|
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | التقييم: | انواع عرض الموضوع |
#31
|
|||
|
|||
بسم الله الحمن الرحيم
القول المفيد على كتاب التوحيد باب: ما جاء في التنجيم ج / 2 ص -5- باب: ما جاء في التنجيم: التنجيم: مصدر نجّم بتشديد الجيم; أي: تعلم علم النجوم، أو اعتقد تأثير النجوم. وعلم النجوم ينقسم إلى قسمين: 1- علم التأثير. 2- علم التسيير. فالأول: علم التأثير. وهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أ: أن يعتقد أن هذه النجوم مؤثرة فاعلة، بمعنى أنها هي التي تخلق الحوادث والشرور; فهذا شرك أكبر; لأن من ادعى أن مع الله خالقا; فهو مشرك شركا أكبر; فهذا جعل المخلوق المسخر خالقا مُسَخِّرًا. ب: أن يجعلها سببا يدعي به علم الغيب; فيستدل بحركاتها وتنقلاتها وتغيراتها على أنه سيكون كذا وكذا; لأن النجم الفلاني صار كذا وكذا، مثل أن يقول: هذا الإنسان ستكون حياته شقاء; لأنه ولد في النجم الفلاني، وهذا حياته ستكون سعيدة; لأنه ولد في النجم الفلاني; فهذا اتخذ تعلم النجوم وسيلة لا دعاء علم الغيب، ودعوى علم الغيب كفر مخرج عن الملة; لأن الله يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} [سورة النمل: من الآية 65] وهذا من أقوى أنواع الحصر; لأنه بالنفي والإثبات، فإذا ادعى أحد علم الغيب; فقد كَذَّب القرآن. ج / 2 ص -6- ج: أن يعتقدها سببا لحدوث الخير والشر، أي أنه إذا وقع شيء نسبه إلى النجوم، ولا ينسب إلى النجوم شيئا إلا بعد وقوعه; فهذا شرك أصغر. فإن قيل: ينتقض هذا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله في الكسوف: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده"1؛ فمعنى ذلك أنهما علامة إنذار. فالجواب من وجهين: الأول: أنه لا يُسلَّم أن للكسوف تأثيرا في الحوادث والعقوبات، من الجدب والقحط والحروب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته" لا في ما مضى ولا في المستقبل، وإنما يخوف الله بهما العباد لعلهم يرجعون، وهذا أقرب. الثاني: أنه لو سلمنا أن لهما تأثيرا; فإن النص قد دل على ذلك، وما دل عليه النص يجب القول به، لكن يكون خاصا به. لكن الوجه الأول هو الأقرب: أننا لا نسلم أصلا أن لهما تأثيرا في هذا; لأن الحديث لا يقتضيه; فالحديث ينص على التخويف، والمخوف هو الله تعالى، والمخوف عقوبته، ولا أثر للكسوف في ذلك، وإنما هو علامة فقط. الثاني: علم التسيير. وهذا ينقسم إلى قسمين: الأول: أن يستدل بسيرها على المصالح الدينية; فهذا مطلوب، وإذا 1 أخرجه: البخاري في (الكسوف, باب الصدقة في الكسوف/1/328), ومسلم في (الكسوف, باب صلاة الكسوف/2/618). ج / 2 ص -7- قال البخاري في " صحيحه": "قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث.... كان يعين على مصالح دينية واجبة كان تعلمها واجبا، كما لو أراد أن يستدل بالنجوم على جهة القبلة; فالنجم الفلاني يكون ثلث الليل قبلة، والنجم الفلاني يكون ربع الليل قبلة; فهذا فيه فائدة عظيمة. الثاني: أن يستدل بسيرها على المصالح الدنيوية; فهذا لا بأس به، وهو نوعان: النوع الأول: أن يستدل بها على الجهات; كمعرفة أن القطب يقع شمالا، والجدي وهو قريب منه يدور حوله شمالا، وهكذا; فهذا جائز، قال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [سورة النحل: الآية 16]. النوع الثاني: أن يستدل بها على الفصول، وهو ما يعرف بتعلم منازل القمر; فهذا كرهه بعض السلف، وأباحه آخرون. والذين كرهوه قالوا: يخشى إذا قيل: طلع النجم الفلاني; فهو وقت الشتاء أو الصيف: أن بعض العامة يعتقد أنه هو الذي يأتي بالبرد أو بالحر أو بالرياح. والصحيح عدم الكراهة; كما سيأتي إن شاء الله1. قوله: في أثر قتادة: "خلق الله هذه النجوم لثلاث"، اللام للتعليل; أي: لبيان العلة والحكمة. قوله: "لثلاث": ويجوز لثلاثة، لكن الثلاث أحسن، أي: لثلاث حكم، لهذا حذف تاء التأنيث من العدد. 1 انظر: ص (10). ج / 2 ص -8- زينة للسماء،... والثلاث هي: الأولى: زينة للسماء، قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ}[الملك: من الآية5] لأن الإنسان إذا رأى السماء صافية في ليلة غير مقمرة وليس فيها كهرباء يجد لهذه النجوم من الجمال العظيم ما لا يعلمه إلا الله; فتكون كأنها غابة محلاة بأنواع من الفضة اللامعة، هذه نجمة مضيئة كبيرة تميل إلى الحمرة، وهذه تميل إلى الزرقة، وهذه خفيفة، وهذه متوسطة، وهذا شيء مشاهد. وهل نقول: إن ظاهر الآية الكريمة أن النجوم مرصعة في السماء، أو نقول: لا يلزم ذلك؟ الجواب: لا يلزم من ذلك أن تكون النجوم مرصعة في السماء، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الانبياء: الآية33] أي: يدورون، كل له فلك. وأنا شاهدت بعيني أن القمر خسف نجمة من النجوم، أي غطاها، وهي من النجوم اللامعة الكبيرة كان يقرب حولها في آخر الشهر، وعند قرب الفجر غطاها; فكنا لا نراها بالمرة، وذلك قبل عامين في آخر رمضان. إذن هي أفلاك متفاوتة في الارتفاع والنزول، ولا يلزم أن تكون مرصعة في السماء. فإن قيل: فما الجواب عن قوله تعالى: {زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} [الملك: من الآية5]؟ قلنا: إنه لا يلزم من تزيين الشيء بالشيء أن يكون ملاصقا له، أرأيت لو أن رجلا عمر قصرا وجعل حوله ثريات من الكهرباء كبيرة وجميلة، وليست على جدرانه; فالناظر إلى القصر من بعد يرى أنها زينة له، وإن لم تكن ملاصقة له. ج / 2 ص -9- ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك; أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به"1 انتهى. الثانية: رجوما للشياطين; أي: لشياطين الجن، وليسوا شياطين الإنس; لأن شياطين الإنس لم يصلوا إليها، لكن شياطين الجن وصلوا إليها; فهم أقدر من شياطين الإنس، ولهم قوة عظيمة نافذة، قال تعالى عن عملهم الدال على قدرتهم: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ}، [صّ:37]، أي: سخرنا لسليمان: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}، [صّ:38]، وقال تعالى: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ}، [النمل: من الآية39]، أي: من سبأ إلى الشام، وهو عرش عظيم لملكة سبأ; فهذا يدل على قوتهم وسرعتهم ونفودهم. وقال تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً}، [الجن:9]. والرجم: الرمي. الثالثة: علامات يهتدى بها، تؤخذ من قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}، [النحل:15-16]، فذكر الله تعالى نوعين من العلامات التي يهتدى بها: الأول: أرضية، وتشمل كل ما جعل الله في الأرض من علامة; كالجبال، والأنهار، والطرق، والأودية، ونحوها. والثاني: أفقية في قوله تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}. والنجم: اسم جنس يشمل كل ما يهتدى به، ولا يختص بنجم معين; لأن لكل قوم طريقة في الاستدلال بهذه النجوم على الجهات، 1 علقه بصيغة الجزم البخاري في (بدء الخلق, باب في النجوم/2/420). ج / 2 ص -10- وكَرِه قتادة تعلم منازل القمر. ولم يرخص ابن عيينة فيه. ذكره حرب عنهما. ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق. سواء جهات القبلة أو المكان، برا أو بحرا. وهذا من نعمة الله أن جعل علامات علوية لا يحجب دونها شيء، وهي النجوم; لأنك في الليل لا تشاهد جبالا ولا أودية، وهذا من تسخير الله، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ}، [الجاثية: من الآية13]. قوله: "وكره قتادة تعلم منازل القمر": أي: كراهة تحريم؛ بناء على أن الكراهة في كلام السلف يراد بها التحريم غالبا. وقوله: "تعلم منازل القمر" يحتمل أمرين: الأول: أن المراد به معرفة منزلة القمر، فالليلة يكون في الشرطين، ويكون في الإكليل، فالمراد معرفة منازل القمر كل ليلة; لأن كل ليلة له منزلة حتى يتم ثمانيا وعشرين، وفي تسع وعشرين وثلاثين لا يظهر في الغالب. الثاني: أن المراد به تعلم منازل النجوم; أي: يخرج النجم الفلاني في اليوم الفلاني، وهذه النجوم جعلها الله أوقاتا للفصول; لأنها [28] نجما، منها [ 14] يمانية و [14] شمالية; فإذا حلت الشمس في المنازل الشمالية صار الحر، وإذا حلت في الجنوبية صار البرد، ولذلك كان من علامة دنو البرد خروج سهيل، وهو من النجوم اليمانية. قوله: "ولم يرخص فيه ابن عيينة": هو سفيان بن عيينة المعروف، وهذا يوافق قول قتادة بالكراهة. قوله: "ذكره حرب": من أصحاب أحمد، روى عنه مسائل كثيرة. قوله: "إسحاق": هو إسحاق بن راهويه. ج / 2 ص -11- وعن أبي موسى; قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر،... والصحيح أنه لا بأس بتعلم منازل القمر; لأنه لا شرك فيها; إلا إن تعلمها ليضيف إليها نزول المطر وحصوله البرد، وأنها هي الجالبة لذلك; فهذا نوع من الشرك، أما مجرد معرفة الوقت بها: هل هو الربيع، أو الخريف، أو الشتاء; فهذا لا بأس به. قوله في حديث أبي موسى: "الجنة": هي الدار التي أعدها الله لأوليائه المتقين، وسميت بذلك; لكثرة أشجارها لأنها تجن من فيها أي تستره. قوله: "مدمن خمر": هو الذي يشرب الخمر كثيرا، والخمر حده الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "كل مسكر خمر"1، ومعنى "أسكر"; أي: غطى العقل، وليس كل ما غطى العقل فهو خمر; فالبنج مثلا ليس بخمر، وإذا شرب دهنا فأغمي عليه; فليس ذلك بخمر، وإنما الخمر الذي يغطي العقل على وجه اللذة والطرب; فتجد الشارب يحس أنه في منزلة عظيمة، وسعادة، وما أشبه ذلك، قال الشاعر: وأسدا ما يهنئها اللقاء ونشربها فتتركنا ملوكا وقال حمزة بن عبد المطلب- وكان قد سكر قبل تحريم الخمر- للنبي صلى الله عليه وسلم: "وهل أنتم إلا عبيد أبي"2 فالذي يغطي العقل على سبيل 1 أخرجه مسلم في (الأشربة, باب بيان أن كل مسكر خمر/3/1587) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. 2 أخرجه البخاري في (فرض الخمس, باب فرض الخمس/2/385), ومسلم في (الأشربة, باب تحريم الخمر/3/1568); من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ج / 2 ص -12- وقاطع الرحم،.... اللذة محرم بالكتاب والسنة، ومن استحله; فهو كافر، إلا إن كان ناشئا ببادية بعيدة، أو حديث عهد بالإسلام، ولا يعلم الحكم الشرعي في ذلك; فإنه يعرف ولا يكفر بمجرد إنكاره تحريمه. قوله: "قاطع الرحم": الرحم: هم القرابة، قال تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، [لأنفال: من الآية75]، وليس كما يظنه العامة أنهم أقارب الزوجين; لأن هذه تسمية غير شرعية، والشرعية في أقارب الزوجين: أن يسموا أصهارا. ومعنى قاطع الرحم أن لا يصله، والصلة جاءت مطلقة في الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}، [الرعد: من الآية21]، ومنه الأرحام وما جاء مطلقا غير مقيد; فإنه يتبع فيه العرف كما قيل: وكل ما أتى ولم يحدد بالشرع كالحرز فبالعرف احدد1 فالصلة في زمن الجوع والفقر: أن يعطيهم ويلاحظهم بالكسوة والطعام دائما، وفي زمن الغنى لا يلزم ذلك. وكذلك الأقارب ينقسمون إلى قريب وبعيد; فأقربهم يجب له من الصلة أكثر مما يجب للأبعد. ثم الأقارب ينقسمون إلى قسمين من جهة أخرى: قسم من الأقارب يرى أن لنفسه حقا لا بد من القيام به، ويريد أن تصله دائما، وقسم آخر يقدر الظروف وينزل الأشياء منازلها; فهذا له حكم، وذلك له حكم. والقطيعة يرجع فيها إلى العرف; إلا أنه يستثنى من ذلك مسألة، وهي: ما لو كان العرف عدم الصلة مطلقا، بأن كنا في أمة تشتتت 1 انظر: "منظومة الشارح" حفظه الله (ص 3). ج / 2 ص -13- ومصدق بالسحر". رواه أحمد وابن حبان في " صحيحه "1. وتقطعت عرى صلتها كما يعرف الآن في البلاد الغربية; فإنه لا يعمل حينئذ بالعرف، ونقول: لا بد من صلة، فإذا كان هناك صلة في العرف اتبعناها، وإذا لم يكن هناك صلة; فلا يمكن أن نعطل هذه الشريعة التي أمر الله بها ورسوله. والصلة ليس معناها أن تصل من وصلك; لأن هذا مكافأة، وليست صلة; لأن الإنسان يصل أبعد الناس عنه إذا وصله، إنما الواصل; كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم "من إذا قطعت رحمه وصلها"2 هذا هو الذي يريد وجه الله والدار الآخرة. وهل صلة الرحم حق لله أو للآدمي؟ الظاهر أنها حق للآدمي، وهي حق لله باعتبار أن الله أمر بها. قوله: "ومصدق بالسحر": هذا هو شاهد الباب، ووجهه أن علم التنجيم نوع من السحر، فمن صدق به; فقد صدق بنوع من السحر، فقد سبق: "أن من اقتبس شعبة من النجوم; فقد اقتبس شعبة من السحر"3، والمصدق به هو المصدق بما يخبر به المنجمون، فإذا قال المنجم: سيحدث كذا وكذا، وصدق به، فإنه لا يدخل الجنة; لأنه صدق بعلم 1 أخرجه أحمد (4/339), وابن حبان (1380, 1381), وأبو يعلى, والطبراني; كما في "المجمع" (5/74). قال الهيثمي: "رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني, ورجال أحمد وأبي يعلى ثقات". وأخرجه الحاكم أيضا (4/146), وقال: "صحيح الإسناد, ولم يخرجاه", ووافقه الذهبي. 2 أخرجه: البخاري في (الآداب, باب ليس الواصل بالمكافئ/4/90) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. 3 سبق (1/521). ج / 2 ص -14- الغيب لغير الله، قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ}، [النمل: من الآية65]. فإن قيل: لماذا لا يجعل السحر هنا عاما ليشمل التنجيم وغير التنجيم؟ أجيب: أن المصدق بما يخبره به السحرة من علم الغيب يشمله الوعيد هنا، وأما المصدق بأن للسحر تأثيرا; فلا يلحقه هذا الوعيد; إذ لا شك أن للسحر تأثيرا، لكن تأثيره تخييل، مثل ما وقع من سحرة فرعون حيث سحروا أعين الناس حتى رأوا الحبال والعصي كأنها حيات تسعى، وإن كان لا حقيقة لذلك، وقد يسحر الساحر شخصا فيجعله يحب فلانا ويبغض فلانا; فهو مؤثر، قال تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِه}، [البقرة: من الآية102]، فالتصديق بأثر السحر على هذا الوجه لا يدخله الوعيد لأنه تصديق بأمر واقع. أما من صدق بأن السحر يؤثر في قلب الأعيان بحيث يجعل الخشب ذهبا أو نحو ذلك; فلا شك في دخوله في الوعيد; لأن هذا لا يقدر عليه إلا الله عز وجل. وقوله: "ثلاثة لا يدخلون الجنة" هل المراد الحصر وأن غيرهم يدخل الجنة؟ الجواب: لا; لأن هناك من لا يدخلون الجنة سوى هؤلاء; فهذا الحديث لا يدل على الحصر. وهل هؤلاء كفار لأن من لا يدخل الجنة كافر؟ اختلف أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من أحاديث الوعيد على أقوال: ج / 2 ص -15- القول الأول: مذهب المعتزلة والخوارج الذين يأخذون بنصوص الوعيد، فيرون الخروج من الإيمان بهذه المعصية، لكن الخوارج يقولون: هو كافر، والمعتزلة يقولون: هو في منزلة بين المنزلتين، وتتفق الطائفتان على أنهم مخلدون في النار، فيجرون هذا الحديث ونحوه على ظاهره، ولا ينظرون إلى الأحاديث الأخرى الدالة على أن من في قلبه إيمان وإن قل; فإنه لا بد أن يدخل الجنة. القول الثاني: أن هذا الوعيد فيمن استحل هذا الفعل بدليل النصوص الكثيرة الدالة على أن من في قلبه إيمان وإن قل; فلا بد أن يدخل الجنة، وهذا القول ليس بصواب; لأن من استحله كافر ولو لم يفعله، فمن استحل قطيعة الرحم أو شرب الخمر مثلا; فهو كافر وإن لم يقطع الرحم ولم يشرب الخمر. القول الثالث: أن هذا من باب أحاديث الوعيد التي تمر كما جاءت ولا يتعرض لمعناها، بل يقال: هكذا قال الله وقال رسوله ونسكت. فمثلا: قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}، [النساء:93]، هذه الآية من نصوص الوعيد; فنؤمن بها، ولا نتعرض لمعناها ومعارضتها للنصوص الأخرى، ونقول: هكذا قال الله، والله أعلم بما أراد، وهذا مذهب كثير من السلف; كمالك وغيره، وهذا أبلغ في الزجر. القول الرابع: أن هذا نفي مطلق، والنفي المطلق يحمل على المقيد; فيقال: لا يدخلون الجنة دخولا مطلقا يعني لا يسبقه عذاب، ولكنهم يدخلون الجنة دخولا يسبقه عذاب بقدر ذنوبهم، ثم مرجعهم إلى الجنة، وذلك لأن نصوص الشرع يُصدّق بعضها بعضا، ويلائم بعضها ج / 2 ص -16- فيه مسائل: الأولى: الحكمة في خلق النجوم الثانية: الرد على من زعم غير ذلك. بعضا، وهذا أقرب إلى القواعد وأبين حتى لا تبقى دلالة النصوص غير معلومة; فتقيد النصوص بعضها ببعض. وهناك احتمال: أن من كانت هذه حاله حري أن يختم له بسوء الخاتمة، فيموت كافرا، فيكون هذا الوعيد باعتبار ما يؤول حاله إليه، وحينئذ لا يبقى في المسألة إشكال; لأن من مات على الكفر; فلن يدخل الجنة، وهو مخلد في النار، وربما يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم "لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما"1 فيكون هذا قولا خامسا. فيه مسائل: الأولى: الحكمة في خلق النجوم: وهي ثلاث: - أنها زينة للسماء. - ورجوم للشياطين. - وعلامات يهتدى بها. وربما يكون هناك حكم أخرى لا نعلمها. الثانية: الرد على من زعم غير ذلك؛ لقول قتادة: "من تأول فيها غير ذلك أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به". 1 أخرجه البخاري في (الديات/6862). ج / 2 ص -17- الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل. الرابعة: الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل. ومراد قتادة في قوله: "غير ذلك" ما زعمه المنجمون من الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، وأما ما يمكن أن يكون فيها من أمور حسية سوى الثلاث السابقة; فلا ضلال لمن تأوله. الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل: سبق ذلك1. الرابعة: الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل: من صدق بشيء من التنجيم أو غيره من السحر بلسانه ولو اعتقد بطلانه بقلبه; فإن عليه هذا الوعيد، كيف يصدق وهو يعرف أنه باطل; لأنه يؤدي إلى إغراء الناس به وبتعلمه وبممارسته. 1 انظر: (ص 10). المصدر : كتاب القول المفيد على كتاب التوحيد رابط التحميل المباشر http://waqfeya.com/book.php?bid=1979 |
#32
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
القول المفيد على كتاب التوحيد ج / 2 ص -18- باب: ما جاء في الاستسقاء بالأنواء باب: ما جاء في الاستسقاء بالأنواء الاستسقاء: طلب السقيا; كالاستغفار: طلب المغفرة، والاستعانة: طلب المعونة، والاستعاذة: طلب العوذ، والاستهداء: طلب الهداية; لأن مادة استفعل في الغالب تدل على الطلب، وقد لا تدل على الطلب، بل تدل على المبالغة في الفعل، مثل: استكبر; أي: بلغ في الكبر غايته، وليس المعنى طلب الكبر، والاستسقاء بالأنواء; أي: أن تطلب منها أن تسقيك. والاستسقاء بالأنواء ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: شرك أكبر، وله صورتان: الأولى: أن يدعو الأنواء بالسقيا، كأن يقول: يا نوء كذا! اسقنا أو أغثنا، وما أشبه ذلك; فهذا شرك أكبر; لأنه دعا غير الله، ودعاء غير الله من الشرك الأكبر، قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}، [المؤمنون:117]، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}، [الجن:18]، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ}، [يونس:106]. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على النهي عن دعاء غير الله، وأنه من الشرك الأكبر. ج / 2 ص -19- وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}، [الواقعة:82]. الثانية: أن ينسب حصول الأمطار إلى هذه الأنواء على أنها هي الفاعلة بنفسها دون الله ولو لم يدعها; فهذا شرك أكبر في الربوبية، والأول في العبادة; لأن الدعاء من العبادة، وهو متضمن للشرك في الربوبية; لأنه لم يدعها إلا وهو يعتقد أنها تفعل وتقضي الحاجة. القسم الثاني: شرك أصغر، وهو أن يجعل هذه الأنواء سببا، مع اعتقاده أن الله هو الخالق الفاعل; لأن كل من جعل سببا لم يجعله الله سببا، لا بوحيه ولا بقدره; فهو مشرك شركا أصغر. قوله تعالى: "وتجعلون": أي: تصيرون، وهي تنصب مفعولين: الأول: (رزق)، والثاني: (أن)، وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول ثان، والتقدير: وتجعلون رزقكم كونكم تكذبون أو تكذيبكم. والمعنى: تكذبون أنه من عند الله، حيث تضيفون حصوله إلى غيره. قوله: "رزقكم": الرزق هو العطاء، والمراد به هنا: ما هو أعم من المطر; فيشمل معنيين: الأول: أن المراد به رزق العلم; لأن الله قال: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ، وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}، [الواقعة:75-82]، أي: تخافونهم فتداهنونهم، وتجعلون شكر ما رزقكم الله به من العلم والوحي أنكم تكذبون به، وهذا هو ظاهر سياق الآية. ج / 2 ص -20- الثاني: أن المراد بالرزق المطر، وقد روي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه ضعيف1 إلا أنه صح عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: أن المراد بالرزق المطر، وأن التكذيب به نسبته إلى الأنواء2، وعليه يكون ما ساق المؤلف الآية من أجله مناسبا للباب تماما. والقاعدة في التفسير: أن الآية إذا كانت تحتمل المعنيين جميعا بدون منافاة تحمل عليهما جميعا، وإن حصل بينهما منافاة طلب المرجح. ومعنى الآية: أن الله يوبخ هؤلاء الذين يجعلون شكر الرزق التكذيب والاستكبار والبعد لأن شكر الرزق يكون بالتصديق والقبول والعمل بطاعة المنعم، والفطرة كذلك لا تقبل أن تكفر بمن ينعم عليها; فالفطرة والعقل والشرع كل منها يوجب أن تشكر من ينعم عليك، سواء قلنا: المراد بالرزق المطر الذي به حياة الأرض، أو قلنا: إن المراد به القرآن الذي به حياة القلوب; فإن هذا من أعظم الرزق; فكيف يليق بالإنسان أن يقابل هذه النعمة بالتكذيب؟! واعلم أن التكذيب نوعان: أحدهما: التكذيب بلسان المقال، بأن يقول: هذا كذب، أو المطر من النوء، ونحو ذلك. 1 أخرجه الإمام أحمد (1/89, 108), والترمذي في (التفسير, ومن سورة الواقعة/9/ 35), وقال: "حسن غريب, لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث إسرائيل, وروى سفيان عن عبد الأعلى هذا الحديث بهذا الإسناد ولم يرفعه". وأخرجه أيضا: ابن جرير (27/662), وابن أبي حاتم; كما في "تفسير ابن كثير" (4/300). وأورده في "الدر المنثور" (6/163), وعزاه لابن منيع، وابن المنذر، وابن مردويه، وغيرهم، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. 2 يأتي (ص30). ج / 2 ص -21- وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية...... والثاني: التكذيب بلسان الحال، بأن يعظم الأنواء والنجوم معتقدا أنها السبب، ولهذا وعظ عمر بن عبد العزيز الناس يوما; فقال: "أيها الناس! إن كنتم مصدقين; فأنتم حمقى، وإن كنتم مكذبين; فأنتم هلكى"، وهذا صحيح; فالذي يصدق ولا يعمل أحمق، والمكذب هالك; فكل إنسان عاص نقول له الآن: أنت بين أمرين: إما أنك مصدق بما رتب على هذه المعصية، أو مكذب، فإن كنت مصدقا; فأنت أحمق، كيف لا تخاف فتستقيم؟! وإن كنت غير مصدق; فالبلاء أكبر، فأنت هالك كافر. قوله: في حديث أبي مالك: "أربع في أمتي". الفائدة من قوله: "أربع" ليس الحصر; لأن هناك أشياء تشاركها في المعنى، وإنما يقول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من باب حصر العلوم وجمعها بالتقسيم والعدد; لأنه يقرب الفهم، ويثبت الحفظ. قوله: "أمتي": أي: أمة الإجابة. قوله: "من أمر الجاهلية": أمر هنا بمعنى شأن; أي: من شأن الجاهلية وهو واحد الأمور، وليس واحد الأوامر; لأن واحد الأوامر طلب الفعل على وجه الاستعلاء. وقوله: "من أمر الجاهلية": إضافتها إلى الجاهلية الغرض منها التقبيح والتنفير; لأن كل إنسان يقال له: فعلك فعل الجاهلية لا شك أنه يغضب، إذ إنه لا أحد يرضى أن يوصف بالجهل، ولا بأن فعله من أفعال الجاهلية; فالغرض من الإضافة هنا أمران: ج / 2 ص -22- 1- التنفير. 2- بيان أن هذه الأمور كلها جهل وحمق بالإنسان; إذ ليست أهلا بأن يراعيها الإنسان أو يعتني بها; فالذي يعتني بها جاهل. والمراد بالجاهلية هنا: ما قبل البعثة; لأنهم كانوا على جهل وضلال عظيم حتى إن العرب كانوا أجهل خلق الله، ولهذا يسمون بالأميين، والأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب; نسبة إلى الأم، كأن أمه ولدته الآن. لكن لما بعث فيهم هذا النبي الكريم; قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، [آل عمران:164]، فهذه منة عظيمة؛ أن بعث فيهم النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الأمور السامية: 1- يتلو عليهم آيات الله. 2- ويزكيهم; فيطهر أخلاقهم وعبادتهم وينميها. 3- ويعلمهم الكتاب. 4- والحكمة. هذه فوائد أربع عظيمة لو وزنت الدنيا بواحدة منها لوزنتها عند من يعرف قدرها، ثم بين الحال من قبل فقال: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، [آل عمران: من الآية164]، و"إن" هذه ليست نافية، بل مؤكدة; فهي مخففة من الثقيلة، يعني: وإنهم كانوا من قبل لفي ضلال مبين. إذن المراد بالجاهلية ما قبل البعثة; لأن الناس كانوا فيها على جهل عظيم، فجهلهم شامل للجهل في حقوق الله، وحقوق عباده، فمن جهلهم ج / 2 ص -23- لا يتركونهن: الفخر بالأحساب،.. أنهم ينصبون النصب ويعبدونها من دون الله، ويقتل أحدهم ابنته لكي لا يعير بها، ويقتل أولاده من ذكور وإناث خشية الفقر. قوله: "لا يتركونهن": المراد: لا يتركون كل واحد منها باعتبار المجموع بالمجموع، بأن يكون كل واحد منها عند جماعة، والثاني عند آخرين، والثالث عند آخرين، والرابع عند آخرين، وقد تجتمع هذه الأقسام في قبيلة، وقد تخلو بعض القبائل منها جميعا، إنما الأمة كمجموع لا بد أن يوجد فيها شيء من ذلك; لأن هذا خبر من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، والمراد بهذا الخبر التنفير; لأنه صلى الله عليه وسلم قد يخبر بأشياء تقع، وليس غرضه أن يؤخذ بها; كما قال صلى الله عليه وسلم: "لتركبن سنن من كان قبلكم"1، أي: فاحذروا، وأخبر صلى الله عليه وسلم: "أن الظعينة تخرج من صنعاء إلى حضرموت لا تخشى إلا الله"2، أي: بلا محرم، وهذا خبر عن أمر واقع، وليس إقرارا له شرعا. قوله: " الفخر بالأحساب": الفخر: التعالي والتعاظم، والباء للسببية; أي: يفخر بسبب الحسب الذي هو عليه. والحسب: ما يحتسبه الإنسان من شرف وسؤدد، كأن يكون من بني هاشم فيفتخر بذلك، أو من آباء وأجداد مشهورين بالشجاعة، فيفتخر بذلك، وهذا من أمر الجاهلية; لأن الفخر في الحقيقة يكون بتقوى الله الذي يمنع الإنسان من التعالي والتعاظم، والمتقي حقيقة هو الذي كلما 1 سبق (1/202). 2 أخرجه البخاري في (المناقب, باب علامات النبوة/2/531). ولفظه: "حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله". وأخرج البخاري من حديث عدي بن حاتم في الموضع السابق (2/527): "فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله". ج / 2 ص -24- والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة". ازدادت نعم الله عليه ازداد تواضعا للحق وللخلق. وإذا كان الفخر بالحسب من فعل الجاهلية; فلا يجوز لنا أن نفعله، ولهذا قال تعالى لنساء نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}، [الأحزاب: من الآية33]، واعلم أن كل ما ينسب إلى الجاهلية; فهو مذموم ومنهي عنه. قوله: "الطعن في الأنساب": الطعن: العيب; لأنه وخز معنوي كوخز الطاعون في الجسد، ولهذا سمي العيب طعنا. والأنساب: جمع نسب، وهو أصل الإنسان وقرابته، فيطعن في نسبه كأن يقول: أنت ابن الدبَّاغ، أو أنت ابن مقطعة البظور- وهي شيء في فرج المرأة يقطع عند ختان النساء-. قوله: "والاستسقاء بالنجوم": أي: نسبة المطر إلى النجوم، مع اعتقاد أن الفاعل هو الله عز وجل أما إن اعتقد أن النجوم هي التي تخلق المطر والسحاب أو دعاها من دون الله لتنزل المطر; فهذا شرك أكبر مخرج عن الملة. قوله: "والنياحة على الميت": هذا هو الرابع، والنياحة: هي رفع الصوت بالبكاء على الميت قصدا، وينبغي أن يضاف إليه على سبيل النوح; كنوح الحمام. والندب: تعداد محاسن الميت. والنياحة من أمر الجاهلية، ولا بد أن تكون في هذه الأمة، وإنما كانت من أمر الجاهلية؛ إما من الجهل الذي هو ضد العلم. أو من الجهالة التي هي السفه، وهي ضد الحكمة. وإنما كانت كذلك لأمور، هي: ج / 2 ص -25- وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها; تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب". رواه مسلم1. 1- أنها لا تزيد النائح إلا شدة، وحزنا، وعذابا. 2- أنها تسخط من قضاء الله وقدره، واعتراض عليه. 3- أنها تهيج أحزان غيره. وقد ذكر عن ابن عقيل رحمه الله - وهو من علمائنا الحنابلة- أنه خرج في جنازة ابنه عقيل وكان أكبر أولاده وطالب علم، فلما كانوا في المقبرة صرخ رجل وقال: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، [يوسف: من الآية78]، فقال له ابن عقيل رحمه الله: إن القرآن إنما نزل لتسكين الأحزان، وليس لتهييج الأحزان. 4- أنه مع هذه المفاسد لا يرد القضاء، ولا يرفع ما نزل. والنياحة تشمل ما إذا كانت من رجل أو امرأة، لكن الغالب وقوعها من النساء، ولهذا قال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها" أي: إن تابت قبل الموت; تاب الله عليها، وظاهر الحديث أن هذا الذنب لا تكفره إلا التوبة، وأن الحسنات لا تمحوه; لأنه من كبائر الذنوب، والكبائر لا تمحى بالحسنات; فلا يمحوها إلا التوبة. قوله: "تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران"2، أي: تقام من قبرها، والسربال: الثوب السابغ كالدرع، والقطران معروف، ويسمى "الزفت"، وقيل: إنه النحاس المذاب. قوله: "ودرع من جرب": الجرب: مرض معروف يكون في 1 أخرجه: مسلم في (الجنائز, باب التشديد في النياحة, 2/644). 2 مسلم: الجنائز (934) , وأحمد (5/342 ,5/343 ,5/344). ج / 2 ص -26- الجلد، يؤرق الإنسان، وربما يقتل الحيوان، والمعنى: إن كل جلدها يكون جربا بمنزلة الدرع، وإذا اجتمع قطران وجرب زاد البلاء; لأن الجرب أي شيء يمسه يتأثر به; فكيف ومعه قطران؟! والحكمة أنها لما لم تغط المصيبة بالصبر غطيت بهذا الغطاء سربال من قطران ودرع من جرب; فكانت العقوبة من جنس العمل. ويستفاد من الحديث: 1- ثبوت رسالته صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عن أمر من أمور الغيب فوقع كما أخبر. 2- التنفير من هذه الأشياء الأربعة: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت. 3- أن النياحة من كبائر الذنوب لوجود الوعيد عليها في الآخرة، وكل ذنب عليه الوعيد في الآخرة; فهو من الكبائر. 4- أن كبائر الذنوب لا تكفر بالعمل الصالح; لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا لم تتب قبل موتها". 5- أن من شروط التوبة أن تكون قبل الموت; لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا لم تتب قبل موتها"، ولقوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن}، [النساء: من الآية18]. 6- أن الشرك الأصغر لا يخرج من الملة: فمن أهل العلم من قال: إنه داخل تحت المشيئة؛ إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له. ومن أهل العلم من قال: إنه ليس بداخل تحت المشيئة، وإنه لا بد ج / 2 ص -27- ولهما عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: "صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية..... أن يعاقب، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لإطلاق قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}، [النساء: من الآية48]، فقال: والشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر1. وبهذا نعرف عظم سيئة الشرك، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا"2؛ لأن الحلف بغير الله من الشرك، والحلف بالله كاذبا من كبائر الذنوب، وسيئة الشرك أعظم من سيئة الذنب. 7- ثبوت الجزاء والبعث. 8- أن الجزاء من جنس العمل. قوله في حديث زيد بن خالد: "صلى لنا": أي: إماما; لأن الإمام يصلي لنفسه ولغيره، ولهذا يتبعه المأموم، وقيل: إن اللام بمعنى الباء، وهذا قريب، وقيل: إن اللام للتعليل; أي: صلى لأجلنا. قوله: "صلاة الصبح بالحديبية": أي: صلاة الفجر. والحديبية فيها لغتان: التخفيف، وهو أكثر، والتشديد، وهي اسم بئر سمي بها المكان، 1"الرد على البكري" (تلخيص "كتاب الاستغاثة") (ص 146). وانظر أيضا: "جامع الرسائل" (2/254). 2 أخرجه عبد الرزاق (8/469), والطبراني في "الكبير" (8902). قال المنذري في "الترغيب" (3/607) والهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/177): "ورواته رواة الصحيح". ج / 2 ص -28- على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف; أقبل على الناس، فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ وقيل: إن أصلها شجرة حدباء تسمى حديبية، والأكثر على أنها اسم بئر، وهذا المكان قريب من مكة بعضه في الحل وبعضه في الحرم، نزل به الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة السادسة من الهجرة لما قدم معتمرا، فصده المشركون عن البيت، وما كانوا أولياءه، إن أولياؤه إلا المتقون، ويسمى الآن الشميسي. قوله: "على إثر سماء كانت من الليل": الإثر معناه العقب، والأثر: ما ينتج عن السير. قوله: "سماء": المراد به المطر. قوله: "كانت من الليل": "من" لابتداء الغاية، هذا هو الظاهر- والله أعلم-، ويحتمل أن تكون بمعنى " في" للظرفية. قوله: "فلما انصرف": أي: من صلاته، وليس من مكانه بدليل قوله: "أقبل على الناس". قوله: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟": الاستفهام يراد به التنبيه والتشويق لما سيلقى عليهم، وإلا; فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنهم لا يعلمون ماذا قال الله; لأن الوحي لا ينزل عليهم. ومعنى قوله: "هل تدرون": أي: هل تعلمون. والمراد بالربوبية هنا الربوبية الخاصة; لأن ربوبية الله للمؤمن خاصة كما أن عبودية المؤمن له خاصة، ولكن الخاصة لا تنافي العامة; لأن العامة تشمل هذا وهذا، والخاصة تختص بالمؤمن. ج / 2 ص -29- قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر،....... قوله: "قالوا: الله ورسوله أعلم": فيه إشكال نحوي; لأن "أعلم" خبر عن اثنين، وهي مفرد؛ فيقال: إن اسم التفضيل إذا نوي به معنى "من"، وكان مجردا من أل والإضافة؛ لزم فيه الإفراد والتذكير. وفيه أيضا إشكال معنوي، وهو أنه جمع بين الله ورسوله بالواو، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له الرجل: "ما شاء الله وشئت. قال: أجعلتني لله ندا؟!"1. فيقال: إن هذا أمر شرعي، وقد نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما إنكاره على من قال: ما شاء الله وشئت; فلأنه أمر كوني، والرسول صلى الله عليه وسلم ليس له شأن في الأمور الكونية. والمراد بقولهم: "الله ورسوله أعلم" تفويض العلم إلى الله ورسوله، وأنهم لا يعلمون. قوله: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر". "مؤمن": صفة لموصوف محذوف; أي: عبد مؤمن، وعبد كافر. و"أصبح": من أخوات كان، واسمها: "مؤمن"، وخبرها: "من عبادي". ويجوز أن يكون "أصبح" فعلا ماضيا ناقصا، واسمها ضمير 1 أخرجه أحمد (1/214, 224, 283, 247), والبخاري في "الأدب المفرد" (783), والنسائي في "عمل اليوم والليلة"; كما في "تحفة الأشراف" (5/269), وابن ماجه بنحوه في (الكفارات, باب النهي أن يقال: ما شاء الله وشئت/2117), وابن السني في "عمل اليوم والليلة, 672), والطحاوي في "المشكل" (1/90), والطبراني في "الكبير" (13005, 13006) وأبو نعيم في "الحلية" (4/99), والبيهقي (3/217). وقال البوصيري في "الزوائد": "في إسناده الأجلح بن عبد الله مختلف فيه, ضعفه الإمام أحمد وأبو حاتم والنسائي وأبو داود وابن سعد, ووثقه ابن معين ويعقوب بن سفيان والعجلي, وباقي الإسناد ثقات". وقال الشيخ سليمان في "التيسير" (1/120): "فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له رجل..." الحديث. ج / 2 ص -30- فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته; فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا; فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب"1. الشأن، أي: أصبح الشأن، ف "من عبادي" خبر مقدم، و "مؤمن": مبتدأ مؤخر، أي: أصبح شأن الناس منهم مؤمن ومنهم كافر. قوله: "فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته"، أي: قال بلسانه وقلبه، والباء للسببية، والفضل: العطاء والزيادة. والرحمة: صفة من صفات الله، يكون بها الإنعام والإحسان إلى الخلق. وقوله: " فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب": لأنه نسب المطر إلى الله، ولم ينسبه إلى الكوكب، ولم ير له تأثيرا في نزوله، بل نزل بفضل الله. قوله: "وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا"، الباء للسببية. " فذلك كافر بي، مؤمن بالكوكب": وصار كافرا بالله; لأنه أنكر نعمة الله ونسبها إلى سبب لم يجعله الله سببا; فتعلقت نفسه بهذا السبب، ونسي نعمة الله، وهذا الكفر لا يخرج من الملة; لأن المراد نسبة المطر إلى النوء على أنه سبب وليس إلى النوء على أنه فاعل. لأنه قال: " مطرنا بنوء كذا"، ولم يقل: أنزل علينا المطر نوء كذا; لأنه لو قال ذلك; لكان نسبة المطر إلى النوء نسبة إيجاد، وبه نعرف خطأ من قال: إن المراد بقوله: "مطرنا بنوء كذا" نسبة المطر إلى النوء نسبة إيجاد; لأنه لو كان هذا هو المراد; لقال: أنزل علينا المطر نوء كذا، ولم 1 أخرجه البخاري (846), ومسلم (71). ج / 2 ص -31- يقل: مطرنا به. فعلم أن المراد: أن من أقر بأن الذي خلق المطر وأنزله هو الله، لكن النوء هو السبب; فهو كافر، وعليه يكون من باب الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة. والمراد بالكوكب: النجم، وكانوا ينسبون المطر إليه، ويقولون: إذا سقط النجم الفلاني جاء المطر، وإذا طلع النجم الفلاني جاء المطر، وليسوا ينسبونه إلى هذا نسبة وقت، وإنما نسبة سبب; فنسبة المطر إلى النوء تنقسم إلى ثلاثة أقسام: 1- نسبة إيجاد، وهذه شرك أكبر. 2- نسبة سبب، وهذه شرك أصغر. 3- نسبة وقت، وهذه جائزة، بأن يريد بقوله: مطرنا بنوء كذا; أي: جاءنا المطر في هذا النوء، أي في وقته. ولهذا قال العلماء: يحرم أن يقول: مطرنا بنوء كذا، ويجوز مطرنا في نوء كذا، وفرقوا بينهما أن الباء للسببية، وفي للظرفية، ومن ثم قال أهل العلم: إنه إذا قال: مطرنا بنوء كذا وجعل الباء للظرفية فهذا جائز، وهذا وإن كان له وجه من حيث المعنى، لكن لا وجه له من حيث اللفظ; لأن لفظ الحديث: " من قال: مطرنا بنوء كذا "، والباء للسببية أظهر منها للظرفية، وهي وإن جاءت للظرفية، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}، [الصافات:137-138]، لكن كونها للسببية أظهر، والعكس بالعكس; ف "في" للظرفية أظهر منها للسببية وإن جاءت للسببية; كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "دخلت امرأة النار في هرة"1. 1 أخرجه البخاري (2365)، ومسلم (2242). ج / 2 ص -32- ولهما من حديث ابن عباس معناه، وفيه: "قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا فأنزل الله هذه الآيات1:{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ، وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}، [الواقعة:75-82]. والحاصل أن الأقرب المنع ولو قصد الظرفية، لكن إذا كان المتكلم لا يعرف من الباء إلا الظرفية مطلقا، ولا يظن أنها تأتي سببية; فهذا جائز، ومع ذلك; فالأولى أن يقال لهم: قولوا: في نوء كذا. قوله: "ولهما": الظاهر أنه سبق قلم، وإلا; فالحديث في "مسلم" وليس في "الصحيحين2 ". ومعنى الحديث: أنه لما نزل المطر نسبه بعضهم إلى رحمة الله وبعضهم قال: لقد صدق نوء كذا وكذا; فكأنه جعل النوء هو الذي أنزل المطر أو نزل بسببه. ومنه ما يذكر في بعض كتب التوقيت: "وقلَّ أن يخلف نوؤُه"، أو: "هذا نوؤه صادق"، وهذا لا يجوز، وهو الذي أنكره الله عز وجل على عباده، وهذا شرك أصغر، ولو قال بإذن الله فإنه لا يجوز لأن كل الأسباب من الله، والنوء لم يجعله الله سببا. 1 أخرجه مسلم في (الإيمان, باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء/1/84). 2 وأشار إليه الشيخ سليمان رحمه الله في "التيسير" (ص461). ج / 2 ص -33- قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}، اختلف في "لا": فقيل: نافية، والمنفي محذوف، والتقدير: لا صحة لما تزعمون من أن القرآن كذب أو سحر وشعر وكهانة، أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم، ف" أقسم" لا علاقة لها ب "لا" إطلاقا، وهذا له بعض الوجه. وقيل: إن المنفي القسم; فهي داخلة على أقسم، أي: لا أقسم، ولن أقسم على أن القرآن قرآن كريم; لأن الأمر أبين من أن يحتاج إلى قسم، وهذا ضعيف جدا. وقيل: إن "لا" للتنبيه، والجملة بعدها مثبتة; لأن " لا " بمعنى انتبه، أقسم بمواقع النجوم...، وهذا هو الصحيح. فإن قيل: ما الفائدة من إقسامه سبحانه، مع أنه صادق بلا قسم; لأن القسم إن كان لقوم يؤمنون به ويصدقون كلامه، فلا حاجة إليه، وإن كان لقوم لا يؤمنون به; فلا فائدة منه، قال تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}، [البقرة: من الآية145]؟ أجيب: بأن فائدة القسم من وجوه: الأول: أن هذا أسلوب عربي لتأكيد الأشياء بالقسم، وإن كانت معلومة عند الجميع، أو كانت منكرة عند المخاطب، والقرآن نزل بلسان عربي مبين. الثاني: أن المؤمن يزداد يقينا من ذلك، ولا مانع من زيادة المؤكدات التي تزيد في يقين العبد، قال تعالى عن إبراهيم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، [البقرة: من الآية260]. الثالث: أن الله يقسم بأمور عظيمة، دالة على كمال قدرته، وعظمته، ج / 2 ص -34- وعلمه; فكأنه يقيم في هذا المقسم به البراهين على صحة ما أقسم عليه بواسطة عظم ما أقسم به. الرابع: التنويه بحال المقسم به; لأنه لا يقسم إلا بشيء عظيم، وهذان الوجهان لا يعودان إلى تصديق الخبر، بل إلى ذكر الآيات التي أقسم بها تنويها له بها وتنبيها على عظمها. الخامس: الاهتمام بالمقسم عليه، وأنه جدير بالعناية والإثبات. وقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}، الله سبحانه - يتحدث عن نفسه بضمير المفرد; لأنه يدل على الانفراد والتوحيد; فهو سبحانه واحد لا شريك له، ويتحدث عين نفسه بضمير الجمع; لأنه يدلي على العظمة; كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، [الحجر:9]، وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}، [يّس: من الآية12] الآية، ولا يتحدث عن نفسه بالمثني; لأن المثنى محصور باثنين. و" الباء": حرف قسم، والمواقع جمع موقع. واختلف في النجوم: فقيل: إنها النجوم المعروفة، فيكون المراد بمواقعها؛ مطالعها ومغاربها. وأقسم الله بها; لما فيها من الدلالة على كمال القدرة، في هذا الانتظام البديع، وما فيها من مناسبة المقسم به، والمقسم عليه، وهو القرآن المحفوظ بواسطة الشهب; فإن السماء عند نزول الوحي ملئت حرسا شديدا وشهبا. وقيل: إن المراد آجال نزول القرآن، ومنه قولهم: "نزل القرآن منجما"، وقول الفقهاء: يجب أن يكون دين المكاتب مؤجلا بنجمين فأكثر; فيكون الله أقسم بمواقع نزول القرآن، وقد سبقت لنا قاعدة مفيدة، وهي: أنه إذا كان المعنيان لا يتنافيان؛ تحمل الآية على كل منهما، وإلا طلب المرجح. ج / 2 ص -35- قوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}، [الواقعة:76]، "قسم": خبر إن، وهذا القسم أكد الله عظمته بإن واللام؛ تنويها بالمقسم عليه، وتعظيمه. وقوله: "لو تعلمون": مؤكد ثالث، كأنه قال: ينبغي أن تعلموا هذا الأمر ولا تجهلوه; فهو أعظم من أن يكون مجهولا; فإنه يحتاج إلى علم وانتباه، فلو تعلمون حق العلم لعرفتم عظمته; فانتبهوا. قوله: "لقرآن": مصدر مثل الغفران، والشكران، بمعنى اسم فاعل، وبمعنى اسم المفعول; فعلى الأول يكون المراد أنه جامع للمعاني التي تضمنتها الكتب السابقة، من المصالح والمنافع، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ}، [المائدة: من الآية48]، وعلى الثاني يكون بمعنى المجموع; لأنه مجموع مكتوب. قوله:" كريم ": يطلق على كثير العطاء، وهذا كمال في العطاء متعد للغير، ويطلق على الشيء البهي الحسن، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إياك وكرائم أموالهم"1 أي: البهي منها والحسن، وهذا كمال في الذات، وهذان المعنيان موجودان في القرآن; فالقرآن لا أحسن منه بذاته، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً}، [الأنعام: من الآية115]. والقرآن يعطي أهله من الخيرات الدينية والدنيوية والجسمية والقلبية، قال تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً}، [الفرقان:52]. فهو سلاح لمن تمسك به، ولكن يحتاج إلى أن نتمسك به بالقول والعمل والعقيدة، فلا بد أن يصدق العقيدة العمل، قال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي 1 أخرجه البخاري في (الإيمان/1/126- فتح), ومسلم في (المساقاة/3/1219). ج / 2 ص -36- القلب"1. ووصف الله القرآن في آية أخرى بأنه مجيد، والمجد صفة العظمة والعزة والقوة، والقرآن جامع بين الأمرين: فيه قوة وعظمة، وكذا خيرات كثيرة وإحسان لمن تمسك به. قوله: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ}، كتاب فعال بمعنى مفعول، مثل: فراش بمعنى مفروش، وغراس بمعنى مغروس، وكتاب بمعنى مكتوب. والمكنون: المحفوظ، قال تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ}، [الصافات:49]. واختلف المفسرون في هذا الكتاب على قولين: الأول: أنه اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء. الثاني- وإليه ذهب ابن القيم-: أنه الصحف التي في أيدي الملائكة2. قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}، [عبس:11-15]. فقوله: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}، [عبس:15] يرجح أن المراد الكتب التي في أيدي الملائكة; لأن قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}، [الواقعة:79]، أي: الملائكة، يوازن قوله: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}، وعلى هذا يكون المراد بالكتاب الجنس لا الواحد. قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}، الضمير يعود إلى الكتاب المكنون; لأنه أقرب شيء، وهو بالرفع {لاَ يَمَسُّهُ} باتفاق القراء. وإنما نبهنا على ذلك; لدفع قول من يقول: إنه خبر بمعنى النهي، والضمير يعود على القرآن; أي: نهى أن يمس القرآن إلا طاهر، والآية ليس فيها ما 1 أخرجه البخاري في (الإيمان, باب فضل من استبرأ لدينه/1/34), ومسلم في (المساقاة, باب أخذ الحلال/3/1219); من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما. 2 انظر: "إعلام الموقعين" (1/225-226). ج / 2 ص -37- يدل على ذلك، بل هي ظاهرة في أن المراد به اللوح المحفوظ; لأنه أقرب مذكور، ولأنه خبر، والأصل في الخبر أن يبقى على ظاهره خبرا لا أمرا ولا نهيا حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك، ولم يرد ما يدل على خلاف ذلك، بل الدليل على أنه لا يراد به إلا ذلك، وأنه يعود إلى الكتاب المكنون، ولهذا قال الله: {إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} باسم المفعول، ولم يقل: إلا المطهِّرون، ولو كان المراد المطهرين لقال ذلك، أو قال: إلا المتطهرون; كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}، [البقرة: من الآية222]، والمطهرون: هم الذين طهرهم الله تعالى، وهم الملائكة، طهروا من الذنوب وأدناسها، قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ}، [التحريم: من الآية6]، وقال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}، [الأنبياء:20]، وقال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}، [الأنبياء: من الآية26-27]، وفرق بين المطهر الذي يريد أن يفعل الكمال بنفسه، وبين المطهر الذي كمله غيره وهم الملائكة، وهذا مما يؤيد ما ذهب إليه ابن القيم أن المراد بالكتاب الكتب التي في أيدي الملائكة، وفي الآية إشارة على أن من طهر قلبه من المعاصي كان أفهم للقرآن، وأن من تنجس قلبه بالمعاصي كان أبعد فهما عن القرآن، لأنه إذا كانت الصحف التي في أيدي الملائكة لم يمكن الله من مسها إلا هؤلاء المطهرين; فكذلك معاني القرآن. فاستنبط شيخ الإسلام من هذه الآية: أن المعاصي سبب لعدم فهم القرآن; كما قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، [المطففين:14]، وهم الذين قال الله فيهم: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}، [المطففين:13]، فهم لا يصلون إلى معانيها وأسرارها; لأنه ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. ج / 2 ص -38- وقد ذكر بعض أهل العلم: أنه ينبغي لمن استفتي أن يقدم بين يدي الفتوى الاستغفار لمحو أثر الذنب من قلبه حتى يتبين له الحق، واستنبطه من قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً}، [النساء:105-106]. قوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، [الواقعة:80]، خبر ثان لقوله: "وإنه"، وهو كقوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، [الشعراء:192]، وكقوله: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}، [فصلت:2-3]، فهو خبر مكرر مع قوله: "لقرآن". وتنزيل; أي: منزل، فهي مصدر بمعنى اسم المفعول، منزل من رب العالمين، أنزله الله على قلب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه محل الوعي والحفظ بواسطة جبريل، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}، [الشعراء:192-194]. وقوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: خالقهم. ويستفاد من الآية ما يلي: 1- أن القرآن نازل لجميع الخلق; ففيه دليل على عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم. 2- أنه نازل من ربهم، وإذا كان كذلك; فهو الحكم بينهم الحاكم عليهم. 3- أن نزول القرآن من كمال ربوبية الله، فإذا أضيف إلى هذه الآية قوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}، [فصلت:2-3]، علم أن القرآن رحمة للعباد أيضا، وربوبية الله مبنية على الرحمة، قال تعالى: ج / 2 ص -39- {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، [الفاتحة:2-3]، وكل ما أمر الله به عباده أو نهاهم عنه; فهو رحمة بهم. 4- أن القرآن كلام الله; لأنه إذا كان الله أنزله; فهو كلامه لا كلام غيره كما قاله السلف رحمهم الله، وهو غير مخلوق; لأن جميع صفات الله حتى الصفات الفعلية ليست مخلوقة. والقرآن كلام الله منزل غير مخلوق. فإن قيل: هل كل منزل غير مخلوق؟ قلنا: لا، لكن كل منزل يكون وصفا مضافا إلى الله; فهو غير مخلوق; كالكلام، وإلا; فإن الله أنزل من السماء ماء وهو مخلوق، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ}، [الحديد: من الآية25]، وهو مخلوق، وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاج}، [الزمر: من الآية6]، والأنعام مخلوقة، فإذا كان المنزل من عند الله صفة لا تقوم بذاتها; وإنما تقوم بغيرها; لزم أن يكون غير مخلوق; لأنه من صفات الله. قوله: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ}، [الواقعة:81]، الاستفهام للإنكار والتوبيخ، والحديث: القرآن، والمدهن: الخائف من غيره الذي يحابيه بقوله وفعله. والمعنى: أتدهنون بهذا الحديث وتخافون وتستخفون؟! لا ينبغي لكم هذا، بل ينبغي لمن معه القرآن أن يصدع به وأن يبينه ويجاهد به، قال تعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً}، [الفرقان: من الآية52]. قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}، [الواقعة:82]: أكثر المفسرين على أنه على حذف مضاف; أي: أتجعلون شكر رزقكم; أي: ما أعطاكم الله من أي شيء؛ من المطر، ومن إنزال القرآن. أي: تجعلون شكر هذه النعمة العظيمة؛ أن تكذبوا بها، والنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان ذكرها في المطر، فإنها تشمل المطر وغيره. ج / 2 ص -40- فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الواقعة. الثانية: ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية. وقيل: إنه ليس في الآية حذف، والمعنى: تجعلون شكركم تكذيبا، وقال: إن الشكر رزق، وهذا هو الصحيح، بل هو من أكبر الأرزاق، قال الشاعر: إذا كان شكري نعمةَ الله نعمةً علي له في مثلها يجب الشكر فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر فالنعمة تحتاج إلى شكر، ثم إذا شكرتها; فهي نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان، وإن شكرت في الثانية; فهي نعمة تحتاج إلى شكر ثالث، وهكذا أبدا، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}، [إبراهيم: من الآية34]. الأولى: تفسير آية الواقعة: وهي قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}، [الواقعة:82]، وقد مر تفسيرها. قوله: {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}، [الواقعة: من الآية82]: "أن" وما دخلت عليه؛ في تأويل مصدر: مفعول " تجعلون" الثاني. أي: تصيرون شكركم تكذيبا، ولا شك أن هذا من السفه أن يقابل الإنسان نعمة ربه بالتكذيب، إن كانت وحيا كذب خبره ولم يمتثل أمره ولم يجتنب نهيه، وإن كانت عطاء تنمو به الأجسام نسبه إلى غير الله، قال: هذا من النوء أو هذا من عملي; كما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}، [القصص: من الآية78]. فيه مسائل: الثانية: ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية: وهي الطعن في الأنساب، ج / 2 ص -41- الثالثة: ذكر الكفر في بعضها. الرابعة: أن من الكفر ما لا يخرج من الملة. الخامسة: قوله: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر"؛ بسبب نزول النعمة. والفخر بالأحساب، والاستسقاء بالأنواء، والنياحة على الميت. الثالثة: ذكر الكفر في بعضها: وهي الاستسقاء بالأنواء، وكذلك الطعن في النسب، والنياحة على الميت; كما في حديث: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت"1. الرابعة: أن من الكفر ما لا يخرج من الملة؛ وهي أن الاستسقاء بالأنواء بعضه كفر مخرج عن الملة، وبعضه كفر دون ذلك، وقد سبق بيان ذلك. الخامسة: قوله: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر"2، بسبب نزول النعمة، أي: إن الناس ينقسمون عند نزول النعمة إلى مؤمن بالله وكافر به، وقد سبق بيان حكم إضافة نزول المطر إلى النوء، والواجب على الإنسان إذا جاءته النعمة أن لا يضيفها إلى أسبابها مجردة عن الله، بل يعتقد أن هذا سبب محض إن كان هذا سببا، مثال ذلك: رجل غرق في ماء، وكان عنده رجل قوي، فنزلت وأنقذه; فإنه يجب على هذا الذي نجا أن يعرف نعمة الله عليه، ولولا أن الله أمر أمرا قدريا، وأمرا شرعيا أن ينقذك هذا الرجل ما حصل إنقاذ، فأنت تعتقد أن هذا سبب محض. أما إن غرق ويسر الله له، فخرج، فقال: إن الولي الفلاني أنقذني; فهذا شرك أكبر; لأنه سبب غير صحيح، ثم إن إضافته إليه لا يظهر منها أنه يريد 1 رواه مسلم (67). 2 البخاري: الجمعة (1038), ومسلم: الإيمان (71), والنسائي: الاستسقاء (1525), وأبو داود: الطب (3906), وأحمد (4/117), ومالك: النداء للصلاة (451). ج / 2 ص -42- السادسة: التفطن للإيمان في هذا الموضع. السابعة: التفطن للكفر في هذا الموضع. الثامنة: التفطن لقوله: " لقد صدق نوء كذا وكذا". التاسعة: إخراج العالم للمتعلم المسألة بالاستفهام عنها; لقوله: "أتدرون ماذا قال ربكم؟". أنه سبب، بل يريد أنه منقذ بنفسه; لأن اعتقاد أنه سبب وهو في قبره غير وارد، ولذلك كان أصحاب الأولياء إذا نزلت بهم شدة يسألون الأولياء دون الله تعالى; فيقعون في الشرك الأكبر من حيث لا يعلمون أو من حيث يعلمون، ثم قد يفتنون; فيحصل لهم ما يريدون عند دعاء الأولياء لا به; لأننا نعلم أن هؤلاء الأولياء لا يستجيبون لهم; لقوله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ}، [فاطر: من الآية14]، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}، [الأحقاف: من الآية5]. السادسة: التفطن للإيمان في هذا الموضع: وهو نسبة المطر إلى فضل الله ورحمته. السابعة: التفطن للكفر في هذا الموضع: وهو نسبة المطر إلى النوء; فيقال هذا بسبب النوء الفلاني، وما أشبه ذلك. الثامنة: التفطن لقوله: "لقد صدق نوء كذا وكذا": وهذا قريب من قوله: "مطرنا بنوء كذا"; لأن الثناء بالصدق على النوء مقتضاه أن هذا المطر بوعده، ثم بتنفيذ وعده. التاسعة: إخراج العالم للمتعلم المسألة بالاستفهام عنها: لقوله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ماذا قال ربكم": ج / 2 ص -43- العاشرة: وعيد النائحة. وذالك أن يلقي العالم على المتعلم السؤال؛ لأجل أن ينتبه له، وإلا فالرسول يعلم أن الصحابة لا يعلمون ماذا قال الله، لكن أراد أن ينبههم لهذا الأمر; فقال : "أتدرون ماذا قال ربكم"، وهذا يوجب استحضار قلوبهم. العاشرة: وعيد النائحة: وذلك بقوله : إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب(1)، وهذا وعيد عظيم. ــــ (1) مسلم: الجنائز (934), وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1581), وأحمد (5/342-344). المصدر : كتاب القول المفيد على كتاب التوحيد رابط التحميل المباشر http://waqfeya.com/book.php?bid=1979 |
#33
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
القول المفيد على كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} ج / 2 ص -44- باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، [البقرة: من الآية165]. قوله: باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً}، جعل المؤلف رحمه الله تعالى الآية هي الترجمة، ويمكن أن يعنى بهذه الترجمة باب المحبة. وأصل الأعمال كلها هو المحبة فالإنسان لا يعمل إلا لما يحب; إما لجلب منفعة، أو لدفع مضرة، فإذا عمل شيئا; فلأنه يحبه إما لذاته كالطعام، أو لغيره كالدواء. وعبادة الله مبنية على المحبة، بل هي حقيقة العبادة; إذ لو تعبدت بدون محبة صارت عبادتك قشرا لا روح فيها، فإذا كان الإنسان في قلبه محبة لله وللوصول إلى جنته; فسوف يسلك الطريق الموصل إلى ذلك. ولهذا لما أحب المشركون آلهتهم؛ توصلت بهم هذه المحبة إلى أن عبدوها من دون الله، أو مع الله. والمحبة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: محبة عبادة، وهي التي توجب التذلل والتعظيم، وأن يقوم بقلب الإنسان من إجلال المحبوب وتعظيمه؛ ما يقتضي أن يمتثل أمره، ويجتنب نهيه، وهذه خاصة بالله، فمن أحب مع الله غيره محبة عبادة; فهو مشرك شركا أكبر، ويعبر العلماء عنها بالمحبة الخاصة. القسم الثاني: محبة ليست بعبادة في ذاتها، وهذه أنواع: ج / 2 ص -45- النوع الأول: المحبة لله وفي الله، وذلك بأن يكون الجالب لها محبة الله، أي: كون الشيء محبوبا لله تعالى من أشخاص; كالأنبياء، والرسل، والصديقين، والشهداء، والصالحين. أو أعمال; كالصلاة، والزكاة، وأعمال الخير، أو غير ذلك. وهذا النوع تابع للقسم الأول الذي هو محبة الله. النوع الثاني: محبة إشفاق ورحمة، وذلك كمحبة الولد، والصغار، والضعفاء، والمرضى. النوع الثالث: محبة إجلال وتعظيم لا عبادة; كمحبة الإنسان لوالده، ولمعلمه، ولكبير من أهل الخير. النوع الرابع: محبة طبيعية; كمحبة الطعام، والشراب، والملبس، والمركب، والمسكن. وأشرف هذه الأنواع النوع الأول، والبقية من قسم المباح; إلا إذا اقترن بها ما يقتضي التعبد صارت عبادة; فالإنسان يحب والده محبة إجلال وتعظيم، وإذا اقترن بها أن يتعبد لله بهذا الحب؛ من أجل أن يقوم ببر والده، صارت عبادة، وكذلك يحب ولده محبة شفقة، وإذا اقترن بها ما يقتضي أن يقوم بأمر الله بإصلاح هذا الولد؛ صارت عبادة. وكذلك المحبة الطبيعية; كالأكل والشرب، والملبس والمسكن؛ إذا قصد بها الاستعانة على عبادة صارت عبادة، ولهذا ( حبب للنبي النساء والطيب (1)، مـن هـذه الدنــيا; فحبب إليه النســاء; لأن ذلك مقتضى الطبــيعة (1) أخرجه الإمام أحمد (3/128, 199, 285), والنسائي في ( عشرة النساء, باب حب النسـاء/7/61)، وفي "تعليق الألباني على المشكاة" (3/1448): "إسناده حسن". ج / 2 ص -46- ولما يترتب عليه من المصالح العظيمة، وحبب إليه الطيب; لأنه ينشط النفس ويريحها ويشرح الصدر، ولأن الطيبات للطيبين، والله طيب لا يقبل إلا طيبا. فهذه الأشياء إذا اتخذها الإنسان بقصد العبادة؛ صارت عبادة، قال النبي (: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى(1). وقال العلماء: إن ما لا يتم الواجب إلا به; فهو واجب، وقالوا: الوسائل لها أحكام المقاصد، وهذا أمر متفق عليه. وقد ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب آيتين: الأولى: التي ترجم بها، وهي قوله: "ومن الناس": "من" تبعيضية، هي ومجرورها خبر مقدم، و "من يتخذ" مبتدأ مؤخر. قوله: "أندادا": جمع ند، وهو الشبيه والنظير. قوله: "يحبونهم كحب الله": أي: في كيفيته ونوعه; فالنوع أن يحب غير الله محبة عبادة. والكيفية: أن يحبه كمحبة الله أو أشد، حتى إن بعضهم يعظم محبوبه، ويغار له أكثر مما يعظم الله ويغار له، فلو قيل: احلف بالله; لحلف، وهو كاذب ولم يبال، ولو قيل: احلف بالند; لم يحلف، وهو كاذب، وهذا شرك أكبر. وقوله: "كحب الله": للمفسرين فيها قولان: (1) أخرجه البخاري في (بدء الوحي, باب كيف كان بدء الوحي/1/13), ومسلم في (الإمارة, باب قوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات/3/1515). ج / 2 ص -47- الأول: أنها على ظاهرها، وأنها مضافة إلى مفعولها; أي: يحبونهم كحبهم الله، والمعنى يحبون هذه الأنداد كمحبة الله، فيجعلونها شركاء لله في المحبة، لكن الذين آمنوا أشد حبا لله من هؤلاء لله، وهذا هو الصواب. الثانية: أن المعنى كحب الله الصادر من المؤمنين: أي: كحب المؤمنين لله; فيحبون هذه الأنداد كما يحب المؤمنون الله ( وهذا وإن احتمله اللفظ، لكن السياق يأباه; لأنه لو كان المعنى ذلك; لكان مناقضا لقوله تعالى فيما بعد: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}، [البقرة: من الآية165]، وكانت محبة المؤمنين لله أشد; لأنها محبة خالصة ليس فيها شرك; فمحبة المؤمنين أشد من حب هؤلاء لله. فإن قيل: قد ينقدح في ذهن الإنسان أن المؤمنين يحبون هذه الأنداد؛ نظرا لقوله: {أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}، فما الجواب؟ أجيب: أن اللغة العربية يجري فيها التفضيل بين شيئين؛ وأحدهما خال منه تماما، ومنه قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}، [الفرقان:24]، مع أن مستقر أهل النار ليس فيه خير، وقال تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}، [النمل: من الآية59]، والطرف الآخر ليس فيه شيء من هذه الموازنة، ولكنها من باب مخاطبة الخصم بحسب اعتقاده. مناسبة الآية لباب المحبة: منع الإنسان أن يحب أحدا كمحبة الله; لأن هذا من الشرك الأكبر، المخرج عن الملة، وهذا يوجـد في بعض العباد، وبعض الخدم; فبعض ج / 2 ص -48- وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: من الآية24]. العباد يعظمون ويحبون بعض القبور أو الأولياء كمحبة الله أو أشد، وكذلك بعض الخدم تجدهم يحبون هؤلاء الرؤساء أكثر مما يحبون الله، ويعظمونهم أكثر مما يعظمون الله، قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً}[الأحزاب:67-68]. الآية الثانية قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ}: "آباؤكم": اسم كان، وباقي الآية مرفوع معطوف عليه، وخبر كان {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، والخطاب في قوله: "قل" للرسول ( والمخاطب في قوله: "آباؤكم" الأمة. والأمر في قوله: " فتربصوا" يراد به التهديد: أي: انتظروا عقاب الله، ولهذا قال: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} بإهلاك هؤلاء المؤثرين لمحبة هؤلاء الأصناف الثمانية، على محبة الله ورسوله، وجهاد في سبيله. فدلت الآية على أن محبة هؤلاء، وإن كانت من غير محبة العبادة؛ إذا فضلت على محبة الله صارت سببا للعقوبة. ومن هنا نعرف أن الإنسان إذا كان يهمل أوامر الله لأوامر والده; فهو يحب أباه أكثر من ربه. ج / 2 ص -49- وما في القلوب وإن كان لا يعلمه إلا الله، لكن له شاهد في الجوارح، ولذا يروي عن الحسن رحمه الله أنه قال: "ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه"; فالجوارح مرآة القلب. فإن قيل: المحبة في القلب ولا يستطيع الإنسان أن يملكها، ولهذا يروي عن النبي ( أنه قالت: ( اللهم إن هذا قسمي فيما أملك; فلا تلمني فيما لا أملك )(1) وكيف للإنسان أن يحب شيئا وهو يبغضه، وهل هذا إلا من محاولات جعل الممتنع ممكنا؟ أجيب: أن هذا إيراد ليس بوارد; فالإنسان قد تنقلب محبته لشيء كراهة وبالعكس، إما لسبب ظاهر أو لإرادة صادقة، فمثلا: لك صديق تحبه فيسرق منك وينتهك حرمتك، فتكرهه لهذا السبب، أو لإرادة صادقة; كرجل يحب شرب الدخان، فصار عنده إرادة صادقة وعزيمة ثابتة، فكره الدخان، فأقلع عنه. وقال عمر ( للنبي (: ( إنك لأحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. قال النبي ( لا والذي نفسي بيده; حتى أكون أحب إليك من نفسك. قال: الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال (1) أخرجه أحمد في "المسند" (6/144), وأبـو داود في (النكــاح, باب في القسم بين النساء/2/601), والترمذي في (النكاح, باب في التسوية بين الضرائر/4/107), والنسائي في (عشرة النساء, باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض/7/64), وابن ماجه في (النكاح, باب القسمة بين النساء/1/633), والدارمي (2/67), وابن حبـان- وصححه- (4192), والحاكم (2/187)- وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي-. ورجح الترمذي إرساله; فقال: "رواية حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة مرسلا أصح". وانظر: "تحفة الأشــراف" (11/471/ رقم 16290), و "جامع الأصول" (11/514)،) و"نيل الأوطار" (6/372). ج / 2 ص -50- عن أنس; أن رسول الله ( قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ( أخرجاه(1). النبي ( الآن يا عمر )(2)، فقـد ازدادت محبـة عمـر ( للنبي )؛ وأقـره النبي ( على أن الحب قد يتغير. وربما تسمع عن شخص كلاما وأنت تحبه فتكرهه، ثم يتبين لك أن هذا الكلام كذب; فتعود محبتك إياه. قوله في حديث أنس: "لا يؤمن": هذا نفي الإيمان، ونفي الإيمان تارة يراد به نفي الكمال الواجب، وتارة يراد به نفي الوجود; أي: نفي الأصل. والمنفي في هذا الحديث هو كمال الإيمان الواجب; إلا إذا خلا القلب من محبة الرسول ( إطلاقا; فلا شك أن هذا نفي لأصل الإيمان. قوله: "من ولده": يشمل الذكر والأنثى، وبدأ بمحبة الولد; لأن تعلق القلب به أشد من تعلقه بأبيه غالبا. قوله: "ووالده": يشمل أباه، وجده وإن علا، وأمه، وجدته وإن علت. قوله: "والناس أجمعين": يشمل إخوته وأعمامه وأبناءهم وأصحابه ونفسه; لأنه من الناس; فلا يتم الإيمان حتى يكون الرسول أحب إليه من جميع المخلوقين. وإذا كان هذا في محبة رسول الله (؛ فكيف بمحبة الله تعالى؟!! (1) أخرجه البخاري في (الأيمان, باب كيف كانت يمين النبي (/4/216) من حديث عمر (. (2) أخرجه البخاري في (الإيمان, باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان/1/22), ومسلم في (الإيمان, باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل/1/67). ج / 2 ص -51- ومحبة رسوله الله ( تكون لأمور: الأول: أنه رسول الله، وإذا كان الله أحب إليك من كل شيء; فرسوله أحب إليك من كل مخلوق. الثاني: لما قام به من عبادة الله وتبليغ رسالته. الثالث: لما آتاه الله من مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال. الرابع: أنه سبب هدايتك، وتعليمك، وتوجيهك. الخامس: لصبره على الأذى في تبليغ الرسالة. السادس: لبذل جهده بالمال والنفس؛ لإعلاء كلمة الله. ويستفاد من هذا الحديث ما يلي: 1- وجوب تقديم محبة الرسول ( على محبة النفس. 2- فداء الرسول ( بالنفس والمال؛ لأنه يجب أن تقدم محبته على نفسك ومالك. 3- أنه يجب على الإنسان أن ينصر سنة رسول الله ( ويبذل لذلك نفسه وماله وكل طاقته لأن ذلك من كمال محبة رسول الله ( ولذلك قال بعض أهل العلم في قوله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}، [الكوثر:3]، أي: مبغضك، قالوا: وكذلك من أبغض شريعته ( فهو مقطوع لا خير فيه. 4- جواز المحبة التي للشفقة والإكرام والتعظيم؛ لقوله (: "أحب إليه من ولده ووالده..."; فأثبت أصل المحبة، وهذا أمر طبيعي لا ينكره أحد. 5- وجوب تقديم قول الرسول ( على قول كل الناس; لأن من ج / 2 ص -52- لازم كونه أحب من كل أحد؛ أن يكون قوله مقدما على كل أحد من الناس، حتى على نفسك، فمثلا: أنت تقول شيئا وتهواه وتفعله، فيأتي إليك رجل ويقول لك: هذا يخالف قول الرسول ( فإذا كان الرسول أحب إليك من نفسك; فأنت تنتصر للرسول أكثر مما تنتصر لنفسك، وترد على نفسك بقول الرسول ( فتدع ما تهواه من أجل طاعة الرسول ( وهذا عنوان تقديم محبته على محبة النفس، ولهذا قال بعضهم: تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس بديع لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع إذا يؤخذ من هذا الحديث وجوب تقديم قول الرسول ( على قول كل الناس حتى على قوله أبي بكر وعمر وعثمان، وعلى قول الأئمة الأربعة ومن بعدهم، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}، [الأحزاب: من الآية36]. لكن إذا وجدنا حديثا يخالف الأحاديث الأخرى الصحيحة، أو مخالفا لقول أهل العلم وجمهور الأمة; فالواجب التثبت والتأني في الأمر; لأن اتباع الشذوذ يؤدي إلى الشذوذ. ولهذا إذا رأيت حديثا يخالف ما عليه أكثر الأمة، أو يخالف الأحاديث الصحيحة التي كالجبال في رسوها; فلا تتعجل في قبوله، بل يجب عليك أن تراجع وتطالع في سنده حتى يتبين لك الأمر، فإذا تبين; فإنه لا بأس أن يخصص الأقوى بأضعف منه إذا كان حجة; فالمهم التثبت في الأمر. وهذه القاعدة تنفعك في كثير من الأقوال التي ظهرت أخيرا، وتركها الأقدمون، وصارت محل نقاش بين الناس; فإنه يجب اتباع هذه القاعدة، ويقال: أين الناس من هذه الأحاديث؟ ولو كانت هذه الأحاديث من شريعة الله; لكانت منقولة باقية معلومة.مثل ما ذكر: أن ج / 2 ص -53- ولهما عنه، قال: قال رسـول الله: ( ثـلاث مـن كن فيــه الإنســان إذا لم يطف طواف الإفاضة، قبل أن تغرب الشمس يوم العيد; فإنه يعود محرما! فإن هذا الحديث(1)، وإن كان ظاهر سنده الصحة; لكنه ضعيف وشاذ، ولهذا لم يذكر أنه عمل به إلا رجل أو رجلان من التابعين، وإلا فالأمة على خلافه، فمثل هذه الأحاديث يجب أن يتحرى الإنسان فيها ويتثبت، ولا نقول: إنها لا يمكن أن تكون صحيحة. مناسبة هذا الحديث للباب: مناسبة هذا الحديث ظاهرة; إذ محبة الرسول ( من محبة الله، ولأنه إذا كان لا يكمل الإيمان حتى يكون الرسول ( أحب إلى الإنسان من نفسه والناس أجمعين; فمحبة الله أولى وأعظم. قوله في حديث أنس الثاني: "ثلاث من كن فيه": أي: ثلاث خصال، و "كن" بمعنى وجدن فيه. وإعراب "ثلاث": مبتدأ، وجاز الابتداء بها لأنها مفيدة على حد قول ابن مالك: ولا يجوز الابتدا بالنكرة ما لم تفد......(2) وقوله: "من كن فيه": "من": شرطية، و"كن": أصلها كان; فتكون فعلا ماضيا ناسخا، والنون اسمها، و"فيه": خبرها. (1) أخرجه أبـو داود (بـاب الإفاضة في الحج/3/508). وقال المنــذري في "مختصر السنن" (2/ 428): "في إسناده محمد بن إسحاق, وقد تقدم الكلام عليه". وانظر: "تهذيب السنن" لابن القيم (2/427). (2)"ألفيه ابن مالك" (ص16). ج / 2 ص -54- وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، ....... قوله: "وجد بهن": وجد: فعل ماض في محل جزم جواب الشرط، والجملة من فعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ. وقوله: " وجد بهن حلاوة الإيمان": الباء للسببية، وحلاوة: مفعول وجد، وحلاوة الإيمان: ما يجده الإنسان في نفسه وقلبه من الطمأنينة والراحة والانشراح، وليست مدركة باللعاب والفم; فالمقصود بالحلاوة هنا الحلاوة القلبية. الخصلة الأولى من الخصال الواردة في الحديث: قوله: ( أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما(: الرسول محمد (، وكذا جميع الرسل تجب محبتهم. قوله: " أحب إليه مما سواهما": أي: أحب إليه من الدنيا كلها، ونفسه، وولده، ووالده، وزوجه، وكل شيء سواهما، فإن قيل: لماذا جاء الحديث بالواو "الله ورسوله" وجاء الخبر لهما جميعا "أحب إليه مما سواهما"؟ فالجواب: لأن محبة الرسول ( من محبة الله، ولهذا جعل قوله: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ركنا واحدا; لأن الإخلاص لا يتم إلا بالمتابعة التي جاءت عن طريق النبي . الخصلة الثانية: قوله: ( وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله). قوله: "وأن يحب المرء" يشمل الرجل والمرأة. قوله: "لا يحبه إلا لله": اللام للتعليل، أي: من أجل الله; لأنه قائم بطاعة الله . ج / 2 ص -55- وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار((1). وفي رواية: ( لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى...(، إلى آخره(2). وحب الإنسان للمرء له أسباب كثيرة يحبه للدنيا، ويحبه للقرابة، ويحبه للزمالة، ويحب المرء زوجته للاستمتاع، ويحب من أحسن إليه، لكن إذا أحببت هذا المرء لله; فإن ذلك من أسباب وجود حلاوة الإيمان. الخصلة الثالثة: قوله: ( وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار(. هذه الصورة في كافر أسلم; فهو يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار، وإنما ذكر هذه الصورة; لأن الكافر يألف ما كان عليه أولا; فربما يرجع إليه، بخلاف من لا يعرف الكفر أصلا. فمن كره العود في الكفر كما يكره القذف في النار; فإن هذا من أسباب وجود حلاوة الإيمان. قوله: "وفي رواية: لا يجد أحد حلاوة الإيمان": أتى المؤلف بهذه الرواية; لأن انتفاء وجدان حلاوة الإيمان بالنسبة للرواية الأولى عن طريق المفهوم، وهذه عن طريق المنطوق، ودلالة المنطوق أقوى من دلالة المفهوم. (1) أخرجه البخاري في (الإيمان, باب حلاوة الإيمان/1/22), ومسلم في (الإيمان, باب خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان/1/ 66). (2) أخرجها البخاري في (الأدب, باب الحب في الله/4/ 98). ج / 2 ص -56- وعن ابن عباس، قال: ( من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله; فإنما تنال ولاية الله بذلك، قوله في أثر ابن عباس رضي الله عنهما: "من أحب في الله". " من": شرطية، وفعل الشرط أحب، وجوابه جملة: " فإنما تنال ولاية الله بذلك". و "في": يحتمل أن تكون للظرفية; لأن الأصل فيها الظرفية، ويحتمل أن تكون للسببية; لأن "في" تأتي أحيانا للسببية; كما في قوله (: ( دخلت امرأة النار في هرة((1) أي: بسبب هرة. وقوله: "في الله". أي: من أجله، إذا قلنا: إن "في" للسببية، وأما إذا قلنا: إنها للظرفية، فالمعنى: من أحب في ذات الله; أي: في دينه وشرعه، لا لعرض الدنيا. قوله: "وأبغض في الله": البغض الكره; أي: أبغض في ذات الله، فإذا رأى من يعصي الله كرهه. وفرق بين "في" التي للسببية و "في" التي للظرفية; فالسببية الحامل له على المحبة أو البغضاء هو الله، والظرفية موضع الحب أو الكراهة هو في ذات الله (، فيبغض من أبغضه الله، ويحب من أحبه الله. قوله: "ووالى في الله": الموالاة: هي المحبة والنصرة وما أشبه ذلك. قوله: "وعادى في الله": المعاداة ضد الموالاة; أي: يبتعد عنهم ويبغضهم ويكرههم في الله. قوله: " فإنما تنال ولاية الله بذلك": هذا جواب الشرط; أي: يدرك الإنسان ولاية الله ويصل إليها; لأنه جعل محبته وبغضه وولايته ومعاداته لله. (1) سبق تخريجه (ص 31). ج / 2 ص -57- ولن يجد عبد طعم الإيمان - وإن كثرت صلاته وصومه - حتى يكون كذلك، ....... وقوله: " ولاية": يجوز في الواو وجهان: الفتح والكسر، قيل: معناهما واحد، وقيل: بالفتح بمعنى النصرة، قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}، [الأنفال: من الآية72]، وبالكسر بمعنى الولاية على الشيء. قوله: "بذلك": الباء للسببية، والمشار إليه الحب في الله والبغض فيه، والموالاة فيه والمعاداة فيه. وهذا الأثر موقوف، لكنه بمعنى المرفوع; لأن ترتيب الجزاء على العمل لا يكون إلا بتوقيف، إلا أن الأثر ضعيف. فمعنى الحديث: أن الإنسان لا يجد طعم الإيمان وحلاوته ولذته؛ حتى يكون كذلك، ولو كثرت صلاته وصومه، وكيف يستطيع عاقل فضلا عن مؤمن أن يوالي أعداء الله، فيرى أعداء الله يشركون به، ويكفرون به، ويصفونه بالنقائص والعيوب، ثم يواليهم ويحبهم؟! فهذا لو صلى وقام الليل كله، وصام الدهر كله; فإنه لا يمكن أن ينال طعم الإيمان، فلا بد أن يكون قلبك مملوء بمحبة الله وموالاته، ويكون مملوءا ببغض أعداء الله ومعاداتهم، وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: أتحب أعداء الحبيب وتدعي حبـا له ما ذاك في إمـــــــكان وقال الإمام أحمد رحمه الله: "إذا رأيت النصراني أغمض عيني; كراهة أن أرى بعيني عدو الله". هذا الذي يجد طعم الإيمان، أما - والعياذ بالله - الذي يرى أن اليهود أو النصارى على دين مرضي ومقبول عند الله بعد بعثة النبي (، فهو خارج عن الإسلام، مكذب بقول الله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً}، [المائدة: من الآية3]، وقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ}، [آل عمران: من الآية19]. ج / 2 ص -58- ( وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئا . ......... وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، [آل عمران:85]، ولكثرة اليهود والنصارى والوثنيين صار في هذه المسألة خطر على المجتمع، وأصبح كثير من الناس الآن لا يفرق بين مسلم وكافر، ولا يدري أن غير المسلم عدو لله ( بل هو عدو له أيضا; لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، [الممتحنة: من الآية1]، فهم أعداء لنا ولو تظاهروا بالصداقة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، [المائدة:51]. فالآن أصبحنا في محنة وخطر عظيم; لأنه يخشى على أبنائنا وأبناء قومنا أن يركنوا إلى هؤلاء ويوادوهم ويحبوهم، ولذلك يجب أن تخلص هذه البلاد بالذات منهم; فهذه البلاد قال فيها الرسول (: ( لأخرجن اليهود والنصـارى من جزيرة العــرب حتى لا أدع إلا مسلما((1)، وقال (: ( أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب((2)، وقال (: ( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب((3)، وهذا كله من أجل أن لا يشتبه الأمر على الناس، ويختلط أولياء الله بأعدائه. قوله: "وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا". (1) أخرجه مسلم في (الجهاد, باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب/3/ 1388) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (2) انظر: "التلخيص الحبير" (4/ 125/ رقم 1917). (3) أخرجه البخاري في (الجهاد, باب هل يستشفع إلى أهل الذمة/2/ 373), ومسلم في (الوصية, باب ترك الوصية/3/ 1257). ج / 2 ص -59- رواه ابن جرير(1). قوله: "عامة": أي: أغلبية. وقوله: "مؤاخاة الناس": أي: مودتهم ومصاحبتهم: أي: أكثر مودة الناس ومصاحبتهم على أمر الدنيا، وهذا قاله ابن عباس، وهو بعيد العهد منا قريب العهد من النبوة، فإذا كان الناس قد تغيروا في زمنه; فما بالك بالناس اليوم؟ فقد صارت مؤاخاة الناس- إلا النادر- على أمر الدنيا، بل صار أعظم من ذلك، يبيعون دينهم بدنياهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، [الأنفال:27]، ولما كان غالب ما يحمل على الخيانة هو المال وحب الدنيا أعقبها بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}، [الأنفال:28]. ويستفاد من أثر ابن عباس رضي الله عنهما: أن لله تعالى أولياء، وهو ثابت بنص القرآن، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}، [البقرة: من الآية257]، وقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}، [المائدة: من الآية55]، فلله أولياء يتولون أمره ويقيمون دينه، وهو يتولاهم بالمعونة والتسديد والحفظ والتوفيق، والميزان لهذه الولاية قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}، [يونس:62-63]. (1) أخرجه ابن المبـارك في "الزهد" (353) عن ابن عباس موقوفا, وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/312) عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا, والطبراني في "الكبير" (13537) عن ابن عمر موقوفا. ومداره على ليث بن أبي سليم, وهو ضعيف مختلط. انظر: "تهذيـب التهذيـب" (8/ 467), و"تقريب التهذيب" (2/ 138). ج / 2 ص -60- ( وقال ابن عباس في قوله تعالى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ; قال: المودة((1) . قال شيخ الإسلام: "من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا"، والولاية سبق أنها النصرة والتأييد والإعانة. والولاية تنقسم إلى: ولاية من الله للعبد، وولاية من العبد لله; فمن الأولى قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}، [البقرة: من الآية257]، ومن الثانية قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}، [المائدة: من الآية56]. والولاية التي من الله للعبد تنقسم إلى عامة وخاصة; فالولاية العامة هي الولاية على العباد بالتدبير والتصريف، وهذه تشمل المؤمن والكافر وجميع الخلق; فالله هو الذي يتولى عباده بالتدبير والتصريف والسلطان وغير ذلك، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}، [الأنعام:62]. والولاية الخاصة: أن يتولى الله العبد بعنايته وتوفيقه وهدايته، وهذه خاصة بالمؤمنين، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}، [البقرة: من الآية257]، وقال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}، [يونس:62-63]. قوله: "وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}، [البقرة: من الآية166]. قال: المودة"؛ يشير إلى قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}، [البقرة:166]. (1) أخرجه ابن جرير (2/ 43), والحاكم (2/ 272) وصححه, ووافقه الذهبي. ج / 2 ص -61- فيه مسائل: الأولى: تفسير آية (البقرة). ــ الأسباب: جمع سبب، وهو كل ما يتوصل به إلى شيء. وفي اصطلاح الأصوليين: ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم; فكل ما يوصل إلى شيء; فهو سبب، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج: من الآية15]، ومنه سمي الحبل سببا؛ لأن الإنسان يتوصل به إلى استخراج الماء من البئر. وقوله: "قال: المودة": هذا الأثر ضعفه بعضهم، لكن معناه صحيح; فإن جميع الأسباب التي يتعلق بها المشركون لتنجيهم تتقطع بهم، ومنها محبتهم لأصنامهم وتعظيمهم إياها; فإنها لا تنفعهم، ولعل ابن عباس رضي الله عنهما أخذ ذلك من سياق الآيات; فقد قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه}[البقرة: من الآية165]، ثم قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة:166]. وبه تعرف أن مراده المودة الشركية، فأما المودة الإيمانية؛ كمودة الله تعالى، ومودة ما يحبه من الأعمال والأشخاص; فإنها نافعة موصلة للمراد، قال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية البقرة: وهي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، وسبق ذلك. ج / 2 ص -62- الثانية: تفسير آية (براءة). الثالثة: وجوب محبته ( على النفس والأهل والمال. الرابعة: نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام. الثانية: تفسير آية براءة: وهي قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُم} الآية، وسبق تفسيرها. الثالثة: وجوب محبته ( على النفس والأهل والمال: وفي نسخة: "وتقديمها على النفس والأهل والمال". ولعل الصواب: وجوب تقديم محبته كما هو مقتضى الحديث، وأيضا قوله: "على النفس" يدل على أنها قد سقطت كلمة تقديم أو وتقديمها، وتؤخذ من حديث أنس السابق ومن قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}؛ فذكر الأقارب والأموال. الرابعة: أن نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام: سبق أن المحبة كسبية، وذكــرنا في ذلك حديث عمر ( لما قال للرسول (: ( والله إنك لأحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال له: ومن نفسك. فقال: الآن، أنت أحب إلي من نفسي((1). وقوله: "الآن" يدل على حدوث هذه المحبة، وهذا أمر ظاهر، وفيه أيضا أن نفي الإيمان المذكور في قوله (: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده...((2) لا يدل على الخروج من الإسلام; لقوله ( في الحديث الآخر: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان"; لأن حلاوة الإيمان أمر زائد على أصله; أي: إن الدليل مركب من الدليلين. (1) البخاري: الأيمان والنذور (6632), وأحمد (4/336،233)، (5/293). (2) صحيح مسلم: كتاب الإيمان (44), وسنن النسائي: كتاب الإيمان وشرائعه (5013،5015), وسنن ابن ماجه: كتاب المقدمة (67), ومسند أحمد (3/207،275،278). ج / 2 ص -63- الخامسة: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها. السادسة: أعمال القلب الأربع التي لا تنال ولاية الله إلا بها ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها. ونفي الشيء له ثلاث حالات: فالأصل أنه نفي للوجود، وذلك مثل: لا إيمان لعابد صنم، فإن منع مانع من نفي الوجود; فهو نفي للصحة، مثل: "لا صلاة بغير وضوء"، فإن منع مانع من نفي الصحة; فهو نفي للكمال، مثل: "لا صلاة بحضرة طعام"; فقوله: "لا يؤمن أحدكم" نفي للكمال الواجب لا المستحب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لا ينفى الشيء إلا لانتفاء واجب فيه ما لم يمنع من ذلك مانع". الخامسة: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها تؤخذ من قوله: ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان(، وهذا دليل انتفاء الحلاوة إذا انتفت هذه الأشياء. السادسة: أعمال القلب الأربعة التي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها. وهي: الحب في الله، والبغض في الله، والولاء في الله، والعداء في الله. لا تنال ولاية الله إلا بها، فلو صلى الإنسان وصام ووالى أعداء الله; فإنه لا يناله ولاية الله، قال ابن القيم: أتحب أعداء الحبيب وتدعي حبا له ما ذاك في إمــــــــكان وهذا لا يقبله حتى الصبيان أن توالي من عاداهم. وقوله: "ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها" مأخوذة من قول ابن عباس: "ولن يجد عبد طعم الإيمان..." إلخ. ج / 2 ص -64- السابعة: فهم الصحابي للواقع; أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا. الثامنة: تفسير: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}. التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حبا شديدا. العاشرة: الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه. السابعة: فهم الصحابي للواقع أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا الصحابي يعني به ابن عباس رضي الله عنهما، وقوله: "إن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا"، هذا في زمنه; فكيف بزمننا؟! الثامنة: تفسير قوله: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}؛ فسرها بالمودة، وتفسير الصحابي إذا كانت الآية من صيغ العموم تفسير بالمثال; لأن العبرة في نصوص الكتاب والسنة بعموماتها، فإذا ذكر فرد من أفراد هذا العموم; فإنما يقصد به التمثيل، أي: مثل المودة، لكن حتى الأسباب الأخرى التي يتقربون بها إلى الله وليست بصحيحة; فإنها تنقطع بهم ولا ينالون منها خيرا. التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حبا شديدا: تؤخذ من قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، [البقرة: من الآية165]، وهم يحبون الأصنام حبا شديدا، وتؤخذ من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه}؛ فأشد: اسم تفضيل، يدل على الاشتراك في المعنى مع الزيادة; فقد اشتركوا في شدة الحب، وزاد المؤمنون بكونهم أشد حبا لله من هؤلاء لأصنامهم. العاشرة: الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه: الثمانية هي المذكورة في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ ج / 2 ص -65- الحادية عشرة: أن من اتخذ ندا تساوي محبته محبة الله; فهو الشرك الأكبر. وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا}، [التوبة: من الآية24]. والوعيد في قوله: "فتربصوا"; فأفاد المؤلف رحمه الله تعالى أن الأمر هنا للوعيد. الحادية عشرة: أن من اتخذ ندا تساوي محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر: لقوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، [البقرة: من الآية165]، ثم بين في سياق الآيات أنهم مشركون شركا أكبر، بدليل ما لهم من العذاب. المصدر : كتاب القول المفيد على كتاب التوحيد رابط التحميل المباشر http://waqfeya.com/book.php?bid=1979 |
#34
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
القول المفيد على كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ج / 2 ص -66- باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]. مناسبة الباب لما قبله: أن المؤلف رحمه الله أعقب باب المحبة بباب الخوف; لأن العبادة ترتكز على شيئين: المحبة، والخوف. فبالمحبة يكون امتثال الأمر، وبالخوف يكون اجتناب النهي وإن كان تارك المعصية يطلب الوصول إلى الله، ولكن هذا من لازم ترك المعصية، وليس هو الأساس. فلو سألت من لا يزني لماذا; لقال: خوفا من الله. ولو سألت الذي يصلي; لقال: طمعا في ثواب الله ومحبة له. وكل منهما ملازم للآخر; فالخائف والمطيع يريدان النجاة من عذاب الله والوصول إلى رحمته. وهل الأفضل للإنسان أن يغلب جانب الخوف، أو يغلب جانب الرجاء؟ اختلف في ذلك: فقيل: ينبغي أن يغلب جانب الخوف; ليحمله ذلك على اجتناب المعصية ثم فعل الطاعة. وقيل: يغلب جانب الرجاء; ليكون متفائلا والرسول ( كان يعجبه الفأل(1). (1) سبق (1/570). ج / 2 ص -67- وقيل في فعل الطاعة: يغلب جانب الرجاء فالذي من عليه بفعل هذه الطاعة سيمن عليه بالقبول، ولهذا قال بعض السلف: إذا وفقك الله للدعاء; فانتظر الإجابة، لأن الله يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، [غافر: من الآية60وفي فعل المعصية يغلب جانب الخوف لأجل أن يمنعه منها ثم إذا خاف من العقوبة تاب. وهذا أقرب شيء، ولكن ليس بذاك القرب الكامل; لأن الله يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}، [المؤمنون:60]، أي: يخافون أن لا يقبل منهم، لكن قد يقال بأن هذه الآية يعارضها أحاديث أخرى; كقوله ( في الحديث القدسي عن ربه: ( أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني((1). وقيل: في حال المرض يغلب جانب الرجاء، وفي حال الصحة يغلب جانب الخوف. فهذه أربعة أقوال. وقال الإمام أحمد: ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحدا; فأيهما غلب هلك صاحبه; أي: يجعلهما كجناحي الطائر، والجناحان للطائر إذا لم يكونا متساويين سقط. وخوف الله تعالى درجات؛ فمن الناس من يغلو في خوفه، ومنهم من يفرط، ومنهم من يعتدل في خوفه. والخوف العدل هو الذي يرد عن محارم الله فقط، وإن زدت على هذا; فإنه يوصلك إلى اليأس من روح الله. ومن الناس من يفرط في خوفه بحيث لا يردعه عما نهى الله عنه. والخوف أقسام: (1) أخرجه البخاري في (التوحيد, باب ويحذركم الله نفسه/4/384), ومسلم في (الذكر والدعاء, باب الحث على ذكر الله/4/2061); من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ج / 2 ص -68- الأول: خوف العبادة والتذلل والتعظيم والخضوع، وهو ما يسمى بخوف السر؛ وهذا لا يصلح إلا لله - سبحانه -، فمن أشرك فيه مع الله غيره; فهو مشرك شركا أكبر، وذلك مثل: من يخاف من الأصنام أو الأموات، أو من يزعمونهم أولياء ويعتقدون نفعهم وضرهم; كما يفعله بعض عباد القبور: يخاف من صاحب القبر أكثر مما يخاف الله. الثاني: الخوف الطبيعي والجبلي; فهذا في الأصل مباح; لقوله تعالى عن موسى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ}، [القصص: من الآية21]، وقوله عنه أيضا: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}، [القصص:33]، لكن إن حمل على ترك واجب أو فعل محرم; فهو محرم، وإن استلزم شيئا مباحا كان مباحا، فمثلا من خاف من شيء لا يؤثر عليه وحمله هذا الخوف على ترك صلاة الجماعة مع وجوبها; فهذا الخوف محرم، والواجب عليه أن لا يتأثر به. وإن هدده إنسان على فعل محرم، فخافه وهو لا يستطيع أن ينفذ ما هدده به; فهذا خوف محرم لأنه يؤدي إلى فعل محرم بلا عذر، وإن رأى نارا ثم هرب منها ونجا بنفسه; فهذا خوف مباح، وقد يكون واجبا إذا كان يتوصل به إلى إنقاذ نفسه. وهناك ما يسمى بالوهم وليس بخوف، مثل أن يرى ظل شجرة تهتز، فيظن أن هذا عدو يتهدده; فهذا لا ينبغي للمؤمن أن يكون كذلك، بل يطارد هذه الأوهام لأنه لا حقيقة لها، وإذا لم تطاردها; فإنها تهلكك. مناسبة الخوف للتوحيد: أن من أقسام الخوف ما يكون شركا منافيا للتوحيد. ج / 2 ص -69- وقد ذكر المؤلف فيه ثلاث آيات: أولها ما جعلها ترجمة للباب، وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}، [آل عمران: من الآية175]. "إنما ذلكم": صيغة حصر، والمشار إليه التخويف من المشركين. "ذلكم": ذا؛ مبتدأ، و"الشيطان": يحتمل أن يكون خبر المبتدأ، وجملة "يخوف" حال من الشيطان. ويحتمل أن يكون "الشيطان" صفة لـ"ذلكم"، أو عطف بيان. و"يخوف": خبر المبتدأ، والمعنى: ما هذا التخويف الذي حصل إلا من شيطان يخوف أولياءه. و"يخوف" تنصب مفعولين، الأول محذوف تقديره: يخوفكم، والمفعول الثاني: "أولياءه"، ومعنى يخوفكم; أي: يوقع الخوف في قلوبكم منهم. و"أولياءه"; أي: أنصاره الذين ينصرون الفحشاء والمنكر; لأن الشيطان يأمر بذلك; فكل من نصر الفحشاء والمنكر; فهو من أولياء الشيطان، ثم قد يكون النصر في الشرك وما ينافي التوحيد; فيكون عظيما وقد يكون دون ذلك. وقوله: "يخوف أولياءه" من ذلك ما وقع في الآية التي قبلها، حيث قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}، [آل عمران: من الآية173]، وذلك ليصدوهم عن واجب من واجبـات الدين، وهو الجهاد، فيخوفونهم بذلك، ج / 2 ص -70- وكذلك ما يحصل في نفس من أراد أن يأمر بالمعروف، أو ينهى عن المنكر، فيخوفه الشيطان ليصده عن هذا العمل، وكذلك ما يقع في قلب الداعية. والحاصل: أن الشيطان يخوف كل من أراد أن يقوم بواجب، فإذا ألقى الشيطان في نفسك الخوف; فالواجب عليك أن تعلم أن الإقدام على كلمة الحق ليس هو الذي يدني الأجل، وليس السكوت والجبن هو الذي يبعد الأجل; فكم من داعية صدع بالحق ومات على فراشه؟! وكم من جبان قتل في بيته؟! وانظر إلى خالد بن الوليد، كان شجاعا مقداما، ومات على فراشه، وما دام الإنسان قائما بأمر الله; فليثق بأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وحزب الله هم الغالبون. قوله: "فلا تخافوهم": لا ناهية، والهاء ضمير يعود على أولياء الشيطان، وهذا النهي للتحريم بلا شك; أي: بل امضوا فيما أمرتكم به وفيما أوجبته عليكم من الجهاد، ولا تخافوا هؤلاء، وإذا كان الله مع الإنسان، فإنه لا يغلبه أحد، لكن نحتاج في الحقيقة إلى صدق النية والإخلاص والتوكل التام، ولهذا قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، [آل عمران: من الآية175]، وعلم من هذه الآية أن للشيطان وساوس يلقيها في قلب ابن آدم منها التخويف من أعدائه، وهذا ما وقع فيه كثير من الناس، وهو الخوف من أعداء الله فكانوا فريسة لهم، وإلا لو اتكلوا على الله وخافوه قبل كل شيء لخافهم الناس، ولهذا قيل في المثل: من خاف الله خافه كل شيء، ومن اتقى الله اتقاه كل شيء، ومن خاف من غير الله خاف من كل شيء. ويفهم من الآية أن الخـوف من الشيطان وأوليـائه مناف للإيمان، فإن ج / 2 ص -71- وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}، [التوبة:18]. كان الخوف يؤدي إلى الشرك; فهو مناف لأصله، وإلا; فهو مناف لكماله. الآية الثانية قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُر}. "إنما": أداة حصر، والمراد بالعمارة العمارة المعنوية، وهي عمارتها بالصلاة والذكر وقراءة القرآن ونحوها، وكذلك الحسية بالبناء الحسي; فإن عمارتها به حقيقة لا تكون إلا ممن ذكرهم الله; لأن من يعمرها وهو لم يؤمن بالله واليوم الآخر لم يعمرها حقيقة; لعدم انتفاعه بهذه العمارة; فالعمارة النافعة الحسية والمعنوية من الذين آمنوا بالله واليوم الآخر، ولهذا لما افتخر المشركون بعمارة المسجد الحرام; قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، وأضاف سبحانه المساجد إلى نفسه تشريفا; لأنها موضع عبادته. قوله: ( مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ( "من": فاعل يعمر. والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور، وهي: - الإيمان بوجوده. - وربوبيته. - وألوهيته. - وأسمائه وصفاته. ج / 2 ص -72- و{اليوم الآخر}: هو يوم القيامة، وسمي بذلك; لأنه لا يوم بعده. قال شيخ الإسلام: ويدخل في الإيمان بالله واليوم الآخر كل ما أخبر به النبي (، مما يكون بعد الموت مثل فتنة القبر وعذابه ونعيمه؛ لأن حقيقة الأمر أن الإنسان إذا مات قامت قيامته وارتحل إلى دار الجزاء. ويقرن الله الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر كثيرا; لأن الإيمان باليوم الآخر يحمل الإنسان إلى الامتثال، فإنه إذا آمن أن هناك بعثا وجزاء; حمله ذلك على العمل لذلك اليوم، ولكن من لا يؤمن باليوم الآخر لا يعمل; إذ كيف يعمل لشيء وهو لا يؤمن به؟! قوله: "وأقام الصلاة": أي: أتى بها على وجه قويم لا نقص فيه. والإقامة نوعان: إقامة واجبة، وهي التي يقتصر فيها على فعل الواجب من الشروط والأركان والواجبات. وإقامة مستحبة: وهي التي يزيد فيها على فعل ما يجب؛ فيأتي بالواجب والمستحب. قوله: "وآتى الزكاة": "آتى" تنصب مفعولين؛ الأول هنا الزكاة، والثاني محذوف، تقديره مستحقها. والزكاة: هي المال الذي أوجبه الشارع في الأموال الزكوية وتختلف مقاديرها حسب ما تقتضيه حكمة الله (. قوله: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ}؛ في هذه الآية حصر، طريقه الإثبات والنفي. "ولم يخش" نفي، "إلا الله" إثبات. والمعنى: أن خشيته انحصرت في الله - عزوجل - فلا يخشى غيره. والخشية نوع من ج / 2 ص -73- الخوف، لكنها أخص منه، والفرق بينهما: 1- أن الخشية تكون مع العلم بالمخشي وحاله; لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، [فاطر: من الآية28]، والخوف قد يكون من الجاهل. 2- أن الخشية تكون بسبب عظمة المخشي، بخلاف الخوف; فقد يكون من ضعف الخائف لا من قوة المخوف. قوله: {فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}، [التوبة: من الآية18]، قال ابن عباس: ( عسى من الله واجبة((1) وجاءت بصيغة الترجي; لئلا يأخذ الإنسان الغرور بأنه حصل على هذا الوصف، وهذا كقوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً، فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً}، [النساء:98-99]، فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها; فالذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا جديرون بالعفو. الشاهد من الآية: قوله: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ}؛ ولهذا قال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}، ومن علامات صدق الإيمان أن لا يخشى إلا الله في كل ما يقول ويفعل. ومن أراد أن يصحح هذا المسير; فليتأمل قول الرسول ( ( واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك((2). (1) أخرجه البيهقي (9/ 13), وأورده السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 587), وفي "الإتقـان" (ص 214). وإسناده صحيح. انظر صحيفة علي بن أبي طالب: (ص 72- 73). (2) أخرجه الإمام أحمد (1/ 293, 307), والترمذي في (صفة القيامة, باب "ولكن يا حنظلة ساعة وساعة"/8/ 203)- وقال: "حسن صحيح" وأخرجه أيضا: عبد بن حميد (635), والطبراني في "الكبير" (12988, 12989, 11243, 11416, 11560), وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 314) و "أخبار أصفهان" 21/ 204). وقال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (ص 161): "وبكل حال; فطريق حنش التي خرجها الترمذي حسنة جيدة". وانظر: "المشكاة (3/ 1459). ج / 2 ص -74- وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}، [العنكبوت: من الآية10]، الآية. الآية الثالثة قوله تعالى: "ومن الناس": جار ومجرور خبر مقدم، و"من" تبعيضية. وقوله: "من يقول": "من": مبتدأ مؤخر، والمراد بهؤلاء: من لا يصل الإيمان إلى قرارة قلبه; فيقول: آمنا بالله، لكنه إيمان متطرف; كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ}، [الحج: من الآية11]، "على حرف" ; أي: على طرف. فإذا امتحنه الله بما يقدر عليه من إيذاء الأعداء في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله. قوله: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ}، "في": للسببية; أي: بسبب الإيمان بالله وإقامة دينه. ويجوز أن تكون "في" للظرفية على تقدير: "فإذا أوذي في شرع الله"; أي: إيذاء في هذا الشرع الذي تمسك به. قوله: {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ}، "جعل": صير، والمراد بالفتنة هنا الإيذاء، وسمي فتنة; لأن الإنسان يفتتن به، فيصد عن سبيل الله; كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا}، [البروج: من الآية10]، وإضافة الفتنة إلى الناس من باب إضافة المصدر إلى فاعله. قوله: "كعذاب الله": ومعلــوم أن الإنسـان يفر من عــذاب الله، ج / 2 ص -75- فيوافق أمره; فهذا يجعل فتنة الناس كعذاب الله; فيفر من إيذائهم بموافقة أهوائهم وأمرهم جعلا لهذه الفتنة كالعذاب; فحينئذ يكون قد خاف من هؤلاء كخوفه من الله; لأنه جعل إيذاءهم كعذاب الله، ففر منه بموافقة أمرهم; فالآية موافقة للترجمة. وفي هذه الآية من الحكمة العظيمة، وهي ابتلاء الله للعبد لأجل أن يمحص إيمانه وذلك على قسمين: الأول: ما يقدره الله نفسه على العبد; كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ}، [الحج: من الآية11]، وقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، [البقرة: من الآية155-156]. الثاني: ما يقدره الله على أيدي الخلق من الإيذاء امتحانا واختبارا، وذلك كالآية التي ذكر المؤلف. وبعض الناس إذا أصابته مصائب لا يصبر، فيكفر ويرتد أحيانا- والعياذ بالله-، وأحيانا يكفر بما خالف فيه أمر الله ( في موقفه في تلك المصيبة; وكثير من الناس ينقص إيمانه بسبب المصائب نقصا عظيما; فليكن المسلم على حذر; فالله حكيم، يمتحن عباده بما يتبين به تحقق الإيمان، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}[محمد:31]. قوله: "الآية": أي: إلى آخر الآية، وهي قوله تعالى: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ}، [العنكبوت: من الآية10]. ج / 2 ص -76- كانوا يدعون أن ما يحصل لهم من الإيذاء بسبب الإيمان، فإذا انتصر المسلمون قالوا: نحن معكم نريد أن يصيبنا مثل ما أصابكم من غنيمة وغيرها. وقوله: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ}، [العنكبوت: من الآية10]، قيل في مثل هذا السياق: إن الواو عاطفة على محذوف يقدر بحسب ما يقتضيه السياق. وقيل: إنها عاطفة على ما سبقها، على تقدير أن الهمزة بعدها، أي: وأليس الله. قوله: "أعلم" مجرور بالفتحة; لأنه ممنوع من الصرف للوصفية، ووزن الفعل. فالله أعلم بما في صدور العالمين، أي بما في صدور الجميع; فالله أعلم بما في نفسك منك، وأعلم بما في نفس غيرك; لأن علم الله عام. وكلمة "أعلم": اسم تفضيل، وقال بعض المفسرين ولاسيما المتأخرون منهم: "أعلم" بمعنى عالم، وذلك فرارا من أن يقع التفضيل بين الخالق والمخلوق، وهذا التفسير الذي ذهبوا إليه كما أنه خلاف اللفظ; ففيه فساد المعنى; لأنك إذا قلت: أعلم بمعنى عالم، فإن كلمة عالم تكون للإنسان وتكون لله، ولا تدل على التفاضل; فالله عالم والإنسان عالم. وأما تحريف اللفظ; فهو ظاهر، حيث حرفوا اسم التفضيل الدال على ثبوت المعنى وزيادة إلى اسم فاعل لا يدل على ذلك. والصواب أن "أعلم" على بابها، وأنها اسم تفضيل، وإذا كانت اسم تفضيل; فهي دالة دلالة واضحة على عدم تماثل علم الخالق وعلم المخلوق، وأن علم الخالق أكمل. ج / 2 ص -77- عن أبي سعيد ( مرفوعا: ( إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، ............ وقوله: {بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ}، المراد بالعالمين: كل من سوى الله; لأنهم علم على خالقهم، فجميع المخلوقات دالة على كمال الله وقدرته وربوبيته. والله أعلم بنفسك منك ومن غيرك; لعموم الآية. وفي الآية تحذير من أن يقول الإنسان خلاف ما في قلبه، ولهذا لما تخلف كعب بن مالك في غزوة تبوك قال للرسول ( حين رجع: ( إني قد أوتيت جدلا، ولو جلست إلى غيرك من ملوك الدنيا; لخرجت منهم بعذر، لكن لا أقول شيئا تعذرني فيه فيفضحني الله فيه((1). الشاهد من الآية: قوله: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّه}، [العنكبوت: من الآية10]، فخاف الناس مثل خوف الله تعالى. قوله: في حديث أبي سعيد: "إن من ضعف اليقين": "من": للتبعيض، والضعف ضد القوة، ويقال: ضَعف بفتح الضاد أو ضُعف بضم الضاد، وكلاهما بمعنى واحد; أي: من علامة ضعف اليقين. قوله: " أن ترضي الناس بسخط الله ": "أن ترضي": اسم إن مؤخرا، و "من ضعف اليقين": خبرها مقدما والتقدير: إن إرضاء الناس بسخط الله من ضعف اليقين. (1) أخرجه البخاري في (المغازي, باب حديث كعب بن مالك/3/176), ومسلم في (التوبة, باب حديث توبة كعب/4/2120). ج / 2 ص -78- وأن تحمدهم على رزق الله،..... قوله: "بسخط الله": الباء للعوض، يعني: أي تجعل عوض إرضاء الناس سخط الله، فتستبدل هذا بهذا; فهذا من ضعف اليقين. واليقين أعلى درجات الإيمان، وقد يراد به العلم، كما تقول: تيقنت هذا الشيء، أي: علمته يقينا لا يعتريه الشك، فمن ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله; إذ إنك خفت الناس أكثر مما تخاف الله، وهذا مما ابتليت به الأمة الإسلامية اليوم; فتجد الإنسان يجيء إلى شخص فيمدحه، وقد يكون خاليا من هذا المدح، ولا يبين ما فيه من عيوب، وهذا من النفاق وليس من النصح والمحبة، بل النصح أن تبين له عيوبه ليتلافاها ويحترز منها، ولا بأس أن تذكر له محامده تشجيعا إذا أمن في ذلك من الغرور. قوله: "وأن تحمدهم على رزق الله": الحمد: وصف المحمود بالكمال، مع المحبة والتعظيم، ولكنه هنا ليس بشرط المحبة والتعظيم; لأنه يشمل المدح. و "رزق الله": عطاء الله; أي: إذا أعطوك شيئا حمدتهم، ونسيت المسبب وهو الله، والمعنى: أن تجعل الحمد كله لهم متناسيا بذلك المسبب، وهو الله; فالذي أعطاك سبب فقط، والمعطي هو الله، ولهذا قال النبي (: ( إنما أنا قاسم، والله يعطي((1). أما إن كان في قلبك أن الله هو الذي من عليك بسياق هذا الرزق، ثم شكرت الذي أعطاك; فليست هذا داخلا في الحديث، بل هو من الشرع; لقوله :( مـن صنع إليكم معــروفا; فكـافئـوه، فإن لم تجــدوا ما (1) رواه البخاري (كتاب فرض الخمسة/3116). ج / 2 ص -79- وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، تكافئونه به; فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه((1). إذن الحديث ليس على ظاهره من كل وجه، فالمراد بالحمد: أن تحمدهم الحمد المطلق ناسيا المسبب وهو الله (، وهذا من ضعف اليقين، كأنك نسيت المنعم الأصلي، وهو الله ( الذي له النعمة الأولى، وهو سفه أيضا; لأن حقيقة الأمر أن الذي أعطاك هو الله، فالبشر الذي أعطاك هذا الرزق لم يخلق ما أعطاك، فالله هو الذي خلق ما بيده، وهو الذي عطف قلبه حتى أعطاك، أرأيت لو أن إنسانا له طفل، فأعطى طفله ألف درهم وقال له: أعطها فلانا، فالذي أخذ الدراهم يحمد الأب; لأنه لو حمد الطفل فقط لعد هذا سفها; لأن الطفل ليس إلا مرسلا فقط، وعلى هذا; فنقول: إنك إذا حمدتهم ناسيا بذلك ما يجب لله من الحمد والثناء; فهذا هو الذي من ضعف اليقين، أما إذا حمدتهم على أنهم سبب من الأسباب، وأن الحمد كله لله ( فهذا حق، وليس من ضعف اليقين. قوله: "وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله": هذه عكس الأولى; فمثلا: لو أن إنسانا جاء إلى شخص يوزع دراهم، فلم يعطه، فسبه ـــــ (1) أخرجه أحمد (2/ 68, 99, 127), والبخاري في "الأدب المفردة" (216), وأبو داود في (الزكاة, باب عطية من سأل بالله/2/310), والنسائي في (الزكاة, باب من ســــأل بالله/5/ 82), والطبراني في "الكبير" (13465, 13466), وابن حبان (2071), والحـاكم (1/ 412)- وصححه على شرطهما ووافقه الذهبي-, وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 56), والبيهقي (4/199). والحديث صححه الحافظ في "تخريج الأذكار"; كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 250), وحسنه السخاوي في "الفتوحات (7/121). ج / 2 ص -80- إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره ((1) . ـ وشتمه; فهذا من الخطأ لأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لكن من قصر بواجب عليه، فيذم لأجل أنه قصر بالواجب لا لأجل أنه لم يعط; فلا يذم من حيث القدر; لأن الله لو قدر ذلك لوجدت الأسباب التي يصل بها إليك هذا العطاء. وقوله: "ما لم يؤتك": علامة جزمه حذف الياء، والمفعول الثاني محذوف; لأنه فضلة، والتقدير: ما لم يؤتكه. قوله: ( إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كراهية كاره(، هذا تعليل; لقوله: "أن تحمدهم وأن تذمهم". و"رزق الله": عطاؤه، لكن حرص الحريص من سببه بلا شك، فإذا بحث عن الرزق وفعل الأسباب; فإنه يكون فعل الأسباب الموجبة للرزق، لكن ليس المعنى أن هذا السبب موجب مستقل، وإنما الذي يرزق هو الله تعالى، وكم من إنسان يفعل أسبابا كثيرة للرزق ولا يرزق، وكم من إنسان يفعل أسبابا قليلة فيرزق، وكم من إنسان يأتيه الرزق بدون سعي، كما لو وجد ركازا في الأرض أو مات له قريب غني يرثه، أو ما أشبه ذلك. وقوله: "ولا يرده كراهية كاره": أي: أن رزق الله إذا قدر للعبد; فلن يمنعه عنه كراهية كاره; فكم من إنسان حسده الناس، وحاولوا منع رزق الله فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا. (1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (5/106)، (10/ 41), والبيهقي في "شعب الإيـمـــان " (1/152,151). وقال: "محمد بن مروان ضعيف", وقال الشيخ سليمان رحمه الله في "التيسير" (ص490): "قلت: ضعيف, ومعناه صحيح". ج / 2 ص -81- وعن عائشة رضي الله عنها; أن رسول الله ( قال: ( من التمس رضا الله بسخط الناس وأرضى عنه الناس، ومن التمسك رضا الناس بسخط الله; سخط الله عليه وأسخط عليه الناس( رواه ابن حبــان في " صحيحه"(1). قوله: في حديث عائشة رضي الله عنها: ( من التمس رضا الله بسخط الناس(، "التمس": طلب، ومنه قوله ( في ليلة القدر: ( التمسوها في العشر((2). وقوله: "رضا الله": أي: أسباب رضاه. وقوله: "بسخط الناس": الباء للعوض; أي: إنه طلب ما يرضي الله ولو سخط الناس به بدلا من هذا الرضا، وجواب الشرط: "رضي الله عنه وأرضى عنه الناس". وقوله: "رضي الله عنه وأرضى عنه الناس": هذا ظاهر، فإذا التمس العبد رضا ربه بنية صادقة رضي الله عنه؛ لأنه أكرم من عبده، وأرضى عنه الناس، وذلك بما يلقي في قلوبهم من الرضا عنه ومحبته; لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. قوله: ( ومن التمس رضا الناس بسخط الله(، "التمس": طلب; أي: طلب ما يرضي الناس، ولو كان يسخط الله; فنتيجة ذلك أن يعامل بنقيض قصده، لهذا قال: "سخط الله عليه وأسخط عليه الناس"; فألقى في قلوبهم سخطه وكراهيته. (1) أخرجه ابن حبان بهذا اللفظ (1542), وأخرجه بنحوه: ابن المبارك في "الزهد" (199), والترمذي في (الزهد, باب من التمس رضا الله بسخط الناس/7/132), والبغوي في "شرح السنة" (14/410), وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 118), وابن حبان (1541). (2) أخرجه البخاري في (فضل ليلة القدر, باب تحري ليلة القدر/1/ 64) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. ج / 2 ص -82- مناسبة الحديث للترجمة: قوله: "ومن التمس رضا الناس بسخط الله"; أي: خوفا منهم حتى يرضوا عنه; فقدم خوفهم على مخافة الله تعالى. فيستفاد من الحديث ما يلي: 1- وجوب طلب ما يرضي الله وإن سخط الناس لأن الله هو الذي ينفع ويضر. 2- أنه لا يجوز أن يلتمس ما يسخط الله من أجل إرضاء الناس كائنا من كان. 3- إثبات الرضا والسخط لله على وجه الحقيقة، لكن بلا مماثلة للمخلوقين; لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، [الشورى: من الآية11]، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وأما أهل التعطيل; فأنكروا حقيقة ذلك، قالوا: لأن الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، وهذا لا يليق بالله، وهذا خطأ; لأنهم قاسوا سخط الله أو غضبه بغضب المخلوق، فنرد عليهم بأمرين: بالمنع، ثم النقض: فالمنع: أن نمنع أن يكون معنى الغضب المضاف إلى الله ( كغضب المخلوقين. والنقض: فنقول للأشاعرة: أنتم أثبتم لله ( الإرادة، وهي ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، والرب ( لا يليق به ذلك، فإذا قالوا: هذه إرادة المخلوق. نقول: والغضب الذي ذكرتم هو غضب المخلوق. وكل إنسان أبطل ظواهر النصوص بأقيسة عقلية; فهذه الأقيسة باطلة لوجوه: ج / 2 ص -83- الأول: أنها تبطل دلالة النصوص، وهذا يقتضي أن تكون هي الحق، ومدلول النصوص باطل، وهذا ممتنع. الثاني: أنه تقول على الله بغير علم; لأن الذي يبطل ظاهر النص يؤوله إلى معنى آخر; فيقال له: ما الذي أدراك أن الله أراد هذا المعنى دون ظاهر النص؟ ففيه تقول على الله في النفي والإثبات في نفي الظاهر، وفي إثبات ما لم يدل عليه دليل. الثالث: أن فيه جناية على النصوص، حيث اعتقد أنها دالة على التشبيه; لأنه لم يعطل إلا لهذا السبب; فيكون ما فهم من كتاب الله وسنة رسوله( كفرا أو ضلالا. الرابع: أن فيها طعنا في الرسول ( وخلفائه الراشدين; لأننا نقول: هذه المعاني التي صرفتم النصوص إليها هل الرسول ( وخلفاؤه يعلمون بها أم لا؟ فإن قالوا: لا يعلمون; فقد اتهموهم بالقصور، وإن قالوا: يعلمون ولم يبينوها; فقد اتهموهم بالتقصير. فلا تستوحش من نص دل على صفة أن تثبتها، لكن يجب عليك أن تجتنب أمرين هما: التمثيل والتكييف; لقوله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ}، [النحل: من الآية74]، وقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، [الإسراء: من الآية36]، فإذا أثبت الله لنفسه وجها أو يدين; فلا تستوحش من إثبات ذلك; لأن الذي أخبر به عن نفسه أعلم بنفسه من غيره وأصدق قيلا وأحسن حديثا، وهو يريد لخلقه الهداية، وإذا أثبت رسوله ( ذلك له; فلا تستوحش من إثباته; لأنه (: ج / 2 ص -84- فيه مسائل: الأولى: تفسير آية (آل عمران). الثانية: تفسير آية(براءة). أصدق الخلق. وأعلمهم بما يقول عن الله. وأبلغهم نطقا وفصاحة. وأنصح الخلق للخلق. فمن أنكر صفة أثبتها الله لنفسه أو أثبتها له رسوله، وقال: هذا تقشعر منه الجلود وتنكره القلوب; فيقال: هذا لا ينكره إلا إنسان في قلبه مرض، أما الذين آمنوا; فلا تنكره قلوبهم، بل تؤمن به وتطمئن إليه، ونحن لم نكلف إلا بما بلغنا، والله يريد لعباده البيان والهدى، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، [النساء: من الآية26]، فهو لا يريد أن يعمي عليهم الأمر، فيقول: إنه يغضب وهو لا يغضب، ويقول: إنه يهرول وهو لا يهرول، هذا خلاف البيان. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية آل عمران: وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، [آل عمران:175]، وسبق. الثانية: تفسير آية براءة: وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّــــــلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا ج / 2 ص -85- الثالثة: تفسير آية (العنكبوت). الرابعة: أن اليقين يضعف ويقوى. الخامسة: علامة ضعفه، ومن ذلك هذه الثلاث. السادسة: أن إخلاص الخوف لله من الفرائض. السابعة: ذكر ثواب من فعله. الثامنة: ذكر عقاب من تركه. اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}، [التوبة: من الآية18]، وسبق. الثالثة: تفسير آية العنكبوت: وهي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}، [العنكبوت: من الآية10]، وقد تكلمنا على تفسيرها فيما سبق. الرابعة: أن اليقين يضعف ويقوى: تؤخذ من الحديث: "إن من ضعف اليقين..." الحديث. الخامسة: علامة ضعفه، ومن ذلك هذه الثلاث: وهي: أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله. السادسة: أن إخلاص الخوف لله من الفرائض: وتؤخذ من قوله ( في الحديث: "من التمس..." الحديث، ووجهه ترتيب العقوبة على من قدم رضا الناس على رضا الله تعالى. السابعة: ذكر ثواب من فعله: وهو رضا الله عنه، وأنه يرضي عنه الناس، وهو العاقبة الحميدة. الثامنة: ذكر عقاب من تركه: وهو أن يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس، ولا ينال مقصوده. ج / 2 ص -86- وخلاصة الباب: أنه يجب على المرء أن يجعل الخوف من الله فوق كل خوف وأن لا يبالي بأحد في شريعة الله تعالى، وأن يعلم أن من التمس رضا الله تعالى وإن سخط الناس عليه; فالعاقبة له، وإن التمس رضا الناس وتعلق بهم وأسخط الله; انقلبت عليه الأحوال، ولم ينل مقصوده، بل حصل له عكس مقصوده، وهو أن يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس. المصدر : كتاب القول المفيد على كتاب التوحيد رابط التحميل المباشر http://waqfeya.com/book.php?bid=1979 |
#35
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
القول المفيد على كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، ج / 2 ص -87- باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، [المائدة: من الآية23]: مناسبة هذا الباب لما قبله: هي أن الإنسان إذا أفرد الله - سبحانه - بالتوكل; فإنه يعتمد عليه في حصول مطلوبه وزوال مكروهه، ولا يعتمد على غيره. والتوكل: هو الاعتماد على الله- سبحانه وتعالى- في حصول المطلوب، ودفع المكروه، مع الثقة به، وفعل الأسباب المأذون فيها، وهذا أقرب تعريف له. ولا بد من أمرين: الأول: أن يكون الاعتماد على الله اعتمادا صادقا حقيقيا. الثاني: فعل الأسباب المأذون فيها. فمن جعل أكثر اعتماده على الأسباب; نقص توكله على الله، ويكون قادحا في كفاية الله; فكأنه جعل السبب وحده هو العمدة فيما يصبو إليه من حصول المطلوب وزوال المكروه. ومن جعل اعتماده على الله ملغيا للأسباب، فقد طعن في حكمة الله; لأن الله جعل لكل شيء سببا، فمن اعتمد على الله، اعتمادا ج / 2 ص -88- مجردا، كان قادحا في حكمة الله; لأن الله حكيم، يربط الأسباب بمسبباتها، كمن يعتمد على الله في حصول الولد وهو لا يتزوج. والنبي ( أعظم المتوكلين، ومع ذلك كان يأخذ بالأسباب; فكان يأخذ الزاد في السفر، ولما خرج إلى أحد ظاهر بين درعين; أي: لبس درعين اثنين(1) ولما خرج مهاجرا أخذ من يدله الطريق(2) ولم يقل سأذهب مهاجرا وأتوكل على الله، ولن أصطحب معي من يدلني الطريق، وكان ( يتقي الحر والبرد، ولم ينقص ذلك من توكله. ويذكر عن عمر ( أنه قدم ناس من أهل اليمن إلى الحج بلا زاد، فجيء بهم إلى عمر، فسألهم، فقالوا: نحن المتوكلون على الله. فقال: لستم المتوكلين، بل أنتم المتواكلون. والتوكل نصف الدين ولهذا نقول في صلاتنا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فنطلب من الله العون؛ اعتمادا عليه سبحانه، بأنه سيعيننا على عبادته. وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْه}، [هود: من الآية123]، وقال تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}، [هود: من الآية88]، ولا يمكن تحقيق العبادة إلا بالتوكل; لأن الإنسان لو وكل إلى نفسه وكل إلى ضعف وعجز، ولم يتمكن من القيام بالعبادة; فهو حين يعبد الله يشعر أنه متوكل على الله، فينال بذلك أجر العبادة وأجر التوكل، ولكن الغـالب عندنا ضعف التوكل، (1) أخرجه الإمام أحمد (3/ 449), وأبو داود في (الجهاد, باب في لبس الأدرع/3/ 71), ولم يجزم سفيان بسماعه هذا الحديث. (2) أخرجه البخاري في (الإجارة, باب استئجار المشركين/2/130) من حديث عائشة رضي الله عنها. ج / 2 ص -89- وأننا لا نشعر حين نقوم بالعبادة أو العادة بالتوكل على الله والاعتماد عليه في أن ننال هذا الفعل، بل نعتمد في الغالب على الأسباب الظاهرة وننسى ما وراء ذلك; فيفوتنا ثواب عظيم، وهو ثواب التوكل، كما أننا لا نوفق إلى حصول المقصود كما هو الغالب، سواء حصل لنا عوارض توجب انقطاعها أو عوارض توجب نقصها. والتوكل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: توكل عبادة وخضوع، وهو الاعتماد المطلق على من توكل عليه، بحيث يعتقد أن بيده جلب النفع ودفع الضر; فيعتمد عليه اعتمادا كاملا، مع شعوره بافتقاره إليه; فهذا يجب إخلاصه لله تعالى، ومن صرفه لغير الله; فهو مشرك شركا أكبر; كالذين يعتمدون على الصالحين من الأموات والغائبين، وهذا لا يكون إلا ممن يعتقد أن لهؤلاء تصرفا خفيا في الكون، فيعتمد عليهم في جلب المنافع ودفع المضار. الثاني: الاعتماد على شخص في رزقه ومعاشه وغير ذلك، وهذا من الشرك الأصغر، وقال بعضهم: من الشرك الخفي، مثل اعتماد كثير من الناس على وظيفته في حصول رزقه، ولهذا تجد الإنسان يشعر من نفسه أنه معتمد على هذا اعتماد افتقار; فتجد في نفسه من المحاباة لمن يكون هذا الرزق عنده ما هو ظاهر; فهو لم يعتقد أنه مجرد سبب، بل جعله فوق السبب. الثالث: أن يعتمد على شخص فيما فوض إليه التصرف فيه، كما لو وكلت شخصا في بيع شيء أو شرائه، وهذا لا شيء فيه; لأنه اعتمد عليه وهو يشعر أن المنزلة العليا له فوقه; لأنه جعله نائبا عنه وقد وكل ج / 2 ص -90- النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب؛ أن يذبح ما بقي من هديه(1)، ووكل أبا هريرة على الصدقة(2)، ووكل عروة بن الجعد أن يشتري له أضحية(3)، وهذا بخلاف القسم الثاني؛ لأنه يشعر بالحاجة إلى ذلك، ويرى اعتماده على المتوكل عليه اعتمادَ افتقارٍ. ومما سبق يتبين أن التوكل من أعلى المقامات، وأنه يجب على الإنسان أن يكون مصطحبا له في جميع شئونه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولا يكون للمعطلة أن يتوكلوا على الله ولا للمعتزلة القدرية"; لأن المعطلة يعتقدون انتفاء الصفات عن الله تعالى، والإنسان لا يعتمد إلا على من كان كامل الصفات المستحقة لأنه يعتمد عليه. وكذلك القدرية; لأنهم يقولون: إن العبد مستقل بعمله، والله ليس له تصرف في أعمال العباد. ومن ثم نعرف أن طريق السلف هو خير الطرق، وبه تكمل جميع العبادات وتتم به جميع أحوال العابدين. وقد ذكر المؤلف في هذا الباب أربع آيات، أو لها ما جعله ترجمة للباب، وهي: قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا}، [المائدة: من الآية23]، "على الله" متعلقة بقوله: "فتوكلوا"، وتقديم المعمول يدل على الحصر; أي: على الله لا على غيره، "فتوكلوا"; أي: اعتمدوا. (1) أخرجه مسلم في (الحج, باب حجة النبي (/2/892) من حديث جابر رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاري في (الوكالة/2311). (3) أخرجه البخاري في (المناقب, باب حدثنا محمد بن المثنى/2/539). ج / 2 ص -91- وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، [الأنفال: من الآية2] الآية. والفاء لتحسين اللفظ وليست عاطفة; لأن في الجملة حرف عطف وهو الواو، ولا يمكن أن نعطف الجملة بعاطفين; فتكون لتحسين اللفظ; كقوله تعالى: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ}، [الزمر: من الآية66]، والتقدير: "بل الله اعبد". قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}؛ "إن": شرطية، وفعل الشرط "كنتم"، وجوابه قيل: إنه محذوف دل عليه ما قبله، وتقدير الكلام: إن كنتم مؤمنين فتوكلوا، وقيل: إنه في مثل هذا التركيب لا يحتاج إلى جواب اكتفاء بما سبق; فيكون ما سبق كأنه فعل معلق بهذا الشيء، وهذا أرجح; لأن الأصل عدم الحذف. وقول أصحاب موسى في هذه الآية يفيد أن التوكل من الإيمان ومن مقتضياته، كما لو قلت: إن كنت كريما فأكرم الضيف. فيقتضي أن إكرام الضيف من الكرم. وهذه الآية تقتضي انتفاء كمال الإيمان بانتفاء التوكل على الله; إلا إن حصل اعتماد كلي على غير الله; فهو شرك أكبر ينتفي له الإيمان كله. الآية الثانية قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ}؛ "إنما": أداة حصر، والحصر هو إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه، والمعنى: ما المؤمنون إلا هؤلاء. وذكر الله في هذه الآية وما بعدها خمسة أوصاف: أحدها: قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، أي: خافت؛ لما ج / 2 ص -92- فيها من تعظيم الله تعالى، مثال ذلك: رجل هم بمعصية، فذكر الله، أو ذكر به، وقيل له: اتق الله. فإن كان مؤمنا; فإنه سيخاف، وهذا هو علامة الإيمان. الوصف الثاني: قوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}، أي: تصديقا وامتثالا، وفي هذا دليل على أن الإنسان قد ينتفع بقراءة غيره أكثر مما ينتفع بقراءة نفسه كما أمر الرسول ( عبد الله بن مسعود أن يقرأ عليه، فقال: كيف أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال: ( إني أحب أن أسمعه من غيري((1) فقرأ عليه من سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً}، [النساء:41]. قال: "حسبك". فنظرت; فإذا عيناه تذرفان(2). الوصف الثالث: قوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، أي: يعتمدون على الله لا على غيره، وهم مع ذلك يعملون الأسباب، وهذا هو الشاهد. الوصف الرابع: قوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ}، أي: يأتون بها مستقيمة كاملة، والصلاة: اسم جنس تشمل الفرائض والنوافل. الوصف الخامس: قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}. "من" للتبعيض; فيكون الله يمدح من أنفق بعض ماله لا كله، أو تكون لبيان الجنس; فيشمل الثناء من أنفق البعض ومن أنفق الكل، والصواب: أنها لبيان الجنس، وأن من أنفق الكل يدخل في الثناء؛ إذا توكل (1) البخاري: فضائل القرآن (5049), ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (800), والترمذي: تفسير القرآن (3025), وأبـو داود: العلم (3668) , وابن ماجه: الزهد (4194), وأحمد (1/374،380،432). (2) أخرجه البخاري في (التفسير, باب فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد/3/ 217), ومسلم في (صلاة المسافرين, باب فضل استماع القرآن/1/ 551). ج / 2 ص -93- وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ}، [الأنفال: من الآية64]، الآية. على الله تعالى في أن يرزقه وأهله كما فعله أبو بكر(1) أما إن كان أهله في حاجة أو كان المنفق عليه ليس بحاجة ماسة تستلزم إنفاق المال كله; فلا ينبغي أن ينفق ماله كله. الآية الثالثة قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ( المراد به الرسول ( يخاطب الله رسوله بوصف النبوة أحيانا وبوصف الرسالة أحيانا، فحينما يأمره أن يبلغ يناديه بوصف الرسالة، وأما في الأحكام الخاصة; فالغالب أن يناديه بوصف النبوة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}، [التحريم: من الآية1]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}، [الطلاق: من الآية1]. و"النبي": فعيل بمعنى مفعَل بفتح العين، ومفعِل بكسرها; أي: منبأ، ومنبئ، فالرسول ( منبأ من قبل الله، ومنبئ لعباد الله. قوله: "حسبك الله": أي: كافيك، والحسب: الكافي، ومنه قوله: أعطي درهما فحسب، وحسب خبر مقدم، ولفظ الجلالة مبتدأ مؤخر، والمعنى: ما الله إلا حسبك، ويجوز العكس; أي: أن تكون حسب مبتدأ ولفظ الجلالة خبره، ويكون المعنى: ما حسبك إلا الله، وهذا أرجح. (1) أخرجه أبوداود في (الزكاة, باب الرخصة في ذلك- أي: خروج الرجل من ماله-/2/ 313), والترمذي في (المناقب, باب الصديق ينفق كل ماله/9/77), والدارمي (1/391). وقال الترمذي: "حسن صحيح". وأخرجه أحمد في (فضائل الصحابة, من طريق آخر/1/ 460). ج / 2 ص -94- قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، [الأنفال: من الآية64]، "من": اسم موصول مبنية على السكون، وفي عطفها رأيان لأهل العلم: قيل: حسبك الله، وحسبك من اتبعك من المؤمنين; فـ "من" معطوفة على لفظ الجلالة لأنه أقرب، ولو كان العطف على الكاف في (حسبك); لوجب إعادة الجار، وهذا كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}، [الأنفال: من الآية62]، فالله أيد رسوله بالمؤمنين، فيكونون حسبا له هنا كما كان الله حسبا له. وهذا ضعيف، والجواب عنه من وجوه: أولا: قولهم: عطف عليه لكونه أقرب ليس بصحيح; فقد يكون العطف على شيء سابق، حتى إن النحويين قالوا: إذا تعددت المعطوفات يكون العطف على الأول. ثانيا: قولهم: لو عطف على الكاف لوجب إعادة الجار، والصحيح أنه ليس بلازم، كما قال ابن مالك: وليس عندي لازما إذ قد أتى في النثر والنظم الصحيح مثبتا ثالثا: استدلالهم بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}، فالتأييد لهم غير كونهم حسبه; لأن معنى كونهم حسبه أن يعتمد عليهم، ومعنى كونهم يؤيدونه أي ينصرونه مع استقلاله بنفسه، وبينهما فرق. رابعا: أن الله - سبحانه - حينما يذكر الحسب يخلصه لنفسه، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}، [التوبة: من الآية59]، ففرق بين الحسب والإيتاء، وقال تعالى: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}، [الزمر: من الآية38]، فكما أن التوكل على غير الله لا يجوز; فكذلك الحسب، لا يمكن أن يكون غير الله ج / 2 ص -95- وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، [الطلاق: من الآية3]، الآية. حسبا، فلو كان; لجاز التوكل عليه، ولكن الحسب هو الله، وهو الذي عليه يتوكل المتوكلون. خامسا: أن في قوله: "ومن اتبعك" ما يمنع أن يكون الصحابة حسبا للرسول ( وذلك لأنهم تابعون; فكيف يكون التابع حسبا للمتبوع؟! هذا لا يستقيم أبدا; فالصواب أنه معطوف على الكاف في قوله: "حسبك"; أي: وحسب من اتبعك من المؤمنين، فتوكلوا عليه جميعا أنت ومن اتبعك. الآية الرابعة قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، جملة شرطية تفيد بمنطوقها أن من يتوكل على الله، فإن الله يكفيه مهماته وييسر له أمره; فالله حسبه، ولو حصل له بعض الأذية، فإن الله يكفيه الأذى، والرسول ( سيد المتوكلين، ومع ذلك يصيبه الأذى ولا تحصل له المضرة; لأن الله حسبه; فالنتيجة لمن اعتمد على الله أن يكفيه ربه المؤونة. والآية تفيد بمفهومها أن من توكل على غير الله خذل; لأن غير الله لا يكون حسبا كما تقدم، فمن توكل على غير الله تخلى الله عنه، وصار موكولا إلى هذا الشيء ولم يحصل له مقصوده، وابتعد عن الله بمقدار توكله على غير الله. ج / 2 ص -96- وعن ابن عباس; ( قال: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ; قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد ( حين قالوا له: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا( الآية. رواه البخاري والنسائي(1). قوله في أثر ابن عباس رضي الله عنهما: "قالها محمد ( حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}، [آل عمران: من الآية173]". وهذا في نص القرآن لما انصرف أبو سفيان من أحد أراد أن يرجع إلى النبي ( وأصحابه ليقضي عليهم بزعمه، فلقي ركبا، فقال لهم: إلى أين تذهبون؟ قالوا: نذهب إلى المدينة. فقال: بلغوا محمدا وأصحابه أنا راجعون إليهم فقاضون عليهم. فجاء الركب إلى المدينة. فبلغوهم; فقال رسول الله ( ومن معه: حسبنا الله ونعم الوكيل. وخرجوا في نحو سبعين راكبا، حتى بلغوا حمراء الأسد، ثم إن أبا سفيان تراجع عن رأيه وانصرف إلى مكة، وهذا من كفاية الله لرسوله وللمؤمنين; حيث اعتمدوا عليه تعالى. قوله: "قال لهم الناس": أي: الركب. قوله: "إن الناس": أي: أبا سفيان ومن معه، وكلمة الناس هنا يمثل بها الأصوليون للعام الذي أريد به الخصوص. قوله: "حسبنا": أي: كافينا، وهي مبتدأ ولفظ الجلالة خبره. قوله: "ونعم الوكيل": "نعم": فعل ماض، "الوكيل": (1) أخرجه البخاري في (التفسير, باب تفسير سورة آل عمران/3/211), ولعله في "سنن النسائي الكبرى". ج / 2 ص -97- فاعل، والمخصوص محذوف تقديره: هو; أي: الله، والوكيل: المعتمد عليه سبحانه، والله - سبحانه - يطلق عليه اسم وكيل، وهو أيضا موكل، والوكيل في مثل قوله تعالى: "ونعم الوكيل"، وقوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}، [النساء: من الآية81]، وأما الموكل; ففي مثل قوله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}، [الأنعام: من الآية89]. وليس المراد بالتوكيل هنا إنابة الغير فيما يحتاج إلى الاستنابة فيه; فليس توكيله سبحانه من حاجة له، بل المراد بالتوكيل الاستخلاف في الأرض لينظر كيف يعملون. وقول ابن عباس رضي الله عنهما: "إن إبراهيم قالها حين ألقي في النار" قول لا مجال للرأي فيه; فيكون له حكم الرفع. وابن عباس ممن يروي عن بني إسرائيل; فيحتمل أنه أخذه منهم، ولكن جزمه بهذا، وقرنه لما قاله الرسول ( مما يبعد أن يكون أخذه من بني إسرائيل. الشاهد من الآية; قوله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، [آل عمران: من الآية173]، حيث جعلوا حسبهم الله وحده. (تنبيه): قولنا: "وابن عباس ممن يروي عن بني إسرائيل" قول مشهور عند علماء المصطلح، لكن فيه نظر; فإن ابن عباس رضي الله عنهما ممن ينكر الأخذ عن بني إسرائيل; ففي "صحيح البخاري" (5/291- فتح) أنه قال: "يا معشر المسلمين! كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيه ( أحدث الأخبار بالله تقرؤونه لم يشب، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب؟! فقالوا: هذا من ج / 2 ص -98- فيه مسائل: الأولى: أن التوكل من الفرائض. الثانية: أنه من شروط الإيمان. الثالثة: تفسير آية (الأنفال). الرابعة: تفسير الآية في آخرها عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟! ولا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم". فيه مسائل: الأولى: أن التوكل من الفرائض ووجهه أن الله علق الإيمان بالتوكل في قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وسبق تفسيرها. الثانية: أنه من شروط الإيمان: تؤخذ من قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وسبق تفسيرها. الثالثة: تفسير آية الأنفال: وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، [الأنفال: من الآية2] الآية، والمراد بالإيمان هنا الإيمان الكامل، وإلا; فالإنسان يكون مؤمنا وإن لم يتصف بهذه الصفات، لكن معه مطلق الإيمان، وقد سبق تفسير ذلك. الرابعة: تفسير الآية في آخرها; أي: آخر الأنفال: وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، [الأنفال:64]، أي: حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين، وهذا هو الراجح على ما سبق. ج / 2 ص -99- الخامسة: تفسير آية(لطلاق). السادسة: عظم شأن هذه الكلمة، وأنها قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومحمد ( في الشدائد. الخامسة: تفسير آية الطلاق: وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، [الطلاق: من الآية3]، وقد سبق تفسيرها. السادسة: عظم شأن هذه الكلمة، وأنها قول إبراهيم عليه السلام ومحمد ( في الشدائد: يعني قول: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، [آل عمران: من الآية173]. وفي الباب مسائل غير ما ذكره المؤلف: منها: زيادة الإيمان; لقوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}، [الأنفال: من الآية2]. ومنها: أنه عند الشدائد ينبغي للإنسان أن يعتمد على الله مع فعل الأسباب; لأن الرسول ( وأصحابه قالوا ذلك عندما قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، ولكنهم فوضوا الأمر إلى الله، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. ومنها: أن اتباع النبي ( مع الإيمان سبب لكفاية الله للعبد. المصدر : كتاب القول المفيد على كتاب التوحيد رابط التحميل المباشر http://waqfeya.com/book.php?bid=1979 |
#36
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
القول المفيد على كتاب التوحيد باب قول الله تعالي: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} ج / 2 ص -100- باب قول الله تعالي: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}، [الأعراف:99]. هذا الباب اشتمل على موضوعين: الأول: الأمن من مكر الله. الثاني: القنوط من رحمة الله. وكلاهما طرفا نقيض. واستدل المؤلف للأول بقوله تعالى: "أفأمنوا". الضمير يعود على أهل القرى; لأن ما قبلها قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ، أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ، أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}، [الأعراف:97-99]. فقوله: "وهم نائمون" يدل على كمال الأمن؛ لأنهم في بلادهم، وأن الخائف لا ينام، وقوله: "ضحى وهم يلعبون" يدل أيضا على كمال الأمن والرخاء وعدم الضيق; لأنه لو كان عندهم ضيق في العيش؛ لذهبوا يطلبون الرزق والعيش، وما صاروا في الضحى- في رابعة النهار- يلعبون. والاستفهامات هنا كلها للإنكار، والتعجب من حال هؤلاء; فهم نائمون، وفي رغد، ومقيمون على معاصي الله، وعلى اللهو، ذاكرون لترفهم، غافلون عن ذكر خـالقهم; فهم في الليل نوم، وفي النهار لعب، فبين الله ج / 2 ص -101- ( أن هذامن مكره بهم، ولهذا قال: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّه}ِ، ثم ختم الآية بقوله: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}، فالذي يمن الله عليه بالنعم والرغد والترف وهو مقيم على معصيته يظن أنه رابح وهو في الحقيقة خاسر. فإذا أنعم الله عليك من كل ناحية: أطعمك من جوع، وآمنك من خوف، وكساك من عري; فلا تظن أنك رابح وأنت مقيم على معصية الله، بل أنت خاسر; لأن هذا من مكر الله بك. قوله: {إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}، الاستثناء للحصر، وذلك لأن ما قبله مفرغ له; فالقوم فاعل، والخاسرون صفتهم. وفي قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّه}ِ، دليل على أن لله مكرا، والمكر هو: التوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، ومنه ما جـاء في الحديث: ( الحرب خدعة((1). فإن قيل: كيف يوصف الله بالمكر، مع أن ظاهره أنه مذموم؟ قيل: إن المكر في محله محمود، يدل على قوة الماكر، وأنه غالب على خصمه، ولذلك لا يوصف الله به على الإطلاق; فلا يجوز أن تقول: إن الله ماكر، وإنما تذكر هذه الصفة في مقام تكون فيه مدحا، مثل قوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ}، وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}، [النمل:50]، ومثل قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّه}، ولا تنفى عنه هذه الصفة على (1) أخرجه البخاري في (الجهاد, باب الحرب خدعة/2/366), ومسلم في "الجهاد, باب جواز الخداع في الحرب/3/1362); عن أبي هريرة رضي الله عنه. ج / 2 ص -102- وقوله: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}، [الحجر:56]. سبيل الإطلاق، بل إنها في المقام التي تكون مدحا؛ يوصف بها، وفي المقام التي لا تكون مدحا لا يوصف بها، وكذلك لا يسمى الله بها; فلا يقال: إن من أسماء الله الماكر. وأما الخيانة; فلا يوصف الله بها مطلقا لأنها ذم بكل حال; إذ إنها مكر في موضع الائتمان، وهو مذموم، قال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ}، [الأنفال: من الآية71]، ولم يقل: فخانهم. وأما الخداع; فهو كالمكر يوصف الله به حيث يكون مدحا; لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}، [النساء: من الآية142]، والمكر من الصفات الفعلية; لأنها تتعلق بمشيئة الله- سبحانه-. ويستفاد من هذه الآية: 1- الحذر من النعم التي يجلبها الله للعبد لئلا تكون استدراجا; لأن كل نعمة فلله عليك وظيفة شكرها، وهي القيام بطاعة المنعم، فإذا لم تقم بها مع توافر النعم; فاعلم أن هذا من مكر الله. 2- تحريم الأمن من مكر الله، وذلك لوجهين: الأول: أن الجملة بصيغة الاستفهام الدال على الإنكار والتعجب. الثاني: قوله تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}. الموضوع الثاني مما اشتمل عليه هذا الباب القنوط من رحمة الله واستدل المؤلف له بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ}، [الحجر: من الآية56]. ج / 2 ص -103- "من": اسم استفهام; لأن الفعل بعدها مرفوع، ثم إنها لم يكن لها جواب، والقنوط: أشد اليأس; لأن الإنسان يقنط ويبعد الرجاء والأمل، بحيث يستبعد حصول مطلوبه أو كشف مكروبه. قوله: " مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ": هذه رحمة مضافة إلى الفاعل ومفعولها محذوف، والتقدير (من رحمة ربه إياه). قوله: " إلا الضالون ": إلا: أداة حصر; لأن الاستفهام في قوله: "ومن يقنط" مراد به النفي،و"الضالون"فاعل يقنط والمعنى لا يقنط من رحمة الله إلا الضالون، والضال: فاقد الهداية، التائه الذي لا يدري ما يجب لله سبحانه، مع أنه سبحانه قريب الغير، ولهذا جاء في الحديث: ( عجب ربنا من قنوط عباده، وقرب غيره; ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب((1). وأما معنى الآية فإن إبراهيم عليه السلام لما بشرته الملائكة بغلام عليم قال لهم: {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ، قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ، قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}، [الحجر: 54-56]. فالقنوط من رحمة الله لا يجوز; لأنه سوء ظن بالله (، وذلك من وجهين: الأول: أنه طعن في قدرته سبحانه; لأن من علم أن الله على كل شيء قدير لم يستبعد شيئا على قدرة الله. (1) أخرجه أحمد (4/11،12), وابن ماجه في (المقدمة/1/64). وقال في "الزوائد" (1/64): "وكيع ذكره ابن حبان في "الثقات), وباقي رجاله احتج بهم مسلم". ج / 2 ص -104- وعن ابن عباس; أن رسول الله ( سئل عن الكبائر؟ الثاني: أنه طعن في رحمته سبحانه; لأن من علم أن الله رحيم لا يستبعد أن يرحمه الله - سبحانه -، ولهذا كان القانط من رحمة الله ضالا. ولا ينبغي للإنسان إذا وقع في كربة؛ أن يستبعد حصول مطلوبه أو كشف مكروبه، وكم من إنسان وقع في كربة، وظن أن لا نجاة منها، فنجاه الله- سبحانه-: إما بعمل صالح سابق، مثل ما وقع ليونس عليه السلام، قال تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، [الصافات:143-144]. أو بعمل لاحق، وذلك كدعاء الرسول ( يوم بدر(1)، وليلة الأحزاب(2)، وكذلك أصحاب الغار(3). وتبين مما سبق أن المؤلف رحمه الله أراد أن يجمع الإنسان في سيره إلى الله تعالى بين الخوف فلا يأمن مكر الله، وبين الرجاء فلا يقنط من رحمته; فالأمن من مكر الله ثلم في جانب الخوف، والقنوط من رحمته ثلم في جانب الرجاء. قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله ( سئل عن الكبائر":جمع كبيرة، والمراد بها: كبائر الذنوب وهذا السؤال يدل على أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، وقد دل على ذلك القرآن، قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (1) أخرجه البخاري في (المغازي, باب قصة عروة/3/83), ومسلم في (الجهاد, باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر/3/ 1383). (2) أخرجه البخاري في (المغازي, باب غزوة الخندق/3/118), ومسلم في (الجهاد, باب استحباب الدعاء بالنصر/3/1363). (3) أخرجه البخاري في (البيوع, باب إذا اشترى شيئا لغيره/2/116), ومسلم في (الذكر والدعاء, باب قصة أصحاب الغار/4/2099). ج / 2 ص -105- [النساء: من الآية31]. وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ}، [النجم: من الآية32]، والكبائر ليست على درجة واحدة; فبعضها أكبر من بعض. واختلف العلماء: هل هي معدودة أو محدودة؟ فقال بعض أهل العلم: إنها معدودة، وصار يعددها، ويتتبع النصوص الواردة في ذلك. وقيل: إنها محدودة. وقد حدها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله; فقال: "كل ما رتب عليه عقوبة خاصة، سواء كانت في الدنيا أو الآخرة، وسواء كانت بفوات محبوب أو بحصول مكروه"، وهذا واسع جدا يشمل ذنوبا كثيرة. ووجه ما قاله؛ أن المعاصي قسمان: قسم نهي عنه فقط ولم يذكر عليه وعيد; فعقوبة هذا تأتي بالمعنى العام للعقوبات، وهذه المعصية مكفرة بفعل الطاعات; كقوله (: ( الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر((1)، وكذلك ما ورد في العمرة إلى العمرة(2)، والوضوء من تكفير الخطايا(3)، فهذه من الصغائر. وقسم رتب عليه عقوبة خاصة; كاللعن، أو الغضب، أو التبرؤ من فاعله، أو الحد في الدنيا، أو نفي الإيمان، وما أشبه ذلك; فهذه كبيرة تختلف في مراتبها. والسائل في هذا الحديث إنما قصده معرفة الكبائر ليجتنبها، خلافا لحال كثير من الناس اليوم؛ حيث يسأل ليعلم فقط، ولذلك نقصت بركة علمهم. (1) أخرجه مسلم في (الطهارة, باب الصلوات الخمس.../1/209) من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه البخاري في (العمرة, باب وجوب العمرة وفضلها/1/537). (3) أخرجه مسلم في (الطهارة, باب الصلوات الخمس/1/209) من حديث أبي هريرة. ج / 2 ص -106- فقال: ( الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله((2). قوله: " الشرك بالله": ظاهر الإطلاق: أن المراد به الشرك الأصغر والأكبر، وهو الظاهر; لأن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر، قال ابن مسعود: ( لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا((1)، وذلـك لأن سيئة الشرك أعظم من سيئة الكذب; فدل على أن الشرك من الكبائر مطلقا. والشرك بالله يتضمن الشرك بربوبيته، أو بألوهيته، أو بأسمائه وصفاته. قوله: "اليأس من روح الله": اليأس: فقد الرجاء، والروح بفتح الراء قريب من معنى الرحمة، وهو الفرج والتنفيس، واليأس من روح الله من كبائر الذنوب لنتائجه السيئة. قوله: "الأمن من مكر الله": بأن يعصي الله مع استدراجه بالنعم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}، [الأعراف:182-183]. وظاهر هذا الحديث: الحصر، وليس كذلك: لأن هناك كبائر غير هذه، ولكن الرسول ( يجيب كل سائل بما يناسب حاله; فلعله رأى هذا السائل عنده شيء من الأمن من مكر الله أو اليأس من روح الله، فأراد أن يبين له ذلك، وهذه مسألة ينبغي أن يفطن لها الإنسان، فيما يأتي من (1) سبق (ص 27). (2) أخرجه البزار; كما في "كشف الأستار" (106), وابن أبي حاتم; كما في "تفسير ابن كثير" (/485), والطبراني; كما في "المجمع" (1/104), وفي "الدر المنثور" (2/ 147). وقال الهيثمي (1/104): "رواه البزار والطبراني, ورجاله موثقون". ج / 2 ص -107- وعن ابن مسعود; قال: ( أكبر الكبائر: الإشراك بالله والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله ( رواه عبد الرزاق(1). النصوص الشرعية مما ظاهره التعارض، فيحمل كل واحد منها على الحال المناسبة ليحصل التآلف بين النصوص الشرعية. قوله في أثر ابن مسعود: " الإشراك بالله ": هذا أكبر الكبائر; لأنه انتهاك لأعظم الحقوق، وهو حق الله تعالى الذي أَوْجَدَك وأَعَدَّك وأَمَّدك; فلا أحد أكبر عليك نعمة من الله تعالى. قوله: "الأمن من مكر الله": سبق شرحه. قوله: "القنوط من رحمة الله واليأس من روح الله": المراد بالقنوط: أن يستبعد رحمة الله ويستبعد حصول المطلوب، والمـراد باليأس هنا أن يستبعد الإنسان زوال المكروه، وإنما قلنا ذلك; لئلا يحصل تكرار في كلام ابن مسعود. والخلاصة: أن السائر إلى الله يعتريه شيئان يعوقانه عن ربه، وهما الأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، فإذا أصيب بالضراء أو فات عليه ما يحب; تجده إن لم يتداركه ربه يستولي عليه القنوط ويستبعد الفرج ولا يسعى لأسبابه، وأما الأمن من مكر الله; فتجد الإنسان مقيما على المعاصي مع توافر النعم عليه، ويرى أنه على حق فيستمر في باطله; فلا شك أن هذا استدراج. (1) أخرجه عبد الرزاق (10/459،460), وابن جرير (5/26), والطبراني في "الكبير" (8783، 8784), وصحح الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/104) إسناد الطبراني. ج / 2 ص -108- فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الأعراف. الثانية: تفسير آية الحجر. الثالثة: شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله. الرابعة: شدة الوعيد في القنوط. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الأعراف: وهي قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}، [الأعراف:99]، وقد سبق تفسيرها. الثانية: تفسير آية الحجر: وهي قوله تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}، [الحجر:56]، وقد سبق تفسيرها. الثالثة: شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله: وذلك بأنه من أكبر الكبائر; كما في الآية والحديث، وتؤخذ من الآية الأولى، والحديثين. الرابعة: شدة الوعيد في القنوط: تؤخذ من الآية الثانية والحديثين. المصدر : كتاب القول المفيد على كتاب التوحيد رابط التحميل المباشر http://waqfeya.com/book.php?bid=1979 |
#37
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
القول المفيد على كتاب التوحيد باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله: ج / 2 ص -109- باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله: "الصبر": في اللغة: الحبس، ومنه قولهم: " قتل صبرا"; أي: محبوسا مأسورا. وفي الاصطلاح: حبس النفس على أشياء وعن أشياء. وهو ثلاثة أقسام: الأول: الصبر على طاعة الله; كما قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}، [طـه: من الآية132]، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}، [الإنسان:23-24]، وهذا من الصبر على الأوامر; لأنه إنما نزل عليه القرآن ليبلغه; فيكون مأمورا بالصبر على الطاعة، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، [الكهف: من الآية28]، وهذا صبر على طاعة الله. الثاني: الصبر عن معصية الله; كصبر يوسف عليه السلام عن إجابة امرأة العزيز حيث دعته إلى نفسها في مكانة لها فيها العزة والقوة والسلطان عليه، ومع ذلك صبر وقال: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، [يوسف:33]، فهذا صبر عن معصية الله. الثالث: الصبر على أقدار الله، قال تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}، [القلم: من الآية48]، فيدخل في هذه الآية حكم الله القدري، ومنه قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُم}، ج / 2 ص -110- [الأحقاف: من الآية35].لأن هذا صبر على تبليغ الرسالة وعلى أذى قومه، ومنه قوله ( لرسول إحدى بناته: ( مرها فلتصبر ولتحتسب((1). إذن الصبر ثلاثة أنواع، أعلاها الصبر على طاعة الله، ثم الصبر عن معصية الله، ثم الصبر على أقدار الله. وهذا الترتيب من حيث هو لا باعتبار من يتعلق به، وإلا; فقد يكون الصبر على المعصية أشق على الإنسان من الصبر على الطاعة إذا فتن الإنسان مثلا بامرأة جميلة تدعوه إلى نفسها في مكان خال لا يطلع عليه إلا الله وهو رجل شاب ذو شهوة; فالصبر عن هذه المعصية أشق ما يكون على النفوس، قد يصلي الإنسان مئة ركعة وتكون أهون عليه من هذا. وقد يصاب الإنسان بمصيبة يكون الصبر عليها أشق من الصبر على الطاعة; فقد يموت له مثلا قريب أو صديق أو عزيز عليه جدا، فتجده يتحمل من الصبر على هذه المصيبة مشقة عظيمة. وبهذا يندفع الإيراد الذي يورده بعض الناس ويقول: إن هذا الترتيب فيه نظر; إذ بعض المعاصي يكون الصبر عليها أشق من بعض الطاعات، وكذلك بعض الأقدار يكون الصبر عليها أشق; فنقول: نحن نذكر المراتب من حيث هي بقطع النظر عن الصابر. وكان الصبر على الطاعة أعلى; لأنه يتضمن إلزاما وفعلا، فتلزم نفسك الصلاة فتصلي، والصوم فتصوم، والحج فتحج... ففيه إلزام وفعل وحركة فيـها نوع من المشقة والتعب، ثم الصبر عن المعصية لأن فيه (1) أخرجه البخــــاري في (الجنائز, باب قول النبي (: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه"/1/395), ومسلم في (الجنائز, باب البكاء على الميت/2/635). ج / 2 ص -111- كفا فقط; أي: إلزاما للنفس بالترك، أما الصبر على الأقدار; فلأن سببه ليس باختيار العبد، فليس فعلا ولا تركا، وإنما هو من قدر الله المحض. وخَصَّ المؤلف رحمه الله في هذا الباب الصبر على أقدار الله; لأنه مما يتعلق بتوحيد الربوبية; لأن تدبير الخلق والتقدير عليهم من مقتضيات ربوبية الله تعالى. قوله: "على أقدار الله": جمع قَدَر، وتطلق على المقدور وعلى فعل المقدر وهو الله تعالى، أما بالنسبة لفعل المقدر; فيجب على الإنسان الرضا به والصبر، وبالنسبة للمقدور; فيجب عليه الصبر ويستحب له الرضا. مثال ذلك: قدر الله على سيارة شخص أن تحترق، فكون الله قدر أن تحترق هذا قدر يجب على الإنسان أن يرضى به; لأنه من تمام الرضا بالله ربا. وأما بالنسبة للمقدور الذي هو احتراق السيارة; فالصبر عليه واجب، والرضا به مستحب وليس بواجب على القول الراجح. والمقدور قد يكون طاعات، وقد يكون معاصي، وقد يكون من أفعال الله المحضة; فالطاعات يجب الرضا بها، والمعاصي لا يجوز الرضا بها من حيث هي مقدور، أما من حيث كونها قدر الله; فيجب الرضا بتقدير الله بكل حال، ولهذا قال ابن القيم: فلذاك نرضى بالقضاء ونسخط ااـ مقضي حين يكون بالعصيان فمن نظر بعين القضاء والقدر إلى رجل يعمل معصية; فعليه الرضا لأن الله هو الذي قدر هذا، وله الحكمة في تقديره، وإذا نظر إلى فعله; فلا يجوز له أن يرضى به لأنه معصية، وهذا هو الفرق بين القدر والمقدور. ج / 2 ص -112- وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}، [التغابن: من الآية11]. قال علقمة: " هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله; فيرضى ويسلم". وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة; أن رسول الله ( قال: ( اثنتان......... قوله: تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ}، "من": اسم شرط جازم، وفعل الشرط "يؤمن"، وجوابه "يهد"، والمراد بالإيمان بالله هنا الإيمان بقدره. قوله: (يَهْدِ قَلْبَهُ يرزقه الطمأنينة، وهذا يدل على أن الإيمان يتعلق بالقلب، فإذا اهتدى القلب اهتدت الجوارح; لقوله (: ( إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب((1). قوله: "قال علقمة": هو من أكابر التابعين. قوله: "هو الرجل تصيبه المصيبة..." إلخ: وتفسير علقمة هذا من لازم الإيمان; لأن من آمن بالله علم أن التقدير من الله، فيرضى ويسلم، فإذا علم أن المصيبة من الله اطمأن القلب وارتاح، ولهذا كان من أكبر الراحة والطمأنينة الإيمان بالقضاء والقدر. قوله: في حديث أبي هريرة: "اثنتان": مبتدأ، وسوغ الابتداء به التقسيم، أو أنه مفيد للخصوص. (1) أخرجه البخاري (452) ومسلم (1599). ج / 2 ص -113- في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت((1). قوله: "بهم كفر": الباء يحتمل أن تكون بمعنى "من"; أي: هما منهم كفر، ويحتمل أن تكون بمعنى "في"; أي: هما فيهم كفر. قوله: "كفر": أي: هاتان الخصلتان كفر ولا يلزم من وجود خصلتين من الكفر في المؤمن أن يكون كافرا، كما لا يلزم من وجود خصلتين في الكافر من خصال الإيمان; كالحياء، والشجاعة، والكرم; أن يكون مؤمنا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "بخلاف قول رســول الله (: ( بين الرجل والشرك والكفر ترك الصلاة((2) فإنه هنا أتى بأل الدالة على الحقيقة; فالمراد بالكفر هنا الكفر المخرج عن الملة، بخلاف مجيء "كفر" نكرة; فلا يدل على الخروج عن الإسلام(3). قوله: "الطعن في النسب": أي: العيب فيه أو نفيه; فهذا عمل من أعمال الكفر. قوله: "النياحة على الميت": أي: أن يبكي الإنسان على الميت بكاء على صفة نوح الحمام; لأن هذا يدل على التضجر وعدم الصبر، فهو مناف للصبر الواجب، وهذه الجملة هي الشاهد للباب. والناس حال المصيبة على مراتب أربع: الأولى: التسخط: وهو إمــا أن يكون بالقلب، كأن يسخط على ربه، (1) أخرجه مسلم في (الإيمان, باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة/1/82). (2) أخرجه مسلم في (الإيمان, باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة/1/88) عن جابر رضي الله عنه. (3) انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/208, 209). ج / 2 ص -114- ويغضب على قدر الله عليه، وقد يؤدي إلى الكفر، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ}، [الحج: من الآية11]، وقد يكون باللسان; كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك، وقد يكون بالجوارح; كلطم الخدود، وشق الجيوب، ونتف الشعور، وما أشبه ذلك. الثانية: الصبر، وهو كما قال الشاعر: الصبر مثل اسمه مر مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل فيرى الإنسان أن هذا الشيء ثقيل عليه ويكرهه، لكنه يتحمله ويتصبر، وليس وقوعه وعدمه سواء عنده، بل يكره هذا ولكن إيمانه يحميه من السخط. الثالثة: الرضا، وهو أعلى من ذلك، وهو أن يكون الأمران عنده سواء بالنسبة لقضاء الله وقدره وإن كان قد يحزن من المصيبة; لأنه رجل يسبح في القضاء والقدر، أينما ينزل به القضاء والقدر فهو نازل به على سهل أو جبل، إن أصيب بنعمة أو أصيب بضدها; فالكل عنده سواء، لا لأن قلبه ميت; بل لتمام رضاه بربه - سبحانه وتعالى - يتقلب في تصرفات الرب ( ولكنها عنده سواء; إذ إنه ينظر إليها باعتبارها قضاء لربه، وهذا الفرق بين الرضا والصبر. الرابعة: الشكر، وهو أعلى المراتب، وذلك أن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة، وذلك يكون في عباد الله الشاكرين حين يرى أن هناك مصائب أعظم منها، وأن مصائب الدنيا أهون من مصائب الدين، وأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وأن هذه المصيبة سبب لتكفير ج / 2 ص -115- ولهما عن ابن مسعود مرفوعا: ( ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية((1). سيئاته، وربما لزيادة حسناته شكر الله على ذلك، قال النبي ( ( ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا شيء إلا كفر له بها، حتى الشوكة يشاكها((2). كما أنه قد يزداد إيمان المرء بذلك. قوله في حديث ابن مسعود: "مرفوعا": أي: إلى النبي (. قوله: "من ضرب الخدود": العموم يراد به الخصوص; أي: من أجل المصيبة. قوله: "من شق الجيوب": هو طوق القميص الذي يدخل منه الرأس، وذلك عند المصيبة تسخطا وعدم تحمل لما وقع عليه. قوله: "ودعا بدعوى الجاهلية": دعوى مضاف والجاهلية مضاف إليه، وتنازع هنا أمران: الأول: صيغة العموم (دعوى الجاهلية); لأنه مفرد مضاف فيعم. الثاني: القرينة; لأن ضرب الخدود وشق الجيوب يفعلان عند المصيبة فيكون دعا بدعوى الجاهلية عند المصيبة، مثل قولهم: واويلاه! (1) أخرجه: البخاري (1226), ومسلم (1/ 99). (2) أخرجه: البخاري في (المرضى, باب كفارة المرض, 4/ 23), ومسلم في (البر والصلة, باب ثواب المؤمن, 4/ 1992). ج / 2 ص -116- وعن أنس; أن رسول الله ( قال: ( إذا أراد الله بعبده الخير، عجل له بالعقوبة في الدنيا، .......... وانقطاع ظهراه! والأولى أن ترجح صيغة العموم، والقرينة لا تخصصه; فيكون المقصود بالدعوى كل دعوى منشؤها الجهل. وذكر هذه الأصناف الثلاثة; لأنها غالبا ما تكون عند المصائب، وإلا; فمثله هدم البيوت، وكسر الأواني، وتخريب الطعام، ونحوه مما يفعله بعض الناس عند المصيبة. وهذه الثلاثة من الكبائر; لأن النبي ( تبرأ من فاعلها. ولا يدخل في الحديث ضرب الخد في الحياة العادية; مثل: ضرب الأب لابنه، لكن يكره الضرب على الوجه للنهي عنه، وكذلك شق الجيب لأمر غير المصيبة. قوله في حديث أنس: " إذا أراد الله بعبده الخير": الله يريد بعبده الخير والشر، ولكن الشر المراد لله تعالى ليس مرادا لذاته بدليل قول النبي ( : ( والشر ليس إليك((1)، ومن أراد الشر لذاته كان إليه، ولكن الله يريد الشر لحكمة وحينئذ يكون خيرا باعتبار ما يتضمنه من الحكمة. قوله: " عجل له بالعقوبة في الدنيا": العقوبة: مؤاخذة المجرم بذنبه، وسميت بذلك; لأنها تعقب الذنب، ولكنها لا تقال إلا في المؤاخذة على ـ (1) أخرجه مسلم في (صلاة المسافرين, باب الدعاء في صلاة الليل/1/534). ج / 2 ص -117- وإذا أراد بعبده الشر; أمسك عنه بذنبه، الشر. وقوله: "عجل له بالعقوبة في الدنيا": كان ذلك خيرا من تأخيرها للآخرة; لأنه يزول وينتهي، ولهذا قال النبي ( للمتلاعنين: ( إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة((1). وهناك خير أولى من ذلك وهو العفو عن الذنب، وهذا أعلى; لأن الله إذا لم يعاقبه في الدنيا ولا في الآخرة; فهذا هو الخير كله، ولكن الرسول ( جعل تعجيل العقوبة خيرا باعتبار أن تأخر العقوبة إلى الآخرة أشد; كما قال تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}، [طـه: من الآية127]. والعقوبة أنواع كثيرة: منها: ما يتعلق بالدين، وهي أشدها; لأن العقوبات الحسية قد يتنبه لها الإنسان، أما هذه; فلا يتنبه لها إلا من وفقه الله، وذلك كما لو خفت المعصية في نظر العاصي; فهذه عقوبة دينية تجعله يستهين بها، وكذلك التهاون بترك الواجب، وعدم الغيرة على حرمات الله، وعدم القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل ذلك من المصائب، ودليله قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}، [المائدة: من الآية49]. ومنها: العقوبة بالنفس، وذلك كالأمراض العضوية والنفسية. ومنها: العقوبة بالأهل; كفقدانهم، أو أمراض تصيبهم. ومنها: العقوبة بالمال; كنقصه أو تلفه وغير ذلك. قوله: ( وإذا أراد بعبده الشر; أمسك عنه بذنبه((2): " أمسك عنه"; أي: (1) أخرجه مسلم (1493). (2) الترمذي: الزهد (2396). ج / 2 ص -118- حتى يوافي به يوم القيامة "((1). ترك عقوبته. والإمساك فعل من أفعال الله، وليس معناه تعطيل الله عن الفعل، بل هو لم يزل ولا يزال فعالا لما يريد، لكنه يمسك عن الفعل في شيء ما لحكمة بالغة; ففعله حكمة، وإمساكه حكمة. قوله: "حتى يوافي به يوم القيامة": أي: يوافيه الله به: أي: يجازيه به يوم القيامة، وهو الذي يقوم فيه الناس من قبورهم لله رب العالمين. وسمي بيوم القيامة لثلاثة أسباب: 1- قيام الناس من قبورهم; لقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، [المطففين:6]. 2- قيام الأشهاد; لقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}، [غافر:51]. 3- قيام العدل; لقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}، [الأنبياء: من الآية47]. والغرض من سياق المؤلف لهذا الحديث: تسلية الإنسان إذا أصيب بالمصائب لئلا يجزع، فإن ذلك قد يكون خيرا، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فيحمد الله على أنه لم يؤخر عقوبته إلى الآخرة. وعلى فرض أن أحدا لم يأت بخطيئة وأصابته مصيبة; فنقول له: إن (1) أخرجه الترمذي في (الزهد, باب ما جاء في الصبر على البلاء/7/123)، وقال: "حسن غريب", والبيهقي في "الأسماء والصفات" (ص 154), والبغوي في "شرح السنة" (5/ 245). والحديث له شاهد من حديث عبد الله بن مغفل وابن عباس وعمار بن ياسر رضي الله عنهم; فهو صحيح بمجموع طرقه. وانظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1220). ج / 2 ص -119- هذا من باب امتحان الإنسان على الصبر، ورفع درجاته باحتساب الأجر، لكن لا يجوز للإنسان إذا أصيب بمصيبة، وهو يري أنه لم يخطئ أن يقول: أنا لم أخطئ; فهذه تزكية، فلو فرضنا أن أحدا لم يصب ذنبا وأصيب بمصيبة; فإن هذه المصيبة لا تلاقي ذنبا تكفره لكنها تلاقي قلبا تمحصه; فيبتلي الله الإنسان بالمصائب لينظر هل يصبر أو لا؟ ولهذا كان أخشى الناس لله ( وأتقاهم محمد ( يوعك كما يوعك رجلان منا(1) وذلك لينال أعلى درجات الصبر فينال مرتبة الصابرين على أعلى وجوهها، ولذلك شدد عليه ( عند النزع، ومع هذه الشدة كان ثابت القلب، ودخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر وهو يستاك، فأمده بصره (يعني: ينظر إليه)، فعرفت عائشة رضي الله عنها أنه يريد السواك، فقالت: آخذه لك؟ فأشار برأسه نعم. فأخذت السواك وقضمته وألانته للرسول ( فأعطته إياه، فاستن به، قالت عائشة: ما رأيته استن استنانا أحسن منه، ثم رفع يده وقال: ( في الرفيق الأعلى((2). فانظر إلى هذا الثبات واليقين والصبر العظيم مع هذه الشدة العظيمة، كل هذا لأجل أن يصل الرسول ( أعلى درجات الصابرين، صبر لله، وصبر بالله، وصبر في الله حتى نال أعلى الدرجات. فمن أصيب بمصيبة، فحدثته نفسه أن مصائبه أعظم من معائبه; فإنه يدل على ربه بعمله ويمن عليه به; فليحذر هذا. ومن ذلك يتضح لنا أمران: 1- أن إصابة الإنسان بالمصائب تعتبر تكفيرا لسيئاته وتعجيلا (1) أخرجه البخاري في (المرضى, باب شدة المرض/4/54), ومسلم في (البر والصلة, باب ثواب المؤمن/4/1991); من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاري في (المغازي, باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم/3/82). ج / 2 ص -120- وقال النبي ( ( إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما; ابتلاهم، ... ـ للعقوبة في الدنيا، وهذا خير من تأخيرها له في الآخرة. 2- قد تكون المصائب أكبر من المعائب ليصل المرء بصبره أعلى درجات الصابرين، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. قوله: وقال النبي ( "إن عظم الجزاء" إلى آخره: هذا الحديث رواه الترمذي عن أنس بن مالك ( عن النبي (- فصحابيه صحابي الحديث الذي قبله-: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء". أي: يتقابل عظم الجزاء مع البلاء، فكلما كان البلاء أشد وصبر الإنسان صار الجزاء أعظم; لأن الله عدل لا يجزي المحسن بأقل من إحسانه، فليس الجزاء على الشوكة يشاكها كالجزاء على الكسر إذا كسر، وهذا دليل على كمال عدل الله، وأنه لا يظلم أحدا، وفيه تسلية المصاب. قوله: ( وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم(، أي: اختبرهم بما يقدر عليهم من الأمور الكونية; كالأمراض، وفقدان الأهل، أو بما يكلفهم به من الأمور الشرعية، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}، [الإنسان:23-24]، فذكره الله بالنعمة وأمره بالصبر; لأن هذا الذي نزل عليه تكليف يكلف به. كذلك من الابتلاء الصبر عن محارم الله: كما في الحديث: ( ورجل ج / 2 ص -121- فمن رضي، فله الرضا، ومن سخط; فله السخط((2)، حَسَّنَهُ الترمذي(3). دعته امرأة ذات منصب وجمال; فقال: إني أخاف الله((1)، فهذا جزاؤه أن الله يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. "من": شرطية، والجواب: "فله الرضا"; أي: فله الرضا من الله، وإذا رضي الله عن شخص أرضى الناس عنه جميعا، والمراد بالرضا: الرضا بقضاء الله من حيث إنه قضاء الله، وهذا واجب بدليل قوله: "ومن سخط"؛ فقابل الرضا بالسخط، وهو عدم الصبر على ما يكون من المصائب القدرية الكونية. ولم يقل هنا "فعليه السخط" مع أن مقتضى السياق أن يقول فعليه; كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}، [فصلت: من الآية46]. فقال بعض العلماء: إن اللام بمعنى على; كقوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}، [الرعد: من الآية25]، أي: عليهم اللعنة. وقال آخرون: إن اللام على ما هي عليه، فتكون للاستحقاق; أي: صار عليه السخط باستحقاقه له، فتكون أبلغ من "على"; كقوله تعالى: ، أي: حقت عليهم باستحقاقهم لها، وهذا أصح. ويستفاد من الحديث: إثبات المحبة والسخط والرضا لله ( وهي من الصفات (1) رواه البخاري (660), ومسلم (1031). (2) الترمذي: الزهد (2396). (3) أخرجه الترمذي في (الزهد, باب ما جاء في الصبر على البلاء/7/123)- وقال: "حسن غريب"-, وابن ماجه في (الفتن, باب الصبر على البلاء, 2/1338), والبغوي في "شرح السنة" (5/245). وإسناده حسن. انظر: "المشكاة" (1/493), و"سلسلة الأحاديث الصحيحة" (146). (4) الترمذي : الزهد (2396). ج / 2 ص -122- فيه مسائل: الأولى: تفسير آية التغابن. الثانية: أن هذا من الإيمان بالله. ــ الفعلية لتعلقها بمشيئة الله تعالى; لأن ( إذا) في قوله: "إذا أحب قوما" للمستقبل، فالحب يحدث; فهو من الصفات الفعلية.والله تعالى يحب العبد عند وجود سبب المحبة، ويبغضه عند وجود سبب البغض، وعلى هذا; فقد يكون هذا الشخص في يوم من الأيام محبوبا إلى الله وفي آخر مبغضا إلى الله; لأن الحكم يدور مع علته. وأما الأعمال; فلم يزل الله يحب الخير والعدل والإحسان ونحوها، وأهل التأويل ينكرون هذه الصفات، فيئولون المحبة والرضا بالثواب أو إرادته، والسخط بالعقوبة أو إرادتها، قالوا: لأن إثبات هذه الصفات يقتضي النقص ومشابهة المخلوقين، والصواب ثبوتها لله ( على الوجه اللائق به، كسائر الصفات التي يثبتها من يقول بالتأويل. ويجب في كل صفة أثبتها الله لنفسه أمران: 1- إثباتها على حقيقتها وظاهرها. 2- الحذر من التمثيل أو التكييف. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية التغابن: وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}، [التغابن: من الآية11]، وقد فسرها علقمة كما سبق تفسيرا مناسبا للباب. الثانية: أن هذا من الإيمان بالله: المشار إليه بقوله: (هذا) هو الصبر على أقدار الله. ج / 2 ص -123- الثالثة: الطعن في النسب. الرابعة: شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية. الخامسة: علامة إرادة الله بعبده الخير. السادسة: إرادة الله به الشر. السابعة: علامة حب الله للعبد. الثامنة: تحريم السخط. التاسعة: ثواب الرضا بالبلاء. الثالثة: الطعن في النسب: وهي عيبه أو نفيه، وهو من الكفر، لكنه لا يخرج من الملة. الرابعة: شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود، أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية: لأن النبي ( تبرأ منه. الخامسة: علامة إرادة الله بعبده الخير: وهو أن يعجل له الله العقوبة في الدنيا. السادسة: إرادة الله به الشر: أي: علامة إرادة الله به الشر، وهو أن يؤخر له العقوبة في الآخرة. السابعة: علامة حب الله للعبد: وهي الابتلاء. الثامنة: تحريم السخط: يعني: مما يبتلى به العبد; لقوله ( "من سخط; فله السخط"، وهذا وعيد. التاسعة: ثواب الرضا بالبلاء: وهو رضا الله عن العبد; لقوله ( "من رضي; فله الرضا". المصدر : كتاب القول المفيد على كتاب التوحيد رابط التحميل المباشر http://waqfeya.com/book.php?bid=1979 |
#38
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
القول المفيد على كتاب التوحيد باب ما جاء في الرياء ج / 2 ص -124- باب ما جاء في الرياء: المؤلف رحمه الله تعالى أطلق الترجمة; فلم يفصح بحكمه لأجل أن يحكم الإنسان بنفسه على الرياء على ما جاء فيه. تعريف الرياء: مصدر راءى يرائي; أي: عمل عملا ليراه الناس، ويقال مراءاة كما يقال: جاهد جهادا ومجاهدة، ويدخل في ذلك من عمل العمل ليسمعه الناس ويقال له مسمع، وفي الحديث عن النبي ( أنه قال: ( من راءى راءى الله به، ومن سمع سمع الله به ( (1) والرياء خلق ذميم، وهو من صفات المنافقين، قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً}، [النساء: من الآية142]. والرياء يبحث في مقامين: المقام الأول: في حكمه. فنقول: الرياء من الشرك الأصغر; لأن الإنسان قصد بعبادته غير الله، وقد يصل إلى الأكبر، وقد مثل ابن القيم للشرك الأصغر; فقال: "مثل يسير الرياء"، وهذا يدل على أن الرياء الكثير قد يصل إلى الأكبر. (1) أخرجه البخاري في (الرقاق, باب الرياء والسمع/4/191), ومسلم في (الزهد, باب تحريم الرياء/4/2289). حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ج / 2 ص -125- المقام الثاني: في حكم العبادة إذا خالطها الرياء، وهو على ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون الباعث على العبادة مراءاة الناس من الأصل، كمن قام يصلي من أجل مراءاة الناس ولم يقصد وجه الله; فهذا شرك والعبادة باطلة. الثاني: أن يكون مشاركا للعبادة في أثنائها، بمعنى أن يكون الحامل له في أول أمره الإخلاص لله ثم يطرأ الرياء في أثناء العبادة. فإن كانت العبادة لا ينبني آخرها على أولها; فأولها صحيح بكل حال، والباطل آخرها. مثال ذلك: رجل عنده مئة ريال قد أعدها للصدقة فتصدق بخمسين مخلصا وراءى في الخمسين الباقية; فالأولى حكمها صحيح، والثانية باطلة. أما إذا كانت العبادة ينبني آخرها على أولها; فهي على حالين: أ- أن يدافع الرياء ولا يسكن إليه، بل يعرض عنه ويكرهه; فإنه لا يؤثر عليه شيئا; لقول النبي ( ( إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم((1)، مثال ذلك: رجل قام يصلي ركعتين مخلصا لله، وفي الركعة الثانية أحس بالرياء، فصار يدافعه; فإن ذلك لا يضره ولا يؤثر على صلاته شيئا. ب- أن يطمئن إلى هذا الرياء ولا يدافعه; فحينئذ تبطل جميع (1) أخرجه: البخاري في (الأيمان, باب إذا حنث ناسيا, 4/ 222), ومسلم في (الإيمان, باب تجاوز الله عن حديث النفس, 1/ 116); من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ج / 2 ص -126- وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، [الكهف: من الآية110]، الآية. العبادة; لأن آخرها مبني على أولها ومرتبط به. مثال ذلك: رجل قام يصلي ركعتين مخلصا لله، وفي الركعة الثانية طرأ عليه الرياء لإحساسه بشخص ينظر إليه، فاطمأن لذلك ونزع إليه; فتبطل صلاته كلها لارتباط بعضها ببعض. الثالث: ما يطرأ بعد انتهاء العبادة; فإنه لا يؤثر عليها شيئا، اللهم إلا أن يكون فيه عدوان; كالمن والأذى بالصدقة، فإن هذا العدوان يكون إثمه مقابلا لأجر الصدقة فيبطلها; لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}، [البقرة: من الآية264]. وليس من الرياء أن يفرح الإنسان بعلم الناس بعبادته; لأن هذا إنما طرأ بعد الفراغ من العبادة. وليس من الرياء أيضا أن يفرح الإنسان بفعل الطاعة في نفسه، بل ذلك دليل على إيمانه، قال النبي (: ( من سرته حسناته وساءته سيئاته; فذلك المؤمن((1)، وقد سئل النبي ( عن ذلك; فقال: ( تلك عاجل بشرى المؤمن((2). قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}؛ يأمر الله نبيه أن يقول للناس: إنما أنا بشر مثلكم، وهو قصر النبي ( على البشرية، وأنـه ليس (1) أخرجه أحمد (1/18, 26) , والترمذي في (الفتن , باب ما جاء في لزوم الجماعة/6/333)- وقال: "حسن, صحيح, غريب"-; من حديث عمر رضي الله عنه. (2) أخرجه مسلم في (البر والصلة, باب إذا أثنى على الصالح/4/2034). ج / 2 ص -127- ربا ولا ملكا، وأكد هذه البشرية بقوله: "مثلكم"، فذكر المثل من باب تحقيق البشرية. قوله: ( يُوحَى إِلَيَّ ( الوحي في اللغة: الإعلام بسرعة وخفاء، ومنه قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً}، [مريم:11]. وفي الشرع: إعلام الله بالشرع. والوحي: هو الفرق بيننا وبينه ( فهو متميز بالوحي كغيره من الأنبياء والرسل. قوله: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد}: هذه الجملة في تأويل مصدر نائب فاعل "يوحى"، وفيها حصر طريقه " أنما"; فيكون معناها: ما إلهكم إلا إله واحد، وهو الله، فإذا ثبت ذلك; فإنه لا يليق بك أن تشرك معه غيره في العبادة التي هي خالص حقه، ولذلك قال تعالى بعد هذا: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}، [الكهف: من الآية110]. فقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ}، المراد بالرجاء: الطلب والأمل; أي: من كان يؤمل أن يلقى ربه، والمراد باللقيا هنا الملاقاة الخاصة; لأن اللقيا على نوعين: الأول: عامة لكل إنسان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}؛ [الانشقاق:6]، ولذلك قال مفرعا على ذلك: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً}، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ}، [الانشقاق:7-10]، الآية. الثاني: الخاصة بالمؤمنــين، وهو لقاء الرضا والنعيم كما في هذه ج / 2 ص -128- الآية، وتتضمن رؤيته تبارك وتعالى، كما ذكر ذلك بعض أهل العلم. فقوله: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً}: الفاء رابطة لجواب الشرط، والأمر للإرشاد; أي: من كان يريد أن يلقى الله على الوجه الذي يرضاه سبحانه; فليعمل عملا صالحا. والعمل الصالح: ما كان خالصا صوابا، وهذا وجه الشاهد من الآية. فالخالص: ما قصد به وجه الله، والدليل على ذلك قوله (: ( إنما الأعمال بالنيات((1). والصواب: ما كان على شريعة الله، والدليل على ذلك قوله (: ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا; فهو رد((2). ولهذا قال العلماء: هذان الحديثان ميزان الأعمال; فالأول: ميزان الأعمال الباطنة. والثاني: ميزان الأعمال الظاهرة. قوله:" وَلَا يُشْرِكْ": لا: ناهية، والمراد بالنهي الإرشاد. قوله:" بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا": خص العبادة لأنها خالص حق الله، ولذلك أتى بكلمة "رب" إشارة إلى العلة، فكما أن ربك خلقك ولا يشاركه أحد في خلقك; فيجب أن تكون العبادة له وحده، ولذلك لم يقل: ( لا يشرك بعبادة الله)، فذكر الرب من باب التعليل; كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، [البقرة: من الآية21]. (1) أخرجه البخاري (1), ومسلم (3/ 1515). (2) أخرجه البخاري معلقا بصيغة الجزم في (البيوع, باب النجش/3/100) ومسلم موصولا في (الأقضية, باب نقض الأحكام, 3/ 1343). ج / 2 ص -129- وعن أبي هريرة مرفوعا: قال الله تعالى: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري ..... وقوله: "أحدا" نكرة في سياق النهي; فتكون عامة لكل أحد. والشاهد من الآية: أن الرياء من الشرك، فيكون داخلا في النهي عنه. وفي هذه الآية دليل على ملاقاة الله تعالى، وقد استدل بها بعض أهل العلم على ثبوت رؤية الله; لأن الملاقاة معناها المواجهة. وفيها دليل على أن الرسول ( بشر لا يستحق أن يعبد; لأنه حصر حاله بالبشرية، كما حصر الألوهية بالله. قوله في حديث أبي هريرة: " قال الله تعالى": هذا الحديث يرويه النبي ( عن ربه، ويسمى هذا النوع بالحديث القدسي. قوله: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك". قوله: " أغنى": اسم تفضيل، وليست فعلا ماضيا، ولهذا أضيفت إلى الشركاء. يعني: إذا كان بعض الشركاء يستغني عن شركته مع غيره; فالله أغنى الشركاء عن المشاركة فالله لا يقبل عملا له فيه شرك أبدا، ولا يقبل إلا العمل الخالص له وحده، فكما أنه الخالق وحده; فكيف تصرف شيئا من حقه إلى غيره؟! فهذا ليس عدلا، ولهذا قال الله عن لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، [لقمان: من الآية13]، فالله الذي خلقك وأعدك إعدادا كاملا بكل مصالحك وأمدك بما تحتاج إليه، ثم تذهب وتصرف شيئا من حقه إلى غيره؟! فلا شك أن هذا من أظلم الظلم. ج / 2 ص -130- تركته وشركه) رواه مسلم(1). قوله: "عملا": نكرة في سياق الشرط; فتعم أي عمل من صلاة، أو صيام، أو حج، أو جهاد، أو غيره. قوله: "تركته وشركه": أي: لم أثبه على عمله الذي أشرك فيه. وقد يصل هذا الشرك إلى حد الكفر، فيترك الله جميع أعماله; لأن الشرك يحبط الأعمال إذا مات عليه. والمراد بشركه: عمله الذي أشرك فيه، وليس المراد شريكه; لأن الشريك الذي أشرك به مع الله قد لا يتركه، كمن أشرك نبيا أو وليا; فإن الله لا يترك ذلك النبي والولي. ويستفاد من هذا الحديث: 1- بيان غنى الله تعالى; لقوله: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك. 2- بيان عظم حق الله، وأنه لا يجوز لأحد أن يشرك أحدا مع الله في حقه. 3- بطلان العمل الذي صاحبه الرياء; لقوله: "تركته وشركه". 4- تحريم الرياء; لأن ترك الإنسان وعمله، وعدم قبوله، يدل على الغضب، وما أوجب الغضب; فهو محرم. 5- أن صفات الأفعال لا حصر لها; لأنها متعلقة بفعل الله، ولم يزل الله ولا يزال فعَّالا. (1) أخرجه مسلم في (الزهد, باب من أشرك في عمله غير الله/4/2289). ج / 2 ص -131- وعن أبي سعيد مرفوعا: ( ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ ..... قوله في حديث أبي سعيد: " ألا": أداة عرض، والغرض منها تنبيه المخاطب; فهو أبلغ من عدم الإتيان بها. قوله: " بما هو": ما: اسم موصول بمعنى الذي. قوله: " أخوف عليكم عندي": أي عند الرسول ( لأنه ( من رحمته بالمؤمنين يخاف عليهم كل الفتن، وأعظم فتنة في الأرض هي فتنة المسيح الدجال، لكن خوف النبي ( من فتنة هذا الشرك الخفي أشد من خوفه من فتنة المسيح الدجال، وإنما كان كذلك; لأن التخلص منه صعب جدا، ولذلك قال بعض السلف: (ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص( وقال النبي (: ( أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه( (1) ولا يكفي مجرد اللفظ بها، بل لا بد من إخلاص وأعمال يتعبد بها الإنسان لله . قوله: " المسيح الدجال": المسيح; أي: ممسوح العين اليمنى، فذكر النبي عيبين في الدجال: أحدهما: حسي، وهو أن الدجال أعور العين اليمنى; كما قال النبي ( ( إن الله لا يخفى عليكم، إنه ليس بأعور وإن الدجال أعور العين اليمنى((2). والثاني: معنوي، وهو الدجال; فهو صيغة مبالغة، أو يقال بأنه نسبة إلى وصفه المـلازم له، وهو الدجل والكذب والتمويه، وهو رجل من بني آدم، ـ (1) أخرجه البخاري في (العلم, باب الحرص على الحديث/1/52) من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه البخاري في (الأنبياء, باب واذكر في الكتاب مريم/2/488), ومسلم في (الفتن, باب ذكر الدجال/4/2247); من حديث ابن عمر. ج / 2 ص -132- قالوا: بلى. قال: الشرك الخفي، ولكن الله- سبحانه وتعالى- بحكمته يخرجه ليفتن الناس به، وفتنته عظيمة; إذ ما في الدنيا منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنة أشد من فتنة الدجال. والمسيح الدجال ثبتت به الأحاديث واشتهرت حتى كان من المعلوم بالضرورة; لأن النبي ( أمر أمته أن يتعوذوا بالله منه في كل صلاة. وقد حاول بعض الناس إنكاره وقالوا: ما ورد من صفته متناقض ولا يمكن أن يصدق به، لكن هؤلاء يقيسون الأحاديث بعقولهم وأهوائهم، وقدرة الله بقدرتهم، ويقولون: كيف يكون اليوم الواحد عن سنة والشمس لها نظام لا تتعداه؟ وهذا لا شك جهل منهم بالله; فالذي جعل هذا النظام هو الله، وهو القادر على أن يغيره متى شاء; فيوم القيامة تكور الشمس، وتتكدر النجوم، وتكشط السماء، كل ذلك بكلمة "كن". ورد هذه الأحاديث بمثل هذه التعاليل دليل على ضعف الإيمان وعدم تقدير الله حق قدره، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}، [الأنعام: من الآية91]. فالذي نؤمن به أنه سيخرج في آخر الزمان، ويحصل منه كل ما ثبت عن رسول الله (. ونؤمن أن الله على كل شيء قدير، وأنه قادر على أن يبعث على الناس من يفتنهم عن دينهم; ليتميز المؤمن من الكافر والخبيث من الطيب، مثل ما ابتلى الله بني إسرائيل بالحيتان يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، ومثل ما ابتلى الله المؤمنين بأن أرسل عليهم الصيد وهم حرم، تناله أيديهم ورماحهم ليعلم الله من يخافه بالغيب، وقد يبتلي الله أفراد الناس بأشياء يمتحنهم بها، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ}، [الحج: من الآية11]. قوله: "الشرك الخفي": الشرك قسمان خفي وجلي. ج / 2 ص -133- يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه(، رواه أحمد(1). فالَجِليّ: ما كان بالقول مثل: الحلف بغير الله أو قول ما شاء الله وشئت، أو بالفعل مثل: الانحناء لغير الله تعظيما. والخفي: ما كان في القلب، مثل الرياء; لأنه لا يبين; إذ لا يعلم ما في القلوب إلا الله، ويسمى أيضا "شرك السرائر"، وهذا هو الذي بينه الله بقوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}، [الطارق:9]؛ لأن الحساب يوم القيامة على السرائر، قال تعالى: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}، [العاديات:9-10]. وفي الحديث الصحيح فيمن كان يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله: أنه " يلقى في النار حتى تندلق أقتاب بطنه، فيدور عليها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع عليه أهل النار، فيسألونه، فيخبرهم أنه كان يأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله(2) ". قوله: "يقوم الرجل، فيصلي، فيزين صلاته": يتساوى في ذلك الرجل والمرأة، والتخصيص هنا يسمى مفهوم اللقب، أي أن الحكم يعلق بما هو أشرف، لا لقصد التخصيص، ولكن لضرب المثل. وقوله: " فيزين صلاته": أي: يحسنها بالطمأنينة، ورفع اليدين عند التكبير، ونحو ذلك. قوله: " لما يرى من نظر رجل إليه": " ما" موصـولة، وحذف العائد; (1) أخرجه أحمد (3/30), وابن ماجه في (الزهد, باب الرياء والسمعة/2/1406),- وقال في "الزوائد": "إسناده حسن, وكثير بن زيد وربيح بن عبد الرحمن مختلف فيهما"-, وأخرجه الحاكم (4/329) وصححه. (2) أخرجه البخاري في (بدء الخلق, باب صفة النار/2/436), ومسلم في (الزهد, باب عقوبة من يأمر بمعروف ولا يفعله/4/2290). ج / 2 ص -134- فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الكهف. الثانية: الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله. الثالثة: ذكر السبب الموجب لذلك، وهو كمال الغنى. الرابعة: أن من الأسباب أنه تعالى خير الشركاء. الخامسة: خوف النبي ( على أصحابه من الرياء. أي: للذي يراه من نظر رجل، وهذه هي العلة لتحسين الصلاة; فقد زين صلاته ليراه هذا الرجل فيمدحه بلسانه أو يعظمه بقلبه، وهذا شرك. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الكهف: وسبق الكلام عليها. الثانية: الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله: وذلك لقوله: "تركته وشركه"، وصار عظيما; لأنه ضاع على العامل خسارا، وفحوى الحديث تدل على غضب الله ( من ذلك. الثالثة: ذكر السبب الموجب لذلك، وهو كمال الغنى: يعني: الموجب للرد؛ هو كمال غنى الله ( عن كل عمل فيه شرك، وهو غني عن كل عمل، لكن العمل الصالح يقبله ويثيب عليه. الرابعة: أن من الأسباب أنه تعالى خير الشركاء: أي: من أسباب رد العمل إذا أشرك فيه العامل مع الله أحدا أن الله خير الشركاء، فلا ينازع من جعل شريكا له فيه. الخامسة: خوف النبي ( على أصحابه من الرياء: وذلك ج / 2 ص -135- السادسة: أنه فسر ذلك بأن المرء يصلي لله، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه. ـ ( لقوله (: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال(، وإذا كان يخاف ذلك على أصحابه; فالخوف على من بعدهم من ذلك من باب أولى. السادسة: أنه فسر ذلك بأن المرء يصلي لله، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه: وهذا التفسير ينطبق تماما على الرياء; فيكون أخوف علينا عند رسول الله ( من المسيح الدجال. ولم يذكر المؤلف مسألة خوف النبي ( على أمته من المسيح الدجال; لأن المقام في الرياء لا فيما يخافه النبي ( على أمته. المصدر : كتاب القول المفيد على كتاب التوحيد رابط التحميل المباشر http://waqfeya.com/book.php?bid=1979 |
#39
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
القول المفيد على كتاب التوحيد باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا ج / 2 ص -136- باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا: قوله: "من الشرك": "من" للتبعيض; أي: بعض الشرك. قوله: "الدنيا": مفعول بإرادة; لأن إرادة مصدر مضاف إلى فاعله. وإذا أردت أن تعرف المصدر إن كان مضافا إلى فاعله أو مفعوله; فحوله إلى فعل مضارع مقرون بأن، فإذا قلنا: باب من الشرك أن يريد الإنسان بعمله الدنيا فالإنسان فاعل، وعلى هذا; فإرادة مصدر مضاف إلى فاعله، والدنيا مفعول به. وعنوان الباب له ثلاثة احتمالات: الأول: أن يكون مكررا مع ما قبله، وهذا بعيد أن يكتب المؤلف ترجمتين متتابعتين لمعنى واحد. الثاني: أن يكون الباب الذي قبله أخص من هذا الباب; لأنه خاص في الرياء، وهذا أعم، وهذا محتمل. الثالث: أن يكون هذا الباب نوعا مستقلا عن الباب الذي قبله، وهذا هو الظاهر; لأن الإنسان في الباب السابق يعمل رياء؛ يريد أن يمدح في العبادة، فيقال: هو عابد، ولا يريد النفع المادي. وفي هذا الباب لا يريد أن يمدح بعبادته ولا يريد المراءاة، بل يعبد الله مخلصا له، ولكنه يريد شيئا من الدنيا; كالمال، والمرتبة، والصحة في نفسه، وأهله، وولده، وما أشبه ذلك; فهو يريد بعمله نفعا في الدنيا، غافلا عن ثواب الآخرة. ج / 2 ص -137- أمثلة تبين كيفية إرادة الإنسان بعمله الدنيا: 1- أن يريد المال; كمن أذن ليأخذ راتب المؤذن، أو حج ليأخذ المال. 2- أن يريد المرتبة; كمن تعلم في كلية ليأخذ الشهادة؛ فترتفع مرتبته. 3- أن يريد دفع الأذى والأمراض والآفات عنه: كمن تعبد لله كي يجزيه الله بهذا في الدنيا، بمحبة الخلق له، ودفع السوء عنه، وما أشبه ذلك. 4- أن يتعبد لله: يريد صرف وجوه الناس إليه بالمحبة والتقدير. وهناك أمثلة كثيرة. تنبيه: فإن قيل: هل يدخل فيه من يتعلمون في الكليات أو غيرها، يريدون شهادة، أو مرتبة بتعلمهم؟ فالجواب: أنهم يدخلون في ذلك؛ إذا لم يريدوا غرضا شرعيا، فنقول لهم: أولا: لا تقصدوا بذلك المرتبة الدنيوية، بل اتخذوا هذه الشهادات وسيلة للعمل في الحقول النافعة للخلق; لأن الأعمال في الوقت الحاضر مبنية على الشهادات، والناس لا يستطيعون الوصول إلى منفعة الخلق إلا بهذه الوسيلة، وبذلك تكون النية سليمة. ثانيا: أن من أراد العلم لذاته قد لا يجده إلا في الكليات; فيدخل الكلية أو نحوها لهذا الغرض، وأما بالنسبة للمرتبة; فإنها لا تهمه. ج / 2 ص -138- ثالثا: أن الإنسان إذا أراد بعمله الحسنيين- حسنى الدنيا، وحسنى الآخرة-; فلا شيء عليه لأن الله يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}، [الطلاق: من الآية2-3]، فرغبه في التقوى بذكر المخرج من كل ضيق والرزق من حيث لا يحتسب. فإن قيل: من أراد بعمله الدنيا كيف يقال إنه مخلص، مع أنه أراد المال مثلا؟ أجيب: إنه أخلص العبادة ولم يرد بها الخلق إطلاقا، فلم يقصد مراءاة الناس ومدحهم، بل قصد أمرا ماديا; فإخلاصه ليس كاملا لأن فيه شركا، ولكن ليس كشرك الرياء يريد أن يمدح بالتقرب إلى الله، وهذا لم يرد مدح الناس بذلك، بل أراد شيئا دنيئا غيره. ولا مانع أن يدعو الإنسان في صلاته، ويطلب أن يرزقه الله المال، ولكن لا يصلي من أجل هذا الشيء; فهذه مرتبة دنيئة. أما طلب الخير في الدنيا بأسبابه الدنيوية; كالبيع، والشراء، والزراعة; فهذا لا شيء فيه، والأصل أن لا نجعل في العبادات نصيبا من الدنيا، وقد سبق البحث في حكم العبادة؛ إذا خالطها الرياء، في باب الرياء. ملاحظة: بعض الناس عندما يتكلمون على فوائد العبادات، يحولونها إلى فوائد دنيوية. فمثلا يقولون: في الصلاة رياضة، وإفادة للأعصاب، وفي الصيام فائدة إزالة الرطوبة وترتيب الوجبات، والمفروض ألا نجعل الفوائد الدنيوية هي الأصل; لأن الله لم يذكر ذلك في كتابه، بل ذكر أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. وعن الصوم أنه سبب للتقوى; فالفوائد الدينية في العبادات هي الأصل والدنيوية ثانوية، لكن عندما نتكلم عند عامة ج / 2 ص -139- وقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا}، [هود: من الآية15]، الآية. ــ الناس; فإننا نخاطبهم بالنواحي الدينية، وعندما نتكلم عند من لا يقتنع إلا بشيء مادي; فإننا نخاطبه بالنواحي الدينية والدنيوية، ولكل مقام مقال. قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}، أي: البقاء في الدنيا. قوله: {وَزِينَتَهَا}: أي: المال، والبنين، والنساء، والحرث، والأنعام، والخيل المسومة; كما قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، [آل عمران: من الآية14]. قوله: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ} فعل مضارع معتل الآخر مجزوم بحذف حرف العلة- الياء-; لأنه جواب الشرط. والمعنى: أنهم يعطون ما يريدون في الدنيا ومن ذلك الكفار لا يسعون إلا للدنيا وزينتها، فعجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا; كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}، [الأحقاف: من الآية20]. ولهذا ( لما بكى عمر حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم قد أثر في جنبه الفراش، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما يبكيك؟". قال: يا رسول الله كسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من نعيم وأنت على هذه الحال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم( 1، وفي الحقيقة هي ضرر عليهم; لأنهم إذا 1أخرجه البخاري في (المظالم, باب الغرفة والعلية المشرفة/2/197-199), ومسلم في (الطلاق, باب في الإيلاء واعتزال النساء/2/1105-1108). ج / 2 ص -140- انتقلوا من دار النعيم إلى الجحيم; صار عليهم أشد وأعظم في فقد ما متعوا به في الدنيا. قوله: {وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ}، البخس: النقص; أي: لا ينقصون مما يجازون فيه; لأن الله عدل لا يظلم، فيعطون ما أرادوه. قوله: "أولئك": المشار إليه الذين يريدون الحياة الدنيا وزينتها. قوله: {لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ}، فيه حصر، وطريقه النفي والإثبات، وهذا يعني أنهم لن يدخلوا الجنة; لأن الذي ليس له إلا النار محروم من الجنة، والعياذ بالله. قوله: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا}، الحبوط: الزوال، أي: زال عنهم ما صنعوا في الدنيا. قوله: {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، " باطل": خبر مقدم لأجل مراعاة الفواصل في الآيات والمبتدأ " ما" في قوله: {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، فأثبت الله أنه ليس لهؤلاء إلا النار، وأن ما صنعوا في الدنيا قد حبط، وأن أعمالهم باطلة. وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ}، مخصوصة بقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً}، [الإسراء:18]. فإن قيل: لماذا لا نجعل آية هود حاكمة على آية الإسراء، ويكون الله توعد من يريد العاجلة في الدنيا أن يجعل له ما يشاء لمن يريد، ثم وعد أن يعطيه ما يشاء؟ أجيب: إن هذا المعنى لا يستقيم لأمرين: ج / 2 ص -141- أولا: أن القاعدة الشرعية في النصوص أن الأخص مقدم على الأعم، وآية هود عامة; لأن كل من أراد الحياة الدنيا وزينتها وفي إليه العمل وأعطي ما أراد أن يعطى، أما آية الإسراء; فهي خاصة: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ}، [الإسراء: من الآية18]، ولا يمكن أن يحكم بالأعم على الأخص. الثاني: أن الواقع يشهد على ما تدل عليه آية الإسراء; لأن في فقراء الكفار من هو أفقر من فقراء المسلمين; فيكون عموم آية هود مخصوصا بآية الإسراء; فالأمر موكول إلى مشيئة الله وفيمن يريده. واختلف فيمن نزلت فيه آية هود: 1- قيل: نزلت في الكفار; لأن الكافر لا يريد إلا الحياة الدنيا، ويدل لهذا سياقها والجزاء المرتب على هذا، وعليه يكون وجه مناسبتها للترجمة أنه إذا كان عمل الكافرين يراد به الدنيا، فكل من شاركهم في شيء من ذلك; ففيه شيء من شركهم وكفرهم. 2- وقيل: نزلت في المرائين; لأنهم لا يعملون إلا للدنيا; فلا ينفعهم يوم القيامة. 3- وقيل: نزلت فيمن يريد مالا بعمله الصالح. والسياق يدل للقول الأول; لقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، [هود:16]. تنبيه: اقتصر المؤلف رحمه الله على الإشارة إلى تكميل الآية الأولى، وزدنا الآية التالية سهوا وعسى أن يكون خيرا. ج / 2 ص -142- وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط... قوله: "وفي "الصحيح" عن أبي هريرة": سبق الكلام على قول المؤلف: "وفي "الصحيح"" في باب تفسير التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله. قوله: "تعس": بفتح العين أو كسرها; أي: خاب وهلك. قوله: "عبد الدينار" الدينار: هو النقد من الذهب، والدينار الإسلامي زنته مثقال، وسماه عبد الدينار; لأنه تعلق به تعلق العبد بالرب، فكان أكبر همه، وقدمه على طاعة ربه، ويقال في عبد الدرهم ما قيل في عبد الدينار، والدرهم هو النقد من الفضة، وزنة الدرهم الإسلامي سبعة أعشار المثقال; فكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل. وقد أراد المؤلف بهذا الحديث أن يبين أن من الناس من يعبد الدنيا; أي: يتذلل لها ويخضع لها، وتكون مناه وغايته، فيغضب إذا فقدت ويرضى إذا وجدت، ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم من هذا شأنه عبدا لها، وهذا من يعنى بجمع المال من الذهب والفضة; فيكون مريدا بعمله الدنيا. قوله: ( تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة(1: وهذا من يُعْنى بمظهره وأثاثه; لأن الخميصة كساء جميل، والخميلة فراش وثير، ليس له هم إلا هذا الأمر، فإذا كان عابدا لهذه الأمور لأنه صرف لها جهوده وهمته; فكيف بمن أراد بالعمل الصالح شيئا من الدنيا فجعل الدين وسيلة للدنيا؟! فهذا أعظم. قوله:( إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط(2، يحتــمل أن يكون 1 البخاري: الرقاق (6435), وابن ماجه: الزهد (4136). 2 البخاري: الجهاد والسير (2887). ج / 2 ص -143- تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش . المعطي هو الله فيكون الإعطاء قدريا; أي: إن قدر الله له الرزق والعطاء رضي وانشرح صدره، وإن منع وحرم المال سخط بقلبه وقوله، كأن يقول: لماذا كنت فقيرا وهذا غنيا؟ وما أشبه ذلك; فيكون ساخطا على قضاء الله وقدره لأن الله منعه. والله- سبحانه وتعالى- يعطي ويمنع لحكمة، ويعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن يحب. والواجب على المؤمن أن يرضى بقضاء الله وقدره; إن أعطي شكر، وإن منع صبر. ويحتمل أن يراد بالإعطاء هنا الإعطاء الشرعي; أي: إن أعطي من مال يستحقه من الأموال الشرعية رضي، وإن لم يعط سخط، وكلا المعنيين حق، وهما يدلان على أن هذا الرجل لا يرضى إلا للمال ولا يسخط إلا له، ولهذا سماه الرسول صلى الله عليه وسلم عبدا له. قوله: " تعس وانتكس": تعس; أي: خاب وهلك، وانتكس; أي: انتكست عليه الأمور بحيث لا تتيسر له، فكلما أراد شيئا انقلبت عليه الأمور خلاف ما يريد، ولهذا قال: " وإذا شيك فلا انتقش": أي: إذا أصابته شوكة; فلا يستطيع أن يزيل ما يؤذيه عن نفسه. وهذه الجمل الثلاث؛ يحتمل أن تكون خبرا منه صلى الله عليه وسلم عن حال هذا الرجل، وأنه في تعاسة، وانتكاس، وعدم خلاص من الأذى، ويحتمل أن تكون من باب الدعاء على من هذه حاله; لأنه لا يهتم إلا للدنيا، فدعا عليه أن يهلك، وأن لا يصيب من الدنيا شيئا، وأن لا يتمكن من إزالة ما يؤذيه، وقد يصل إلى الشرك عندما يصده ذلك عن طاعة الله؛ حتى أصبح لا يرضى إلا للمال ولا يسخط إلا له. ج / 2 ص -144- طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، قوله: ( طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله(: هذا عكس الأول; فهو لا يهتم للدنيا، وإنما يهتم للآخرة; فهو في استعداد دائم للجهاد في سبيل الله. و" طوبى" فعلى من الطيب، وهي اسم تفضيل، فأطيب للمذكر وطوبى للمؤنث، والمعنى: أطيب حال تكون لهذا الرجل، وقيل: إن طوبى شجرة في الجنة، والأول أعم; كما قالوا في ويل: كلمة وعيد، وقيل: واد في جهنم، والأول أعم. وقوله: " آخذ بعنان فرسه": أي: ممسك بمقود فرسه الذي يقاتل عليه. قوله: " في سبيل الله": ضابطه أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا للحمية أو الوطنية أو ما أشبه ذلك، لكن إن قاتل وطنية وقصد حماية وطنه لكونه بلدا إسلاميا يجب الذود عنه; فهو في سبيل الله، وكذلك من قاتل دفاعا عن نفسه أو ماله أو أهله; فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قتل دون ذلك; فهو شهيد(1، فأما من قاتل للوطنية المحضة فليس في سبيل الله؛ لأن هذا قتال عصبية يستوي فيه المؤمن والكافر، فإن الكافر يقاتل من أجل وطنه. قوله: " أشعث رأسه، مغبرة قدماه": أي: رأسه أشعث من الغبار في سبيل الله، فهو لا يهتم بحاله ولا بدنه، ما دام هذا الأمر ناتجا عن طاعة الله عز وجل، وقدماه مغبرة من السير في سبيل الله، وهذا دليل على أن أهم شيء عنده هو الجهاد في سبيل الله، أما أن يكون شعره أو ثوبه أو فراشه نظيفا; فليس له هم فيه. 1رواه البخاري: (2480), ومسلم (141) عن عبد الله بن عمرو، بلفظ: "من قتل دون ماله فهو شهيد". وانظر: "جامع الأصول" (2/742). ج / 2 ص -145- إن كان في الحراسة; كان في الحراسة، وإن كان في الساقة; كان في الساقة، إن استأذن; لم يؤذن له، وإن شفع; لم يشفع(1. قوله: ( إن كان في الحراسة; فهو في الحراسة، وإن كان في الساقة; فهو في الساقة(: الحراسة والساقة ليست من مقدم الجيش; فالحراسة أن يحرس الإنسان الجيش، والساقة أن يكون في مؤخرته، وللجملتين معنيان: أحدهما: أنه لا يبالي أين وضع، إن قيل له: احرس; حرس، وإن قيل له: كن في الساقة; كان فيها، فلا يطلب مرتبة أعلى من هذا المحل كمقدم الجيش مثلا. الثاني: إن كان في الحراسة أدى حقها، وكذا إن كان في الساقة، والحديث صالح للمعنيين، فيحمل عليهما جميعا إذا لم يكن بينهما تعارض، ولا تعارض هنا. قوله: ( إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع(، أي: هو عند الناس ليس له جاه ولا شرف، حتى إنه إن استأذن لم يؤذن له، وهكذا عند أهل السلطة ليس له مرتبة; فإن شفع لم يشفع، ولكنه وجيه عند الله، وله المنزلة العالية; لأنه يقاتل في سبيله. والشفاعة: هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة. والاستئذان: طلب الإذن بالشيء. والحديث قسم الناس إلى قسمين: الأول: ليس له هم إلا الدنيا، إما لتحصيل المال، أو لتجميل 1أخرجه البخاري في (الجهاد, باب الحراسة في الغزو/2/327). ج / 2 ص -146- الحال; فقد استعبدت قلبه حتى أشغلته عن ذكر الله وعبادته. الثاني: أكبر همه الآخرة; فهو يسعى لها في أعلى ما يكون مشقة وهو الجهاد في سبيل الله، ومع ذلك أدى ما يجب عليه من جميع الوجوه. ويستفاد من الحديث: 1- أن الناس قسمان كما سبق. 2- أن الذي ليس له هم إلا الدنيا قد تتقلب عليه الأمور، ولا يستطيع الخلاص من أدنى أذية وهي الشوكة، بخلاف الحازم الذي لا تهمه الدنيا، بل أراد الآخرة ولم ينس نصيبه من الدنيا، وقنع بما قدره الله له. 3- أنه ينبغي لمن جاهد في سبيل الله ألا تكون همه المراتب، بل يكون همه القيام بما يجب عليه; إما في الحراسة، أو الساقة، أو القلب، أو الجنب; حسب المصلحة. 4- أن دنو مرتبة الإنسان عند الناس؛ لا يستلزم منه دنو مرتبته عند الله عز وجل فهذا الرجل الذي إن شفع لم يشفع، وإن استأذن لم يؤذن له، قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: " طوبى له"، ولم يقل: إن سأل لم يعط، بل لا تهمه الدنيا حتى يسأل عنها، لكن يهمه الخير فيشفع للناس، ويستأذن للدخول على ذوي السلطة للمصالح العامة. ج / 2 ص -147- فيه مسائل: الأولى: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة. الثانية: تفسير آية هود. الثالثة: تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة. الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط. فيه مسائل: الأولى: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة: وهذا من الشرك; لأنه جعل عمل الآخرة وسيلة لعمل الدنيا، فيطغى على قلبه حب الدنيا حتى يقدمها على الآخرة، والحزم والإخلاص أن يجعل عمل الدنيا للآخرة. الثانية: تفسير آية هود: وقد سبق ذلك. الثالثة: تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة: وهذه العبودية لا تدخل في الشرك ما لم يصل بها إلى حد الشرك، ولكنها نوع آخر يخل بالإخلاص; لأنه جعل في قلبه محبة زاحمت محبة الله عز وجل ومحبة أعمال الآخرة. الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط: هذا تفسير لقوله صلى الله عليه وسلم: ( عبد الدينار، عبد الدرهم، عبد الخميصة، عبد الخميلة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط(، وهذه علامة عبوديته لهذه الأشياء أن يكون رضاه وسخطه تابعا لهذه الأشياء. ج / 2 ص -148- الخامسة: قوله: "تعس وانتكس". السادسة: قوله: "وإذا شيك; فلا انتقش". السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات. الخامسة: قوله: " تعس وانتكس". السادسة: قوله: " إذا شيك فلا انتقش": يحتمل أن تكون الجمل الثلاث خبرا أو دعاء، وسبق شرح ذلك. السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات: فقوله في الحديث: " طوبى لعبد..."؛ يدل على الثناء عليه، وأنه هو الذي يستحق أن يمدح لا أصحاب الدراهم والدنانير، وأصحاب الفرش والمراتب. المصدر : كتاب القول المفيد على كتاب التوحيد رابط التحميل المباشر http://waqfeya.com/book.php?bid=1979 |
#40
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
القول المفيد على كتاب التوحيد المجلد الثاني باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أربابا ج / 2 ص -149- باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أربابا: ــ قوله: "من أطاع العلماء": "من" يحتمل أن تكون شرطية، بدليل قوله: "فقد اتخذهم"; لأنها جواب الشرط، ويحتمل أن تكون موصولة; أي: "باب الذي أطاع العلماء". وقوله: "فقد اتخذهم": خبر المبتدأ، وقرنت بالفاء; لأن الاسم الموصول كالشرط في العموم، وعلى الأول تقرأ " باب" بالتنوين، وعلى الثاني بدون تنوين، والأول أحسن. والمراد بالعلماء: العلماء بشرع الله، وبالأمراء: أولو الأمر المنفذون له، وهذان الصنفان هما المذكوران في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، [النساء: من الآية59]; فجعل الله طاعته مستقلة، وطاعة رسوله مستقلة، وطاعة أولي الأمر تابعة، ولهذا لم يكرر الفعل " أطيعوا"; فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وأولو الأمر هم أولو الشأن، وهم العلماء; لأنه يستند إليهم في أمر الشرع والعلم به، والأمراء; لأنه يستند إليهم في تنفيذ الشرع وإمضائه، وإذا استقام العلماء والأمراء استقامت الأمور، وبفسادهم تفسد الأمور; لأن العلماء أهل الإرشاد والدلالة، والأمراء أهل الإلزام والتنفيذ. ج / 2 ص -150- قوله: "في تحريم ما أحل الله": أي: في جعله حراما; أي: عقيدة أو عملا. "أو تحليل ما حرم الله": أي: في جعله حلالا عقيدة أو عملا; فتحريم ما أحل الله لا ينقص درجة في الإثم عن تحليل ما حرم الله، وكثير من ذوي الغيرة من الناس؛ تجدهم يميلون إلى تحريم ما أحل الله أكثر من تحليل الحرام، بعكس المتهاونين، وكلاهما خطأ، ومع ذلك; فإن تحليل الحرام فيما الأصل فيه الحل أهون من تحريم الحلال; لأن تحليل الحرام إذا لم يتبين تحريمه فهو مبني على الأصل، وهو الحل، ورحمة الله - سبحانه - سبقت غضبه; فلا يمكن أن نحرم إلا ما تبين تحريمه، ولأنه أضيق وأشد، والأصل أن تبقى الأمور على الحل والسعة حتى يتبين التحريم. أما في العبادات فيشدد; لأن الأصل المنع والتحريم حتى يبينه الشرع كما قيل: والأصل في الأشياء حل وامنع عبادة إلا بإذن الشارع(1) قوله: "أربابا". جمع رب، وهو المتصرف المالك. والتصرف نوعان: تصرف قدري، وتصرف شرعي. فمن أطاع العلماء في مخالفة أمر الله ورسوله، فقد اتخذهم أربابا من دون الله باعتبار التصرف الشرعي; لأنه اعتبرهم مشرعين، واعتبر تشريعهم شرعا يعمل به، وبالعكس الأمراء. (1)منظومة "أصول الفقه وقواعده" للمؤلف (ص 2). ج / 2 ص -151- وقال ابن عباس: ( يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله (، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟!((1). قول ابن عباس: "حجارة من السماء": أي: من فوق تنزل عليكم عقوبة لكم، ونزول الحجارة من السماء ليس بالأمر المستحيل، بل هو ممكن، قال تعالى في أصحاب الفيل: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ}، [الفيل: 3، 4]، وقال تعالى في قوم لوط: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ}، [القمر:34]، الحاصب: الحجارة تحصبهم من السماء. قوله: ( أقول: قال رسول الله ( وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟!( أبو بكر وعمر أفضل هذه الأمة وأقربها إلى الصواب، قال النبي (: ( إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا، رواه مسلم(2)، وروي عنه ( أنه قال: ( اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر((3)، وقال (: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ (4)، ولم يعرف عن أبي بكر وعمر (1)أخرجه بنحوه: أحمد (1/337), والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/145), وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (2/239), وابن حزم في "حجة الوداع" (ص 268- 269). (2)أخرجه مسلم في (المساجد, باب قضاء الصلاة الفائتة/1/472). (3)أخرجه الإمام أحمد في كتاب (فضائل الصحابة/1/186) وفي "المسند" (5/399), والبخاري في "الكنى" (ص50), والترمذي في (المناقب, باب في مناقب أبي بكر وعمر/9/270)- وقال: "حديث حسن"-, وابن ماجه في (المقدمة/1/37), وابن سعد (2/334), والحميدي (1/214), والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/177), وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (2/223). (4)أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (4/127,126), وأبو داود في (السنة, باب في لزوم السنة/5/13-15), والترمذي في (العلم, باب ما جاء في الأخذ في السنة واجتناب= البدعة, 7/319)- وقال: "حسن صحيح ", وابن ماجه في "المقدمة" (1/15), والدارمي (196), وابن حبان في الموارد-102), وأبو نعيم في "الضعفاء" (ص46)- وقال: "حديث جيد صحيح من حديث الشاميين"-. ج / 2 ص -152- وقال أحمد بن حنبل: " عجبت لقوم أنهما خـالفا نصا برأيهما، فإذاكان قول أبي بكر وعمر إذا عارض الإنسان بقولهما قول الرسول (؛ فإنه يوشك أن تنزل عليه حجارة من السماء! فما بالك بمن يعارض قوله ( بمن هو دون أبي بكر وعمر؟! والفرق بين ذلك كما بين السماء والأرض; فيكون هذا أقرب للعقوبة. وفي الأثر التحذير عن التقليد الأعمى والتعصب المذهبي الذي ليس مبنيا على أساس سليم. وبعض الناس يرتكب خطأ فاحشا إذا قيل له: قال رسول الله ( قال: لكن في الكتاب الفلاني كذا وكذا; فعليه أن يتقي الله الذي قال في كتابه: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}، [القصص: 65]، ولم يقل ماذا أجبتم فلانا وفلانا، أما صاحب الكتاب، فإنه إن علم أنه يحب الخير ويريد الحق; فإنه يدعى له بالمغفرة والرحمة إذا أخطأ، ولا يقال: إنه معصوم، يعارض بقوله قول الرسول . قول أحمد رحمه الله: "عجبت": العجب نوعان: الأول: عجب استحسان; كما في حديث عائشة رضي الله عنها: ( كان الرسول ( يعجبه التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله((1). (1)رواه البخاري (168), ومسلم (268). ج / 2 ص -153- عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، [النور: من الآية63]،.... الثاني: عجب إنكار; كما في قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ}، [الصافات: 12]، والعجب في كلام الإمام أحمد هنا عجب إنكار. قوله: " الإسناد": المراد به هنا رجال السند لا نسبة الحديث إلى راويه; أي: عرفوا صحة الحديث بمعرفة رجاله. قوله: " يذهبون إلى رأي سفيان": أي: سفيان الثوري; لأنه صاحب المذهب المشهور وله أتباع لكنهم انقرضوا; فهم يذهبون إلى رأي سفيان وهو من الفقهاء ويتركون ما جاء به الحديث! قوله: "والله يقول: فليحذر": الفاء عاطفة، واللام للأمر، ولهذا سكنت وجزم الفعل بها، لكن حرك بالكسر; لالتقاء الساكنين. قوله: "عن أمره": الضمير يعود للرسول ( بدليل أول الآية، قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}، [النور: من الآية63]. فإن قيل: لماذا عدي الفعل ب: " عن" مع أن " يخالف" يتعدى بنفسه؟ أجيب: أن الفعل ضمن معنى الإعراض; أي: يعرضون عن أمره زهدا فيه، وعدم مبالاة به. ج / 2 ص -154- أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك". وعن عدي بن حاتم: ( أنه سمع النبي ( يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه}، [التوبة: من الآية31] الآية، و" أمره": واحد الأوامر وليس واحد الأمور; لأن الأمر هو الذي يخالف فيه، وهو مفرد مضاف; فيعم جميع الأوامر. " فتنة": الفتنة فسرها الإمام أحمد بالشرك، وعلى هذا يكون الوعيد بأحد أمرين: إما الشرك، وإما العذاب الأليم. قوله في حديث عدي بن حاتم: " اتخذوا": الضمير يعود للنصارى; لأن اليهود لم يتخذوا المسيح ابن مريم إلها، بل ادعوا أنه ابن زانية وحاولوا قتله، وادعوا أنهم قتلوه، ويحتمل أن يعود الضمير لليهود والنصارى جميعا، ويختص النصارى باتخاذ المسيح ابن مريم، وهذا هو المتبادر من السياق مع الآية التي قبلها. قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ} الأحبار: جمع حبر، وحبر بفتح الحاء وكسرها; وهو العالم الواسع العلم، والرهبان: جمع راهب، وهو العابد الزاهد. قوله: {أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: مشاركين لله ( في التشريع; لأنهم يحلون ما حرم الله فيحله هؤلاء الأتباع، ويحرمون ما أحل الله فيحرمه الأتباع. ج / 2 ص -155- قوله: {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَم} أي: اتخذوه إلها مع الله، بدليل قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً}، [التوبة: من الآية31] والعبادة: التذلل والخضوع، واتباع الأوامر، واجتناب النواهي. قوله: "إلها واحدا": هو الله ( وإله، أي: مألوه معبود مطاع، وليس بمعنى آله; أي: قادر على الاختراع، فإن هذا المعنى فاسد ذهب إليه المتكلمون أو عامتهم; فيكون معنى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ على هذا القول: لا رب إلا الله، وهذا ليس بالتوحيد المطلوب بهذه الكلمة; إذ لو كان كذلك لكان المشركون الذين قاتلهم رسول الله ( موحدين; لأنهم يقولون: لا رب إلا الله، قال تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ}، [المؤمنون:86-87]، وهذه إحدى القراءتين، وهي سبعية. قوله: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}؛ " سبحان": اسم مصدر، وهي معمول أو مفعول لفعل محذوف وجوبا تقديره يسبح سبحانا; أي: تسبيحا; لأن اسم المصدر بمعنى المصدر; فسبحان: مفعول مطلق عاملها محذوف وجوبا وهي ملازمة للإضافة: إما إلى مضمر; كما في الآية: " سبحانه"، أو إلى مظهر; كما في " سبحان الله". والتسبيح: التنزيه، أي: تنزيه الله عن كل نقص، ولا يحتاج أن نقول: ومماثلة المخلوقين; لأن المماثلة نقص، ولكن إذا قلناها; فذلك من باب زيادة الإيضاح حتى لا يظن أن تمثيل الخالق بالمخلوق في الكمال من باب الكمال، فيكون المعنى: تنزيه الله عن كل ما لا يليق به من نقص أو مماثلة المخلوقين. ج / 2 ص -156- فقلت له: إنا لسنا نعبدهم. قال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟". فقلت: بلى. قال: ـ وقوله: "عما يشركون": أي: مما سواه؛ من المسيح ابن مريم، والأحبار والرهبان، فهو متنزه عن كل شرك، وعن كل مشرك به. وقوله: "عما يشركون" هذا من البلاغة في القرآن; لأنها جاءت محتملة أن تكون "ما" مصدرية، فيكون المعنى عن شركهم، أو موصولة، ويكون المعنى: سبحان الله عن الذين يشركون به، وهي صالحة للأمرين، فتكون شاملة لهما؛ لأن الصحيح جواز استعمال المشترك في معنييه إذا لم يكن بينهما تعارض، فيكون التنزيه عن الشرك وعن المشرك به. قوله: "إنا لسنا نعبدهم": أي: لا نعبد الأحبار والرهبان، ولا نسجد لهم، ولا نركع ولا نذبح ولا ننذر لهم، وهذا صحيح بالنسبة للأحبار والرهبان، بدليل قوله (: ( أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟!(. فإن هذا الوصف لا ينطبق على عيسى أبدا; لأنه رسول الله، فما أحله; فقد أحله الله، وما حرمه; فقد حرمه الله، وقد حاول بعض الناس أن يعل الحديث لهذا المعنى، مع ضعف سنده، والحديث حسنه الترمذي والألباني وآخرون وضعفه آخرون. ويجاب عن التعليل المذكور بأن قول عدي: "لسنا نعبدهم" يعود على الأحبار والرهبان، أما عيسى ابن مريم; فالمعروف أنهم يعبدونه. وبدأ بتحريم الحلال; لأنه أعظم من تحليل الحرام، وكلاهما محرم; لقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}، [النحل: من الآية116]. ج / 2 ص -157- فتلك عبادتهم ( رواه أحمد والترمذي وحسنه(1). قوله: " فتلك عبادتهم": ووجه كونها عبادة: أن من معنى العبادة الطاعة، وطاعة غير الله عبادة للمطاع، ولكن بشرط إن تكون في غير طاعة الله، أما إذا كانت في طاعة الله; فهي عبادة لله; لأنك أطعت غير الله في طاعة الله، كما لو أمرك أبوك بالصلاة فصليت; فلا تكون قد عبدت أباك بطاعتك له، ولكن عبدت الله; لأنك أطعت غير الله في طاعة الله; ولأن أمر غير الله بطاعة الله وامتثال أمره؛ هو امتثال لأمر الله. ويستفاد من الحديث: 1- أن الطاعة بمعنى العبادة عبودية مقيدة. 2- أن الطاعة في مخالفة شرع الله من عبادة المطاع، أما في عبادة الله، فهي عبادة لله. 3- أن اتباع العلماء والعباد في مخالفة شرع الله من اتخاذهم أربابا. واعلم أن اتباع العلماء أو الأمراء، في تحليل ما حرم الله أو العكس، ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: أن يتابعهم في ذلك راضيا بقولهم، مقدما له، ساخطا لحكم الله; فهو كافر لأنه كره ما أنزل الله، فأحبط الله عمله، ولا تحبط الأعمال إلا بالكفر، فكل من كره ما أنزل الله; فهو كافر. (1)أخرجه الترمذي في (تفسير القرآن, تفسير سورة التوبة/8/248)- وقال: "غريب, لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب, وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث", وابن جرير (10/80،81), والبيهقي (10/116), والمزي في "تهذيب الكمال" (2/109). وانظر: والدر المنثور للسيوطي (3/230). وقد حسنه شيخ الإسلام في "الإيمان" (ص64). ج / 2 ص -158- الثاني: أن يتابعهم في ذلك راضيا بحكم الله وعالما بأنه أمثل وأصلح للعباد والبلاد، ولكن لهوى في نفسه اختاره، كأنه يريد مثلا وظيفة; فهذا لا يكفر، ولكنه فاسق، وله حكم غيره من العصاة. الثالث: أن يتابعهم جاهلا، فيظن أن ذلك حكم الله; فينقسم إلى قسمين: أ- أن يمكنه أن يعرف الحق بنفسه; فهو مفرط أو مقصر، فهو آثم; لأن الله أمر بسؤال أهل العلم عند عدم العلم. ب- أن لا يكون عالما ولا يمكنه التعلم فيتابعهم تقليدا ويظن أن هذا هو الحق; فهذا لا شيء عليه لأنه فعل ما أمر به وكان معذورا بذلك، ولذلك ورد عن رسول الله ( أنه قال: إن ( من أفتي بغير علم; فإنما إثمه على من أفتاه ((1)(2) لو قلنا: بإثمه بخطأ غيره; للزم من ذلك الحرج والمشقة، ولم يثق الناس بأحد لاحتمال خطئه. فإن قيل: لماذا لا يكفر أهل القسم الثاني؟ أجيب: إننا لو قلنا بكفرهم لزم من ذلك تكفير كل صاحب معصية يعرف أنه عاص لله ويعلم أنه حكم الله. فائدة: وصف الله الحاكمين بغير ما أنزل الله بثلاثة أوصاف: 1- قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، [المائدة: من الآية44]. (1) أحمد (3/153). (2)أخرجه الإمام أحمد (2/321،365), وأبو داود في (العلم, باب التوقي في الفتيا/4/66), وابن ماجه في (المقدمة, باب اجتناب الرأي/1/20), والدارمي في (المقدمة/1/53), والحاكم في (العلم/1/126)- وقال: "صحيح على شرط الشيخين, ولا أعرف له علة", ووافقه الذهبي-. ج / 2 ص -159- وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، [المائدة: من الآية45]. 3- وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، [المائدة: من الآية47]. واختلف أهل العلم في ذلك: فقيل: إن هذه الأوصاف لموصوف واحد; لأن الكافر ظالم; لقوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، [البقرة: من الآية254]، وفاسق; لقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ}، [السجدة: من الآية20]، أي: كفروا. وقيل: إنها لموصوفين متعددين، وإنها على حسب الحكم، وهذا هو الراجح. فيكون كافرا في ثلاثة أحوال: أ- إذا اعتقد جواز الحكم بغير ما أنزل الله، بدليل قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}، [المائدة: من الآية50]، فكل ما خالف حكم الله; فهو من حكم الجاهلية، بدليل الإجماع القطعي على أنه لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله فالمحل والمبيح للحكم بغير ما أنزل الله مخالف لإجماع المسلمين القطعي، وهذا كافر مرتد، وذلك كمن اعتقد حل الزنا أو الخمر أو تحريم الخبز أو اللبن. ب- إذا اعتقد أن حكم غير الله مثل حكم الله. ج- إذا اعتقد أن حكم غير الله أحسن من حكم الله. بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، [المائدة: من الآية50]; فتضمنت ج / 2 ص -160- الآية أن حكم الله أحسن الأحكام، بدليل قوله تعالى مقررا ذلك: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}، [التين:8]، فإذا كان الله أحسن الحاكمين أحكاما وهو أحكم الحاكمين; فمن ادعى أن حكم غير الله مثل حكم الله أو أحسن فهو كافر لأنه مكذب للقرآن. ويكون ظالما: إذا اعتقد أن الحكم بما أنزل الله أحسن الأحكام، وأنه أنفع للعباد والبلاد، وأنه الواجب تطبيقه، ولكن حمله البغض والحقد للمحكوم عليه حتى حكم بغير ما أنزل الله; فهو ظالم. ويكون فاسقا: إذا كان حكمه بغير ما أنزل الله لهوى في نفسه مع اعتقاده أن حكم الله هو الحق، لكن حكم بغيره لهوى في نفسه; أي: محبة لما حكم به لا كراهة لحكم الله ولا ليضر أحدا به، مثل: أن يحكم لشخص لرشوة رشي إياها، أو لكونه قريبا أو صديقا، أو يطلب من ورائه حاجة، وما أشبه ذلك مع اعتقاده بأن حكم الله هو الأمثل والواجب اتباعه; فهذا فاسق، وإن كان أيضا ظالما، لكن وصف الفسق في حقه أولى من وصف الظلم. أما بالنسبة لمن وضع قوانين تشريعية مع علمه بحكم الله وبمخالفة هذه القوانين لحكم الله; فهذا قد بدل الشريعة بهذه القوانين، فهو كافر لأنه لم يرغب بهذا القانون عن شريعة الله إلا وهو يعتقد أنه خير للعباد والبلاد من شريعة الله، وعندما نقول بأنه كافر; فنعني بذلك أن هذا الفعل يوصل إلى الكفر. ولكن قد يكون الواضع له معذورا، مثل أن يغرر به كأن يقال: إن هذا لا يخالف الإسلام، أو هذا من المصالح المرسلة، أو هذا مما رده الإسلام إلى الناس. ج / 2 ص -161- فيوجد بعض العلماء وإن كانوا مخطئين يقولون: إن مسألة المعاملات لا تعلق لها بالشرع، بل ترجع إلى ما يصلح الاقتصاد في كل زمان بحسبه، فإذا اقتضى الحال أن نضع بنوكا للربا أو ضرائب على الناس; فهذا لا شيء فيه. وهذا لا شك في خطئه; فإن كانوا مجتهدين غفر الله لهم، وإلا فهم على خطر عظيم، واللائق بهؤلاء أن يلقبوا بأنهم من علماء الدولة لا علماء الملة. ومما لا شك فيه أن الشرع جاء بتنظيم العبادات التي بين الإنسان وربه والمعاملات التي بين الإنسان مع الخلق في العقود والأنكحة والمواريث وغيرها; فالشرع كامل من جميع الوجوه، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، [المائدة: من الآية3]. وكيف يقال: إن المعاملات لا تعلق لها بالشرع وأطول آية في القرآن نزلت في المعاملات، ولولا نظام الشرع في المعاملات لفسد الناس؟! وأنا لا أقول: نأخذ بكل ما قاله الفقهاء; لأنهم قد يصيبون وقد يخطئون، بل يجب أن نأخذ بكل ما قاله الله ورسوله ( ولا يوجد حال من الأحوال تقع بين الناس إلا وفي كتاب الله وسنة رسوله ما يزيل إشكالها ويحلها، ولكن الخطأ إما من نقص العلم أو الفهم وهذا قصور، أو نقص التدبر وهذا تقصير. أما إذا وفق الإنسان بالعلم والفهم وبذل الجهد في الوصول إلى الحق; فلا بد أن يصل إليه حتى في المعاملات، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}، [النساء: من الآية82]، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ}، [المؤمنون: من الآية68]، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}، [صّ: من الآية29]، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ}، [النحل: من الآية89]، فكل شيء يحتاجه الإنسان في دينه أو دنياه; فإن القرآن بينه بيانا شافيا. ج / 2 ص -162- ومن سن قوانين تخالف الشريعة وادعى أنها من المصالح المرسلة; فهو كاذب في دعواه لأن المصالح المرسلة والمقيدة إن اعتبرها الشرع ودل عليها فهي حق ومن الشرع، وإن لم يعتبرها; فليست مصالح، ولا يمكن أن تكون كذلك، ولهذا كان الصواب أنه ليس هناك دليل يسمى بالمصالح المرسلة، بل ما اعتبره الشرع; فهو مصلحة، وما نفاه; فليس بمصلحة، وما سكت عنه; فهو عفو. والمصالح المرسلة توسع فيها كثير من الناس; فأدخل فيها بعض المسائل المنكرة من البدع وغيرها; كعيد ميلاد الرسول، فزعموا أن فيه شحذا للهمم وتنشيطا للناس لأنهم نسوا ذكر رسول الله ( وهذا باطل; لأن جميع المسلمين في كل صلاة يشهدون أن محمدا عبده ورسوله ويصلون عليه. والذي لا يحيى قلبه بهذا وهو يصلي بين يدي ربه كيف يحيا قلبه بساعة يؤتى فيها بالقصائد الباطلة التي فيها من الغلو ما ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فهذه مفسدة وليست بمصلحة. فالمصالح المرسلة وإن وضعها بعض أهل العلم المجتهدين الكبار; فلا شك أن مرادهم نصر الله ورسوله، ولكن استخدمت هذه المصالح في غير ما أراده أولئك العلماء وتوسع فيها، وعليه; فإنها تقاس بالمعيار الصحيح، فإن اعتبرها الشرع قبلت، وإلا; فكما قال الإمام مالك: ( كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر( وهناك قواعد كليات تطبق عليها الجزئيات. وليعلم أنه يجب على الإنسان أن يتقي ربه في جميع الأحكام; فلا يتسرع في البت بها خصوصا في التكفير الذي صار بعض أهل الغيرة والعاطفة يطلقونه بدون تفكير ولا روية، مع أن الإنسـان إذا كفر شخصا، ج / 2 ص -163- ولم يكن الشخص أهلا له; عاد ذلك إلى قائله، وتكفير الشخص يترتب عليه أحكام كثيرة; فيكون مباح الدم والمال، ويترتب عليه جميع أحكام الكفر، وكما لا يجوز أن نطلق الكفر على شخص معين حتى يتبين شروط التكفير في حقه يجب أن لا نجبن عن تكفير من كفره الله ورسوله، ولكن يجب أن نفرق بين المعين وغير المعين; فالمعين يحتاج الحكم بتكفيره إلى أمرين: 1- ثبوت أن هذه الخصلة التي قام بها مما يقتضي الكفر. 2- انطباق شروط التكفير عليه، وأهمها العلم بأن هذا مكفر، فإن كان جاهلا; فإنه لا يكفر، ولهذا ذكر العلماء أن من شروط إقامة الحد: أن يكون عالما بالتحريم، هذا وهو إقامة حد وليس بتكفير، والتحرز من التكفير أولى وأحرى. قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}، [النساء: من الآية165]، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}، [الإسراء: من الآية15]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ}، [التوبة: من الآية115]، ولا بد مع توفر الشروط من عدم الموانع، فلو قام الشخص بما يقتضي الكفر إكراها أو ذهولا لم يكفر; لقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ}، [النحل: من الآية106]; ولقول الرجل الذي وجد دابته في مهلكه: ( اللهم! أنت عبدي وأنا ربك; أخطأ من شدة الفرح((1)؛ فلم يؤاخذ بذلك. (1)أخرجه البخاري في (الدعوات, باب التوبة/4/154), ومسلم في (التوبة, باب في الحض على التوبة/4/2103); من حديث أنس رضي الله عنه. ج / 2 ص -164- فيه مسائل: الأولى: (تفسير آية النور). الثانية: (تفسير آية براءة). الثالثة: التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي. الرابعة: تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر، وتمثيل أحمد بسفيان. قوله: "فيه مسائل": الأولى: تفسير آية النور: وهي قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، [النور: من الآية63]، وسبق تفسيرها. الثانية: تفسير آية براءة: وهي قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}، [التوبة: من الآية31]، الآية، وقد سبق ذلك. الثالثة: التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي: لأن العبادة هي التعبد لهم بالطاعة، والتذلل لهم بالركوع والسجود والنذر وما أشبهه، لكن بين ( المراد من عبادتهم بأنها طاعتهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال. الرابعة: تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر وتمثيل أحمد بسفيان: أي: إذا كان أبو بكر وعمر لا يمكن أن يعارض قول النبي ( بقولهما; فما بالك بمن عارض قوله النبي ( بقول من دونهما؟! فهو أشد وأقبح، وكذلك مثل الإمام أحمد بسفيان الثوري وأنكر على من أخذ برأيه وترك ما صح به الإسناد عن رسول الله ( واستدل بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}، الآية، [النور: من الآية63]. ج / 2 ص -165- الخامسة: تحول الأحوال إلى هذه الغاية، حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال، وتسمى الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه، ثم تغيرت الأحوال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين. الخامسة: تحول الأحوال إلى هذه الغاية؛ حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال... إلخ: يقول المؤلف رحمه الله تعالى: تغيرت الأحوال إلى هذه الغاية؛ حتى صار عند الأكثر: عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال...، وهذا لا شك أنه أشد من معارضة قول الرسول ( بقول أبي بكر وعمر، ثم قال: " ثم تغيرت الأحوال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين"; أي: يركع ويسجد له، ويعظم تعظيم الرب، ويوصف بما لا يستحق، وهذا يوجد عند كثير من الشعراء الذين يمدحون الملوك والوزراء وهم لا يستحقون أن يكونوا بمنزلة أبي بكر وعمر. ثم قال: "وعبد بالمعنى الثاني": وهو الطاعة والاتباع " من هو من الجاهلين"; فأطيع الجاهل في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، كما يوجد في بعض النظم والقوانين المخالفة للشريعة الإسلامية; فإن واضعيها جهال لا يعرفون من الشريعة ولا الأديان شيئا، فصاروا يعبدون بهذا المعنى، فيطاعون في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله. وهذا في زمان المؤلف; فكيف بزماننا؟! وقد قال النبي ( فيما رواه البخاري عن أنس بن مالك ( لا يأتي زمان على الناس إلا وما بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم (1)، وقال النبي ( للصحـابة: (1)أخرجه البخاري في (الفتن, باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه/4/315) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. ج / 2 ص -166- ( ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا)(1)، وعصر الصحابة أقرب إلى الهدى من عصر من بعدهم، والناس لا يحسون بالتغير; لأن الأمور تأتي رويدا رويدا، ولو غاب أحد مدة طويلة ثم جاء; لوجد التغير الكثير المزعج - نسأل الله السلامة -، فعلينا الحذر، وأن نعلم أن شرع الله يجب أن يحمى، وأن يصان، ولا يطاع أحد في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله أبدا مهما كانت منزلته، وأن الواجب أن نكون عبادا لله (، تذللا وتعبدا وطاعة. (1)سبق تخريجه (ص 151). المصدر : كتاب القول المفيد على كتاب التوحيد رابط التحميل المباشر http://waqfeya.com/book.php?bid=1979 التعديل الأخير تم بواسطة ام عادل السلفية ; 01-02-2015 الساعة 02:22AM |
#41
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
القول المفيد على كتاب التوحيد باب قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} ج / 2 ص -167- باب قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً}، الآيات، [النساء:60]. هذا الباب له صلة قوية بما قبله; لأن ما قبله فيه حكم من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، وهذا فيه الإنكار على من أراد التحاكم إلى غير الله ورسوله وقد ذكر الشيخ رحمه الله فيه أربع آيات: الآية الأولى ما جعلها ترجمة للباب، وهي قوله تعالى: " ألم تر": الاستفهام يراد به التقرير والتعجب من حالهم، والخطاب للنبي (. قوله: {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}، هذا يعين أن يكون الخطاب للنبي ( هنا، ولم يقل الذين آمنوا; لأنهم لم يؤمنوا، بل يزعمون ذلك وهم كاذبون. والذي أنزل إلى النبي ( الكتاب والحكمة، قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، [النساء: من الآية113]، قال المفسرون: الحكمة السنة، وهم يزعمون أنهم آمنوا بذلك، لكن أفعالهم تكذب أقوالهم؛ ج / 2 ص -168- حيث يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت لا إلى الله ورسوله. قوله: "إلى الطاغوت": صيغة مبالغة من الطغيان; ففيه اعتداء وبغي، والمراد به هنا كل حكم خالف حكم الله ورسوله، وكل حاكم يحكم بغير ما أنزل الله على رسوله، أما الطاغوت بالمعنى الأعم; فقد حده ابن القيم بأنه: "كل ما تجاوز العبد به حده من معبود أو متبوع أو مطاع"، وقد تقدم الكلام عليه في أول كتاب التوحيد1. قوله: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}، أي: أمرهم الله بالكفر بالطاغوت أمرا ليس فيه لبس ولا خفاء، فمن أراد التحاكم إليه; فهذه الإرادة على بصيرة; إذ الأمر قد بين لهم. قوله: "ويريد الشيطان": جنس يشمل شياطين الإنس والجن. قوله: {أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً}، أي: يوقعهم في الضلال البعيد عن الحق، ولكن لا يلزم من ذلك أن ينقلهم إلى الباطل مرة واحدة، ولكن بالتدريج. فقوله: "بعيدا" أي: ليس قريبا، لكن بالتدريج شيئا فشيئا؛ حتى يوقعهم في الضلال البعيد. قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ}، أي: قال لهم الناس: أقبلوا " إلى ما أنزل الله" من القرآن "وإلى الرسول" نفسه في حياته، وسنته بعد وفاته، والمراد هنا الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه في حياته. قوله: {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً}، الرؤية هنا رؤية 1سبق في المجلد الأول. ص ج / 2 ص -169- حال، لا رؤية بصر، بدليل قوله: " تعالوا"; فهي تدل على أنهم ليسوا حاضرين عنده. والمعنى: كأنما تشاهدهم. وقوله: "يصدون عنك صدودا": يعرضون عنك إعراضا. وقوله: "رأيت المنافقين": إظهار في موضع الإضمار لثلاث فوائد: الأولى: أن هؤلاء الذين يزعمون الإيمان كانوا منافقين. الثانية: أن هذا لا يصدر إلا من منافق; لأن المؤمن حقا لا بد أن ينقاد لأمر الله ورسوله بدون صدود. الثالثة: التنبيه; لأن الكلام إذا كان على نسق واحد قد يغفل الإنسان عنه، فإذا تغير، حصل له انتباه. وقوله: "رأيت المنافقين" جواب "إذا"، وكلمة "صد" تستعمل لازمة; أي: يوصف بها الشخص ولا يتعداه إلى غيره، ومصدرها صدود; كما في هذه الآية، ومتعدية; أي: صد غيره، ومصدرها صد; كما في قوله تعالى: {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، [الفتح: من الآية25]. وقوله: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}، [النساء:62]، الاستفهام هنا يراد به التعجب; أي: كيف حالهم إذا أصابتهم مصيبة، والمصيبة هنا تشمل المصيبة الشرعية والدنيوية لعدم تضاد المعنيين. فالدنيوية مثل: الفقر، والجدب، وما أشبه ذلك، فيأتون يشكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: أصابتنا هذه المصائب ونحن ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق. ج / 2 ص -170- .... والشرعية: إذا أظهر الله رسوله على أمرهم; خافوا وقالوا: يا رسول الله! ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق. قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}، الباء: هنا للسببية، و "ما" اسم موصول، و "قدمت" صلته، والعائد محذوف تقديره بما قدمته أيديهم، وفي اللغة العربية يطلق هذا التعبير باليد ويراد به نفس الفاعل; أي: بما قدموه من الأعمال السيئة. وقوله: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}، "إن" بمعنى: "ما"; أي: ما أردنا إلا إحسانا بكوننا نسلم من الفضيحة والعار، وتوفيقا بين المؤمنين والكافرين أو بين طريق الكفر وطريق الإيمان; أي: نمشي معكم ونمشي مع الكفار، وهذه حال المنافقين; فهم قالوا: أردنا أن نحسن المنهج والمسلك مع هؤلاء وهؤلاء ونوفق بين الطرفين. قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ}، [النساء: من الآية63]، توعدهم الله بأنه يعلم ما في قلوبهم من النفاق والمكر والخداع; فالله علام الغيوب، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الِْإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}، [قّ: من الآية16]، بل إن الله أعلم منك بما فيك، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}، [الأنفال: من الآية24]، وهذا من أعظم ما يكون من العلم والخبرة، أن الله يحول بين المرء وقلبه، ولهذا قيل لأعرابي: "بم عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم، وصرف الهمم". فالإنسان يعزم على الشيء ثم لا يدري إلا وعزيمته منتقضة، بدون سبب ظاهر. قوله: "فأعرض عنهم": وهذا من أبلغ ما يكون من الإهانة والاحتقار. ج / 2 ص -171- قوله: "وعظهم": أي: ذكرهم وخوفهم، لكن لا تجعلهم أكبر همك; فلا تخفهم، وقم بما يجب عليك من الموعظة لتقوم عليهم الحجة. قوله: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}، اختلف المفسرون فيها على ثلاثة أقوال: الأول: أن الجار والمجرور في أنفسهم متعلق ببليغ; أي: قل لهم قولا بليغا في أنفسهم; أي: يبلغ في أنفسهم مبلغا مؤثرا. الثاني: أن المعنى: انصحهم سرا في أنفسهم. الثالث: أن المعنى: قل لهم في أنفسهم (أي: في شأنهم وحالهم) قولا بليغا في قلوبهم يؤثر عليها، والصحيح أن الآية تشمل المعاني الثلاثة; لأن اللفظ صالح لها جميعا، ولا منافاة بينها، وهذه قاعدة في التفسير ينبغي التنبه لها، وهي أن المعاني المحتملة للآية والتي قال بها أهل العلم، إذا كانت الآية تحتملها وليس بينها تعارض: فإنه يؤخذ بجميع المعاني. وبلاغة القول تكون في أمور: الأول: هيئة المتكلم بأن يكون إلقاؤه على وجه مؤثر. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب; احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه؛ حتى كأنه منذر جيشا، يقول: صبحكم ومساكم1. الثاني: أن تكون ألفاظه جزلة، مترابطة، محددة الموضوع. 1أخرجه مسلم في (الجمعة, باب تخفيف الصلاة والخطبة/2/592) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. ج / 2 ص -172- قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، [البقرة:11]. الثالث: أن يبلغ من الفصاحة غايتها بحسب الإمكان، بأن يكون كلامه: سليم التركيب، موافقا للغة العربية، مطابقا لمقتضى الحال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن هذه الآيات تنطبق تماما على أهل التحريف والتأويل في صفات الله; لأن هؤلاء يقولون: إنهم يؤمنون بالله ورسوله، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول; يعرضون، ويصدون، ويقولون: نذهب إلى فلان وفلان، وإذا اعترض عليهم; قالوا: نريد الإحسان والتوفيق، وأن نجمع بين دلالة العقل ودلالة السمع". ذكره رحمه الله في "الفتوى الحموية". الآية الثانية قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}: الإفساد في الأرض نوعان: الأول: إفساد حسي مادي، وذلك مثل هدم البيوت وإفساد الطرق وما أشبه ذلك. الثاني: إفساد معنوي، وذلك بالمعاصي; فهي من أكبر الفساد في الأرض، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، [الروم:41]، وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}، [الشورى:30]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ ج / 2 ص -173- وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}، [الأعراف: من الآية56]. وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، الأعراف: من الآية96].وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}، [المائدة: الآية65-66]. قوله: "إنما نحن مصلحون": وهذه دعوى من أبطل الدعاوى، حيث قالوا: ما حالنا وما شأننا إلا الإصلاح. ولهذا قال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}، [البقرة: من الآية12]، "ألا": أداة استفتاح، والجملة مؤكدة بأربع مؤكدات، وهي: "ألا"، و"إن"، وضمير الفصل "هم"، والجملة الاسمية; فالله قابل حصرهم بأعظم منه; فهؤلاء الذين يفسدون في الأرض ويدعون الإصلاح؛ هم المفسدون حقيقة لا غيرهم. ومناسبة الآية للباب ظاهرة، وذلك أن التحاكم إلى غير ما أنزل الله من أكبر أسباب الفساد في الأرض. الآية الثالثة قوله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}؛ يشمل الفساد المادي والمعنوي كما سبق. قوله: "بعد إصلاحها": من قبل المصلحين، ومن ذلك الوقوف ضد دعوة أهل العلم، والوقوف ضد دعوة السلف، وضد من ينادي بأن يكون الحكم بما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقوله: "بعد إصلاحها": من باب تأكيد اللوم والتوبيخ; إذ كيف يفسد الصالح وهذا غاية ما يكون من الوقاحة، والخبث، والشر! فالإفساد ج / 2 ص -174- وقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}، الآية، [المائدة: من الآية50]. بعد الإصلاح أعظم وأشد من أن يمضي الإنسان في فساده قبل الإصلاح، وإن كان المطلوب هو الإصلاح بعد الفساد. ومناسبة الآية للباب: أن التحاكم إلى ما أنزل الله هو الإصلاح، وأن التحاكم إلى غيره هو الإفساد. الآية الرابعة قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}، الاستفهام للتوبيخ، و"حكم": مفعول مقدم ل "يبغون"، وقدم لإفادة الحصر، والمعنى: أفلا يبغون إلا حكم الجاهلية. و"يبغون": يطلبون، والإضافة في قوله: "أفحكم الجاهلية" تحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون المعنى: أفحكم أهل الجاهلية الذين سبقوا الرسالة يبغون، فيريدون أن يعيدوا هذه الأمة إلى طريق الجاهلية التي أحكامها معروفة، ومنها: البحائر، والسوائب، وقتل الأولاد. ثانيها: أن يكون المعنى: أفحكم الجهل الذي لا يبنى على العلم يبغون، سواء كانت عليه الجاهلية السابقة أم لم تكن، وهذا أعم. والإضافة للجاهلية تقتضي التقبيح والتنفير، وكل حكم يخالف حكم الله; فهو جهل وجهالة. فإن كان مع العلم بالشرع; فهو جهالة، وإن كان مع خفاء الشرع; فهو جهل، والجهالة هي العمل بالخطأ سفها لا جهلا، قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ ج / 2 ص -175- عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}، [النساء: من الآية17]، وأما من يعمل السوء بجهل فلا ذنب عليه، لكن عليه أن يتعلم. قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً}، "من": اسم استفهام بمعنى النفي; أي: لا أحد أحسن من الله حكما، وهذا النفي مشرب معنى التحدي; فهو أبلغ من قول: لا أحسن من الله حكما; لأنه متضمن للنفي وزيادة. وقوله: "حكما": تمييز; لأنه بعد اسم التفضيل، وهو مبهم; فبين هذا التمييز المبهم وميزه. والحكم هنا يشمل الكوني والشرعي. فإن قيل: يوجد في الأحكام الكونية ما هو ضار مثل الزلازل والفيضانات وغيرها; فأين الحسن في ذلك؟ أجيب: أن الغايات المحمودة في هذه الأمور تجعلها حسنة، كما يضرب الإنسان ولده تربية له، فيعد هذا الضرب فعلا حسنا; فكذلك الله يصيب بعض الناس بهذه المصائب لتربيتهم، قال تعالى في القرية التي قلب الله أهلها قردة خاسئين: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}، [البقرة:66]، وهذا الحسن في حكم الله ليس بينا لكل أحد، كما قال تعالى: "لقوم يوقنون"، وكلما ازداد العبد يقينا وإيمانا ازداد معرفة بحسن أحكام الله، وكلما نقص إيمانه ويقينه ازداد جهلا بحسن أحكام الله، ولذلك تجد أهل العلم الراسخين فيه إذا جاءت الآيات المتشابهات بينوا وجه ذلك بأكمل بيان ولا يرون في ذلك تناقضا، وعلى هذا; فإنه يتبين قوة الإيمان واليقين بحسب ما حصل للإنسان من معرفته بحسن أحكام الله الكونية والشرعية. ج / 2 ص -176- وعن عبد الله بن عمر; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"1........ وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}؛ خبر لا يدخله الكذب ولا النسخ إطلاقا، ولذلك هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فجمعوا بين المتشابهات والمختلفات من النصوص، وقالوا: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، [آل عمران: من الآية7]، وعرفوا حسن أحكام الله تعالى، وأنها أحسن الأحكام وأنفعها للعباد وأقومها لمصالح الخلق في المعاش والمعاد; فلم يرضوا عنها بديلا. قوله في حديث عبد الله بن عمر: "لا يؤمن أحدكم": أي: إيمانا كاملا، إلا إذا كان لا يهوى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بالكلية; فإنه ينتفي عنه الإيمان بالكلية، لأنه إذا كره ما أنزل الله فقد حبط عمله لكفره، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}، [محمد:9]. قوله: "حتى يكون هواه تبعا لما جئت به": الهوى بالقصر هو: الميل، وبالمد هو: الريح، والمراد الأول. و "حتى": للغاية، والذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن والسنة. وإذا كان هواه تبعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لزم من ذلك أن يوافقه تصديقا بالأخبار، وامتثالا للأوامر، واجتنابا للنواهي. واعلم أن أكثر ما يطلق الهوى على هوى الضلال لا على هوى ـ 1أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (15), والخطيب في "التاريخ" (4/369), والبغوي في "شرح السنة" (1/212), وابن الجوزي في "ذم الهوى" (ص 18). وانظر: كلام ابن رجب على سند الحديث في "جامع العلوم والحكم" حديث رقم (41). ج / 2 ص -177- قال النووي: " حديث صحيح، رويناه في كتاب " الحجة"، بإسناد صحيح"1. وقال الشعبي: " كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود الإيمان، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}، [الجاثية: من الآية23]، وقال تعالى: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}، [محمد: من الآية14]، وغيرها من الآيات الدالة على ذم من اتبع هواه، ولكن إذا كان الهوى تبعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كان محمودا، وهو من كمال الإيمان. وقد سبق بيان أن من اعتقد أن حكم غير الله مساو لحكم الله، أو أحسن، أو أنه يجوز التحاكم إلى غير الله; فهو كافر. وأما من لم يكن هواه تبعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان كارها له; فهو كافر، وإن لم يكن كارها ولكن آثر محبة الدنيا على ذلك; فليس بكافر، لكن يكون ناقص الإيمان. قوله: "قال النووي: حديث صحيح": صححه النووي وغيره، وضعفه جماعة من أهل العلم، منهم ابن رجب في كتابه "جامع العلوم والحكم"، ولكن معناه صحيح. قوله في أثر الشعبي: "وقال الشعبي": أي: في تفسير الآية. قوله: "رجل من المنافقين": هو من يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وسمي منافقا من النافقاء، وهي جحر اليربوع، واليربوع له جحر له باب وله نافقاء - أي يحفر في الأرض خندقا حتى يصل منتهى جحره ثم يحفر إلى أعلى، فإذا بقي شيء قليل بحيث يتمكن من دفعه برأسه توقف -، فإذا حجر عليه من الباب خرج من النافقاء. قوله: "ورجل من اليهود": اليهود هم المنتسبون إلى دين موسى 1"الأربعون النووية" (حديث رقم 41). ج / 2 ص -178- خصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد; عرف أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود; لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، فاتفقا أن يأتيا كاهنا في جهينة، فيتحاكما إليه، فنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ}، الآية، [النساء: من الآية60]"1. عليه السلام، وسموا بذلك إما من قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}، أي: رجعنا، أو نسبة إلى أبيهم يهوذا، ولكن بعد التعريب صار بالدال. قوله: "إلى محمد": أي: النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكره بوصف الرسالة; لأنهم لا يؤمنون برسالته، ويزعمون أن النبي الموعود به سيأتي. قوله: "عرف أنه لا يأخذ الرشوة": تعليل لطلب التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والرشوة: مثلثة الراء; فيجوز الرِّشوة، والرَّشوة، والرُّشوة. والرشوة هي: المال المدفوع للتوصل إلى شيء. قال أهل العلم: "لا تكون محرمة إلا إذا أراد الإنسان أن يتوصل بها إلى باطل أو دفع حق، أما من بذلها ليتوصل بها إلى حق له منع منه أو ليدفع بها باطلا عن نفسه; فليست حراما على الباذل، أما على آخذها; فحرام". قوله: "فاتفقا أن يأتيا كاهنا في جهينة": كأنه صار بينهما خلاف، وأبى المنافق أن يتحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والكاهن: من يدعي علم الغيب في المستقبل، وكان للعرب كهان تنزل عليهم الشياطين بخبر السماء، فيقولون: سيحدث كذا وكذا، فربما أصابوا مرة من المرات، وربما أخطئوا، فإذا أصابوا ادعوا علم الغيب، 1أخرجه ابن جرير (5/97) عن الشعبي مرسلا. ج / 2 ص -179- وقيل: " نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له أحدهما القصة، فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم أكذلك؟ قال: نعم. فضربه بالسيف فقتله"1. فكان العرب يتحاكمون إليهم; فنزل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ}، الآية. قوله: "وقيل": ذكر هذه القصة بصيغة التمريض، لكن ذكر في "تيسير العزيز الحميد" أنها رويت من طرق متعددة، وأنها مشهورة متداولة بين السلف والخلف تداولا يغني عن الإسناد، ولها طرق كثيرة ولا يضرها ضعف إسنادها. اه. قوله: "رجلين": هما مبهمان; فيحتمل أن يكونا من المسلمين المؤمنين، ويحتمل أن يكونا من المنافقين، ويحتمل غير ذلك. قوله: "إلى كعب بن الأشرف": وهو رجل من زعماء بني النضير. قوله: "أكذلك": خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: أكذلك الأمر. قوله: "فضربه بالسيف": الضارب عمر. وهذه القصة والتي قبلها تدل على أن من لم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كافر يجب قتله، ولهذا قتله عمر رضي الله عنه. 1علقه الواحدي في "أسباب النزول" (ص107, 108), والبغوي في "تفسيره" (1/552), وقد أشار الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى ضعفه بقوله: "وقيل...". وانظر: "تيسير العزيز" (ص573). ج / 2 ص -180- فيه مسائل: الأولى: تفسير آية النساء وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت. الثانية: تفسير آية البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}، [البقرة: من الآية11]، الآية. فإن قيل: كيف يقتله عمر رضي الله عنه والأمر إلى الإمام وهو النبي صلى الله عليه وسلم؟ أجيب: أن الظاهر أن عمر لم يملك نفسه لقوة غيرته فقتله; لأنه عرف أن هذا ردة عن الإسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "من بدل دينه فاقتلوه"1. فيه مسائل: الأولى: "تفسير آية النساء وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت": وهي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}، [النساء: من الآية60]. وقوله: "وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت": أي: أن الطاغوت مشتق من الطغيان، وإذا كان كذلك; فيشمل كل ما تجاوز به العبد حده من متبوع أو معبود أو مطاع; فالأصنام والأمراء والحكام الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال طواغيت. الثانية: تفسير آية البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا 1أخرجه البخاري في (الجهاد, باب لا يعذب بعذاب الله/4/363) من حديث ابن عباس. ج / 2 ص -181- الثالثة: تفسير آية الأعراف: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}، [الأعراف: من الآية56]. الرابعة: تفسير {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}، [المائدة: من الآية50]. الخامسة: ما قال الشعبي في سبب نزول الآية الأولى. السادسة: تفسير الإيمان الصادق والكاذب. السابعة: قصة عمر مع المنافق. إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، [البقرة: من الآية11]: ففيها دليل على أن النفاق فساد في الأرض; لأنها في سياق المنافقين، والفساد يشمل جميع المعاصي. الثالثة: تفسير آية الأعراف: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}، وقد سبق. الرابعة: تفسير {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}، وقد سبق ذلك، وقد بينا أن المراد بحكم الجاهلية كل ما خالف الشرع، وأضيف للجاهلية للتنفير منه وبيان قبحه، وأنه مبني على الجهل والضلال. الخامسة: ما قال الشعبي في سبب نزول الآية الأولى: وقد سبق. السادسة: تفسير الإيمان الصادق والكاذب: فالإيمان الصادق يستلزم الإذعان التام والقبول والتسليم لحكم الله ورسوله، والإيمان الكاذب بخلاف ذلك. السابعة: قصة عمر مع المنافق: حيث جعل عدوله عن الترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم مبيحا لقتله لردته، وأقدم على قتله لقوة غيرته فلم يملك نفسه. ج / 2 ص -182- الثامنة: كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. الثامنة: كون الأيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا واضح من الحديث. المصدر : كتاب القول المفيد على كتاب التوحيد رابط التحميل المباشر http://waqfeya.com/book.php?bid=1979 |
#42
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
القول المفيد على كتاب التوحيد باب: من جحد شيئا من الأسماء والصفات ج / 2 ص -183- باب: من جحد شيئا من الأسماء والصفات: الجحد: الإنكار، والإنكار نوعان: الأول: إنكار تكذيب، وهذا كفر بلا شك، فلو أن أحدا أنكر اسما من أسماء الله أو صفة من صفاته الثابتة في الكتاب والسنة، مثل أن يقول: ليس لله يد، أو أن الله لم يستو على عرشه، أو ليس له عين، فهو كافر بإجماع المسلمين; لأن تكذيب خبر الله ورسوله كفر مخرج عن الملة بالإجماع. الثاني: إنكار تأويل، وهو أن لا ينكرها، ولكن يتأولها إلى معنى يخالف ظاهرها، وهذا نوعان: 1- أن يكون للتأويل مسوغ في اللغة العربية; فهذا لا يوجب الكفر. 2- أن لا يكون له مسوغ في اللغة العربية; فهذا حكمه الكفر؛ لأنه إذا لم يكن له مسوغ صار في الحقيقة تكذيبا، مثل أن يقول: المراد بقوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}، [القمر: من الآية14]، تجري بأراضينا; فهذا كافر لأنه نفاها نفيا مطلقا، فهو مكذب. ولو قال في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}، [المائدة: من الآية64]، المراد بيديه: السماوات والأرض; فهو كفر أيضا لأنه لا مسوغ له في اللغة العربية، ولا هو مقتضى الحقيقة الشرعية; فهو منكر ومكذب، لكن إن ج / 2 ص -184- قال: المراد باليد النعمة أو القوة; فلا يكفر لأن اليد في اللغة تطلق بمعنى النعمة، قال الشاعر: وكم لظلام الليل عندك من يد تحدث أن المانوية تكذب فقوله: "من يد"; أي: من نعمة; لأن المانوية يقولون: إن الظلمة لا تخلق الخير، وإنما تخلق الشر. قوله: "من الأسماء": جمع اسم، واختلف في اشتقاقه: فقيل: من السمو، وهو الارتفاع، ووجه هذا أن المسمى يرتفع باسمه ويتبين ويظهر. وقيل: من السمة وهي العلامة، ووجهه: أنه علامة على مسماه. والراجح أنه مشتق من كليهما. والمراد بالأسماء هنا: أسماء الله عز وجل، وبالصفات صفات الله عز وجل، والفرق بين الاسم والصفة أن الاسم ما تسمى به الله، والصفة ما اتصف به. البحث في أسماء الله: المبحث الأول1: أن أسماء الله أعلام وأوصاف، وليست أعلاما محضة; فهي من حيث دلالتها على ذات الله تعالى أعلام، ومن حيث دلالتها على الصفة التي يتضمنها هذا الاسم أوصاف، بخلاف أسمائنا; فالإنسان يسمي ابنه محمدا وعليا دون أن يلحظ معنى الصفة، فقد يكون اسمه عليا وهو من أوضع الناس، أو عبد الله وهو من أكفر الناس، بخلاف أسماء الله; لأنها متضمنة للمعاني، فالله هو العلي لعلو ذاته وصفاته، والعزيز يدل على العزة، والحكيم يدل على الحكمة، وهكذا. 1انظر: (باب احترام أسماء الله تعالى). ج / 2 ص -185- ودلالة الاسم على الصفة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: دلالة مطابقة، وهي دلالته على جميع معناه المحيط به. الثاني: دلالة تضمن، وهي دلالته على جزء معناه. الثالث: دلالة التزام، وهي دلالته على أمر خارج لازم. مثال ذلك: الخالق يدل على ذات الله وحده، وعلى صفة الخلق وحدها دلالة تضمن، ويدل على ذات الله وعلى صفة الخلق فيه دلالة مطابقة، ويدل على العلم والقدرة دلالة التزام. كما قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}، [الطلاق:12]; فعلمنا القدرة من كونه خلق السماوات والأرض، وعلمنا العلم من ذلك أيضا; لأن الخلق لا بد فيه من علم، فمن لا يعلم لا يخلق، وكيف يخلق شيئا لا يعلمه؟! المبحث الثاني: أن أسماء الله مترادفة متباينة. المترادف: ما اختلف لفظه واتفق معناه; والمتباين: ما اختلف لفظه ومعناه; فأسماء الله مترادفة باعتبار دلالتها على ذات الله عز وجل لأنها تدل على مسمى واحد، فالسميع، البصير، العزيز، الحكيم; كلها تدل على شيء واحد هو الله، ومتباينة باعتبار معانيها; لأن معنى الحكيم غير معنى السميع، وغير معنى البصير، وهكذا. المبحث الثالث: أسماء الله ليست محصورة بعدد معين، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ج / 2 ص -186- ـــ في حديث ابن مسعود الحديث الصحيح المشهور: "اللهم! إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك... - إلى أن قال - أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك"1، وما استأثر الله به في علم الغيب لا يمكن أن يعلم به، وما ليس بمعلوم فليس بمحصور. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة"2، فليس معناه أنه ليس له إلا هذه الأسماء، لكن معناه أن من أحصى من أسمائه هذه التسعة والتسعين فإنه يدخل الجنة، فقوله: "من أحصاها" تكميل للجملة الأولى، وليست استئنافية منفصلة، ونظير هذا قول القائل: عندي مئة فرس أعددتها للجهاد في سبيل الله; فليس معناه أنه ليس عنده إلا هذه المئة، بل معناه أن هذه المئة معدة لهذا الشيء. المبحث الرابع: الاسم من أسماء الله يدل على الذات وعلى المعنى كما سبق; فيجب علينا أن نؤمن به اسما من الأسماء، ونؤمن بما تضمنه من الصفة، ونؤمن بما تدل عليه هذه الصفة من الأثر والحكم؛ إن كان الاسم متعديا. 1أخرجه: أحمد (1/391, 452), وابن حبان (2372), والطبراني في "الكبير" (10352), والحاكم (1/ 509)- وقال: "صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه; فإنه مختلف في سماعه من أبيه". وأخرجه أيضا: البيهقي في "الأسماء" (ص 6). والحديث صححه ابن القيم; كما في "بدائع الفوائد" (1/ 166), وحسنه الحافظ في "تخريج الأذكار"; كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 13). 2أخرجه: البخاري في (التوحيد, باب إن لله مائة اسم إلا واحدا, 4/ 482), ومسلم في (الذكر والدعاء, باب في أسماء الله تعالى, 4/ 2063); من حديث أبي هريرة. ج / 2 ص -187- فمثلا: السميع نؤمن بأن من أسمائه تعالى السميع، وأنه دال على صفة السمع، وأن لهذا السمع حكما وأثرا وهو أنه يسمع به; كما قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}، [المجادلة:1]، أما إن كان الاسم غير متعد; كالعظيم، والحي، والجليل; فنثبت الاسم والصفة، ولا حكم له يتعدى إليه. المبحث الخامس: هل أسماء الله تعالى غيره، أو أسماء الله هي الله؟ إن أريد بالاسم اللفظ الدال على المسمى; فهي غير الله عز وجل وإن أريد بالاسم مدلول ذلك اللفظ; فهي المسمى. فمثلا: الذي خلق السماوات والأرض هو الله; فالاسم هنا هو المسمى، فليست "اللام- والهاء" هي التي خلقت السماوات والأرض، وإذا قيل: اكتب باسم الله. فكتبت بسم الله; فالمراد به الاسم دون المسمى، وإذا قيل: اضرب زيدا. فضربت زيدا المكتوب في الورقة لم تكن ممتثلا; لأن المقصود المسمى، وإذا قيل: اكتب زيد قائم؛ فالمراد الاسم الذي هو غير المسمى. البحث في صفات الله: المبحث الأول: تنقسم صفات الله إلى ثلاثة أقسام: الأول: ذاتية ويقال معنوية. الثاني: فعلية. الثالث: خبرية. ج / 2 ص -188- فالصفات الذاتية: هي الملازمة لذات الله، والتي لم يزل ولا يزال متصفا بها، مثل: السمع والبصر، وهي معنوية; لأن هذه الصفات معاني. والفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته؛ إن شاء فعلها وإن لم يشأ لم يفعلها، مثل: النزول إلى السماء الدنيا، والاستواء على العرش، والكلام من حيث آحاده، والخلق من حيث آحاده، لا من حيث الأصل; فأصل الكلام صفة ذاتية، وكذلك الخلق. والخبرية: هي أبعاض وأجزاء بالنسبة لنا، أما بالنسبة لله; فلا يقال هكذا، بل يقال: صفات خبرية ثبت بها الخبر من الكتاب والسنة، وهي ليست معنى ولا فعلا، مثل: الوجه، والعين، والساق، واليد. المبحث الثاني: الصفات أوسع من الأسماء; لأن كل اسم متضمن لصفة، وليس كل صفة تكون اسما، وهناك صفات كثيرة تطلق على الله وليست من أسمائه; فيوصف الله بالكلام والإرادة، ولا يسمى بالمتكلم أو المريد. المبحث الثالث: أن كل ما وصف الله به نفسه; فهو حق على حقيقته، لكن ينزه عن التمثيل والتكييف، أما التمثيل; فلقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، [الشورى: من الآية11]، وقوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، [النحل:74]. والتعبير بنفي التمثيل أحسن من التعبير بنفي التشبيه; لوجوه ثلاثة: أحدها: أن التمثيل هو الذي جاء به القرآن وهو منفي مطلقا، بخلاف التشبيه; فلم يأت القرآن بنفيه. ج / 2 ص -189- الثاني: أن نفي التشبيه على الإطلاق لا يصح ; لأن كل موجودين فلا بد أن يكون بينهما قدر مشترك يشتبهان فيه ويتميز كل واحد بما يختص به; ف: "الحياة" مثلا وصف ثابت في الخالق والمخلوق، فبينهما قدر مشترك، ولكن حياة الخالق تليق به وحياة المخلوق تليق به. الثالث: أن الناس اختلفوا في مسمى التشبيه، حتى جعل بعضهم إثبات الصفات التي أثبتها الله لنفسه تشبيها، فإذا قلنا من غير تشبيه; فهم هذا البعض من هذا القول نفي الصفات التي أثبتها الله لنفسه. وأما التكييف; فلا يجوز أن نكيف صفات الله، فمن كيف صفة من الصفات; فهو كاذب عاص، كاذب لأنه قال بما لا علم عنده فيه، عاص لأنه واقع فيما نهى الله عنه وحرمه في قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، [الإسراء: من الآية36]، وقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}، [البقرة: من الآية169]، بعد قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، الآية، [الأعراف: من الآية33]، ولأنه لا يمكن إدراك الكيفية; لقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}، [طه:110]، وقوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}، [الأنعام: من الآية103]. وسواء كان التكييف باللسان تعبيرا أو بالجنان تقديرا، أو بالبنان تحريرا، ولهذا قال مالك رحمه الله حين سئل عن كيفية الاستواء: "الكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة"، وليس معنى هذا أن لا نعتقد أن لها كيفية، بل لها كيفية، ولكنها ليست معلومة لنا; لأن ما ليس له كيفية ليس بموجود; فالاستواء، والنزول، واليد، والوجه، والعين، لها كيفية، لكننا لا نعلمها; ففرق بين أن نثبت كيفية معينة ولو تقديرا، وبين أن نؤمن بأن لها كيفية غير معلومة، وهذا هو الواجب; فنقول: لها كيفية، لكن غير معلومة. ج / 2 ص -190- وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}، الآية، [الرعد: من الآية30]. فإن قيل: كيف يتصور أن نعتقد للشيء كيفية ونحن لا نعلمها؟ أجيب: إنه متصور; فالواحد منا يعتقد أن لهذا القصر كيفية من داخله، ولكن لا يعلم هذه الكيفية إلا إذا شاهدها، أو شاهد نظيرها، أو أخبره شخص صادق عنها. قوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}، الآية. "وهم": أي: كفار قريش. {يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}، المراد: أنهم يكفرون بهذا الاسم لا بالمسمى، فهم يقرون به، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه}، [لقمان: من الآية25]، وفي حديث سهيل بن عمرو: "لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب الصلح في غزوة الحديبية قال للكاتب: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال سهيل: أما الرحمن; فوالله ما أدري ما هي ولكن اكتب باسمك اللهم"1، وهذا من الأمثلة التي يراد بها الاسم دون المسمى. وقد قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، [الإسراء: من الآية110]; أي: بأي اسم من أسمائه تدعونه; فإن له الأسماء الحسنى فكل أسمائه حسنى; فادعوا بما شئتم من الأسماء، ويراد بهذه الآية الإنكار على قريش. وفي الآية دليل على أن من أنكر اسما من أسمائه تعالى فإنه يكفر; 1أخرجه البخاري في (الشروط, باب الشروط في الجهاد/2/279،283). ج / 2 ص -191- لقوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}، ولأنه مكذب لله ولرسوله، وهذا كفر، وهذا وجه استشهاد المؤلف بهذه الآية. قوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، [الرعد: من الآية30]، خبر "لا" النافية للجنس محذوف، والتقدير: لا إله حق إلا هو، وأما الإله الباطل; فكثير، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ}، [لقمان: من الآية30]. قوله: "عليه توكلت": أي: عليه وحده; لأن تقديم المعمول يدل على الحصر، فإذا قلت مثلا: "ضربت زيدا"; فإنه يدل على أنك ضربته، ولكن لا يدل على أنك لم تضرب غيره، وإذا قلت: "زيدا ضربت" دلت على أنك ضربت زيدا ولم تضرب غيره، وسبق معنى التوكل وأحكامه. قوله: "وإليه متاب": أي: إلى الله، و "متاب" أصلها متابي، فحذفت الياء تخفيفا، والمتاب بمعنى التوبة; فهو مصدر ميمي; أي: وإليه توبتي. والتوبة: هي الرجوع إلى الله تعالى من المعصية إلى الطاعة، ولها شروط خمسة: 1- الإخلاص لله تعالى بأن لا يحمل الإنسان على التوبة مراعاة أحد أو محاباته أو شيء من الدنيا. 2- أن تكون في وقت قبول التوبة، وذلك قبل طلوع الشمس من مغربها، وقبل حضور الموت. 3- الندم على ما مضى من فعله، وذلك بأن يشعر بالتحسر على ما سبق ويتمنى أنه لم يكن. ج / 2 ص -192- وفي " صحيح البخاري": قال علي: "حدثوا الناس بما يعرفون،...... ـ 4- الإقلاع عن الذنب، وعلى هذا، فإذا كانت التوبة من مظالم الخلق; فلا بد من رد المظالم إلى أهلها أو استحلالهم منها. 5- العزم على عدم العودة. والتوبة التي لا تكون إلا لله هي توبة العبادة; كما في الآية السابقة، وأما التوبة التي بمعنى الرجوع; فإنها تكون له ولغيره، ومنه قول عائشة حين جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوجد نمرقة فيها صور، فوقف بالباب ولم يدخل، وقالت: "أتوب إلى الله ورسوله، ماذا أذنبت؟"1، فليس المراد بالتوبة هنا توبة العبادة; لأن توبة العبادة لا تكون للرسول صلى الله عليه وسلم ولا لغيره من الخلق بل لله وحده، ولكن هذه توبة رجوع، ومن ذلك أيضا حين يضرب الإنسان ابنه لسوء أدبه; يقول الابن: أتوب. قوله في أثر علي رضي الله عنه "حدثوا الناس": أي: كلموهم بالمواعظ وغير المواعظ. قوله: "بما يعرفون": أي: بما يمكن أن يعرفوه وتبلغه عقولهم؛ حتى لا يفتنوا، ولهذا جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إنك لن تحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"2، ولهذا كان من الحكمة في الدعوة ألا تباغت الناس بما لا يمكنهم إدراكه، بل تدعوهم رويدا رويدا، حتى تستقر عقولهم، وليس معنى "بما يعرفون" أي: بما يعرفونه من قبل; لأن الذي يعرفونه من قبل يكون التحديث به من تحصيل الحاصل. 1أخرجه البخاري في (النكاح, باب هل يرجع إذا رأى منكرا في الدعوة رقم5181). 2أخرجه مسلم في مقدمة "صحيحه" (1/11). ج / 2 ص -193- أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!"1. قوله: "أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!"2، الاستفهام للإنكار; أي: أتريدون إذا حدثتم الناس بما لا يعرفون أن يكذب الله ورسوله، لأنك إذا قلت: قال الله وقال رسوله كذا وكذا، قالوا: هذا كذب؛ إذا كانت عقولهم لا تبلغه، وهم لا يكذبون الله ورسوله، ولكن يكذبونك بحديث تنسبه إلى الله ورسوله; فيكونون مكذبين لله ورسوله، لا مباشرة ولكن بواسطة الناقل. فإن قيل: هل ندع الحديث بما لا تبلغه عقول الناس، وإن كانوا محتاجين لذلك؟ أجيب: لا ندعه، ولكن نحدثهم بطريق تبلغه عقولهم، وذلك بأن ننقلهم رويدا رويدا؛ حتى يتقبلوا هذا الحديث ويطمئنوا إليه، ولا ندع ما لا تبلغه عقولهم ونقول: هذا شيء مستنكر لا نتكلم به. ومثل ذلك: العمل بالسنة التي لا يعتادها الناس، ويستنكرونها; فإننا نعمل بها، ولكن بعد أن نخبرهم بها; حتى تقبلها نفوسهم، ويطمئنوا إليها. ويستفاد من هذا الأثر أهمية الحكمة في الدعوة إلى الله عز وجل وأنه يجب على الداعية أن ينظر في عقول المدعوين وينزل كل إنسان منزلته. مناسبة هذا الأثر لباب الصفات:مناسبته ظاهرة; لأن بعض الصفات لا تحتملها أفهام العامة، فيمكن إذا حدثتهم بها كان لذلك أثر سيئ عليهم، كحديث النزول إلى السماء الدنيا3، 1أخرجه البخاري في (العلم, باب من خص بالعلم قوما دون قوم/1/62). 2 البخاري: العلم (127). 3أخرجه البخاري في (التهجد, باب الدعاء والصلاة من آخر الليل/1/356), ومسلم في (صلاة المسافرين, باب الترغيب في الدعاء/1/521); من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو عند مسلم أيضا من حديث أبي سعيد الخدري في الموضع السابق (1/522). ج / 2 ص -194- وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس: "أنه رأى رجلا انتفض لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكارا لذلك، فقال: ما فرق هؤلاء؟........ مع ثبوت العلو، فلو حدثت العامي بأنه تعالى نفسه ينزل إلى السماء الدنيا مع علوه على عرشه، فقد يفهم أنه إذا نزل; صارت السماوات فوقه وصار العرش خاليا منه، وحينئذ لا بد في هذا من حديث تبلغه عقولهم، فتبين لهم أن الله عز وجل ينزل نزولا لا يماثل نزول المخلوقين مع علوه على عرشه، وأنه لكمال فضله ورحمته يقول: "من يدعوني فأستجيب له..." الحديث. والعامي يكفيه أن يتصور مطلق المعنى، وأن المراد بذلك بيان فضل الله عز وجل في هذه الساعة من الليل. قوله في أثر ابن عباس: "انتفض": أي: اهتز جسمه، والرجل مبهم، والصفة التي حدث بها لم تبين، وبيان ذلك ليس مهما، وهذا الرجل انتفض استنكارا لهذه الصفة لا تعظيما لله، وهذا أمر عظيم صعب; لأن الواجب على المرء إذا صح عنده شيء عن الله ورسوله أن يقر به، ويصدق؛ ليكون طريقه طريق الراسخين في العلم حتى وإن لم يسمعه من قبل، أو يتصوره. قوله: "ما فرق": فيها: ثلاث روايات: 1- "فَرَقُ"; بفتح الراء، وضم القاف. 2- "فَرَّقَ": بفتح الراء مشددة، وفتح القاف. 3- "فَرَقَ"; بفتح الراء مخففة، وفتح القاف. ج / 2 ص -195- يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه؟!" انتهى1. فعلى رواية "فرق" تكون "ما" استفهامية مبتدأ، و"فرق": خبر المبتدأ; أي: ما خوف هؤلاء من إثبات الصفة التي تليت عليهم وبلغتهم، لماذا لا يثبتونها لله عز وجل كما أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وهذا ينصب تماما على أهل التعطيل والتحريف الذين ينكرون الصفات فما الذي يخوفهم من إثباتها والله تعالى قد أثبتها لنفسه؟ وعلى راوية "فرق" أو "فرق" تكون فعلا ماضيا بمعنى ما فرقهم; كقوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقنَاهُ}، [الإسراء: من الآية106]; أي: فرقناه. و"ما" يحتمل أن تكون نافية، والمعنى: ما فرق هؤلاء بين الحق والباطل، فجعلوا هذا من المتشابه وأنكروه ولم يحملوه على المحكم، ويحتمل أن تكون استفهامية والمعنى: أي شيء فرقهم فجعلهم يؤمنون بالمحكم ويهلكون عند المتشابه؟ قوله: "يجدون رقة عند محكمه": الرقة: اللين والقبول، و "محكمه"; أي: محكم القرآن. قوله: "ويهلكون عند متشابهه": أي: متشابه القرآن. والمحكم الذي اتضح معناه وتبين، والمتشابه هو الذي يخفى معناه، فلا يعلمه الناس، وهذا إذا جمع بين المحكم والمتشابه، وأما إذا ذكر المحكم مفردا دون المتشابه; فمعناه المتقن الذي ليس فيه خلل: لا كذب في أخباره، ولا جور في أحكامه، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً}، [الأنعام: من الآية115]، وقد ذكر الله الإحكام في القرآن دون المتشابه، وذلك مثل قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}، [يونس:1]، وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُه}، [هود: من الآية1]. وإذا ذكر المتشابه دون المحكم؛ صار المعنى أنه يشبه 1أخرجه عبد الرزاق (20895), وابن أبي عاصم في "السنة" (485). ج / 2 ص -196- بعضه بعضا في جودته وكماله، ويصدق بعضه بعضا ولا يتناقض، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ}، [الزمر: من الآية23]، والتشابه نوعان: تشابه نسبي، وتشابه مطلق. والفرق بينهما: أن المطلق يخفى على كل أحد، والنسبي يخفى على أحد دون أحد، وبناء على هذا التقسيم ينبني الوقف في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، [آل عمران: من الآية7]; فعلى الوقف على "إلا الله" يكون المراد بالمتشابه المتشابه المطلق، وعلى الوصل {إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، يكون المراد بالمتشابه المتشابه النسبي. وللسلف في ذلك قولان: القول الأول: الوقف على "إلا الله"، وعليه أكثر السلف، وعلى هذا; فالمراد بالمتشابه المتشابه المطلق الذي لا يعلمه إلا الله، وذلك مثل كيفية وحقائق صفات الله، وحقائق ما أخبر الله به من نعيم الجنة وعذاب النار، قال الله تعالى في نعيم الجنة: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}، [السجدة: من الآية17]; أي: لا تعلم حقائق ذلك، ولذلك قال ابن عباس: "ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء"1. والقول الثاني: الوصل; فيقرأ: {إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، وعلى هذا; فالمراد بالمتشابه المتشابه النسبي، وهذا يعلمه الراسخون في العلم ويكون عند غيرهم متشابها، ولهذا يروى عن ابن عباس; أنه قال: "أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله"2، ولم يقل هذا مدحا لنفسه أو 1أخرجه ابن حزم في "الفصل" (2/108)- وقال: "هذا سند غاية في الصحة"-. وقال المنذري في "الترغيب" (4/560): "رواه البيهقي موقوفا بإسناد جيد". 2انظر قوله في: "تفسير الطبري" (3/ 183). ج / 2 ص -197- ثناء عليها، ولكن ليعلم الناس أنه ليس في كتاب الله شيء لا يعرف معناه; فالقرآن معانيه كلها بينة، لكن بعض القرآن يشتبه على ناس دون آخرين، حتى العلماء الراسخون في العلم يختلفون في معنى القرآن، وهذا يدل على أنه خفي علىبعضهم، والصواب بلا شك مع أحدهم؛ إذا كان اختلافهم اختلاف تضاد لا تنوع، أما إذا كانت الآية تحتمل المعنيين جميعا، بلا منافاة ولا مرجح لأحدهما; فإنها تحمل عليهما جميعا. وبعض أهل العلم يظنون أن في القرآن ما لا يمكن الوصول إلى معناه; فيكون من المتشابه المطلق، ويحملون آيات الصفات على ذلك، وهذا من الخطأ العظيم; إذ ليس من المعقول أن يقول تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}، [صّ: من الآية29]، ثم تستثنى آيات الصفات وهي أعظم وأشرف موضوعا وأكثر من آيات الأحكام، ولو قلنا بهذا القول; لكان مقتضاه أن أشرف ما في القرآن موضوعا يكون خفيا، ويكون معنى قوله تعالى: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}، أي: آيات الأحكام فقط، وهذا غير معقول، بل جميع القرآن يفهم معناه; إذ لا يمكن أن تكون هذه الأمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخرها لا تفهم معنى القرآن، وعلى رأيهم يكون الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وجميع الصحابة يقرءون آيات الصفات وهم لا يفهمون معناها، بل هي عندهم بمنزلة الحروف الهجائية أ، ب، ت... والصواب أنه ليس في القرآن شيء متشابه على جميع الناس من حيث المعنى، ولكن الخطأ في الفهم. فقد يقصر الفهم عن إدراك المعنى أو يفهمه على معنى خطأ، وأما بالنسبة للحقائق، فما أخبر الله به من أمر الغيب، فمتشابه على جميع الناس. ج / 2 ص -198- ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن; أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَن}، [الرعد: من الآية30]،1. قوله فيه مسائل: قوله: "ولما سمعت قريش رسول الله يذكر الرحمن": أصل ذلك أن سهيل بن عمرو أحد الذين أرسلتهم قريش لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال: "أما الرحمن; فلا والله ما أدري ما هي، وقالوا: إننا لا نعرف رحمانا إلا رحمن اليمامة. فأنكروا الاسم دون المسمى; فأنزل الله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَن}، أي: بهذا الاسم من أسماء الله. وفي الآية دليل على أن من أنكر اسما من أسماء الله الثابتة في الكتاب أو السنة; فهو كافر لقوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَن}. وقوله: "ولما سمعت قريش": الظاهر - والله أعلم - أنه من باب العام الذي أريد به الخاص، وليس كل قريش تنكر ذلك، بل طائفة منهم، ولكن إذا أقرت الأمة الطائفة على ذلك ولم تنكر; صح أن ينسب لهم جميعا، بل إن الله نسب إلى اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما فعله أسلافهم في زمن موسى عليه السلام، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}، [البقرة: من الآية63]، وهذا لم يكن في عهد المخاطبين. فيه مسائل: 1أخرجه ابن جرير (13/101) عن مجاهد مرسلا. ج / 2 ص -199- الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات. الثانية: تفسير آية الرعد. الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع. الرابعة: ذكر العلة: أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله، الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات: عدم بمعنى انتفاء; أي: انتفاء الإيمان بسبب جحد شيء من الأسماء والصفات، وسبق التفصيل في ذلك. الثانية: تفسير آية الرعد: وهي قوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَن}، وسبق تفسيرها. الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع: وهذا ليس على إطلاقه، وقد سبق التفصيل فيه عند شرح الأثر. الرابعة: ذكر العلة أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله ولو لم يتعمد المنكر: وهي أن الذي لا يبلغ عقله ما حدث به يفضي به التحديث إلى تكذيب الله ورسوله، فيكذب ويقول: هذا غير ممكن، وهذا يوجد من بعض الناس في أشياء كثيرة مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون يوم القيامة; كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الأرض يوم القيامة تكون خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته"1، وما أشبه ذلك، وكما أن الصراط أحد من السيف وأدق من الشعرة وغير هذه الأمور، لو حدثنا بها إنسانا عاميا لأوشك أن ينكر، لكن يجب أن تبين له بالتدريج؛ حتى يتمكن من عقله، مثل ما نعلم الصبي شيئا فشيئا. 1أخرجه البخاري في (الرقاق, باب يقبض الله الأرض يوم القيامة/4/195), ومسلم في المنافقين, باب نزل أهل الجنة/4/2150). ج / 2 ص -200- ولو لم يتعمد المنكر. الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئا من ذلك وأنه أهلكه: وقوله: "ولو لم يتعمد المنكر": أي: ولو لم يقصد المنكر تكذيب الله ورسوله، ولكن كذب نسبة هذا الشيء إلى الله ورسوله، وهذا يعود بالتالي إلى رد خبر الله ورسوله. الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئا من ذلك، وأنه أهلكه. وذلك قوله: "ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة- أي لينا- عند محكمه فيقبلونه، ويهلكون عند متشابهه"؛ فينكرونه! المصدر : كتاب القول المفيد على كتاب التوحيد رابط التحميل المباشر http://waqfeya.com/book.php?bid=1979 |
#43
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
القول المفيد على كتاب التوحيد باب: قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} ج / 2 ص -201- باب: قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}، الآية، [النحل: من الآية83]. قوله تعالى: " يعرفون ": أي: يدركون بحواسهم أن النعمة من عند الله. قوله: " نعمة الله ": واحدة والمراد بها الجمع; فهي ليست واحدة، بل هي لا تحصى، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}، [إبراهيم: من الآية34]، والقاعدة الأصولية: أن المفرد المضاف يعم، والنعمة تكون بجلب المحبوبات، وتطلق أحيانا على رفع المكروهات. قوله: " ثم ينكرونها ": أي: ينكرون إضافتها إلى الله لكونهم يضيفونها إلى السبب متناسين المسبِّب الذي هو الله - سبحانه -، وليس المعنى أنهم ينكرون هذه النعمة، مثل أن يقولوا: ما جاءنا مطر أو ولد أو صحة، ولكن ينكرونها بإضافتها إلى غير الله، متناسين الذي خلق السبب فوُجِد به المسبَّب. قوله: "الآية": أي: إلى آخر الآية، وهي منصوبة بفعل محذوف تقديره أكمل الآية. قوله: ( وأكثرهم الكافرون): أي أكثر العارفين بأن النعمة من الله الكافرون، أي: الجاحدون كونها من الله أو الكافرون بالله عز وجل. وقوله: ( أكثرهم)، بعد قوله (يعرفون)؛ الجملة الأولى أضافها إلى ج / 2 ص -202- قال مجاهد ما معناه: "هو قول الرجل: هذا مالي، ورثته عن آبائي" الكل،والثانية أضافها إلى الأكثر، وذلك لأن منهم من هو عامي لا يعرف ولا يفهم، ولكن أكثرهم يعرفون ثم يكفرون. مناسبة هذا الباب للتوحيد: أن من أضاف نعمة الخالق إلى غيره; فقد جعل معه شريكا في الربوبية لأنه أضافها إلى السبب على أنه فاعل، هذا من وجه، ومن وجه آخر: أنه لم يقم بالشكر الذي هو عبادة من العبادات، وترك الشكر مناف للتوحيد; لأن الواجب أن يُشْكَر الخالق المنعم - سبحانه وتعالى -، فصارت لها صلة بتوحيد الربوبية وبتوحيد العبادة; فمن حيث إضافتها إلى السبب على أنه فاعل هذا إخلال بتوحيد الربوبية، ومن حيث ترك القيام بالشكر الذي هو العبادة هذا إخلال بتوحيد الألوهية. قوله: "قال مجاهد": هو إمام المفسرين في التابعين، عرض المصحف على ابن عباس رضي الله عنهما يوقفه عند كل آية ويسأله عن تفسيرها، وقال سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. أي: كافيك، ومع هذا; فليس معصوما عن الخطأ. قوله: "ما معناه": أي: كلاما معناه، وعلى هذا ف "ما": نكرة موصوفة، وفيه أن الشيخ رحمه الله لم ينقله بلفظه. قوله: "هو قول الرجل": هذا من باب التغليب والتشريف; لأن الرجل أشرف من المرأة وأحق بتوجيه الخطاب إليه منها، وإلا; فالحكم واحد. قوله: "هذا مالي ورثته عن آبائي": ظاهر هذه الكلمة؛ أنه لا شيء ج / 2 ص -203- وقال عون بن عبد الله: " يقولون: لولا فلان; لم يكن كذا". فيها،فلو قال لك واحد: من أين لك هذا البيت؟ قلت: ورثته عن آبائي; فليس فيه شيء لأنه خبر محض. لكن مراد مجاهد: أن يضيف القائل تملكه للمال إلى السبب الذي هو الإرث، متناسيا المسبِّب الذي هو الله; فبتقدير الله عز وجل أنعم على آبائك وملكوا هذا البيت، وبشرع الله عز وجل انتقل هذا البيت إلى ملكك عن طريق الإرث; فكيف تتناسى المسبِّب للأسباب القدرية والشرعية فتضيف الأمر إلى ملك آبائك وإرثك إياه بعدهم؟! فمن هنا صار هذا القول نوعا من كفر النعمة. أما إذا كان قصد الإنسان مجرد الخبر كما سبق; فلا شيء في ذلك، ولهذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له يوم الفتح: "أتنزل في دارك غدا؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من دار أو رباع"1، فبين صلى الله عليه وسلم أن هذه الدور انتقلت إلى عقيل بالإرث. فتبين أن هناك فرقا بين إضافة الملك إلى الإنسان على سبيل الخبر، وبين إضافته إلى سببه متناسيا المسبِّب وهو الله عز وجل. قوله: "وقال عون بن عبد الله: يقولون: لولا فلان لم يكن كذا": وهذا القول من قائله فيه تفصيل إن أراد به الخبر وكان الخبر صدقا مطابقا للواقع; فهذا لا بأس به، وإن أراد بها السبب; فلذلك ثلاث حالات: الأولى: أن يكون سببا خفيا لا تأثير له إطلاقا، كأن يقول: لولا الولي الفلاني ما حصل كذا وكذا، فهذا شرك أكبر؛ لأنه يعتقد بهذا القول 1أخرجه البخاري في (الحج, باب توريث دور مكة وبيعها/1/489), ومسلم في (الحج, باب النزول بمكة للحاج/2/984); من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما. ج / 2 ص -204- أن لهذا الولي تصرفا في الكون مع أنه ميت، فهو تصرف سري خفي. الثانية: أن يضيفه إلى سبب صحيح ثابت شرعا أو حسا; فهذا جائز بشرط أن لا يعتقد أن السبب مؤثر بنفسه، وأن لا يتناسى المنعم بذلك. الثالثة: أن يضيفه إلى سبب ظاهر، لكن لم يثبت كونه سببا لا شرعا ولا حسا; فهذا نوع من الشرك الأصغر، وذلك مثل: التِّولة، والقلائد التي يقال: إنها تمنع العين، وما أشبه ذلك; لأنه أثبت سببا لم يجعله الله سببا، فكان مشاركا لله في إثبات الأسباب. ويدل لهذا التفصيل أنه ثبت إضافة (لولا) إلى السبب وحده بقول النبي صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب: "لولا أنا; لكان في الدرك الأسفل من النار"1، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عن الشرك، وأخلص الناس توحيدا لله تعالى، فأضاف النبي صلى الله عليه وسلم الشيء إلى سببه، لكنه شرعي حقيقي; فإنه أُذِن له بالشفاعة لعمه بأن يخفف عنه، فكان في ضَحْضَاح من النار، عليه نعلان يغلي منهما دماغه لا يرى أن أحدا أشد منه عذابا; لأنه لو يرى أن أحدا أشد منه عذابا أو مثله هان عليه بالتسلي; كما قالت الخنساء في رثاء أخيها صخر: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أسلي النفس عنه بالتأسي 1أخرجه البخاري في (مناقب الأنصار, باب قصة أبي طالب/3/62), ومسلم في (الإيمان, باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب/1/194); من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه. ج / 2 ص -205- وقال ابن قتيبة: " يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا". وقال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: " أن الله تعالى قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر..."1. وابن القيم رحمه الله - وإن كان قول العالم ليس بحجة لكن يستأنس به - قال في القصيدة الميمية يمدح الصحابة: أولئك أتباع النبي وحزبه ولولاهُمُو ما كان في الأرض مسلمُ ولولاهُمُو كادت تميد بأهلها ولكن رواسيها وأوتادها هُمُ ولولاهُمُو كانت ظلاما بأهلها ولكن هُمُو فيها بدور وأنجُمُ فأضاف (لولا) إلى سبب صحيح. قوله: "وقال ابن قتيبة: يقولون هذا بشفاعة آلهتنا ": هؤلاء أخبث ممن سبقهم; لأنهم مشركون يعبدون غير الله، ثم يقولون: إن هذه النعم حصلت بشفاعة آلهتهم، فالعُزَّى مثلا شفعت عند الله أن ينزل المطر; فهؤلاء أثبتوا سببا من أبطل الأسباب لأن الله عز وجل لا يقبل شفاعة آلهتهم، لأن الشفاعة لا تنفع إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا، والله عز وجل لا يأذن لهذه الأصنام بالشفاعة; فهذا أبطل من الذي قبله لأن فيه محذورين: 1- الشرك بهذه الأصنام. 2- إثبات سبب غير صحيح. قوله: "وقال أبو العباس": هو شيخ الإسلام أحمد بن تيمية. 1 البخاري: الجمعة (1038), ومسلم: الإيمان (71), والنسائي: الاستسقاء (1525), وأبو داود: الطب (3906), وأحمد (4/117), ومالك: النداء للصلاة (451). ج / 2 ص -206- الحديث1 وقد تقدم: " وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به". قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقا... ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثيرة". قوله: "وهذا كثير في الكتاب والسنة يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره...": وذلك مثل الاستسقاء بالأنواء، وإنما كان هذا مذموما; لأنه لو أتى إليك عبد فلان بهدية من سيده فشكرت العبد دون السيد; كان هذا سوء أدب مع السيد وكفرانا لنعمته، وأقبح من هذا لو أضفت النعمة إلى السبب دون الخالق; لما يأتي: 1- أن الخالق لهذه الأسباب هو الله; فكان الواجب أن يشكر وتضاف النعمة إليه. 2- أن السبب قد لا يؤثر; كما ثبت في "صحيح مسلم" أنه صلى الله عليه وسلم قال:"ليس السنة أن لا تمطروا، بل السنة أن تمطروا ثم لا تنبت الأرض"2. 3- أن السبب قد يكون له مانع يمنع من تأثيره، وبهذا عرف بطلان إضافة الشيء إلى سببه دون الالتفات إلى المسبِّب جل وعلا. قوله: "كانت الريح طيبة": هذا في السفن الشراعية التي تجري بالريح، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا}، [يونس: من الآية22]، فكانوا إذا طاب سير السفينة قالوا: كانت الريح طيبة، 1( ص30). 2أخرجه مسلم في (الفتن, باب في سكنى المدينة/4/2228) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ج / 2 ص -207- فيه مسائل: الأولى: تفسير معرفة النعمة وإنكارها. الثانية: معرفة أن هذا جار على ألسنة كثيرة. الثالثة: تسمية هذا الكلام إنكارا للنعمة. الرابعة: اجتماع الضدين في القلب. وكان الملاح- هو قائد السفينة- حاذقا; أي: مجيدا للقيادة. فيضيفون الشيء إلى سببه، وينسون الخالق- جل وعلا-. فيه مسائل: الأولى: تفسير معرفة النعمة وإنكارها: وسبق ذلك. الثانية: معرفة أن هذا جار على ألسنة كثيرة: وذلك مثل قول بعضهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقا، وما أشبه ذلك. الثالثة: تسمية هذا الكلام إنكارا للنعمة: يعني: إنكارا لتفضل الله تعالى بها وليس إنكارا لوجودها; لأنهم يعرفونها ويحسون بوجودها. الرابعة: اجتماع الضدين في القلب: وهذا من قوله: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}، [النحل: من الآية83]، فجمع بين المعرفة والإنكار، وهذا كما يجتمع في الشخص الواحد خصلة إيمان وخصلة كفر، وخصلة فسوق وخصلة عدالة. المصدر : كتاب القول المفيد على كتاب التوحيد رابط التحميل المباشر http://waqfeya.com/book.php?bid=1979 |
#44
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
القول المفيد على كتاب التوحيد باب: قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ج / 2 ص -208- باب: قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، [البقرة: من الآية22]... قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، لما ذكر سبحانه ما يقر به هؤلاء من أفعاله التي لم يفعلها غيره: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ}، [البقرة: الآية21-22]، فكل من أقر بذلك لزمه أن لا يعبد إلا المقر له; لأنه لا يستحق العبادة من لا يفعل ذلك، ولا ينبغي أن يُعبَد إلا من فعل ذلك، ولذلك أتى بالفاء الدالة على التفريع والسببية، أي: فبسبب ذلك لا تجعلوا لله أندادا. و"لا" هذه ناهية; أي: فلا تجعلوا له أندادا في العبادة، كما أنكم لم تجعلوا له أندادا في الربوبية، وأيضا لا تجعلوا له أندادا في أسمائه وصفاته; لأنهم قد يصفون غير الله بأوصاف الله عز وجل، كاشتقاق العزى من العزيز، وتسميتهم رحمن اليمامة. قوله: "أندادا": جمع ند، وهو الشبيه والنظير، والمراد هنا: أندادا في العبادة. قوله: "وأنتم تعلمون ": الجملة في موضع نصب حال من فاعل {تجعلوا} ; أي: والحال أنكم تعلمون، والمعنى: وأنتم تعلمون أنه لا ج / 2 ص -209- وقال ابن عباس في الآية: "الأنداد هو الشرك، أخفى من أنداد له-يعني في الربوبية-; لأن هذا محط التقبيح من هؤلاء، أنهم يجعلون له أندادا وهم يعلمون أنه لا أنداد له في الربوبية، أما في الألوهية; فيجعلون له أندادا، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}، [صّ:5]، ويقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك"، وهذا من سفههم; فإنه إذا صار مملوكا; فكيف يكون شريكا، ولهذا أنكر الله عليهم في قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، [البقرة: من الآية22]؛ إذ الأنداد بالمعنى العام- بقطع النظر عن كونه يخاطب أقواما يقرون بالربوبية- يشمل الأنداد في الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات. قوله: "وقال ابن عباس في الآية": أي: في تفسيرها. قوله: "هو الشرك": هذا تفسير بالمراد; لأن التفسير تفسيران: 1- تفسير بالمراد، وهو المقصود بسياق الجملة بقطع النظر عن مفرداتها. 2- تفسير بالمعنى، وهو الذي يسمى تفسير الكلمات. فعندنا الآن وجهان للتفسير: أحدهما: التفسير اللفظي وهو تفسير الكلمات، وهذا يقال فيه: معناه كذا وكذا. والثاني: التفسير بالمراد، فيقال: المراد بكذا وكذا، والأخير هنا هو المراد. ج / 2 ص -210- دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: فإذا قلنا: الأنداد الأشباه والنظراء; فهو تفسير بالمعنى، وإذا قلنا: الأنداد الشركاء أو الشرك; فهو تفسير بالمراد، يقول رضي الله عنه "الأنداد هو الشرك"، فإذن الند: الشريك المشارك لله - سبحانه وتعالى - فيما يختص به. وقوله: "دبيب": أي: أثر دبيب النمل، وليس فعل النمل. وقوله: "على صفاة": هي الصخرة الملساء. وقوله: "سوداء": وليس على بيضاء; إذ لو كان على بيضاء; لبان أثر السير أكثر. وقوله: "في ظلمة الليل": وهذا أبلغ ما يكون في الخفاء. فإذا كان الشرك في قلوب بني آدم أخفى من هذا; فنسأل الله أن يعين على التخلص منه، ولهذا قال بعض السلف: "ما عالجت نفسي معالجتها على الإخلاص"، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قال مثل هذا؟ قيل له: كيف نتخلص منه؟ قال: "قولوا: اللهم! إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم"1. 1أخرجه الإمام أحمد (4/403), والطبراني في "الأوسط" و "الكبير"; كما في "المجمع" (10/223, 224); من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وقال المنذري في "الترغيب" (1/76): "ورواته إلى أبي علي محتج بهم في "الصحيح", وأبو علي وثقه ابن حبان ولم أر أحدا جرحه". وكذا قال الهيثمي في "المجمع". وأخرجه: المروزي في "مسند أبي بكر" (17), وأبو يعلى; كما في "المجمع" (10/ 224), وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (287); من حديث أبي بكر. وفيه ليث بن أبي سليم, وقد اختلط. وأخرجه: البخاري في "الأدب المفرد" (716), وفيه ليث بن أبي سليم مع رجل من أهل البصرة. وأخرجه: ابن حبان في "المجروحين " (3/30), وأبو نعيم في "الحلية" (7/112), وفيه يحيى بن كثير البصري مجمع على ضعفه. ج / 2 ص -211- والله، وحياتك يا فلان، وحياتي، وتقول: لولا كليبة هذا; لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار; لأتى اللصوص،.... وقوله: "والله وحياتك": فيها نوعان من الشرك. الأول: الحلف بغير الله. الثاني: الإشراك مع الله بقوله: والله! وحياتك! فضمها إلى الله بالواو المقتضية للتسوية؛ فيه نوع من الشرك. والقسم بغير الله إن اعتقد الحالف أن المقسم به بمنزلة الله في العظمة; فهو شرك أكبر، وإلا; فهو شرك أصغر. وقوله: "وحياتي": فيه حلف بغير الله; فهو شرك. وقوله: "لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص": كليبة تصغير كلب، والكلب ينتفع به للصيد وحراسة الماشية، والحرث. وقوله: "لولا كليبة هذا" يكون فيه شرك إذا نظر إلى السبب دون المسبِّب، وهو الله عز وجل أما الاعتماد على السبب الشرعي، أو الحسي المعلوم; فقد تقدم أنه لا بأس به، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أنا; لكان في الدرك الأسفل من النار"1، لكن قد يقع في قلب الإنسان إذا قال: لولا كذا لحصل كذا أو ما كان كذا، قد يقع في قلبه شيء من الشرك؛ بالاعتماد على السبب بدون نظر إلى المسبب، وهو الله عز وجل. وقوله: "لولا البط في الدار لأتى اللصوص": البط طائر معروف، وإذا دخل اللص البيت وفيه بط، فإنه يصرخ، فينتبه أهل البيت ثم يجتنبه اللصوص. 1سبق (ص 204). ج / 2 ص -212- وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان; لا تجعل فيها فلانا، هذا كله به شرك"، رواه ابن أبي حاتم1. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بغير الله; فقد كفر أو أشرك"، رواه الترمذي وقوله: "وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت": فيه شرك; لأنه شرك غير الله مع الله بالواو، فإن اعتقد أنه يساوي الله عز وجل في التدبير والمشيئة; فهو شرك أكبر، وإن لم يعتقد ذلك واعتقد أن الله - سبحانه وتعالى - فوق كل شيء; فهو شرك أصغر، وكذلك قوله: "لولا الله وفلان". وقوله: "هذا كله به شرك": المشار إليه ما سبق، وهو شرك أكبر أو أصغر حسب ما يكون في قلب الشخص من نوع هذا التشريك. قوله: "وعن عمر": صوابه عن ابن عمر، نبه عليه في "تيسير العزيز الحميد". وقوله في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "من حلف بغير الله": "من": شرطية; فتكون للعموم. قوله: "أو أشرك": شك من الراوي، والظاهر أن صواب الحديث "أشرك". 1أخرجه ابن أبي حاتم; كما في "تفسير ابن كثير" (1/57). وقال الشيخ سليمان في "تيسير العزيز" (ص 587): "وسنده جيد". ج / 2 ص -213- وحسنه، وصححه الحاكم1. وقوله: " من حلف بغير الله ": يشمل كل محلوف به سوى الله، سواء بالكعبة أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو السماء أو غير ذلك، ولا يشمل الحلف بصفات الله; لأن الصفة تابعة للموصوف، وعلى هذا; فيجوز أن تقول: وعزة الله; لأفعلن كذا. وقوله: "بغير الله": ليس المراد بغير هذا الاسم، بل المراد بغير المسمى بهذا الاسم، فإذا حلف بالله أو بالرحمن أو بالسميع; فهو حلف بالله. والحلف: تأكيد الشيء بذكر معظم بصيغة مخصوصة؛ بالباء، أو التاء، أو الواو، وحروف القسم ثلاثة: الباء، والتاء، والواو. والباء: أعمها; لأنها تدخل على الظاهر والمضمَر وعلى اسم الله وغيره، ويذكر معها فعل القسم ويحذف، فيذكر معها فعل القسم; كقوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}، [الأنعام: من الآية109]. ويحذف مثل قولك: بالله لأفعلن; وتدخل على المضمر مثل قولك: الله عظيم أحلف به لأفعلن، وعلى الظاهر كما في الآية وعلى غير لفظ الجلالة، مثل قولك: بالسميع لأفعلن، وأما الواو; فإنه لا يذكر معها فعل القسم، ولا تدخل على الضمير، ويحلف بها مع كل اسم، وأما التاء; فإنه لا يذكر 1أخرجه الطيالسي (1896), وأحمد (2/34،86), وأبو داود في (الإيمان, باب كراهة الحلف بالآباء/3/570), والترمذي في (الأيمان, باب ما جاء في كراهة الحلف بغير الله/5/253) -وحسنه, وابن حبان (1177), والحاكم (1/18), (4/297)- وصححه على شرط الشيخين, وأقره الذهبي-, والبيهقي (10/29). وقال الزين العراقي في "أماليه": "إسناده ثقات"; كما في "التيسير" (ص589). ج / 2 ص -214- معها فعل القسم، وتختص بالله ورب، قال ابن مالك: "والتاء لله ورب". والحلف بغير الله شرك أكبر؛ إن اعتقد أن المحلوف به مساو لله تعالى في التعظيم والعظمة، وإلا فهو شرك أصغر. وهل يغفر الله الشرك الأصغر؟ قال بعض العلماء: إن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النّساء من الآية: 48]; أي: الشرك الأكبر، {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء من الآية: 48] يعني: الشرك الأصغر والكبائر. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر1؛ لأن قوله: {أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: من الآية48] مصدر مُؤَوَّل; فهو نكرة في سياق النفي، فيعم الأصغر والأكبر، والتقدير: لا يغفر شركا به أو إشراكا به. وأما قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1]، وقوله: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1] وقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1]، وما أشبه ذلك، من المخلوقات التي أقسم الله بها; فالجواب عنه من وجهين: الأول: أن هذا من فعل الله، والله لا يُسْأَل عما يفعل، وله أن يقسم سبحانه بما شاء من خلقه، وهو سائل غير مسئول، وحاكم غير محكوم عليه. الثاني: أن قسم الله بهذه الآيات؛ دليل على عظمته، وكمال قدرته وحكمته; فيكون القسم بها الدال على تعظيمها ورفع شأنها؛ متضمنا للثناء على الله عز وجل، بما تقتضيه من الدلالة على عظمته. 1انظر: "الرد على البكري" (تلخيص "كتاب الاستغاثة") (ص 146). ج / 2 ص -215- وأما نحن; فلا نقسم بغير الله أو صفاته; لأننا منهيون عن ذلك. وأما ما ثبت في "صحيح مسلم" من قوله صلى الله عليه وسلم "أفلح وأبيه إن صدق"1. فالجواب عنه من وجوه: الأول: أن بعض العلماء أنكر هذه اللفظة، وقال: إنها لم تثبت في الحديث; لأنها مناقضة للتوحيد، وما كان كذلك; فلا تصح نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون باطلا. الثاني: أنها تصحيف من الرواة، والأصل: "أفلح والله إن صدق"2. وكانوا في السابق لا يشكلون الكلمات، و "أبيه" تشبه، "الله" إذا حذفت النقط السفلى. الثالث: أن هذا مما يجري على الألسنة بغير قصد، وقد قال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: من الآية89]، وهذا لم ينو فلا يؤاخذ. الرابع: أنه وقع من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أبعد الناس عن الشرك; فيكون من خصائصه، وأما غيره; فهم منهيون عنه لأنهم لا يساوون النبي صلى الله عليه وسلم في الإخلاص والتوحيد. الخامس: أنه على حذف مضاف، والتقدير: "أفلح ورب أبيه". السادس: أن هذا منسوخ، وأن النهي هو الناقل من الأصل، وهذا أقرب الوجوه. ولو قال قائل: نحن نقلب عليكم الأمر، ونقول: إن المنسوخ هو 1أخرجه: مسلم في (الإيمان, باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام, (1/40) من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه. 2 البخاري: الإيمان (46) , ومسلم: الإيمان (11) , والنسائي: الصلاة (458) والصيام (2090) والإيمان وشرائعه (5028) , وأبو داود: الصلاة (391) , وأحمد (1/162) , ومالك: النداء للصلاة (425). ج / 2 ص -216- النهي; لأنهم لما كانوا حديثي عهد بشرك نهوا أن يشركوا به، كما نهي الناس حين كانوا حديثي عهد بشرك عن زيارة القبور؛ ثم أذن لهم فيها1 ؟ فالجواب عنه: إن هذا اليمين كان جاريا على ألسنتهم، فَتُرِكوا حتى استقر الإيمان في نفوسهم ثم نهوا عنه، ونظيره إقرارهم على شرب الخمر أولا، ثم أمروا باجتنابه2. أما بالنسبة للوجه الأول; فضعيف لأن الحديث ثابت، وما دام يمكن حمله على وجه صحيح; فإنه لا يجوز إنكاره. وأما الوجه الثاني; فبعيد، وإن أمكن; فلا يمكن في قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل: "أي الصدقة أفضل؟ فقال: أما وأبيك لتنبأنه"3. وأما الوجه الثالث فغير صحيح لأن النهي وارد مع أنه كان يجري على ألسنتهم، كما جرى على لسان سعد فنهاه النبي4 صلى الله عليه وسلم، ولو صح هذا; لصح أن يقال لمن فعل شركا اعتاده لا ينهى; لأن هذا من عادته، وهذا باطل. ـــ 1أخرجه: مسلم في (الجنائز, باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه زيارة أمه, (2/672) من حديث بريدة رضي الله عنه. 2كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} [المائدة: 90]. 3رواه: مسلم في (باب أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح). 4حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه; قال: "حلفت مرة باللات والعزى; فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, ثم انفث عن يسارك ثلاثا, ثم تعوذ, ولا تعد. أخرجه: أحمد (1/ 183, 186, 187), والطحاوي في "المشكل" (1/ 360)- وعنده الأمر بالاستغفار بدلا من التعوذ-, وابن حبان (1178). والحديث ضعيف; كما في "إرواء الغليل" (8/193). ج / 2 ص -217- "وقال ابن مسعود: "لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا"1. وأما الرابع; فدعوى الخصوصية تحتاج إلى دليل، وإلا فالأصل التأسي به. وأما الخامس: فضعيف لأن الأصل عدم الحذف، ولأن الحذف هنا يستلزم فهما باطلا، ولا يمكن أن يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بما يستلزم ذلك بدون بيان المراد، وعلى هذا يكون أقربها الوجه السادس أنه منسوخ، ولا نجزم بذلك لعدم العلم بالتاريخ، ولهذا قلنا أقربها والله أعلم، وإن كان النووي رحمه الله ارتضى أن هذا مما يجري على اللسان بدون قصد، لكن هذا ضعيف لا يمكن القول به، ثم رأيت بعضهم جزم بشذوذها لانفراد مسلم بها عن البخاري مع مخالفة راويها للثقات; فالله أعلم. قوله في أثر ابن مسعود: " لأن أحلف بالله كاذبا": اللام: لام الابتداء، و"أن" مصدرية; فيكون قوله: "أن أحلف" مؤوّلا بمصدر مبتدأ تقديره لحلفي بالله. قوله: "أحب إلي": خبر المبتدأ، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: من الآية184]. قوله: "كاذبا": حال من فاعل أحلف. قوله: "أحب إلي": هذا من باب التفضيل الذي ليس فيه شيء من الجانبين، وهذا نادر في الكلام; لأن التفضيل في الأصل يكون فيه المعنى ثابتا في المفضل وفي المفضل عليه، وأحيانا في المفضل دون المفضل 1سبق (ص 27). ج / 2 ص -218- عليه، وأحيانا لا يوجد في الجانبين; فابن مسعود رضي الله عنه لا يحب لا هذا ولا هذا، ولكن الحلف بالله كاذبا أهون عليه من الحلف بغيره صادقا، فالحلف كاذبا بالله محرم من وجهين: 1- أنه كذب، والكذب محرم لذاته. 2- أن هذا الكذب قُرِن باليمين، واليمين تعظيم لله عز وجل، فإذا كان على كذب صار فيه شيء من تنقص لله عز وجل ؛ حيث جعل اسمه مؤكدا لأمر كذب، ولذلك كان الحلف بالله كاذبا عند بعض أهل العلم من اليمين الغَمُوس التي تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار. وأما الحلف بغير الله صادقا فهو محرم من وجه واحد وهو الشرك، لكن سيئة الشرك أعظم من سيئة الكذب، وأعظم من سيئة الحلف بالله كاذبا، وأعظم من اليمين الغموس إذا قلنا: إن الحلف بالله كاذبا من اليمين الغموس; لأن الشرك لا يغفر، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: من الآية48]، وما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب إلا لإبطال الشرك، فهو أعظم الذنوب، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: من الآية13]، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: "أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك"1 والشرك متضمن للكذب، فإن الذي جعل غير الله شريكا لله كاذب، بل من أكذب الكاذبين; لأن الله لا شريك له. 1أخرجه البخاري في (التفسير, باب: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر), (3/271), ومسلم في (الإيمان, باب كون الشرك أقبح الذنوب, (1/91); عن ابن مسعود رضي الله عنه. ج / 2 ص -219- * * * وعن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان،.... ـ قوله في حديث حذيفة رضي الله عنه "لا تقولوا": "لا": ناهية، ولهذا جُزم الفعل بعدها بحذف النون. قوله: "ما شاء الله وشاء فلان": والعلة في ذلك أن الواو تقتضي تسوية المعطوف بالمعطوف عليه; فيكون القائل: ما شاء الله وشئت؛ مسويا مشيئة الله بمشيئة المخلوق، وهذا شرك، ثم إن اعتقد أن المخلوق أعظم من الخالق، أو أنه مساو له فهو شرك أكبر، وإن اعتقد أنه أقل; فهو شرك أصغر. قوله: "ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان": لما نهى عن اللفظ المحرم بيّن اللفظ المباح; لأن "ثم" للترتيب والتراخي، فتفيد أن المعطوف أقل مرتبة من المعطوف عليه. أما بالنسبة لقوله: "ما شاء الله فشاء فلان"; فالحكم فيها أنها مرْتَبَة بين مرتبة (الواو) ومرتبة (ثم); فهي تختلف عن (ثم) بأن (ثم) للتراخي والفاء للتعقيب، وتوافق (ثم) بأنها للترتيب; فالظاهر أنها جائزة، ولكن التعبير ب (ثم) أولى; لأنه اللفظ الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه أبين في إظهار الفرق بين الخالق والمخلوق. ويستفاد من هذا الحديث: 1- إثبات المشيئة للعبد; لقوله: "ثم شاء فلان"، فيكون فيه رد على الجبرية حيث قالوا: إن العبد لا مشيئة له ولا اختيار. 2- أنه ينبغي لمن سد على الناس بابا محرَّما أن يفتح لهم الباب ج / 2 ص -220- ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان" رواه أبو داود بسند صحيح1. المباح; لقوله: "ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان"2 ونظير ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: من الآية104]، لما نهاهم عن قول راعنا; قال: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: من الآية104] وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما جيء له بتمر جيد وأخبره الآتي به أنه أخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة; قال: "لا تفعل، ولكن بع الجمع بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جَنِيبا"3 أي: تمرا جيدا. فأرشده إلى الطريق المباح حين نهاه عن الطريق المحرم. وفي هذا فائدتان عظيمتان: الأولى: بيان كمال الشريعة وشمولها، حيث لم تسد على الناس بابا؛ إلا فتحت لهم ما هو خير منه. والثانية: التسهيل على الناس ورفع الحرج عنهم. فعامل الناس بهذا ما استطعت، كلما سددت عليهم بابا ممنوعا; فافتح لهم من المباح ما يغني عنه، ما استطعت إلى ذلك سبيلا؛ حتى لا يقعوا في الحرج. 1أخرجه: أحمد (5/ 384, 394, 398), وأبو داود في (الأدب, باب لا يقال: خبثت نفسي), (5/259), والطيالسي (430), والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (991), وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (671), وابن أبي الدنيا في "الصمت" (341), والطحاوي في "المشكل" (1/90), والبيهقي في "السنن" (3/216), وفي "الأسماء والصفات" (ص 144), وفي "الاعتقاد" (ص 156). والحديث صححه النووي في "الأذكار" (308), وفي "الرياض" (1748), وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "بسند صحيح". 2 أبو داود: الأدب (4980) , وأحمد (5/384 ,5/398). 3 أخرجه: البخاري في (البيوع, باب إذا أراد بيع تمر بتمر), (2/106), ومسلم في (المساقاة, باب بيع الطعام مثلا بمثل), (3/1215); عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما. ج / 2 ص -221- وجاء "عن إبراهيم النخعي: أنه يكره: أعوذ بالله، وبك، ويجوز أن يقول: بالله، ثم بك، ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله، وفلان". قوله: "عن إبراهيم النخعي": من فقهاء التابعين، لكنه قليل البضاعة في الحديث; كما ذكر ذلك حماد بن زيد. قوله: "يكره أعوذ بالله وبك": العياذ: الاعتصام بالمستعاذ به عن المكروه، واللِّياذ بالشخص: هو اللجوء إليه لطلب المحبوب، قال الشاعر: يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ولا يهيضون عظما أنت جابره وهذان البيتان يخاطب بهما رجلا، لكن كما قال بعضهم: هذا القول لا ينبغي أن يكون إلا لله. وقوله: "أعوذ بالله، وبك": هذا محرَّم; لأنه جمع بين الله والمخلوق بحرف يقتضي التسوية، وهو الواو. ويجوز "بالله ثم بك"; لأن "ثم" تدل على الترتيب والتراخي، فإن قيل: سبق أن من الشرك الاستعاذة بغير الله وعلى هذا يكون قوله: أعوذ بالله ثم بك محرما. أجيب: أن الاستعاذة بمن يقدر على أن يعيذك جائزة، لقوله صلى الله عليه وسلم في "صحيح مسلم" وغيره: "من وجد ملجأ; فليعذ به"1 لكن لو قال: أعوذ بالله ثم بفلان. وهو ميت، فهذا شرك أكبر؛ لأنه لا يقدر على أن يعيذك. وأما استدلال الإمام أحمد على أن القرآن غير مخلوق 1سبق تخريجه في المجلد الأول. ج / 2 ص -222- فيه مسائل: الأولى: تفسير آية البقرة في الأنداد. الثانية: أن الصحابة رضي الله عنهم يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر أنها تعم الأصغر. الثالثة: أن الحلف بغير الله شرك. بقوله صلى الله عليه وسلم "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق"1 ثم قال رحمه الله: والاستعاذة لا تكون بمخلوق، فيحمل كلامه على أن الاستعاذة بكلام لا تكون بكلام مخلوق بل بكلام غير مخلوق، وهو كلام الله، والكلام تابع للمتكلم به، إن كان مخلوقا; فهو مخلوق، وإن كان غير مخلوق; فهو غير مخلوق. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية البقرة في الأنداد: وقد سبق. الثانية: أن الصحابة يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر أنها تعم الأصغر: لأن قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: من الآية22] نازلة في الأكبر; لأن المخاطب بها هم المشركون، وابن عباس فسرها بما يقتضي الشرك الأصغر; لأن الند يشمل النظير المساوي، على سبيل الإطلاق، أو في بعض الأمور. الثالثة: أن الحلف بغير الله شرك: لحديث ابن عمر رضي الله عنهما. 1سبق تخريجه في المجلد الأول. ج / 2 ص -223- الرابعة: أنه إذا حلف بغير الله صادقا فهو أكبر من اليمين الغموس. الخامسة: الفرق بين الواو و(ثم) في اللفظ. الرابعة: أنه إذا حلف بغير الله صادقا; فهو أكبر من اليمين الغموس: واليمين الغموس عند الحنابلة أن يحلف بالله كاذبا، وقال بعض العلماء - وهو الصحيح -: أن يحلف بالله كاذبا ليقتطع بها مال امرئ مسلم. الخامسة: الفرق بين الواو وثم في اللفظ: لأن الواو تقتضي المساواة; فتكون شركا، وثم تقتضي الترتيب والتراخي; فلا تكون شركا. المصدر : كتاب القول المفيد على كتاب التوحيد رابط التحميل المباشر http://waqfeya.com/book.php?bid=1979 |
#45
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
القول المفيد على كتاب التوحيد باب: ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله ج / 2 ص -224- باب: ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله عن ابن عمر; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحلفوا بآبائكم، مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد أن الاقتناع بالحلف بالله من تعظيم الله; لأن الحالف أكّد ما حلف عليه بالتعظيم باليمين، وهو تعظيم المحلوف به; فيكون من تعظيم المحلوف به أن يصدق ذلك الحالف، وعلى هذا يكون عدم الاقتناع بالحلف بالله فيه شيء من نقص تعظيم الله، وهذا ينافي كمال التوحيد. والاقتناع بالحلف بالله لا يخلو من أمرين: الأول: أن يكون ذلك من الناحية الشرعية; فإنه يجب الرضا بالحلف بالله، فيما إذا توجهت اليمين على المدعى عليه فحلف، فيجب الرضا بهذا اليمين بمقتضى الحكم الشرعي. الثاني: أن يكون ذلك من الناحية الحسية، فإن كان الحالف موضع صدق وثقة; فإنك ترضى بيمينه، وإن كان غير ذلك; فلك أن ترفض الرضا بيمينه، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لحويِّصَة ومحيِّصَة: "تبرئكم يهودُ بخمسين يمينا. قالوا: كيف نرضى يا رسول الله بأيمان اليهود؟"1؛ فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. قوله في الحديث: "لا تحلفوا": "لا": ناهية، ولهذا جزم الفعل 1أخرجه: البخاري في (الأدب, باب إكرام الكبير, (4/117), ومسلم في (القسامة, باب القسامة), (3/1292- 1295); عن رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة. ج / 2 ص -225- من حلف بالله; فليصدق، ومن حلف له بالله; فليرض،..... بعدها بحذف النون. و"آباؤكم": جمع أب، ويشمل الأب والجد، وإن علا فلا يجوز الحلف بهم; لأنه شرك، وقد سبق بيانه1. قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بالله; فليصدق، ومن حلف له بالله; فليرض" هنا أمران: الأمر الأول: للحالف; فقد أُمِر أن يكون صادقا، والصدق: هو الإخبار بما يطابق الواقع، وضده الكذب، وهو: الإخبار بما يخالف الواقع. فقوله: "من حلف بالله; فليصدق"2 ; أي: فليكن صادقا في يمينه، وهل يشترط أن يكون مطابقا للواقع أو يكفي الظن؟ الجواب: يكفي الظن; فله أن يحلف على ما يغلب على ظنه; كقول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم والله ما بين لابَتَيْهَا أهل بيت أفقر مني؛ فأقره النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: للمحلوف له; فقد أمر أن يرضى بيمين الحالف له. فإذا قرنت هذين الأمرين بعضهما ببعض; فإن الأمر الثاني يُنَزَّل على ما إذا كان الحالف صادقا; لأن الحديث جمع أمرين: أمرا موجها للحالف، وأمرا موجها للمحلوف له، فإذا كان الحالف صادقا; وجب على المحلوف له الرضا. فإن قيل: إن كان صادقا فإننا نصدقه وإن لم يحلف؟ أجيب: أن اليمين تزيده توكيدا. 1ص 213). 2 ابن ماجه: الكفارات (2101). ج / 2 ص -226- ومن لم يرض، فليس من الله" رواه ابن ماجه بسند حسن1. فيه مسائل: قوله: "ومن لم يرض; فليس من الله" أي: من لم يرض بالحلف بالله إذا حلف له; فليس من الله، وهذا تبرؤ منه؛ يدل على أن عدم الرضا من كبائر الذنوب، ولكن لا بد من ملاحظة ما سبق، وقد أشرنا أن في حديث القسامة دليلا على أنه إذا كان الحالف غير ثقة، فلك أن ترفض الرضا به; لأنه غير ثقة، فلو أن أحدا حلف لك، وقال: والله، إن هذه الحقيبة من خشب، وهي من جلد; فيجوز أن لا ترضى به لأنك قاطع بكذبه، والشرع لا يأمر بشيء يخالف الحس والواقع، بل لا يأمر إلا بشيء يستحسنه العقل ويشهد له بالصحة والحسن، وإن كان العقل لا يدرك أحيانا مدى حسن هذا الشيء الذي أمر به الشرع، ولكن ليعلم علم اليقين أن الشرع لا يأمر إلا بما هو حسن; لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: من الآية50]، فإذا اشتبه عليك حُسْن شيء من أحكام الشرع; فاتهم نفسك بالقصور أو بالتقصير، أما أن تتهم الشرع; فهذا لا يمكن، وما صح عن الله ورسوله; فهو حق وهو أحسن الأحكام. فيه مسائل: 1أخرجه: ابن ماجه في (الكفارات, باب من حلف له بالله فليرض, 1/ 679). وقال في "الزوائد": "رجال إسناده ثقات". وحسنه الحافظ في "الفتح" (11/ 536), وحسنه أيضا الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله. وصححه الشيخ سليمان رحمه الله في "التيسير" (ص 956) على شرط مسلم. ج / 2 ص -227- الأولى: النهي عن الحلف بالآباء الثانية: الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى. الثالثة: وعيد من لم يرض. الأولى: النهي عن الحلف بالآباء: لقوله: "لا تحلفوا بآبائكم" والنهي للتحريم. الثانية: الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى: لقوله: "ومن حلف له بالله; فليرض"، وسبق التفصيل في ذلك. الثالثة: وعيد من لم يرض: لقوله: "ومن لم يرض; فليس من الله". الرابعة - ولم يذكرها المؤلف -: أمر الحالف أن يَصْدُق لأن الصدق واجب في غير اليمين; فكيف باليمين؟! وقد سبق أن من حلف على يمين كاذبة أنه آثم، وقال بعض العلماء: إنها اليمين الغموس. وأما بالنسبة للمحلوف له; فهل يلزمه أن يُصَدَّق أم لا؟ المسألة لا تخلو من أحوال خمس: الأولى: أن يعلم كذبه; فلا أحد يقول: إنه يلزم تصديقه. الثانية: أن يترجح كذبه; فكذلك لا يلزم تصديقه. الثالثة: أن يتساوى الأمران; فهذا يجب تصديقه. الرابعة: أن يترجح صدقه; فيجب أن يصدق. الخامسة: أن يعلم صدقه; فيجب أن يصدقه. وهذا في الأمور الحسية، أما الأمور الشرعية في باب التحاكم; فيجب أن يرضى باليمين ويلتزم بمقتضاها; لأن هذا من باب الرضا بالحكم الشرعي، وهو واجب. المصدر : كتاب القول المفيد على كتاب التوحيد رابط التحميل المباشر http://waqfeya.com/book.php?bid=1979 |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
[جمع] الجمع الثمين لكلام أهل العلم في المصرّين على المعاصي والمدمنين | أبو عبد الودود عيسى البيضاوي | منبر التوحيد وبيان ما يضاده من الشرك | 0 | 13-09-2011 09:33PM |
أقوال العلماء السلفيين في حكم من حكَّم القوانين | أبو حمزة مأمون | منبر التحذير من الخروج والتطرف والارهاب | 0 | 10-06-2010 01:51AM |
(الشيخ ربيع بين ثناء العلماء ووقاحة السفهاء) | أبوعبيدة الهواري الشرقاوي | منبر الجرح والتعديل | 0 | 21-12-2008 12:07AM |
مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد | أبو عبد الرحمن السلفي1 | منبر التوحيد وبيان ما يضاده من الشرك | 4 | 08-11-2007 12:07PM |
صحيح المقال في مسألة شد الرحال (رد على عطية سالم ) | ماهر بن ظافر القحطاني | منبر البدع المشتهرة | 0 | 12-09-2004 12:02PM |