر. وأصله مأخوذٌ من الطير، لأنهم كانوا في الجاهلية يتشاءمون بالطيور وفي طَيَرانها؛ إذا رأوها تطير على جهةٍ مخصوصة عندهم تشاءموا بها، ورجعوا عمّا عزموا عليه من الأسفار أو الزيجات أو غيرها، ثمّ عَمَّ هذا وصاروا يتطيّرون بكل شيء، فيتطيّرون بالبِقاع، ويتطيّرون بالآدمييِّن، ويتطيّرون بالبهائم، ويتطيّرون بكل شيء. لكن أصل التطيُّر مأخوذٌ من الطير؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يتطيّرون من الطير في حركاتها وطيَرانها وتحريكها لأجنحتها واتّجاهاتها في الطَيران، إلى غير ذلك. فهو عقيدة جاهلية، بل إنه موجود في الأمم القديمة؛ فهؤلاء قوم فرعون تطيّروا بموسى ومن معه، يعني: تشاءموا بموسى عليه السلام وبمن معه من المسلمين، قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ} الحسنة المراد بها هنا: الخصْب والأرزاق ونزول الأمطار، {قَالُوا لَنَا هَذِهِ} استحقيناها على الله بأفعالنا، فنحن نستحقُّ هذا، ولا يعترفون أنه فضلٌ من الله تعالى، بل ينسبون هذا إلى استحقاقهم، وأنهم حصلوا على هذه الشيء بسبب أنهم ناسٌ أهل خير، فما يصيبهم من الحسنات قي السنين يقولون: هذا بسبب أفعالنا، وبسبب صفاتنا، وبسبب كسبنا وكدِّنا، جحدوا نعمة الله عليهم. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} المراد بالسيئة هنا: الجدْب، وانحباس الأمطار، وشُحُّ الآبار، وتلف الثمار. فإنهم ينسبون هذا إلى موسى عليه السلام، ومنْ معه من المؤمنين، فيقولون هذا الذي أصابنا بسببهم، فيتطيّرون بخير النّاس- والعياذ بالله-. والحق أنّ موسى ومن معه من المؤمنين هم سبب الخيرات، وهم سبب البركات، لأن الرسل- عليهم الصلاة والسلام- يُصلحون في الأرض بالطاعات فتنزل الخيرات، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96)}. فالمؤمنون هم سبب الخير لا سبب الشر كما يظنه أهل الجاهلية، إنما سبب الشر هم العُصاة والمشركون والكَفَرة، فما يصيب أهل الأرض من الكوارث والمصائب إنما هو بسبب العُصاة، وما يصيبها من الخيرات فهو بفضل الله، وسببه أهل الطاعات وأهل الصلاح والتقوى؛ ولهذا إذا خَلَت الأرض من الصالحين في آخر الزمان تقوم القيامة وتخرب الدنيا، "ولا تقوم الساعة وفي الأرض من يقول: الله، الله"، و"لا تقوم الساعة إلاَّ على شرار الخلق". فإذا خلت الأرض من الصالحين قامت القيامة، أما ما دام الصالحون موجودين فإن الله سبحانه وتعالى ينزل على أهل الأرض الخيرات والبركات بسبب وجودهم، عكس ما يعتقده آل فرعون من التطيُّر بالرسل- عليهم الصلاة والسلام-. وكذلك ثمود، تطيّروا بصالح عليه السلام لَمّا دعاهم إلى الله سبحانه وتعالى. من {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ}. وكذلك أهل القرية الذين ذكرهم الله في سورة "يس" لَمّا جاءتهم الرسل قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ(13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ(15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ(16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ(17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} يعني: تشاءمنا بكم، وما جئتمونا بخير، {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} هدّدوا الرسل وقالوا: ما رأينا منكم إلاَّ الشرّ ج / 2 ص -7- وقوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ(19)} الآية. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى، ولا طَيرة، ولا هامة، ولا صفر" أخرجاه. فرد عليهم الرسل: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي: ما أصابكم فأنتم سببه، لأن سببه الذنوب والمعاصي التي تصدُر منكم والكفر، فأنتم السبب، ونحن سبب الخير، نحن رسلٌ من عند الله جئناكم، لو أطعتمونا لحصلتم على الخير؛ فهذا ردٌ عليهم، فهذا فيه: بيان أن الشر والشؤم سببه المعاصي والكفر والشرك بالله. وكذلك المشركون تطيّروا بمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل وأفضل الرسل، تطيّروا به، كما قال تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم، {تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} يعني: خير وخصب ونبات وزروع وخيرات، يقولون: هذه من عند الله، نعم، صحيح أنها من عند الله، الله هو الذي أنزلها، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}: قحطٌ جدْب شُحٌّ في الأرزاق {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} بسببك يا محمد، وبسبب أتباعك، {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} كلٌّ بقضاء الله وقدره، الخصب والخيرات والجدب والقحط كله من عند الله وبقضائه وقدره، ولكن الخصب والخيرات سببها الطاعات، وأما الجدْب والقَحْط وانحباس الأمطار فسببه المعاصي والسيّئات، فالسبب من قِبل بني آدم وأما المقدِّر فهو الله تعالى، هو الخالق وهو الموجِد سبحانه وتعالى، ويعطي كلاًّ على حسب عمله؛ المحسِن يحسن إليه، والمسيء يعاقبه إذا شاء سبحانه وتعالى، فالأمر كله بيد الله. فالحاصل؛ أن التطيُّر عادةٌ جاهلية، ذكرها الله سبحانه وتعالى عن الأمم الكافرة من قوم فرعون، وثمود، وأصحاب ياسين، وأهل الجاهلية الذين بُعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا به، بل تطيّروا به. وهذه العادة الجاهلية لا تزال في النّاس إلى أن تقوم الساعة. قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى"المراد بالعدوى: انتقال المرض من شخص إلى شخص، أو من بهيمة إلى بهيمة، أو من مكان إلى مكان. ج / 2 ص -8- والمرض يتعدّى من محل إلى محل، ويتعدّى من المريض إلى السليم، ويتعدّى من الجربى إلى الصحيحة، هذا شيءٌ موجود. والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينفي هذا، وإنما ينفي العدوى التي كان يعتقدها أهل الجاهلية من أنّ المرض يتعدّى بنفسه بدون تقدير الله سبحانه وتعالى، فالعدوى وهي: انتقال المرض من محل إلى محل بسبب قرب الصحيح من المريض، والمقدر لها هو الله تعالى، فقد يقرُب الصحيح من المريض ولا يصيبه شيء، وقد يقرُب ويُصاب، والسبب: أن هذا راجعٌ إلى الله، إن شاء سبحانه وتعالى انتقل هذا المرض، وإنْ شاء لم ينتقل، فمجرّد مقاربة المريض أو القدوم على المحل الموبوء هذا سبب، أما التأثُّر فهو بيد الله سبحانه وتعالى، فقد يدخل الإنسان في الأرض الموبوءة ولا يصاب، وقد يورِد الممرض على المُصح ولا يُصاب، قد ينام المريض بجانب الصحيح ولا يصاب، وقد يصاب، فما وجه التفريق بين الحالتين؟ وجه التفريق: أن هذا راجعٌ إلى مشيئة الله تعالى.أما أهل الجاهلية فلا يفرِّقون بل عندهم: أن كل من قارب المرض- أو كل من قارب المريض- أنه يُصاب، ولا ينسبون هذا إلى قضاء الله وقدره، ولا يتوكّلون على الله سبحانه وتعالى، ويفرِطون في التشاؤم والتطيُّر وانتقال العدوى، ويعملون أعمالاً تُضحك. فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى" يعني: على ما كان يعتقده أهل الجاهلية، أما أنّ العدوى تحصُل بإذن الله فهذا أمرٌ واقع، ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن مخالطة المجذوم، ونهى صلى الله عليه وسلم عن القدوم على الأرض الموبوءة، ونهى من كان في أرض فيها وباء أن يخرج منها ومن كان خارجها لا يدخل فيها، لأن هذه أسبابٌ لانتشار المرض، والامتناع عنها أخذٌ بالأسباب الواقية، والإقدام عليها إلقاءٌ إلى التَّهْلُكة، والله نهى عن ذلك، إلاَّ من قَوِيَ إيمانه وتوكُّله على الله تعالى؛ فهذا قد يُقدم على الوباء ويخالط المرضى ولا يصاب، لأنه متوكِّلٌ على الله سبحانه وتعالى، لكن هذا لا يكون إلاَّ لأهل الإيمان القوي، أما أهل الإيمان الضعيف فهؤلاء يبتعدون عن هذه المواطن لئلا يصابوا، ثمّ تسوء عقيدتهم. ج / 2 ص -9- والإقدام على محلاَّت الخطر من الإلقاء إلى التهلُكة، والله تعالى يقول: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، إلاَّ إذا كان هناك مصلحة راجحة من الإقدام على هذه الأمور فيُقدم عليها، أما إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة فالأخذ بالأسباب الواقية أحسن، وإذا كان هناك مصلحة راجحة فالإقدام أحسن، على حسب الأحوال. وقوله: "ولا طَيرة"هذا نفيٌ معناه: النهي، يعني: لا تتطيّروا، وإنْ كان الإنسان يجد في نفسه شيئاً فلا يمنعه ما يجد في نفسه من المُضي والعزم، لأن إيمانه يسوقه، بخلاف ضعيف الإيمان فإن التشاؤم يتغلّب عليه فيتراجع، ويكون هذا من الخلل في العقيدة، وضعف التوكُّل على الله سبحانه وتعالى. وإذا وجدت في نفسك تشاؤماً أو كراهية فتوكّل على الله وأقدِم. والطيرة ليس لها أصل، بخلاف العدوى، وإنما هي من الشيطان، فهي تخيُّلٌ من الإنسان بسبب وسوسة الشيطان. فالتطيُّر ليس له أصل، ومن وجد في نفسه شيئاً من الكراهية فليتوكّل على الله وليعزم، ولا ترده الطيَرة عن مقصوده. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا هامَة" الهامة: طائر يسمّى البومة، وكان العرب يتشاءمون به إذا وقع على بيت أحدهم قال: نعى إليَّ نفسي أو أحداً من أهلي. كانوا يتشاءمون بها، ويقولون: البوم لا يقع إلاَّ على الخراب. فهذا من عقيدة الجاهلية. وبعض أهل الجاهلية يزعمون أنه إذا قُتل القتيل ولم يؤخذ له بالثأر فإنه يخرج منه طائر يسمّى الهامة، ويصوِّت: أسقوني، أسقوني" يعني: خذوا بالثأر، ولهذا يقول الشاعر: يا عمرو إن لم تدع ذمي ومثلبتي أضربك حتى تقول الهامة أسقوني قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا صَفَر" هذا فيه قولان لأهل العلم: القول الأول: أن المراد بالصفر: شهر صفر، لأنهم كانوا في الجاهلية يتشاءمون بهذا الشهر، فلا يتزوّجون فيه، ولا يسافرون، ولا يتاجرون، ويعتقدون أنه شهرٌ مشؤوم. ج / 2 ص -10- وزاد مسلم: "ولا نوء، ولا غول ". فردّ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ليس هناك صفر مشؤم، وإنما صفرٌ شهر من أشهر الله، ليس فيه شؤم ولا شرٌّ. فهذا فيه: إبطال لتشاؤمهم بشهر صفر. والقول الثاني: أن المراد بصفر: مرض يكون في المعدة، يزعمون أنه يُعْدي غير المصاب به. ولكن سواءٌ قيل هذا أو هذا، كله منفي سواء تشاءموا من الشهر أو تشاءموا من المرض، كله لا أصل له، فليس في الشهر شؤم ولا في المرض،. وإنما الأمراض بيد الله سبحانه وتعالى، هو الذي ينزلها، وهو الذي يرفعها، هو الذي يُمرض، وهو الذي يشفي سبحانه وتعالى، لا دخل للشهور، ولا دخل لغيرها في هذا الأمر. قوله: "أخرجاه" أي: أخرجه البخاري ومسلم. ومناسبة الحديث للباب ظاهرة حيث إنه قال: "ولا طيرة"، ففيه: النهي عن الطيّرة. قوله: "زاد مسلم" أي: في روايته، يعني: زاد على الأربعة المذكورة فصارت "لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، ولا نوء، ولا غول" فصارت ستة أشياء. والنوء المراد به: أحد الأنواء، وهو: النجم، لأنهم كانوا يعتقدون أنّ نزول الأمطار وهُبوب الرياح بسبب طلوع النجوم، ويُسندون هذا ا إلى النجوم والكواكب، وهذا من اعتقاد الجاهلية، لأن نزول الأمطار وحصول الرياح وغير ذلك إنما هو بقضاء الله وقدره، أما هذه النجوم وهذه الكواكب فإنها لا تُحْدِثُ شيئاً، نعم، وقت طلوع النجم وقت للمطر بإذن الله، أو هبوب الرياح، هذا من ناحية الوقت لا من ناحية الخلق والإيجاد، فهي لا توجِد ولا تسبب ولا تحدِث، ولكن يكون طلوعها وقتاً لنزول الأمطار إذا شاء الله، وقد يطلع النجم ولا يحصل مطر، وهذا راجع إلى مشيئة الله وقدره، فقد يكون هناك مواقيت للأمطار ولا ينزل مطر، قد يكون هناك مواقيت لهبوب الرياح ولا تهب الريح لأن هذا بيد الله سبحانه وتعالى، وكم من بلاد كانتْ تنزل عليها الأمطار صيفاً وشتاءً، وامتنع عنها المطر وأجدبتْ، كما تسمعون الآن بما يسمونه بالجفاف في بلاد كانتْ تدوم عليها الأمطار، فإذا أراد الله مَنَعَه ج / 2 ص -11- وحَبَسَهُ منعه وحبسه، وبلاد مجدبة قاحلة يابسة يسوق الله إليها المطر فتمطر فتهتز بالنبات والزهور، هذا بيد الله سبحانه وتعالى، فنزول المطر لا تصرُّف لأحد فيه لا النجوم ولا غير النجوم. وسيأتي مزيد بيان للتنجيم في "باب بيان ما جاء في التنجيم". ولَمّا صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر بأصحابه يوم الحديبية على إِثّر سماء كانت من الليل قال صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ماذا قال ربكم؟ "، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكب. وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذاك كافرٌ بي مؤمنٌ بالكوكب"، فالذي ينسب الأمطار إلى الكواكب أو الأنواء مشركٌ بالله. أما الذي يقول: إن الأنواء وقت للأمطار، فلا شيء فيه، لأن الله جعل للأشياء مواقيت، قد تحصل في هذه المواقيت وقد لا تحصل. فالحاصل؛ أن هذا حديثٌ عظيم، جمع فيه النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من عقائد الجاهلية وأبطلها ونفاها، وقرّر صلى الله عليه وسلم عقيدة التّوحيد. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا غول"- بضم الغين-: أحد الغيلان، والغيلان من أعمال شياطين تتشكّل أمام النّاس في الفلوات، خصوصاً إذا استوحش الإنسان تتشكّل أمامه أشياء تضله عن الطريق، إما بإنْ يرى أمامه ناراً تتنقّل، أو أصواتاً يسمعها، أو غير ذلك، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: "إذا تغوّلت الغيلان فبادروا بالأذان" بمعنى: أنه إذا تغوّل الغول أمامك فبادر إلى ذكر الله، فإن ذكر الله يطرد الشيطان، فإذا ذكرت الله أو تلوت القرآن ذهب عنك هذا العمل الشيطاني. فالنبي صلى الله عليه وسلم نفى هذا- أيضاً-. وكانوا في الجاهلية يعتقدون في هذه الغيلان أنها تُحدِث لهم شرًّا، والنبي صلى الله عليه وسلم نفى هذا، وقال: لا أصل لها، وهي أعمال شيطانية لا تضر أحداً إلاَّ بإذن الله، وذكر لها علاجاً شافياً وهو: ذكر الله. فهذه أمراضٌ جاهلية عالجها النبي صلى الله عليه وسلم -عليه الصلاة والسلام-. ج / 2 ص -12- ولهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل"، قالوا: ما الفأل؟ قال: "الكلمة الطيبة". وهذه الأحاديث والآثار في موضوع حكم الطيرَة، والفرق بينهما وبين الفأل، وبيان ما تُعالَج به الطيرة. فقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس رضي الله عنه: "لا عدوى" العدوى سبق الكلام فيها، وأن معناها: انتقال المرض من شخص إلى شخص بحكم مقاربته له، أو ملامسته له، ونحو ذلك. ولذلك كان أهل الجاهلية يعملون أعمالاً فظيعة خوفاً من العدوى، والرسول صلى الله عليه وسلم نفى ذلك، وأمر باتّخاذ الأسباب الواقية مع التوكُّل على الله سبحانه وتعالى. فقوله: "لا عدوى" يعني: على ما كان تعتقده الجاهلية، وإنما العدوى بأمر الله سبحانه وتعالى ومشيئته، فإذا توكلت على الله، وآمنت بالله، وقوِيَ يقينك بالله، واتخذت الأسباب التي أمر الله بها؛ فحينئذ تكون قد فعلت المشروع، والتوكل ليس معناه أنك تترك الأسباب، بل تأخذ بالأسباب الواقية، ولا تقْدم على البلد الذي فيه الوباء، ولا تخرج منه إذا وقع وأنت فيه، ولا تخالط الممرضين وأنت تقدر على الابتعاد عنهم، إلاَّ إذا دعت الضرورة إلى ذلك، بأن كان المريض ليس له أحدٌ يعالجه، والمصاب ليس له أحد يعالجه ويقوم بشؤونه؛ فتوكل على الله وقُم بمعالجة المريض، وقُم بخدمته وتوكّل على الله سبحانه وتعالى، وأنت مأجور، فالله جل وعلا إذا علم من نيّتك الإيمان والإخلاص كفاك سبحانه وتعالى، أما ما دمت في غنىٌ عن مخالطته فلا حاجة بك إلى مخالطته، فأنت لا تُقدِم عليه من باب أخذ الأسباب. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ويعجبني الفأل" الفأل: تأميل الخير. والطيرة: تأميل الشر. وتأميل الخير مطلوب، والطيرة ممنوعة لأن الطيرة سوء ظنٍّ بالله، والفأل حسن ظنٍّ بالله جل وعلا. فإذا سمع الشخص كلمة طيِّبة انشرح صدره، أو رأى شخصاً طيِّباً جاء إليه انشرح صدره وأمّل خيراً، وأحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، فهذا أمرٌ طيِّب، ولهذا ج / 2 ص -13- ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال: ذُكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلاَّ أنت، ولا يدفع السيئات إلاَّ أنت، ولا حول ولا قوة إلاَّ بك". وعن أبي مسعود مرفوعاً: "الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلاّ...، ولكن الله يذهبه بالتوكل"رواه أبو داود والترمذي وصححه، وجعل آخره من قول ابن مسعود. كان الفأل يعجب الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا سمع صلى الله عليه وسلم اسماً حسناً، أو كلمة طيبة، أو مرّ بمكان طيّب، انشرح صدره صلى الله عليه وسلم من حسن الظن بالله جل وعلا. ولِمّا أقبل سُهيل بن عمرو في قصة الحديبية ليتفاوض مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ورآه مقبلاً قال صلى الله عليه وسلم: "سُهِّل لكم من أمركم"، وكان كما أمّل الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان مجيئه سبب خير. قوله. "فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل" إلخ فيه ما تعالج به الطيرة وهو هذا الدعاء الذي ذكره. وفي حديث ابن مسعود قال: "الطيرة شرك، الطيرة شرك" كرِّر هذا مرّتين أو ثلاثاً تأكيداً، وقد قدّمنا بيان معنى كونها شركاً. قوله: "وما منّا إلاّ... ولكن الله يُذهبه بالتوكُّل" هذا من كلام ابن مسعود، يقول: يقع في قلوبنا شيء من الطَيرة، فإذا رأى الإنسان شيئاً يكرهه يقع في نفسه شيء، لأنه لا يقدر على ردِّ هذا، وهذا لا يؤاخذ عليه الإنسان، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما حدَّثتْ بها أنفسها ما لم تتكلّم أو تعمل"، فكونه يقع في نفس الإنسان شيءٌ إذا رأى شيئاً يكرهه، أو يخاف شيئاً ثمّ لا يتأثر ولا يتصرّف تصرُّفاً يخالف ما شرعه الله؛ لا يؤاخذ على هذا. "ولكن الله يُذهبه بالتوكُّل" هذا هو العلاج، فالمؤمن يتوكل على الله ولا يضره ما وقع في نفسه، ويذهب بإذن الله إذا توكّل على الله. فهذا إشارةٌ إلى ما تُعالجَ به الطيَرة أيضاً وهو: التوكُّل على الله سبحانه ج / 2 ص -14- ولأحمد من حديث ابن عمرو: "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك"، قالوا: فما كفارة ذلك؟، قال: "أن تقولوا: اللهم لا خير إلاَّ خيرك، ولا طير إلاّ طيرك، ولا إله غيرك ". وله من حديث الفضل بن العباس: "إنما الطيرة ما أمضاك أو ردّك". وتعالى، ثم المُضي وعدم التردُّد، فإن تأثر بالطيَرة التي وقعتْ في نفسه وقعد عن الخروج، أو فرّ من المكان الذي تطيّر منه؛ فهذا هو الطيَرة المذمومة، لأنها أثّرْت فيه فمضى أو رجع. وقوله: "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك" فيه أن التطير الذي يرد ويمنع الإنسان عن حاجته شرك. وقوله صلى الله عليه وسلم: "الطيرة: ما أمضاك أو ردّك" "ما أمضاك" يعني، ما نفّرك من المكان، أو من الشخص، أو من المرئي الذي رأيته، وفررْت منه تأثراً بالطيْرة فهو شرك. "أو ردّك" أي: عن حاجتك، كأن تريد أن تسافر ولَمّا رأيت الثعلب أو الغراب أو فلاناً الذي تكره قلت: هذا سفر ليس بحسن أو طيّب. ورجعت عنه وهذا هو التطيُّر، وهو شرك. والواجب عليك حينما حصل لك هذا الشيء وكرهته في نفسك أن ترفضه متوكِّلاً على الله تعالى وأنْ تمضيَ في حاجتك. ثم بيّن صلى الله عليه وسلم ما تُعالجَ به الطيَرة، وهو ثلاثة أمور: الأمر الأول:- وهو الأصل-: التوكُّل على الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يأتي بالخير ولا يدفع الشر إلاّ هو سبحانه وتعالى، وهو الذي يأتي بالخير ويدفع الشر، وهو الذي يضرُّ وينفع، وهو الذي يتصرف في الكون فإذا توكّل على الله فإن الطيرة لا تضره. الأمر الثاني: أنْ يمضيَ في حاجته التي أرادها، ولا يرجع عنها بسبب الطيَرة. الأمر الثالث: الدعاء، بأن يدعوَ الله بالدعاء الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يقول: "اللهم لا يأتي بالحسنات إلاَّ أنت، ولا يدفع السيّئات إلاَّ أنت، ولا حول ج / 2 ص -15- ولا قوة إلاَّ بك" وهذا دعاءٌ عظيم، فيه توكُّل على الله، رفيه اعتراف بأن الذي يأتي بالحسنات ويدفع السيّئات هو الله تعالى وليست الطيَرة، وأنه لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، لا أحد يحوِّل من حال إلى حال إلاَّ الله سبحانه وتعالى، ولا أحد يقوى على شيء إلاَّ بقوة الله سبحانه وتعالى. والدعاء الثاني: "اللهم لا خير إلاَّ خيرك، ولا طير إلاَّ طيرك، ولا إله غيرك" "لا خير إلاَّ خيرك" أي: لا أحد يجلب الخير إلاَّ الله سبحانه وتعالى. "ولا طير إلاَّ طيرك" لا يصيبك شيء إلاَّ بإذن الله وقدره ومشيئته، وبسبب ذنوبك. "ولا إله غيرك" لا معبود بحقٍّ سواك، وهذا اعتراف بالتّوحيد ونفي للشرك. فالحاصل؛ أن الطيرة تُعالج بهذه الأمور الثلاثة: أولاً: التوكُّل على الله. ثانياً: المضي وعدم التأثر بها، ولا تظهر على تصرُّفاتك، وما كأنها وُجدت. والثالثة: أن تدعوَ بهذه الدعوات الواردة في الأحاديث، فإذا دعوتَ الله بهذه الدعوات فإن الله يعافيك من الطيرة ويُمدُّك بإعانته ونصره وتوفيقه. والله تعالى أعلم. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#33
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب ما جاء في التنجيم ج / 2 ص -16- [الباب التاسع والعشرون:] * باب ما جاء في التنجيم قال البخاري في "صحيحه": قال قتادة: "خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، فمن تأوّل غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلّفٌ ما لا علم له به" انتهى. قال الشيخ رحمه الله: "الباب ما جاء في التنجيم" أي: ما ورد من الأدلة على تحريم ذلك، والنهي عنه. والتنجيم المراد به: اعتقاد أن للنجوم تأثيراً في الحوادث وما يجرى في هذا الكون، وقد يُراد بالتنجيم معاني أُخَر يأتي تفصيلها. وهذا اعتقادٌ قديم كان في قوم نُمرود، الذين بُعث إليهم الخليل إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-، وهم الصابئة الذين يعبدون الكواكب، ويبنون لها الهياكل وبيوت العبادة، يعتقدون أنها تدبِّر أمر العالم، ولا يزال هذا الشر موجوداً في العالم. قوله: "قال البخاري في صحيحه" هذا الحديث يُعتبر من البخاري رحمه الله من التعليق، والتعليق هو: أن يذكُر الأثر بدون إسناد، فإذا قال: (قال فلان) بدون إسناد؛ فهذا يسمُّونه بالتعليق، وهو على نوعين عند البخاري: النوع الأول: تعليقٌ بصيغة الجزم، مثل هذا الأثر: "قال قتادة"، (قال فلان). النوع الثاني: تعليقٌ بغير صيغة الجزم، كأنْ يقول: (يُروى عن فلان)، فهذا يسمّى تعليقاً بغير صيغة الجزم، وهو أقل درجة من الأول. وقد جاء الحافظ ابن حجر رحمه الله فذكر أسانيد هذه المعلّقات التي علقها "البخاري" في صحيحه واستقصاها في كتاب سمّاه "تغليق التعليق"، يتكوّن من ثلاثة مجلّدات ضخمة، وقد طبع الكتاب والحمد لله. قوله: "قال قتادة" قتادة هو ابن دِعامة السدوسي، الإمام الجليل في التفسير والحديث وغيره. "خلق الله هذه النجوم لثلاث "يعني: لثلاث حِكَم. ج / 2 ص -17- الفائدة الأولى: "زينة للسماء" كما قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} لأنها سُرُج تتلألأ، قال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ(6)}. الفائدة الثانية: "رجوماً للشياطين "وذلك لأن الشياطين يحاولون استراق السمع من الملائكة في السماء، وبأتون بما يسترقونه إلى الكُهّان من بني آدم، ولكن الله جل وعلا حفِظ السماء بهذه الشهب التي تنطلق من هذه الكواكب فتُحرِق هذا المارد فتُهلكه، خصوصاً عند بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فإنها حُرست السماء بالشهب، كما قال تعالى عن الجن: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً(9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً(10)}، استغربوا هذه الحراسة وهذه الشهب، وكان ذلك مُؤْذِناً ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن بقي من هذا شيء لكنه قليل. الفائدة الثالثة: "علامات يُهتَدى بها" قال تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(15) وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ(16)}، فالله جعل للمسافرين علامات يستدلُّون بها في الأرض وعلامات في السماء. والعلامات التي في الأرض: السبل والفِجاج والطرق التي جعلها الله في الأرض والجبال والأعلام الواضحة، وأما في السماء فهي: النجوم والشمس والقمر، فالنّاس يستدلُّون بسيرهم في الطرق، ولاسيما في البحار التي ليس فيها جبال وليس فيها علامات وكذلك في الليل، يسيرون على النجوم، ينظرون إلى النجوم ويعرفون بها الجِهات، فيسيرون إلى الجهة التي يريدونها، وكذلك يُستدل بهذه النجوم والشمس والقمر على القِبْلة في الصلاة، لانهم إذا نظروا إلى هذه النجوم عرفوا الجهات واهتدوا إلى جهة القبلة. فهذا من حكمة الله سبحانه وتعالى من خلق هذه النجوم، خلقها لهذه النجوم. أما من أراد أن يزيد على هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها الله في كتابه فكما قال قتادة: "فمن تأول غير ذلك أخطأ"، لان الله لم يخلقها لهذا، لأنه أراد أن يحمِّلها شيئاً لم تُخلق من أجله، كأن يعتقد فيها أنها تدلُّ على حوادث في الأرض، أو ج / 2 ص -18- وكره قتادة تعلّم منازل القمر. ولم يرخِّص ابن عيينة فيه. ذكره حربٌ عنهما. هُبوب رياح، أو نُزول مطر، أو موت أحد، أو حياة أحد، أو توفيق في أمر، أو انخذال في أمر؛ فهذا كله من التقوَّل والتطاوُل، والخَرْص والتخمين، وادّعاء لعلم الغيب الذي ما أنزل الله به من سلطان. والنجوم لا تدلُّ على هذا لأنها لم تُخلق لهذا، وإنما هذا يرجع إلى علاَّم الغيوب سبحانه وتعالى. فقوله: تأوّل فيها- يعني: اعتقد فيها غير ذلك من هذه الأمور الثلاثة التي دلّ عليها كتاب الله؛ فقد اخطأ. "وأضاع نصيبه" يعني: من الدِّين، وهذا يقتضي أنه يكفُر. "وتكلّف ما لا علم له به" لأن هذه خَرْصٌ وتخمين وحَدْسٌ وظن لا يُغنى من الحق شيئاً أبداً. وقوله: "انتهى" يعني: كلام قتادة. وقوله: "وكره قتادة تعلُّم منازل القمر، ولم يرخِّص ابن عيينة فيه" يعني: سفيان بن عيينة، الإمام الجليل، المحدِّث المشهور. ومنازل القمر المراد بها: المنازل التي ينزلها في الشهر، وهي ثمانية وعشرون منزلة؛ أربع عشرة منزلة يمانية، وأربع عشرة منزلة شامية، ينزل في كل ليلة منزلة1، وعلامة هذه المنزلة نجمٌ من النجوم المعروفة يقطعها القمر في شهر، بينما تقطعها الشمس في سنة. وكل منزلة ثلاثة عشرة يوماً، وواحدة منها أربعة عشر يوماً، وهي القلب. وهل يجوز تعلم هذه المنازل لمعرفتها من أجل الحساب. على قولين: القول الأول: المنع، وهو قول قتادة وسفيان بن عيينة، لأن هذا- وإنْ كان 1 ويستسر في ليلة أو ليلتين حسب تمام الشهر ونقصانه. ويستسر بمعنى أنه يختفي في ضوء الشمس. ج / 2 ص -19- ورخّص في تعلُّم المنازل: أحمد وإسحاق. لا شيء فيه في نفسه- إلاَّ أنه وسيلة لأن يُعتقد فيها ما لا يجوز، فهذا من سدِّ الذرائع، فلا يتعلّم منازل القمر عندها، لأنه ربما يتدرّج إلى اعتقاد أنها تؤثِّر في الكون وأنها..، وأنها..، ولأنه زائد على الفوائد الثلاث السابقة. والقول الثاني: أنه لا بأس بتعلّم منازل القمر، وهذا ما يسمّى بعلم التسيير. وهو مذهب الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وقول كثير من أهل العلم. وهذا هو الصحيح- إن شاء الله- لأجل ما فيه من الفوائد وعدم المحذور. أما الممنوع فهو علم التأثير، وهو: اعتقاد أن هذه النجوم تؤثِّر في الكون، هذا هو الممنوع، أما معرفة حسابها من أجل الفوائد من غير اعتقاد أنّ لها تأثيراً في الكون؛ فهذا لا بأس به، ولا يزال العلماء يتعلّمونه ويعلِّمونه للناس لفوائده العظيمة. وعلم التأثير ينقسم إلى ثلاثة أقسام، كلها محرّمة، لكن بعضها أشدّ من بعض. القسم الأول: اعتقاد أنّ هذه الكواكب هي التي تُحدِث هذه الحوادث الكونية، وأنّ مصدر الحوادث هو حركات الكواكب وتَشَكُّلاتها. وهذا اعتقاد الصابئة، وهو جُحودٌ للخالق سبحانه وتعالى، واعتقاد أنّ هذه الكواكب هي التي تُحدِث هذه الحوادث، وأنها هي التي بتشَكُّلاتها وأحوالها ينتجُ عنها ما يحدُث في هذا الكون من خير أو شرّ، ومن صحة ومرض، ومن خُصْب وجَدْب، وغير ذلك، فهذا هو اعتقاد الصابئة، وهذا كفرٌ صريحٌ بإجماع المسلمين. والقسم الثاني: أن لا يعتقد أنها هي التي تُحْدِث هذه الحوادث، ولكن يعتقد أنها سبب للتأثير، وأما الذي يُحدِث هذا الشيء فهو الله سبحانه وتعالى، ولكن هذه أسباب، فينسب إليها الأمور من باب الأسباب. وهذا- أيضاً- باطل ولا يجوز وهو شرك أصغر، لأن الله لم يجعلها أسباباً، ولا علاقة لها بما يجري في هذا الكون أبداً؛ من نزول مطر، أو هُبوب رياح، أو غير ذلك، وإنما هذا راجعٌ إلى تدبير الله سبحانه وتعالى، لأمره وإذنه سبحانه وتعالى وليس للكواكب علاقة بهذا، غير أنّ الله خلقها للأمور الثلاثة التي سبق بيانها. والقسم الثالث: الاستدلال بها على الحوادث المستقبَلة. ج / 2 ص -20- وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدِّق بالسحر"رواه أحمد وابن حبّان في "صحيحه". وهذا من ادّعاء علم الغيب، ومن الكهانة ومن السحر، وهو كفر بإجماع المسلمين. وكلُّ هذه الأمور الثلاثة اعتقاد أنها هي التي تخلُق هذه الأشياء، واعتقاد أنها أسباب لما يجري في الكون من الحوادث، واعتقاد أنها تدلُّ مجرّد دلالة على أنه سيحصل كذا؛ رُخص أو غلاء، ومن تزوّج في النجم الفلاني فإنه يوفّق، ومن تزوج في النجم الفلاني أو البُرْج الفلاني فإنه يُخْفِق، وما يسمونه بالبَخْت والنَّحْس. هذا كله باطل، وهذا يُنشر في بعض المجلاَّت التي تصدُر من جهات غير ملتزمة بالإسلام يُنشر فيها أبوابٌ خاصّة بالنجوم، وأنّ في البُرج الفلاني يحصُل كذا من تزوّج فيه، أو باع أو اشترى يربح، والنجم الفلاني نحسٌ ولا يصلح فيه شيء. هذا من اعتقاد الجاهلية. وأما علم الحساب المستفاد من منازل القمر لمعرفة مواقيت الصلاة، ووقت بذر الزرع، وغرس الأشجار، وغير ذلك من المصالح. فهذا ليس من الاستدلال بالنجوم على المحرّم، إنما هو من علم الحساب، والله خلق الشمس والقمر للحساب. وهذه المفكِّرات التي تعلق على الجُدران ويتداولها النّاس لمعرفة مواقيت الصلوات هي من هذا النوع، من العلم المرخّص فيه، والذي رخّص فيه: الإمام أحمد، وإسحاق، وغيرهما، سواء كان من الحساب الشمسي أو القمري، كله من هذا النوع، لا بأس به لأنه فيه مصالح للناس وليس فيه اعتقاد سيء. قال: "وعن أبي موسى" هو الصحابي الجليل عبد الله بن قيس الأشعري، نسبة إلى جماعة في اليمن يقال لهم "الأشعريين". وأبو موسى هذا من أفاضل الصحابة وأجلاَّئهم وفُضلائهم، قد تولّى أعمالاً جليلة في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وفي أيام الخلفاء الراشدين، فله مكانةٌ عظيمة في ج / 2 ص -21- الإسلام، رضي الله تعالى عنه وأرضاه وكان حسن الصوت بالقرآن واستمع إليه النبي صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه. قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يدخلون الجنة" هذا وعيد يُجرى على ظاهره ولا يُؤَوّل ولا يُفَسّر، لأن تفسيره وتأويله يقلِّل من أهميِّته، فيُترك على ظاهره للزجر والوعيد، وإن كان أصحاب هذه الجرائم لا يخرجون من الإسلام، ولكن هذا من باب الوعيد الشديد لهم. وهم: "مدمن الخمر" والمراد بالمدمن: الذي يداوِم على شرب الخمر، ولا يتوب إلى الله منها. فشرب الخمر كبيرة من كبائر الذنوب، ومن استحلّه فقد كَفر، ومن اعتقد تحريمه وشَرِبَه من باب الشهوة النفسانية فقد فعل كبيرة من كبائر الذنوب، ويُعتبر فاسقاً ناقص الإيمان، إذا ثبت عليه الشرب بإقراره أو بشهادة الشهود يُقام عليه الحد ثمانين جلدة، لأن حدّ الخمر شرع لصيانة العقل، الذي هو أشرف شيء في الإنسان، يميّز به الضار من النافع، والطيِّب من الخبيث، وبه يعقل أمور دينه، وبه يُمسك عن الأذى، فإذا فقد العقل صار أحطّ من البهيمة، فيؤذي، ويضيِّع أخلاقه ومصالحه ومصالح غيره، فلذلك زجر الله عن شُرب الخمر، ووضع لها حدًّا في الدنيا ووعيداً في الاخرة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخل الجنة، فهذا وعيدٌ شديد. والثاني: "قاطع الرحم" والرحم هي: القرابة من جهة الأب، أو من جهة الأم. وصلة الأرحام واجبةٌ في الإسلام بعد بِرِّ الوالدين، وهم: الأولاد وأولادهم، والإخوة والأخوات وأولادهم، والأعمام والعمّات وأولادهم، والأخوال والخا لات وأولادهم، والآباء والأجداد. فأول من تَجبُ صلته: الوالدان بالبر بهما، ثمّ الأولاد، ثمّ الإخوة وأولادهم، ثمّ الأعمام والعمّات وأولادهم ثمّ الأخوال والخالات وأولادهم، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شيئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى}، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} إلى قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}. ج / 2 ص -22- فالقربى لها حق واجب، ومن قطع هذا الحق فإنه يكون قاطعاً للرحم، وقاطع الرحم مرتكبٌ لكبيرة من كبائر الذنوب، وملعونٌ في القرآن، كما قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ(22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)}. والله جل وعلا يقول للرحم في الحديث القدسي: "من وصلكِ وصلته، ومن قطعكِ قطعته"، وفي هذا الحديث: أنه لا يدخل الجنة. وهذا وعيدٌ شديد. والثالث: "مصدِّقٌ بالسحر" وهذا محل الشاهد من الحديث. فإنْ قلتَ: الحديث في مصدِّق السحر، والباب في باب التنجيم، فما المناسبة؟ قلنا: المناسبة أن التنجيم نوعٌ من السحر؛ لما يأتي في الحديث: "من اقتبس شُعبة من النجوم فقد اقتبس شُعبة من السحر زاد ما زاد"، فالتنجيم نوعٌ من السحر، فلذلك أورده المصنِّف في هذا الباب. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنّ المصدِّق بالسحر- ومنه المصدِّق بالنجوم- أنه لا يدخل الجنة، وهذا وعيدٌ شديد، قد لا يدخل الجنة لكفره، وقد لا يدخلها لمعصيته. وهذا من أحاديث الوعيد التي تُجرى على ظاهرها ولا تُفسَّر. والشاهد منه قوله: "مصدِّقٌ بالسحر" الذي منه التنجيم. وعلى كل حال؛ فالواجب على المسلم أن يحذَر من هذه المشكلة، وهي مسألة التنجيم التي لا يزال شرها موجوداً في النّاس. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#34
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن لرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء ج / 2 ص -23- [الباب الثلاثون:] * باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ(82)}. قال الشيخ رحمه الله: "باب الاستسقاء بالأنواء" أي: طلب السقيا بالنجوم. ما حكمه؟ وما دليله؟. وهذا الباب يُعتبر نوعاً من أنواع الباب الذي قبله، وهو "باب ما جاء في التنجيم"، فالباب الأول عامٌّ في كلِّ ما يُعتقد في النجوم من الكفر والضلال والباطل من استسقاء وغيره، وهذا الباب خاصٌّ بمسألة واحدة، وهي الاستسقاء بالنجوم. قوله: "باب ما جاء" أي: من الوعيد في الكتاب والسنّة، وبيان أنّ ذلك كفر بالله تعالى، لأنه اعتقادٌ في غير الله في أنه يخلق أو يرزق أو يدبِّر شيئاً من هذا الكون، وهذا كفرٌ بالله سبحانه وتعالى، لأن الله سبحانه هو الخالق المتصرِّف المدبِّر لهذا الكون ليس له شريك، وكلُّ هذه المخلوقات كلها مدبَّرةٌ بأمره سبحانه وتعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ} الذي هو: التدبير والإيجاد والتصرُّف، {وَالْأَمْرُ} الذي هو الشرع، فكما أنه الخالق فهو الذي يشرع سبحانه وتعالى، ويأمر وينهى، {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}. لَمّا قرأ عبد الله بن عمر هذه الآية قال: "من كان له شيء فليطلبه". وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(12)}، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(37)}، فلا يجوز أن يُعتَقد في مخلوق من المخلوقات أيًّا كان شكله وقوته ونوعه أن يُعتقد فيه أنه يدبِّر مع الله سبحانه وتعالى، وانما يدبِّر بأمر الله: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً(5)} يعني: الملائكة يدبِّرون بأمر الله سبحانه وتعالى، الله يأمرها وهي تدبِّر ما أمرها به سبحانه. قال: "وقول الله تعالى: "{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ(82)}" هذه الآية في سياق ج / 2 ص -24- الآيات التي قبلها، وهي قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ(77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ(79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(80)أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ(81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ(82)}. والشاهد في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} إلى قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ(82)}. وقد ذكر العلماء في تفسيرها قولين: القول الأول: أن المراد بالنجوم الكواكب، والمراد بمواقعها طلوعها وغروبها، طلوعها من المشرق وغروبها من المغرب، لأن هذا من أعظم آيات الله سبحانه وتعالى. والمقسم عليه هو: أحقيّة القرآن. وقوله تعالى: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ} هو القرآن {أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} يعني: تكذِّبون بهذا القرآن، وتقولون: إنه من قول محمد، أو من قول فلان أو علاَّن، بعد هذا البيان، وبعد هذا التوضيح. {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ(82)} {رِزْقَكُمْ} يعني: المطر، {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} فتقولون: مُطرنا بنوء كذا وكذا، فتنسبون المطر إلى الأنواء. والأنواء جمع نوء، من: ناء ينوء إذا نهض، والنوء عبارة عن أحد منازل القمر الثمانية والعشرين. وذلك أن العرب تزعم في الجاهلية أن المطر إنما ينزل بسبب طلوع النجم، وبعضهم يقول: المطر يحصل بسبب غروب النجم الذي يغرب في الفجر. والخلاف بينهم يسير. المهم أنهم يضيفون نزول المطر إلى طلوع النجم أو غروبه، يظنون أن غروب النجم أو طلوع النجم في الفجر هو الذي يسبِّب نزول المطر، فيقولون: مُطرنا بنوء كذا وكذا، مطرنا بنوء الثريا، بنوء القلب، بنوء العُوّاء، بنوء الغَفْر، بنوء الزُّبانة، إلى آخره، هكذا تقول العرب في جاهليتها. وقد أكذبهم الله فقال تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} أي: المطر {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} فتنسبونه إلى الطالع أو الغارب من النجوم، وهذا كذب، لأن الذي ينزل المطر ج / 2 ص -25- وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم والنياحة". هو الله سبحانه وتعالى، وليس طلوع النجم أو غروبه، فيكذبون على الله سبحانه وتعالى، وينكرون نعمة الله ويجحدونها، وكان الواجب عليهم أن يشكروا نعمة الله، وأن يضيفوا النعمة إلى الله، لكنهم أضافوها إلى غيره، وقالوا: مُطرنا بالنوء الفلاني، فأنكر الله عليهم: قولهم: مطرنا بنوء كذا وكذا وسمّاه الله كذباً، وهو كذبٌ في الاعتقاد، وأشد الكذب هو الكذب في الاعتقاد، قال تعالى{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ (32)}، فالذي يكذب على الله وينسب نعمه لغيره، وينسب المطر إلى مخلوق من خلقه فقد كذب على الله أعظم الكذب، بدل أن يشكر الله يكذب عليه، وينسب نعمه إلى غيره، وهذا جُحودٌ للنعمة، وكُفرانٌ بها. وقد فصّل العلماء حكم ذلك فقالوا: إن اعتقد أنّ النجم هو الذي يوجد المطر؛ فهذا كفرٌ أكبر، وشركٌ أكبر مخرجٌ من الملَّة. أما إذا اعتقد أنّ المطر ينزل بأمر الله وبتقدير الله سبحانه، ولكنه نسبه إلى النجم، أو إلى الطالع أو الغارب من باب المجاز أو السبيبة -كما يقولون- فهذا كفرٌ أصغر، وشركٌ أصغر، لكنه وسيلةٌ إلى الشرك الأكبر، لأن الله لم يجعل النجوم سبباً في نزول الأمطار، وإنما الأمطار تنزل بأمره سبحانه وتعالى، فالأمطار إنما تنزل بأمره وبسبب رحمته سبحانه وتعالى كما دلّتْ على ذلك آياتٌ كثيرة من القرآن: {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ}، {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ(9)}، {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ}. والحاصل؛ أن المنزِّل للمطر هو الله سبحانه وتعالى، والرياح والسحاب إنما هي مخلوقات لله سبحانه وتعالى. قوله صلى الله عليه وسلم: "أربع" أي: أربع خِصال. "في أمتي" يعني: أمة الإجابة، لأن أمة الدعوة تشمل كل الثقلين الجن والإنس، لأن الرسول بُعث إليهم. ج / 2 ص -26- وأما أمة الإجابة فهم الذين آمنوا به صلى الله عليه وسلم وصدّقوه واتّبعوه. "من أمر الجاهلية" المراد بالجاهلية: ما قبل الإسلام، سُمي جاهلية من الجهل وهو عدم العلم، لخلو هذا الوقت -وقت الفتْرة- من آثار الرسالات السماوية، لأن بين بِعثة محمد صلى الله عليه وسلم وبين عيسى- آخر أنبياء بني إسرائيل- أربعمائة سنة وزيادة، كانتْ قد اندثرتْ فيها آثار الرسالات، ونظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلاَّ بقايا من أهل الكتاب انقرضوا قبل البِعثة. فهذا الوقت الذي قبل الإسلام سمّي بالجاهلية لعدم وجود العلم فيه. أما ما بعد الإسلام فلا يقال له: جاهلية، لأن الجاهلية زالت والحمد لله بالإسلام، والعلم موجود، ورّثه الرسول لله، فبعد بعثة هذا الرسول زالت الجاهلية العامّة، أما بقايا من الجاهلية أو خصال من أمور الجاهلية فقد تبْقى في أفراد من الناس أو طوائف من الناس المسلمين، لكن أن يقال: الناس كلهم في جاهلية -كما يطلقه بعض الكتّاب الجهال- فهذا باطل. فقد يُبالغ بعض الكُتّاب الجُهّال فيصفون هذا الوقت بوقت الجاهلية، فيقول بعضهم: "جاهلية القرن العشرين"، وهذا تعبير خاطئ، وقول باطل، كما نبّه على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: "اقتضاء الصراط المستقيم". فقوله صلى الله عليه وسلم: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية" دلّ على أنه تبقى أشياء من الجاهلية تتسرّب في الناس، وقد تكون في بعض المؤمنين الصادقين. وقد تكثُر الجاهلية في بعض الأشخاص وتعظُم، ولكنه لا يخرج بها من الإسلام ما دام أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولم يشرك بالله، ولم يرتكب ناقضاً من نواقض الإسلام، فليس كل من فيه جاهلية يكون كافراً. فالحاصل؛ أن المبالغات في وصف الزمان بأنه جاهلية والناس كلهم في جاهلية؛ فهذا باطل، ولا يصدُر من عالم محقِّق، إنما يصدُر من بعض الجُهّال. وقوله: "من أمر الجاهلية لا يتركونهن" دلّ هذا على مسألتين. الأولى: يُنسب إلى الجاهلية، وعلى أنه محرّم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر هذا من باب الذم والتحذير منه، وقال الله تعالى لنساء نبيه: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ ج / 2 ص -27- الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، فكل ما يُنسب إلى الجاهلية فإنه محرّم ومذموم يجب التخلِّي عنه والابتعاد عنه. المسألة الثانية: فيه- أيضاً-: أنه قد يبقى شيءٌ من الجاهلية في بعض المسلمين، فيجب عليه الحذَر منه، والتحذير منه، والتوبة إلى الله ممّن وقع في شيء من ذلك من أمور الجاهلية. وهذه الأربع التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم هي: الأولى: "الفخر بالأحساب" والمراد بالحسَب: شرف الإنسان ومكانته في المجتمع، فلا يفخر بحسبه، لأن الله سبحانه يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، فالكرم عند الله هو بالتقوى لا بالحسب. يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "إذا كان لا يجوز للإنسان أنه يفخر بعمله هو، فكيف يفخر بعمل أبيه وجده". قال الشاعر: لعمرك ما السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد وقال آخر: وليس على عبد تقيِّ غضاضة إذا حقق التقوى وإنْ حاك أو حجم الثانية من أمور الجاهلية: "الطعن في الأنساب" بأن يتنقّص أنساب النّاس. الثالثة: "والاستسقاء بالأنواء" وهذا محل الشاهد من الحديث.لأنه يعظّم نفسه، ولأنه يتنقّص الآخرين وكلاهما مذموم. والاستسقاء (استفعال)، أصله: طلب السقيا، قال الله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} {اسْتَسْقَى} يعني: طلب السقيا. والاستسقاء بالنجوم هنا ليس معناه: أنهم يطلبون من النجوم أن تسقيهم، لكن معناه: أنهم ينسبون المطر إلى النجوم، فيقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا. وكما فصّل العلماء: إنْ كان يعتقد أن النجوم هي التي أنزلت المطر وأثّرت؛ فهذا كفر مخرِج من الملّة. وإن كان يعتقد أن المنزل للمطر هو الله، وأن النجوم إنما هي أسباب وأضاف ذلك إليها من باب التساهل في التعبير؛ فهذا يُعتبر شركاً وكفراً أصغر لا يخرج من الملة. ولكنه محرّم شديد التحريم، لأنه وسيلة إلى الشرك ج / 2 ص -28- وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تُقام يوم القيامة وعليها سِربال من قَطِران ودرْعٌ من جَرَب"رواه مسلم. الأكبر، ولأن الشرك وإن كان أصغر فهو خطير، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. قال العلماء: أما لو قال: سُقينا في نوء كذا، فأتى بـ (في)، فلا بأس بذلك، لأن هذا ليس فيه نسبة المطر إلى النجم، وإنما يقول: سُقينا في هذا الوقت، سُقينا في نوء كذا يعني: في وقت كذا. الرابعة: قوله صلى الله عليه وسلم: "والنياحة على الميت" والنياحة: رفع الصوت على الميِّت من باب الجزَع والتسخُّط، وإذا صحبه شقّ للثوب، أو لطم للخد، أو تعداد لمحاسن الميِّت، أو نياحة وندْب وجزَع؛ فهذا كبيرة من كبائر الذنوب. والواجب عند نزول المصيبة: الصبر والاحتساب لا الجزَع والتسخُّط. والنياحة دليل على عدم الرضى بقضاء الله وقدره، ودليلٌ على عدم الصبر والاحتساب. وهي من أمور الجاهلية، ويكفي أنها من أمور الجاهلية، لأن أمور الجاهلية محرّمة. قوله: "وقال: النائحة إذا لم تتب" يعني: ترجع عن النياحة، وتندم على ما حصل منها، وتعزم على أن لا تعود إلى النياحة في مستقبلها. وهذه شروط التوبة: فالتوبة لغة: الرجوع، وشرعاً هي: الرجوع من معصية الله إلى طاعة الله. وشروطها ثلاثة: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما حصل، والعزم أن لا يعود إليه. فإذا توفّرت هذه الشروط فالتوبة صحيحة، وإذا اختلّ شرطٌ منها فهي توبة غير صحيحة. ودلّ هذا على أن التوبة تمحو المعصية ولو كانتْ كبيرة، ولو كانت شركاً وكفراً بالله جل وعلا، فالتوبة تَجُبُّ ما قبلها من النياحة وغيرها. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "قبل موتها" دليل على أنه عند الموت لا تُقبل التوبة، فإذا بلغت الروح الحُلْقوم فحينئذ لا تُقبل التوبة. ج / 2 ص -29- ولهما عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانتْ من الليل، فلما انصرف أقبل على النّاس فقال: "أتدرون ماذا قال ربكم؟". قوله: "تُقام يوم القيامة" يعني: من قبرها. "وعليها سِرْبال" السِّربال هو: الثوب. "من قطران" هو النحاس المذاب. "ودِرْعٌ من جَرَب" الدرع كذلك هو: الثوب، والجَرَب: مرض جلدي، يكون في الإبل ويكون في الإنسان. فدلّ هذان الحديثان على مسائل: أولاً: فيه تحريم أمور الجاهلية وذمها عموماً. ثانياً: فيه أن أمور الجاهلية لا ترتفع بالكلية، بل يبقى منها شيءٌ في بعض المسلمين. ثالثاً: وهي مسألة مهمة جدًّا-: أن من كان فيه شيء من أمور الجاهلية لا يقتضي ذلك كفره، لكن يكون هذا ذنباً مذموماً يجب عليه التخلِّي عنه والتوبة منه، لكنه لا يقتضي الكفر، لأنه قال: "من أمتي"، فمن كان فيه شيء من أمور الجاهلية فهذا لا يقتضي كفره، إلاَّ إذا بلغ مبلغ المكفِّرات كالشرك بالله جل وعلا، أو بلغ ناقضاً من نواقض الإسلام المعروفة فهذا يكفُر به. رابعاً: فيه دليل على تحريم المسائل الأربع المذكورة: "الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة"، وأن هذه الأمور من كبائر الذنوب. والخامسة: فيه دليلٌ على أن التوبة تمحوا ما قبلها. سادساً: فيه أن قبول التوبة محدّد بما قبل الموت. والله تعالى أعلم. قوله رحمه الله: (ولهما) أي البخاري ومسلم في صحيحهما: "عن زيد بن خالد" الجهني، صحابي جليل مشهور، والجهني نسبة إلى جُهينة القبيلة المعروفة، وهي قبيلة كبيرة من قبائل العرب. "قال: صلى لنا" المراد: صلى بنا، فاللام هنا بمعنى الباء. ج / 2 ص -30- قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافرٌ. فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكب. وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافرٌ بي مؤمن بالكوكب". "رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح" يعني: صلاة الفجر، سُمِّيت صلاة الصبح لأنها تجب عند طلوع الفجر، كما قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} يعني: صلاة الصبح. "بالحديبية" اسم مكان على حدود الحرم من جهة الغرب، قريب من التنعيم، يقال له الآن (الشميسي)، وهو عند مدخل الحرم للقادم من جدّة. يقال الحديبيةَ - بالتخفيف-، ويقال بالحديبيّة، بالتشديد والمشهور الأول. "فلما انصرف أقبل على النّاس" لأن هذا من السنّة؛ أن الإمام إذا فرغ من الصلاة فإنه لا يبقى مستقبل القبلة، بل ينصرف إلى النّاس ويُقبِل عليهم بوجهه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك. "فقال صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ماذا قال ربكم؟" هذا فيه: مشروعية الموعظة بعد الصلاة إذا صار لها مناسبة، كتنبيهٍ على خطأ وقع، أو بيان لواجب، أو موعظةٍ عامة، وحثِّ على تقوى الله، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يعظ النّاس أحياناً، ولم يكن يداوم على ذلك، وإنما يفعل ذلك أحياناً خشية المَلَل، فكان يتخوّلهم بالموعظة صلى الله عليه وسلم، خصوصاً إذا حصل شيءٌ يحتاج إلى تنبيه، مثل هذه القضية. وفي هذا مشروعة التعليم من خلال السؤال والجواب، فالمعلِّم يسأل الطالب أوّلاً من أجل أن ينتبه للجواب، لأن هذا يكون أبلغ في التعليم وأنبه للطالب، لأنه إذا سُئل أولاً ثمّ أُجيب فإنه يكون هذا أثبت في ذهنه، بخلاف ما لو أُلقيَ إليه العلم ابتداءً فإنه قد لا ينتبه له تماماً. "قالوا: الله ورسوله أعلم" هذا فيه أن المسؤول إذا لم يكن عنده علم ولا جواب أنه لا يتخرّص، وإنما يكِل العلم إلى عالمه، فيقول: الله ورسوله أعلم، وهذا في حياته صلى الله عليه وسلم، أما بعد موته فيقول: الله أعلم فقط. ففيه: مشروعية تفويض العلم إلى الله سبحانه وتعالى. فأجاب صلى الله عليه وسلم: و"قال" أي: الرسول صلى الله عليه وسلم "قال" أي: الله. ج / 2 ص -31- وهذا من الأحاديث القدسية، نسبة إلى القدس وهو الطهارة، والتقديس هو التطهير، سُمي بذلك تشريفاً له لأنه من كلام الله. فالحديث القدسي من كلام الله لفظه ومعناه. أما الحديث غير القدسي فهو من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن المعنى من الله، لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)}. إلاّ أن الحديث القدسي مع أنه من كلام الله لا يأخذ حكم القرآن من كل وجه، بحيث يُتعبد بتلاوته مثل القرآن، وبحيث لا يمسه إلاَّ طاهر مثل القرآن، أو أنه يُشترط له التواتر مثل القرآن، ومن حيث إنه تجوز روايته بالمعنى. أما القرآن فلا تجوز روايته بالمعنى. الحاصل؛ أن بين الحديث القدسي وبين القرآن فروقاً كثيرة، وإن كان يجتمع مع القرآن في أنه كلام الله سبحانه وتعالى لفظاً ومعنى. وفي قوله: "قال" إثبات أن الله يتكلّم، فصفة الكلام ثابتةٌ لله، يتكلّم متى شاء إذا شاء سبحانه وتعالى؛ كلاماً يليق بجلاله، ليس مثل كلام المخلوقين، فكيفيّته وكُنْهُه لا يعلمهما إلاَّ الله سبحانه وتعالى، لكنه ثابتٌ لله من صفات الأفعال التي يفعلها الله إذا شاء سبحانه وتعالى. ففيه: ردٌّ على الجهمية والمعتزلة والأشاعرة الذين ينفون الكلام عن الله سبحانه وتعالى. "أصبح من عبادي" يعني: بسبب نزول المطر. "مؤمنٌ بي وكافر" "مؤمن بي" بسبب هذه النعمة، "وكافر" بسببها. دلّ على أنّ حصول النعم ابتلاء من الله سبحانه، يبتلي به عباده، فمنهم من يشكر الله فيكون مؤمناً، ومنهم من ينكر نعمة الله فيكون كافراً بنعمه. ثمّ بيّن صلى الله عليه وسلم سبب ذلك فقال فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: "فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته"يعني: نسب النعمة إلى الله سبحانه وتعالى. والتفضُّل والرحمة صفتان من صفات الله، فالله هو الذي يتفضل وهو الذي يرحم، ونزول المطر أثرٌ من آثار رحمة الله، كما قال تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ ج / 2 ص -32- اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} يعني بإنزال المطر وإنبات النبات. "فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب" لأنه لم ينسب نزول المطر إلى طلوع الكواكب أو غروبها، وهو ما يسمى بالنوء. "وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا" والنوء سبق لنا أنه هو النجم إذا طلع من المشرق وقت الفجر، أو غاب في المغرب وقت الفجر. كان أهل الجاهلية ينسبون المطر إلى طلوع النجم أو غروبه، فيزعمون أنه إذا طلع النجم أو غرب ينزل المطر، ويعتقدون أن هذا بسبب الكواكب، ولا ينسبونه لله تعالى. وهذا كفر، لأنهم نسبوا النعمة إلى المخلوق، وهذا شرك بالله سبحانه وتعالى؛ شركٌ في الربوبية، وكل مشرك كافر. وهذا فيه دليل على كفر من استسقى بالأنواء ونسب نزول المطر إليها، أو أنّ نزول المطر بتأثيرها، لأن نزول المطر إنما هو بقدرة الله سبحانه وتعالى هو الذي ينزِّله متى شاء وأين شاء ويمنعه متى شاء وأين شاء، ويصرِّفه سبحانه وتعالى. تطلُع الأنواء ولا يحصل مطر، ويحصل المطر في غير طلوع الأنواء، فيحصل المطر في أيِّ وقتٍ شاءه الله، وهذا شيءٌ مشاهَد أن المطر ينزل في جميع الأحيان ولا يتقيّد بظهور النجم، فهذا دليل على كذب هؤلاء. وفيه مشروعية قول هذا الكلام عند نزول المطر: "مُطرنا بفضل الله وبرحمته". وفيه التنبيه على شكر الله عند حدوث النعم من الأمطار وغيرها، فكل ما حصل للإنسان نعمة فإنه يجب عليه أن ينسبها إلى الله، وأن يشكر الله عليها، ولا ينسبها إلى غيره، لا إلى حوله وقوَّته، ولا إلى أحدٍ من خلقه، وإنما ينسب الفضل إلى المتفضِّل وهو الله سبحانه وتعالى. وهذا الحديث فيه فوائد عظيمة: فيه: مشروعية الموعظة بعد الصلاة خصوصاً إذا حصل مناسبةٌ لها. وفيه: مشروعية صلاة الجماعة في السفر كما هي مشروعة في الحضَر. وفيه: مشروعية التعليم عن طريق السؤال والجواب، لأن ذلك أبلغ في التفهيم وأيسر للتعليم، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا مراراً وتكْراراً. ج / 2 ص -33- ولهما من حديث ابن عباس معناه، وفيه: (قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا. فأنزل الله هذه الآيات: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ(77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ(79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ(81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ(82)}. وفيه- وهو الشاهد من الحديث للباب-: أن نسبة المطر إلى الأنواء كفرٌ بالله صلى الله عليه وسلم وشرك، وأن نسبة النِّعم والأمطار إلى الله إيمان بالله وتوحيد. وفيه: أن حصول النعم ابتلاء وامتحان من الله تعالى؛ ليتبيّن بذلك المؤمن من الكافر. وفيه: مشروعية قول هذا الكلام عند نزول المطر: "مُطرنا بفضل الله وبرحمته" كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، ويقول: "اللَّهم صيِّباً نافعاً". وقوله: "ولهما" أي: للبخاري ومسلم. "من حديث ابن عبّاس بمعناه... إلخ" هذا مثل الحديث الذي قبله؛ لما نزل عليهم المطر قالوا: "صَدَق نوء كذا وكذا" زعموا أن طلوع النجم هو الذي حصل به المطر، فهم نسبوا نزول المطر إلى النوء، فصدّقوه، فأنزل الله تعالى منكراً عليهم قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ}. قوله تعالى: {فَلا} لا هذه نافية، أي: ليس الأمر كما زعمتم أنّ نزول المطر بسبب صدق النوء الفلاني، وإنما المطر بفضل الله. ثمّ أقسم جل وعلا على هذا النفي. والمشهور- كما اختاره ابن جرير-: أن المراد بالنجوم هنا: الكواكب، لأن في طلوعها وغروبها آية عظيمة من آيات الله سبحانه وتعالى لمن يتدبّر ويتفكّر. والله جل وعلا يقسم بما شاء من خلقه، وهو لا يقسم إلاَّ بشيء فيه سرٌّ عظيم يحتاج إلى تأمُّل، ويحتاج إلى نظر، فلو نظرت إلى تنظيم هذه النجوم في مسارها ج / 2 ص -34- وتعاقبها، وعدم تخلُّفها عن نظامها وانتظامها، ونظرت إلى زينتها وتلألئها وبهائها في السماء؛ لدلّك ذلك على قدرة الله سبحانه وتعالى وعظيم صنعته. فالله أقسم بها لمِا فيها من العجائب. أما المخلوق فلا يُقسم إلاَّ بالله، كما جاء في الحديث: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك "، فلا يجوز الحلف إلاَّ بالله. قوله تعالى: { َإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيم(76)} هذا تنبيه على عظَم هذا القسم، ولا يتنبّه لهذا إلاَّ أهل العلم الذين يتدبّرون في آيات الله الكونية. ثمّ ذكر سبحانه المقسَم عليه وهو القرآن فقال: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} من الكرم وهو الشرف والرِّفعة، فهو كريم في منزلته، عظيمٌ في معناه، جليلٌ في قدْره، لأنه كلام الله سبحانه وتعالى، فهو أعظم الكلام. وفضل كلام الله على غيره كفضل الله على خلقه. {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78)} يعني: محفوظ، والمشهور: أنّ المراد بالكتاب المكنون هنا: اللوح المحفوظ، لأن الله كتبه في اللوح المحفوظ، فهو مكتوبٌ في اللوح المحفوظ، ومكتوب في صحائف الملائكة، ومكتوبٌ في المصاحف التي في أيدي البشر، ومحفوظٌ في الصدور، فهو كلام الله بكل اعتبار. {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ(79)} يعني: الملائكة، وهذا فيه ردٌّ على المشركين الذين يزعمون أن القرآن ممّا تنزّلت به الشياطين، وأنه من كلام الشياطين، والله بيّن أن الشياطين لا تقرب القرآن، كما قال سبحانه: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ(212)} السمع يعني: الوحي. {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(80)} نزل به جبريل- عليه الصلاة والسلام- إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبلّغه محمد صلى الله عليه وسلم لأمته، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ(193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ(194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195)}، وكما في الآية الأخرى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(40)} يعني: جبريل عليه السلام، {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ(20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ(21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ(22)} يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا توثيق لسند القرآن، لأن رواته عن الله هم: أمة محمد صلى الله عليه وسلم عن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن ربه عزّ وجلّ، وليس كما يقوله المشركون: إنه من كلام الشياطين، أو من كلام ج / 2 ص -35- البشر، أو من صحائف الأولين. فهو كلام الله حقيقة وجبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام مبلغان عن الله تعالى. ثمّ قال: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ(81)} يعني: تكذبون به، وتقولون: هذا من كلام محمد، أو من كلام فلان، أو مما تنزّلت به الشياطين التي تتنزّل على الكُهّان، أو ما أشبه ذلك من أقاويل باطلة. وفي هذا الأثر الذي رواه ابن عبّاس- مثل ما سبق-:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ(82)} معناه: أنكم تنسبون الأمطار إلى الأنواء، سمّى الله ذلك كذباً وباطلاً لأن الأمطار ليستُ من الأنواء وإنما الأمطار من الله سبحانه وتعالى هو الذي ينزِّلها ويقدّشرها ويجعل فيها البركة والنماء، فهو الذي ينزِّلها سبحانه. الرد على الذين ينسبون الأمطار إلى الأنواء، وأن هذا كذبٌ محْض، حيث أقسم الله سبحانه- وهو الصادق- أن هذا كذب، فدلّ على بُطلان الاستسقاء بالأنواء، وأنه يجب نسبة المطر إلى الله سبحانه وتعالى، لا إلى الأنواء، ومن نسبها إلى الأنواء فقد كفر بالله. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#35
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب قول الله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}. ج / 2 ص -36- [الباب الواحد والثلاثون: ] * باب قول الله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}. أراد الشيخ رحمه الله، بهذا الباب أن يبين أن المحبة نوعٌ من أنواع العبادة، وأن من أحب مع الله غيره فقد أشرك بالله الشرك الأكبر المخرج من المِلة، كما كان عليه المشركون الذين قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}. ولَمّا كانت المحبة من أنواع العبادة، بل هي أعظم أنواع العبادة، وكان من أحب مع الله غيره مشركاً الشرك الأكبر؛ ناسب أن يذكر الشيخ رحمه الله، هذا الباب في "كتاب التّوحيد"؛ لينبه على هذه المسألة المهمّة. والمحبة- كما ذكر العلماء- تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: محبة العبودية، وهذه يجب أن تكون خالصةً لله عزّ وجلّ، ومحبة العبودية هي التي يكون معها ذل للمحبوب. وهذه لا يجوز صرفها لغير الله، كما لا يجوز السجود لغير الله والذبح لغير الله والنذر لغير الله فإنه لا تجوز محبة غير الله محبة عبودية يصحبها ذلٌّ وخضوع وطاعةٌ للمحبوب، وإنما هذه حقٌّ لله سبحانه وتعالى. ولهذا يقول العلامة ابن القيم رحمه الله في "النونية": وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذلُّ عابده هما قطبان وعليك فَلَك العبادة دائر وما دار حتى قامت القطبان ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان ويقول العلماء في تعريف العبادة هي: غاية الذل مع غاية الحب. فالعبادة تترّكز على ثلاثة أشياء: على المحبة، وعلى الخوف، وعلى الرجاء. فالمحبة والخوف والرجاء هي ركائز العبادة وأساسها، فإذا اجتمعتْ تحقّقت العبادة ونفعت كالصلاة والحج وسائر العبادات، أما إذا اختلّتْ هذه الثلاثة فإن الإنسان وإن صام وإن صلى وإن حج فإنها لا تكون عبادته صحيحة. ويقول العلماء: "من عبد الله بالمحبة فقط فهو صوفي"، لأن الصوفية يزعمون ج / 2 ص -37- أنهم يعبدون الله لأنهم يحبونه فقط، ويقولون: لا نعبده نخاف من ناره ولا نرجو جنته، وإنما نعبده لأننا نحبه. وهذا ضلال. "ومن عبد الله بالرجاء فقط فهو مرجئ" لأن المرجئة يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان. "ومن عبد الله بالخوف فقط فهو خارجي" لأن الخوارج يكفرون المؤمنين بالمعاصي. فالمرجئة أخذوا جانب الرجاء فقط، والصوفية أخذوا جانب المحبة فقط، والخوارج أخذوا جانب الخوف فقط. وأهل السنّة والجماعة جمعوا بين الأمور الثلاثة -ولله الحمد-: المحبة مع الخوف والرجاء والذل والانقياد والطاعة، وبنوا على ذلك سائر أنواع التعبُّد والتقرُّب إلى الله سبحانه وتعالى. النوع الثاني: محبة ليستْ محبة عبودية وهي أربعة أقسام: القسم الأول: محبة طبيعية كمحبة الإنسان للطعام والشراب والمشتهيات المباحة، كالزوجة والملذات. القسم الثاني: محبة إجلال، كمحبة الولد لوالده غير المشرك والكافر، فالولد يحب والده محبة إجلال وتكريم واحترام لأنه والده المحسن إليه والمربِّي له. وهذه محمودة ومأمور بها. القسم الثالث: محبة إشفاق، كمحبة الوالد لولده، فالوالد يحب ولده محبة إشفاق. القسم الرابع: محبة مصاحبة، كأن تحب شخصاً من أجل مصاحبتك له، إما لكونه زميلاً لك في العمل، أو شريكاً في تجارة، أو صاحباً لك في سفر، فأحببته من أجل المشاركة في شيء من الأشياء. هذه الأقسام ليستْ من أنواع العبادة، لأنها ليس معها ذلّ، وليس معها خضوع. ج / 2 ص -38- وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } {وَمِنَ النَّاسِ} يعني: المشركين، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ} أي: غير الله، {أَنْدَاداً} الند هو: الشبيه والنظير والعديل، سُمُّوا أنداداً لأنهم ساووهم بالله، فصاروا أنداداً لله بمعنى: شركاء مساوين له في اعتقاد المشركين. {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} أشركوهم مع الله في محبة العبودية، فعبدوا الأصنام والأوثان لأنهم يحبونها محبة ذل وانقياد وخضوع وطاعة فأشركوا في أعظم أنواع العبادة، وهو المحبة. فالمشركون يحبون الله لأنهم يعترفون بربوبيته وخلقه لهم، فهم يحبونه، لكنهم لم يخلصوا محبتهم، بل أشركوا معه آلهةً أخرى يحبونها مع الله محبة عبودية وخضوع وذلُّ وتقرُّب إليها بالعبادة. هذا هو الوجه الصحيح في تفسير الآية؛ أن المشركين يحبون الله ويحبون معه غيره من الأصنام والأوثان كما يحبُّون الله، فيعادِلون بين محبة الله ومحبة الأصنام ومحبة الأوثان. ولا يزال المشركون على هذا، فالذين يعبدون القبور والأضرحة يحبُّونها، ولهذا يغارون ويغضبون إذا قيل لهم إن هذه المعبودات باطلة لا تُغني عنكم شيئاً، ولا تنفعكم بل تضركم فهم يغضبون، بل قد يقاتلون دونها، لأنهم يحبونها {كَحُبِّ اللَّهِ} أي: كما يحبون الله. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} الذين أخلصوا المحبة لله وهم المؤمنون، هؤلاء أشدُّ حبًّا لله من محبة المشركين لله، لأن محبة المؤمنين خالصة ومحبة المشركين مشتركة، والمحبة الخالصة أشدُّ وأقوى من المحبة المشتركة، وهذه المحبة هي التي تنفع، أما محبة المشركين لله فإنها لا تنفعهم ما داموا يحبون مع الله غيره فلم يُخلصوا في محبتهم. فدلت هذه الآية الكريمة على أن المحبة نوعٌ من أنواع العبادة، بل هي أعظم أنواع العبادة، وأن من أحب مع الله غيره فيها فقد أشرك بالله الشرك الأكبر واتّخذ هذا المحبوب نِدًّا، أي: شريكاً مع الله ومعادِلاً لله ومساوِياً لله، كما يقول أهل النار ج / 2 ص -39- وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}. يوم القيامة لمن أشركوهم مع الله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(98)}. وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} الآية. هذه الآية فيها: أن من قدّم محبة هذه الأشياء على محبة الله فإنه متوعّد بهذه الوعيد {فَتَرَبَّصُوا} أي: انتظروا، {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} حتى يأتيكم الله بالعقوبة {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} سمّاهم فاسقين، والفسق هو: الخروج عن طاعة الله جل وعلا، ومعنى {لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} يعني: لا يوفقهم للإيمان، مثل قوله: {لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالمين}، {لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}. فالهداية المنفية هنا: هداية التوفيق، أما هداية البيان والإرشاد فهذه موجودة، فالله هدى كل النّاس، بمعنى: أنه بيّن لهم طريق الخير من طريق الشر، هدى الكفار وهدى المؤمنين بمعنى: بيّن لهم طريق الخير وطريق الشر. أما هداية التوفيق والإيمان فهي خاصة بالمؤمنين. أما الكافرون- إذا أصرُّوا على كفرهم وأصروا على طغيانهم- فإن الله يحرمهم هداية القلوب: {حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ}، عقوبة من الله سبحانه وتعالى أنّ من عاند وأصرّ بعد البيان وبعد الإرشاد وأصرّ على الباطل فإن الله يعاقبه بحرمانه من هداية قلبه، بل يزيغ ويبقى على زيغه وضلاله وعقوبة له: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} يعني: وأصروا على الكفر، {َسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} لأنهم لم يقبلوا الهداية من أول الأمر، فلما لم يقبلوا الهداية من أول الأمر عاقبهم الله بالحرمان، {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(110)}، فالذي يتبيّن له الخير والهدى والإيمان ولم يقبل، بل يستمر على ما هو عليه من الطغيان والكفر والعناد فإنه يعاقب بفساد قلبه -والعياذ بالله- وعدم هداية قلبه {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. ج / 2 ص -40- وهذه الآية: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} يقول المفسِّرون: إنها نزلت في قوم من المسلمين كانوا في مكة، ولَمَّا هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة لم يهاجروا؛ لأنهم آثروا أن يبقوا في مكة محافظة على أموالهم وعلى مساكنهم وعلى أقاربهم، فهم قدّموا محبة هذه الأشياء على محبة الله ورسوله، فالله توعّدهم. ويُروى: أنهم لَمّا أرادوا الهجرة تعلّق بهم أقاربهم وقالوا: كيف تدعوننا؟، ولمن تدعوننا؟ ولما تعلّقوا بهم، رقّوا لهم ورحموهم، فأقاموا في مكة وتركوا الهجرة إيثاراً لهذه ا لأشياء، فالله وبَّخهم وتوعّدهم، لأن الواجب عليهم أن يهاجروا، وأن يقدّموا الهجرة إلى الله ورسوله على هذه الأشياء كما فعل ذلك المهاجرون الذين قال الله تعالى فيهم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، فالمهاجرون تركوا هذه المحبوبات طاعة لله ورسوله ومحبة لله ورسوله، وإن كانوا يحبون هذه ا لأشياء، يحبون أولادهم، ويحبون بلدهم، ويحبون أموالهم، ولكنهم قدّموا عليها محبة الله سبحانه وتعالى فهاجروا، تركوا أموالهم، تركوا ديارهم وأوطانهم، تركوا أولادهم وذرّيتهم، تركوا مساكنهم، تركوا التجارات التي لهم في مكة، كل هذا تركوه لله جل وعلا، أما هؤلاء من المؤمنين فإنهم بقوا في مكة وآثروا أن يبقوا عند أقاربهم، وأن ينمُّوا أموالهم وتجاراتهم، وأن يبقوا في مساكنهم في مكة، فتوعّدهم الله، كما قال في الآية الأخرى في الذين لم يهاجروا من المسلمين: {} يعني: لِمَ تركتم الهجرة؟، {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً(97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً(98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً(99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً(100)}، فالهجرة من أفضل خصال الإيمان، والمهاجر لا يهاجر للنُّزهة أو يهاجر للبلد الذي فيه سعة ورفاهية من أجل الدنيا، ولكنه يهاجر من أرض يحبها ومن بلد يحبها، وقد يترك أمواله وأولاده ويخرج محبة لله ولرسوله، هذا هو المؤمن الصادق في إيمانه. ج / 2 ص -41- عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والنّاس أجمعين" أخرجاه. فقوله في هذه الأشياء إذا كانت {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} {أَحَبَّ} يدل على أن محبة هذه الأشياء في الأصل لا حرج فيها، فالإنسان يحب والده، ويحب ولده، ويحب أخاه، ويحب قبيلته، ويحب ماله، ويحب تجارته، ويحب مسكنه. فأصل المحبة لهذه الأشياء مباح لأنه من المحبة الطبيعية، لكن إنما يأتي اللوم إذا قدّم محبة هذه الأشياء على محبة الله فأخّرته هذه الأشياء عن طاعة الله ورسوله، وعن الهجرة إلى ا لله ورسوله. قوله: "وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى كون أحبَّ إليه من ولده ووالده والنّاس أجمعين"" وذلك أنه بعد محبة الله تأتي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالأولى: محبة الله عزّ وجلّ، وهي محبة عبادة، وهي الأصل والقاعدة. أما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي تابعةٌ لمحبة الله عزّ وجلّ، تأتي بعد محبة الله وكذا محبة كل ما يحبه الله من الأشخاص والأعمال وهذه محبة في الله ولله فالمحبة المشروعة محبة الله والمحبة في الله، والمحبة الممنوعة هي المحبة مع الله. وتقديم ما تحبه النفس على ما يحبه الله. وقوله: "لا يؤمن أحدكم" ليس نفياً لأصل الإيمان، وإنما هو نفيٌ لكمال الإيمان، أي: لا يكمُل إيمان أحدكم هذا إذا كان يحب الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن لا يقدم محبته على محبة غيره من الخلق. أما إذا كان الإنسان لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم أصلاً، بل يبِغض الرسول، فهذا كافر، أما الذي يحب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه يقدِّم محبة ولده ووالده على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا ناقصُ الإيمان، بل لا يكمُل إيمان العبد ولا يتم حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليه من نفسه التي بين جنبيه، وأحب إليه من ولده الذي هو بضْعَةٌ منه وجزءٌ منه، وأحب إليه من والده الذي هو أصله والمحسِن إليه، وأحب إليه من النّاس أجمعين أيًّا كانوا. وهذا يقتضي أن الإنسان يقدِّم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم على طاعة غيره: فإذا أمرك الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر وأمرك والدك أو ولدك أو أحد من النّاس بأمر يخالف أمر ج / 2 ص -42- الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يجب عليك معصية هذا الآمر وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الدليل على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، أن لا تقدّم على محبته شيئاً، ولا تقدّم على طاعة الرسول شيئاً، فإذا أمرك أحد بمخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا تطعه ولو كان أقرب النّاس إليك ولو كان أحب النّاس إليك، فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم مقدَّمة، وهي ثمرة محبته ومن علامات محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ترك ما لم يشرعه الرسول من البدع والمحدثات لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" أي مردود عليه عمله هذا. أما الذي يدّعي أنه يحب الرسول صلى الله عليه وسلم ويُقيم الموالد والاحتفالات المبتدعة، والرسول صلى الله عليه وسلم ينهاه عن البدع والمحدثات، فلا يطيعه، وإنما يطيع المخرِّفين والدجَّالين في هذا، فهذا كاذبٌ في محبّته للرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن البدع والمحدَثات والخُرافات ولو كان النّاس عليها ولو كان عليها أبوك أو ابنك أو أقرب النّاس إليك، فمن كان عنده بدعة ومخالفة للرسول صلى الله عليه وسلم وجب عليك معصيته، فإذا أطعته فإن هذا دليل على عدم صدق محبتك للرسول صلى الله عليه وسلم. فالحاصل؛ أنه ليس الدليل على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم دعوى تُقال، أو احتفال يُقام، لأن الدليل على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم: متابعته، وطاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يُعبد الله إلاَّ بما شرع عليه الصلاة والسلام. هذا هو الدليل على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن لا نقبل الدعوى، وإنما نقبل الدليل على الدعوى. فالذين يعملون بالسنّة ويتركون البدع فهذا دليلٌ على محبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، أما الذين يدّعون أنهم يحبُّون الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنهم يخالفونه فيرتكبون ما نهى عنه ويتركون ما أمر به طاعةً لأنفسهم أو طاعة لغيرهم فإن هذا دليل على عدم صدقهم في محبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والنّاس أجمعين" بل ومن نفسه. فإذا أراد أحدٌ منّا أن يختبر إيمانه فلينظر إلى موقع هذا الحديث منه ويطبِّقه على نفسه، هل هو يحب الرسول، أحب إليه من نفسه، هل يحب الرسول أحب إليه من والده وولده والنّاس أجمعين؟، فإن كان كذلك فهو يحبُّ الرسول صلى الله عليه وسلم، والدليل ج / 2 ص -43- ولهما عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجد بهنّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلاَّ لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذْ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذَف في النار". على ذلك- كما ذكرنا-: الموافقة للرسول صلى الله عليه وسلم بتنفيذ أوامره وترك نواهيه واجتناب البدع والمحدثات التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان عليها أقرب النّاس إليه أو أحب النّاس إليه، يتركها طاعةً لله وطاعةً لرسوله، ومحبةً لله ومحبةً لرسوله صلى الله عليه وسلم. فدل هذا الحديث: على وجوب محبة الرسول بعد محبة الله عزّ وجلّ، وأن محبة الله ومحبة رسوله تقتضيان المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم وعدم المخالفة، وأنه لو أمرك أيُّ أحدٍ من الناس بأمر يخالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وجب عليك معصيته ورفض ما يأمرك به، والأخذ بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فكما تجب محبة الله عزّ وجلّ تجب محبة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}. قوله: "أخرجاه" يعني: أخرجه البخاري ومسلم. "ولهما" أي: البخاري ومسلم. "عنه" أي: عن أنس رضي الله عنه. "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث"" أي: ثلاث خصال. "مَنْ كُنّ فيه" اجتمعن فيه، ووُجدن فيه. "وجد بهنَّ حلاوة الإيمان" هذا من ثمرات محبة الله ورسوله. و"حلاوة الإيمان" أي: لذّته، لأن الإيمان الصادق له لذّة في النفوس، وله طُمأنينة في القلوب، هذا هو الإيمان الصادق: تجد المؤمن يتلذّذ بالإيمان، ويَطْعَم الإيمان أكثر ممّا يَطْعَم أيَّ أنواع الملذّات. الخصلة الأولى: "أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما" أي: أحب إليه من نفسه، وأحبّ إليه من كل شيء، ومن الوالدين والأولاد والأقارب والأصدقاء وسائر النّاس. وهذا يقتضي تقديم قولهما على قول كل أحد. الخصلة الثانية: "وأن يحب المرء لا يحبه إلاَّ لله" أي: يحب الإنسانَ من بني ج / 2 ص -44- آدم "لا يحبه إلاَّ لله"، لا يحبه من أجل طمع دنيا أو عَرض عاجل، هـانما يحبه لله لأنه مطيعٌ لله، لأنه مؤمن، لأنه تقي. أما الذي يحب الشخص من أجل الدنيا أو من أجل الأطماع أو الشهوات أو الأغراض، فهذه محبة لا تنفعه عند الله شيئاً. وهذا فيه فضل المحبة في الله بين المؤمنين، والمحبة في الله أوثق عُرى الإيمان- كما في الحديث: "أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله"، ومن السبعة الذين يظلُّهم الله في ظله يوم لا ظلّ إلاَّ ظله: "رجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه"، وفي الحديث الصحيح: "أن رجلاً خرج إلى قرية ليزور أخاً له في الله فأرصد الله على مَدْرَجته" أي: طريقه "ملكاً" ليختبره، فلما مرّ عليه "قال له الملَك: أين تُريد؟، قال: أُريد قرية كذا وكذا، قال: وما غرضك فيها وما شأنك؟، قال: لأن فيها أخاً لي في الله أحبْبتُ زيارته، فقال له الملَك: هل له عليك نعمة تربُّها؟" يعني: هل هو قد أحسن إليك وأنت تحبُّه من أجل صنيعه معك ومعروفه معك، "قال: لا، إلاَّ أني أحببته في الله "يعني: ما زرته ولا خرجتُ إليه إلاَّ لأني أحبه في الله، لا من أجل أنه أحسن إليَّ أو من أجل أنه أعطاني شيئاً أو منّ عليَّ بشيء، "فقال له الملك: إني رسول الله إليك أن الله قد أحبك كما أحبَبْته فيه". كثيرٌ من الناس يتحابُّون ويتآلفون من أجل أمور الدنيا، من أجل الرجاء والطمع وغير ذلك، إن أحسن إليه وأعطاه شيئاً أحبه، وإلاَّ فإنه لا يحبه وهذا موجود في البهائم والكلاب والقطط إذا أحسنت إليها فإنها تألفك وتحبك جِبِلّة وطبيعة، فقد جُبِلت القلوب على حب من أحسن إليها، لكن هذا ليس فيه مزيّة، إنما المَزيّة أن تحبه لا من أجل شيء أعطاك، وإنما تحبه من أجل الله عزّ وجلّ، هذه هي الدرجة العالية الرفيعة من المحبة في الله. الخصلة الثالثة: التي يجد بهن العبد حلاوة الإيمان: "وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه؛ كما يكره أن يُقذف في النار" كل النّاس ينفرون من النار - والعياذ بالله- لأنها مؤلمة، ولا أحد يصبر على حرها، فكلٌّ يفرُّ من النار ويبتعد عنها، والكفر نار، والمسلم الذي منّ الله عليه بالإسلام يكره أن يعود إلى الكفر، ويكره الرِّدّة عن دين الإسلام، كما يكره أن يُلقى في النار، هذا هو المؤمن حقًّا، ج / 2 ص -45- الذي تمكَّن الإيمان من قلبه فلا يساوِم عليه، ولا يتنازل عن شيء منه أبداً مهما كلّفه الأمر، بل يتمسّك بدينه. لأنه وجد حلاوة الإيمان ولذته. أما الذي يدّعي الإيمان ولكنه يتنازل عن الإيمان- أو عن شيء منه- من أجل الخوف أو الطمع أو غير ذلك فهذا دليل إما على عدم إيمانه أو على نقصان إيمانه {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}، أما المؤمن فإنه يصبر ولو ناله شيء من المكاره، ولو حاول النّاس أن يصرفوه عن دينه، أعطوه أموالاً، وأعطوه ما يعطونه، أو حاولوا صرفه عن دينه، أو التنازل عن دينه بالتخويف والتهديد بالقتل، والتهديد بالتعذيب، فإنه يصبر، ولا يتنازل عن دينه حتى يلقى الله سبحانه متمسِّكاً بدينه، هذا هو المؤمن حقًّا. وقوله: "وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذْ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذَف في النار" قالوا: هذا فيه دليل على أن المكره إذا صبر على الإكراه وصبر على القتل أنه يكون من هذا النوع- ممّن وجد حلاوة الإيمان، ولَمّا وجد حلاوة الإيمان ما رضيَ أن يتنازل عنها أبداً. ولهذا جاء في قصة الرجلين اللذين مرَّا على صنم لا يجوزه أحدٌ حتى يقرِّب إليه شيئاً، "فقالوا لأحدهما: قرِّب"، يعني: اذبح للصنم حتى نتركك تَمُر، "فقال: ما كنتُ لأقرّب لأحد شيئاً دون الله عزّ وجلّ، فضربوا عنقه. فدخل الجنة"، وقالوا للآخر: قرِّب. فقال: ليس عندي شيء أقَرِّب. قالوا: قرِّب ولو ذباباً، فقرّب ذباباً فدخل النار". الأول أبى أنْ يذبح لغير الله، والثاني استجاب. فالأول قُتل ودخل الجنة، والثاني ذبح لغير الله، فمر مع الطريق ودخل النار، لأنه رجع إلى الكفر بعد إذْ أنقذه الله منه، أما الأول فأبى أن يرجع إلى الكفر وصبر على القتل فدخل الجنة، وهذا الإيمان إذا باشر القلب ووجد حلاوته. فهذا الحديث ميزان يزن العبد به إيمانه: "أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما" فإذا عرض شيءٌ من العوارض فإنه يقدِّم محبة الله ورسوله على محبة ذلك العارض. "وأن يحب المرء لا يحبه إلاَّ لله" لا يحبه من أجل طمع الدنيا ومرغِّباتها. ج / 2 ص -46- وفي رواية: "لا يجد أحدٌ حلاوة الإيمان حتى..." إلى آخره. وعن ابن عبّاس قال: "من أحبّ في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله وعادى في الله، فإنما تُنال ولاية الله بذلك. "وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه" قال العلماء: هذا فيه تكميل المحبة وتفريعها ودفع ضدها. فتكميل المحبة: أن يكون الله ورسوله أحب إليه ممّا سواهما. وتفريعها: أن يحب المرء لا يحبه إلاَّ لله. ودفع ما يضادها: يكره أن يعود في الكفر بعد إذْ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار. فهذا حديثٌ عظيم. قوله: وفي رواية: "لا يجد أحدٌ طعم الإيمان" هذه الرواية في "صحيح البخاري" وفائدتها: أنها نَفَتْ بمنظومها وجود طعم الإيمان عمن لم يتّصف بهذه الصفات الثلاث: "أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلاَّ لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذْ أنقذه الله منه"، أما الرواية الأولى فهي دلّت بالمفهوم -مفهوم المخالفة- على أنّ من لم تكن فيه هذه الخصال فإنه لا يجد طعم الإيمان، وإنْ كان فيه إيمان، لكنه لا يتلذّذ به ويجد طعمه فالرواية الثانية دلّت بالمنطوق، والأولى بالمفهوم، ولهذا ساقها الشيخ رحمه الله، بعد الحديث. قال رحمه الله: "وعن ابن عباس قال: "من أحب في الله" يعني: من أجل الله، فأحب المؤمنين لأنهم أولياء الله، لا يحبهم من أجل طمع دنيا أو رغبة عاجلة، وإنما يحبهم في الله. "وأبغض في الله" أبغض الكفّار والمنافقين والعصاة من أجل الله لا من أجل أنهم ضربوه أو أنهم حرموه من شيء، أو أنهم تعدّوا عليه، أو ظلموه، لا يبغضهم من أجل هذه الأمور، لأن هذا بغض طبيعي ليس بعضاً يتعلّق بأمور العبادة. "ووالى في الله" أي: أحب وناصر. فالموالاة: المحبة والمناصرة والمعاونة. "وعادى في الله" أي: أبغض الكفار والمنافقين والفاسقين من أجل الله، لأن الله يبغضهم. ج / 2 ص -47- ولن يجد عبدٌ طعم الإيمان- وإن كثُرت صلاته وصومه- حتى يكون كذلك. وقد صارتْ عامّة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يُجدي على أهله شيئاً" رواه ابن جرير. "فإنما تُنَال ولاية الله" ولاية الله محبته ونصرته. أما الوِلاية- بالكسر-: فهي الإمارة والوظيفة، وِلاية القضاء، وِلاية الملك، وِلاية حسبة، وولاية الله تعني: محبة الله. فمن اتصف بهذه الصفات أحبه الله، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}، فإنما تنال محبة الله بطاعة رسوله كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}، فمن اتّبع الرسول صلى الله عليه وسلم أحبه الله، ومن عصى الرسول صلى الله عليه وسلم أبغضه الله. فقوله: "فإنما تُنال ولاية الله بذلك" أي لا يحصل الإنسان على محبة الله ونُصرته إلا بهذه الأمور: المحبة في الله، والبغض في الله، والموالاة في الله، والمعاداة في الله. أما الذي يتّخذ الدنيا هي المقياس عليها يعادي وعليها يوالي، من أحسن إليه أحبه ولو كان عدوًّا لله عزّ وجلّ. ومن أساء إليه أبغضه ولو كان ولياً لله فهذا لا ينال ولاية الله، ولهذا قال ابن عباس في آخر الحديث: "وقد صارتْ عامّة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا". فابن عباس يستنكر في وقته أن الناس صاروا يوالون ويعادون من أجل الدنيا فكيف بوقتنا هذا؟، لا شك أن الأمر قد زاد، فكثير من الناس فقدوا هذه الصفات: المعاداة في الله، والموالاة في الله، والمحبة في الله، والبُغض في الله، إلا من شاء الله سبحانه وتعالى، ولكن قلّ هذا في الناس اليوم، لا نقول إنه مفقود، بل هو موجود -ولله الحمد، ولكنه قلّ، وما دام أنه قليلٌ فليفتّش كل واحد منا عن نفسه بأن لا يكون مع الكثرة التي ضيّعتْ هذا الأصل العظيم كالذين لا يوالون، إلا على الحزبية والمنهجية فمن وافقهم على حزبيتهم ومنهجيتهم أحبوه ولو كان عدو الله ورسوله ومن خالفهم أبغضوه ولو كان ولياً لله ورسوله. ج / 2 ص -48- وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} قال: "المودّة". قال رحمه الله: "وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} قال: "المودة""هذه نهاية من عبد غير الله يوم القيامة، فعبدة غير الله في الدنيا يحبون ما عبدوه كما قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، وكذلك التابعون في الدنيا يحبون المتبوعين على الضلالة، فتوجد المحبة بين الكفار بعضهم مع بعض، وبين المشركين ومعبوداتهم في الدنيا، لكن يوم القيامة تنعكس الأمور، وتصير هذه المحبة عدواة كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} يعني: يوم القيامة، {إِلَّا الْمُتَّقِينَ} فلا يبقى إلاَّ المحبة التي كانت في الله والله هي التي تبقى يوم القيامة: {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}، ويقول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام- للمشركين يحذِّرهم: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ} فهم يوم القيامة يتلاعنون ويتباغضون، لأنهم يقولون لمن أضلوهم أنتم السبب في إضلالنا وإغوائنا وصرفنا عن دين الله. أما محبة المؤمنين بعضهم لبعض من أجل الإيمان والموالاة في الله والمعاداة في الله فإنها تبقى، بل تزيد يوم القيامة، وتستمرُّ إلى أبد الآباد {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ(47)}. فدلّت هذه الآية على أن المحبة التي لغير الله أنها تزول يوم القيامة، وتنقلب عداوة، وأن محبة التابعين على الضلال لأتباعهم وقادتهم ورؤسائهم تنقلب عداوة يوم القيامة فيما بينهم ويتلاعنون ويتلاومون فيما بينهم، من باب التحسُّر- والعياذ بالله- والتألُّم. فهذا الباب بابٌ عظيم، يجب على المسلم أن يَزِن نفسه به، ولهذا يسمى بباب الامتحان، فكلٍّ يَدّعي الإيمان، وكلٌّ يَدّعي الإسلام، وكلٌّ يدّعي الزهد والورع ولكن الميزان ما ذكر في هذا الباب. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#36
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(175)}. ج / 2 ص -49- [الباب الثاني والثلاثون:] * باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(175)}. هذا الباب عقده الشيخ رحمه الله في موضوع الخوف. والخوف من الله هو أحد ركائز العبادة، كما سبق أن المحبة والخوف والرجاء أعظم أنواع العبادة، وهي أعمال قلبية، فلما ذكر المحبة في الباب السابق ذكر في هذا الباب الخوف؛ ليدلّ على أن المحبة لا تكفي وحدها، لأن التعبُّد بالمحبة وحدها منهج الصوفية الضُلاّل، أما منهج الرسل وأتباعهم فإنه ينبني على المحبة والخوف والرجاء، محبة الله سبحانه مع خوفه ورجائه وغير ذلك من أعمال القلوب كالتوكُّل والرغبة والرهبة والخشية كل هذه من أعمال القلوب، وهي عباداتٌ عظيمة. والخوف ثلاثة أنواع: النوع الأول: خوف السر وهو الخوف الذي يكون معه عبادة لغير الله أو ترك لما أوجب الله. ومعناه: أن يخاف الإنسان من غير الله من الأصنام والأوثان وما عُبد من دون الله، من القبور والأضرحة، أو يخاف الشياطين والجن، ويتقرّب إليهم بما يحبون من الشرك بالله من أجل أن يسلَم من شرهم، فهذا شركٌ أكبر يُخرج من الملّة، والله سبحانه وتعالى ذكر عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه قال: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً}، ثمّ قال بعد ذلك: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} كأنهم توعّدوه بآلهتهم ومعبوداتهم أن تصيبه. فهذا ردٌّ عليهم، كيف لا تخافون من الله وأنتم تهدِّدونني بأن أخاف من معبوداتكم التي لا تُغني عني شيئاً، {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} هل هو أنا الذي أعبد الله وحده لا شريك له، أو أنتم الذين أشركتم؟. ثمّ ذكر الله الحكم في ذلك فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(82)} والظلم معناه هنا: الشرك، فبيّن أنّ الأمن إنما يحصل لأهل التّوحيد، وأما المشركون فليس لهم أمن، وليس لهم إلاَّ العذاب، هذا حكم من الله سبحانه وتعالى. ج / 2 ص -50- وكما ذكر الله عن نبيه هود أنّ قومه قالوا: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ}، يخوِّفون هوداً لَمّا دعا إلى التّوحيد وترك عبادة الأصنام يخوِّفونه بالأصنام أن تُصيبه ويهدِّدونه بها. {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ(55)} وهذا تحدِّ من فردٍ واحد يتحدّى أمة كاملة، وهذا من المعجزات. ثمّ قال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56)} أعلن البراءة منها، وتحدّاها وتحدّى جميع الأمة التي تعبدها أن تكيده، وأن تصل إليه بسوء فلا يستطيعون، ثمّ علّل ذلك بقوله: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ}. وكذلك المشركون قالوا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ما ذكره الله عنهم بقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}، فالمشركون يخوِّفون الرسول صلى الله عليه وسلم، بمعبوداتهم من دون الله فرد الله عليهم بقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}. فهذا النوع من الخوف يسمّى: خوف السر، وهو خوف العبادة، بأن يخاف من المعبودات التي تُعبد من دون الله عزّ وجلّ، فالمؤمن لا يخاف هذه المعبودات أبداً، لا يخاف من الأصنام، لا يخاف من القبور والأضرحة التي تُعبد من دون الله، لا يخاف من الشياطين والجن أن تصيبه إلاَّ بإذن الله سبحانه وتعالى، وكذلك الخوف من كل مخلوق أن يصيبه بما لا يقدر عليه إلاَّ الله سبحانه وتعالى من الإصابة بالمرض، أو قطع الرزق، أو غير ذلك، وهذا أحد أنواع الشرك الأكبر. والآن عُباد القبور يهددون النّاس بهذه الأضرحة، ويقولون: الولي الفلاني يصيب من لم يخضع له ويعبده، يصيبه في نفسه أو في ولده، ثمّ الجهال ينخدعون بهذا التخويف، ويتقرّبون إلى هذه القبور وهذه الأضرحة بما يُطلب منهم، وغرض عُبّاد القبور والسَّدَنة: أكل أموال النّاس بالباطل، يهدِّدون النّاس إذا لم ينذروا لهذه القبور ولم يقرِّبوا لها شيئاً من الأموال، فأنها تصيبهم، أو تصيب زروعهم، أو تُصيب حروثهم، أو أولادهم، ثمّ الجهال يتقرّبون إلى هذه الأضرحة بأموالهم، ثمّ يأخذها هؤلاء السدنة وهؤلاء القائمون على هذه الأوثان ويقتسمون هذه الأموال، ج / 2 ص -51- فالشر باقٍ من قديم الزمان إلى آخر الزمان، وطريقة المشركين واحدة. وأما أهل الإيمان فإنهم لا يخافون إلاَّ الله تعالى، لأنه هو الذي يملك النفع والضر، وهو الذي بيده الأمور، وأنه لا يصيب المؤمن إلاَّ ما قدّره الله له {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(51)}. النوع الثاني من أنواع الخوف المذموم: أن يترك الإنسان ما أوجب الله عليه من الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفاً من النّاس أن يؤذوه أو يضايقوه أو يعذِّبوه فيترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله وبيان الحق خوفاً من النّاس، فهذا شركٌ أصغر، وهو محرّمٌ، وقد جاء في الحديث: "أن الله يحاسب العبد يوم القيامة: لِمَ لَمْ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟. فيقول: يا رب خشيتُ النّاس، فيقول: إيّايَ أحقُّ أن تخشى". ونعنى بذلك: القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقادر على الدعوة إلى الله، أما الذي لا يقدر -أو ليس عنده استطاعة- فهذا معذور. النوع الثالث: الخوف الطبيعي، الذي ليس معه عبادة للمخوف ولا ترك لواجب. كأن يخاف الإنسان من العدو، أو من السَّبُع، أو من الحيَّة، ويخاف الإنسان من أعدائه، أو يخاف من السّباع، أو يخاف من الهوام، فهذا الخوف خوفٌ طبيعي لا يُلام عليه الإنسان لأنه ليس عبادة وليس تركاً لواجب، ولا يُؤاخذ عليه الإنسان. وموسى عليه السلام لَمّا تآمر عليه الملأ ليقتلوه وأُنذر أن يخرج من البلد {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(21)}. ثمّ أورد الشيخ قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(175)} وهذه الآية بعد قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ(174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(175)} وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لَمّا حصلَتْ وقعة أحد، وحصل على المسلمين ما حصل من الابتلاء والامتحان، ج / 2 ص -52- واستشهد من المسلمين من استُشْهد وانصرف المشركون إلى مكة أرادوا أن يُرعبوا المسلمين، فأرسلوا إليهم يهدِّدونهم ويقولون: إننا سنرجع إليكم، فنقضي على بقيّتكم، فلما بلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين قالوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} لم يؤثِّر عليهم هذا التهديد، وأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا وفيهم الجراح، وفيهم التعب بعد المعركة، فنهضوا مسرعين وخرجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ونزلوا في مكان يُقال له: (حمراء الأسد) ينتظرون المشركين، فلما علِم المشركون بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروج المسلمين أصابهم الرعب، وقالوا: ما خرجوا إلاَّ وفيهم قوة، فهربوا إلى مكة وألقى الله الرعب في قلوبهم لَمّا صدَق المسلمون وصبروا وتوكّلوا على الله، ولم يؤثّر فيهم تهديد هؤلاء: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} رجعوا إلى المدينة سالمين غانمين الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى، {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} أي: ما أصابهم ما يكرهون، بل حصلوا على الأجر والثواب {وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}. ثمّ قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ} أي: الذي حصل من المشركين من التهديد إنما هو من الشيطان. والمراد بالشيطان: إبليس اللعين الذي هو رأس الكفر. {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أي: يخوِّفكم بأوليائه من الكفار، فالشيطان هو الذي خطّ هذه الخطة من أجل أن يخوِّفكم بأوليائه، يعني: المشركين، لأن المشركين أولياء الشيطان، كما أن المؤمنين أولياء الرحمن، كما قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(257)}. فمعنى قوله تعالى: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أي: يخوِّفكم أيها المسلمون بأوليائه من الكفّار. ثمّ قال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} لا تخافوا من الكفّار بل توكلوا على الله، وخافوا من الله، وفي الأثر: "من خاف الله خافه كلُّ شيء، ومن خاف غير الله أخافه من كلُّ شيء". {فَلا تَخَافُوهُمْ} هذا نهيٌ من الله سبحانه وتعالى عن خوف أولياء الشيطان، ثمّ أمر بخوفه وحده سبحانه وتعالى. ومن خاف الله فإن الله يكفيه ويعينه وينصره خلاف العكس: من خاف غير الله وترك طاعة الله من أجل خوف النّاس فإن الله يسلِّط عليه، فالواجب على المسلمين ج / 2 ص -53- وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ(18)}. الصادقين في إيمانهم: أن لا يخافوا إلاَّ الله سبحانه وتعالى، وأن لا يخافوا من أعدائهم بل يخافون من ربهم ويخافون من ذنوبهم، أما الكفار وغيرهم فإنهم عبيد، نواصيهم بيد الله سبحانه وتعالى، هو الذي يسلِّطهم، وهو الذي يكفُّهم فنحن لا نخاف من الكفار، وإنما نخاف من الله، ونخاف من عواقب الذنوب، فإذا خِفْنا الله وأصلحنا أعمالنا فإنّ أحداً لن يضرّنا إلاَّ بإذن الله سبحانه وتعالى. وليس معنى ذلك: أن المسلمين لا يخافون من شر الكفّار ويتركون الأخذ بالأسباب الواقية، بل عليهم أن يستعدوا بالسلاح والقوّة والعُدّة التي يُرهبون بها عدو الله وعدوهم، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، وأمر الله المسلمين في صلاة الخوف أن يحملوا معهم السلاح وهم في الصلاة، من أجل أن يدافعوا عن أنفسهم: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً}، وقال تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}، فالحِذْر وإعداد العُدّة للعدو أمرٌ مطلوب، إنما الممنوع: أن نخافهم الخوف الذي يمنعنا من الجهاد في سبيل الله ومن إعداد العدة، ومن الدعوة إلى الله، هذا هو الممنوع. والشاهد من الآية: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} نهى عن خوف الكفّار وأولياء الشيطان خوفاً يمنع من الدعوة والجهاد في سبيل الله، والقيام بواجبات الدين، وأمر بخوفه سبحانه وتعالى. فدلّ على أن الخوف عبادةٌ عظيمة، يجب أن تُخلص لله عزّ وجلّ. ثمّ قال الشيخ رحمه الله: "وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ(18)} هذه الآية بعد قوله تعالى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ ج / 2 ص -54- شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ(17)}. {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} أي: لا يسوغ ولا في جوز للمسلمين أن يمكنوا المشركين من دخول المساجد لأجل أن يتعبّدوا فيها العبادة الشركية، ويدعوا غير الله فيها، فلا يجوز للمسلمين أن يمكِّنوا المشركين من إظهار الشرك في المساجد ولا أن يكونوا من عُمّارها والمتردِّدين عليها وهم يُعلنون الشرك بالله تعالى، لأن المساجد إنما بنيت لعبادة الله وإخلاص الدين له كما قال الله سبحانه وتعالى في المشركين: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}، فالمشرك ليس له حقٌّ في مساجد الله سبحانه وتعالى لأن مساجد الله بيوت الله بُنِيَتْ لعبادة الله وحده لا شريك له ولم تُبْنَ لعبادة غيره، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً(18)}. وقوله: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} هذا محل الشاهد من الآية للباب، أي: لم يخش من غير الله، لا من المعبودات، ولا من سائر المخلوقات، وإنما الخشية حقٌّ لله سبحانه وتعالى لا يجوز أن يُشرك معه فيها غيره، وهي عملٌ قلبي- من العبادات القلبية-. وهذا حصر للخشية لله سبحانه وتعالى، فلا يخشى الإنسان غير الله عزّ وجلّ، ومن خشيَ غير الله خشية العبادة فقد أشرك بالله. وهذا مثل قوله: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، فمن شرط الإيمان: إخلاص الخوف من الله، كذلك من شرط الإيمان: إخلاص الخشية من الله سبحانه وتعالى. {فَعَسَى أُولَئِكَ} أي: الذين اتّصفوا بهذه الصفات: الإيمان بالله واليوم الآخر، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والخشية من الله وحده، {فَعَسَى} عسى حرف ترجٍّ، ولكنها من الله واجبة، لأنها وعدٌ من الله سبحانه وتعالى، والله لا يخلف وعده، ولهذا يقول العلماء: كلُّ "عسى" من الله فهي واجبة. {أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} المهتدين إلى الحق، أما من لم يتّصف بهذه الصفات فليس من المهتدين، بل هو من الضالِّين. ج / 2 ص -55- وقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} الآية. ثمّ قال: "وقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} هذه الآية في المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويُبطِنون الكفر. فقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} يقول مجرّد قول ويدّعي، ما ليس له حقيقة. {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} إذا جاء الامتحان، لأن المؤمنين يُمتحنون، ولا يتركون على قول: {آمَنَّا بِاللَّهِ}، فيظهر الصادق في إيمانه من الكاذب، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ(2)} يعني: يُختبرون ويُمتحنون، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3)}، فإذا قال: (آمنت بالله) فإنه يُمتحن، بأن يصاب بالأذى من الكفار والمنافقين والفُسّاق، فإن صبر وثبت على إيمانه وتحمّل الأذى في سبيل الله عزّ وجلّ، فهذا دليلٌ على صِدْق إيمانه. أما إنِ انْحرف وذهب مع الفتنة فإنّ هذا دليلٌ على نفاقه. وموقف المنافقين في الشدائد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم معلوم، كموقفهم يوم غزوة الأحزاب ماذا كان. كان كما ذكر الله عنهم في قوله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً(12)}، وفي وقعة أحد انصرفوا ورجعوا مع عبد الله بن أُبي وتركوا رسول الله والمسلمين. فالفتن تكشف المنافقين وتبيِّن الصادقين في إيمانهم، قال الله تعالى: {وَلَمَّا رَءا الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً(22)}، فمواقف الفتن والشدائد هي التي تبيّن أهل الإيمان الصادق من النفاق الكاذب، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ}، فوقت الرخاء كلٌّ يقول: {آمَنَّا بِاللَّهِ}، ويتظاهر بالإسلام وبالدين، لكن إذا جاءت الفتن فالمنافق ينعزل، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} يعني: على طَرَف {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}. ج / 2 ص -56- فالفتن والشدائد والمواقف الصعبة هي التي تبيِّن الإيمان الصادق من النفاق، والله سبحانه وتعالى حكيمٌ عليمٌ يُجري هذه الابتلاءات وهذه الامتحانات وهذه الهزّات ليتبيّن أهلُ الإيمان الصادق من أهل النفاق: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}، قال صلى الله عليه وسلم: "أشد النّاس بلاءً: الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ثمّ الأمثل فالأمثل، يُبتلى المؤمن على حَسَب إيمانه"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا أحبّ قوماً ابتلاهم" يعني: امتحنهم "فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فعليه السخط". والدنيا دار امتحان، ودار ابتلاء، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه أنه يبتلي العباد بعضهم ببعض، ويبتليهم بالمحن والشدائد والخوف {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ(157)}. وقوله تعالى: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} أي: ناله أذى بسبب إيمانه بالله. {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} أي: أذاهم. {كَعَذَابِ اللَّهِ} أي: مساوية لعذاب الله، مع الفرق العظيم، لأن فتنة النّاس زائلة ومنتهية وخفيفة، بخلاف عذاب الله- والعياذ بالله- فإن عذاب الله شديد وباق ومستمر، فهو سوّى بين الأمرين، وهذا من جهله وعدم إيمانه. ومعنى هذا: أنه يُطاوع الكفار، فينسلخ من دينه، لأنه ليس له دين أصلاً وإنما تظاهر به، فإذا جاءت المحن انكشف وتبيّن أنه ليس في قلبه إيمان، أو كان في قلبه إيمان ضعيف، ثمّ زال، {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} أي: إذا حصل للمسلمين فرج وحصل لهم خير قال: أنا معكم، أنا مسلم. أما إنْ حصل على المسلمين أذى وامتحان فإنه ينعزل ويصير مع الكفار ويطاوع الكفار. هذه مواقف المنافقين وضِعاف الإيمان عند الشدائد والمحن. والشاهد من الآية: {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} أي: أنه يخشى النّاس ولا يخشى الله سبحانه وتعالى، فهذا هو موضع اللوم. ج / 2 ص -57- عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً: "إنّ من ضعف اليقين: أن ترضي النّاس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمُّهم على ما لم يؤتك الله. قال: "عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً" يعني: إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالحديث المرفوع: ما نُسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والحديث الموقوف: ما كان من كلام الصحابي، والحديث المرسل: ما نسبه التابعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. "إنّ من ضعف" بفتح الضاد ويجوز الضم: والضَعف ضدّ القوة. "اليقين" واليقين هو أعلى درجات العلم. "أن ترضي النّاس بسخط الله" هذا من ضعف اليقين، وهذا مثل ما ذكر في الآية: {جعل فتنة النّاس كعذاب الله}، فمن أرضى النّاس بما يُسخط الله إذا طلبوا منه ذلك إرضاءً للناس بما يُسخط الله من المخالفات والمعاصي، فهذا من ضعف اليقين، لأنه لو كان يقينه قويًّا لكان العكس، فكان يُرضي الله سبحانه وتعالى بسخط النّاس. أما إذا جاء العكس فأرضى النّاس بسخط الله، فهذا من ضعْف اليقين. "وأن تَحْمَدَهم على رزق الله" أي: ومن ضعف اليقين: أن تَحْمَدَ النّاس على رزق الله، إذا جاءك رزق وجاءك خير تنسب هذا إلى النّاس وتحمدهم عليه، مع أن الرزق من الله سبحانه وتعالى، فالواجب: أن تحمد الله لا أن تحمد النّاس، إنما تحمد الله عزّ وجلّ لأنه هو الرزّاق، وإذا كان لأحدٍ من النّاس تسبُّب في هذا الرزق، فإنّ هذا المتسبِّب يُشكر على قدْر ما فعل، لا أن يُنسب الرزق إليه، وإنما يُشكر على قدر سعيه وعلى ما بذل من السبب فقط، مع الاعتراف أن الرزق من الله، وتعتقد أن هذا الشخص إنما هو سبب فقط، وفي الحديث: "من لا يشكر النّاس لا يشكر الله"، وفي الآخر: "من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تُرَوْا أن قد كافأتموه"، فالنّاس إنما تجري على أيديهم أسباب يُشكرون عليها ويُدعى لهم، أما أن يُنسب الرزق إليهم، ويقال: هذا من فلان، فهذا كفرٌ بنعمة الله سبحانه وتعالى ومن ضعف اليقين، لأن القوي اليقين يعتقد أن الأرزاق بيد الله، فيكون الحمد المطلق لله عزّ وجلّ. "وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله" يعني: إذا سعيت تطلب شيئاً محبوباً من أمور الدنيا ولم يحصل لك فلا تذمّ النّاس، لأن هذا بيد الله، لو شاء الله لحصل لك، والنّاس ليس بيدهم شيء، وإنما هذا بيد الله، لو أراد هذا لحصل لك، فكونه لم ج / 2 ص -58- إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره". يحصل لك هذا دليل على أن الله لم يُرده لك، فعليك أن ترضى، وربما يكون امتناع هذا الشيء عنك في صالحك، وأنت لا تدري ماذا تكون الخيرة، فأنت تبذل السبب فإن حصل المطلوب فالحمد لله ، وإن لم يحصل المطلوب فإنك ترضى عن الله سبحانه وتعالى وتحمده وتحاسب نفسك عن التقصير، وتعلم أنك ما حُرمت هذا الشيء إلاَّ لأحد أمرين: إما لأنك مقصِّرٌ في حق الله سبحانه وتعالى، وأن الله حرَمك هذا الشيء بسبب ذنوبك ومعاصيك، أو أن الله سبحانه وتعالى منعه لمصلحتك، وأنه لو جاءك سبّب لك شرًّا، هذا موقف المؤمن عندما لا يحصل له مطلوبه. ثمّ قال: "إن رزق الله لا يجُرُّه حرص حريص، ولا يَرُدُّه كراهية كاره"، مهما حرِص الإنسان وحرصت الواسطة التي عمدها، فالحرص لا يجلب لك المطلوب إذا لم يقدِّره الله سبحانه وتعالى. "ولا يردُّه كراهية كاره" لو أراد الله لك شيئاً فلو اجتمع أهل الأرض أن يمنعوه لم يستطيعوا كما قال صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن النّاس لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلاَّ بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرُّوك لم يضروك إلاَّ بشيء قد كتبه الله عليك". إذا علِّق قلبك بالله سبحانه وتعالى وأحسِن المعاملة مع الله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}. وهذا هو حقيقة التّوحيد؛ أن يكون العبد معتمداً على الله ومتوكِّلاً على الله، ويعتقد أن النّاس مجرّد أسباب، والأسباب إن شاء الله نفعتْ وإنْ شاء لم تنفع، فلا يجعل الحمد والذم للناس، وإنما يجعل الحمد لله سبحانه وتعالى، وإذا لم يحصل له مطلوبه فليصبر وليعلم أن ما قُدِّر له لا بد أن يكون فليحمد الله أيضاً. وليس معنى ذلك أن الإنسان لا يحرص على طلب الخير، قال صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله"، فجمع بين الأمرين: الحرص والاستعانة. فالحرص ليس مذموماً، وإنما المذموم: الاعتماد على الحرص واعتقاد أنه يحصل به المطلوب. وحديث أبي سعيد رواه أبو نعيم في "الحلية"، ورواه البيهقي، وهو حديث ضعيف، ولكنّ الشيخ رحمه الله من قاعدته أن لا يذكر الحديث الضعيف إلاَّ إذا كان له ما يؤيِّده، وهذا الحديث تؤيِّده الآية التي قبله وهي قوله تعالى: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ ج / 2 ص -59- وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من التمس رضا الله بسخط النّاس رضيَ الله عنه وأَرْضى عنه النّاس، ومن التمس رضا النّاس بسخط الله سخِط الله عليه وأسخط عليه النّاس" رواه ابن حبان في "صحيحه". فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}، "إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله". فالشيخ رحمه الله قد يذكر بعض الأحاديث الضعيفة إذا كان لها ما يؤيِّدها من القرآن أو من السنّة. وهذه قاعدة معروفة عند أهل العلم. قوله: "وعن عائشة رضي الله عنها أدن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من التمس" إلخ" لحديث عائشة رضي الله عنها هذا قصة، وهي: أن معاوية رضي الله عنه لَمّا وَلِيَ المُلْك كتب إلى أم المؤمنين يطلُب منها النصيحة، لأنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندها من العلم الشيء الغزير الذي حملته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي فقيهة النساء فكتبت إليه: "السلام عليكم، أما بعد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من التمس رضا الله بسخط النّاس رضي الله عنه وأرضى عنه النّاس، ومن التمس رضا النّاس بسخط الله سخِط الله عليه وأسخط عليه الناس". هذا الحديث إذا سار عليه الحكّام وغير الحكّام حصل الخير الكثير، فهو منهج عظيم، وهذه الكلمات اليسيرة منهج تسير عليه الأمة، حُكّامها ومحكوموها، الراعي والرعية، ولذلك نصحت به عائشة معاوية رضي الله عنهما، وهذا من فقهها رضي الله عنها حيث اختارت هذا الحديث لمعاوية لأنه وال وإمام، فهو بحاجة إلى هذا الحديث ليجعله منهجاً له في سياسة المُلْك. وهذا الحديث فيه: أن الإنسان يقدِّم خشية الله على خشية النّاس، ويقدِّم رضى الله على رضى النّاس، كالحديث الذي قبله. فإذا جمعتْ هذه الآيات وهذه الأحاديث دلّتْ على أن الخوف عبادة يجب إفراد الله تعالى بها، ونعني بالخوف النوع الأول الذي هو خوف العبادة الخوف الذي يترتب عليه العمل بطاعة الله وترك معصية الله، أما الخوف المعكوس الذي تترتب عليه معصية الله لإرضاء النّاس، فهذا مذموم. ودلّ حديث أبي سعيد -كما يقول الشيخ في مسائله- على أن اليقين يقوى ويضعُف، بدليل قوله: "إن من ضعف اليقين". المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#37
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ج / 2 ص -60- [ الباب الثالث والثلاثون:] * باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. التوكل هو: التفويض، فالتوكل على الله: تفويض الأمور إليه سبحانه، وهو من أعظم أنواع العبادة. ومناسبة هذا الباب لكتاب التّوحيد: أنه لَمّا كان التوكل على الله عبادةً لله عزّ وجلّ وجب إخلاصه لله وترك التوكُّل على مَن سواه، لأن العبادة حقٌّ لله، فإذا صُرفت لغيره صار ذلك شركاً؛ فالتوكُّل على غير الله شرك- كما يأتي بيانه وتفصيله-. وهذا الكتاب المبارك ألّفه الشيخ رحمه الله لبيان التّوحيد وبيان الشرك؛ فالتوكلُّ على الله وحده توحيد، والتوكُّل على غيره شرك. فهذا مناسبة هذا الباب لكتاب التّوحيد. قوله رحمه الله: "بابُ قول الله" أي: تفسير هذه الآيات؛ فهذا الباب يبيَّن فيه تفسير هذه الآيات الكريمات. فقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} هذه الآية في سورة المائدة في قصة موسى عليه السلام مع قومه لَمّا قال لقومه: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} يعني: أرض فلسطين، ليخلِّصوها من الوثنيين لأنها كانت بيد الوثنيِّين، وموسى عليه السلام أُمر بالجهاد لنشر التّوحيد ومحاربة الشرك والكفر بالله وتخليص الأماكن المقدَّسة من قبضة الوثنييِّن، وهذا من أغراض الجهاد في سبيل الله. {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} لأن الله كتب أن المساجد والأراضي المقدَّسة للمؤمنين من الخلق من بني إسرائيل وغيرهم، {كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} شرع أن تكون الولاية عليها للمؤمنين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ(105)}، فالوِلاية على المساجد خصوصاً المساجد المبارَكة وهي المسجد الحَرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى وسائر المساجد تكون الولاية عليها للمؤمنين، ولا يجوز أن يكون للكفار والمشركين من الوثنيِّين والقبوريِّين سلطة على مساجد الله سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ج / 2 ص -61- بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ(17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، وهذا سبق في الباب الذي قبل هذا. قال تعالى في المسجد الحرام: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}. فمساجد الله- خصوصاً المساجد الثلاثة- يجب أن تكون الولاية عليها للمسلمين، ولا يكون للمشركين عليها سلطة، ويجب على المسلمين أن يجاهدوا حتى يخلِّصوا هذه المساجد من أيدي المشركين. فموسى عليه السلام خرج ببني إسرائيل يريد تخليص بيت المقدس، ولكن بني إسرائيل كانوا قوماً جبناء: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} يقال كان فيها حينذاك قبيلة يقال لها: العماليق، كانوا شِداداً في خلقهم أقوياء، {وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} وهذا منتهى المهانة ومنتهى السُّخرية، لأن الكفار ليسوا بخارجين إلاَّ بالجهاد والجلاد والاستشهاد في سبيل الله. {قَالَ رَجُلانِ} يعني: من بني إسرائيل من أهل الرأي والإيمان والعزيمة. {مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} يخافون الله سبحانه وتعالى. {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا} أنعم الله عليهما بالإيمان والعزيمة الصادقة. {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} يعني: اعزموا واهجموا عليهم حتى يروا منكم القوة، فإذا رأوا منكم القوة فإنهم يخرجون. {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} لا شك أنه إذا حصل هجوم صحيح ودخل المجاهدون عليهم الباب أنه سيقع الرعب في قلوبهم ويخرجون منها، لكن هذا لا يكون إلاَّ من أهل الإيمان وأهل الصدق والعزيمة والبأس كما في رجال محمد صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يجاهدون ويهجمون على الكفار ويقتحمون الأبواب ويخاطِرون بأنفسهم. وأيضاً فإنه لا يكفي دخول الباب، بل {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فهذا لا يحصل إلاَّ بالعزيمة الصادقة، والإقدام في سبيل الله، وتقديم النفس في سبيل الله، مع التوكُّل على الله وعدم الاعتماد على القوة، بل يعتمد على الله مع الأخذ بالقوة المناسبة. ج / 2 ص -62- وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية. وهذا محل الشاهد من الآية؛ حيث قدّم المعمول وهو الجارّ والمجرور {وَعَلَى اللَّهِ}، وأخّر العامل وهو {تَوَكَّلُوا} ممّا يفيد الحصْر، أي: توكّلوا على الله ولا تتوكّلوا على غيره. ففيه: وجوب إخلاص التوكُّل على الله عزّ وجلّ، وأنه سببٌ من أسباب النصر على الأعداء مثل قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)} قدّم المعمول وأخّر العامل، أصله: نعبدك ونستعين بك، ولكن قدّم المعمول وهو الضمير المنفصل {إِيَّاكَ} في الموضعين على العامل {نَعْبُدُ} و {نَسْتَعِينُ} ليفيد الحصر أي لا نعبد إلاَّ إياك ولا نستعين بغيرك، وهذا هو الإخلاص والتّوحيد. قال: "وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية" أي: إذا خُوِّفوا بالله خافوا، وإذا ذكّروا بالله تذكّروا، وإذا قيل لهم: {اتَّقُوا اللَّهَ} خافوا من الله عزّ وجلّ وأشفقوا من عذابه، إذا وُعظوا وذُكِّروا فإنهم يخشون الله سبحانه وتعالى، بخلاف الذين قال الله تعالى فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ}، وقوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ(13)}، وقوله تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى(10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى(11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى(12)}، وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ(55)}، فإن المؤمن ينتفع بالموعظة والتذكير ويخاف من الله سبحانه وتعالى إذا ذُكِّر به وخُوِّف به، وهذه علامة الإيمان؛ أما المنافق فهو وإن ادّعى الإيمان فإنه إذا ذُكِّر بالله ازداد عُتُوًّا ونفوراً وازداد طُغياناً فتأخذَه العزّة بالإثم. {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ} القرآنية {زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} وهذه علامة الإيمان؛ أن المؤمن إذا تُليت عليه آيات الله وسمع القرآن يزيد إيمانه ويقينه، وينتفع بالقرآن الكريم، خلاف المنافق؛ فإنه إذا تُليَ عليه القرآن لا يستفيد منه شيئاً، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ(125)}. {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} هذا محل الشاهد من الآية للباب، فهي مثل الآية التي قبلها: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا}. ج / 2 ص -63- وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} الآية. وهنا يقول: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} قدم المعمول أيضاً وهو الجار والمجرور على العامل وهو {يَتَوَكَّلُونَ} ليُفيد الحصر، وبيان أن التوكّل عبادة يجب إفراد الله سبحانه وتعالى فيها، ولا يجوز التوكُّل على غير الله؛ لأن من توكّل على غير الله فقد أشرك. وقد جعل سبحانه التوكل شرطاً في صحة الإيمان؛ فقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، فمن توكّل على غير الله فليس بمؤمن. قال: "وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} الآية" هذا خطاب من الله سبحانه وتعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم. فقوله: "يا أيها النبي" ناداه بصفته الكريمة: {النَّبِيُّ}، والله تعالى لم يناد محمداً باسمه أبداً في القرآن بل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ}، فيناديه باسم النبوة وباسم الرسالة تكريماً وتشريفاً له صلى الله عليه وسلم. أما الإخبار عنه فإن الله يذكره باسمه، كقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}، فهذا من باب الإخبار، فإذا جاء باب الإخبار يأتي باسمه صلى الله عليه وسلم، وإذا جاء بالنداء فيناديه بصفاته الكريمة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ}. ولذلك: عاب الله على الأعراب الذين وقفوا على الحُجُرات وقالوا: يا محمد؛ اخرج إلينا، قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ(2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ(3)}، ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ(4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(5)} فيجب التأدُّب مع الرسول صلى الله عليه وسلم حيًّا وميِّتاً. قوله: {حَسْبُكَ اللَّهُ} {حَسْبُكَ} يعني: كافيك، فالحسب هو: الكافي. {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: وحسب من اتبعك من المؤمنين؛ فالـ (واو) عاطفة، {وَمَنِ اتَّبَعَكَ} معطوف على ضمير المخاطَب المضاف إليه في قوله: ج / 2 ص -64- وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} الآية. عن ابن عبّاس قال: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلْقيَ في النار. {حَسْبَكَ}: حسبك وحسب من اتّبعك، فحَذف المضاف في الكلمة الثانية اعتماداً على ما جاء في الأولى من باب الاختصار والإيجاز؛ فقوله: {وَمَنْ} (الواو) عاطفة و {مَن} في محل جر، عطف على ضمير المخاطَب المضاف إليه في قوله: {حَسْبُكَ}، هذا هو الصواب الذي رجّحه الإمام ابن القيّم وأبطل ما سواه، فليس {وَمَنِ اتَّبَعَكَ} معطوف على الله، فيكون مرفوعاً. ومحل الشاهد من الآية: {حَسْبُكَ اللَّهُ}، فإذا كان حسبك الله فيجب التوكُّل على الله سبحانه وتعالى والاعتماد عليه سبحانه وتعالى وحده. لأنه يكفي من توكّل عليه، كما في الآية التي بعدها وهي قوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي: يفوِّض أمره إلى الله ويعتمد على الله فإن الله حسبه، أي: كافيه جميع الأمور. أما من لم يتوكّل على الله فإن الله يَكِلُه إلى من اعتمد عليه كما في الحديث: "من تعلّق شيئاً وُكِل إليه"؛ فمن تعلّق بالله كفاه، ومن تعلّق بغيره خذله الله ووكله إلى ضعيف. قوله: "{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}" أي: لا على غيره. "{فَهُوَ}" أي: الله سبحانه وتعالى. "{حَسْبُهُ}" أي: كافيه. فهذا فيه: ثمرة التوكُّل على الله سبحانه وتعالى، وأن الله يكفي من توكّل عليه، ومن كان الله كافيه فإنه هو الرابح والمفلح في الدنيا والآخرة، ولا يخاف من غيره أبداً، إنما يخاف من الله سبحانه وتعالى. قال: "وعن ابن عباس" هو: عبد الله بن عباس، حَبْرُ الأمة، وترْجُمان القرآن. "قال: "{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}" قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلْقيَ في النار، وقالها محمدٌ صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} الآية" هذه كلمة عظيمة قالها الخليلان: إبراهيم ومحمد- صلى الله عليهما وسلم- ج / 2 ص -65- وقالها محمدٌ صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} الآية"رواه البخاري والنسائي. في أضيق الأحوال وأحرج المواقف، وهكذا الأنبياء عند تأزُّم الأمور؛ لا يعتمدون إلاَّ على الله سبحانه وتعالى، ولا يلجئون إلاَّ إليه، وتزيد رغبتهم في الله عند الشدائد، ويُحسنون الظن بالله سبحانه وتعالى دائماً وأبداً. فالأنبياء وأتباعهم لا يعتمدون إلاَّ على الله، خصوصاً عند المضائق وتأزُّم الأمور؛ يتوكّلون على الله ولا يضعُفون أو يخضعون لغير الله سبحانه وتعالى، أو يتنازلون عن شيء من عقيدتهم ودينهم أبداً. قوله: "قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلقيَ في النار" إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعثه الله في قوم وثنيِّين في أرض (بابل)، يعبدون الكواكب، ويبنون لها الهياكل، وينحتون الأصنام التي على صورها، وكان أبوه يصنع الأصنام، ويبيعها على النّاس ويأكل من ثمنها. فبعث الله إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- في هذه الأمة الوثنية يدعوها إلى التّوحيد وإخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى، ويُنكر عليهم عبادة الأصنام، وبدأ بأبيه وقال: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً(43) يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ}، انظر التلطُّف، يكرِّر: يا أبت، يا أبت. وهكذا الداعية يتلطّف بالمدعو، كما قال تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(44)}، لا يأتيه بعنف وقسوة وشدة، ويقول: هذا غَيْرة لله. "حين ألقي في النار" أي: قال هذه الكلمة حينما ألقاه قومه في النار انتصاراً لآلهتهم، فقال الله للنار: {كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}. والشاهد في قوله: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، فهذا فيه: التوكُّل على الله سبحانه وتعالى، وبيان ثمراته، وأن ثمرة التوكُّل على الله حوّلت النار إلى برْدٍ وسلام على إبراهيم عليه الصلاة والسلام. فهذا فيه: فضيلة هذه الكلمة، وثمرة التوكُّل على الله سبحانه وتعالى. قوله: "وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} الآية" لَمّا حصلت غزوة بدر في السنّة الثانية من الهجرة، وانتصر ج / 2 ص -66- المسلمون فيها، وقتلوا صناديد الكفُار ورؤساءهم، وغَنِموا أموالهم؛ عند ذلك تشاور المشركون في مكة بقيادة أبي سفيان بن حرب، وأرادوا غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقاماً لرؤسائهم الذين قُتلوا في بدر، ولآبائهم ولأموالهم التي أُخذت، فاجتمعوا بقيادة أبي سفيان بن حرب، وجاءوا بجيوش عظيمة -ونزلوا عند أحد، وهو الجبل الذي يقع شمالي شرق المدينة، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه بعد التشاوُر معهم: هل يخرج إليهم، أو يبقى في المدينة؟. فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يميل إلى البقاء في المدينة، وهو رأي عبد الله بن أُبي، ولكنّ الصحابة الذين لم يحضروا بدْراً ندِموا ندامة شديدة وعزَموا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج إليهم ليخرجوا كما خرج إخوانهم في بدر، ليستدركوا ما حصل وما فات عليهم في بدر. فالرسول صلى الله عليه وسلم نزل على رغبة هؤلاء الصحابة وخرج، وخرج المسلمون معه، ورجع عبدالله بن أبي المنافق مع جماعة من المنافقين، وانخذل من العسكر. فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم بأصحابه وعسكر عند أحد، ونظّم أصحابه، وجعل جماعةً من الرُّماة على الجبل ليحموا ظهور المسلمين أن يأتيهم الكفّار من الخلف. ثمّ دارت المعركة وصار النصر للمسلمين، فصاروا يجمعون المغانم، فلما رأى الذين على الجبل أن أصحابهم يجمعون المغانم ظنوا أن المعركة قد انتهتْ؛ أرادوا النزول من الجبل ليشاركوا في جمع الغنائم، فمنعهم قائدهم عبد الله بن جُبَيْر، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم: "لا تتركوا الجبل سواء انتصرنا أو هُزمنا"، ولكنهم رضي الله عنهم اجتهدوا ونزلوا من الجبل، وأما رئيسهم فبقي طاعةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رأى خالد بن الوليد- وكان يومَ ذاك على الشرك- الجبل قد فرغ، وكان قائداً محنَّكاً يعرف السياسة الحربية؛ دار بمن معه من كتيبة الخيل، وانقضّوا على المسلمين من خلف ظهورهم، والمسلمون لم يشعروا، فدارت المعركة من جديد، وعاقب الله المسلمين بسبب هذه المخالفة التي حصلتْ من بعضهم والعقوبة شملت المخالفين وغير المخالفين، لأن العقوبة إذا نزلت تَعُمّ، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}. ج / 2 ص -67- فدارت المعركة من جديد، وأصاب المسلمين ما أصابهم من القرْح، واستُشهد منهم سبعون من خيار الصحابة من المهاجرين والأنصار، وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطّلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم أصابه ما أصابه؛ فكُسِرتْ رَباعيّته، وشُجَّ في رأسه، وسقط في حفرة، وأُشيع أنه قد مات. فأصاب المسلمين مصيبة عظيمة، ولكن أهل الإيمان لا يتغيّر موقفهم ولا يتزحزح أبداً مهما بلغ الأمر، لا تضعُف عزيمتهم، اجتمعوا حول الرسول صلى الله عليه وسلم يَذُبُّون عنه، ويحمونه من سهام المشركين، والمعركة لا تزال مستمرة، والرسول مشجوج، والمِغْفَر قد هشم على رأسه صلى الله عليه وسلم. ثمّ انتهت المعركة، وأُعلن أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم لم يُقتل، فحينئذ فرح المسلمون فرحاً شديداً، واغتاظ المشركون غيظاً شديداً. فانصرف المشركون إلى مكّة، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يدفنوا الشهداء، وأن يدفنوا الاثنين والثلاثة في قبرٍ واحد، لكثرة الأموات، ولضعف المسلمين في هذه الحالة، فدفنوهم في مكان الشهداء المعروف عند أحد، وحملوا الجرْى إلى المدينة. ولَمْا وصلوا إلى المدينة جاءهم مندوب من أبي سفيان بأنه سيعيد الكرّة عليهم، ويرجع عليهم ويستأصل بقيّتهم، فما زادهم ذلك إلاَّ إيماناً، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا معه إلى أُحُد أن يخرجوا ولا يخرج معهم غيرهم، فخرجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم بجراحهم ونزلوا في مكان يقال له: (حمراء الأسد)- قريب من المدينة - ينتظرون الكفّار. لما بلغ أبا سفيان ومن معه أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج في أَثَرهم وفي طلبهم أصابهم الرعب، وقالوا: ما خرجوا إلاَّ وفيهم قوة. فمضوا إلى مكة خائفين من الرسول صلى الله عليه وسلم، ورجع المسلمون إلى المدينة سالمين. وأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ(172) )الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}. هذا قول أبي سفيان أننا نأتي ونقضي على بقيّتهم {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا ج / 2 ص -68- اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * )فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ(174)}. هذه ثمرات التوكُّل على الله سبحانه وتعالى، وهذه ثمرات الاعتماد على الله، كما صارت النار برْداً وسلاماً على إبراهيم؛ صارت هذه المعركة وهذه التخويفات برداً وسلاماً على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقه الباب وما يُستفاد من النصوص، وذلك في مسائل: المسألة الأولى:يؤخَذ من هذه الآيات وأثر ابن عباس رضي الله عنهما أن التوكُّل على الله عبادة يجب إخلاصها لله سبحانه وتعالى، وأن التوكُّل من أعظم أنواع العبادة. المسألة الثانية: التوكُّل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله شركٌ أكبر، كالذين يتوكّلون على الأصنام، أو على أصحاب القبور، أو على الأولياء والصالحين في جَلْب الأرزاق، ودفع المضار، وشفاء المرضى، وغير ذلك. المسألة الثالثة: يؤخَذ من هذه النصوص: أنّ التوكُّل على الله شرط في صحّة الإيمان لقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...} إلى قوله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}؛ فدلّ على أن التوكل على الله شرطٌ لصحّة الإيمان. المسألة الرابعة: يُؤْخذ من هذه النصوص: أن الإيمان يزيد وينقص كما هو مذهب أهل السنّة والجماعة خلافاً للمرجئة الذين يقولون: الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص. وهذه مسألة عظيمة معروفة عند أهل السنّة والجماعة، ومن أدلتها: هذه الآية: {زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}، فدلّ على أن الإيمان يزيد، وإذا كان يزيد فهو ينقص، لأن كل شيء يزيد فهو ينقص، فمن لازِم الزيادة النُّقصان. وكما في قوله تعالى: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بِضْعُ وسبعون شُعبة، أعلاها: قولُ: "لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق" دلّ على أن الإيمان يتفاوت، منه ما هو أعلى ومنه ما هو دون ذلك. ج / 2 ص -69- وقال صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"دلّ على أن الإيمان يضعُف. وفي الحديث الآخر: "أنه يُخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان" فدلّ على أن الإيمان ينقص حتى يصير كوزن الحبة من الخردل، وأنه يزيد حتى يكون كالجبال. فالإيمان يزيد وينقص، هذا مذهب أهل السنّة والجماعة، وفي ذلك أيضاً رَدٌّ على الخوارج والمعتزلة الذين يكفّرون بالذنوب الكبائر. المسألة الخامسة: في الحديث دليلٌ على وجوب الأخذ بالأسباب مع التوكُّل على الله سبحانه؛ لأنه لَمّا ذكر التوكُّل على الله ذكرت الأعمال، فقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(3)}، فالتوكُّل على الله لا يكفي، لا بد من الأعمال الصالحة، لا بد من الصلاة والصيام والحج والجهاد في سبيل الله، وفعل الأسباب التي تنفع مع التوكُّل على الله سبحانه وتعالى. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#38
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(99)}. ج / 2 ص -70- [الباب الرابع والثلاثون:] * باب قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(99)}. هذا الباب وضعه المصنف رحمه الله في "كتاب التّوحيد" لأن الأمن من مكر الله والقنوط من رحمته ينقِّصان التّوحيد، ويُنافيان كماله، وهذا الكتاب كله في موضوع التّوحيد ومكمِّلاته وبيان مناقضاته ومنفِّصاته. ومكر الله سبحانه وتعالى هو: إيصال العقوبة إلى من يستحقُّها من حيث لا يشعر. وهو عدلٌ منه سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(54)}، وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(50)}؛ فالمكر في حق الله سبحانه وتعالى عدل وجزاء يحمد عليه. أما المكر من المخلوقين فهو مذموم لأنه بغير حق. والمكر من الله نظير الاستهزاء: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(15)}، ونظير السخرية: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ}، ونظير الكيد: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً(15) وَأَكِيدُ كَيْداً(16)}، ونظير النسيان في مثل قوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}. فهذه أمور تُنسب إلى الله جل وعلا لأنها من باب المقابلة والجزاء، فهي عدلٌ منه سبحانه وتعالى حيث إنه ينزِّلها فيمن يستحقُّها، فهي عدلٌ منه سبحانه؛ بخلاف هذه الصفات من المخلوقين فإنها مذمومة لأنها في غير محلها ولأنها ظلمٌ للمخلوقين. قوله تعالى: "{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ}" هذه الآية في سِياق ما ذكره الله عن الأمم الكافرة التي أحلّ الله بها عقوباته من قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، الذين ذكرهم الله في سورة الأعراف، ثمّ قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ(94)}، {بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} الشدائد من الجوع والخوف والقحط وغلاء الأسعار، يفعل الله ذلك بهم لعلهم يدعونه، ولعلهم يرجعون إلى الله ويتوبون، ويعلمون أن ما أصابهم بسبب ذنوبهم؛ لكنهم لم يرجعوا. ثمّ إن الله سبحانه استدرجهم بالنعم، لَمّا لم يرجعوا عند النِّقَم استدرجهم ج / 2 ص -71- بالنعم قال تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ} أي: بدل الشدة والجوع والخوف، بـ {الْحَسَنَةَ} وهي: الغناء والسَّعَة والثروة؛ استدراجاً من الله سبحانه لهم. {حَتَّى عَفَوْا} يعني حتى كثروا وزادت قوتهم ونموا وصار لهم قوة واغتروا بهذه النعمة؛ فهم لم يتوبوا عند النقمة ولم يشكروا عند النعمة. {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} قالوا: هذه الأمور تجري عادة، مرّة رخاء ومرّة شدة، لم يُرْجِعوا الأمر إلى الله سبحانه وتعالى ويعلموا أن ما أصابهم من العقوبات يسبب ذنوبهم وأن ما أصابهم من النعمة فهو فضلٌ من الله؛ بل نسبوا هذا إلى العادة. {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} هذا هو المكر، وهو: أن الله أخذهم في مأمنهم حيث لم يتوقعوا العقوبة. وفي هذا تحذير لنا من الله سبحانه وتعالى أننا لا نغتر بهذه النعم، وهذه الثروات، وهذه السَّعَة؛ فنغفلُ عن شكر الله عزّ وجلّ، ولا نعمل بطاعة الله، ولا نخاف من العقوبة ومن زوال هذه النعم. ثمّ قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96)}؛ فالنعم إذا كانت مع المعاصي فهي استدراج، وإذا كانت مع الطاعات فإنها نعمةٌ من الله تعالى وعون على طاعته. ثمّ قال تعالى: "{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ}" هذا استنكار من الله سبحانه وتعالى على من يغترّ بالنعم وينسى العقوبة أن يأخذهم على غِرّة وهم آمنون منعَّمون، ثمّ ينقلهم من النعمة إلى النِّقْمة، ومن الصحة إلى الألم والمرض، ومن الوجود إلى العدم. {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ} أي: لا يأمن عقوبة الله التي تنزل على خُفْية ومن غير تأهُب ومن غير توقع لها. {إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} الذين حقّتْ عليهم الخسارة التي لا رِبْح معها أبداً ولا نجاة منها أبداً. والشاهد في قوله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} فهو استفهام إنكار على من يقع منه مثل ذلك. ج / 2 ص -72- وقوله: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}. فالأمن من مكر الله يستلزم عدم الخوف من الله سبحانه وتعالى، كما يستلزم الاستمرار في المعاصي والزيادة منها، ويستلزم ترك التوبة والرجوع إلى الله عزّ وجلّ. وهذه حالة الأشقياء من الخلق. والأمن من مكر الله ينافي التّوحيد؛ لأنه يدل على عدم الخوف من الله عزّ وجلّ. قال: "وقوله: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ}"هذا استفهام إنكار من الله سبحانه وتعالى، وهو بمعنى النفي، أي: لا أحد يقنط من رحمة ربه. "{إِلَّا الضَّالُّونَ}" التائهون عن الحق. وهذه الجملة قالها إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- لَمّا جاءته الملائكة في صورة أضياف يريدون إهلاك قوم لوط، وكان إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- كريماً مِضْيافاً، فلما جاءه هؤلاء الرجال بادر إلى ضيافتهم وجاء بعجل حنيذ -وفي آية أخرى بعجل سمين، وقرّبه إليهم، لكنهم لم يأكلوا لأنهم ملائكة، والملائكة لا يأكلون؛ فإبراهيم خاف أنهم أعداء، لكنهم طمأنوه، وأخبروه بمهمتهم، وأنهم جاءوا لإهلاك هذه القرية. وزادوه -أيضاً- بالبشرى بالولد، وكان لا يُولد له فاستبعد ذلك وقالوا له: {فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ}. "{قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ(56)}" هذا محلّ الشاهد، أي: لا أحد يقنط من رحمة ربه "{إِلَّا الضَّالُّونَ}" عن الحق؛ لأن المؤمنين -وخاصّة الأنبياء- يعلمون من قدرة الله سبحانه وتعالى وفضله وإحسانه ما لا يعلمه غيرهم، ويعلمون من قُرب رحمته وفرجه ما لا يعلمه غيرهم. هذا إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء يقول: "{وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}" مهما كانتِ الحال من الشدّة ومن الضيق ومن الحرج؛ فإن المؤمن لا يقنط من رحمة الله، لأن الله قادرٌ على كل شيء، لا يعجزه شيء، وهو أرحم الراحمين. ففي هذه الآية: أن الذي يقنط من رحمة ربه يكون من الضالين، والضلال ضدُّ الهدى. وفي هاتين الآيتين: مشروعية الجمع بين الخوف والرجاء؛ فالخوف في قوله: ج / 2 ص -73- "{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(99)}"، وفي الآية الثانية: "{وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}" ففيهما وجوب الرجاء وعدم القنوط من رحمة الله؛ فيجب الجمع بينهما، بأن يكون خائفاً راجياً، لا يكون خائفاً فقط، لأن هذا يقنِّطه من رحمة الله سبحانه وتعالى، ولا يكون راجياً فقط، لأن هذا يؤمِّنه من مكر الله؛ فإذا خاف الإنسان وقنِط من رحمة الله لم يتب، وإذا أمِن من مكر الله فإنه لا يترُك المعاصي بل يزيد منها. ولهذا يقول العلماء: "من عبد الله بالخوف فقط فهو حروري"، يعني: من الخوارج، لأن الخوارج وعيديّة يأخذون بآيات الوعيد -والعياذ بالله-، ويخرجون العاصي من الإسلام ويخلِّدونه في النار، وهذا يأس من رحمة الله، نسأل الله العافية. "ومن عبد الله بالرجاء فقط فهو مرجئ" لأن المرجئة هم الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فطريقة الخوارج فيها يأسٌ من رحمة الله، وطريقة المرجئة فيها أمنٌ من مكر الله. أما أهلُ السنّة والجماعة فإنهم يجمعون بين الخوف من عذاب الله، مع رجاء رحمة الله؛ فالخوف يمنعهم من المعاصي، ورجاء رحمة الله يحملهم على التوبة والاستغفار والندم على ما حصل منهم؛ هذه طريقة أهل السنّة والجماعة وكما قال الله تعالى في الأنبياء: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} {رَغَباً وَرَهَباً} الرغب هو الرجاء، والرهب هو الخوف؛ يعني: يجمعون بين الخوف والرجاء، وكما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً(57)}، {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} يجمعون بين الأمرين بين الخوف والرجاء. قال أهل العلم: "فيجب على المؤمن أن يكون معتدلاً بين الخوف والرجاء، لا يرجو فقط حتى يأمن من مكر الله، ولا يخاف فقط حتى ييأس من رحمة الله، بل يكون معتدلاً". ويقولون: "الخوف والرجاء للمؤمن كجناحي الطائر، إذا اعتدلا استطاع الطيران في الجو، وإذا اختلّ واحدٌ منهما سقط فلا يستطيع الطيران"، كذلك المؤمن، إذا تعادل فيه الخوف والرجاء استطاع السير إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا اختلّ أحدُ الركنين اختلّ إيمانه. قوله: "وعن ابن عبّاس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر؟" أي: عن الذنوب الكبائر؛ جمع كبيرة وهي: العظيمة. فقال: "الإشراك بالله" هذا اكبر الكبائر. فأكبر الكبائر: الإشراك بالله عزّ وجلّ، وهو: عبادة غير الله بأيِّ نوع من أنواع العبادة وأيًّا كان هذا المعبود صنماً أو شجراً أو حجراً أو حيًّا أو ميِّتاً أو قبراً أو غير ذلك. وهذا هو الذي لا يُغفر إلاَّ بالتوبة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، وهذا هو الذي يحبط الأعمال جميعها، قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. قوله صلى الله عليه وسلم: "واليأْس من رَوْح الله" هذا مثل قوله تعالى: "{وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}"؛ فالقنوط من رحمة الله من أكبر الكبائر، لأن فيه إساءة ظنٍّ بالله سبحانه وتعالى، ولأنه يحمل صاحبه على عدم التوبة لأنه يقول: لا يغفر الله لي وإن تبت، والله سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ(54)}: توبوا إلى الله عزّ وجلّ؛ والتوبة تَجُبُّ ما قبلها مهما كان الذنب الشرك والكفر وقتل النفس والزنا وشرب الخمر وأكل الربا؛ فالتوبة لا يبقى معها ذنب إذا كانت توبة صحيحة، والتائب من الذنوب كمن لا ذنب له: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}، فالكفّار إذا كانوا يُغفر لهم ما قد سلف فكيف بُعصاة المؤمنين إذا تابوا؟، هم أولى بالمغفرة؛ فعَفْوُ الله أعظم من ذنوبهم. قوله صلى الله عليه وسلم: "والأمن من مكر الله" أي: ومن أكبر الكبائر: الأمن من مكر الله، ج / 2 ص -75- وعن ابن مسعود قال: "أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله "رواه عبد الرزّاق. أي: من عقوبته عند المعصية من حيث لا يشعر. والغفلة عن طاعة الله سبحانه وتعالى. وهذا الحديث رواه البزّار وغيره. وبعضهم يرى أنه من كلام ابن عبّاس، وأنه موقوف، وبعضهم يضعِّفه. وقد ذكرت لكم أن الشيخ رحمه الله إذا ذكر مثل هذا الحديث الذي في سنده مقال لا يذكره إلاَّ وقبله أو بعده ما يؤيِّده من الآيات أو الأحاديث التي يسوقها في الباب. وهذا الحديث تؤيِّده الآيتان السابقتان: "{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(99)}"، "{وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}"، وكذلك الآيات التي في التحذير من الشرك وأنه أكبر الكبائر. فالحديث هذا وإن كان في سنده مقال إلاَّ أنه تؤيِّده الأدلة الصحيحة، خصوصاً ما ذكره المؤلف رحمه الله من هاتين الآيتين، وبعضهم أثنى على سنده، فهو ليس مُجْمَعاًَ على ضعفه. قال: "وعن ابن مسعود قال: "أكبر الكبائر" هذا فيه دليل على أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر والكبائر تختلف، بعضها أكبر من بعض كما في الحديث: أن النبي سُئل أيُّ الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله نِدًّا وهو خلقك"، قلت: ثمّ أيٌّ؟ قال: "أن تقتُل ولدك خشية أن يَطْعَم معك"، قلت: ثمّ أيٌّ؟، قال: "أن تُزانيَ بحليلة جارك". فهذه أعظم الكبائر: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرّم الله إلاَّ بالحق، ولاسيّما قتل القريب، مثل: قتل الابن. كذلك: الزنا بحليلة الجار، فالزنا محرّم عموماً، وهو كبيرة، ولكن الزنا بحليلة الجار أشد من الزنا بغيرها لحرمة الجيرة، ومِصْداق ذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً(68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً(69) إِلَّا مَنْ تَابَ}. وقوله: "والأمن من مكر الله" سبق معنى الأمن من مكر الله. ج / 2 ص -76- "والقنوط من رحمة الله" هذا سبق أيضاً معناه. "واليأس من رَوْح الله" القنوط واليأس متقارِبان، وكلاهما فيه استبعادٌ لرحمة الله عزّ وجلّ وسوءُ ظنٍّ بالله عزّ وجلّ. "واليأس من روح الله" قال الله سبحانه وتعالى على لسانه نبيه يعقوب عليه السلام: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}، أما المؤمنون فلا ييأسون من روح الله مهما بلغ بهم الكرب والشدة؛ لعلمهم بالله عزّ وجلّ وأسمائه وصفاته، وقُرب فَرَجِه، وقُرب رحمته من عباده؛ فهم لا ييأسون من رَوْح الله مهما اشتدت بهم الخُطوب، وضاق بهم الحال. بل كلما اشتد الخطب عظم رجاؤهم بالله. ومواقفهم معروفة، كموقف إبراهيم عليه السلام، وموقف يعقوب لَمّا فقد أولاده الثلاثة، وموقف أيّوب عليه السلام الذي بلغ منه الضُّرُّ مبلَغاً شديداً، لم ييأسوا من رحمة الله. ومحمد صلى الله عليه وسلم لَمّا أُخْرِجَ هو وصاحبه أبو بكر يوم الهجرة واختفيا في الغار، وجاء المشركون في طلبهما، ووقفوا على الغار والرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر تحت أقدامهم، يقول أبو بكر: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا، قال: "يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؟"، فأعمى الله أبصارهم ولم يروا رسول الله وصاحبه، كما قال تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(40)}. ولَمّا خرج إلى الطائف يدعوهم إلى الله، وردّوا عليه ردًّا قبيحاً، وأغروا عبيدهم وسفاءهم برميه بالحجارة، هو ومولاه زيد بن حارثة؛ ورجع وأهل مكة كلهم أعداء له؛ فجاء من الطائف وقد قابلوه أسوأ مقابلة، وأهل مكة -أيضاً- خرج منهم لشدّة أذاهم، فقال له مولاه زيد بن حارثة: يا رسول الله، كيف ترجع إليهم وهم قد أخرجوك، قال: "يا زيد، إن الله جاعلٌ لِمَا ترى فرجاً ومخرَجاً". هكذا مواقف أنبياء الله -عليهم الصلاة والسلام-، لا ييأسون مهما بلغ الأمر ومهما بلغت الشدة لعلمهم برحمة الله عزّ وجلّ وقدرة الله عزّ وجلّ وعلم الله عزّ وجلّ بحالهم وأنه ج / 2 ص -77- لا تخفى عليه خافية ولا تخفى عليه أحوالُ عباده أبداً، ولكنه يبتليهم ويمتحنهم ليكفِّر عنهم سيِّئاتهم وليختبر إيمانهم وليعظُم رجاؤهم بالله عزّ وجلّ وليتوبوا إلى الله عزّ وجلّ. وله الحكمة في ذلك سبحانه وتعالى. قوله: "رواه عبد الرزاق" عبد الرزاق بن هَمَّام الصنعاني، الإمام الجليل، شيخ العلماء والمحدِّثين، روى عنه: الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوَيْه، وغيرهما من كبار الأئمة- رحمهم الله-. وقوّى إسناد هذا الحديث: ابن جرير الطبري. فهذه النصوص في هذا الباب يُستفاد منها الأحكام التالية: أولاً: تحريم الأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله، وأنهما ينقِّصان كمال التّوحيد وقد ينافيان التّوحيد. ثانياً: أنه يجب على المسلم أن يجمع بين الخوف والرجاء، فلا يخاف فقط ولا يرجو فقط، وإنما يكون خائفاً راجياً دائماً وأبداً، هذا هو التّوحيد، وهو صفة أولياء الله. ثالثاً: في هذه النصوص أن المعلِّم والداعية يبدأ بالأهم فالأهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لَمّا أراد أن يعلِّم أصحابه الكبائر بدأ بأهمها وهو الشرك بالله عزّ وجلّ، لأن الشرك أكبرُ الكبائر فبدأ به، ثمّ ذكر بعده الأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله. رابعاً: في الحديثين: أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، وقد عرّف العلماء الكبيرة بأنها: "ما رُتِّبَ عليها حدٌّ في الدنيا، أو وعيدٌ في الآخرة، أو خُتم بغضب، أو لعنة، أو نار، أو تبرّأ النبي صلى الله عليه وسلم من صاحبها، بأن قال: "ليس منا من فعل كذا"، أو نفى عنه الإيمان كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن". هذه ضوابط الكبيرة. أما الصغائر فهي ما ليس كذلك مما حرّمه الله ونهى عنه، ولم يصل إلى حدّ الكبيرة. ولكن لا يحمل هذا الإنسان على أنه يتساهل بالصغائر، لأن الصغائر إذا تُسوهِل بها جرَّتْ إلى الكبائر؛ والصغيرة تعظُم حتى تكون كبيرة مع الإصرار؛ ج / 2 ص -78- فلا يُتساهل فيها؛ لكن: ليست الذنوب على حدٍّ سواء، بل هي فيها صغائر وفيها كبائر. والصغائر تسمى اللَّمَم، كما قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}. والصغائر تكفَّر بالأعمال الصالحة، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} يعني: الصغائر. وقال صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفّارات لِمَا بينهن إذا اجْتُنِبَتِ الكبائر". فالصغائر تُكَفَّر بالأعمال الصالحة، أما الكبائر فإنها لا تكفَّر إلاَّ بالتوبة، إلاّ إذا شاء الله أن يعفوَ عن صاحبها وهي دون الشرك فإنها قابلة للعفو من الله سبحانه وتعالى؛ فهي تكفَّر إما بعفو الله وإما بالتوبة، بخلاف الشرك فإنه لا يكفَّر إلاَّ بالتوبة، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#39
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد بابٌ من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله ج / 2 ص -79- [الباب الخامس والثلاثون:] * بابٌ من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله مناسبة هذا الباب لكتاب التّوحيد: أن الصبر على أقدار الله من مكمِّلات التّوحيد، وأنّ عدم الصبر على أقدار الله يكون من منقِّصات التّوحيد؛ وهذا الكتاب المبارك صنفه الشيخ في بيان التّوحيد ومكمِّلاته وفي بيان منافياته ومنقِّصاته. فقوله: "بابٌ" مرفوع على أنه مبتدأ محذوف تقديره: هذا بابٌ. "من الإيمان بالله" أي: من خصال الإيمان بالله، ومن شعب الإيمان بالله عزّ وجلّ: الصبر على أقداره سبحانه وتعالى، أي: أن ذلك يدخل في الإيمان بالله، الذي هو أول أركان الإيمان الستة. والإيمان- كما عرّفه أهل السنّة والجماعة-: "قول باللسان، وعمل بالأركان" يعني: الجوارح "واعتقاد بالجَنان" يعني: بالقلب "يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية". هذا هو الإيمان. "الصبر على أقدار الله" الصبر لغة: الحبْس، قال الله تعالى لنبيه: {وَاصْبرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} أي: احبسها مع هؤلاء. وأما في الشرع فالصبر هو: حبس النفس على طاعة الله سبحانه وتعالى وترك معصيته. وذكر العلماء: أن الصبر له ثلاثة أنواع: صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ عن محارم الله، وصبرٌ على أقدار الله المؤلِمة. فالأول: صبرٌ على طاعة الله: بأن يؤدي الإنسان ما أمر الله تعالى به؛ وإن كان فيه مشقّة عليه، وإن كانت نفسه تريد الراحة؛ فإنه يصبر، فيقوم للصلوات الخمس، ويقوم لصلاة الفجر ويترك النوم، ويقوم لصلاة الليل ويترك النوم، ويصوم ويترك الطعام والشراب، ويترك الأهل؛ طاعة لله سبحانه وتعالى، ويجاهد في سبيل الله ويصبر على الجراح وعلى الآلام وعلى ملاقاة الأعداء، ويصبر على طاعة الله سبحانه وتعالى، لأن الطاعة لابد فيها من تعب. الثاني: صبرٌ عن محارم الله: فيتجنّب ما نهى الله تعالى عنه، والنفس تنازعه تريد الشهوات المحرَّمة، فهو يصبر على حبسها عنها وإمساكها عنها، وإن كانت ج / 2 ص -80- تنازعه وتدعوه، وكذلك شياطين الإنس والجن يدعونه ويرغِّبونه ويحسِّنون له القبيح، لكن يمسك نفسه ويحبسها عن محارم الله. والثالث:صبرٌ على أقدار الله المؤلِمة: فإن أصابه مرض أو أصابته مصيبة في ماله أو ولده أو في قريبه فإنه يصبر ولا يجزع. هذا من الإيمان بالله، قال- تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(156)}، يعرفون أن هذا من الله، وأنه بقضاء الله وقدره؛ فلا يجزعون ولا يتسخّطون. أما أقدار الله غير المؤلمة التي تلائم النفس فهذه لا تحتاج إلى صبر، لأن النفس تميل إليها. وهذا النوع الأخير- الصبر على أقدار الله المؤلمة- ذكروا أنه ثلاثة أنواع - أيضاً-: النوع الأول: حبس النفس عن الجزع. والنوع الثاني: حبس اللسان عن التشكِّي لغير الله سبحانه وتعالى. والنوع الثالث: حبس الجوارح عن لطم الخدود وشقِّ الجيوب. ويقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: "الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد؛ فلا إيمان لمن لا صبر له"، ويقول الإمام أحمد رحمه الله: "وجدت أنّ الله ذكر الصبر في القرآن في تسعين موضعاً"؛ مما يدلّ على أهميّته، وعلى عِظَم شأنه. فالصبر له مقامٌ عظيمٌ في الدين، ولابد للمؤمن من الصبر لِمَا يواجه في هذه الحياة من المشاكل ومن المشاق والصعوبات لكنه يصبر عليها طاعة لله سبحانه وتعالى. وقوله: "على أقدار الله" أقدار جمع قدر، والقدر: ما قضاه الله سبحانه وتعالى في خلقه، فإن كلَّ شيء يجري في هذا الكون فإنه مقدَّر، ليس هناك شيء يجري بدون تقدير الله سبحانه وتعالى؛ فالله علِمه وقدّره وكتبه ووقّته بوقت يحدُث فيه، فإنه سبحانه وتعالى أول ما خلق القلم قال له: "اكتب"، قال: ما أكتب؟ قال: "اكتب ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة"، فكتب في اللوح المحفوظ كلَّ شيء؛ فما من شيء يجري إلاَّ وهو مقدّرٌ من الله سبحانه وتعالى ومؤقّتٌ بوقت لا يتقدّم عليه ولا يتأخّر عليه ومكتوب في اللوح المحفوظ. والإيمان بالقضاء والقدر أحد أركان الإيمان الستّة. كما قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: ج / 2 ص -81- وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}. قال علقمة: "هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلِّم". أخبرني عن الإيمان؛ قال: "الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"؛ فجعل الإيمان بالقدر ركناً من أركان الإيمان؛ والله تعالى يقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ(49)}، وكما في "الصحيح": "قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء". فما من شيء يجري في هذا الكون من صغير أو كبير إلاَّ وقد قدّره الله سبحانه وتعالى. قال: "وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}"هذا بعض آية من سورة التغابُن، وأولها قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(11)}. فقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ} يعني: أن جميع المصائب التي تنزل بالنّاس من أول الخليقة إلى آخرها، فإن الله قدّرها، ليس هناك مصيبة تحدُث في العالم إلاَّ وقد قّدرها الله سبحانه وتعالى. {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي: بقضائه وقدره؛ لأن إذن الله على نوعين: إذنٌ قدري كوني، مثل قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي: بتقديره ومشيئته. والنوع الثاني: الإذن الشرعي، مثل: قوله تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} أي: بشرعه. قوله: "قال: علقمة" هو: علقمة النخعي التابعي من كبار التابعين، وأحد النَّخَعييِّن الثلاثة الذين هم: علقمة والأسود وإبراهيم من تلاميذ ابن مسعود. ومعنى قوله: "هو الرجل تصيبه المصيبة" يعني: تنزل به المصيبة، إما في نفسه وإما في ماله وإما في ولده وإما في أهله وإما في أقاربه، فلا يجزع، ولكن يعلم أنها من عند الله، يعلم أن الله قد قدّرها وقضاها، وما قضاه الله وقدّره فلابد أن يقع، فلا يقول: لو أني فعلت كذا، لو أني عملت كذا ما نزلت بيَ المصيبة. فالمؤمن ج / 2 ص -82- وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اثنتان في النّاس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت". يعلم هذا فيهون عليه الأمر، يعلم أنها من عند الله فيرضى بقضاء الله، ولا يجزع ولا يسخط، ويسلِّم لله عزّ وجلّ، ولقضاء الله وقدره. وقد سمّى الله هذا التسليم وهذا الرضى إيماناً، فقال: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} يعني: يرضى بقضاء الله ويسلِّم له، وهذا هو الشاهد: إن الله سمى الصبر على المصيبة والرضى بقضاء الله وقدره إيماناً. {يَهْدِ قَلْبَهُ} فثمرة الرضاء بقضاء الله والصبر والاحتساب: هداية قلبه، لأن الله يجعل في قلبه الإيمان والبصيرة والنور، وهذه ثمرة الصبر على قضاء الله وقدره. أما الذي يجزع فإن ذلك يسبِّب العكس، يسبِّب عمى قلبه، واضطراب نفسه، فهو يكون دائماً في اضطراب وقلق. أما المؤمن فهو مرتاح، من هذا كله. فدلّت الآية على مسائل عظيمة: المسألة الأولى: أن المصائب كلها بقضاء الله وقدره. المسألة الثانية: أن الرضى بها والصبر عليها من خصال الإيمان، لأن الله سمّاه إيماناً. المسألة الثالثة: أنّ ذلك يُثمر هداية القلب إلى الخير وقوة الإيمان واليقين. قال: وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اثنتان من النّاس" إلخ. قوله صلى الله عليه وسلم: "اثنتان" يعني: خَصْلتان. "في النّاس" في بني آدم حتى ولو كانوا مسلمين فإنه يوجد في بعض المسلمين بعض خصال الجاهلية وبعض خصال الكفر الذي لا يخرج من الملة. " هما بهم كفر" هو كفر أصغر، لأن الكفر إذا نُكِّر فإنه يُراد به: الكفر الأصغر، أما إذا عُرِّف بـ (الألف واللام) فإنه يُراد به: الكفر الأكبر، كما في قوله: "بين العبد وبين الكفر والشرك: تركُ الصلاة"، وليس كلُّ من قام به خصلة من خصال الكفر يكون كافراً خالصاً، وإنما يكون فيه خصلة من خصال الكفر، كما أنه ج / 2 ص -83- ولهما عن ابن مسعود مرفوعاً: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية". ليس كلُّ من فيه خصلة من خصال النفاق يكون منافقاً خالصاً، وإنما تكون فيه خصلة من خصال النفاق. فالخصلة الأولى: "الطعن في النسب" تقدم الكلام عليه في باب سابق. والخصلة الثانية: "النِّياحة على الميِّت" والنياحة معناها: إظهار الجَزَع على الميت، كما كان أهل الجاهلية يفعلونه. والمطلوب والواجب: الصبر على موت الأقارب أو موت الأحباب. ولا يمنع هذا أن الإنسان يتألّم ويبكي، فالبكاء لا مانع فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم بكى على ابنه إبراهيم، وقال: "إن العين تَدْمَع، والقلب يحزن، ولا نقول إلاَّ ما يُرضي الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون". وهذا من الرحمة، وأيضاً هذا لا يستطيع الإنسان حبسه. فالآية دلّت على أن الصبر والرضى من خصال الإيمان، والحديث دلّ على أن الجزع من المصيبة وإظهار الجزع أنه من خصال الكفر؛ فهما متضادّان. قال: ولهما عن ابن مسعود مرفوعاً "ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب" إلخ. قوله: "ولهما" أي: البخاري ومسلم. "عن ابن مسعود مرفوعاً" أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم. "ليس منا" هذه الكلمة كثيراً ما تأتي عن الرسول صلى الله عليه وسلم على معاص تصدُر من النّاس من باب التحذير منها، مثل قوله: "من غشّنا فليس منا"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من تشبّه بغيرنا"، ومنه هذا الحديث. وهذه الكلمة "ليس منا" معناها: البراءة ممّن فعل ذلك، ولكن ليس معناها أنه يخرُج من الإسلام، وإنما معناها: التنفير من هذا العمل. وأحسن ما يُقال فيها: أنها من ألفاظ الوعيد، ولا تُفسّر، لكن مع اعتقاد أنّ هذا لا يدل على الخروج من الدين لأدلّة أخرى دلَّت على أن أصحاب الكبائر التي دون الشرك لا يخرجُون من الدين. وقوله صلى الله عليه وسلم: "من ضرب الخدود" ضرب الخدود جزعاً من المصيبة كفعل الجاهلية. لأن المشروع الصبر، وهذا عكسه، وهذا من باب الغالب. "وشَقَّ الجيوب" أي: جيوب الثياب؛ جزعاً من المصيبة. "ودعا بدعوى الجاهلية"يعني: نادى عند المصيبة بالألفاظ التي تقولها الجاهلية، والمراد بالجاهلية: ما كان قبل بِعْثة الرسول صلى الله عليه وسلم في وقت الفترة. فلا يجوز أن نقول بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم: النّاس في الجاهلية، أو النّاس في جاهلية جهلاء. هذا لا يجوز أبداً، لأن الله رفع الجاهلية ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن: قد تبقى خصالٌ من خصال الجاهلية، فيقال- مثلاً-: هذا من الجاهلية، وهذا من خصال الجاهلية. وليس مَنْ قام به خصلة من خصال الجاهلية يكون من أهل الجاهلية. فلا يجوز إطلاق الجاهلية بعد بِعثة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن دعوى الجاهلية: أن يتلفّظ بألفاظ الجاهلية، كأن ينادي وبقول: واعضداه، وانصيراه، واكذا وكذا. وكذا إثارة العصبيات والقوميات والحزبيات، وما إلى ذلك. كل ذلك من دعوى الجاهلية. وكذا التعصب للأقوال والمذاهب التي لا دليل عليها. قال ابن القيِّم رحمه الله: "المراد بدعوى الجاهلية: كل من تعصّب إلى مذهب، أو تعصّب إلى قبيلة". فالعصبية الجاهلية والنخوة الجاهلية كلُّه يدخل في دعوى الجاهلية، فلا يجوز للمسلم أنه يتعصّب لأحد العلماء أو لأحد المذاهب ولا يقبل غير هذا المذهب أو لا يقبل غير هذا الرجل من العلماء، فهذه عصبية جاهلية. أو يتعصّب لقبيلته إذا كانت على خطأ، كما يقول الشاعر: ج / 2 ص -85- وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد الله بعبده الخير عجّل له بالعقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة". وهل أنا إلاَّ من غَزِيّة إنْ غَوَتْ غَوَيْتُ وإن تَرْشَد غزية أَرْشَد والواجب على المسلم: أن يَتْبع الحق سواء كان مع إمامه أو مع غيره، وسواء كان مع قبيلته أو مع غيرها، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}. فلا تجوز العصبية للمذاهب، ولا تجوز العصبية للأشخاص، ولا تجوز العصبية للقبائل، وإنما المسلم يَتْبَع الحق مع من كان، ولا يتعصّب، ولا يترك الحق الذي مع خصمه. فالمسلم يدور مع الحق أينما كان، سواءً كان في مذهبه، أو مع إمامه، أو مع قبيلته، أو حتى مع عدوه. والرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل، والله تعالى يقول: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "قل الحق ولو كان مُرًّا". قال: "وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد الله" إلخ". قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبده الخير" أي: من علامة إرادة الله بعبده الخير: أن يعجِّل له العقوبة على ذنوبه؛ لأن الذنوب تصدُر من الإنسان بكثرة، ليس هناك أحدٌ معصوم إلاَّ الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فيما عصمهم الله منه، "كلكم خطّاء وخير الخطّائين التوّابون"؛ والإنسان تصدُر منه ذنوب كثيرة ومخالفات؛ فإذا أراد الله بعبده خيراً عجّل له العقوبة على هذه المعاصي في الدنيا حتى يطهِّره، وحتى ينتقل إلى الدار الآخرة ليس عليه ذنوب فيدخل الجنة. وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه" فلا تنزل به عقوبة، مع أنه يعصي ويزني ويخالف أوامر الله سبحانه وتعالى، ومع هذا يُنَعَّم ويُصَحّ في جسمه، ولا يمرض. وهذه علامة شر، من أجل أن تبقى عليه ذنوبه. "حتى يوافي به يوم القيامة" يعني: يرجع إلى الله في الدار الآخرة وذنوبه عليه لم يُحَطُّ عنه منها شيء، فيعذَّب بها يوم القيامة، فدلّ هذا على أن صحّة الإنسان الدائمة ليستْ علامة خير. ودلّ هذا على أن الخير والشر كلُّه مقدَّرٌ من الله سبحانه وتعالى وبقضاء الله وقدره، وهو قدّر الشر لحكمة وقدّر الخير لحكمة لا يقدِّر شيئاً إلاَّ لحكمة عظيمة، ابتلاءً وامتحاناً. ج / 2 ص -86- وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عِظَم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم؛ فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط"حسّنه الترمذي. قال: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء" إلخ. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم" هذا حديث آخر، والمؤلف رحمه الله قرن بينهما لأن راويهما واحد وهو أنس، والذي خرّجهما واحد وهو الترمذي، فلذلك ساقهما المصنِّف سياقاً واحداً. "إن عِظَم الجزاء" أي: عند الله سبحانه وتعالى. "مع عِظَم البلاء" وذلك أن المبتَلى إذا صبر ورضيَ بقضاء الله وقدره فإن الله يجزيه على ذلك الخير العاجل والآجل، فيجزيه الجزاء العظيم آجِلاً وعاجلا ًكما قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، وهذا مع الصبر والاحتساب. والمراد بالبلاء هنا: الابتلاء والامتحان، فيصاب الإنسان بالشدّة، ويصاب بالمرض ويصاب بضياع المال ويصاب بموت القريب. ومن النّاس من تتكاثر عليه المصائب وتتابع، وهذه علامة خير إذا كان مؤمناً وصبر. وقوله:هذه- أيضاً- حِكمة أخرى، وهِي: أن وجود الابتلاء والامتحان الذي يصيب المسلمين د "وإن الله تعالى ذا أحبَّ قوماً ابتلاهم" ليلٌ على محبة الله لهم، ولَمّا أحبهم ابتلاهم من أجل أن يخفِّف عنهم، ومن أجل أن ينتقلوا إليه وهم مخلِّصون من الذنوب. ومفهوم الحديث: أن الله إذا لم يحب قوماً يُمسك عنهم الابتلاء، من أجل أن ينتقلوا إلى الآخرة بذنوبهم فيعاقَبون عليها. "فمن رضي" بقضاء الله وقدره "فله الرضا" من الله سبحانه وتعالى. وهذا دليل على أنّ الجزاء من جنس العمل. "ومن سخِط" على قضاء الله وقدره "فله السخط" من الله سبحانه وتعالى جزاءً وفاقاً. فهذا فيه دليل على أن الجزاء من جنس العمل، ران من رضي بالقضاء والقدر، وصبر على المصائب؛ فإن الله يرضى عنه ويحبُّه، وأن من لم يرضَ بالقضاء والقدر فإن الله يبغضه. ج / 2 ص -87- وهذه المصائب إنما هي ابتلاء وامتحان ليظهر الصابر من غير الصابر، وليترتّب الجزاء على ذلك من الله سبحانه وتعالى. فيُستفاد من هذه النصوص التي ساقها المصنِّف فوائد كثيرة: الفائدة الأولى: أن جميع المصائب بقضاء الله وقدره: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}. الثانية: أن الرضى بقضاء الله وقدره من الإيمان: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} يعني: يرضى ويصبر، سمى ذلك إيماناً. الثالثة: أن الإيمان له خصال، منها: الرضى بقضاء الله وقدره، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بِضْعٌ وسبعون شُعبة أعلاها: قولٌ لا إله إلاَّ الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شُعبةٌ من الإيمان". الرابعة: أن الرضى بقضاء الله وقدره يسبِّب هداية القلوب: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}. الخامسة: يُستفاد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الطعن في الأنساب والنياحة على الميّت من خصال الجاهلية. السادسة:أنه ليس كلُّ من اتّصف بشيء من أمور الجاهلية يكون كافراً الكفر الأكبر. السابعة: أن الكفر أنواع؛ كفرٌ أكبر يُخرج من الملة، وكفرٌ أصغر لا يُخرِج من الملّة. الثامنة: يُستفاد من حديث ابن مسعود: أن شق الحبوب ولطم الخدود ودعوى الجاهلية أنها كبائر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ ممّن فعلها. التاسعة: فيه أنه يجب على المسلم الابتعاد عن خصال الجاهلية، وأنّ كل ما كان من أمور الجاهلية فهو مذموم. العاشرة:في حديث أنس رضي الله عنه: وصفُ الله سبحانه وتعالى بالرضى والسخط؛ وهما صفتان من صفاته سبحانه وتعالى تليقان بجلاله، ليس كرضى المخلوق ولا كسخط المخلوق. الحادية عشرة: في حديث أنس الأول: أنّ من علامة إرادة الخير بالمؤمن: أن ج / 2 ص -88- يُصاب في بدنه أو في ماله أو في قريبه، وأن من علامة إرادة الشر به: أن يُمسك عنه فلا يقع به مصيبة حتى يوافي بذنوبه؛ ومن هنا يؤخذ الرد على هؤلاء الذين يقولون: المسلمون لا يزالون متخلِّفين وفيهم تأخُّر، وفيهم..، وفيهم..، وفيهم المصائب. وأما الكفّار فإنهم عندهم تقدُّم وحضارة ورُقي وأسلحة، وإلى آخره. فهذا الحديث يبيِّن أنّه ليست السلامة من المصائب والسلامة من النَّكَبات دليلٌ على رضى الله سبحانه وتعالى، وإنما هذا من باب الاستدراج لهم: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}، وأما المسلمون فإنهم يصابون بهذه الأمور ليكفِّر الله بها عنهم، ومن أجل أن يحاسبوا أنفسهم ويرجعوا عن أخطائهم. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf التعديل الأخير تم بواسطة ام عادل السلفية ; 21-01-2015 الساعة 12:51AM |
#40
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد بابُ ما جاء في الرياء ج / 2 ص -89- [الباب السادس والثلاثون:] * بابُ ما جاء في الرياء قول الشيخ رحمه الله: "باب ما جاء في الرياء" أي: ما جاء فيه من الوعيد، وبيان أنه شرك يحبط العمل الذي خالطه. ومناسبة هذا الباب لكتاب التّوحيد: أنّ فيه بيان نوعٍ من أنواع الشرك الأصغر، وذلك أن هذا الكتاب صنّفه الشيخ رحمه الله في بيان التّوحيد وبيان ما يضادُّه من الشرك الأكبر أو ينقِّصه من الشرك الأصغر. ولَمّا كان الشرك على نوعين: شركٌ ظاهر، وشرك خفي. فالشرك الظاهر هو: ما يكون في الأعمال الظاهرة كالذي يذبح لغير الله أو ينذر لغير الله أو يستغيث بغير الله إلى غير ذلك من أنواع الشرك الأكبر الذي يراه النّاس ويسمعونه. أما النوع الثاني وهو: الشرك الخفي، فهذا لا يراه النّاس ولا يعلمونه؛ لأنه في القلوب. فالشرك الأول يكون في الأعمال الظاهرة، وهذا في النيّات والمقاصد القلبية التي لا يعلمها إلاَّ الله سبحانه وتعالى. فلهذا عقد له الشيخ رحمه الله هذا الباب. فكلُّ ما سبق من أنواع الشرك فهو من الشرك الظاهر، ولهذا يقول العلاّمة ابن القيم رحمه الله: والشرك فاحذره فشرك ظاهر ذا القسم ليس بقابل الغفران وهو اتّخاذ النِّدِّ للرحمن أيًّا كان من حجر ومن إنسان يدعوه أو يرجوه ثمّ يخافه ويحبه كمحب الديّان أما الرياء فإنه شرك خفي لأنه في المقاصد والنيّات التي لا يعلمها إلاَّ الله سبحانه وتعالى. والرياء مأخوذٌ من: الرؤية، وذلك بأن يزيِّن العمل ويُحَسِّنه من أجل أن يراه النّاس ويمدحوه ويُثنوا عليه، أو لغير ذلك من المقاصد، فهذا يسمّى رياءً، لأنه يقصد رؤية النّاس له. ج / 2 ص -90- والفرق بين الرياء والسمعة: أن الرياء فيما يُرى من الأعمال التي ظاهرها لله وباطنها لغيره كالصلاة والصدقة. أما السمعة فهي لِمَا يُسْمَع من الأقوال التي ظاهرها لله والقصد منها لغير الله كالقراءة والذكر والوعظ وغير ذلك من الأقوال، وقصد المتكلِّم أن يسمع النّاس كلامه فيثنوا عليه، ويقولوا هو جيِّد في الكلام، جيِّد في المحاورة، جيِّد في الخُطْبة، إنه حسن الصوت في القرآن، إذا كان يحسِّن صوته بالقرآن، لأجل ذلك فإذا كان يُلقي المحاضرات والندوات والدروس من أجل أن يمدحه النّاس فهذا سُمعة. والرياء على قسمين: القسم الأول: شركٌ أكبر وهو: إذا كان قصد الإنسان بجميع أعماله مراءاة النّاس، ولا يقصد وجه الله أبداً، وإنما يقصد العيش مع المسلمين، وحقن دمه، وحفظ ماله، فهذا رياء المنافقين، وهو شركٌ أكبر، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً(142)}، وهذا لا يصدر من مؤمن. القسم الثاني: قد يصدر من مؤمن، ويكون في بعض الأعمال، وهو: أن يكون العمل فيه قصدٌ لله وفيه قصدٌ لغير الله. وهذا هو الشرك الأصغر. وهذا النوع من الرياء له ثلاثة حالات: الحالة الأولى:إن كان مقصوداً في العمل من أوله واستمرّ معه إلى آخره فإنّ هذا عملٌ مردود، لا يقبله الله سبحانه وتعالى. فمن صلّى لله وهو يحب أن يُمدح وأن يُثنى عليه، واستمرّ معه الرياء إلى آخر صلاته؛ فهذا لا تُقبل منه صلاته، بدليل الحديث الآتي. الحالة الثانية: أن يكون أصل العمل لله ثمّ يطرأ عليه الرياء. فهذا إن تاب منه صاحبه في الحال ودفعه، وأخلص العمل لله؛ فإنه لا يضر صاحبه قولاً واحداً، لأن أصل العمل لله وطرأ الرياء، ثمّ دفعه وأخلص العمل لله وعاد إلى الإخلاص، فهذا لا يضرُّه. ج / 2 ص -91- وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} الآية. الحالة الثالثة: أن يطرأ في أثناء العمل ويستمر معه. فهذا موضع خلاف بين أهل العلم؛ منهم من قال: إنه يحبط العمل كالنوع الأول، ومنهم من قال: إنه يثاب على قدر نيّته لله في هذا العمل. ذكر هذا التفصيل الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين. قال: "وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}" وتمام الآية: "{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}" هذه الآية ختام سورة الكهف. {قُلْ} أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ}، فالرسول صلى الله عليه وسلم بشر، وكلُّ الرسل من البشر. فالرسل قسمان: رسلٌ من الملائكة ورسلٌ من البشر، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ}. فالرسل من الملائكة يكونون واسطة بين الله وبين الرسل من البشر، لأن البشر لا يطيقون مقابَلة الملك ورؤيته على صورته الملَكية، وإنما يطيقون رؤية البشر الذي هو مثلهم، ولذلك يبعث الله الرسل من البشر إلى البشر، لأن هذا مقتضى رحمته بعباده، من أجل أن يفقهوا عنهم، ويتعلّموا منهم ويألفوهم، ولو كانوا من الملائكة ما استطاعوا أن يروهم، لأن صورة الملَك مخالِفة لصورة البشر. وقوله: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} يعني: ليس لي من الربوبية شيء ولا من العبادة شيء. {أَنَا بَشَرٌ} عبدٌ من عباد الله. فهذا فيه: ردٌّ على الذين يغلون في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدعونه من دون الله، ويستغيثون به من دون الله، أو يقولون: إنه مخلوقٌ من نور، أو من كذا وكذا، ولم يُخلق ممّا خُلق منه بنو آدم وأنه مخلوق قبل آدم. وهذا -والعياذ بالله- من أعظم أنواع الغلو والكفر بالله عزّ وجلّ. ثمّ قال: {مِثْلُكُمْ} يعني: مثلكم في أمور البشريّة، فهو بشر يجوع، ويمرض، ويتعب في السفر مثل البشر وتجري عليه العوارض البشرية كما تجري على البشر، فيُصيبه صلى الله عليه وسلم الهم، ويصيبه الحَزَن، ويصيبه ما يصيب البشر: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ ج / 2 ص -92- لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ}، {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ}، فهو يهْتَمُّ ويحزن لما يرى من مخالفة النّاس لعبادة الله سبحانه وتعالى، لأنه يريد للناس الخير، ويريد لهم النجاة، فيُحزنه إذا رآهم على سبيل الهلاك لكمال شفقته صلى الله عليه وسلم. وإنما امتاز- عليه الصلاة والسلام- عن البشر بالرسالة والفضيلة وكمال العبودية لله، فهو أكمل الخلق عبودية لله، وأخشاهم لله، وأتقاهم له. {يُوحَى إِلَيَّ} من الله سبحانه وتعالى بواسطة جبريل عليه السلام كغيري من الرسل. فكل ما جاء به من الشرع وحي من الله. {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} يعني: معبودكم بحق. فالإله معناه: المعبود. والمعبود بحق هو الله وحده. وما سواه فهو معبود بالباطل كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}. فهذا فيه: أن زبْدة رسالة الرسول وأصل دين الرسول والذي جاء به وبدأ به هو: التّوحيد والإنذار عن الشرك، وكلُّ الرسل كذلك أول ما يبدؤون بالدعوة إلى التّوحيد وإنكار الشرك. وهذا فيه ردٌّ على الذين يقولون في هذا الزمان: إن الرسل جاءوا لتحقيق الحاكمية في الأرض. وهذا كلام محدَث باطل، فالرسل جاءوا لتحقيق العبودية بجميع أنواعها لله عزّ وجلّ. كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)}، هذا هو الذي جاءتْ به الرسل، ويدخل فيه بقية أوامر الدين ومنها الحاكمية، أما أن تُجعل هي الأصل فهذا باطل، وهذا معناه: إهمال التّوحيد وعدم الاهتمام بأمر الشرك وعدم الالتفات إليه، وأن الرسل جاءوا لطلب الحكمة والرئاسة. {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا} معناه: يخشى ويخاف، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} أي: يؤمِّل رؤية الله يوم القيامة، لأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، ويتنعّمون برؤيته صلى الله عليه وسلم أعظم مما يتنعّمون بنعيم الجنة". ج / 2 ص -93- {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} لأنه لا يمكن أن تحصُل هذه الرؤية إلاَّ لمن عمل عملاً صالحاً. والعمل لا يكون صالحاً إلاَّ إذا توفّر فيه شرطان: الشرط الأول: الإخلاص لله عزّ وجلّ من الرياء والسمعة، ومن جميع أنواع الشرك الأكبر والأصغر. والشرط الثاني: أن يكون موافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، خالياً من البدع والمحدَثات والخُرافات. أما إنِ اختلّ شرطٌ من هذين الشرطين فليس عملاً صالحاً، وإنما هو عملٌ باطل. فإن اختلّ الشرط الأول، صار العمل حابطاً لما دخله من الشرك. وإنِ اختلّ الشرط الثاني صار بدعاً ومحدَثات ومخالَفات فهو مردود باطل، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من عمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، وفي رواية: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". فلا يكون العمل صالحاً إلاَّ إذا توفّر فيه هذان الشرطان كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}. قال الفُضيل بن عياض رحمه الله: "أخلصه وأصوبه"، قالوا: يا أبا علي وما أخلصه وأصوبه؟، قال: "أخلصه: أن يكون خالصاً لوجه الله، وأصوبه: أن يكون صواباً على سنة رسول الله، فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل، وإنما يُقبل إذا كان خالصاً صواباً". {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} ومن ذلك: أن يرائي بعمله، أو يسمِّع بعمله، فإنه إذا راءى بعمله، أو سمّع به، أبطله اله وردّه عليه. وقوله: {أَحَداً} نكرة في سياق النهي، تعمُّ كلَّ أحد، فالله لا يقبل أن يُشرك معه أحد لا من الملائكة، ولا من الرسل، ولا من الأولياء والصالحين، ولا من الأحجار والأشجار، ولا من الجن، ولا من الإنس. فهذا فيه ردٌ على الذين يقولون: إنما الشرك عبادة الأصنام فقط، أما أن نتقرَّب ج / 2 ص -94- وعن أبي هريرة مرفوعاً: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري؛ تركته وشركه"رواه مسلم. إلى الله ونتوسّل إلى الله بأولياء وعبادٍ صالحين، فهذا ليس مثل عبادة الأصنام. وهذا باطل، لأن الله يقول: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}، وهو عام يشمل كلُّ من عبد مع الله، سواءً كان من الجن، أو من الإنس، أو من الملائكة، أو من الأنبياء والرسل، أو من الصالحين والأولياء، أو أيًّا كان، فالله لا يقبل أن يُشرك معه في عبادته أحد كائناً من كان، ولا تفريق في ذلك بين الأصنام وبين الأولياء والصالحين والأضرحة كله داخل في قوله تعالى: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}. قال: "عن أبي هريرة مرفوعاً. قال الله تعالى:أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه" رواه مسلم. قوله: "قال الله تعالى" هذا حديث قدسي، والحديث القدسي: ما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربّه عزّ وجلّ، والقدسي: نسبة إلى القدْس، وهو التطهير والتنزيه، لأن الله مقدَّسٌ ومنزّهٌ عن صفات النقص. والحديث القدسي: ما كان من كلام الله عزّ وجلّ لفظه ومعناه ورواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم. فالفرق بينه وبين الحديث النبوي: أن الحديث القدسي: ما كان لفظه ومعناه مرويّاً عن الله سبحانه وتعالى. وأما الحديث النبوي فهو: ما كان معناه من الله ولكن لفظه من الرسول صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)}. فقوله: "قال الله تعالى" هذا فيه إثبات أن الله يتكلّم كما يليق بجلاله سبحانه وتعالى. "أنا أغنى الشركاء عن الشرك" الله سبحانه وتعالى غنيٌّ عن عبادة خلقه، وإنما أمرهم بعبادته لمصلحتهم هم، لأنهم محتاجون إلى الله عزّ وجلّ ولا يقربهم من الله إلاَّ العبادة، فعبادتهم لله من أجل مصلحتهم، من أجل أن يغفر الله لهم، وأن يرزقهم، وأن يُدخلهم الجنة، فالمصلحة من عبادتهم عائدةٌ إليهم، أما الله سبحانه وتعالى فإنه لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضرُّه معصية العاصين، وإنما هو النافع الضار، ولهذا يقول سبحانه وتعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}، ويقول سبحانه وتعالى ج / 2 ص -95- وعن أبي سعيد مرفوعاً: "ألا أخبركم بما هو أخوف عندي من المسيح الدجال؟ "قالوا: بلى. قال: "الشرك الخفي، يقوم الرجل فيزين صلاته لِما يرى من نظر رجل إليه"رواه أحمد. حكاية عن موسى- عليه الصلاة والسلام-: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ(8)}. وفي الحديث القدسي الذي رواه أبو ذر رضي الله عنه: أن الله سبحانه وتعالى يقول: "يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخِركم وإنْسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو كان أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً". إذاً، فعبادة النّاس لله يرجع ثوابها ويرجع خيرها إليهم، أما الله جل وعلا فهو غنيٌّ عنها، ومن باب أولى: من عمل عملاً أشرك مع الله فيه فإنه سبحانه وتعالى غنيٌّ لا يقبل ما فيه شرك، وإنما يتقبّل الخالص لمصلحة العباد. وهذا يدخل فيه الرياء، فمن عمل عملاً ودخله الرياء والقصد لغير الله سبحانه وتعالى فإن الله يردُّه عليه ولا يقبله منه. وهذا وجه الشاهد من الحديث للباب. وفي قوله: "تركته وشركه" دليل على أن الشرك يُحْبِط العمل سواءً كان أكبر أو أصغر. والشاهد منه للباب: أن الرياء نوعٌ من الشرك يرد العمل الذي خالطه على صاحبه، ولا يقبله الله. قال: وعن أبي سعيد مرفوعاً: "ألا أخبركم بما هو أخوف عندي من المسيح الدجال قالوا: بلى. قال الشرك الخفي. يقوم الرجل فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه". قوله: "وعن أبي سعيد" أبو سعيد هو أبو سعيد الخدري، مالك بن سِنان الخُدْري الصحابي الجليل المشهور، رضي الله تعالى عنه. "مرفوعاً" المرفوع: ما كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "إلاَّ أخبركم بما هو أخوفُ عليكم عندي من المسيح الدّجال؟" هذا الحديث له سبب وهو: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أصحابه وهم يتحدّثون عن الدجال ج / 2 ص -96- وعن فتنته، وكانوا خائفين منه، فقال: "ألا أنبِّئكم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟" الحديث. فأجابوا و"قالوا: بلى" وهذا فيه: مشروعية التعليم عن طريق السؤال والجواب، لأنه يكون أوقع في الذهن، فإذا أراد أن يعلِّم أصحابه شيئاً مهمًّا ألقاه على طريقة السؤال حتى يتطلّعوا إلى الجواب ثمّ يُلقي عليهم الجواب. "قال: "الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيُزَيِّن صلاته لِمَا يرى من نظر رجل إليه" هذا فيه: أن الرياء شركٌ خفي، ووجهُ كونه خفياًّ: أنه في النيّات والمقاصد وأعمال القلوب، وهذه لا يعلمها إلاَّ الله سبحانه وتعالى، لا أحد يعلم النيّات ويعلم المقاصد إلاَّ الله سبحانه وتعالى. وفي الحديث دليلٌ على خطورته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خافه على أفضل هذه الأمة وهم الصحابة، فكيف بغيرهم، وأنه صلى الله عليه وسلم يخافه عليهم أشد مما يخاف عليهم من فتنة المسيح الدّجال، لأنه قَلّ من يسلم منه. أما المسيح الدجال مع عِظَم فتنته -وقانا الله وإيّاكم من فتنته- فإنما ضرره على الذين يعاصِرونه ويخرج وهم أحياء، أما الرياء فهذا خطره على الجميع في كل عصر، في كل وقت. والمسيح الدجّال هو: مسيح الضّلالة الذي يخرُج في آخر الزمان، وخروجه من علامات الساعة، وسُمي بالمسيح لأنه ممسوح العين، أعور، وقيل: سمّي بالمسيح لسُرعة سيره في الأرض، يعني: يمسح الأرض بسرعة، وهو: مسيح الضلالة، الأعور الدجّال، وما من نبي إلاَّ حذّر أمته من الدجّال، وكان تحذير نبيّنا صلى الله عليه وسلم أكثر وأشد من تحذير من سبقه، لأنه أقرب إلى عهده ممن سبقه، فهو يخرج في آخر الزمان، ويتبعه اليهود، ثمّ ينزل المسيح عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- مسيح الهداية فيقتل هذا الدّجال بباب لُدٍّ- في فلسطين، وعند ذلك يكفي الله المسلمين شرّه، وعند ذلك ينتصر المسلمون على اليهود، ويظهر حكم الإسلام في الأرض، ويظهر الحق، لكن بعد المحنة وبعد الشدّة. والنبي صلى الله عليه وسلم شرع لنا أن نستعيذ منه في كل تشهُّد أخير في الصلاة، فقال: ج / 2 ص -97- "استعيذوا بالله من أربع: من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال". فهذه النصوص- الآية والحديثان- يدلان على مسائل عظيمة: المسألة الأولى: الآية تدلّ على أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر، ليس له من الربوبية والألوهية شيء، ففيه: الرد على الذين يغلون في حق النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتقدون فيه شيئاً من صفات الربوبية، ويتعلّقون به صلى الله عليه وسلم من دون الله بالدعاء والاستغاثة وطلب الحاجات، وتفريج الكربات، وهذا شركٌ أكبر. المسألة الثانية: يُستفاد من الآية مسألة عظيمة وهي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بُعث بالدعوة إلى التّوحيد والنهي عن الشرك بالله عزّ وجلّ، كمُهِمّة غيره من الأنبياء والمرسلين. وهذه هي المهمّة العظمى، وهي قضية القضايا. المسألة الثالثة: تدُلُّ الآية الكريمة على وجُوب الإخلاص في العمل لله، وهذا محل الشاهد منها للباب. المسألة الرابعة: في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الله سبحانه وتعالى غنيٌّ عن عبادة الخلق، ولو أشرك النّاس كلهم، أو كفروا كلهم، لم ينقُص ذلك من ملكه شيئاً. المسألة الخامسة: في حديث أبي هريرة: التحذير من الشرك في العمل، وأنه سببٌ لِرَدِّه وعدم قَبوله سواء كان شركاً أكبر أو شركاً أصغر، ومنه الرياء. المسألة السادسة: فيه إثبات أن الله جل وعلا يتكلّم كما يشاء سبحانه وتعالى، والكلام ثابتٌ له سبحانه، صفةٌ فعليّة كسائر صفاته الفعلية تليق بجلاله، ليس مثل كلام المخلوقين، بل هو كلامٌ يليق بجلاله سبحانه وتعالى. المسألة السابعة: في حديث أبي سعيد رضي الله عنه: التحذير من الرياء، وبيان تفسيره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فسّره في قوله: "يقوم الرجل فيصلي فيُزَيِّن صلاته لِمَا يرى من نظر رجل إليه". المسألة الثامنة: في حديث أبي سعيد: أن الشرك ينقسم إلى شرك ظاهر وشرك خفي، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "الشرك الخفي" فهذا دليل على أنّ هناك شركاً ظاهراً، وهو الشرك في الأعمال الظاهرة كالركوع والسجود والدعاء والذبح والنذر. فإذا صرفت هذه العبادات لغير الله صار شركاً ظاهراً. ج / 2 ص -98- أما الرياء فإنه شركٌ خفي يكون في القلوب والمقاصِد، ولهذا جاء في الحديث: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة السوداء على صَفاةٍ سوداء في ظُلمة الليل"، وكفّارته أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم". وكان الصحابة يخافون من هذا الشرك. وهكذا كلما قويَ إيمان العبد قويَ خوفه من الرياء، وخوفه من جميع الشرك، المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#41
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا ج / 2 ص -99- [الباب السابع والثلاثون:] * باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا وقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} الآية. قوله رحمه الله: "بابٌ" هذا- كما سبق وتكرّر- أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره:هذا بابٌ. "من الشرك" أي: من أنواع الشرك، والمراد: الشرك الأصغر. "إرادة الإنسان بعمله الدنيا" ومعناه: أن يعمل العمل الذي شرع للآخرة وهو لا يريد به إلاَّ طمع الدنيا، كأن يجاهد من أجل المغنم، أو يتعلم من أجل الرئاسة والوظيفة، أو يحج أو يعتمر من أجل أخذ المال، وهكذا. والفرق بين هذا الباب والذي قبله: أن الباب الذي قبله في الرياء وهذا في إرادة الإنسان بعمله الدنيا، وهما يجتمعان في العمل لغير وجه الله، وفي أنهما شرك خفي، لأن الإرادة والقصد من أعمال القلوب، فهما يجتمعان في هذا، لكن يفترقان في أن الرياء يراد به الجاه والشهرة، وأما طلب الدنيا فيراد به الطمع والعرض العاجل، قالوا: والذي يعمل من أجل الطمع والعرض العاجل أعقل من الذي يعمل للرياء، لأن الذي يعمل للرياء لا يحصل له شيء، وأما الذي يعمل من أجل الدنيا فقد يحصل له طمع في الدنيا و منفعة في الدنيا، ولكن كلاهما خاسر عند الله سبحانه وتعالى، حيث أن كلاً منهما أشرك في نيته وقصده، فهما يجتمعان من وجه ويفترقان من وجه. قوله: "وقول الله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: من كان يقصد بعمل الآخرة عرض الدنيا. "{وَزِينَتَهَا}" زينة الدنيا وهي المال والولد، كما قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} هذا جواب الشرط، أي: نعطه من الدّنيا ما أراد وما ج / 2 ص -100- وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَعِسَ عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة؛ إنْ أُعطيَ رضي، وإن لم يُعْط سخِط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتَقش. قصد إذا شئنا ذلك، استدراجاً له، ومعاملةً له بما قصد، كما في قوله تعالى: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ}. {وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ}: لا يُنقصون. {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} بيان لعاقبتهم، حيث ذكر أنهم يُعطون في الدنيا ما أرادوا وما طلبوا، وأما في الآخرة فإنهم يُحْرَمون من الثواب، لأنهم لم يريدوا الآخرة، والآخرة إنما تحصُل لمن أرادها: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً(19)}. {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} أي: في الآخرة ما صنعوه في الدنيا. {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} البُطلان يكون في الدنيا، والحُبوط يكون في الآخرة، في الدنيا أعمالهم باطلة لأنها بدون قصدٍ خالصٍ لوجه الله، فإذا جاءت الآخرة حبطتْ أعمالهم. والحَبَط في اللغة: انتفاخ الشيء، ومنه: انتفاخ البعير، إذا أكل من أول الربيع فإنه ينتفخ ويموت. قال: "وفي الصحيح" أي: في "صحيح البخاري" في باب الجهاد. "عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَعِس" يعني: هلك، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ} يعني: هلاكاً، فالتعس: الهلاك. "عبد الدينار، تعس عبد الدرهم" الدينار هو: النَّقْد المضروب من الذهب، والدرهم هو: النقد المضروب من الفضة. "عبد الخميصة" الخميصة: كساءُ يُلبس، لونه أسود وفيه خطوط حُمُر. "عبد الخميلة" الخميلة: القطيفة، سُمِّيت خميلة لأنها ذات خُمُل يعني: ذات أهداب، سمّاهم عبيداً لهذه الأشياء لأنهم يعملون لها، فصاروا عبيداً لها، أما الذي يعمل من أجل وجه الله فهو عبدٌ لله سبحانه وتعالى. ج / 2 ص -101- ثم ذكر علامتهم، فقال: "إنْ أُعطيَ رضي، وإن لم يُعط سخط" هذه علامة الذي يعمل من أجل الدنيا، أنه إنْ أُعطيَ منها رضي وإن لم يعط منها لم يرض، كما قال الله سبحانه وتعالى في المنافقين: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ(58)}. أما المؤمن فإنه إنْ أُعطي شكر، وإن لم يعطَ فإنه يصبر ولا يسخط، لأنه يعمل لله لا يعمل من أجل الدنيا، وبعضهم يحب أن يُعطى من الدنيا شيئاً، فقد كان بعض الصّحابة لا يرضى أن يُعطى من الدنيا شيئاً، ولا يطلب شيئاً، لأنه يريد الدار الآخرة، من باب حفظ أعمالهم ورجاء ثوابها في الدار الآخرة، فلا يحبون أن يتعجّلوا من حسناتهم شيئاً، ولكن من أُعطي من غير تشوُّف، ومن غير طمع، ومن غير طلب، فإنه يأخذ، كما في الحديث: "ما جاءك من هذا المال وأنت غير مستشرِفٍ له فخذه، وما لا فلا تُتْبِعْهُ نفسك". فالمؤمن سِيَّان عنده؛ يعطى من الدنيا أو لا يعطى، ولا ينقص ذلك من عمله لله شيئاً، لأنه يحب الله ورسوله، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي بعض النّاس وهو يبغضهم من أجل تأليفهم، والخوف عليهم من النفاق والرِّدة، ويمنع ناساً هم أحب النّاس إليه ويَكِلُهم إلى إيمانهم، لأنه واثقٌ من إيمانهم وعقيدتهم، وأنهم لا يتأثّرون إذا لم يُعطوا، وهذه علامة المؤمن: أنه باقٍ على إيمانه ويقينه أعطيَ من الدنيا أو لم يعط، أما صاحب الدنيا فهذا إنْ أُعطي منها رضي وإن لم يعط منها سخط، فهو يرضى لها ويغضب لها. وهذا هو الشاهد من الحديث: أنه سمّاه عبداً لهذه الأشياء مع أنه مسلم مؤمن، ولكن لَمّا كان يعمل ويريد هذه الأشياء صار عبداً لها، وهذه عبودية شرك، لكنه شركٌ أصغر لا يُخرِجه من الإيمان، ولكنه ينقِّص توحيده وينقِّص إيمانه. ثم أعاد الدعاء عليه مرّة ثانية فقال: "تعس وانْتَكَس" يعني: كلما تماثل للشفاء عاد إليه المرض وعاد عليه الهلاك. "وإذا شيك فلا انتَقش" أي: أنه يصاب بالعجز حتى إذا ضربته الشوكة في رجله أو في يده لا يستطيع أخذها من العجز الذي أصابه، عقوبةً له في أنه إنما يعمل من أجل الدنيا. ج / 2 ص -102- طوبى لعبدٍ آخذٍ بعِنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرّة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إنِ استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفَّع". ثم بيّن الفرق بين الذي يعمل للآخرة والذي يعمل للدنيا فقال صلى الله عليه وسلم: "طوبى" قيل: إنها شجرة في الجنة ظلها مسيرة مائة عام منها ثياب أهل الجنة، وقيل: إنها الجنة نفسها، فالجنة يقال لها طوبى، فطوبى من أسماء الجنة أو شجرة فيها. وهذا دعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الشخص بأن يكون من أهل الجنة. "لعبد آخذٍ بعِنان فرسه" العِنان: اللِّجام. "في سبيل لله" يعني: للجهاد في سبيل الله، دائماً مُعِدٌّ نفسه ومُعِدٌّ فرسه للجهاد في سبيل الله، يترقّب الغزوات والسرايا، ويحب الجهاد في سبيل الله، ولا يحب الراحة والرفاهية، وإنما يحب الجهاد في سبيل الله، فهذا على أجر وإن لم يجاهد، لأن له ما نوى، ما دام أنه حبس نفسه وفرسه وأعدّ نفسه، فإنه في سبيل الله وإن لم يجاهد، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيّات". "أشعث رأسه، مغبرة قدماه" هذه الصفة الأولى لهذا العبد المجاهد لم يتفرغ للرفاهية ويعتني بنفسه عليه آثار الجهاد في سبيل الله من الشعث والغبار. "إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة" هذه صفة ثانية، أي: أنه لا يبالي بنوع العمل الذي يشتغل فيه، بل يطيع وليّ الأمر وقائد الجيش، سواءٌ أمره أن يكون في الحراسة أو أمره أن يكون في الساقة- يعني: في آخر الجيش-، لا يقول: أكون مع أول النّاس، بل يمتثل الأوامر، ويطيع وليّ أمر المسلمين في الجهاد، ولا ينظر إلى مكانه هل هو مكان مشقة أو مكان راحة، هل هو مكان بروز، أو مكان خُمول، لأنه يجاهد لأجل الله سبحانه وتعالى. "والحراسة": حماية الجيش من أن يهجم عليهم العدو، سواء بالليل أو في النهار يتطلّع إلى العدو، ويكون حارساً للجيش أن يُهجم عليه من الجهة المَخُوفة. " "والساقة" آخر الجيش من أجل أن يتفقّد العاجز ويتفقّد من يحتاج إلى إعانة من المجاهدين، لأنه لا يريد لنفسه العز في الدنيا والظهور والبُروز أمام النّاس، ولا يريد لها الراحة والرفاهية، وإنما يريد الجهاد في سبيل الله على أيِّ سبيلٍ كان، ج / 2 ص -103- لا يهمُّه في أيِّ موقع وقع ما دام أنّ هذا في الجهاد في سبيل الله وفي صالح المسلمين وفي طاعة وليّ الأمر. وقوله: "إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع" أي: هو- أيضاً- غير معروف عند النّاس، لأنه لا يحب الظهور أمام النّاس، ولا يحب البُروز، لا يحب المدح، بل يحرص على الاختفاء، لأنه يعمل لله، ولكونه غير معروف إنِ استأذن للدخول على وُلاة الأمور، أو على السلاطين، أو على أصحاب الجاه، لم يُؤذن له، لأنه غير معروف، والنّاس إنما يأذنون للإنسان المعروف الذي له جاه وله مكانة. وهذا لا يضره عند الله سبحانه لأنه معروف عند الله عزّ وجلّ لأن الله يعلمه وبعلم مكانه. "وإن شفع لم يشفع" إن توسط في قضاء حاجة أحد لم تقبل وساطته، وفي الحديث: "رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبرّه "، فهو إنسان ما له هيئة عند النّاس، منظره ليس منظر صاحب هيئة، ومخبره أيضاً غير معروف عند النّاس، لكنه عند الله عزيز لأنه يعمل فيما بينه وبين الله بإخلاص، فلو أقسم على الله - يعني: لو حلف على الله- أن يُعطيه كذا وكذا لأبرّه- يعني: لأعطاه ما طلب مع أنه مدفوع بالأبواب عند النّاس. هذه صفات هذا المؤمن، وهي باختصار: أولاً: أنه مُعِدٌّ نفسه للجهاد، والجهاد دائماً يرغب فيه. ثانياً: أنه لا يتفرغ لإصلاح هيئته من إصلاح شعره ودهنه وتجميل هيئته لأنه مشغول بالجهاد. وثالثاً:أنه لا يبالي بالعمل الذي يتولاّه في الجهاد سواءً كان شاقًّا أو غير شاق، سواءً كان بارزاً أو غير بارز، لأنه يعمل لله، ولا يعمل من أجل الظهور، ومن أجل مراءاة النّاس. رابعاً: أنه غير معروف عند النّاس وعند أصحاب الجاه، إنِ استأذن لم يُؤذن له في الدخول، وإن شفع لم يشفَّع، أي: إن توسَّط لأحد لم تُقبل وساطته، لأنه غير معروف. وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بعض أجوبته لَمّا سُئل عن هذه الآية: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا}، أنها تشمل أنواعاً: النوع الأول: المشرك والكافر الذي يعمل أعمالاً صالحة في هذه الدنيا من إطعام الطعام وإكرام الجار وبرِّ الوالدين والصدقات والتبرُّعات ووجوه الإحسان، ولا يُؤْجَر عليها في الآخرة لأنها لم تُبْنَ على التوحيد، فهو داخلٌ في قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ(15)}، فالكافر إذا عمل حسنات فإنه قد يجازى بها في الدنيا، وأما الآخرة فليس له جزاء عليها عند الله لأنها لم تُبْنَ على التوحيد والإخلاص لله عزّ وجلّ. النوع الثاني: المؤمن الذي يعمل أعمالاً من أعمال الآخرة، لكنه لا يريد بها وجه الله، وإنما يريد بها طمع الدنيا، كالذي يحج ويعتمر، عن غيره، يريد أخذ العِوَض والمال، وكالذي يتعلّم ويطلب العلم الشرعي من أجل أن يحصل على وظيفة. فهذا عمله باطلٌ في الدنيا، وحابطٌ في الآخرة، وهو شركٌ أصغر. النوع الثالث: مؤمن عمل العمل الصالح مخلصاً لله عزّ وجلّ لا يريد به مالاً أو متاعاً من متاع الدنيا ولا وظيفة، لكن يريد أن يجازيه الله به، بأن يشفيه الله من المرض، ويدفع عنه العين، ويدفع عنه الأعداء. فإذا كان هذا قصده فهذا قصد سيِّء، ويكون عمله هذا داخلاً في قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ(15)}. والمفروض في المسلم: أن يرجو ثواب الآخرة، يرجو أعلى ممّا في الدنيا، وتكون همّته عالية. وإذا أراد الآخرة أعانه الله على أمور الدنيا، ويسّرها له: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}. النوع الرابع: من يعمل أعمالاً صالحة ثم يفسدها بالشرك، كأن يدعو غير الله من الموتى وأصحاب الأضرحة، كما عليه كثير من المنتسبين للإسلام اليوم. فيُستفاد من هاتين الآيتين ومن هذا الحديث الشريف فوائد عظيمة: الفائدة الأولى: التحذير من إرادة الإنسان بعمله الدنيا، وأنّ ذلك من الشرك ج / 2 ص -105- في النيّات، وهو: الشرك الخفي، وهذا هو الذي عقد الشيخ رحمه الله هذا الباب من أجله. الفائدة الثانية: يؤخذ من الآيتين: أن إعطاء الله الدنيا لبعض الناس ليس دليلاً على رضى الله عنهم، ولهذا قال: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} ثم قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ}، فهذا دليل على أن هذا العطاء عن غير رضى، وأنّ منع الدنيا عن العبد المؤمن ليس دليلاً على عدم رضى الله عنه، فالدنيا ليست مقياساً لرضى الله وغضبه وجوداً وعدماً. الفائدة الثالثة: يؤخذ من الآيتين الكريمتين: أن العبرة ليستْ في صورة العمل، وإنما العبرة في نية العامل، فإنْ كانت نيّة العامل خالصة لله عزّ وجلّ فهذا العمل عملٌ صالح، وإن كانت نية العامل غير خالصة لوجه الله عزّ وجلّ فهذا عملٌ فاسد وإن كانت صورته صورة عمل صالح، فلا تنظر إلى كثرة الإنفاق والتبرُّعات والمشاريع، فربما يكون من يتصدّق بشيء قليل مع نيّة صالحة ينال به أجراً عظيماً، كما قال صلى الله عليه وسلم: "اتقوا النار ولو بِشِقِّ تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيِّبة"، فالعمل القليل مع الإخلاص يكون كثيراً، وربما يكون العمل كثيراً لكن فائدته قليلة أو ليس فيه فائدة أصلاً نظراً لنيّة عامله، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، فمحل نظر الله سبحانه وتعالى إلى القلوب والأعمال؛ أعمال القلوب من المقاصد والنيّات، وأعمال الجوارح أيضاً، فالعبرة ليست بصورة العمل وإنما هي بنية العامل. الفائدة الرابعة: في الحديث دليل على الفرق بين العبد الذي يعمل لوجه الله والعبد الذي يعمل لأجل الدنيا، لأنه ذكر عبدين: واحداً يعمل لأجل الدنيا وواحداً يعمل لأجل الآخرة، فالذي يعمل لأجل الدنيا إن أُعطي رضي، وإن لم يُعْطَ لم يرضَ، هذه علامته، بخلاف المؤمن فإنه لا يؤثِّر عليه العطاء وعدم العطاء للإيمان الذي في قلبه، فالحديث فيه: الفرق بين من يعمل من أجل الله ومن يعمل لأجل الدنيا. الفائدة الخامسة: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمّى العبد الذي يعمل من أجل مطامع الدنيا ج / 2 ص -106- عبداً لها، وهذا يقتضي الشرك، ولكنه في حق المؤمن يكون شركاً أصغر ينقِّص توحيده ويبطل أعماله التي خالطها هذا القصد السيء. الفائدة السادسة: في الحديث: بيان علامات الذي يعمل من أجل الآخرة، وهي كما يلي: أولاً: أنه مُعِدٌّ نفسه للجهاد دائماً وأبداً، ينتظر الجهاد، ويرغب فيه "آخذ بعِنان فرسه في سبيل الله" في أيّة ساعة تدعو الحاجة فإنه يبادِر بالجهاد في سبيل الله. ثانياً: أنه لا يتفرّغ للعناية بنفسه والرفاهية بحيث يرجِّل شعره ويدهن شعره، بل هو أشعث: "مغبرة قدماه"، فالغبار عنده مرغوب لأنه في سبيل الله، وهذا يدل على أن هذا العبد ليس مُتْرَفاً في هذه الدنيا. الصفة الثالثة: أنه لا يبالي بنوع العمل الذي يؤذِّيه في الجهاد سواء كان شاقًّا أو سهلاً، سواءً كان فيه ظهور أمام الناس أو ليس فيه ظهور أمام الناس، "إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة" يعني: يعمل حيثُ وُضع، لا يتبرّم ولا يتكرّه لذلك ولا يقول للقائد: أنت تهينني، وأنت، وأنت، لأنه لا يعمل من أجل القائد، ولا من أجل الناس، وإنما يعمل من أجل الله سبحانه وتعالى. الصفة الرابعة: أنه غير معروف عند الناس، لأنه يخفي نفسه، ولا يريد الظهور، وإنما يريد إخفاء نفسه وإخفاء عمله. وليس معناه: أنه يَنْزَوي ويقعُد في داره في زاوية من الزوايا، بل هو يشتغل ويعمل، ولكنه لا يحب أن يظهر عمله، ولا أن تظهر شجاعته، ولا أن يظهر إقدامه، ولا أن يُعرف جهاده، ولا يرغب هذا، لأنه يعمل من أجل الآخرة، لا يريد مَحْمَدة عند الناس أو مدحاً عند الناس، وإنما يريد ثواب الله سبحانه وتعالى بحيث إنه إذا استأذن في الدخول على العظماء لا يُؤذن له لأنه غير معروف، والناس عادة لا يأذنون في الدخول إلاّ لمن كان معروفاً عندهم، وإن شفع لأحدٍ لا تُقبل شفاعته، لأن الناس لا يشفِّعون إلا أصحاب الجاه، وهذا ليس له جاه، لكن هذا لا يضرُّه عند الله سبحانه وتعالى. هذه صفات الذي يعمل من أجل الآخرة، ويعمل لوجه الله سبحانه وتعالى. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#42
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد بابٌ من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحلَّ الله أو تحليل ما حرّمه الله فقد اتخذهم أرباباً ج / 2 ص -107- [الباب الثامن والثلاثون:] * بابٌ من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحلَّ الله أو تحليل ما حرّمه الله فقد اتخذهم أرباباً ـ قال الشيخ رحمه الله: بابٌ "من أطاع العلماء والأمراء" هذا شرط وجوابه، وذلك لأن التحليل والتحريم حقٌّ لله سبحانه وتعالى لا يشاركه فيه أحد، فمن حلّل أو حرّم من غير دليلٍ من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جعل نفسه شريكاً لله، ومن أطاعه فقد أشركه مع الله في التشريع. وليس في الآية التي سيوردها المصنف ذكر للأمراء. وإنما هو إشارة إلى قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67)}. وهذا ما يسمى بشرك الطاعة، لأن العبادة معناها: طاعة الله سبحانه وتعالى بفعل أوامره وترك نواهيه، ومن ذلك: مسألة التحليل والتحريم، فهي داخلة في العبادة، بدليل قوله تعالى لَمّا ذكر ما يفعله المشركون من استباحة ما حرّمه الله من الميتة التي حرّمها وهم يستحلُّونها ويقولون: هي أولى بالأكل من المُذَكّاة، لأن المذكّاة أنتم ذبحتموها، وأمّا الميتة فإن الله هو الذي ذبحها، وكانوا تلقّوا هذه المقالة من المجوس، فأنزل الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ(118)} إلى قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ(121)} أي: إنْ أطعتموهم في استباحة الميتة وخالفتم أمرَ الله سبحانه وتعالى بتركها، {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} مع الله في التحليل والتحريم. فطاعة العلماء والأمراء في مثل هذا شرك، في تحليل ما حرّم الله أو تحريم ما أحل الله. فإن كان الذي أطاعهم يعلم أنهم خالفوا أمر الله في ذلك وتعمّد طاعتهم واستباح هذا، فهذا شركٌ أكبر يُخرِج من الملّة. وإنْ كان الذي أطاعهم يعتقد أن هذا حرام، ويعترف أن هذا خطأ، ولكنه أطاعهم لهوىً في نفسه أو رغبة في نفسه مع اعترافه بالمعصية، فهذا شرك أصغر. وإن كان أطاعهم وهو لا يعلم أنهم خالفوا شرع الله، بل ظن أنهم على حق، فهذا معذور إن كان مثله يجهل ذلك. وأما طاعة العلماء والأمراء في غير معصية الله فهذا أمرٌ واجب، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، فطاعة العلماء وطاعة وُلاة الأمور في غير معصية الله أمرٌ أوجبه الله على الناس. و {وَأُولِي الْأَمْرِ} قيل: هم الأمراء، وقيل: هم العلماء. والصواب: أن الآية تعني العلماء والأمراء معاً، فكلهم من أولي الأمر، فالعلماء يبيِّنون الأحكام الشرعية، والأمراء ينفِّذونها. فليست طاعة وُلاة الأمور ممنوعة مطلَقاً ولا جائزة مطلقاً، بل فيها هذا التفصيل الذي لابد منه. والشيخ رحمه الله خصص تحريم طاعتهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال فقال: "من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً" ولم يعمم تحريم طاعتهم. قوله: "وقال ابن عبّاس" هو: حَبْر الأمة، وترجُمان القرآن، عبد الله بن عبّاس بن عبد المطّلب، ابن عمّ النبي صلى الله عليه وسلم. "يوشِكُ" معناه: يقرُب. "أن تنزل عليكم حجارة من السماء" عقوبةً لكم كما نزلت الحجارة على من كان قبلكم ممن خالفوا الرسل. "أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر" هذا هو السبب الذي يوجِب نزول الحجارة وهو طاعة العلماء والأمراء فيما يخالف شرع الله. قال ابن عبّاس رضي الله عنهما هذه المقالة لَمّا بلغه أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما الخليفتين الراشدين، كانا لا يريان فسخ الحج إلى العمرة، بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بفسخ الحج إلى العمرة لمن لم يَسُقِ الهدي. فهذا عند عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما يدلُّ على وجوب فسْخ الحج إلى العمرة لمن لم يَسُقِ الهدي، عملاً بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه أمر بذلك أصحابه وأكّد عليهم، ولَمّا خالف ذلك الخليفتان الراشدان أبو بكر وعمر، ورأيا أنه لا يجب فسْخ الحج إلى العمرة، بل المُضي في الإفراد أفضل، من أجل أن لا يُهْجَر البيت في بقية السنّة، لأن الحاج إذا جمع بين الحج والعمرة في سفر واحد، فهذا مما يسبِّب أن لا يأتي الناس مّرة أخرى للعمرة، بل يكتفون بسفرٍ واحد. ج / 2 ص -109- وقال أحمد بن حنبل: "عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحّته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. هذه وِجهة نظرهما رضي الله عنهما، وهي مسألة اجتهادية، ولكن الاجتهاد إذا خالف الدليل فإنه لا يجوز العمل به. فإذا كان ابن عبّاس يُنكر على من أخذ برأي الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر، لأنه اجتهاد مخالف للنص، وأن ذلك يوجِب العقوبة، فكيف بطاعة العلماء والأمراء في التحليل والتحريم من غير دليل؟. وهذا مما يدل على وجوب احترام سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنها هي المنتهى بعد كتاب الله عزّ وجلّ، وأنه إذا حصل اجتهاد من المجتهدين يجب عرضه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما قام عليه الدليل أخذناه، وما خالف الدليل تركناه، وإنْ كان قائله من أفضل الناس، كأبي بكر وعمر، فضلاً عن غيرهما. والاجتهاد سائغ، وهو "استنباط الأحكام الشرعية من أدلة الكتاب والسنّة"، ولكن عند التطبيق لا يجوز لنا أن نأخذ إلا ما قام عليه الدليل من أقوال أهل العلم، فلا يجوز لنا أن نأخذ ما خالف الدليل إمّا تعصُّباً لصاحبه، وإما لأنه يوافق أهواءنا، ويوافِق رغباتنا، بل المدار على الكتاب والسنّة: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}. والعامي يسأل أهل العلم، ويأخذ بقولهم، لقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}. قوله: "وقال أحمد" هو: الإمام أحمد بن حنبل، إمام أهل السنّة، الصابر على المحنة. قال رحمه الله: "عجبت" تعجُّب استنكار. "لقوم عرفوا الإسناد وصحّته" يعني: عندهم علم بالأدلّة، والإسناد هو: سلسلة الرُّواة الذين يروون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من لَدُن الراوي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، سواءٌ قصُر السند أو طال، وهو ما يسمى بالعالي والنازل. ج / 2 ص -110- والإسناد يحتاج إلى دراسة لمعرفة رُواته من حيث الثقة والحفظ والإتقان، وعدم ذلك، فإذا توفّر في السند أن راويه عدل تام الضبط من بداية السند إلى نهايته مع السلامة من الشذوذ والعلل فهو صحيح وإن نقص شيءٌ من ذلك نزل عن درجة الصحيح إلى الحسن أو إلى الضعيف. والعلماء هم الذين يميِّزون ذلك ويعرفونه، فالذين بلغوا من العلم بحيث أنهم يعرفون صحّة الإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم يجب عليهم الأخذ بالدليل، لأن صحة الإسناد تدلّ على صحة المُسْنَد، فصحة السند تدلُّ على صحة المتن، كما هو مدلول عبارة الإمام أحمد هذه. وفي هذا ردٌّ على بعض المتشدِّقين من بعض العصْريِّين العقلانيِّين الذين يقولون: حتى لو صحّ الإسناد فهذا لا يدل على صحة المتن، وينتقدون أحاديث في "صحيح البخاري" صحّتْ أسانيدها لأنها تخالف عقولهم القاصرة. وهذا لجهلهم، أو لتجرّئهم على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يخالف أهواءهم ويخالف عقولهم. يا سبحان الله! كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخضع للعقول، إنه يجب على من يؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يقدِّم قوله ويعتقده ويعمل به بدون مناقشة، وبدون جدال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}. ومن معنى شهادة أن محمداً رسول الله: تصديقه فيما أخبر. فمن لم يصدِّق ما أخبر به وإنما يُخضعه لهواه، ويُخضعه لقواعده المنطقية أو العقلية أو للعلم الحديث -كما يسمُّونه-؛ فهذا كأنه لم يؤمن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأمر خطيرٌ جدًّا، مع العلم أن النقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح، فإن اختلفا ففي أحدهما خلل، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وقوله: "يذهبون إلى رأي سفيان" يعني: يتركون ما صحّ به الإسناد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذهبون إلى رأي سفيان، وهو الإمام الجليل الفقيه الزاهد المتقن، سفيان بن سعيد الثوري، كان فقيهاً، محدِثاً، وله اجتهاد، وله مذهب في الفقه، لكنه انقرض بسبب أنه لم يكن له أتباع يحفظونه ويتدارسونه كما كان للأئمة الأربعة، وقد ج / 2 ص -111- نقل كثير من مذهبه في موسوعات الفقه، كـ "المغني"، وكـ "المحلّى" لابن حزم، وكتب التفسير، وشروح الحديث، لأنه إمامٌ مجتهد، وله باعٌ طويلٌ في الفقه والحديث والتفسير، رحمه الله. ولكن هو كغيره من الأئمة، لا يجوز أن يقدَّم قوله على قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو رحمه الله لا يرضى بذلك، كغيره من الأئمة لا يرضون بذلك. ولهذا يقول الإمام مالك: "كلنا رادٌّ ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر" يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقول الإمام الشافعي: "إذا صحّ الحديث فهو مذهبي"، ويقول: "إذا خالف قولي قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا بقول رسول الله واضربوا بقولي عرْض الحائط"، ويقول رحمه الله: "أجمع المسلمون على أنّ من استبانتْ له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان". ويقول الإمام مالك رحمه الله: "أَوَ كلَّما جاءنا رجلٌ أَجْدَلَ من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء؟". والإمام أحمد يقول هذه المقالة: "عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحّته يذهبون إلى رأي سفيان". والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: "إذا جاء القولُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصّحابة فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال"، لأنه رحمه الله كان من أتباع التابعين، وتتلمذ على التابعين، فأبو حنيفة هو أقدم الأئمة الأربعة، بل يُقال: إنه أخذ عن بعض الصّحابة، ولكن هذا لم يَثْبُت، فهو يقول هذه المقالة، يقدِّم قول الرسول صلى الله عليه وسلم على الرأس والعين، ولا يقدِّم عليه قول أحد، ثم بعد قول الرسول صلى الله عليه وسلم يقدِّم قولَ الصحاب. ولا يعدِل بالصحابي أحداً ممّن جاء بعده، وأما من بعد الصّحابة فيقول: "نحن رجال وهم رجال"، يعني: متساوين في المدارك والعلم. هذه مقالاتهم- رحمهم الله- تدلُّ على أن الواجب هو الأخذ بما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن اجتهادات العلماء يُستفاد منها وتُدْرَس، ولكن إذا خالف الدليل ج / 2 ص -112- شيءٌ منها فيجب الأخذ بالدليل، ولا يجوز التعصُّب لقائله، فإن تعصّب أحدٌ لقولٍ يخالف الدليل وقع في هذا المحظور، وصار من الذين اتّخذوا أحبارهم ورُهبانهم أرباباً من دون الله. ونحن لا نرفض الفقه كما يظن بعض الجهال أو بعض المبتدئين، بل نعتبره ثروة عظيمة، فيها علمٌ غزير، فندرسُ الفقه ولكن لا نأخذ منه إلا ما قام دليله، وما علمنا أنه خلاف الدليل حرُم علينا الأخذ به، مع اعتذارنا لقائله، واحترامه، لأنه لم يتعمّد المخالفة، والمجتهد يخطئ ويصيب، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد. والخطأ مغفور، كما صحّ بذلك الحديث. والناس على أربعة أقسام: فهذا يُعتبر من المقلدِّين، ولكن إذا عرف أنّ قولاً من الأقوال ليس عليه دليلالقسم الأول: من يستطيع الاجتهاد المطلق بأن يأخذ من الكتاب والسنّة ويستنبط من الكتاب والسنّة ولا يقلِّد أحداً. وهذا أعلى الطبقات، ولكن هذا إنما يكون لمن توفّرتْ فيه شروط الاجتهاد المعروفة، بأن يكون عالماً بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون عالماً بلغة العرب التي نزل بها القرآن، وأن يكون عالماً بالمحكم والمتشابه وبالناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيَّد، والخاص والعام، ويكون عنده معرفة بمدارك الاستنباط، أعني: لديه مؤهِّلات، فهذا يجتهد. وهذا الصنف كالأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وسفيان الثوري، والأوزاعي، هؤلاء أعطاهم الله مَلَكة الاجتهاد. الصنف الثاني: من لا يستطيع الاجتهاد المطلَق، ولكنه يستطيع الترجيح بين أقوال أهل العلم بأن يعرف ما يقوم عليه الدليل وما لا يقوم عليه الدليل من أقوالهم. فهذا يجب عليه الأخذ بما قام عليه الدليل وترك ما خالف الدليل وهذا العمل يسمى بالترجح ويسمى بالاجتهاد المذهبي. الصنف الثالث: من لا يستطيع الترجيح. والصنف الرابع: من لا يستطيع الأمور الثلاثة: لا الاجتهاد المطلق، ولا الترجيح، ولا التقليد المذهبي كالعامي- مثلاً-. فهذا يجب عليه أن يسأل أهل العلم كما قال الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، فيسأل أوثق من يرى، ومن يطمئن إليه من أهل العلم، ممّن يثق بعلمه وعمله ويأخذ بفتواه. هذه أقسام الناس في هذا الأمر. ومن هنا علِمنا أن الأمر ليس بمتروك ومُفْلَت، كل واحد ينصب نفسه منصب الأئمة ومنصب المجتهدين، ويغلِّط العلماء، ويرجّح من غير علم. أو يزهِّد في الفقه وأقوال الفقهاء، ويعتبرها شيئاً مرفوضاً. وهذا ليس من آداب طلبة العلم المريدين للحق. والواجب على الإنسان: أن يعرف قدْر نفسه، فلا يجعل نفسه في مكانة أعلى مما تستحقُّها، بل الأمر أخطر من ذلك وهو أن يخاف من الله سبحانه وتعالى لأن الأمر أمر تحليل وتحريم وجنة ونار، فلا يورِّط نفسه في أمور لا يُحسن الخروج منها. والمجتهد إذا توفّرت فيه شروط الاجتهاد فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجرٌ واحد، لأنه يريد الحق، ولكنه لم يستطع الوصول إليه بعد بذْل مجهوده، بذَل مجهوده وتحرّى الحق ولم يصل إليه، فهو معذور، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد"، لكن مع كونه معذوراً ومأجوراً في الخطأ لا يجوز لنا أن نأخذ بقول نرى أنه خطأ، بل يجب علينا أن نأخذ بالقول الصواب، سواء كان هذا القول الصواب في المذهب الذي نقلّده، أو في مذهب آخر، هذا هو طريق أهل الحق، أنهم لا يقلِّدون على خطأ، بل يأخذون ما ترجّح بالدليل ولو لم يكن عليه إمامهم. ولهذا- ولله الحمد- إمام هذه الدعوة ومؤلِّف هذا الكتاب الشيخ محمد بن عبد الوهّاب وتلاميذه ومَن جاء بعده من علماء هذه البلاد ينهجون هذا المنهج، ج / 2 ص -114- ويقولون: نحن حنابلة، ولكن ليس معنى هذا أننا نأخذ كل ما في المذهب الحنبلي بدون تمحيص، بل إذا قام الدليل على قول من الأقوال أخذنا به ولو لم يكن في المذهب الحنبلي، كالمذهب المالكي، أو المذهب الشافعي، أو المذهب الحنفي، لأننا ننشُد الدليل، ولا يمنع هذا أن يكون الإنسان حنبليًّا وإذا أخذ بقول قام عليه الدليل يخالف قول ابن حنبل أخذ به لأن إمامه أرشده إلى هذا، فقال له: خذ ما قام عليه الدليل، ولا تقلِّدني على خطأ، كلُّ الأئمة يقولون هذا، ما أحد منهم ادّعى العصمة أو ادّعى الكمال أو قال للناس لا تخالِفوا مذهبي أبداً، بل هم يحذِّرون من هذا، فأنت إذا أخذت بالدليل فإنك موافِقٌ لإمامك الذي تقلِّده، أما إذا أخذت الخطأ فأنت مخالفٌ لإمامك وإن كنت تزعُم التعصُّب له. فهذه مسألة يجب علينا أن نهتمّ بها، فنتجنّب الإفراط والتفريط، لا نكون مع الذين يرفضون الفقه، ويقولون: هذه أقوال رجال، فيضيعون، فلا هم الذين أخذوا بالفقه، ولا هم الذين يُحسنون الاستنباط والاستدلال، فضاعوا وضيعوا من تبعهم. ولا نحن مع الذين يقلِّدون تقليداً أعمى، ويتعصّبون لمذاهبهم، ويأخذون بقول إمامهم، ولو خالف الحديث، ويقول: آخذ بقول إمامي ولو خالف الدليل، لأن إمامي أعلم بالدليل. فهذان على طرفي نقيض. والصواب الوسط، أننا نأخذ بالفقه، ونأخذ بأقوال الأئمة، وندرُس الفقه، لأن دراسته طريقٌ إلى معرفة الحق، ولكن لا نقلِّد تقليداً أعمى، وإنما نميِّز بين الأقوال التي عليها دليل والتي ليس عليها دليل، وإذا كنا لا نعرف هذا علينا أن نسأل أهل العلم عن ذلك. هذا هو الحق والوسط في هذه المسألة التي خاض فيها الناس في وقتنا الحاضر على غير هدى إلا من رحم الله. قال الإمام أحمد: "والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} هذا أمرٌ من الله سبحانه وتعالى وتهديد: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}. والضمير في {أَمْرِهِ} يرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي مرّ ذكره في أول الآية. ج / 2 ص -115- أتدري ما الفتنة؟، الفتنة الشرك، لعلّه إذا ردّ بعضَ قوله أن يقع في قلبه شيءٌ بلا من الزيغ فيهلِك". {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} فسّرها الإمام أحمد بالزيغ والشرك، قال: "أتدري ما الفتنة؟، الفتنة الشرك، لعله إذا ردّ بعض قوله" أي: بعض قول الرسول صلى الله عليه وسلم، "أن يقع في قلبه شيءٌ من الزَّيْغ فيَهْلِك". فمن ردّ قول الرسول صلى الله عليه وسلم متعمِّداً تَبَعاً لهواه، أو تعصُّباً لشيخه الذي يقلِّده، فإنه مهدّد بعقوبتين: العقوبة الأولى: الزيغ في قلبه، لأنه إذا ترك الحق ابتُلي بالباطل، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، لَمّا انصرفوا عن تلقِّي القرآن عند نزوله وتعلُّمه صرف الله قلوبهم عن الحق عقوبةً لهم، وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، لَمّا رفضوه أول الأمر عند ذلك ابتلاهم الله بتقليب أفئدتهم وأبصارهم عقوبةً لهم، فلا تقبل الحق بعد ذلك. وهذا خطرٌ شديد، بخلاف الذي يقبل الحق ويرغب فيه، فإن الله يهديه ويزيده علماً وبصيرة، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ(125)}، فالمؤمن يَتْبع الدليل ويفرح به إذا حصل عليه، والحق ضالّة المؤمن أنّى وجده أخذه، أما الذي في قلبه زيع أو نفاق فهذا إنما يتّبع هواه ولا يتّبع الدليل، وهذا يُصاب بالزيغ والانحراف في العقيدة والانحراف في الدين والانحراف في الأخلاق وفي كلِّ شيء، عقوبةً له من الله سبحانه وتعالى. والعقوبة الثانية: {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في أبدانهم، بالقتل في الدنيا، بأن يسلِّط الله عليهم من يستأصِل شَأْفَتهم ويقتلهم، إما من المؤمنين، وإما من غير المؤمنين، عقوبةٌ لهم {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، إن ماتوا ولم يُقتلوا بأن يعذبوا في النار. فهذا وعيدٌ شديد على مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم. فترك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، والأخذ بأقوال العلماء والأمراء المخالِفة لِمَا قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في التحليل والتحريم يسبب الفتنة، أو العذاب الأليم. ج / 2 ص -116- وعن عديّ بن حاتم: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية، فقلت له: إنا لسنا نعبدهم. قال: "أليس يحرِّمون ما أحل الله فتحرِّمونه، ويُحِلُّون ما حرّم الله فتُحلُّونه؟ " فقلت: بلى. قال: "فتلك عبادتهم" رواه أحمد والترمذي وحسّنه. وهذا هو الشاهد من الآية للباب. قوله: "وعن عدي بن حاتم: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ} الأحبار جمع حَبر أو جمع حِبر وهو: العالِم. "{وَرُهْبَانَهُمْ}" جمع راهب، وهو: العابد، والغالب أن الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى. "{أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}" أي: يطيعونهم في التحليل والتحريم. {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} غلوا فيه واتخذوه رباً يعبدونه. {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} فسمّاه شركاً، ونزّه نفسه عنه، فدلّ على أنّ طاعة الأحبار والرُّهبان في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرّم الله أنه يُعتبر شركاً بالله عزّ وجلّ، ويعتبر حديث عديّ هذا تفسيراً للآية. فَلمّا سمع عديّ رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية قال: "إنا لسنا نعبدهم"، فَهِمَ رضي الله عنه أن عبادتهم تعني الركوع لهم والسجود لهم، والذبح لهم فقط. قال صلى الله عليه وسلم: "أليس يحرِّمون ما أحل الله فتحرِّمونه، ويحلون ما حرّم الله فتحلُّونه؟"، قال: بلى، قال: "فتلك عبادتهم" فدلّ هذا على أن طاعة الأحبار والرُّهبان في تحريم الحلال وتحليل الحرام عبادة لهم، ويُعتبر هذا من شرك الطاعة، لأن التحليل والتحريم حقٌّ لله سبحانه وتعالى، فليست العبادة قاصرة على السجود والركوع والدعاء والذبح والنذر وغير ذلك مما يفعله الوثنيُّون، بل ويشمل طاعة المخلوقين في معصية الخالق سبحانه وتعالى ومخالفته في تشريعه، يدخل هذا في ضِمْن العبادة، فالعبادة عامة ليست مقصورة على نوع أو أنواع من العبادة، بل هي شاملة لكل ما هو من حق الله، ومن ذلك: التحليل والتحريم. ج / 2 ص -117- ما يُستفاد من هذه النصوص: أولاً: تحريم طاعة العلماء والأمراء في تحريم الحلال وتحليل الحرام، وأنه إن استباح ذلك فهذا هو الشرك الأكبر، وإن لم يستبحه فإنه يُعتبر معصيةً عظيمة من المعاصي، وهو من الشرك الأصغر. ثانياً: أن طاعة العلماء والأمراء في غير معصية الله واجبة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، وذلك لأنه لا يتمّ نظام العالَم وقيام المصالح إلاّ بطاعة وُلاة الأمور ما لم يأمروا بمعصية الله عزّ وجلّ، فإن أمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق في تلك المعصية، ويُطاعون فيما ليس بمعصية. ثالثاً: في قول ابن عبّاس رضي الله عنهما أن قولَ العالم إذا خالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يجب الأخذ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك قولَ العالم مهما بلغ من الفضل، كأبي بكر وعمر، وسفيان الثوري. والعالم إذا أخطأ عن اجتهاد فخطأه مغفور، لكن لا يجوز لنا تقليده على خطأ. رابعاً: يؤخذ من قول الإمام أحمد رحمه الله: أن الذي بلغ رُتبة الاجتهاد ومعرفة صحة الإسناد أنه لا يجوز له أن يقلِّد، بل يجب عليه الاجتهاد للتوصُّل إلى الحق بنفسه، ولا يسعه إلاّ ذلك، لأن التقليد لا يجوز إلاّ عند الحاجة، وهذا غير محتاج للتقليد. خامساً: يؤخذ من قول الإمام أحمد: أن من لا يعرف الإسناد وصحته يجب عليه التقليد لمن يثق بعلمه وعمله، لئلا يضيع في دينه. سادساً: أن صحة الإسناد تدلُّ على صحة المتن خلافاً لمن قال من العقلانيِّين: إنه وإنْ صحّ الإسناد فهو لا يدل على صحة المتن. سابعاً: يؤخذ من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أن العبادة ليستْ قاصرةً على الركوع والسجود والدعاء والاستغاثة، بل تشمل طاعة الأوامر وترك النواهي. ثامناً: أنّ مَن أطاع العلماء والأمراء أو غيرهم في تحريم الحلال أو تحليل الحرام أنه قد اتّخذهم شركاء لله سبحانه وتعالى في عبادته، وهذا محلّ الشاهد من الآية الكريمة وحديث عدي للترجمة. والله تعالى اعلم. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#43
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60)} الآيات. ج / 2 ص -118- [الباب التاسع والثلاثون:] * باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60)} الآيات. هذا الباب من جنس الباب الذي قبله كلاهما في تغيير شرع الله، لكن هذا الباب يخص التحاكم في الخصومات خاصة والباب الذي قبله في التحليل والتحريم عموماً. وقولُ المصنف- رحمه الله تعالى-: "باب قول الله تعالى" يعني: ما جاء في تفسير هذه الآيات ممّا ذكره أهلُ العلم في تفسيرها؛ ممّا يدلّ دَلالة واضحة على أنّ التحاكُم إلى ما أنزل الله من التّوحيد والعبادة، وأنّ التحاكُم إلى غيره شركٌ بالله عزّ وجلّ وكفرٌ به، لأنّ الحكم لله وحده: الحكم القدَري، والحكم الشرعي، والحُكم الجزائي كلّه لله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}، {لَهُ الْخَلْقُ}، هو الذي خلق، (وله الأمر)، فهو الذي يأمر وينهى، ويحلِّل ويحرِّم، ليس لغيره شركٌ في ذلك. وقال تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}. فالتحاكم إلى ما أنزل الله داخلٌ في التوحيد، والتحاكُم إلى غيره من أنواع الشرك، لأنّ من معنى {لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} ومقتضاها ومدلولها: التحاكُم إلى كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومَن تحاكَم إلى غير كتاب الله وسنّة رسوله فإنّه قد أخلّ بكلمة التّوحيد فأخلّ بمقتضى "لا إله إلا الله، محمد رسول الله". فمدلول الشّهادتين: أن نتحاكَم إلى كتاب الله وإلى سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أُمورنا، ليس المُراد: التحاكُم في المنازعات فقط، بل التحاكُم في المقالات والاجتهادات الفقهيّة أيضاً، فلابدّ أن نحكِّم كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقوال المجتهدين، ونأخذ منها ما دلّ عليه الدليل، ونترك ما لم يدل عليه دليل، ولا نتعصّب ج / 2 ص -119-لرأي فلان أو للإمام فُلان، فمن تعصّب لم يكن متحاكماً إلى ما أنزل الله وإلى الرّسول، وإنما تحاكم إلى هذا الشخص الذي تعصّب له وجَمَد على رأيه، مع مخالفته، وهو اجتهاد اجتهد فيه، لكن إذا خالف الدليل فلا يجوز لنا أن نتعصّب لرأي إمام أو لرأي عالم أو لرأي مفت من المفتين، ونحنُ نعلم أنّه مخالِفٌ للدّليل، لكن ذلك العالم معذور لأنّه مجتهِد، ولكنّه لم يصادف الدّليل، فهو معذور له أجرٌ على ذلك، لأنّ هذا منتهى اجتهادِه، أما مَن تبيّن له أن هذا الاجتهاد غير مطابِق للدّليل فلا يسعه أن يأخذ بهذا الاجتهاد، ولا يجوز له. والأئمّة ينهون عن ذلك، ينهوننا أن نأخُذ بآرائهم دون نظرٍ إلى مستندها من كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلاّ كنا- كما سبق في الباب الذي قبل هذا- أطعنا العلماء والأمراء في تحريم ما أحلّ الله وتحليل ما حرّم الله. وكذلك التحاكُم في المناهِج التي يسمّونها الآن: مناهج الدّعوة، ومناهج الجماعات هي من هذا الباب، يجب أن نحكِّم فيها كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما كان منها متمشِّياً مع الكتاب والسنّة فهو منهجٌ صحيح يجب السّير عليه، وما كان مخالِفاً لكتاب الله وسنّة رسوله يجب أن نرفُضه وأن نبتعد عنه. ولا نتعصّب لجماعة أو لحزب أو لمنهج دَعَوِيّ ونحنُ نرى أنه مخالِف لكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالدعاة منهم من هو داعية ضلال. فالذي يَقْصُر هذا التحاكُم إلى الكتاب والسنّة على المحاكم الشرعيّة فقط غَالِط، لأن المراد: التحاكُم في جميع الأمور وجميع المنازَعات: في الخُصومات وفي الحُقوق المالية، وغيرها، وفي أقوال المجتهدين، وأقوال الفقهاء، وفي المناهج الدّعويّة، والمناهج الجماعيّة، لأن الله تعالى يقول: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ} و{شَيْءٍ} نكِرة في سياق الشرط، فتعتمّ كل نزاع وكل خِلاف في شيء، سواءً في الخُصومات، أو في المذاهب، أو في المناهِج. وفي أقوال الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والقدرية. يجب أنّنا نعرف هذا، لأن بعض الناس وبعض المنتسبين للدّعوة يَقْصُر هذا على وجوب التحاكُم في المنازعات والخُصومات إلى المحاكِم الشرعية، ويقول: يجب تحكيم الشريعة ونَبْذِ القوانين، نعم، يجب هذا، ولكن لا يجوز الاقتصار ج / 2 ص -120-عليه، بل لابُدّ أن يتعدّى إلى الأُمور الأخرى، إلى تحكيم الشريعة في كلّ ما فيه نزاع، سواءً كان هذا النّزاع بين دُول، أو كان هذا النّزاع بين جماعات، أو كان هذا النزاع بين أفراد، أو كان هذا النّزاع بين مذاهب واتّجاهات، لابدّ من تحكيم الكتاب والسنّة. نحن نُطالِب بهذا في كلّ هذه الأُمور. أما أن نَقْصُرَهُ على ناحية ونسكُت عن النّاحية الأخرى، فنقول: النواحي الأخرى دعوا الناس إلى رغباتهم، دعوا كلاًّ يختار له مذهباً، وكلاًّ يختار له منهجاً. نقول: هذا قُصور عظيم، لأنه يجب أن نحكِّم الشريعة في المحاكِم، ونحكّمها في المذاهب الفقهيّة، ونحكّمها في المناهج الدّعويّة، لابد من هذا، فلا يجوز لنا أن نَقْصُر كلام الله وكلام رسوله على ناحية ونترُك النواحي الأخرى، لأنّ هذا إمّا جهل وإمّا هوى. كثيرٌ من النّاس اليوم ينادون بتحكيم الشريعة في المحاكِم وهذا حق؛ لكن هم متنازِعون ومختلفون في مناهجهم وفي مذاهبهم، ولا يريدون أن يحكِّموا الشّريعة في هذه الأمور، بل يقولون: اتركوا الناس على ما هم عليه، لا تتعرّضوا لعقائدهم، لا تتعرضوا لمصطلحاتهم، لا تتعرّضوا لمناهجهم، اتركوهم على ما هم عليه، وهذا ضلال، بل هذا من الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر، مثل قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}. فهذا أمر يجب التنبُّه له، لأنّ هذه مسألة عظيمة غفل عنها الآن الأكثرون. فالذين ينادون بتحكيم الشريعة إنما يريدون تحكيمَها في المخاصَمات، في الأموال، والأعراض، والخلافات بين الناس، والأمور الدّنيوية دون العقائد والمذاهب. ومناسبة عقد هذا الباب في كتاب التوحيد: أن التّحاكُم إلى ما أنزل الله هو من التّوحيد والتحاكُم إلى غيره شركٌ بالله عزّ وجلّ، شركٌ في الحكم والتّشريع. ثم ذكَر الآيات، وهي قولُ الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} هذا تعجُّب استنكار. {إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ ج / 2 ص -121- يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} هل يتّفق هذا مع دعوى الإيمان؟، لا يتّفق، لأنهم يريدون أن يجمعوا بين الإيمان والكُفر، ولا يمكن هذا، فالمؤمن بالله وبرسوله يحكِّم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أما الذي يدّعي الإيمان ولكنّه في الحكم لا يرجع إلى الله ولا إلى رسول الله، فهذا ليس بمؤمن، ولهذا قال: {يَزْعُمُونَ} والزّعمُ هو: أكذبُ الحديث، وهذا يدلّ على أنهم كاذبون في دعواهم الإيمان، والدليل على كذبهم: أنّهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطّاغوت، ولو كان إيمانهم صادقاً لم يتحاكموا إلاّ إلى كتاب الله وسنّة رسول الله. فدلّ هذا على أن إرادة التحاكُم إلى غير كتاب الله وسنة رسول الله- مجرّد الإرِادة- يتنافى مع الإيمان، فكيف إذا فَعل؟، كيف إذا تحاكَم إلى غير كتاب الله وسنّة رسوله؟، إذا كان مَن نوى بقلبه واستباح هذا الشيء ولو لم يفعل أنّه غير مؤمن، فكيف بمن نفّذ هذا وتحاكَم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله في أموره كلها، أو في بعضها؟. وقوله: {آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} وهو القُرآن. {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} وهو: الكُتُب السابقة، لأنّ الإيمان بالكُتُب كلها هو أحد أركان الإيمان الستّة، الإيمان بالكُتب التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على رُسله، يجب الإيمان بها، ما سمّى الله منها وما لم يسمّ. أما الذي يؤمن بكتابٍ ويكفُر بالكتب الأخرى فهذا كافرٌ بالجميع، فاليهود إذا قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله، {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ}، فالذي يقول: لا نؤمن إلاّ بالكتاب الذي نزل على رسولنا فقط، أما الكتاب الذي نزل على غير رسولنا فلا نؤمن به. فهذا كافر بالكتاب الذي نزل على رسوله، لأنّ الكتب مصدرها واحد، يصدِّق بعضها بعضاً، وكلّها من الله سبحانه وتعالى، والرُّسل إخوة، كلّهم- عليهم الصلاة والسلام- إخوة، دعوتهم واحدة، ومنهجهم واحد، فالذي يؤمن بكتاب ويجحد غيره، أو يؤمن بالكتب إلا واحداً منها، أو يؤمن بالرسل ويكفر ببعضهم فهذا كافر ٌبالجميع، ولهذا قال: { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ(105)}، {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ(123)}، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ(141)}، {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ(160)}، مع أنهم لم يكذُبوا إلا رسولهم، لكن لَمّا كفروا ج / 2 ص -122-برسولهم صاروا مكذبين للمرسلين جميعاً، لأنّ الرسل- عليهم الصلاة والسلام- دينهم واحد، ومنهجهم واحد، وهم إخوة، يجب الإيمان بهم جميعاً. وقوله: {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} ادّعوا هذا، لكن لَمّا جاء التنفيذ اختلف الفعل عن القول، وتبيّنت حقيقتهم. {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} الطّاغوت: مشتقٌّ من الطُّغيان، وهو: مجاوزة الحدّ، قال الشيخ الإمام ابن القيِّم: (الطّاغوت: ما تجاوز به العبدُ حدّه من معبود أو متبوعٍ أو مُطاعٍ في معصية الله، والطّواغيتُ كثيرون، ورؤوسهم خمسة: إبليسٌ- لعنه الله، ومَن عُبد وهو راضٍ، ومَن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومَن حكم بغير ما أنزل الله، ومن ادّعى علم الغيب". هؤلاء رؤوس الطواغيت، ومنهم: مَن حكم بغير ما أنزل الله، الذي هو موضوع هذا الباب، وهم الذين يحكمون ويتحاكمون بغير شريعة الله سبحانه وتعالى من القوانين والأنظِمَة، والعادات والتقاليد، وأمور الجاهلية والقَبَلِيّة، لأن هناك قوانين وَضْعِيّة وضعها البَشَر، وهناك عادات وتقاليد في المجتمعات، يمشي بعضُ الناس عليها، وهُناك أعرافٌ جاهليّة بين القبائل يسمّونها (السُّلُوم)، وشيوخ القبائل (العوارِف)، كل قبيلة لها عارفة يحكم بينهم، إمّا كاهن، وإِمّا ساحر، وإمّا رجل عادي، وهذا كلَّه منبوذ، وكلّه مطروح بعد بِعثَة الرّسول صلى الله عليه وسلم، ويَجب الرُّجوع إلى كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلّ من حكم بغير كتاب الله وسنّة رسوله مستحلاً لذلك فإنه طاغوت يجب الكُفر به. ولهذا قال: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}، وكذلك في قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا}، فالإيمان بالله لا يصحّ إلاّ بعد الكفر بالطّاغوت، فالكفر بالطّاغوت ركن الإيمان، فلا يصحّ أن يجمع بين الإيمان بالله والإيمان بالطّاغوت، لأن هذا جمعٌ بين نقيضين، والله قدّم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله. وهذا معنى "لا إله إلاّ الله"، لأنّ "لا إله إلاّ الله" إيمانٌ بالله وكُفرٌ بالطّاغوت، فقولنا: "لا إله" هذا نفيٌ، ينفي جميع المعبودات والطّواغيت، وقولُنا: "إلاّ الله" هذا إيمانٌ بالله سبحانه وتعالى وحده. ج / 2 ص -123-وقوله: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} بيّن سبحانه وتعالى أنّ عملهم هذا إنما هو إملاءٌ من الشيطان، فهو الذي سوّل لهم هذه الإرادة- إرادة التحاكُم إلى الطّاغوت-، هو الذي سوّل لهم وأملى عليهم هذه الفكرة الخبيثة، يريد أن يُبعدهم ويُغوِيَهم، وليس ضلالاً عاديًّا، بل {ضَلالاً بَعِيداً} عن الحقّ، يُبعدهم غاية البُعد، فلا يكفيه أنّه يتركهم في مكان قريب، لأنّهم إذا كانوا في مكان قريب ربّما يرجعون، لكن يُبعدهم بُعداً لا يرون معه الحق أبداً. هذا الذي يريده الشيطان، فهو الذي يبعد الناس عن تحكيم كتاب الله وسنّة رسوله، لأنّ الشيطان يريد لهم الشّرّ ولا يُريد لهم الخير، ولا يكفيه الانحراف اليسير، لا يرضى إلاّ بالانحراف الكُلِّي والبعيد عن منهج الله سبحانه وتعالى. ثم- أيضاً- من علاماتهم: أنهم لا يقبلون النّصيحة، لأنّ الشيطان أضلّهم ضلالاً بعيداً، ولهذا قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} طُلب منهم ونُصحوا أن يرجعوا إلى الحق لا يقبلون، لأنهم تعمّدوا مخالفة الحق، فهم ما تركوا الحقّ عن جهل، ولكنّهم تركوه عن تعمُّد، فلذلك لا يقبلون النّصيحة، ولهذا قال: {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} يعرضون إعراضاً كلياً. والمنافقون: جمع منافق، وهو: الذي أظهر الإسلام وأبطن الكفر، لأنه لَمّا رأى قوة الإسلام لم يستطع معارضته، فلجأ إلى حيلة وهي أن يُظهِر الإيمان من أجل أن يعيش مع المسلمين ويسلَم على دمه وماله، ويَبقَى على الكفر في باطن أمره، فهو أظهر الإسلام خداعاً ومكْراً، فصار شرًّا من الكافر الخالص، لأنّ الكافر الخالص أخفّ من المنافق، لأنّ الكافر الخالص معلوم ومعروف عداوته، معروف موقفه من الإسلام، لكن هذا موقفه من الإسلام متذبذب، لا هو مع الكفّار ولا هو مع المسلمين {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ}، إن صارت الغلبة للكفّار فرح وعاش معهم، وإن صارت العزّة والغَلَبة للمؤمنين عاش معهم، فيُريد أن يعيش مع القوي، وهذا أخسّ المذاهب، وأحطّ المذاهِب، لأنّ الإنسان يجب أن يكون صريحاً، لا يخادع، لكن هؤلاء يخادعون، ولذلك صاروا في الدَّرْك الأسفل من النار {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا}. ج / 2 ص -124-وقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً(62)} يعني: إذا نزلت بهم كارثة، أو أنزل الله فيهم قرآناً يفضحهم جاءوا إلى الرّسول يعتذرون، ويحلفون بالله، وهم أكثرُ الناس حلفاً بالله وهم كاذبون، يحلفون على الكذب وهم يعلمون. {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} يقولون: ما أردنا مخالفتك، ولا أردنا مخالفة كتاب الله، ولكن عملنا هذا للمصلحة، وتوفيقاً بين الناس، وهذا ممّا يدلّ على غباوتهم، وعلى قُبْح سجيّتهم، فالاعتذار أخسّ من الفعل، لأنهم يدّعون أن تحكيم غير كتاب الله إحسان وتوفيق، فهذا عذرٌ أقبح من فعل، لأن الإحسان والتوفيق هو بإتّباع كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولَمّا قالوا في إحدى الغزوات: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطوناً، وأكذب ألسناً، وأجبن عند اللّقاء" يعنون: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان قد حضر مجلسهم واحدٌ من المسلمين فذهب وبلّغ الرسول صلى الله عليه وسلم، فلمّا علموا جاءوا يركضون يريدون الاعتذار، فوجدوا الوحي قد سبقهم، فأنزل الله على رسوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، ما يزيد الرسول على أن يقرأ هذه الآية، وهم متعلِّقون بناقته صلى الله عليه وسلم يعتذرون، ولا يلتفت إليهم. ثم بيّن الله أنهم كاذبون، وأنهم يقولون ما ليس في قلوبهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ}، فهم يعتذرون إليك في الظّاهر ويحلفون في الظّاهر، وما جاءوا تائبين ونادمين، وإنّما جاءوا مخادعين. {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} لا تقبل اعتذارهم، لأنّه اعتذارٌ كاذب، وإنما يُقبل الاعتذار من الإنسان النّادم والإنسان التّائب، والإنسان المخطئ من غير تعمّد، أما الإنسان المتعمِّد للباطل فلا يُقبَل اعتذارُه إلاّ إذا رجع إلى الصواب. {وَعِظْهُمْ} يعني: الواجب عليك تجاههم: الموعظة، بأن تخوِّفهم بالله عزّ وجلّ، وتحذّرهم من النّفاق والكذب، وتأمُرهم بالتّوبة، وتبيِّن لهم عقوبة مَن فعل هذا الفعل. {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} {فِي أَنْفُسِهِمْ} قيل: معناه: بيِّن لهم ما ج / 2 ص -125-في أنفسهم، وما يبيِّتونه ممّا بيّنه الله لك، وأطلعك عليه. وقيل: معناه: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ} أي: قل لهم خالياً بهم وحدهم وأسِرَّ إليهم بالنصيحة. {قَوْلاً بَلِيغاً} يعني: كلاماً جَزْلاً فاصلاً يؤثِّر فيهم، ومعنى هذا: أنّك لا تقابلهم باللّين أو بالكلام اللّيّن أو بالملاطفة، لأنهم ليسوا أهلاً لذلك، ولكن قابلهم بالكلام البليغ الزّاجر المخوِّف المروِّع، لأنهم فعلوا فعلاً قبيحاً لا يناسِب معهم الملاطفة والملايَنة. ثم قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ} يعني: جميع الرّسل- عليهم الصلاة والسلام- ومنهم: محمد صلى الله عليه وسلم. {إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} بشرعه ودينه، أو بتوفيقه سبحانه وتعالى، فالواجب: طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم مخالفته، ومن طاعته: التحاكُم إليه. ثم بيّن سبحانه وتعالى: أنّ هؤلاء لو تابوا ورجعوا إلى الله لتاب الله عليهم، فقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} يعني: لَمّا حصل منهم ما حصل من التحاكُم إلى غير كتاب الله وسنّة رسوله {جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} هذا عَرْضٌ للتّوبة. {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} لأنّ استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم شفاعةٌ منه صلى الله عليه وسلم. وهذا في حياته صلى الله عليه وسلم، فهو يستغفر للمذنبين والمسيئين، ويدعو للمسلمين في قضاء حوائجهم، فهو صلى الله عليه وسلم في حياته يستغفر ويدعو للمسلمين، أما بعد مماته صلى الله عليه وسلم فلا يُذهب إلى قبره، ولا يُطلب منه الاستغفار ولا الدّعاء، لأنّ هذا انتهى بموته صلى الله عليه وسلم، ولكن بقي- ولله الحمد- كتابُ الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم فيهما الخير، وفيهما البَرَكة، وما كان الصّحابة رضي الله عنهم يذهبون إلى قبره، ويطلبون منه ذلك. أما الذين يستدلّون بهذه الآية على المجيء إلى قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم والدعاء عنده، وطلب الاستغفار من الرّسول وهو ميّت، فهذا باطل، لأن الصّحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا هذا، وهم أعلم الأمة وأحرص الأمة على الخير، وما كانوا يأتون إلى قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم إذا أشكل عليهم شيء، أو نزلت بهم نازلة، أو أصابهم قحط، أو انحباس مطر، أو أصابتهم شدّة من الشّدائد، ما كانت القرون المفضّلة يأتون إلى قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يطلُبون من الله، وإذا كان فيهم أحدٌ من أهل الصلاح أو من قَرابة الرّسول صلى الله عليه وسلم طلبوا منه أن يدعوَ الله لهم، كما فعل عمر رضي الله عنه مع العبّاس بن ج / 2 ص -126-عبد المطّلب- عمّ الرّسول صلى الله عليه وسلم- لَمّا انحبس المطر واستسقوْا، قال عمر رضي الله عنه: "اللهم إنّا كنا نتوسّل إليك بنبيّك فتسقينا" يعني: يوم أنْ كان حيًّا- عليه الصّلاة والسلام، "وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا، ادع يا عبّاس". هذا عمل الصّحابة رضي الله عنهم، ما كانوا يأتون إلى قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم، بل عدَلوا إلى العبّاس لأنّ العباس حيّ موجود بينهم والرّسول صلى الله عليه وسلم ميّت، والحي يقدر على الدعاء والاستغفار، والميت لا يقدر، ومن لم يفرّق بين الحي والميت فهو ميّت القلب. وكذلك معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لَمّا استسقى، طلب من أبي يزيد الجُرَشي أن يدعوَ الله، فدعا، هذا عمل الصّحابة، وهم أفقهُ الأمة وأعلم الأمة، ما كانوا يأتون إلى قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم، وإنما كانوا إذا قدِموا من سفر يأتون إلى قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم للزّيارة والسلام على الرّسول صلى الله عليه وسلم ثم ينصرفون، ما كانوا يأتون ويدعون عند القبر، أو يطلُبون من الرّسول صلى الله عليه وسلم الشّفاعة، أو يطلُبون منه الاستغفار بعد موته هذا لا يجوز، لأنّه من وسائل الشّرك. وتدلّ الآية على أن المنافقين لو تابوا تاب الله عليهم، وأنّ مَن تحاكَم إلى غير شريعة الله أنه يجب عليه التّوبة، وإذا تاب تاب الله عليه. أما المخادَعة، وأما الكلام الفارغ، وأنّنا ما أردنا بهذه الأُمور إلاّ الخير والإصلاح بين الناس، وما أردنا مخالفة الكتاب والسنّة، فهذا لا يُقبل، ولا اعتذار فيه أبداً. وتنميق الألفاظ، وتنميق الاعتذارات والحُجج المزخرفة، كل هذا لا يُقبل إلاّ مع التّوبة الصّادقة، وترْك هذا الذنب العظيم. كثيرٌ ممّن يحكِّمون القوانين اليوم ممّن يدّعون الإسلام يعتذرون بأعذار باطلة فيقال لهم: إنْ كنتم تريدون الحق فارجعوا عمّا أنتم عليه وتوبوا إلى الله كما عرض الله التّوبة على مَن كان قبلكم. أزيلوا هذه القوانين، وهذه الطاغوتيّة إنْ كنتم صادقين وتوبوا إلى الله، والله يتوب على مَن تاب. أما الاستمرار على الذّنب مع إظهار التّوبة والاستغفار، فهذه مخادَعة لا تجوز، لأن شروط التّوبة: الإقلاع عن الذّنب، والعزم أن لا يعود إليه، والنّدم على ما فات. ثم قال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} هذا ردٌّ على دعواهم الإيمان، وهو ردّ مؤكّد بالقسم. ج / 2 ص -127- {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} من النِّزاع والاختلاف، وهذا- كما ذكرنا- عامٌّ للاختلاف في الخُصومات الّتي تنشَبُ في الأموال أو غيرها، وفي العقائد، وعامٌّ في الخُصومات في المذاهب والآراء الفقهية، وعام في الخصومات في المناهج الدّعويّة التي انقسم فيها النّاس اليوم، يجب أن يحكَّم فيها كتاب الله وسنّة رسوله، فإن لم يُفعلوا فليسوا بمؤمنين، لأن الله أقسم سبحانه على نفي الإيمان عن من لم يعمل هذا العمل. ثم قال تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} أما مَن تحاكَم إلى الشّريعة ولكنّه قَبِل الحُكم على مَضَض، وهو يجد في نفسه كراهية لهذا الحكم فهذا ليس بمؤمن، لابدّ أن يقبَل هذا الحُكْم عن اقتناع، أما إنْ قَبِلَه مضطّرًّا وأغمض عليه إغماضاً فهذا ليس بمؤمن. ثم قال تعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ينقادون انقياداً تاماً. فهذه ثلاثة أمور: أولاً: يحكِّموك فيما شَجَر بينهم. ثانياً: أن لا يجدوا في أنفسهم حرجاً من حكم الله ورسوله. ثالثاً: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ينقادون انقياداً لحكم الله ورسوله. فبهذه الأمور الثلاثة يثبُت الإيمان بها ويتحقّق. فالذي لا يحكِّم كتاب الله وسنّة رسوله ليس بمؤمن، والذي يحكِّم كتاب الله وسنّة رسوله ولا يرضى به، وإنما يقبَله مجامَلة، أو لأجل غَرضٍ من الأغراض هذا ليس بمؤمن، والّذي لا ينقاد ولا يسلِّم، هذا ليس بمؤمن. ثم- أيضاً- ليس المقصود من التحاكُم إلى الشريعة هو مجرّد تحقيق الأمن والعَدالة بين الناس، فهذا لا يكفي، لابدّ أن يكون تحكيم الشريعة تعبُّدا ًوطاعةً لله، فالّذين يحكِّمون الشّريعة من أجل ما فيها من المصالح والعدل بين الناس فقط، فهذا لا يدلّ على الإيمان، لابد أن يكون تحكيم الشّريعة صادراً عن إيمان وتعبُّد لله عزّ وجلّ وطاعةً لله عزّ وجلّ، لأنّ هذا من التّوحيد، أمّا الذي لا يقبل من الشّريعة إلا المصالح الدنيويّة والعدالة الحاصلة بين الناس في هذه الدنيا فهذا لا يكفي، بل يحكِّم الشريعة ج / 2 ص -128-وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)}. وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}. طاعةً وتعبُّداً، وخُضُوعاً لحكم الله سبحانه وتعالى، ولهذا صار تحكيم الشّريعة من التّوحيد. والشّاهد من الآيات للباب واضح، أنّها تدلّ على أنّ تحكيم الشّريعة والتحاكُم إليها من توحيد الله عزّ وجلّ، وأنّ ترْكَ ذلك من الشّرك بالله ومن صفات المنافقين. قوله رحمه الله: "وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11)}" هذه الآية في سياق الآيات التي ذكرها الله في مطلَع سورة البَقرة في المنافقين أي إذا قيل للمنافقين: لا تُفسدوا في الأرض بالمعاصي، ومن أشدّ المعاصي: التحاكُم إلى غير ما أنزل الله، وهذا وجه إيراد الآية في هذا الباب وهو أنّ تحكيم غير شريعة الله من الإفساد في الأرض، وأن تحكيم شريعة الله هو صَلاح الأرض، فكذلك بقيّة الطّاعات، فصلاح الأرض إنّما يكون بطاعة الله عزّ وجلّ وفساد الأرض إنّما يكون بمعصية الله عزّ وجلّ، فالمعاصي تُحدِثُ الفساد في الأرض من نُضوب المياه، وانحباس الأمطار، وغلاء الأسعار، وظُهور المعاصي والمنكَرات، كلّ هذا فسادٌ في الأرض، ولا صلاح للأرض إلا بطاعة الله عزّ وجلّ، ولا عِمارة للأرض إلاّ بطاعة الله عزّ وجلّ. فالمنافقون إذا قيل لهم: اترُكوا النّفاق لأنّ النفاق فساد، {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، وهذا من فساد الفِطْرة، حيث يعتقدون أنّ ما هم عليه هو الإصلاح، وأنّ ما عليه المؤمنون هو الفساد. وهكذا كلّ صاحب مذهب فاسد، يدّعي أن مذهبه إصلاح في ا لأرض، وأنّه تقدّم، وأنه رُقيّ، وأنّه حضارة، وأنّه، وأنه، إلى آخره. وكما ذكرنا: أنّ التحاكُم إلى كتاب الله من الإصلاح في الأرض، والتحاكُم إلى غير كتاب الله من الإفساد في الأرض، فيكون هذا وجه سِياق المصنِّف رحمه الله لهذه الآية في هذا الباب. قال رحمه الله: "وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}" هذه الآية من سورة الأعراف. ج / 2 ص -129-وقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} الآية. وهذه كآية سورة البقرة تماماً ومعناها لا تُفسدوا في الأرض بالمعاصي، والشّرك بالله عزّ وجلّ، وتحكيم غير ما أنزل الله، {بَعْدَ إِصْلاحِهَا} بإرسال الرُّسل وإنزال الكتب والإيمان بالله عزّ وجلّ، فالله أصلح الأرض بإرسال الرُّسل وإنزال الكُتب وحُصول الإيمان فيها، فلا يجوز أن تُغَيَّر نعمةُ الله عزّ وجلّ وتُسْتَبْدَل بضدّها، فيكون بعد التّوحيد الشرك، ويكون بعد تحكيم كتاب الله تحكيم القوانين الوضعيّة والعوائد الجاهليّة، ولا يكون بعد الطّاعات المعاصي والمخالفَات. قال رحمه الله: "وقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} المراد بالجاهلية: ما كان قبل الإسلام، كان أهل الجاهليّة على ضلالة، ومن ذلك: التّحاكم، كانوا يتحاكمون إلى الكُهّان، وإلى السحرة، وإلى الطّواغيت، وإلى العوارِف القَبَليّة. فهؤلاء المنافقون الذين ادّعوا الإسلام يريدون حكم الجاهليّة، ولا يريدون حكم الله سبحانه وتعالى، ولا يريدون أن ينتقلوا من حكم الجاهلية إلى حكم الشريعة، بل يريدون البقاء على حكم الجاهلية، وهذا مذهب المنافقين دائماً ومَن سار في رَكْبِهم. وهذا استنكارٌ من الله سبحانه وتعالى لمن يريد أن يستبدل الشّريعة بالقوانين الوضعيّة، لأنّ القوانين الوضعيّة هي حكم الجاهليّة، لأنّ حكم الجاهلية أوضاع وضعوها ما أنزل الله بها من سلطان، والقوانين الوضعيّة أوضاع وضعها البشر، فهي وحكم الجاهليّة سواء لا فرق، فالذي يريد أن يحكم بين الناس بالقوانين الوضعيّة يريد حكم الجاهليّة الذي أراده المنافقون من قبل. ثم قال: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} {مَنْ} بمعنى: لا، أي: لا أحد أحسنُ من الله حكماً، لأنّ الله سبحانه وتعالى، عليم حكيم خبير، يعلم ما يصلُح به العباد، ويعلم حوائج النّاس، ويعلم ما يُنْهِي النزاعات بين النّاس، ويعلم العواقب وما تؤول إليه، فهو تشريعٌ من عليم حكيم سبحانه وتعالى، لا يستوي هو والقوانين التي وضعها البشر، الذين عقولهم قاصرة وتدخُلهم الأهواء والرّغبات، وعلمهم محدود، إنْ كان عندهم علم، لا يشرِّع للبشر إلاّ خالق البشر الذي يعلم مصالحهم، وبعلم ما تنتهي إليه أُمورهم، ولهذا قال: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ} أي: لا أحد أحسنُ حكماً من الله، ج / 2 ص -130-وعن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لَمّا جئت به" قال النووي: (حديث صحيح، رويناه في كتاب "الحجة" بسند صحيح". وأفعل التفضيل هنا على غير بابه، فليس هناك طرفان، أحدهما أفضل من الآخر، فحكم البشر ليس فيه حسن أبداً، وإنما حكم الله هو الحسن وحده. قال: "وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لِمَا جئت به". قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدُكم" هذا نفيٌ للإيمان الكامل، وليس نفياً للإيمان كلِّه، لأنّه قد يأتي نفي الإيمان، ويُراد نفي الإيمان الكامل كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبّ لنفسه"، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرِق السّارق حين يسرِق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" فالمراد بهذَا: نفيُ الإيمان الكامل، لا نفي مطلَق الإيمان، فإنّ الفاسق يكون معه من الإيمان ما يصحّ به إسلامُه، أمّا الذي ليس معه إيمان أصلاً، فهذا كافرٌ خارجٌ من الملّة. وهذا مذهب أهل السنّة والجماعة: أن الفاسق لا يُسْلَب مطلَق الإيمان، ولا يعطى الإيمان المطلَق، فلا يُسلب لمطلق الإيمان بحيث يكون كافراً كما تقوله الخوارج والمعتزلة، ولكنه لا يُعطى الإيمان المطلق كما تقوله المرجئة، وإنما يُقال: "مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته"، أو يُقال: "مؤمنٌ ناقص الإيمان"، لأنّ الذين يقولون: إن صاحب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان، هم المرجئة، والذين يقولون: إن صاحب الكبيرة كافرٌ خارجٌ من الإيمان وليس معه من الإيمان شيء، هؤلاء هم الخوارج والمعتزلة. وأهل السنّة- ولله الحمد- وسط بين هذين المذهبين، فلا يسلِبون مرتكب الكبيرة الإيمان بالكُلِيّة، ولا يُعطونه الإيمان الكامل، وإنما يسمّونه مؤمناً فاسقاً أو مؤمناً ناقص الإيمان. وقوله صلى الله عليه وسلم: "حتى يكون هواه" الهوى مقصور، معناه: تكون محبّته ورغبته تابِعةً لِمَا جئتُ به، فما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم أحبّه، وما خالف ما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم أبغضه، هذا هو المؤمن الذي يحبّ ما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم ويُبغض ما خالفه. ج / 2 ص -131-"تبعاً لِمَا جئتُ به" من الشّريعة والكتاب والسنّة، فهذه علامةٌ واضحة بين أهل الإيمان وأهل الكفر. قوله: "قال النّووي" الإمام أبو زكريّا يحيى بن شَرَف النّووي، صاحب التصانيف العظيمة في الإسلامِ كـ "شرح صحيح الإمام مسلم"، "وروضة الطالبين" في الفقه، وغير ذَلك من المصنّفات العظيمة، وقد تُوفّي رحمه الله وهو شابّ في الأربعين من عُمُره. وقوله: "رَوَيْنَاهُ في كتاب الحُجّة" وهو كتابٌ لأبي الفتح نصرْ بن إبراهيم المقدِسي الشّافعي، سماه: "الحُجّة على تارك المَحَجَّة"، وهو كتابٌ في التوحيد يردّ فيه على المبتدعة وأصحاب المقالات الباطلة في العقيدة، فيُعتبر من كتب العقيدة وهو مطبوع محقق. "بسند صحيح" الإسناد تؤيِّده الأدلّة من الكتاب والسنّة، فإنّ المؤمن يجب أن يكون محبًّا وراغباً فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ومبغضاً لِمَا سواه، قال الله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ}، وقال سبحانه وتعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} فالذي لا يأخذ من الشرع إلاّ ما يوافق هواه ويترك ما خالف هواه ورغبته إنَّما يتّبع هواه، وقد اتّخذ هواه إلهاً يطيعُه فيما يريد وفيما يكره، أما الذّي يتّخذ الله جل وعلا إلهاً فإنه يتبع ما جاء عن الله سواءً وافق رغبته أو خالف رغبته، فإنّ الله وصف المنافقين بأنهم لا يأخذون إلاّ ما وافق أهواءهم، قال صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ(48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49)} يعني: إذا كان الحكم لهم جاءوا، وإذا كان الحكم عليهم لم يأتوا ولا يقبلون، وهذا نفاق، وفي آخر الآيات السابقة: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً(65)}. وهذا كلّه يشهد لهذا الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. ثم ذكر المؤلِّف- رحمه الله تعالى- سببين من أسباب نُزول قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ}: ج / 2 ص -132-وقال الشعبي: كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد. عرف أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود. لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، فاتفقا أن يأتيا كاهناً في جهينة فيتحاكما إليه، فنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} الآية. السبب الأول: قوله: "قال الشّعبي: كان بين رجلٍ من المنافقين ورجل من اليهود خُصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد" لأنّه يعرف أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يأخذ الرشوة. "وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود. لعلمه أنهم يأخذون الرشوة" والرّشوة مثلّث الرّاء، يقال: رِشوة، ورَشوة، ورُشوة، هي: ما يدفعه أحدُ الخصمين للحاكم من أجل أن يقضي له، وما يدفعه للموظّف أحدُ المراجعين من أجل أن يقدِّم معاملته على معاملة غيره من المستحقِّين، أو من أجل أن يعطيه ويحرِم المستحقِّين، أو من أجل أن يعطيه حقّه الذي ليس فيه ضرر على أحد، فهذه رشوة، سواء كانت للقاضي في المحكمة، أو كانت لموظّف في أحد الدوائر الحُكوميّة، من أجل أن يتلاعب بحقوق المراجعين، ويقدِّم من لا يستحقّ التقديم، ويؤخّر من يستحقّ التقديم، أو يعطي من لا يستحقّ، ويحرِم المستحقّ في الوظائف أو في أيّ شيء من المراجَعات. والرّشوة سُحْتٌ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الراشي والمرتشي" الراشي هو: الذي يدفع الرّشوة، والمرتشي هو: الذي يأخُذ الرشوة، وقد سمّاها الله سُحْتاً في قوله عن اليهود: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}، والمراد بالسُّحت: الرّشوة، لأنّ الرشوة تُفسد المجتَمَع، فتفسد الحُكّام، والقُضاة، والموظّفين، وتضرّ أهل الحق، وتقدِّم الفُسّاق، ويحصُل بها خللٌ عظيم في المجتمع. فالرشوة وَباءٌ خطير، إذا فَشَتْ في المجتمع خَرب نظامُه، واستطال الأشرار على الأخيار، وأُهين الحقّ، فهي سُحْتٌ وباطلٌ، وهي من أعظم الحرام- والعياذ بالله- قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا ج / 2 ص -133-وقيل: نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له القصة، فقال للذي لم يرضَ برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟، قال: نعم. فضربه بالسيف فقتله. فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(188)} قيل: هذه الآية نزلت في الرّشوة التي تُدفع للحُكّام من أجل أكل أموال النّاس بالباطل، سُمِّيت رشوة؛ مأخوذة من الرِّشاء وهو الحبل الذي يُتَوَصِّل به إلى استنباط الماء من البئر، فكأن مقدِّم الرشوة يريد سحب الحكم أو جذب الحكم لنفسه دون غيره، من ذلك سمّيت رشوة. فهذا اليهودي طلب التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لعلمه أن الرسول لا يأخذ الرشوة لأن الرشوة سُحْتٌ وحرام وباطل، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالحقّ والعدل بين الناس. وأما المنافق- مع أنه يزعُم الإيمان- طلب أن يتحاكم إلى اليهود لعلمه أنّ اليهود يأخذون الرشوة، فقد قال الله تعالى فيهم: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}. "ثم اتّفقا أن يأتيا كاهناً" والكاهن هو الذي يتلقّى عن الشّياطين في استراق السمع، فالكاهن يستخدم الشياطين، وتُخبره بأشياء من الأمور الغائبة، فيُخبِر بها الناس ويكذب معها. "في جُهينة" وجهينة: قبيلة معروفة، وبقال: إنها حيٌّ من قُضاعَة، وهي قبيلة كبيرة. "فنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ}". فيكون هذا أحد القولين في سبب نزول الآية الكريمة. والسبب الثاني لنزول الآية: أنها: "نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخَر: إلى كعْب بن الأَشْرف" وكعب بن الأشرف زعيمٌ من زعماء اليهود، وهو عربيّ من قبيلة طَيِّء، ولكن كان أخوالُه من اليهود من بني النّضير، فتهوّد، وكان من أَلَدِّ خُصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ذهب إلى أهل مكّة بعد غزوة بدر يرثي قتلى ج / 2 ص -134-المشركين، ويحرّض أهل مكّة على غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أنزل الله تعالى فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً(50)}، ثم رجع إلى المدينة وجعل يُنشد الأشعار في ذمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحرِّض الناس عليه، فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لي بكعب بن الأشْرَف فقد آذى الله ورسوله؟" فانتدب محمد بن مَسْلَمة الأنصاري رضي الله عنه، واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله، فخرج هو ورجالٌ معه إلى كعب بن الأشرَف باللّيل، فدعوه فنزل إليهم، فقتلوه وأراحوا المسلمين من شرّه، لأنّه لَمّا خان الله ورسوله، وصار يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقض عهده، فأهدر النّبي صلى الله عليه وسلم دمه، وأَمر هؤلاء بقتله، فقتلوه بأمر النّبي صلى الله عليه وسلم، وأراح الله المسلمين من شرّه. "ثم ترافعا إلى عمر" وكلّ هذا محاولة للابتعاد عن حكم الله ورسوله. "فذكر له" أحدُهما "القصّة" يعني: سبب مجيئهما. "فقال": عمر رضي الله عنه: "للّذي لم يرضَ برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟، قال: نعم. فضربه بالسّيف فقتله" لأنّه مرتدّ عن دين الإسلام، أو لأنّه لم يُسْلِم من الأصل، ولكنّه أظهر الإسلام نفاقاً، والمنافق إذا ظهر منه ما يعارِض الكتاب والسنّة وَجَب قتلُه دفعاً لشرّه، ولكنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين كعبد الله بن أُبيّ وغيره، درْءاً للمفسدة، لئلاّ يتحدّث الناس أنّ محمداً يقتُل أصحابه. فالرّسول صلى الله عليه وسلم ارتكب أخفّ، المفسدتين- وهي: ترك قتله- لدفع أعلاهما وهو قول الناس: محمد يقتل أصحابه. هذا وجه كون الرّسول لم يقتل المنافقين مع عداوتهم لله ولرسوله، لأنّه خشي من مفسدة أكبر. فدلّت هذه النّصوص في هذا الباب العظيم على أحكام عظيمة: أوّلاً: في الآيات والحديث: وُجوب التحاكُم إلى كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنّ هذا هو مقتضى الإيمان. ثانياً: وُجوب تحكيم الكتاب والسنّة في كلّ المنازَعات، لا في بعضها دون بعض، فيجب تحكيمها في أمر العقيدة، وهذا أهمّ شيء، وفي المنازعات الحقوقيّة ج / 2 ص -135-بين الناس، وفي المنازعات المنهجيّة والمذاهب والمقالات، وفي المنازعات الفقهية: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}"، أما الذي يريد أن يأخُذ جانباً فقط، ويترك ما هو أهمّ منه، فهذا ليس تحاكُماً إلى كتاب الله، فما يقوله دعاة الحاكميّة اليوم ويريدون تحكيم الشريعة في أُمور المنازعات الحقوقيّة، ولا يحكِّمونها في أمر العقائد، ويقولون: النّاس أحرار في عقائدهم، يكفي أنّه يقول: أنا مسلم، سواءً كان رافضيّاً أو كان جهمياً أو معتزليّاً، أو.. أو.. إلى آخره، "نجتمع على ما اتفقنا عليه، ويعذُر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه" هذه القاعدة التي وضعوها، ويسمونها: القاعدة الذهبية. وهي في الحقيقة: تحكيم للكتاب في بعض، وترك له فيما هو أهمّ منه، لأنّ تحكيم الشريعة في أمر العقيدة أعظم من تحكيمها في شأن المنازعات الحُقوقية، فتحكيمُها في أمر العقيدة وهدم الأضرحة ومشاهد الشرك، ومقاتلة المشركين حتى يؤمنوا بالله ورسوله، هذا أهمّ، فالذي إنما يأخذ جانب الحاكميّة فقط ويُهمِل أمر العقائد، ويُهمِل أمر المذاهب والمناهج التي فرّقت الناس الآن، ويُهمل أمر النّزاع في المسائل الفقهيّة، ويقول: أقوال الفقهاء كلها سواء، نأخذ بأيّ واحدٍ منها دون نظر إلى مستنده. فهذا قول باطل، لأن الواجب أن نأخذ بما قام عليه الدليل، فيحكَّم كتاب الله في كلّ المنازَعات العَقَديّة، وهذا هو الأهم، والمنازَعات الحُقوقيّة، والمنازَعات المنهجيّة، والمنازَعات الفقهيّة، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} هذا عامّ، {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ} هذا عام أيضاً. وهؤلاء الذين جعلوا الحاكميّة بدل التوحيد غالطون، حيث أخذوا جانباً وتركوا ما هو أعظم منه، وهو العقيدة، وتركوا ما هو مثله- أو هو أعظم منه- وهو المناهج التي فرّقت بين الناس، كلّ جماعة لها منهج، كل جماعة لها مذهب، لم لا نرجع إلى الكتاب والسنّة ونأخذ المنهج والمذهب الذي يوافق الكتاب والسنّة ونسير عليه. والحاصل؛ أنّ تحكيم الكتاب والسنّة يجب أن يكون في كلّ الأُمور، لا في بعضها دون بعض، فمن لم يحكِّم الشريعة في كلّ الأمور كان مؤمناً ببعض الكتاب وكافراً ببعض شاء أم أبى، {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}. ج / 2 ص -136- المسألة الثالثة: في هذه النصوص تفسير الطّاغوت، وأنّ من معانيه: كل بغير ما أنزل الله. المسألة الرّابعة: في هذه النصوص دليل على أنّ مَن اختار حكم الطاغوت على حكم الله، أو سوّى بين حكم الله وحكم الطّاغوت وادّعى أنّه مخيّر بينهما أنّه كافر بالله خارجٌ من الملّة، لأن الله تعالى قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا} فكذّبهم في دعواهم الإيمان ما داموا يتحاكمون إلى الطّاغوت، لأنّه لا يمكن الجمع بين النّقيضين، فمن اختار حكم الطّاغوت على حكم الله أو سوّى بينهما وقال: هما سواء، إنْ شئنا أخذنا بهذا، وإنْ شئنا أخذنا بهذا، أو قال: تحكيم الطاغوت جائز، أو حَكَم بالشريعة في بعض الأمور دون بعض، فهذا كافر بالله. كالذين يحكِّمون الشريعة في الأحوال الشخصية فقط. أما من حَكَم بغير ما أنزل الله لهوىً في نفسه، وهو يعترف ويعتقد أن حكم الله هو الحق، وحكم غيره باطل، ويعترف أنه مخطئ ومذنب، فهذا يكفر كفراً أصغر لا يخرج من المِلّة. المسألة الخامسة: في حديث عبد لله بن عمرو وفي آخر الآيات: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} دليل على أنّ علامة الإيمان: أن يقتنع بحكم الله ورسوله، فإن لم يقتنع وكان في نفسه شيء من عدم الاطمئنان فهذا دليلٌ على ضعف إيمانه، أو على عدم إيمانه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدُكم حتى يكون هواهُ تَبعاً لِمَا جئتُ به"، قال تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}. فمن علامة الإيمان: الاطمئنان لحكم الله ورسوله، سواءً كان له أو عليه، فلا يجد في نفسه شيئاً من التّبرُّم أو الكراهية حتى ولو كان الحكم عليه. المسألة السّادسة: في سبب نزول الآية: دليل على تحريم الرّشوة، لأنّها من أكل المال بالباطل، ولأنّها تسبّب تغيير الأحكام عن مجراها الصحيح، وأنّها من صفة اليهود، فمن أخذها من هذه الأمّة فقد تشبّه باليهود، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من تشبّه بقوم فهو منهم"، مع ما فيها من أكل المال بالباطل مع ما فيها من إفساد الحكم، ونشر الفوضى في الحُقوق، وهي شرٌّ كلّها. ج / 2 ص -137- المسألة السّابعة: في الحديث دليل على وُجوب قتل المنافق إذا ظهر منه ما يعارض الكتاب والسنّة، لأنّه أصبح مفسداً في الأرض، فيجب على ولي الأمر قتله إلاّ إذا ترتب على قتله فساد أكبر. المسألة الثامنة: في قوله: {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} أنّه لا يُقبل اعتذار من تحاكَم إلى غير الكتاب والسنّة، لأنّ الله أنكر عليهم ذلك، وهم {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}، فلا يُقبل اعتذار مَن حكّم غير الكتاب والسنّة، ولو اعتذر بما اعتذر فإنّه لا عُذر له، لأنّ الله لم يقبل منهم هذا الاعتذار. المسألة التاسعة: في قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} فيه: قَبول التّوبة من المرتدّ، فإنّ الله عرَض عليهم التّوبة مع ردّتهم في تحكيم غير ما أنزل الله أنهم لو تابوا تاب الله عليهم. والمسألة العاشرة: فيه أن طلب الدّعاء من الرّسول صلى الله عليه وسلم إنما هو في حال حياته، بدليل أن الصّحابة رضي الله عنهم ما كانوا يأتون إلى قبره صلى الله عليه وسلم يطلبون منه الاستغفار والدعاء، وهم القدوة، وخير القرون، وأعلم الناس بتفسير القرآن ولأنه سبحانه قال: {إِذْ ظَلَمُوا} وإذ ظرف لما مضى من الزمان. ولم يقل: "إذا ظلموا" لأن إذا ظرف لما يستقبل من الزمان. وما يذكرونه من قصة الأعرابي الذي جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه الاستغفار بعدما تلا الآية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا...}، فهي قصة مختلقة لا أصل لها، ولو صحّت لم يجز الاستدلال بها، لأنها فعل أعرابي جاهل مخالف لما عليه الصّحابة، وهم أعلم الأمة بما يُشرع وما لا يُشرع. وديننا لا يُؤخذ من القصص والحكايات، وإنما يُؤخذ من الكتاب والسنّة وهدي السلف الصالح. قال الشيخ رحمه الله: "فيه مسائل: المسألة الأولى: تفسير آية النساء، وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت" أي: أنّ الطاغوت هو من يحكُم بغير ما أنزل الله، سمّاه الله طاغوتاً. الثانية: تفسير آية البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ...} الآية" أي: ج / 2 ص -138- ومن أعظم الإفساد في الأرض: التحاكُم إلى غير ما أنزل الله. "الثّالثة: تفسير آية الأعراف: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}" أي: أن مِن أعظم الإفساد في الأرض بعد إصلاحها: تحكيم غير الشّريعة. "الرّابعة: تفسير: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}" أي: أنّ حكم الجاهلية هو الحكم بغير ما أنزل الله، فكلّ حكم يخالف حكم الله فإنّه حكم الجاهلية في أيّ وقت، ولو سُمّي قانوناً، أو نظاماً، أو دستوراً، أو سُمّي ما سُمّي، فإنّه حكم الجاهليّة. "الخامسة: ما قال الشّعبي في سبب نزول الآية" أي: أن الشّعبي ذكر سبب نزول الآية الأولى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ}، وأنّها نزلت في رجلين أرادا التحاكم إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم فنفى الله الإيمان عمن أراد ذلك؛ مجرد نية فكيف إذا نفذ هذا!. "السّادسة: تفسير الإيمان الصادق والإيمان الكاذب" أي: أن من الإيمان الصّادق: تحكيم ما أنزل الله عزّ وجلّ، والإيمان الكاذب هو تحكيم الطاغوت ولو ادعى الإيمان بالله. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#44
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب من جحد شيئاً من الأسماء والصّفات ج / 2 ص -139- [الباب الأربعون:] * باب من جحد شيئاً من الأسماء والصّفات قول الشيخ رحمه الله: "بابُ مَنْ جَحَد شيئاً من الأسماء والصّفات" أي: ما حكمُه؟، وما دليل ذلك؟. ومناسبة الباب: أنه لَمّا كان التّوحيد ثلاثة أنواع: توحيد الرُّبوبية، وتوحيد الأُلوهيّة، وتوحيد الأسماء والصّفات، وكان غالبُ هذا الكتاب في النّوع الثّاني وهو توحيد العبادة، لأن فيه الخُصومة بين الرُّسل والأُمم، وهو الذي كثرُ ذكره في القرآن الكريم وتقريرُه والدّعوة إليه، فهو الأساس، وهو معنى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وهو الذي خلق الله الخلْق من أجله كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)}. وأما النّوع الأوّل وهو توحيد الرّبوبيّة: فهذا أكثرُ الأُمم مقرّة به، خصوصاً الذين كانوا في وقت نُزول القرآن من كُفّار قريش وكُفّار العرب كانوا مقرِّين بتوحيد الرّبوبيّة، فهم يعتقدون أنّ الله هو الخالق الرّازق، المحيي، المميت، المدبِّر يعترفون بذلك كما جاءت آياتٌ في القرآن الكريم تبيّن ذلك: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ(9)}، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}، {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ}، { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ}، هذا شيءٌ متقرِّر، ولكنّه لا يُدخِلُ في الإسلام، فمن أقرّ به واقتصر عليه ولم يقرّ بالنوع الثّاني وهو توحيد العبادة، ويأت به فإنه لا يكون مسلِماً ولو أقرّ بتوحيد الرّبوبيّة. أمّا النوع الثّالث: وهو توحيد الأسماء والصّفات، فهو في الحقيقة داخل في توحيد الربوبية. ومن أجل هذا؛ بعض العلماء يُجمِل ويجعل التوحيد نوعان: توحيدٌ في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الرّبوبية والأسماء والصّفات وهو التوحيد العلمي. وتوحيد في الطّلب والقصد وهو التوحيد الطَّلَبي العملي، وهو توحيد الأُلوهيّة. ج / 2 ص -141- "{يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}" أي: ينكرون هذا الاسم الكريم، ويجحدونه. ويوضّح ذلك سبب نزول الآية، وهو: أنّ كُفّار قريش لَمّا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكُر الرحمن، قالوا: وما الرّحمن؟، لا نعرف الرّحمن إلاَّ رحمن اليمامة. يَعْنُون: مسيلِمة الكذّاب، وذلك عندما صالح النّبي صلى الله عليه وسلم المشركين في الحديبيَة، وأراد أن يكتُبَ الصُّلْح، ونادى عليَّ بن أبي طالب ليكتُب الصُّلْح، فقال له: "اكتب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}"، قالوا: لا نعرف الرّحمن إلاَّ رحمن اليمامة، ولكن اكتُب باسمك اللهم. فأنزل الله تعالى: "{وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}". وكذلك لَمّا كان النّبي صلى الله عليه وسلم في مكّة، وكان يصلِّي ويدعو في سُجوده: "يا الله، يا رحمن"، فقال المشركون لَمّا سمعوه: انظروا إلى هذا يزعُم أنّه يعبُد ربًّا واحداً وهو يدعو ربّين: الله والرّحمن، قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}. بيّن سبحانه أنّ أسماءه كثيرة، وتعدُّد الأسماء لا يدلّ على تعدُّد المسمّى، بل تعدُّد الأسماء يدّل على عظمة المسمّى، والله جل وعلا له أسماء كثيرة، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(180)}، وقال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى(8)}، وقال تعالى في آخر سورة الحشر: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ...} إلى قوله: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، فالله له أسماءٌ كثيرة، كلّها حسنى، يعني: تامّة عظيمة، تشتمِل على معان جليلة. وفي الحديث الصحيح: أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ لله تسعة وتسعين اسماً مَنْ أحصاها دخل الجنّة"، وفي دعاء النّبي صلى الله عليه وسلم: "أسألُك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك"، فدلّ على أنّ أسماء الله كثيرة لا يعلمها إلاَّ الله سبحانه وتعالى. وكثرة الأسماء الحسنى تدلّ على عظمة المسمّى. فكل اسم يُدعى به ويُطلب منه تعالى ما يتضمّنه ذلك الاسم من الرحمة والمغفرة والتّوبة وغيرها. ج / 2 ص -142- وفي صحيح البخاري: قال علي: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكَذَّب الله ورسوله؟!". وقوله: {فَادْعُوهُ بِهَا} يعني: توسّلوا إليه بها في دعائكم، كأن تقول: يا رحمن ارحمني، يا غفور اغفر لي، يا توّاب تُب عليّ، يا رازق ارزقني.. وهكذا. {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} يعني: يُنكرونها، أو ينكرون معانيها ويحرفونها، توّعدهم الله بقوله: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. والإيمان بأسماء الله وصفاته هو مذهب أهل السنّة والجماعة من الصّحابة والتّابعين، وأتباعهم إلى يوم القيامة، فأهلُ السنّة والجماعة يؤمنون بأسماء الله وصفاته التي سمّى الله تعالى بها نفسه، أو سمّاه بها رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، يؤمنون بها، ويُثبتون معانيها وما تدلّ عليه، ولكنّ كيفيّتها لا يعلمها إلاّ الله سبحانه وتعالى. أما الفرقُ الضالّة من الجهميّة والمعتزلة والأشاعرة ومشتقّات هؤلاء فإنّهم يجحدونها، فمنهم مَن يجحد الأسماء والصّفات وهم الجهميّة، ولذلك كفّرهم كثيرٌ من علماء هذه الأُمة، يقول الإمام ابن القِّيم رحمه الله في "النّونيّة": ولقد تقلَّدَ كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البُلدان والمعتزلة أثبتوا الأسماء ولكنهم جحدوا معانيَها، وجعلوها أسماء مجرّدة، ليس لها معاني. والأشاعرة: اثبتوا الأسماء وبعض الصّفات، وجحدوا كثيراً من الصّفات، فأثبتوا سبع صفات، وبعضهم يُثبت أربع عشرة صفة، والبقيّة يجحدونها ويُنكرونها. وكلّ هؤلاء فرقٌ ضالّة، وهم يتفاوتون في ضلالهم. قال: "وفي صحيح البخاري: قال عليّ": علي بن أبي طالب يخاطِب العلماء، ويقول لهم: "حدِّثوا النّاس بما يعرفون" أي: تكلّموا عندهم بما يعرفون، أي: بما لا تستنكِرُه عقولهم، بل حدِّثوهم بما تتحمّله عقولهم، وتُدركه أفهامُهم، ولا تُسمعوهم شيئاً لا يفهمون معناه، أو يجهلونه، فيبادِرون إلى تكذيبه فتوقعونهم في الحَرج. ج / 2 ص -143- وكأنّه قال هذه المقالة لَمّا كثُر القُصّاص في وقته، وهم: الوُعّاظ، والوُعّاظ يحرصون على أن يخوِّفوا الناس، فيذكُرون لهم كلّ ما قرأوا أو سمعوا من الأخبار والأحاديث، سواءً كانت صحيحة أو غير صحيحة، وسواء كان النّاس يفهمونها أو لا يفهمونها. وهذا أمرٌ لا يجوز، فالحاضرون يحدِّثون بما تتحمّلُه عقولهم، ربما ينفعُهم، أما ذكر الأشياء التي تشوِّش عليهم- وقد تحمِل بعضَهم على التكذيب- فهذا أمرٌ محرّمِ، فينبغي للقاصّ والواعظ والخطيب والمتحدِّث أن يراعيَ أحوال السّامعين، فيتكلّم معهم بما يُناسِب حالهم: إنْ كان يتكلّم في وسط علماء يتكلّم بالكلام اللاّئق بأهل العلم، وإن كان يتكلّم في وسط عوام فيتكلّم بما يناسبهم وبما تتحملّه عقولهم، ويحرص على ما ينفعهم أيضاً، ويعلِّمهم أُمور دينهم: أمور عقيدتهم وصلاتهم، وأُمور عبادتهم، ويحذّرهم من المعاصي ومن المحرّمات، ولا يدخُل في المواضيع العلميّة البعيدة عن أفهام العوامّ. وهذه حكمةٌ عظيمة من أمير المؤمنين رضي الله عنه: أنه أمر أن يراعى أحوال الحاضرين وأحوال السّامعين، فيحدّثون بما يتناسب مع مستواهم العلميّ. ويا ليت المتحدِّثين في وقتنا هذا والخُطباء يمشون على هذا النّظام وهذه القاعدة التي قالها أميرُ المؤمنين عليّ بن أبي طالب. فهذه قاعدة للمتحدِّثين في كل وقت: أنّ المتحدِّث يراعِي أحوالَ السّامعين: إنْ كان في وسطٍ علمي يتحدّث بما يناسِبه، وإن كان في وسط عامِّي يتحدّث بما يناسبه، وإنْ كان في وسط مختَلِط من العلماء ومن الجُهّال ومن العوام فإنه يلاحظ الواقع، فيتحدّث بحديث يستفيدُ منه الحاضرون ويفهمونه من أُمور دينهم، ويدرِّسون العقائد والعلوم شيئاً فشيئاً حتى تتسع لها عقولهم، وتتقبلها أفهامهم. ولا يدخل في هذا ذكر نصوص الأسماء والصّفات بدليل قول ابن عباس الآتي لما ذكر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصّفات. وإنما هذا خاص بأحاديث القصاص التي قد تكون مكذوبة أو لا تتحملها عقول الناس. ج / 2 ص -144- وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس: "أنه رأى رجلاً انتفض لمّا سمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصّفات؛ استنكاراً لذلك، فقال: ما فَرَقَ هؤلاء؟، يجدون رِقّة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه؟!" انتهى. قال: "وروى عبد الرزّاق " عبد الرزّاق: هو عبد الرزّاق بن همّام الصنعانيّ: الإمام الجليل، صاحب "المصنّف" المسمّى بـ "مصنّف عبد الرزّاق ". "عن معمَر" هو معمَر بن راشد الأزدي: من تلاميذ محمد بن شهاب الزُّهريّ، الإمام الجليل. "عن ابن طاووس عن أبيه" طاووس هو: طاووس بن كَيْسان، من أئمّة العلم في اليمن. وابنُه هو: عبد الله بن طاووس: كان إماماً جليلاً، يروي عن أبيه طاووس. "عن عبد الله بن عبّاس: أنّه رأى رجلاً انتفض لَمّا سمعَ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصّفات؛ استنكاراً لذلك، فقال: ما فَرَقُ هؤلاء؟!، يجدون رقّة عند مُحكمه، ويهلكون عند متشابهه" الفَرَق: الخوف. والمحكَم من النّصوص هو: الذي يُفهم معناه من لفظه، ولا يحتاج إلى دليل آخر يفسّره. والمتشابه هو: الذي لا يُفهم معناه من لفظه، ويحتاج إلى دليل آخر يفسّره، كالنّاسخ والمنسوخ، والمطلَق والمقيَّد، والعام والخاص، والمجمل والمبيّن. فقاعدة أهل السنّة والجماعة: أنّهم يردوّن المتشابه إلى المحكَم، فيفسّرون بعض النّصوص ببعض، لأنّها كلها كلامُ الله أو كلامُ رسوله صلى الله عليه وسلم. وأمّا أهل الزّيغ فإنّهم يأخذون المتشابهِ، ويترُكون المحكَم. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فيردّون المتشابه إلى المحكم، ويفسِّرون كلام الله بكلام الله أو بكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، و {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ} يعني: المحكَم والمتشابه، {مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فيفسّرون بعضه ببعض، فلا يأخذون المتشابه فقط ويترُكون المحكَم. ج / 2 ص -145- ولَمّا سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن، انكروا ذلك، فأنزل الله فيهم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}. ومنهم: هذا الرجل الذي لما سمع حديثاً في الصّفات استنكره وانتفض خوفاً من ذكره ولا يحدث ذلك منه عند المتشابه. فدلّ قولهُ رضي الله عنه: "يجدون رِقّة عند محكَمه" على أنّ آيات الصّفات من المحكَم وليست من المتشابه. وفي هذا ردٌّ على أهل الضّلال الذين يجعلون نصوص الصّفات من المتشابهِ، ويفوِّضون معناها إلى الله. وهذا ضلالٌ وغلط، بل هي من المحكَم الذي يُعرف معناه ويفسَّرُ، ولذلك بيّن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما أنها من المحكَم، وهذا هو الحقّ، وهو مذهب السّلف: يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "ما وجدتّ أحداً من أهل العلم من السلف جعل آيات الصّفات من المتشابه" على كثرة إطّلاعه وتتبُّعه. ويُستفاد من نصوص الباب فوائد عظيمة: الفائدة الأولى: أن إنكار الأسماء والصّفات كفر لقوله تعالى: "{وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}"، ولكنّه كفرٌ فيه تفصيل قد يكون كفراً أكبر مخرج من المِلّة، وقد يكون كفراً أصغر لا يُخرج من الملّة لكنّه ضلال، وهذا بحسب حال النّافي للأسماء والصّفات: هل هو مقلِّد أو غير مقلِّد؟، هل هو متأوِّل أو غير متأوِّل؟. الفائدة الثانية: في قول عليّ رضي الله عنه: "حدِّثوا الناس بما يعرِفون" فيه: أنه يجب على المتحدِّث في خطبة أو في درس أو في موعظة أو في محاضرة أن يتحدّث بما يناسِب حال المستمعين وما ينفعهم، ولا يأتي لهم بالغرائب والأشياء التي لا يفهمونها، لأنّ هذه الأشياء إن لم تكن صحيحة فقد كذَب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالذي يروِّجه بعضُ القُصّاص من الأحاديث المكذوبة والموضوعة، وإن كانت ثابتة عن الرّسول صلى الله عليه وسلم فإنّه يكون قد تسّبب في استنكار الحاضرين لها وجحدهم لها، فيكون هو السّبب الذي حملهم على ذلك. الفائدة الثالثة: أيضاً في قول عليّ رضي الله عنه طلب التدرُّج في تعليم النّاس، فيبدأ بصغار المسائل، ثم يُنتَقل إلى كِبارها، هذا هو الطّريق الصحيح للتّعليم، أما أن يؤتى بكبار المسائل للمبتدئين فهذا خطأ في طريقة التعليم. ج / 2 ص -146- الفائدة الرابعة: في قول ابن عبّاس رضي الله عنهما دليلٌ على أنّ نصوص الصّفات من المحكَم، وأنّها تُذكَر عند الناس، لا يُتحاشى من ذكرها، لأنّها واضحة المعاني، لا إشكال فيها، ولذلك جاءت في القُرآن، والقرآن يتلوه العوام ويتلوه المتعلِّمون. الفائدة الخامسة: فيه دليل على أنّ أهل الزيغ يتبعون المتشابه ويترُكون المحكَم. الفائدة السّادسة: فيه- أيضاً- دليل على إنكار المنكَر، لأنّ ابن عبّاس رضي الله عنهما ما استنكر على هذا الرّجل، وبيّن السبب الذي حمله على ما حصل منه من الرِّعدة، وأنّه من أهل الزّيغ الذين ينكرون المحكَم ويتّبعون المتشابه. الفائدة السابعة: أنّ أوّل مَن جحد الأسماء والصّفات هم المشركون، فيكونون أئمّة للجهميّة والمعتزلة ومَن نحا نحوَهم، وبئْس الأئمَّة والقُدوة، نسأل الله العافية والسّلامة. هذا، وبالله التّوفيق. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#45
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}. ج / 2 ص -147- [الباب الواحد والأربعون:] * باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}. هذا الباب ذكره الشيخ رحمه الله بعد باب "مَن جحد شيئاً من الأسماء والصّفات"، لأنّه مِن جنسه، فيه تنقُّصٌ للرُّبوبيّة، فالذي يجحد الأسماء والصّفات قد تنقَّص الربوبيّة، وكذلك الذي يُضيفُ النّعم إلى غير الله سبحانه وتعالى قد تنقّص الرّبوبيّة. فهذه الآية التي ذكرها في الترجمة، وهي قولُه سبحانه وتعالى: "{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ(83)}" هي من سورة النّحل، وسورة النّحل تسمّى سورة النِّعَم، لأنّ الله سبحانه وتعالى عدّد فيها كثيراً من نعمه على عباده، وقال فيها: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(18)}، وأوّل النِّعمَ التي ذكرها الله في هذه السّورة نعمة إرسال الرُّسل، وإنزال الوحي لهداية عباده. ثم النعمة بخلق الإنسان، وما جعل فيه من الأعضاء الكبيرة والصغيرة الدّقيقة، وما جعل فيه من بديع الصّنعة. ثم النّعم في خلق بهيمة الأنعام التي فيها الجمال، وفيها منافعهم من الرُّكوب والحمل والألبان واللحوم، وغير ذلك. وكذلك: المراكِب البحريّة التي تقطَعُ بهم عُباب الماء. وكذلك: ما أنبت في الأرض من صُنوف النباتات التي فيها أرزاق العباد وفيها أدويتُهم وفيها مراعي لأنعامهم. وكذلك: ما جعل فيها من العلامات التي يهتدي بها المسافرون في البرّ والبحر: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ(16)}. ومن ذلك: نعمة المشارب من الماء واللَّبَن والعسل. وكذلك: نعمة المساكن التي يسكُنون فيها فتُؤويهم من الحرّ والبرْد، فيتحصّنون بها من عدوّهم: البيوت الثّابتة، والبُيوت المتنقِّلة: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ}. وكذلك: نعمة الملابس التي يلبسونها: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ج / 2 ص -148- وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} ملابس الأبداًن التي يستُرون بها عوراتهم، ويُجمِّلون بها هيئاتهم، وملابس الدُّروع التي تقيهم من سلاح العدو. كلُّ هذه النعم من الله سبحانه وتعالى. ثم قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ(82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ(83)}. والمفسِّرون- رحمهم الله- ذكروا أقوالاً في تفسير هذه الآية، وكلّها صحيحة، ولا تناقُض بينها، لأنّها كلّها تدخُل في نعمة الله، وكلُّ منهم يذكُر مثالاً من هذه النعم. فأقوال المفسّرين لا تناقض بينها، واختلافهم- كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية-: اختلافُ تنوُّع، وليس هو اختلاف تضادّ، لأنّ الآية - أو الآيات- تحتمِل عدّة معان، فكلّ واحدٍ من المفسِّرين يأخذ معنىً من هذه المعاني، فإذا جمعتها وجدتّ أنّ الآية- أو الآيات- تتضمّن هذه المعاني الّتي قالوها جميعاً. فمنهم مَن قال: المراد بقوله: "{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ}": بِعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شكّ أنّ هذه النعمة هي أكبرُ النعم، ولذلك صدّر السّورة بذكر بعثة الرُّسل: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ(2)}، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ(107)}. ومنهم مَن قال: المراد بالنعمة: كلّ ما ذكره الله في هذه السّورة من أصناف النِّعَم. لأن قوله: "{نِعْمَتَ اللَّهِ}" مفرد مضاف، فيعم جميع النِّعم، فقولُه تعالى: "{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ}" أي: يعرفون نِعَمَ الله المذكورة في هذه السورة، ولا يجحدونها في قَرارة أنفسهم، فيعرفون بقلوبهم أنّها من الله، ولكنّهم بألسِنَتهم ينسِبونها إلى غير الله سبحانه وتعالى، أو بالعكس؛ يتلفّظون بأنّ هذه النِّعَم من الله ولكنّهم في قلوبهم يعتقدون أنها من غيره. ولهذا يقولُ العلماء: أركانُ الشكر ثلاثة لا يصحّ الشّكر إلاّ بها: الركن الأوّل: التحدُّث بها ظاهراً، كما قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(11)}. ج / 2 ص -149- قال مجاهدٌ- ما معناه-: "هو قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي". وقال عونُ بن عبد الله: "يقولون: لولا فلان لم يكن كذا". الركن الثاني: الاعتراف بها باطناً، يعني: تعتَرِف في قَرارة نفسك أنّها من الله سبحانه وتعالى، فيكون قلبُك موافِقاً للسانك من الاعتراف بأنّها من الله. الرُّكن الثالث: صرفُها في طاعة موليها ومُسْدِيها وهو الله سبحانه وتعالى، بمعنى: أن تستعين بها على طاعة الله، فإنِ استعنْتَ بها على معصية الله فإنك لا تكون شاكراً لها. "{ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}" المُراد بإنكارها: جُحودُها، إما باللّسان وإمّا بالقلب، بأن تُنسَب إلى غير مَن أنعم بها، إما أن تُنسب إلى الأسباب، وإمّا أن تُنسب إلى الأصنام والآلِهة، وإمّا أن تُنسب إلى الآباء والأجداد، وإمّا أن تُنسب إلى كَدِّ العبد وكسبِه وحِذْقِه ومعرِفَته وإما بصرفها في معصية الله. فما ذكره الشيخ رحمه الله في هذا الباب إنّما هو أمثلة لكُفران النعمة. قوله: "قال مجاهد" وهو مجاهد بن جَبْر، الإمام التّابعي الجليل، يفسِّر الآية بقول الرجل: "هذا مالي ورثته عن آبائي"، فلا يَنْسب حصول المال إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما ينسِبُه إلى آبائه وأجداده. وكذلك إذا نسبه إلى كَدِّه وكسبه وحِذْقِه ومعرفته، فإنّ هذا جُحود لنعمة الله، لأنّ المال فضلٌ من الله سبحانه وتعالى، أما الحِذْق والكسب ومعرفة الصنعة فهذه أسباب قد تُنْتِجْ مسبَّباتِها وقد لا تُنْتِج، فكم من حاذِق وكم من عالم وكم من صانع يُحْرَم من الرّزق ولا تُغنيه صنعته شيئاً، فهذا فضلٌ من الله سبحانه وتعالى، وأما هذه فهي أسبابٌ إن شاء الله نفعتْ وإنْ شاء لم تنفع. قوله: "وقال عونُ بن عبد الله، هو: عَوْن بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود الهُذَلي: إمامٌ جليل. "يقولون: لولا فلان لم يكن كذا" وهذا لا يجوز، لأن فيه نِسبة النعمة إلى غير الله، والذي يجوز ما أرشد إليه النّبي صلى الله عليه وسلم، أن تقول: "لولا الله، ثُمَّ فلان"، لأنّك نسبت النعمة إلى الله، وذكَرْتَ أنّ فلاناً إنّما هو سببٌ فقط، لأنّ (ثُمَّ) للترتيب والتعقيب. قوله: "وقال ابنُ قُتَيْبَة" ابن قُتيبة هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قُتيبة الدِّيْنَوَرِي، إمامٌ في النحو، واللّغة، والتّفسير، وله كتبٌ مشهورة، منها: "كتاب التفسير"، وكتاب " المعارِف". "يقولون: هذا بشفاعة آلِهتَنا" يعني: يقول المشركون: هذا الذي حصل من الخير ومن النّفع إنما هو بشفاعة آلهتنا. يعني: أنّ آلهتهم شفعتْ عند الله في حصولها، لأنّ المشركين الذين يعبُدون غير الله لا يعتقدون أن معبوداتهم هي التي تخلُق وترزُق، وإنما يعبدونها لاعتقاد أنّها تشفَع لهم عند الله، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، وقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، فهم يعتقدون أنّ هذه المعبودات تشفع لهم عند الله، وهذا كذِب، لأنّ الله بيّن الشفاعة الصحيحة، وهي ما توفّر فيها شرْطان: إذْنُ الله للشّافع أن يشفع، ورضاهُ عن المشفوع فيه بأن يكون من أهل التّوحيد. والمشركون يتقرّبون بأنواع القربات إلى هذه الأوثان، ويذبحون لها، وينذُرون لها، ويطوفون بها، ويقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، مثل حالة عُبّاد القبور ا ليوم، يذبحون للقُبور، وينذُرون للقبور، ويهتِفون بها، ويستغيثون بها، ويستصرخون بها، ويقولون: نحن لا نعتقد أنها تخلُق وترزُق، إنما هي شفعاء عند الله. وكذَبوا في ذلك، فإنّ الله سبحانه وتعالى لا يرضى بهذا ولم يكن هؤلاء شفعاء عنده سبحانه وتعالى. ومن ذلك قولهم: هذا بشفاعة آلِهَتنا. يقولون: إنّ هذه النعم إنما هي بسبب آلهتنا وبشفاعتها عند الله، كما يقول القبوريّ: هذا بسبب الوليّ فلان، بسبب عبد القادر، بسبب العَيْدَرُوس، بسبب البَدَويّ، وهذا يدخُل في قوله: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} بمعنى: أنهم ينسِبون نعمة الله إلى هذه المعبودات من دون الله عزّ وجلّ. فهذه طريقة المشركين قديماً وحديثاً. ج / 2 ص -151- وقال أبو العبّاس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: أنّ الله سبحانه وتعالى قال: "أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافر..." الحديث- وقد تقدّم-: وهذا كثير في الكتاب والسنّة؛ يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به. قوله: "قال أبو العبّاس" أبو العبّاس كنية شيخ الإسلام أحمد بن تيميّة. "بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: أنّ الله سبحانه وتعالى قال: "أصبَحَ مِنْ عبادي مؤمنٌ بي وكافر فأمّا مَنْ قال: مُطِرْنا بفضل الله وبرحمته، فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكب.وأما مَن قال: مُطِرْنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافرٌ بي مؤمنٌ بالكوكب". ثم قال أبو العبّاس رحمه الله: "يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به" فكل من أضاف نعم الله إلى غيره فقد كفر نعمة الله، وأشرك به. وهذا الشرك وكفر النعمة ليس من الكفر والشرك المخرِج من الملّة، إذا كان الإنسان يعتقد أنّ إضافة النعمة إلى الشيء من إضافة المسبّب إلى سببه، وإنّما المنعم هو الله، وأضافها إلى السبب مجرّد مجاز، فهذا كفرٌ أصغر. أما إذا اعتقد أنّ النعم من إحداث المخلوق ومن صُنع المخلوق، فإنّ هذا كفرٌ أكبر يُخرِجُ من الملّة. فالواجب أن تُضاف النعم إلى الله سبحانه وتعالى. فكلّ مَن أضاف النعمة إلى غير الله، فإنّ هذا كفرٌ بالله، إما أنْ يكون كفراً أكبر، وإما أن يكون كفراً أصغر، بحسَب ما يقوم باعتقاد الشّخص وقَرارة نفسه، فليحاسِب الإنسان نفسه عند ذلك. ومن ذلك: ما يجري على ألسنة بعض الصحفييّن وكثير من الإعلاميِّين الذين ينسِبون الأشياء إلى أسبابها، فيقولون: "المطر ناتج عن انخفاض جويّ، أو عن المناخ" وما أَشبه ذلك. فالذي يُضيف المطر إلى وقته أو إلى الكوكب أو إلى النّوء، فهو من هذا الباب، كما في حديث زيد بن خالد: "أصبَحَ مِن عبادي مؤمنٌ بي وكافر" نعم: المناخ أو الانخفاض الجويّ سبب، لكن الذي ينزِّل المطر ويكوِّن المطر هو الله سبحانه وتعالى، ليس لهذه الأسباب تدخُّلٌ في إيجاد المطر أو إحداث المطر. ج / 2 ص -152- قال بعضُ السلف: هو كقولهم: كانت الرّيح طيِّبة والملاّح حاذِقاً... ونحو ذلك ممّا يجري على السنّة كثير. وقد حصل- ويحصُل- أنّ هناك مناخات كانت تهطُل فيها الأمطار بكثرة، ولكن يأتي وقتٌ من الأوقات تُقْفِر هذه المناخات وتُجْدِب، فكثير من القارّات وإنْ كانت معروفة بكثرة المطر وتواصُل المطر عليها يحصُل فيها الجدْب، كما يقولون عنه: الجفاف، في أمريكا وفي أوروبّا وفي أفريقيا حصل جفافٌ كثير، وهلكت خلائق كثيرة من الأموال ومن الأنفُس، وما نفعهم المناخ، هذا بيد الله سبحانه وتعالى، وفي تقدير الله سبحانه وتعالى. قال المصنف: "قال بعضُ السَّلف" المراد بالسَّلَف: القُرون المفضَّلة، وصَدْر هذه الأمة، وهم محلّ القُدوة، لقُرْب عهدهم من النّبي صلى الله عليه وسلم ومن صحابته الكِرام. وأمّا مَن جاء بعدهم فيُقال لهم: الخَلَف، فمن كان من الخَلَف يسير على منهج السلَف فهو لاحقٌ بهم، ومن تخلَّف عن منهج السَّلَف فإنّه هالك، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا}، ويقول سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ}. قوله: "هو كقولهم: كانت الريح طيِّبة، والملاّحُ حاذقاً" يعني أن من إنكارهم لنعمة الله أنهم إذا ساروا في البحر في السُّفُن التي كانت تسير بالرِّيح إذا نجوا من البحر وخرجوا إلى البر يُثنون على الرِّيح وعلى الملاّح، ولا يقولون: هذا بفضل الله، بل يقولون: كانت الريح التي حملت السفينة طيِّبة. "وكان الملاّح حاذِقاً" الملاّح هو: قائد السفينة، سمّى ملاّحاً لملازمته للماء المِلْح، لأنّ مياه البحار مالحة، فالذي يقود السفينة يقال له: ملاّح، لأنّه يسير على الماء المِلْح والحاذق: الذي يجيد المهنة. وكان الواجب عليهم أن يقولوا: أنّ الله هو الذي نجّانا، وهو الذي سخّر لنا الرّيح الطيِّبة، وهو الذي أقدر قائد السّفينة وألهمه أن يقودها إلى برّ السلامة. أما أن يقولوا: إنّ نجاتنا وخُروجنا إلى البر بسبب طيب الريح وحِذْق القائد، فهذا كفرٌ بنعمة الله سبحانه وتعالى. وقوله: "ونحو ذلك ممّا يجري على ألسنة كثير" يعني: نحو هذه الألفاظ ممّا يجري على ألسنة كثيرٍ من النّاس من نِسْبة النِّعَم إلى غير الله سبحانه وتعالى، إمّا من باب التساهُل في التعبير، وإمّا من باب سوء الاعتقاد، فإنْ كان من سوء الاعتقاد فهو كفرٌ ج / 2 ص -153- يخرج من الملّة، وإنْ كان من باب الإساءة في التعبير مع الاعتقاد بأنّ الله هو الذي أوجد هذا الشيء: فهذا كفرٌ أصغر، يسمّى بكفر النّعمة. فهذا الباب باب جليل لأنّه يعالِج مشكلة يقع فيها كثيرٌ من النّاس ولا يحسِبون لها حساباً، ويتكلّمون بكلام يظنّونه هيّناً وهو عند الله عظيم: حيث إنّهم ينسبون نعم الله تعالى إلى غيره، ولا يشكرون الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال: "ونحو ذلك ممّا يجري على ألسنة كثير" فهذا تنبيهٌ لنا أن لا نقع في هذه المزالِق، حتى إنّ ابن عبّاس رضي الله عنه فسّر قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قال: "هو قول الرّجل: "لولا الله وفلان"، "ما شاء الله وشئت"، "لو لا كُلَيْبَةُ هذا لأتانا اللُّصوص"، "لولا البّط في الدّار لأتانا اللّصوص"، وما أشبه ذلك من الألفاظ وعد هذا من اتّخاذ الأنداد لله تعالى. فهذه مسائل هي في عُرْف النّاس سهلة، ولكنّها خطيرة جدًّا، لأنها كفرٌ بنعمة الله سبحانه وتعالى وإساءةُ أدبٍ مع جَناب الرّبوبيّة. فيُستفاد من هذه الآية بتفاسير السلف التي ذكرها الإمام رحمه الله مسائل: المسألة الأولى: أنّ إضافة النعم إلى الله سبحانه وتعالى من الإيمان بالله. المسألة الثانية: أنّ إضافة النعم إلى غير الله من الكفر بالله سبحانه وتعالى. المسألة الثالثة: في الآية وأقوال السلف: دليلٌ على عدم جواز نِسبة الأشياء إلى أسبابها، وأنّ ذلك من كفر النعمة، لأنّه معلومٌ أنّ الريح الطيِّبة سببٌ لجريَان السفينة، وأنّ حِذْق الملاّح سبب لجريَان السفينة، ولكن إذا أضاف النتيجة الطيِّبة إلى هذين السّببين صار ذلك من الكفر بنعمة الله. المسألة الرّابعة: كما قال الشيخ رحمه الله في مسائل الباب: "فيه: اجتماعُ الضّدين في القلب؛ الكفر والإيمان" أخذاً من قوله تعالى: "{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}"، ففيها: اجتماع الإقرار والإنكار، والكفر والإيمان في القلب، فأيّهما غلب على صاحبه صار من أصحابه. المسألة الخامسة: أنّ كفر النعمة يكثُر وُقوعه في النّاس، ولهذا قال: "مما يجري على ألسنة كثير"، فهذا ممّا يوجِب الحذر منه، وأن الإنسان لا يجري على العوائد المخالفة للشرع. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 5 ( الأعضاء 0 والزوار 5) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
[جمع] الجمع الثمين لكلام أهل العلم في المصرّين على المعاصي والمدمنين | أبو عبد الودود عيسى البيضاوي | منبر التوحيد وبيان ما يضاده من الشرك | 0 | 13-09-2011 09:33PM |
أقوال العلماء السلفيين في حكم من حكَّم القوانين | أبو حمزة مأمون | منبر التحذير من الخروج والتطرف والارهاب | 0 | 10-06-2010 01:51AM |
(الشيخ ربيع بين ثناء العلماء ووقاحة السفهاء) | أبوعبيدة الهواري الشرقاوي | منبر الجرح والتعديل | 0 | 21-12-2008 12:07AM |
مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد | أبو عبد الرحمن السلفي1 | منبر التوحيد وبيان ما يضاده من الشرك | 4 | 08-11-2007 12:07PM |
صحيح المقال في مسألة شد الرحال (رد على عطية سالم ) | ماهر بن ظافر القحطاني | منبر البدع المشتهرة | 0 | 12-09-2004 12:02PM |