|
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | التقييم: | انواع عرض الموضوع |
#16
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب من الشرك النذر لغير الله ج / 1 ص -180- [الباب الثاني عشر:] * باب من الشرك النذر لغير الله وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}. قال الشيخ رحمه الله: "باب من الشرك النذر لغير الله" النذر في اللغة: التزام فعل الشيء. وفي الشرع: التزام مكلّف فعل طاعة لم تجب عليه بأصل الشرع. وهذا منهيٌّ عنه؛ لما فيه من إحراج الإنسان لنفسه، وتحميلها شيئاً قد يشق عليها، وكان قبل أن ينذر في سعة من أمره؛ إن شاء فعل هذه الطاعة المستحبة، وإن شاء لم يفعلها، فلمَّا نذر فِعْلها لزمَتْه. والدليل على أن الوفاء بنذر الطاعة عبادة: أن الله سبحانه ذكر أن من صفات الأبرار: أنهم {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}، وأمر بالوفاء به بقوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه". وإذا كان كذلك فهو من أنواع العبادة، لأن العبادة كما عرّفها شيخ الإسلام ابن تيمية: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة"، فكل أنواع الطاعات التي أمر الله بها، أو أمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم ومنها الوفاء بالنذر عبادة، فمن صرف شيئاً من هذه الأنواع لغير الله صار مشركاً الشرك الأكبر الذي يُخرجه من المَلَّة. والشيخ رحمه الله في هذه الأبواب إنما يحكي أنواعاً تقع من بعض الناس وهي من الشرك، يريد أن يحذر المسلمين منها، ومن ذلك: النذر لغير الله من الجن، أو الأولياء والصالحين، أو أصحاب القبور، وهذا عبادة لغير الله عزّ وجلّ فهو شرك، وهذا واقع في هذه الأمة بكثرة، من حين وُجدت الأضرحة، وبُنيت على القبور، وصار كثير من الناس يتجهون إليها، لأنهم قيل لهم: إن هذه القبور فيها بركة، وفيها نفع، وفيها دفع ضرر، وإنها مجرَّبة، فمن نذر للقبر الفلاني، أو للشيخ الفلاني، فإنه يحصل له مقصوده، إن كان مريضاً يُشفى، وإن كانت امرأة تريد الحمل فإنها إذا نذرت للشيخ الفلاني أو للقبر الفلاني تحمل، وإذا حصل بالناس تأخر مطر ونذروا لهذه القبور نزل المطر، إلى غير ذلك من المُغْريات. ج / 1 ص -181- وقد يفعلون هذا ويحصل لهم مقصودهم ابتلاءً وامتحاناً من الله سبحانه وتعالى، أو أن هذا يصادف قضاءً وقدراً فيحصل، ويظنوا أنه بسبب النذر لهذا الميت أو لهذا القبر أو هذا الوليّ- بزعمهم-. وحصول المقصود لا يدل على جواز الفعل، فيجب أن يُتنبّه لهذه الشبهة، لأنهم أهلكوا بها كثيراً من الناس، يقولون: القبر الفلاني مجرَّب، إذا فعل الإنسان عنده نذراً أو ذبح ذبيحة يحصل له مقصوده، فبذلك انصرفت قلوب كثير من العوام والجُهَّال، أو حتى بعض من العلماء غير المحقِّقين إلى فعل هذا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين"، فالخطر شديد من هذه الأمور، لأنها كثُرت في الأمة، بسبب وجود هذه الأوثان التي يسمونها الأضرحة: ضريح السِتِّ نفيسة، ضريح البدوي، ضريح لفلان، صُرفت لها العبادات، من نذور، وذبح لغير الله، وتبرّك بها، وطواف بها، ودعاء عندها، إلى غير ذلك، أو استغاثة بها من دون الله عزّ وجلّ، يدعونها: المدد يا فلان، المدد يا سيّدي فلان، أو يا رسول الله، أو يا عليّ، أو يا أي شخص ينادونه، حتى في حالة الشدائد التي كان المشركون الأولون يُخلصون فيها الدعاء لله، هؤلاء كلما اشتد بهم الكَرْب زاد شركهم، فصاروا يستغيثون بالأولياء، فالسفينة- أو المركب- إذا كرق في البحر- أو أشفى على الغرق- صاروا ينادون عليًّا، أو فلاناً، أو فلاناً؛ أدركنا، المدد يا فلان، ولا يقولون: يا الله، مع أن المشركين الأوّلين إذا مسّهم الضر في البحر ضل من يدعون إلاَّ الله سبحانه وتعالى، فينادون الله، ويُخلصون له الدين، فإذا أنجاهم إلى البر عادوا إلى الشرك . والنذر على قسمين. نذر طاعة، ونذر معصية. فنذر الطاعة مثل: الاعتكاف في المسجد الحرام، أو الصلاة في المسجد الحرام، أو المسجد الأقصى، أو المسجد النبوي أو غيرها من المساجد ينذر أن يصلي في أحد المساجد الثلاثة، ويسافر إليه من أجل ذلك، هذا نذر طاعة، وهو في الأصل غير واجب، لكن لما نذره وجب عليه بنذره، والدخول في النذر ابتداءً غير مرغّب فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر، قال: "لا تنذروا، فإن النذر لا يأتيج / 1 ص -182- وقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ}. بخير، وإنما يُستخرج به من البخيل"، وذلك لأن الإنسان في سَعَة في أمور الطاعة غير الواجبة، إن شاء فعلها وله أجر، وإن شاء تركها ولا حرج عليه، والله لا يحب لنا أن نكلف أنفسنا شيئاً لم يوجبه علينا: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وإدخال الإنسان نفسه في نذر غير واجب عليه في الأصل، قد يعجز، وقد يشق عليه، وعلى هذا تُنزَّل الأدلة التي تمدح الذين يوفون بالنذر، قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7)} هذا مدح لهم، بعد أن ينذروا، ليس مدحاً للدخول في النذر، وإنما هو مدح للوفاء به بعد لزومه، فالإنسان إذا التزم شيئاً لله من الطاعة وجب عليه الوفاء، قال صلى الله عليه وسلم: "اقضوا الله، فالله أحق بالقضاء". ونذر الطاعة دَين في ذمة المسلم؛ يجب عليه الوفاء به، ومن هنا مدحهم الله. فوجه الاستدلال من الآية الكريمة على أن النذر لغير الله شرك: لأنها دلّت على أن النذر عبادة، لأن الله مدح الموفين به، وإذا كان عبادة فصرفه لغير الله شرك. وفي الآية الثانية من سورة البقرة قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} ولازم ذلك: أن يجازيكم عليه، وهذا من باب الحث على الوفاء بالنذر. ووجه الاستدلال من الآية الكريمة من وجهين: الوجه الأول: أن الله قرن النذر بالنفقة، والنفقة في سبيل الله طاعة، فدلّ على أن النذر طاعة. الوجه الثاني: قوله: "{فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ}" وهذا من باب الحث على النفقة، وعلى الوفاء بالنذر؛ فدلّ على أنه طاعة، وإذا كان النذر طاعة، فإن صرفه لغير الله شرك. هذا وجه استدلال المصنّف رحمه الله. ج / 1 ص -183- وفي الصحيح: عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال: "وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها" عائشة هي أم المؤمنين، بنت أبي بكر الصديق- رضي الله تعالى عنها-، عقد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في سن السابعة، ودخل بها وهي في سن التاسعة. وهذا فيه دليل على جواز تزويج الصغيرة وإن لم يكن لها إذن، لأنها في سن السابعة ليسن لها إذن، ولكن وليّها يقوم مقامها إذا رأى المصلحة أن يزوّجها وهي صغيرة، بأن يزوجها من رجل صالح، أو من عالم تقي، لأن لها مصلحة في ذلك، كما زوّج الصدِّيق رسول الله هذه الطفلة الصغيرة التي هي في سن السابعة، وهي في هذا السن ليس لها إذن، لكن وليّها يقوم مقامها إذا رأى المصلحة. كما أن فيه دليلاً على تزوج الكبير بالشابة، والآن ينادون ويحذّرون منه، ويشنِّعون على تزويج الكبير، ويعتبرونه جريمة، ووحشيّة، ويندّدون بمن فعله في الصحف والمجلاّت ووسائل الإعلام، بل ربما في الخطب والمحاضرات، وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم سيّد الخلق تزوّج عائشة وهو في سن الخمسين تقريباً، وهي في سن السابعة، فدلّ على أنه لا بأس به، بل يرغب في تزويج الكبير من الشابّة إذا كانت المصلحة في ذلك، وأن هذه سنة نبويّة، فمن أنكر تزويج الكبير من الشابّة فإنه يُنكر سنة نبويّة، هذا إذا كانت المصلحة في ذلك. أما إذا لم يكن هناك مصلحة، وإنما هو استغلال من وليّ هذه الطفلة من أجل أن يأكل مهرها، ومن أجل أن يستغل تزويجها، وهي ليس لها مصلحة؛ فهذا لا يجوز. إنما نقول: إذا كانت المصلحة في ذلك فلا حرج في تزويج الكبير من الشابة، إذا كان في ذلك مصلحة وخير، وأن هذا من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. وكانت رضي الله عنها أفضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما عدا خديجة رضي الله عنها، فهناك خلاف: هل خديجة أفضل من عائشة؟، أو عائشة أفضل من خديجة؟. من العلماء من قال: بأن خديجة أفضل من عائشة، ومنهم من كال:. عائشة أفضل من خديجة. والحقيقة أن لكل منهما فضائل لا تشاركها فيها الأخرى، لعائشة فضائل لا تشاركها فيها خديجة، ولخديجة فضائل لا تشاركها فيها عائشة. والإجماع ج / 1 ص -184- "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصِه". على أن خديجة وعائشة أفضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم، إنما الخلاف في أيِّهما أفضل. وكانت عائشة فقيهة من فقهاء الصحابة، وكانت راوية للأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان كبار الصحابة يرجعون إليها في الرّواية والفتوى،- رضي الله تعالى عنها وأرضاها-، فهي عالمة فقيهة، وهي أم المؤمنين، وهي بنت الصديق الذي هو أفضل الصحابة، فلها فضائل- رضي الله تعالى عنها-، ولها مزايا. وقد روت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" الحديث صريح في أن النذر يكون طاعة، وإذا كان طاعة فهو عبادة، وإذا كان عبادة، فصرفه لغير الله شرك أكبر. هذا وجه استدلال المصنف رحمه الله بهذا الحديث للباب. فقوله: "من نذر أن يطيع الله" بصلاة، بصيام، بحج، بعمرة، بصدقة، باعتكاف، أو بغير ذلك من أنواع الطاعات. "فليطعه" بفعل هذا النذر. فدلّ هذا على أن النذر عبادة، وعلى أنه يجب الوفاء به، لأنه دَين لله عزّ وجلّ في ذمة الناذر. "ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" كان نذر أن يقطع رحمه، وأن لا يصل أباه أو أمه أو أخاه. فهذا نذر معصية لا يجوز له الوفاء به، أو نذر أن يقتل فلاناً؛ فهذا لا يجوز الوفاء به لأنه معصية، لأن القتل بغير حق معصية كبيرة، فلا يجوز الوفاء به، أو نذر أن يترك الصلاة، أو أن يشرب الخمر. كل هذه نذور معصية، سواء كانت المعصية بترك واجب أو بفعل محرّم، من نذر ذلك فإنه لا يجوز له الوفاء بهذا النذر، لأنه معصية لله. ومن ذلك- بل أولى-: إذا نذر للقبور، لأن النذر للقبور شرك وهو من أعظم المعاصي، فلا يجوز له الوفاء به كما إذا نذر أن يذبح للبدوي، أن يذبح لأيّ ضريح من الأضرحة، أو أن يذبح للجن، أو أن يذبح للأولياء والصالحين يرجو نفعهم أو دفع الضرر عنه بالذبح لهم؛ فهذا من أعظم أنواع المعصية، ويدخل في قوله: "ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه"، لأن المعصية قد تكون شركاً، وقد تكون دون ذلك. ج / 1 ص -185- فالحديث إذاً دليل على أن النذر عبادة، وأنه إذا نذر عبادة وجب عليه الوفاء بها، ولو صرفها لغير الله صار مشركاً، وعلى أنه لو نذر فعل الشرك، فإنه لا يجوز له الوفاء به، وكذلك إذا نذر المعصية التي هي دون الشرك، لا يجوز له الوفاء بنذر المعصية، وهذا محل إجماع: أنه لا يجوز له الوفاء بنذر المعصية، ولكن اختلفوا: هل تجب عليه كفّارة يمين أو لا تجب؟، من العلماء من رأى أنه تجب عليه كفّارة يمين بدل النذر، ومنهم من يرى أنه لا يجب عليه كفّارة يمين، نظراً لأن نذر المعصية غير مُنْعَقِد أصلاً، فليس فيه كفّارة يمين. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث نهى عن فعله ولم يأمر بالكفارة. وعلى كل حال؛ تبيّن لنا من خلال هذه الآيات الكريمة وهذا الحديث أن النذر عبادة، وإذا كان عبادة فصرفه لغير الله شرك. فما يفعله عُبّاد القبور، والمتصوّفة، والمخرِّفون، من هذه النذور التي تقدّم للقبور، أو تقدّم للجن والشياطين، أو حتى للأولياء والصالحين، أنها عبادة لغير الله عزّ وجلّ، وشرك بالله عزّ وجلّ، فلا يجوز عملها، ويجب المنع منها، والتحذير منها، وأن هذه النذور باطلة، لا يجوز له الوفاء بها، فإن وَفَى بها ونفّذها صار مشركاً بالله الشرك الأكبر، فيجب عليه أن يتوب وأن يدخل في الإسلام من جديد. فهذا في النذر الواحد، فكيف بالذي أفنى عمره بالنذور، وضيع ماله بالنذور، كلما أحسَّ بشيء، أو خاف من شيء صار يَنْذُر للأولياء والصالحين؟!. فالمسألة خطيرة جداً. ولكن مهما عمل الإنسان من الشرك والكفر إذا تاب، تاب الله عليه، ولو أفنى عمره في الشرك والكفر ثم تاب توبة صحيحة تاب الله عليه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} فلو أن هؤلاء القبوريّين تابوا إلى الله لتاب الله عليهم. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#17
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد بابٌ من الشرك الاستعاذة بغير الله ج / 1 ص -186- [الباب الثالث عشر:] * بابٌ من الشرك الاستعاذة بغير الله وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً(6)}. وهذا كالأبواب التي قبله في بيان أنواع الشرك التي يمارسها بعض الناس في مختلف الأزمان، ولا تزال تُمارس عند كثير من الناس. والاستعاذة معناها: الاعتصام والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى في دفع المكروه والشرور. وهو نوع من أنواع العبادة، لأن دفع الضرر، ودفع الشرور لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، فكل ما لا يقدر عليه إلاَّ الله فإنه لا يُطلب إلاَّ من الله، فإن طُلب من غيره كان ذلك شركاً، هذا وجه كون الاستعاذة بغير الله من الشرك، لأن الاستعاذة عبادة، وصرف العبادة لغير الله شرك، لماذا كانت عبادة؟، لأنها طلب دفع الضرر الذي لا يقدر على دفعه إلاَّ الله، وطلب ما لا يقدر عليه إلاَّ الله من غير الله شرك، ولأن الله تعالى أمر بالاستعاذة به دون غيره، قال تعالى في آيات من القرآن: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(36)}، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(1)}، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)}، كما أنه سبحانه بيّن أن الاستعاذة بغيره من الشرك وذلك في سورة الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً(6)}، وفي سورة الأنعام: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}، ففي هذه الآيات ما يبيّن أن الله أمر بالاستعاذة به وحده، ومنع من الاستعاذة بغيره، فدلّ على أن الاستعاذة عبادة، لا يجوز أن تُصرف لغير الله سبحانه وتعالى. قال الشيخ رحمه الله: "وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً(6)}" هذه من جُملة الانتقادات التي انتقدها الجن الذين استمعوا للقرآن ج / 1 ص -187- وآمنوا به، انتقدوها على قومهم من الجن، كما في قوله تعالى في أول السورة: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً(1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً (3)}، وبعد ما نزّهوا الله عن الشرك، وتبرءوا منه، جعلوا ينتقدون أقوامهم وما يفعلونه مما يخالف التّوحيد، ولهذا قالوا: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7)} إلى آخر السورة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أهل الطائف يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، فردُّوه ردًّا قبيحاً، وأَغْرَوْ عبيدهم وسفهاءهم يرجمونه بالحجارة عليه الصلاة والسلام رجع إلى مكة، وقد خرج من مكة على حالة شديدة: مات عمه الذي كان يدافع عنه، وماتت زوجته خديجة التي كانت تُؤَنِّسه، وكانت له نِعْم المعين على دعوته، ثم لما خرج إلى الطائف أُصيب بهذا الرد القبيح، اشتدت به الحال صلى الله عليه وسلم جدًّا، وبينما هو كذلك يسّر الله له من الجن من استمع إلى القرآن وآمن به، وذلك أنه لما رجع من الطائف، وبلغ وادي نَخْلَة - بين مكة والطائف-، قام يصلي الفجر ويقرأ القرآن، واستمع له الجن، فأُعجبوا بالقرآن- كما في هذه السورة، وفي سورة الأحقاف-: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ(29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} يعني: بعد التوراة، { يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(31)}، وفي سورة الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً(1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ}، فهذا فيه فرج من الله سبحانه وتعالى لنبيه، وتسلية لنبيه، وأن الله يقيِّض له من يتبعه ويؤمن به، لأنه مبعوث إلى الإنس والجن. "{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ}" الإنس: بنو آدم. "{يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ}" الجن المُراد بهم: عالم من عالم الغيب، يعيشون معنا في هذه الأرض، وهم مكلّفون، مأمورون بطاعة الله، ومَنْهِيُّون عن معصية الله، مثل الإنس، لكننا لا نراهم، قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ} يعني: إبليس {هُوَ وَقَبِيلُهُ} ج / 1 ص -188- يعني: جماعته من الجن {مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ}، فهم يروننا ونحن لا نراهم، وقد يتصوّرون بصور متشكّلة، ويتصوّرون بصور حيّات، وبصور حيوانات، وبصور آدميين، أعطاهم الله القُدرة على ذلك، وهم عالم مخلوق من نار، والإنس خُلقوا من الطين، كما قال تعالى: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ(14)} يعني: من الطين، {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ(15)} الجان: جمع جنِّي، سُمُّوا بالجن لاجتنانهم أي: استتارهم عن الأنظار، ومنه سُمِّي الجَنين في بطن أمه لأنه لا يُرى، فهو مُجْتَنّ في بطن أمه، ومنه المِجن الذي يتّخذ في الحرب يتوقّى به المقاتل سهام العدو، سُمِّي مِجَنًّا لأنه يُجِنُّه من السهام، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "الصوم جُنّة" بمعنى: أنه ساتر بين العبد وبين المعاصي، يستتر به من المعاصي، ومن كيد الشيطان، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً} {جَنَّ عَلَيْهِ} يعني: غطّاه ظلام الليل. فالحاصل؛ أن الجن عالم خفي، لا نراهم، وهم يعيشون معنا، وهم مكلّفون كما كُلِّفنا بالأوامر والنواهي. "{فَزَادُوهُمْ}" زاد الجن الإنس، "{رَهَقاً}" أي: خوفاً، فالجن تسلّطوا علىوالإيمان بوجودهم من الإيمان بالقلب، تصديقاً لخبر الله سبحانه وتعالى، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، فوجود الجن ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، ومن جحد وجود الجن فهو كافر، لأنه مكذِّب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين، وهل كل ما لا يراه الإنسان يُنكر؟. وقد ظهرت طائفة من جهلة الأطباء- كما يقول الإمام ابن القيّم-، وكذلك من بعض المفكِّرين والكُتّاب المنتسبين للإسلام؛ ينكرون وجود الجن، لأنهم لا يؤمنون إلاَّ بما تقرّه عقولهم، وعقولهم لا تتّسع للتصديق بهذه المغيّبات، وكذلك الجن يمسُّون الإنس ويخالطونهم ويصرعونهم، وهذا شيء ثابت، لكن من جَهَلَة الناس من يُنكر صَرْع الجن للإنس، وهذا لا يَكْفُر، لأن هذه مسألة خفيّة، ولكنه يُخطّأ، فالذي يُنكر مسّ الجن للإنس لا يُكَفَّر، ولكن يضلّل، لأنه يُكذِّب بشيء ثابت، أما الذي يُنكر وجودهم أصلاً فهذا كافر، فقوله تعالى: "{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ}" أي: يلتجئون إليهم ليدفعوا عنهم الشرور. الإنس لمّا رأوهم يعوذون بهم، وزادوهم خوفاً وقلقاً، وأُعجبوا بأنفسهم، وقالوا: إننا أَخَفْنا الإنس، وصاروا يستعيذون بنا. وسبب نزول هذه الآية: أن العرب كانوا في الجاهلية إذا نزلوا منزلاً قال أحدهم: أعوذ بسيّد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فأنزل الله هذه الآية: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ}. فهذه عقيدة جاهليّة، أبطلها الله سبحانه وتعالى بالأمر بالاستعاذة به وحده لا شريك له، وذلك في قوله: "عن خَوْلَة بنت حكيم"- رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامّات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك"رواه مسلم. هذه هي الاستعاذة الشرعية البديلة من الاستعاذة الشركية. فقوله: "أعوذ بكلمات الله التّامّات من شر ما خلق" كلمات الله: المُراد. بها: كلامـه سبحانه وتعالى المنزّل على رسوله صلى الله عليه وسلم. والاستعاذة بالقرآن مشروعة، لأن القرآن كلام الله، فالاستعاذة بالقرآن استعاذة بصفة من صفات الله، وهي الكلام، وليست استعاذة بمخلوق. واستدلّ أهل السنّة والجماعة بهذا الحديث على أن القرآن غير مخلوق، لأنه لا تجوز الاستعاذة بالمخلوق، فلو كان القرآن مخلوقاً- كما تقوله الجهمية والمعتزلة- لصار هذا من الاستعاذة بالمخلوق، وهي شرك، كما دلّ هذا الحديث على مشروعية الاستعاذة بالله عزّ وجلّ، وترك الاستعاذة بغيره سبحانه وتعالى. وقوله: "التّامّات" أي: الصادقات العادلات، التي لا يتطرّق إليها نقص، لأن كلام الله سبحانه وتعالى كامل، لأن الله جل وعلا كامل وصفاته كاملة، وكلامه كامل لا يتطرّق إليه النقص: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(42)}، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)}. ج / 1 ص -190- فكلمات الله تامّة، لا يتطرّق إليها نقص بوجه من الوجوه، ولذلك كان القرآن الكريم كاملاً، لا يتطرّق إليه نقص، واف بحوائج الناس، والحكم فيما بينهم، وإزالة الشكوك والشرك والكفر والإلحاد، وبيان الأحكام والعدل بين الناس، كل هذا في القرآن، لأنه كلام الله سبحانه وتعالى، وفضل كلام الله على كلام غيره كفضل الله سبحانه وتعالى على خلقه. فالحاصل؛ أن الكتاب والسنّة قد دلاّ على أن الاستعاذة عبادة، وما دام أنها عبادة، فالاستعاذة بغير الله تكون شركاً أكبر يَخرج به صاحبه من الملّة، فالذي يستعيذ بالجن أو بالشياطين يكون كافراً الكفر الأكبر، مشركاً بالله عزّ وجلّ، كالذين يكتبون الحُجُب والطلاسم، ويستعيذون بالشياطين وبِمَرَدَة الجن، ويكتبون أسماء الشياطين في كتاباتهم، وفي طلاسمهم، وكذلك الذين ينادون الجن عند الشدّة وعند الخوف هذا- أيضاً- كله من الشرك الأكبر لأنه استعاذة بغير الله سبحانه وتعالى، ومن هذا -أيضاً- من يستعين بالجن عندما يتخاصم مع أحد فيقول: يا جن خذوه، افعلوا به كذا وكذا. وهذا شرك بالله عزّ وجلّ إذا كان يقصد الاستعانة بهم، وكذلك الذي يعالج الناس بالاستعانة بالجن وسؤالهم عن المرض أو عن الذي سحر المريض. وفي قوله تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ}، قال العلماء في تفسير هذه الآية: "استمتاع الإنس بالجن: أنهم يستعيذون بهم مما يكرهون، ويطلبون منهم ما يريدون، فالجن تخدمهم، وتحضّر لهم الغائب والبعيد، وتقضي بعض حوائجهم، لأن هناك أشياء لا يقدر عليها الإنس، فهم يستعيذون بالجن، ويستمتعون بالجن، بمعنى: أن الإنس يستخدمون الجن في بعض أمورهم، هذا استمتاع الإنس بالجن. واستمتاع الجن بالإنس: أن الإنس يخضعون لهم ويعظمونهم ويجلّونهم، ففي هذا استمتاع للجن بالإنس، فكل من الفريقين استمتع بالآخر، هذا استمتع بحصول حوائجه، وهذا استمتع بتعظيمه، وصرفه هذا الإنسي إلى الكفر بدل الإيمان. فدلّ على أن الاستعانة بالجن شرك أكبر، ولو سميت بغير الشرك، لو سميت: بالاستخدام، أو الزار، أو ما أشبه ذلك من الأسماء. ج / 1 ص -191- فالواجب أن الإنس يتوبون إلى الله سبحانه وتعالى من ممارسة هذه الأعمال مع الجن. والواجب على الجن: أن يتوبوا إلى الله من إضلال الإنس وإغوائهم، لأن الكُل عباد من عباد الله، يجب عليهم مخافة الله وخشيته والرغبة إليه، وطاعته، وطاعة رسله، وترك ما حرّم الله. وقد تلاعب بعض الأشرار من الإنس بعقائد الناس، وبأكله لأموالهم، وشعوذته عليهم، ولاسيما عند البوادي والقرى البعيدة عن حضور مجالس الذكر، فإن هذا يكثر كلما كثر الجهل، وحقيقة هذا أنه عَمِيل للجن، وأنه مشرك بالله عزّ وجلّ، ولا يقتصر شره على نفسه، بل يضلِّل الناس، ويُفسد عقائد الناس، ويأتي إليه الناس ويسألونه، ويُخبرهم بالمغيّبات، أو يأمرهم بالذبح لغير الله، أو غير ذلك من أنواع الشرك. فهذه مسألة خطيرة، يجب على أهل العلم وعلى الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أن يبيّنوها للناس، وأن يتجوّلوا في القرى، وفي البوادي، ويوضِّحوا هذا الأمر للناس، لأنهم - والله أمانة في أعناق طلبة العلم، وفي أعناق الدعاة-، هذا هو المطلوب. أما أنك تتكلّم أمام الناس عن قضايا السياسة ونحوها؛ فهذه ما فائدة الناس منها؟، ما فائدة البدو في الصحراء، أو الناس في القرية، ما فائدتهم من هذه الأمور؟، وهم واقعون في الشرك، أو يجهلون قراءة الفاتحة التي هي ركن من أركان الصلاة؟!، يجب علينا أن نتقي الله سبحانه وتعالى، وأن نعلم أن منهج الرسول صلى الله عليه وسلم: دعوة، وتعليم، وإرشاد، وتوجيه فيما ينفع الناس، وأيضاً معالجة ما وقع فيه الناس في بلدهم وفي أنفسهم. أما أنك تجلب لهم مشاكل من بعيد، وتريد منهم أن يعالجوا قضية أمريكا، أو قضية الجزائر، أو قضية السودان؟، وهم مساكين، ما بيديهم شيء، وأيضاً هم واقعون فيما هو أخطر من ذلك وهو الجهل وفساد العقيدة، لماذا لا تعالج هذا الأمر؟. وأنا ليس غرضي بهذا الكلام أن أتنقّص أحداً، لا والله، ولكن غرضي أن أبيّن الطريقة الصحيحة للدعوة، ونفع الناس. فإن هذه الأبواب من أبواب "كتاب التّوحيد" تُعالج واقع الناس، لماذا ج / 1 ص -192- لا نشرحها للناس، ونبيّنها للناس، ونوضِّحها، ونحفِّظهم هذه الآيات وهذه الأحاديث ونشرحها لهم، ولو شرحاً وجيزاً على قدر أفهامهم، ينتفعون بها؟. هذه هي الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، وهذا العلم النافع. تعلمون ما للدعاة من الأثر وماذا حصل بسبب دعوتهم من الخير: فالشيخ: محمد بن عبد الوهاب، كيف أثر في دعوته من الإصلاح والنّفع للمسلمين، الذي لا نزال ننتفع به- ولله الحمد-. الشيخ: عبد الله القرعاوي في الجنوب، كما تعلمون إلى عهد قريب، والآن تلاميذه وطلاّبه ماذا أثّر من الخير؟. الشيخ: فيصل بن مبارك في الشمال، ماذا أثّر من الخير، ولا يزال تلاميذه الآن مصابيح هدى، يبيِّنون للناس الحق. أما أن تجلب للناس مشاكل الخارج وتشغلهم بها؛ فهذه ما هي بدعوة إلى الله، وإنما هي اشتغال بأمور لا تفيد الناس، ولا تحل مشاكلهم، ولا تُصلح فسادهم، وإنما تُحْبِط أفهامهم، وقد تسبِّب سوء الظن بالمسلمين وبولاة الأمور، وتفرّق الكلمة. فالواجب علينا أن نتنبّه لهذا. أنا ما أقول هذا من أجل الغَمْط من أحد، لا والله، ولكني أتأسف من واقع بعض الدعاة الذي تردّى إلى هذا المستوى. ونسأل الله سبحانه أن يأخذ بأيدينا وأيديهم إلى الصلاح والفلاح والاستقامة، والسير على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم فيما ينفعنا وفيما ينفع الناس، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(104)}، هذا منهج الرسل- عليهم الصلاة والسلام-. نسأل الله عزّ وجلّ أن يوفقنا جميعاً لما فيه خيرنا وخير أمتنا، وصلاحنا وصلاحهم، وأن يصلح ولاة أمورنا، وأن يأخذ بأيديهم إلى ما فيه الخير للأمة، وما فيه صلاح الأمة. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#18
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد بابٌ من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعوَ غيره ج / 1 ص -193- [الباب الرابع عشر:] * بابٌ من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعوَ غيره هذا الباب جاء في سياق الأبواب التي تبيّن أنواعاً من الشرك يقع فيها بعض الناس في مختلف العصور والأزمان. فقوله: "من الشرك"، أي: من أنواع الشرك الأكبر: "أن يستغيث بغير الله" فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله. والاستغاثة: طلب الغوث، ولا تكون إلاَّ في وقت الشدّة. وأما الدعاء فهو عام في وقت الشدّة وفي غيرها، فعطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص. والاستغاثة بالمخلوق على قسمين: القسم الأول: الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله سبحانه وتعالى، فهذه هي الشرك الأكبر، لأنها صرف للعبادة لغير الله سبحانه وتعالى. أما الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه المخلوق كاستغاثة بغيره في الحرب ليساعده ويناصره على عدّوه؛ فهذا جائز، كما قال الله تعالى عن موسى عليه السلام: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}، فالاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه- كالاستغاثة بالأموات والغائبين- شرك أكبر، لأنه يستغيث بمن لا يقدرون على شيء أبداً، فالذين يستغيثون بالأضرحة، وبالأولياء وبالصالحين، والأموات، أو يستغيثون بالغائبين من الجن، أو بالشياطين، كل هذا من النوع الممنوع. أما الدعاء، فهو أعم من الاستغاثة- كما سبق-، وهو نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة. ودعاء العبادة هو: الثناء على الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته. ودعاء المسألة هو: طلب الحاجات من الله سبحانه وتعالى. ويجتمع النوعان في سورة الفاتحة، فقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2)}، هذا دعاء عبادة، لأنه ثناء على الله، وقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ج / 1 ص -194- وقول الله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ(106)}. دعاء عبادة، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4)} دعاء عبادة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، دعاء عبادة، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إلى آخر السورة دعاء مسألة. ولهذا يقول الله جل وعلا في الحديث القدسي: "قسمت الصلاة" يعني: الفاتحة، سماها صلاة لأنها دعاء "بيني وبين عبدي نصفين" لأن أولها دعاء عبادة الله، وآخرها دعاء مسألة، والعلاقة بين دعاء العبادة ودعاء المسألة: أن دعاء العبادة مُسْتَلْزِم لدعاء المسألة، فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4) } يلزم من هذا أنه يسأل الله سبحانه وتعالى، ودعاء المسألة متضمِّن لدعاء العبادة، بمعنى: أن دعاء العبادة داخل في دعاء المسألة، فالذي يسأل الله حوائجه يتضمّن سؤاله أنه يعبد الله بذلك. قال: "وقول الله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106)}"، والآية التي تليها: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(107)} الآيتان من آخر سورة يونس. يقول الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: "{وَلا تَدْعُ}" هذا نهي من الله لنبيه عن دعاء غير الله، والخطاب الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم موجه إلى أمته، إلاَّ إذا دلّ دليل على اختصاصه به، فهذا النداء عام للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته، ولأنه إذا نُهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فغيره من باب أولى. "{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ}" أي: غير الله. "{مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ}" "{مَا}" موصولة، أي: الذي لا ينفعك ولا يضرك، وذلك لأن المدعو إما أن يُطلب منه جلب خير، وإما أن يطلب منه دفع ضرر، وهذا إنما يختص بالله سبحانه وتعالى، فإنه هو الذي يقدر على دفع الضرر وجلب الخير، ودعاء الأموات وأصحاب القبور والأصنام والأوثان والأشجار والأحجار، لا يجلب خيراً ولا يدفع ضرراً. وكل ما يُدعى من دون الله فهو بهذه المثابة، لا ينفع ولا يضر، ج / 1 ص -195- لأنها إما أحجار جامدة، وإمّا صور وتماثيل، وإما قبور هامدة، وإما أشجار، أو غير ذلك، فهي مخلوقات لا تقدر على جلب نفع ولا دفع ضرر، فالدعاء إنما يصلح أن يوجه لمن يقدر على ذلك، وهو الله سبحانه وتعالى. "{فَإِنْ فَعَلْتَ}" يعني: دعوت غير الله مما لا ينفعك ولا يضرك، وهذا من باب الافتراض، وإلاّ محال أن النبي صلى الله عليه وسلم سيفعل ذلك، ولكن لو قُذُّر أنه فعله وهو أكرم الخلق، فإنه يكون من الظالمين، فكيف بغيره، إذا دعا غير الله؟، وهذا مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(65)} يعني: أوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى غيره من الأنبياء السابقين أنه لو قُدِّر أن أحداً منهم- وحاشاهم عليهم الصلاة والسلام- دعا غير الله، وأشرك بالله حبط عمله، وصار من الخاسرين ولو كان من الأنبياء، فكيف بغيرهم؟، ولما ذكر الله سبحانه وتعالى إبراهيم وذريته، فقال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)}، لما ذكر الله سبحانه وتعالى أنبياءه في هذه الآيات قال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، لو أشرك هؤلاء الأنبياء {لَحَبِطَ} أي: لبَطَلَ {عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: بطلت جميع أعمالهم. فدلّ على أن الشرك مُحبط للأعمال، ولو صدر من خير الخلق، وهم الأنبياء، فكيف إذا صدر ممن هو دونهم؟، إذا هو يُخرج من المِلّة، ويُحبط جميع الأعمال، فالدعاء عبادة، بل هو أعظم أنواع العبادة، قال صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" كما قال صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة" يعني: أعظم أركان الحج عرفة، فكذلك أعظم أنواع العمادة الدعاء. ثم قال تعالى: "{فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ}" يعني: من المشركين، لأن الشرك أعظم أنواع الظلم، كما قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، والظلم في الأصل: وضع الشيء في غير موضعه، والشرك وضع للعبادة في غير مستحقها، فلذلك صار أعظم أنواع الظلم. ج / 1 ص -196- {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} الآية. وقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}. وقوله: "{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ}" هذا تقرير لإبطال دعاء غير الله، "{فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ}" هذا- أيضاً- فيه إبطال دعاء غير الله، لأن هذه المدعوات لا تقدر على كشف الضر، ولا تقدر على جلب الخير، وهذا كما في قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً(56)}، {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}، وفي قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2)}، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن الناس لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلاَّ بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلاَّ بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجَفَّتِ الصحف". فالنفع والضرر إنما هو من الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يستحق أن يُدعى لطلب الخير، ويُدعى- أيضاً- لرفع الشر، وكشف الضر، هو الذي يملك ذلك سبحانه وتعالى، لا تملكه جميع المخلوقات، وكذلك في سورة الأنعام: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(17)}، فالنفع والضر بيد الله سبحانه وتعالى، فيجب على العباد أن يتوجهوا إلى الله، وأن يدعو الله وحده، ولا يدعوا معه غيره سبحانه وتعالى. قال: "وقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}" وكمال الآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} هذا من جملة ما ذكره الله تعالى عن خليله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- مما خاطب به قومه قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)}. ج / 1 ص -197- فقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} لأن الرزق من الله سبحانه وتعالى فهو الرزاق: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ(58)}، {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ}، فلو أنّ الله منع المطر من السماء الذي هو سبب الرزق واجتمع أهل الأرض كلهم أن يُوجدوا المطر لن يستطيعوا أبداً. "{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}" أي: اطلبوا الرزق من الله سبحانه وتعالى، فإن الله قريب مجيب لمن دعاه، ولا تطلبوا الرزق من الأوثان التي لا تملك شيئاً. {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} هذا فيه توجيه من الله سبحانه وتعالى لعباده أن لا يطلبوا الرزق من غيره، وأن يعبدوه ولا يعبدوا غيره، فإنهم إذا عبدوه رزقهم، كما قال تعالى: "{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ}، فالرزق إنما يُسْتَجْلَب بعبادة الله سبحانه وتعالى، وأما المعاصي فإنها تسبِّب منع الرزق، فما يحصل في الأرض من المجاعات ومن شُحّ الأرزاق إنما سببه الكفر والمعاصي، وما يحصل في الأرض من خيرات وأرزاق فسببه الطاعة والعبادة إلاَّ أن يكون استدراجاً. فهذه الآية كالتي قبلها فيها وجوب التَّوَجُّه إلى الله سبحانه بالدعاء، وطلب الحاجات، وتفريج الكُرُبات، وطلب الرزق، وأن أحداً غيره لا يملك رزقاً: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً}، فكيف يطلب الرزق ممن لا يملكه. وفاقد الشيء لا يعطيه. وقوله: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} في الدار الآخرة بعد الموت، فيجازيكم بأعمالكم. وهذا تنبيه على أن هناك دار جزاء، وأنكم إن أحسنتم فستلقون الجزاء الحسن، وإن أسأتم فستلقون الجزاء السيء، فأنتم لستم بمهملين، ولا مضيّعين، ولا متروكين، لابد لكم من موعد مع الله سبحانه وتعالى في موقف الحساب، فاستدركوا لأنفسكم قبل الموت، وتوجهوا إلى الله، وأخلصوا له العبادة، وأصلحوا ا لأعمال، لأنكم تُرجعون إلى الله، وهذا الموعد ما أحد يتخلّف عنه، لا الكافر، ولا المسلم. ج / 1 ص -198- وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} الآية. قال: "وقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}، وتتمة الآية: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ(6)}، الآيات من سورة الأحقاف. "{وَمَنْ أَضَلُّ}" لا أحد أشدّ ضلالاً، "{مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} " أي: غير الله. "{مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}" هل الصنم استجاب لأحد في يوم من الأيام؟، هل القبر استجاب لأحد في يوم من الأيام؟، هل الشجرة التي- تُعبد من دون الله استجابت لأحد؟، أبداً، ولو قُدِّر أنه يحصل للمشرك مقصوده، فهذا ليس من المعبود من دون الله، وإنما هو من الله سبحانه وتعالى، أجراه امتحاناً له، واستدراجاً له، حتى يظن أن هذا من القبر، فيستمر في الشرك- والعياذ بالله. وقد ذكر شيخ الإسلام في إحدى رسائله- أو في كثير من رسائله- ما معناه: أن ما يحصل لعبّاد القبور من قضاء الحاجات، فليس ذلك دليلاً على صحة مذهبهم، لأن حصول المقصود يكون ابتلاءً وامتحاناً من الله سبحانه وتعالى، ويكون من أجل الاستدراج كما قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ(44)}، {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا}، فالله سبحانه وتعالى يُمْهِل ويستدرج، من أجل أن يزداد هذا الكافر وهذا المشرك آثاماً يُعَذَّب بها يوم القيامة، فليس هذا من صالحه، فإذا حصل لعبّاد القبور شيء من مقاصدهم، فهذا من إهانة الله لهم، واستدراجهم. وذكر الشيخ- أيضاً- أنه يمكن أن الشياطين تتصوّر أحياناً بصورة المقبور، وتخرج على الناس الذين يدعون القبر بصورة المقبور وتخاطبهم، وتقول نحن نقضي حوائجك، والشيطان قد يأتي لهم بأشياء بعيدة، قد يسرق من أموال الناس أشياء ويأتي بها لهم، ويظنون أن هذا من الميت، والميت ما درى عن شيء من هذه الأمور، الميت مشغول بنفسه إما في نعيم وإما في عذاب في قبره، وإذا حشر الناس يوم القيامة، وبُعث هؤلاء المشركون، وبُعث هؤلاء الموتى يوم القيامة كانوا أعداءً لمن عبدهم يتبرءون من هؤلاء الذين عبدوهم في الدنيا أحوج ما يكونون إليهم، كما ج / 1 ص -199- وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}. قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ(166)}، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} يعني: الشياطين، {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} لأن الشياطين هي التي دعتهم إلى هذا الشيء فأجابوا، فهم لم يعبدوا الملائكة، وإنما عبدوا الشياطين الذين أمروهم بذلك، فالحاصل؛ أنه في يوم القيامة يتبرّأ كل من عُبد من دون الله، ممن عبده، ويحصل بينهم عداوة، بين الداعين والمدعوين. "وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ}" هذا استفهام من الله تعالى للمشركين، يقول: أنتم تشركون بالله عزّ وجلّ في حالة الرخاء، ولكن إذا وقعتم في الشدة والاضطرار دعوتم الله مخلصين له الدين فأنقذكم، فلماذا تُشركون به في حالة الرخاء؟، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً (67)}"، فالله سبحانه وتعالى يقول: إذا كان لا ينقذكم من الشدائد إلاَّ الله باعترافكم-، فكيف تُشركون به في حالة الرخاء، هل هذا إلاَّ التناقض؟. وقوله:"{وَيَكْشِفُ السُّوءَ}" أي: لا أحد يكشف السوء سواه، والمشركون يعترفون أنه لا أحد يكشف السوء إلاَّ الله سبحانه وتعالى، فلماذا يعبدون غيره؟. وتمام الآية: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} من هو الذي يداول الدنيا بين الناس، يداول الغنى والفقر، ويداول العز والذل، ويداول الملك بين الناس، فقوله: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} تخلفون الجيل الذي قبلكم في الملك، وفي الأموال، وفي العقارات، وفي كل شيء، جيل يخلف جيلاً، من هو هذا الذي يدبر هذا التدبير؟، هل هي الأصنام؟، كلا، بل هو الله، وهم يعترفون بهذا. ثم قال: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} هل يستحق أحد العبادة مع الله سبحانه وتعالى؟، هذا إلزام لهم ببطلان ما هم عليه من عبادة غير الله. ولهذا قال: {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: تنزه عن الشرك. وفى الآية السابقة فائدة عظيمة وهي: أن الله سمّى الدعاء عبادة، فقال: {وَكَانُواج / 1 ص -200- روى الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم رجل منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}، لأنه في أول الآية قال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو}، وإذا كان الدعاء عبادة فصرفه لغير الله شرك، كما في الآية الأخرى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}، يعني: عن دعائي، فسمّي الدعاء عبادة، وإذا كان الدعاء عبادة فصرفه لغير الله شرك. قوله: "كان رجل" لم يذكر اسمه هنا، وورد أنه عبد الله بن أبي، رأس المنافقين. "منافق" النفاق هو: إظهار الخير وإبطان الشر، وهو نوعان: نفاق اعتقادي، ونفاق عملي. والنفاق الاعتقادي كفر أكبر، وصاحبه في الدرك الأسفل من النار، ومعناه: أن يُظهر الإيمان ويُبطن الكفر. وسبب النفاق: أنه لما اعتزّ الإسلام بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم صار هناك أُناس يريدون العيش مع المسلمين، ولكنهم لن يستطيعوا أن يعيشوا بين المسلمين إلاَّ إذا أظهروا الإسلام، وهم لا يريدون الإسلام ولا يحبُّون الإسلام، فلجأوا إلى حيلة النفاق، وهي: أن يُظهروا الإسلام من أجل أن يعيشوا مع المسلمين، ويبقوا في قرارة نفوسهم على الكفر. فسموا بالمنافقين، هذا هو النفاق الاعتقادي. وأما النفاق العملي فمعناه: أن بعض المسلمين الذين عقيدتهم سليمة ومؤمنون بالله، لكنهم يتصفون ببعض صفات المنافقين، مثل: الكذب في الحديث، والغدر في العهد، وإخلاف الوعد، قال صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان"، هذا نفاق عملي، صاحبه مؤمن، ولكن فيه خَصْلَة من خصال المنافقين، وهي خطيرة جدًّا، ربما أنها تؤول إلى النفاق الأكبر إذا لم يتب منها. "يؤذي المؤمنين" بمعنى: أنه يضايق المسلمين بكلامه وبتصرّفاته، يسخر منج / 1 ص -201- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله". المسلمين، يتلّمس معايب المسلمين، ينال من الرسول صلى الله عليه وسلم، وينال من المؤمنين، ويتتبّع العثرات. فدلّ على أن إيذاء المسلمين من النفاق. "قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم" يعني: نستجير به، ونحتمي به "من هذا المنافق" ليردعه عنا ويكفّه عنا."فقال بعضهم" لم يسمّ القائل، وقد ورد في بعض الروايات أنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه. والنبي صلى الله عليه وسلم استنكر هذه اللفظة، فقال: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يُستغاث بالله عزّ وجلّ" مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قادراً على أن يَرْدَع هذا المنافق؟، وأن يُغيث المسلمين من شرّه؟، بلى، هذا من الاستغاثة الجائزة، لأنه استغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم فيما يقدر عليه، لكن الرسول تأدُّباً مع الله سبحانه وتعالى، وتعليماً للمسلمين أن يتركوا الألفاظ التي فيها سوء أدب مع الله عزّ وجلّ، وإن كانت جائزة في الأصل، فقال: "إنه لا يُستغاث بي" وهذا من باب التعليم وسدّ الذرائع لئلا يُتَطَرَّق من الاستغاثة الجائزة إلى الاستغاثة الممنوعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم منع من شيء جائز خوفاً أن يُفضي إلى شيء غير جائز، مثل ما منع من الصلاة عند القبور، والدعاء عند القبور، وإن كان المصلي والداعي لا يدعو إلاَّ الله، ولا يصلِّي إلاَّ لله، لكن هذا وسيلة من وسائل الشرك، كذلك هنا؛ فالرسول أنكر هذه اللفظة سدًّا للذرائع، وتعليماُ للمسلمين، أن يتجنّبوا الألفاظ غير اللائقة. فإذا كان الرسول أنكر الاستغاثة به فيما يقدر عليه، فكيف بالاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله سبحانه وتعالى؟، وكيف بالاستغاثة بالأموات؟. هذا أشد إنكاراً. وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم منع من الاستغاثة الجائزة به في حياته تأدُّباً مع الله، فكيف بالاستغاثة به بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؟، وكيف بالاستغاثة بمن هو دونه من الناس؟. هذا أمر ممنوع ومحرّم. وهذا وجه استشهاد المصنف رحمه الله بالحديث للترجمة. إذاً فقول البوصيري: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلاّ قل يا زلّة القدم ج / 1 ص -202- فإن من جودك الدنيا وضرّتها ومن علومك علم اللّوح والقلم أليس هذا من أكبر الشرك؟ يقول: ما ينقذ يوم القيامة إلاَّ الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يخرج من النار إلاَّ الرسول، أين الله سبحانه وتعالى؟. ثم قال: إن الدنيا والآخرة كلها من جود الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلم اللّوح المحفوظ والقلم الذي كتب في اللوح المحفوظ بأمر الله هو بعض علم الرسول، إذ الرسول يعلم الغيب. وهذه القصيدة- مع الأسف- تُطبع بشكل جميل وحرف عريض، وتوزّع، وتُقرأ، ويُعتنى بها أكثر مما يُعتنى بكتاب الله عزّ وجلّ، فلا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم. الحاصل؛ أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان أنكر على خواص أصحابه هذه الكلمة، وقال: "إنه لا يستغاث بي" وهذا في الدنيا، مع أنه قادر على أن يغيثهم من المنافق، فكيف يُستغاث به بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، كيف يُستغاث بمن هو دونه من الأولياء والصالحين؟، هذا أمر باطل، والاستغاثة لا تجوز إلاَّ بالله، فيكون في هذا شاهد للترجمة: "بابٌ من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعوَ غيره" والمناسبة ظاهرة ولله الحمد والمنة، وكل هذا من أجل حماية التّوحيد، وصفاء العقيدة، والمنع من كل ما يُفضي إلى الشرك ولو على المدى البعيد. الشرك لا يُتساهل فيه أبداً، والطُّرُق التي توصِّل إلى الشرك لا يُتساهل فيها أبداً، وأنتم تعلمون ماذا حصل في قوم نوح، وأن الشرك حصل فيهم بسيف تعليق الصور، والغلو في الصالحين، وكانوا في وقتهم لم يشركوا، ولكن صار هذا وسيلة إلى الشرك فيما بعد؛ لما مات أولئك، ونُسي العلم أو نُسخ العلم عُبدت هذه الصور، فالوسائل إذا تُسوهل فيها أدّت إلى الشرك. فالواجب علينا منع الشرك، ومنع وسائله، وأسبابه، وأن لا نسمح بالألفاظ الشركية، ولا بأي شيء يُفضي إلى الشرك، وعلينا أن نحذر من ذلك صيانةً للعقيدة، وحماية للتّوحيد، وإشفاقاً على المسلمين من الضلال والكفر والإلحاد، فإنه ما حصل هذا الشرك في الأمة، وماج / 1 ص -203- حصل هذا الضلال في الأمة إلاَّ لما تساهل الناس في أمر العقيدة، وسكت العلماء عن بيان خطر الشرك، والتحذير من أسباب الشرك، ورأو الناس على الشرك وعبادة القبور ولم ينهوهم. هذا إذا أحسنّا بهم الظن، وقلنا: إنهم ينكرون هذا بأنفسهم، ولكن ما قاموا بواجب الأنكار، إما إذا كانوا يرون هذا جائزاً، فهذا شرك وكفر لأن من رضي به صار مثل من يفعله. نسأل الله عزّ وجلّ أن يحفظ لنا ديننا وعقيدتنا، وأن يجعلنا من الدعاة إليه بالحكمة، والدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#19
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} ج / 1 ص -204- [الباب الخامس عشر:] * بابٌ قول الله تعالى {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً} الآية. ما في هذا الباب من الأدلة من الكتاب والسنّة أراد الشيخ رحمه الله من سياقها بيان أدلة بُطلان الشرك، لأن القرآن الكريم جاء بالدعوة إلى التّوحيد، وعبادة الله وحدة لا شريك له، وجاء بالنهي عن الشرك، وهو عبادة غير الله سبحانه وتعالى، والنهي عن ذلك. فقوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} هذا استفهام، معناه: الإنكار. "{مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً}" أي: هذا الشرك باطل؛ بدليل أن هذه المعبودات من دون الله لا تخلق شيئاً، فهي عاجزة لأن الذي يستحق العبادة هو الخالق، فالذي يقدر على الخلق هو الذي يستحق العبادة، أما الذي لا يقدر على الخلق فهذا لا يستحق العبادة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} لا تجعلوا لله شركاء وأنتم تعلمون أن هذه الشركاء لا تقدر على خلق شيء، ولا على رَزْق، ولا على إحياء، ولا إماتة، فهي عاجزة، وكما في قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ(17)}، فالذي يستحق العبادة هو الخالق، أما الذي لا يقدر على الخلق فهذا عاجز لا يستحق العبادة، فكيف يُسَوَّى العاجز بالقادر؟، كيف يُسَوَّى المخلوق بالخالق سبحانه وتعالى؟: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ(20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ(21)}، وقال تعالى في تعجيز المشركين وآلهتهم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ(73)}، فهذه المعبودات بجميع أنواعها سواءً كانت أحجاراً، أو أشجاراً، أو قبوراً وأضرحة، أو ملائكة، أو أنبياء، أو صالحين من المؤمنين، كلهم يدخلون تحت هذا الوصف؛ لا يقدرون على خلق شيء، لأن المخلوق لا يستطيع أن يخلق، فكيف يُتخذ معبوداً مع الله سبحانه وتعالى؟. ج / 1 ص -205- وفي هذه الآية يقول: "{لا يَخْلُقُ شَيْئاً}" وشيئاً نَكِرَة في سياق النفي تَعُم، يعني: لا يخلقون أي شيء ولو كان قليلاً، ولو يجتمع العالم كله بما فيهم المَهَرة والصنّاع والمهندسون والأطباء، ويُطلب منهم أن يخلقوا حبة شعير ما استطاعوا. ثم قال: "{وَهُمْ يُخْلَقُونَ}" أي: هذه المعبودات التي تعبدونها مخلوقات لله سبحانه وتعالى: فهم لم يخلقوا أنفسهم، ولم يخلقوا غيرهم، فكيف تتّخذونهم مع الخالق سبحانه وتعالى؟، هل هذا إلاّ من باب المكابرة، ومن باب العِناد. فالذي يُشرك بالله أيًّا كان هذا الشيء قد قامت عليه هذه الحجة في أن هذا المعبود عاجز، لكن أين العقول التي تفكِّر؟، هؤلاء الذين يزعمون أنهم مفكِّرون، وأنهم مَهَرَة، وأنهم مثقفون، وأنهم.. وأنهم، تجدهم يخضعون للقبور، ويعبدون الأموات، ويذبحون لها، وينذرون لها، ويستغيثون بها، وهم يسمعون هذا القرآن. ثم قال سبحانه وتعالى: {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً} أي: هذه المعبودات وهذه الأصنام لا تملك نصراً لمن دعاها، إذا وقع المشرك في كُربة، أو في ضيق، أو في مرض، لا يستطيع أحد من الخلق أن يُنقذه إلاّ بإذن الله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلاّ إِيَّاهُ}، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62)}، {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}، وهنا يقول: "{وَلا يَسْتَطِيعُونَ}" لا يملك المعبودون "{لَهُمْ}" للعابدين {نَصْراً} عندما يتسلط عليهم عدو، أو يتسلط عليهم سَبُع، أو يتسلط عليهم خوف، فإنها لا تستطيع هذه المعبودات أن تنصرهم على عدوهم، {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ}، {وَمَا النَّصْرُ إلاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} فالنصر من الله سبحانه وتعالى، ولو كانت هذه المعبودات تُغني عن المشركين شيئاً ما انهزموا في بدر، ولا انهزموا في الأحزاب، ولا انهزموا يوم فتح مكة، وفي يوم حنين، وأما المؤمنون فالله نصرهم سبحانه وتعالى، وهم قِلّة، كانوا في بدر ثلاثمائة وبضعة عشر، والمشركون يزيدون على الألف، والمسلمون ليس معهم عُدّة ولا سلاح إلاّ قليل، والمشركون مُدَجَّجُون بالسلاح: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ج / 1 ص -206- وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} الآية. يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ(13)}، حتى الشيطان لما تراءى الجمعان قال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ}، أما الله جل وعلا فكان مع أوليائه، وكان مع عباده، فنصرهم على عدوّهم مع قلّة عددهم وضعف عُددهم، والمشركون لم يجدوا من ينصرهم، أين ذهبت آلهتهم؟ "{وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}"أي: هذا المعبود الضعيف إذا نزل به آفة لا يستطيع أن يُنقذ نفسه، فكيف ينقذكم؟ هذا الميت المقبور المدفون لا يستطيع أن يتخلص من الموت ومن القبر ومما هو فيه، مشغول عنكم بنفسه؛ إما في عذاب وإما في نعيم، لا يسمع دعاءكم. وهذه الأشجار والأحجار التي تعبدونها جمادات لا تستطيع نصركم ولا تنصر نفسها، الصنم الكبير يحطمه الطفل ولا يستطيع أن ينصر نفسه، يقع عليه الذباب ويقذِّره ولا يستطيع أن يَنْفي عن نفسه، الذباب الضعيف: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ}. يُروى أن بعض المشركين له صنم، فجاء الثعلب وبال عليه، فلما رآه عابده فكّر وقال: أرب يبول الثعلبان برأسه لقد هان من بالت عليه الثعالب فعند ذلك فكّر وترك عبادة الأصنام. ويدخل في هذه الآية كل ما عُبد من دون الله من الملائكة، والأنبياء، والصالحين، والأشجار، والأحجار، كلها مخلوقات ضعيفة، لا تستطيع أن تنصر نفسها، فكيف تنصر غيرها؟ وقوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أي: غير الله سبحانه وتعالى، وهذا يشمل كل ما عُبد من دون الله، لأن الاسم الموصول من صيغ العموم، فيشمل كل ما عُبد من دون الله من آدميِّين، أو أحجار، أو أشجار، أو ملائكة، أو غير ذلك. والقطمير هو الغشاء الرقيق الذي يكون على النواة وهو شيء حقير: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ}. ج / 1 ص -207- يُشترط في المدعُو ثلاثة شروط: الأول: أن يكون مالكاً لما يطلب منه. الثاني: أن يكون يسمع الداعي. الثالث: أن يكون يقدر على الإجابة. وهذه الأمور لا تتّفق إلاّ في الله سبحانه وتعالى، فإنه المالك، السميع، القادر على الإجابة، أما هذه المعبودات فهي أولاً: فقيرة، ليس لها ملك. ثانياً: لا تسمع من و دعاها. وثالثاً: لو سمعت فإنها لا تقدر على الإجابة. ففي قوله تعالى: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} انتفى الشرط الأول. وفي قوله: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} انتفى الشرط الثاني. وفي قوله: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} انتفى الشرط الثالث. إذاً بَطل دعاؤها. ثم قال سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} إذا جاء يوم القيامة يتبرّؤون منكم، وكل المعبودات من دون الله تتبرّأ ممن عبدها يوم القيامة، حتى الشيطان يتبرأ: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ}، يعني: ما أنا بمغيثكم. والصريخ: المغيث. يعني: لا أقدر على إغاثتكم {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} أنتم لا تقدرون على إغاثتي، كقوله سبحانه: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}. وكذلك الملائكة يتبرؤون ممن عبدهم يوم القيامة، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ(41)}، يعني: يعبدون الشياطين التي دعتهم إلى هذا، أما نحن براء منهم، وحاشا وكلا أن ترضى ملائكة الرحمن بأن تُعبد من دون الله، فضلاً عن أن تدعَو إلى ذلك، وإنما هذا من عمل الشياطين. وعيسى عليه السلام يقول الله له يوم القيامة: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ج / 1 ص -208- وفي الصحيح عن أنس قال: شُجَّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكُسِرت رباعيته، إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(116)مَا قُلْتُ لَهُمْ إلاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)}. وكذلك سائر المعبودات: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا} يتمنون {كَرَّةً} يعني: رجوعاً إلى الدنيا { فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} نتبرّأ من هذه الأصنام والمعبودات، {كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا} لكن أين؟، {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} نعوذ بالله. {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ(5)} لا يسمعون دعاءهم في الدنيا، {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ(6)} هذا خبر من الله سبحانه وتعالى عن مصير هؤلاء المشركين يوم القيامة، يُخبرهم بما يكون إليه الأمر يوم القيامة من أجل أن يتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا رحمة منه بعباده، ولهذا قال: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} لا ينبئك ويُخبرك عن الأشياء مثل خبير بها وهو الله سبحانه وتعالى، هو الذي يعلم الأشياء والعواقب، ويعلم المآل والمصير، وهو يُخبركم أيها الناس بأن من عبد غير الله فإنه سيتبرّأ منه يوم القيامة، فخذوا حذركم. وهذا رحمة من الله سبحانه وتعالى، وأخبر أنه لا ينبئك بالأمور وعواقبها ونتائجها وثمراتها إلاّ الخبير بالأمور، أما الجاهل فإنه لا يستطيع أن يُخبرك عن شيء، ولو أخبرك فإن خبره يكون غير صحيح، أما الله جل وعلا إذا أخبر بخبر فإنه يكون واقعاً لابد منه، وكذلك رُسُلُه، لأنهم يخبرون عن الله سبحانه وتعالى. أما هؤلاء المشعوذون والصوفيّة والمخرّفون الذين يُدعون الناس إلى عبادة الأضرحة والمقامات، ويقولون: هذه فيها بركة، وفيها.. وفيها. هؤلاء كذبة، فلا تصدقوهم. قال: "وفي الصحيح" يعني: الصحيحين. "عن أنس قال: شُجَّ النبي صلى الله عليه وسلم" الشَّجَّة هي: الجرْح في الرأس والوجه خاصة، ج / 1 ص -209- أما الجرح إذا كان في البدن فهذا لا يُسمى شَجَّةً، وإنما يُسمى جراحة. "يوم أحد": جبل يقع في الشمال الشرقي من المدينة، حصلت عنده وقعة أحد في السنة التي بعد وقعة بدر، فالمشركون تجمعوا وأرادوا الانتصار لأنفسهم، وجمعوا جنوداً بقيادة أبي سفيان بن حرب، وجاءوا يريدون الانتقام من الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، الذين أصابوهم يوم بدر، جاءوا ونزلوا عند هذا الجبل، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه الكرام من المهاجرين والأنصار، والْتقى بهم في هذا المكان، ونظّم صلى الله عليه وسلم المقاتلين، وجعل على الجبل الذي خلفهم جماعة من الرُّماة يحمون ظهور المسلمين، ودارت المعركة، والرُّماة على الجبل يحرسون المسلمين، وصار النصر في الأول للمسلمين لما كانوا يمشون على خُطّة الرسول صلى الله عليه وسلم، وشرعوا يجمعون الغنائم، فلما رآهم الرُّماة الذين على الجبل ظنُّوا أن المعركة انتهت، فقالوا: نَنْزِل نساعد إخواننا على جمع الغنائم، فقال لهم قائدهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه: لا تنزلوا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لنا: لا تتركوا الجبل، سواءً انتصرنا أو هُزمنا. ولكنهم خالفوا قائدهم ونزلوا، فلما رأى خالد بن الوليد- وكان يوم ذاك مشركاً-، لما رأى الجبل فَرَغ- وهو كان من الشُّجعان وساسة الحرب- عرف أن هذه الثغرة انفتحت لهم، فدار بمن معه، وانقضوا على المسلمين من الخلف، وما شعر المسلمون إلاّ والمشركون يضربونهم من الخلف، فحينئذ اختلط الجمعان: المسلمون والكفّار، ودارت المعركة من جديد، وأصيب المسلمون عقوبة لهم بسبب مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذا نزل قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ}، يعني: تقتلونهم، وهذا في أول المعركة، {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} عقوبة لكم. والنبي صلى الله عليه وسلم شُجَّ في رأسه، وهشم المغفرُ على رأسَه، وغاصت حلقتان في وجنته صلى الله عليه وسلم، وكُسِرت رُباعِيّته- عليه الصلاة والسلام-، ووقع في حفرة، وأشاع المشركون أن محمداً قد قُتل، فلما أشاع المشركون هذه الشائعة وصاح الشيطان بذلك، حصل على المسلمين مصيبة أكبر من مصيبة القتل، كل هذا بسبب المعصية. ج / 1 ص -210- فقال: "كيف يُفلح قوم شَجُّوا نبيهم؟" فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}. انظروا يا عباد الله، معصية واحدة وليست من الجميع، وإنما هي من بعض الصحابة حصل بسببها هذه العقوبة على خير الخلق، فكيف بنا نحن، ونحن نرتكب من المعاصي والمخالفات الشيء الكثير؟، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، فهذا فيه خطورة المعاصي، ومخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} هذا تطمين لهم بع ما وَبَّخهم صلى الله عليه وسلم، لأنهم أحبابه وأولياؤه. وقد "شُجَّ النبي صلى الله عليه وسلم" وهذا دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعاً، فلا تجوز عبادته. وهذا من أدلة بطلان الشرك؛ أن المخلوق وإن بلغ من المنزلة العالية فإنه مخلوق، لا يستحق شيئاً من العبادة، فأشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم وقع عليه الضرر، ج وجُرح- عليه الصلاة والسلام-، فدلّ على أنه لا تجوز عبادته من دون الله، وإذا كان كذلك فغيره من باب أولى، فلا تجوز عبادة الأولياء والصالحين ومَن دون ذلك، لأن كل الخلق لا تجوز عبادتهم، لا الملائكة، ولا النبييون، ولا الأولياء، ولا الصالحون. العبادة حق لله سبحانه وتعالى، لا يجوز صرفها لغيره، وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إلاّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إلاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(188)}. فإذا كان الرسول لا تجوز عبادته من دون الله عزّ وجلّ، فكيف بغيره من الخلق؟، والرسول لم يستطع الدفع عن نفسه: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22)}. ولما شُجَّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد قال- عليه الصلاة والسلام-: "كيف يُفلح قوم شَجُّوا نبيهم؟" استبعد صلى الله عليه وسلم فلاحهم، واستبعد استجابتهم للدعوة، لأنهم بلغوا من العناد، وبلغوا من المشاقة إلى هذا الحد، فهؤلاء بعيد أن يستجيبوا، وإذا لم يستجيبوا فلن يفلحوا، ولكن الله جل وعلا يعلم المستقبل وما يكون، فعاتبه وقال: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)} وهذا- أيضاً- دليل آخر على عدم استحقاقه لشيء من العبادة، الأمر في هذا الكون والتدبير لله سبحانه وتعالى، ج / 1 ص -211- وفيه عن ابن عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: "اللهم العَنْ فلاناً وفلاناً" بعدما يقول: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}. وإنما الرسول صلى الله عليه وسلم مبلِّغ عن الله، والأمر لله سبحانه وتعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}، فالأمر لله {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}، وإنما الرسل- عليهم الصلاة والسلام- مبعوثون عن الله فقط، ودعاة إلى الله. "{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}" لا أمر النصر، ولا أمر الهزيمة، ولا أمر التوبة، ولا أمر الفلاح، ولا أمر الدخول في الإسلام والهداية، وإنما كل هذا بيد الله سبحانه وتعالى، أنت ليس عليك إلاّ البلاغ: {إِنْ عَلَيْكَ إلاّ الْبَلاغُ}، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}، هذه وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مبلِّغ عن الله فقط، أما أنه يملك النفع والضَّر والنصر والرَّزق والحياة والموت؛ فهذا لا يملكه أحد إلاّ الله سبحانه وتعالى. قال "وفيه" أي: في الصحيح، يعني: صحيح مسلم. "عن ابن عمر" هو: عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنهما-، من فقهاء الصحابة، ومن العُبّاد. "أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: "اللهم العن فلاناً وفلاناً" يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم على فلان وفلان أن يطردهم الله من رحمته؛ بسبب أنهم أَلَّبُوا المشركين، وجاءوا لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم، وأوْقعوا بالمسلمين هذه المصيبة. فيه دليل على مشروعيّة القنوت في صلاة الفجر عند النوازل، أي:ما تنزل بالمسلمين نازلة من مداهمة عدو، أو حصول بلاء فيه خطورة على المسلمين، فإنهم يُشرع لهم أن يقنتوا في صلاة الفجر، بمعنى أنهم يدعون في صلاة الفجر لرفع هذا البلاء الذي عليهم، أو على إخوانهم من المسلمين، فالقنوت عند النوازل من سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في هذا الحديث، أما القنوت في صلاة الفجر في غير النوازل على صفة مستمرّة؛ فهذا ليس بمشروع عند جمهور أهل العلم. ج / 1 ص -212- وفي رواية: يدعو على صفوان بن أُميّة، وسُهيل بن عمرو، والحارث بن هشام. فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}. قال: "وفي رواية: يدعو على صفوان بن أُميّة، وسُهيل بن عمرو، والحارث بن هشام" هذا تفسير لقوله: "اللهم العن فلاناً وفلاناً"، وأن المراد بهم هؤلاء الأشخاص، لأنهم من قادة المشركين يوم أحد مع أبي سفيان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عليهم لمِا وقع منهم، ولكن الله يعلم من حال هؤلاء وما يؤول إليه أمرهم ما لا يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن هؤلاء تاب الله عليهم وأسلموا، وحسُن إسلامهم رضي الله عنهم. ولما ارتدّ الناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقف سهيل بن عمرو خطيباً في أهل مكة يُثبِّتهم على الإسلام، وقال لهم: يا أهل مكة لا تكونوا آخر من أسلم وأوّلُ من ارتد. فثبت أهل مكة على الإسلام، ولم يرتدُّوا بسب هذا الرجل الذي جعل الله فيه الخير. فهذا دليل على أن الإنسان مهما بلغ من الضلال، ومهما بلغ من الكفر، فإنه لا ييأس من هدايته، لأن القلوب بيد الله سبحانه وتعالى. وهذا دليل على أنه لا يعلم الغيب إلاّ الله سبحانه وتعالى، وأنك لا تحكم على المعينين بالنار إلاّ من حكم عليه الله سبحانه وتعالى في القرآن، أو حكم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم. ولهذا من عقيدة أهل السنّة والجماعة: أنهم لا يشهدون لأحد بجنة ولا نار إلاّ من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يرجون للمحسنين، ويخافون على المسيئين، ولا يجزمون لأحد لأن العواقب بيد الله سبحانه وتعالى، والإنسان مهما بلغ من الكفر والشرك والعناد، فإنه قد يهديه الله سبحانه وتعالى، ويُصبح من أولياء الله الصالحين. فهؤلاء أسلموا، وحسُن إسلامهم- رضي الله تعالى عنهم-، مع أنهم آذوا الرسول، وقاتلوه، وآذوا المسلمين، ولكن منّ الله عليهم بالهداية. فالحاصل؛ أن هذه الآية الكريمة وما جاء في سبب نزولها فيها دليل على بُطلان الشرك، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه سادة المهاجرين والأنصار حصل عليهم من الضرر والهزيمة في وقعة أحد ما حصل، وهم سادات الأولياء، فدلّ على أنه لا يجوز التعلق بغير الله سبحانه وتعالى، لأن هؤلاء لم يستطيعوا الدفع عن أنفسهم، فكيف يدفعون عن غيرهم، لأن المخلوق مهما كان فإنه مخلوق، وهو فقير إلى الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(15)}. ج / 1 ص -213- وفيه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ(214)} فقال: قوله: "وفيه" يعني: في صحيح البخاري. "عن أبي هريرة" أبو هريرة اشتهر بكنيته، أما اسمه فاختلف فيه العلماء على أقوال كثيرة، أصحها أنه: عبد الرحمن بن صخر، من قبيلة دوس المشهورة، قَدِم على النبي وأعلن إسلامه، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم ملازمة تامة، يروي عنه الأحاديث، واهتمّ بذلك اهتماماً عظيماً، حتى أصبح من أكثر الصحابة رواية للحديث، فإنه يوجد له في كتب السنّة ما يزيد على خمسة آلاف حديث، فهو أكثر الصحابة رواية للحديث، لأنه تفرغ لذلك، تفرّغاً تامّاً، واهتم به، اهتماماً تاماً، فأعانه الله على ذلك، وحفظ لهذه الأمة قسماً كبيراً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو راوية الإسلام- رضي الله تعالى عنه-. وقد تعجّب بعض الجهّال في هذا العصر، الذين تأثروا بدعايات المستشرقين، أو بدعايات المبتدعة، فاستغربوا كثرة الأحاديث التي رواها هذا الصحابي الجليل، فصاروا يتكلمون كلاماً سيّئاً في حق أبي هريرة رضي الله عنه، ولكن الله قيِّض من علماء الإسلام من دحض هذه الشبهات، وردها في نحورهم، وبيّن منزلة هذا الصحابي الجليل من بين الصحابة، واهتمامه بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهناك كتابات كثيرة تدافع عن مرِويّات هذا الصحابي الجليل وتدحض شبهات المستشرقين والمبتدعة من الشيعة وغيرهم. "قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم" جاء في الحديث الآخر: أنه قام على الصفا. "حين أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ(214)}" أمره الله سبحانه وتعالى أن يُنذر عشيرته الأقربين، كما أمره الله أن يُنذر الناس عامة، لأنه رسول إلى العالم كله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}، رسالته صلى الله عليه وسلم عامة للثقلين الجن والإنس، وقد بلّغ البلاغ المبين، ولكنه اختص عشيرّته، لأمر الله له بذلك. وفي هذا دليل على وجوب المبادرة إلى فعل الأوامر، فإنه صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه "{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ(214)}" بادر بتنفيذ ذلك وإبلاغه، ففيه دليل على وجوب المبادرة بامتثال أوامر الله سبحانه وتعالى، وأن الإنسان لا يتوانى إذا بلغه أمر من أوامر الله، أو ج / 1 ص -214- أمر من أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يبادر إلى تنفيذه، ولا يتوانى، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}. والإنذار معناه: الإخبار والتحذير من وقوع أمر مكروه، وأما البشارة فهي الإخبار عن أمر سار، فالله جل وعلا بعث هذا النبي بشيراً ونذيراً، بشيراً للمؤمنين بالخير والجنة، ونذيراً للكافرين بالنار والعذاب إلاّ أن يتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى. والعشيرة: جماعة الرجل الذين ينتسب إليهم. والأقربين يعني: أقرب الناس إلى الإنسان، لأن القرابة تتفاوت، منها القرابة القريبة كالآباء، والأمهات، والإخوان، والأخوات، والأعمام، والعمّات، ومنهم أقارب أباعد مثل أبناء الأعمام، وأبناء أبناء الأعمام إلى آخره، فهم أقارب، ولكنهم أقارب بعيدون. وفى هذا دليل على أن الداعية والأمر بالمعروف والناهي عن المنكر يبدأ بأهل بيته وخاصته أوّلاً، ثم بجيرانه وأهل بلده، ثم يتمدّد بالخير إلى من حوله من البلاد، أما العكس وهو أن يذهب إلى الأباعد أو إلى البلاد البعيدة ويترك أهله، ويترك بلده، ويترك أقاربه، فهذا خلاف منهج الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أمره الله تعالى به في هذه الآية، فمن منهج الدعوة البداية بالأقارب، وبأهل البيت، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} أمر بوقاية النفس أوّلاً، ثم بوقاية الأهلين، وذلك لأن الأقارب لهم حق، ومن أعظم حقوقهم: إرشادهم إلى ما فيه خيرهم، وصلاحهم، وفلاحهم، فهذا أنفع من أن تعطيهم الذهب والفضة والأموال، بل تبدأ بإرشادهم، وتوجيهم، ودعوتهم إلى الله تعالى، لأن لهم حقًّا عليك، وليس حقهم مقصوراً على الإنفاق وإعطائهم المال. وثانياً: لأجل القدوة، لأنك إذا دعوت الناس وتركت أهل بيتك، فإن الناس سينقمون عليك، ولا يقبلون دعوتك، ولا توجيهاتك، يقولون لو كان صادقاً لبدأ بأهل بيته، يذهب إلى الناس ويترك أهل بيته على المخالفات، وعلى المنكر، وعلى الجهل، ويذهب إلى الناس يدعوهم إلى الله، هذا ليس من منهج الدعوة، منهج الدعوة أن تبدأ بالأقربين، ثم ينتشر الخير شيئاً فشيئاً على من حولهم، هذا المنهج ج / 1 ص -215- "يا معشر قريش (أو كلمة نحوها) اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً. السليم، أما الذي يتعدّى بيته،. ويتعدّى بلده، ويذهب إلى الناس البعيدين يدعوهم إلى الله، وبيته فيه الجهل، وفيه الأخطاء الكثيرة، والمخالفات، أو في بلده وجماعته الأخطاء الكثيرة والمخالفات، فهذا ليس من منهج الدعوة. هذا أمر يجب أن نتفطّن له، فمنهج الدعوة يُؤخذ من الكتاب والسنّة، لا يؤخذ من الاصطلاحات والآراء، كما عليه كثير من الدعاة اليوم، يأخذون مناهجهم من العادات والآراء والمقترحات، لا من الكتاب والسنّة، انظروا إلى هذه الآية: "{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ(214)}"، وانظروا إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، وانظروا إلى قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ(44)}، فهذا من أعظم مناهج الدعوة. لما نزلت عليه هذه الآية الكريمة بادر -عليه الصلاة والسلام- بامتثال أمر الله، وصعد على الصفا، الجبل المعروف، وكونه "صعد الصفا" فيه مشروعية أن يكون الخطيب والمبلّغ على مُرْتَفَع من أجل أن يراه الناس، ومن أجل أن يَبْلُغ صوته إلى الحاضرين والمستمعين. فقال: "يا معشر قريش" المعشر: الجماعة، أي: يا جماعة قريش، يقال: إنهم من العشرة فأكثر. وقريش: القبيلة المشهورة التي بُعث منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه صلى الله عليه وسلم من بني هاشم، وبنو هاشم من قريش، صميم العرب، وجيران بيت الله العتيق. "اشتروا أنفسكم" أي: افتدوها من عذاب الله، أنقذوها من عذاب الله. بماذا يشترون أنفسهم؟، يشترون أنفسهم بالدخول في الإسلام، وتوحيد الله عزّ وجلّ، وترك عبادة ما سواه، هذا هو الذي يشترون به أنفسهم، فافتداء الإنسان نفسه من النار إنما يكون بطاعة الله، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبدون ذلك لا يمكن أن ينجوَ من عذاب الله، ولو قدّم الأموال الطائلة، فمن مات على الكفر، فإنه لو قدّم ملء الأرض من الذهب يشتري نفسه من النار لا يمكن هذا، لكن لو مات على التّوحيد، وعلى العقيدة الصحيحة، فقد اشترى نفسه من النار، فلا نجاة من النار إلاّ بطاعة الله وطاعة ج / 1 ص -216- رسوله صلى الله عليه وسلم، والموت على عقيدة التّوحيد الخالص، والسلامة من الشرك: "من مات وهو لا يدعو لله نِدًّا دخل الجنّة، ومن مات وهو يدعو لله نِدًّا دخل النار". "لا أُغني عنكم من الله شيئاً" أي: لا ينفعكم أني منكم، وأنتم قبيلتي، هذا لا ينفعكم عند الله شيئاً. وفي هذا دليل على بُطلان التعلق على الأشخاص، والتعلق على الأولياء والصالحين، واعتقاد أنهم يقرِّبون إلى الله زُلفى، كما يفعله المشركون قديماً وحديثاً، الذين يتعلقون على الأولياء والصالحين، ويعتقدون أنهم يشفعون لهم عند الله، وأنهم يتوسّطون لهم عند الله، ويتقرّبون إلى الأولياء والصالحين بالذبح، والنذر، والاستغاثة، والاستعاذة، والدعاء، كما قال الله سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، هذا زعمهم. ولا يزال هذا عند بعض الناس إلى اليوم، هناك طوائف كثيرة من عُبّاد القبور، والصوفية، وغيرهم يعتقدون أن الأولياء والسادة أنهم يُكْفونهم المؤنة، ويذهبون إلى أضرحتهم، ويتمسحون بها، ويذبحون عندها، وينذرون لها، ويهتفون بأسمائهم ويظنون أن هذا ينفعهم عند الله تعالى، وفي هذا الحديث وغيره ردٌّ على هؤلاء، لأنه إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق، وأقرب الخلق إلى الله، وأكرمهم على الله يقول لعشيرته وأقاربه: "لا أُغني عنكم من الله شيئاً" فكيف يتعلق الناس على المخلوقين؟. فالواجب أن يتعلق الناس بربهم سبحانه وتعالى، وأن يتقربوا إليه بالطاعة والعبادة، ويُخلصوا له التّوحيد، هذا هو طريق النجاة، أما التعدي عدى المخلوقين، ولو كانوا أنبياء أو صالحين أو أولياء، فإنهم لا ينفعون من تعلق بهم، وتوسل بهم، أو بجاههم أو بحقهم، هذا كله باطل، وتعبٌ بلا فائدة، بل هو ضلالة، وقد صرّح الله جل وعلا في القرآن بهذا، حينما قال لنبيه: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)}، قال تعالى: { قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ ج / 1 ص -217- يا عباس بن عند المطلب، لا أغني عنك من الله شيئاً. يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ}، هذا صريح لا يحتاج إلى كثير تأمّل، لأنه واضح من الكتاب والسنّة، ولكن الشيطان سَوَّل لهم وأملى لهم، اتبعوا العوائد، واتبعوا وقلّدوا أهل الضلال، ومشوا على طريقهم، وتركوا الكتاب والسنّة والله جل وعلا قريب مجيب، لا يحتاج إلى من يبلّغه عن خلقه، هو سبحانه وتعالى قريب مجيب: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ(186)}، "ينزل سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: "هل من سائل فأعطيه؟، هل من مستغفر فأغفر له؟، هل من تائب فأتوب عليه؟"، لم يقل لنا قدِّموا حوائجكم إلى الأولياء والوسائط، وهم يقدِّمونها لي، بل إنه سبحانه هو الذي تكفّل بالإجابة، وطلب من عباده أن يتقرّبوا إليه، وأن يدعوه، وأن يستغفروه، وأن يسألوه، لماذا يذهب المخلوق إلى غير الله سبحانه وتعالى؟، هذا من غرور الشيطان، نسأل الله العافية والسلامة، الحق واضح - ولله الحمد-، ما فيه خفاء، لو أن الناس سَلِمُوا من دعاة الضلال، ومن المخرفين، ومن الدجالين، لو أن الناس استعملوا عقولهم وبصائرهم، وأقبلوا على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لوجدوا الحق واضحاً لا خفاء فيه. فقوله: "يا معشر قريش، لا أُغني عنكم من الله شيئاً" عمّم صلى الله عليه وسلم في الإنذار لجميع قريش، وجميع بطونها، وجميع أفخاذها وقبائلها. ثم خص صلى الله عليه وسلم الأقربين إليه، فقال: "يا عبّاس ابن عبد المطلب، لا أُغني عنك من الله شيئاً" العبّاس بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كان لا يُغني عن عمه شيئاً، فكيف يغني عن غيره؟، وإذا كان أبو لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً، ولكنه أبى أن يدخل في الإسلام، واستمر على الشرك وآذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنزل الله فيه سورة تُقرأ إلى يوم القيامة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1)}، التَّبْ هو: الخسارة، {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ(3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ(4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)}، هذا عمّ الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه كان كافراً، فلم ينفعه قرابته من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك أبو طالب مع قُرْبِه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وحمايته للرسول، ودفاعه عنه، لما أبى أن يُسلم، وقال: "هو على ملّه عبد المطلب" وأراد ج / 1 ص -218- يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أُغني عنك من الله شيئاً. ويا فاطمة بنت محمد؛ سليني من مالي ما شئت، لا أُغني عنك من الله شيئاً". النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر له، أنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(113)}. وقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}. ثم قال: "يا صفية عمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أُغني عنك من الله شيئاً" مثل عمه العباس. ثم خص أقرب من هؤلاء، وهي بنته، التي هي بَضْعَة منه، فقال: "يا فاطمة بنت محمد؛ سليني من مالي" يعني: اطلبي مني شيئاً أملكه وهو المال، أما النجاة من النار فهذه لا أملكها: "لا أُغني عنك من الله شيئاً" أما الآخرة، والنجاة من النار، والدخول في الجنة، فهذا إنما يُطلب من الله سبحانه وتعالى، ويحصل عليه بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. انظروا كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم عمّم أوّلاً جميع قريش، ثم خصّ عمه وعمّته ثم خصّ بنته، فهذا بيان واضح بأنه صلى الله عليه وسلم لا يملك النجاة والإنقاذ من النار لمن هُم أقرب الناس إليه: قبيلته قريش، وعمه وعمته إخوان أبيه، بل ولده، عمّم وخصص صلى الله عليه وسلم في هذا. فأين من يقول: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم فهذا فيه دليل على مسألة مهمة وهي: أنه لا يجوز الاعتماد على النسب والقرابة من الأنبياء والصالحين، لأنه لا يُغني عند الله شيئاً: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ(101)}، هذا عام في كل الناس وقرابات الأنبياء وغيرهم، وقال صلى الله عليه وسلم: "من بَطَّأ به عمله لم يُسرع به نسبه"، قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، فالاعتبار بالتقوى لا بالنسب، النسب إنما يُستعمل في الدنيا: {لِتَعَارَفُوا} يعرف بعضكم بعضاً، كلٌّ يعرف قرابته وقبيلته، أما في الآخرة فلا {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ}، لا يبقى إلاّ الأعمال فقط، {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً}، فالله سبحانه وتعالى لا ينفع عنده إلاّ العمل الصالح. ج / 1 ص -219- وقال الخليل - عليه الصلاة والسلام-: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)}، يقول بعضهم: أنا من أهل البيت، ويتكّل على هذا، ولا يَحْفَل بالأعمال الصالحة، يظن أن كونه من أهل البيت يكفي، وهذا غرور من الشيطان، هذا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لابنته سيدة نساء العالمين، يقول لها: "سليني من مالي ما شئت، لا أُغني عنك من الله شيئاً" وهي بنته، أليست في مقدمة أهل البيت؟، "لا أُغني عنك من الله شيئاً" فكيف يأتي من يأتي ويقول: أنا من أهل البيت، ويتكِّل على هذا، ويتبرك الناس به، ويتمسّحون به، ويَلْحَسُون أقدامه، ويظنون أن هذا ينجيهم من عذاب الله، هذا باطل وغرور، ولا نجاة إلاّ بالأعمال الصالحة. هذا أبو لهب، وأبو طالب، وهم أعمام الرسول صلى الله عليه وسلم، لما لم يؤمنوا لم ينفعهم قرابتهم من الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا بلال، وعمّار بن ياسر، وصُهَيب، وخبّاب موالي، وصاروا من سادات المهاجرين، ومن سادات المؤمنين، ما ضرهم أنهم موالي، وقال في سلمان الفارسي: "سلمان منّا أهل البيت" رضي الله تعالى عن الجميع، والسبب: الإيمان والعمل الصالح، فمجرد كون الرجل من أهل البيت، أو من قرابة الرسول لا يُغني عنه شيئاً، ولا ينفعه شيئاً، كما لم ينفع أبا طالب وأبا لهب وغيرهم من عشيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لما لم يؤمنوا، بل إن بعض الغُلاة يقول: إن التسمي بمحمد يكفي، يقول صاحب "البُرْدة": فإن لي ذمّة منه بتسميتي محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم لا ينفع عند الله إلاّ العمل الصالح، لا الأسماء، ولا القبائل، ولا شرف النسب، ولا كون الإنسان من بيت النبوّة، كل هذا لا ينفع إلاّ مع العمل الصالح والاستقامة على دين الله عزّ وجلّ. نعم، القرابة من الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كانت مع العمل الصالح لها فضل لا شك فيه، فأهل البيت الصالحون المستقيمون على دين الله لهم حق، ولهم شرف، ولهم كرامة، ويجب الوفاء بحقهم، طاعة للرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه أوصى بقرابته وأهل بيته، لكن ج / 1 ص -220- يريد القرابة وأهل البيت المستقيمين على طاعة الله عزّ وجلّ، أما المخرّف والدجّال والمشعوذ الذي يعتمد على قرابته من الرسول، ولكنه في العمل مخالف للرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يُغنيه شيئاً عند الله، لو كان هذا ينفع لنفع أبا لهب، ونفع أبا طالب، ونفع غيرهم ممن لم يدخلوا في دين الله، وهم من قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالواجب أن نتنبّه لهذا. فهدا الحديث اشتمل على مسائل عظيمة- كما ذكرت-: المسألة الأولى: المبادرة إلى تنفيذ أمر الله، وأن الإنسان لا يتوانى في ذلك. المسألة الثانية: أن الداعية يبدأ بأقرب الناس إليه، وبأهل بيته أوّلاً. المسألة الثالثة: أنه لا يجوز الاعتماد على الأشخاص والأولياء والصالحين، واعتقاد أنهم يقرِّبون إلى الله، بل على الإنسان أن يعمل لنفسه، وأن يتقّي الله في نفسه، وأن يتقرّب إلى الله مباشرة، بدون واسطة أحد، لأن الله قريب مجيب. المسألة الرابعة:- وهي مهمة جدًّا-: أن الانتساب إلى أهل البيت، أو القرابة من الرسول صلى الله عليه وسلم لا تنفع إلاّ مع العمل الصالح، أما بدون ذلك فإنها لا تنفع عن الله. والواجب أن يتنبّه المسلمون لهذه الأمور. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#20
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد بابُ قول الله تعالى {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}. ج / 1 ص -221- [الباب السادس عشر:] *بابُ قول الله تعالى {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}. في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء؛.............. مُراد الشيخ رحمه الله بهذا الباب: أن يبيّن تفسير هذه الآية، كما جاءت بذلك السنّة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الآية فسّرتها السنّة بالأحاديث التي ذكرها الشيخ في هذا الباب، والغرض من ذلك إتمام ما سبق في الأبواب السابقة من بيان أدلة بُطلان الشرك. ففي الأبواب السابقة بيّن الشيخ رحمه الله بيان بُطلان عبادة الأنبياء والصالحين من بني آدم، بالأدلة التي سبقت من الكتاب والسنّة. وفي هذا الباب يبيّن بُطلان عبادة الملائكة، لأن الملائكة عُبدوا من دون الله، فهذا الباب مكمِّلٌ للأبواب السابقة التي قبله في بيان بُطلان عبادة كل من عُبد من دون الله من الأنبياء، والأولياء، والصالحين، والملائكة، لأنهم إذا بطلت عبادة هؤلاء، فبُطلان عبادة من دونهم من باب أولى، وإذا بطل ذلك في حق الملائكة وهم أقوى الخلق خِلقة، ومن أقربهم إلى الله سبحانه وتعالى منزلة فلأن تبطل عبادة من سواهم من الآدميين والجن والإنس من باب أولى، هذا فقه هذه الترجمة. قوله: "إذا قضى الله الأمر" معناه: إذا تكلّم الله بالوحي، كما في حديث النواس بن سَمْعان الذي في آخر الباب بهذا اللفظ: "إذا تكلم الله بالوحي" وهذا معنى قوله: "قضى الله الأمر في السماء"، ففي ذلك إثبات الكلام لله سبحانه وتعالى، وأنه كلام يُسمع، تسمعه الملائكة، وإذا سمعوه صَعِقوا وخَرُّوا- كما يأتي-، خَرُّوا لله سُجّداً، تعظيماً لله عزّ وجلّ. وفي قوله: "في السماء" هذا فيه إثبات علوّ الله سبحانه وتعالى، فهو كقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ ج / 1 ص -222- ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً}، والذي في السماء هو الله سبحانه وتعالى، أي: العلو، هو العلي الأعلى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}، {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، والعرش هو أعلى المخلوقات، وسقف المخلوقات وأعظمها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: "أين الله؟" قالت: في السماء، قال لسيّدها: "أعتقها، فإنها مؤمنة" والأدّلة على ذلك كثيرة، وقد صنّف الحافظ الذهبي رحمه الله كتاباً سمّاه: "العلو للعليّ الغفّار" ساق فيه الأدلة على علو الله على عرشه، وهي كثيرة. قال العلماء: إن أدلة علو الله على عرشه تبلغ ألف دليل أو أكثر من الوحي، ومن الفطرة، ومن الأدلة العقلية، وهذا ثابت لا شك فيه، ولا ينكره إلاّ الملاحدة من الجهميّة وغيرهم. وقوله: "ضربت الملائكة بأجنحتها" الملائكة من أعظم المخلوقات، لا يعلم عِظَمِ خِلْقة الملائكة إلاّ الله سبحانه وتعالى، وإذا كانوا على هذه الحالة من العِظَم، ومع هذا لا تصلح عبادتهم من دون الله، فهم مع قوّتهم وعِظَم خِلْقَتهم يخافون من الله سبحانه وتعالى، إذا سمعوا كلامه ضربوا بأجنحتهم. وهذا فيه إثبات الأجنحة للملائكة، وهي ثابتة بالقرآن كما في قوله تعالى: {رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ}. "خضَعاناً" هذا مفعول لأجله، يعني: لماذا ضربوا بأجنحتهم؟، لأجل الخضوع لله. وتعظيماً له، وخوفاً منه عزّ وجلّ. فإن كانت هذه حالتهم فلا يجوز أن يُعبدوا مع الله: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}، قال تعالى في حقهم: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} يعني: الملائكة {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}. "لقوله" أي: لقول الله سبحانه وتعالى، فيه إثبات القول لله، وإثبات الكلام لله جلّ وعلا، وأنه يتكلّم كما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، كلاماً يُسمع، تسمعه الملائكة، ويسمعه جبريل، وإذا سمعه الملائكة أصابهم هذا الرُّعب والخوف من الله. قوله: "كأنه" أي: كأن قوله تعالى ويكَلُّمه سبحانه بالوحي. "سلسلة على صفوان " تشبيه لصوت الوحي الذي يأتي إلى المَلَك، أو صوت ج / 1 ص -223- ينفذهم ذلك {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.فيسمعها مُسْتَرِق السمع، ومُسْتَرِق السمع هكذا بعضه فوق بعض" وصفه سفيان بكفه، فحرّفها وبدّد بين أصابعه. المَلَك نفسه بصوت السلسلة إذا جُرّت على حجر أمْلَس. "ينفذهم ذلك" أي: أن كلام الله يبلغ إلى قلوبهم فيخافون. "{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}" يعني: أُزيل عنها الفزع، تساءلوا بينهم: ماذا قال ربكم؟. "{قَالُوا الْحَقَّ}" أي قال بعضهم لبعض: قال الله الحق، لأن كلامه حق سبحانه وتعالى. قال صلى الله عليه وسلم: "فيسمعها مسترق السمع" المسترق هو: الذي يأخذ الشيء بسرعة وخُفية، ومنه سمّي السارق الذي يأخذ المال على وجه الخُفية والسرعة حيث لا يراه أحد، ومسترق السمع، هو الشيطان الذي يخطف الكلمة من الوحي الذي تتكلم به الملائكة في السماء، قال تعالى: {إِلَّامَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)}. "ومسترق السمع هكذا بعضهم فوق بعض" معناه: أن الشياطين يَعْلُو بعضها بعضاً حتى تصل إلى عنان السماء، كل واحد يركب على الآخر، من أجل استراق السمع. "وصفه سفيان" يعني: راوي الحديث، وهو سفيان بن عيينة، أحد كبار المحدِّثين المشهورين الثقات الأثبات رحمه الله. يعني: وصف تراكمهم ووصف ركوب بعضهم فوق بعض في الجو. "بكفه، فحرّفها" يعني: أمالها، وفرّق أصابعها، والأصابع يكون بعضها فوق بعض، هذا معناه: أن سفيان أراد أن يوضّح لتلاميذه والرواة عنه بالمثال المحسوس المشاهد عملية الشياطين في الهواء، فهذا فيه من وسائل التعليم: ضرب الأمثلة للطلاّب حتى يفهموا، مثل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يفسّر قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يوضّح هذه الآية بمثال محسوس: خطّ خطّاً مستقيماً على الأرض، وخطّ عن يمينه وشماله خطوطاً، وقال للمستقيم: "هذا صراط الله" وقال للأخرى: " هذه سُبُل، علىج / 1 ص -224- "فيسمع الكلمة فيُلقيها إلى من تحته، ثم يُلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يُلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، كل سبيل منها شيطان يدعو الناس إليها" هذا توضيح للمعاني بالمحسوسات، وهي طريقة شرعية، وطريقة ناجحة في الإفهام، وهذا ما أراده سفيان رضي الله عنه من وصفه عمليّة الشياطين في الهوى بكفه وجعْل أصابعه بعضها فوق بعض مفرِّجة من أجل أن يوضّح لهم. وقوله: "فيسمع الكلمة" أي: يسمع مسترق السَّمع الكلمة مما تكلّمت به الملائكة، فيُلقيها إلى من تحته من الشياطين، والذي تحته يُلقيها إلى الآخر، واحداً بعد واحد، حتى يُلقيها الأخير على لسان الساحر أو الكاهن من بني آدم. فهذا فيه دليل على أن السّحرة والكهان يتلقون عن الشياطين، ففيه إبطال لعمل السّحرة والكهان، قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)}، هذا خبر من الله سبحانه وتعالى أنّ الكهان والسحرة يتلّقون عن الشياطين، فهذا فيه بُطلان السحر والكهانة، وأن مصدرهما واحد؛ عن الشياطين الذين هم أكفر الخلق، وأَغَشُّ الخلق للخلق. والسحر معروف، وهو: عملية يعلمها الساحر إما بالعُقَد والنَّفْث {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(4)}، وإما بكلام الكفر والشرك، فهو عزائم ورُقى شيطانية، وإما بمواد خبيثة تركّب بعضها مع بعض ثم يتكوّن منها السحر، فالسحر عمل شيطاني، والسحر كفر، والساحر كافر، بدليل قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}، فدلّ على أن الذي يتعلم السحر يكفر، لأن السحر كفر. وأما الكِهانة فمعناها: الإخبار عن المغيبات بسبب ما يتلقاه الكاهن عن الشيطان، لأن الشيطان يخبر الكاهن بأمور غائبة عن بني آدم، لأن الشيطان عنده قدرة أكبر من قدرة بني آدم، فهو يطير في الهواء، ويصل إلى السحاب، ويسترق السمع، ويطير بسرعة من الأمكنة البعيدة، فعنده مقدرة ليست عند الإنسي، فالإنسي يخضع للشيطان، ويتقرب إلى الشيطان بما يحب من الكفر بالله والشرك بالله حتى ج / 1 ص -225- فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيُقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟، فيُصرَّف بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء". يخدمه الشيطان بما يريد من الأمور الغائبة عن بني آدم، قال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)}، هذا فيه أن الله سبحانه وتعالى إذا حشر الشياطين يوم القيامة وحشر الكهان وعملاء الشياطين يوبخهم: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ}، يعني : أهلكتم كثيراً من الإنس، {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ}، يعني: الكهان والسحرة وكل من يتعامل مع الشياطين {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} هم خدمونا ونحن خدمناهم في الدنيا {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} الآن وقفنا بين يديك يا ربنا، فيقول: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}، هذا مآل السحرة والكهان مع أوليائهم من الشياطين. وقال سبحانه: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً(6)} يقولون: نعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} أي: خوفاً. أما لو أنهم عاذوا بالله لأعاذهم وقوّاهم، وأذهب ما بهم من الفزع، ولا يضرهم أحد إذا توكلوا على الله وعاذوا بالله، لكن عاذوا بمخلوق فأذلهم الله سبحانه وتعالى. وقوله: "حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن" دلّ على أنهما من فصيلة واحدة، وأنهم يتلقون عن الشياطين. قال سبحانه مبيّناً سند الكهان والسحرة والمشعوذين: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)}. قوله: "فيكذب معها مائة كذبة" هذا المقصود من استراق السمع؟، من أجل أن يخدعوا الإنس، ومن أجل أن يخلطوا الحق بالباطل، ويلبسوا الحق بالباطل، لأنهم لو جاءوا بالباطل الخالص المحض ما صدقهم أحد، لكن إذا خلطوه بشيء من الحق صدقهم الناس، فيكون هذا فيه فتنة لضعفاء الإيمان وضعفاء العقول، يأخذون الباطل الكثير بسبب حق يسير خالطه. ج / 1 ص -226- وهذا واقع في النّاس الآن فكثير من النّاس يتبع أئمة الضلال، ويتبع الفرق الضالة والجماعات المنحرفة بسبب أن عندهم شيئاً من الحسنات أو شيئاً من الحق، ولا ينظر إلى كثرة الباطل الذي هم عليه، وهذا بلاء وفتنة للناس، ليس هذا خاصًّا بالكهان والسحرة، بل هذا عام في كل من تقبل الباطل بسبب التباسه بشيء من الحق. قوله: "فيقال: أليس قد قال يوم كذا وكذا: كذ وكذا؟. فيُصدّق بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء" هذه الفتنة العظيمة: لبس الحق بالباطل، لأن الباطل لو كان مكشوفاً واضحاً خالصاً ما قبله أحد، وإنما يُقبل الباطل إذا لُبِّس معه شيء من الحق، وهذه فتنة عظيمة يجب أن نتنبه لها. فالحاصل: أن هذا حديث عظيم، فيه فوائد عظيمة: الفائدة الأولى: فيه أن السنّة النبوية تفسر القرآن، فهذا الحديث فسر هذه الآية: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ}، ففيه رد على الطائفة الخبيثة التي تريد رفض السنّة والاقتصار على القرآن، وإذا اقتصر على القرآن من أين نفسر القرآن؟، القرآن يفسر بأحد أربعة أمور: أولاً: يفسّر القرآن بالقرآن. ثانياً: إذا لم يكن فيه تفسير من القرآن يفسر بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: إذا لم يكن فيه تفسير من الرسول صلى الله عليه وسلم يفسر بأقوال الصحابة، لأنهم تلاميذ الرسول صلى الله عليه وسلم، وعنه تعلموا وتلقوا العلم فهم أدرى النّاس بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم. رابعاً: إذا لم يكن هناك تفسير من الصحابة يفسر بمقتضى لغة العرب التي نزل بها، ينظر إلى معنى الكلمة في لغة العرب ويفسر بلغة العرب التي نزل بها. أما أن يفسر القرآن بغير هذه الطرق فهذا باطل، إما بالقرآن، وإما بالسنّة، وإما بقول الصحابي، وإما بلغة العرب التي نزل بها، ولا يفسر القرآن بغير هذه الوجوه. نعم، اختلفوا في قول التابعي: هل يفسر به القرآن؟، منهم من يرى ذلك، فيكون وجهاً خامساً، لأن التابعي له خاصية، لأنه تتلمذ على صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، فله ميزة على غيره ممن تتلمذ على غير الصحابة. ج / 1 ص -227- أما تفسير القرآن بغير هذه الوجوه فلا يجوز، لأنه قول على الله بلا علم، فالذين يفسرون القرآن بالنظريّات الحديثة -أو ما يسمونه بالعلم الحديث- فهذا خطأ، وهذا قول على الله بلا علم، فالنظريّات هذه عمل بشر، تصدق وتكذب، وكثير منها يكذب، ويأتي نظرية أخرى تبطل هذه النظرية السابقة، مثل: ما عند الأطباء، ومثل: ما عند الفلاسفة، لأنه عمل بشر، فالنظريّات الحديثة لا يفسر بها كلام رب العالمين، ولا يقال: هذا من الإعجاز العلمي- كما يسمونه-، هذا ليس بإعجاز علمي أبداً، كلام الله يُصان عن نظريّات البشر، وعن أقوال البشر، لأن هذه النظريّات تضطرب ويكذب بعضها بعضاً، فهل يفسّر كلام ربنا بنظريّات مضطّربة؟، هذا باطل ولا يجوز، ويجب رفض هذا التفسير، والاقتصار على الوجوه الأربعة- أو الخمسة- التي نصّ عليها أهل العلم، كما ذكرها ابن كثير رحمه الله، في أول التفسير. الفائدة الثانية: إثبات صفات الله سبحانه وتعالى، فقد أثبت في هذا الحديث علو الله على خلقه، وأنه في السماء سبحانه وتعالى، وأثبت أن الله يتكلم بكلام يُسمع، تسمعه الملائكة وترتعد عند سماعه. الفائدة الثالثة: وهي التي عقد المصنف رحمه الله بهذا الباب من أجلها: بطلان التعلق على الملائكة، عكس ما كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الملائكة، واعتقاد أنهم بنات الله، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيراً. ففي هذا بطلان الشرك، لأنه إذا بطلت عبادة الملائكة وهم من هم في القوة والمكانة عند الله والقرب من الله، إذا بطل عبادتهم والتعلق عليهم وطلب الحوائج منهم فلأن يبطل ذلك في حق غيرهم من باب أولى، فالذين يتعلقون على القبور وعلى الأضرحة وعلى الأشجار والأحجار، ويتبركون بها، كل هذا باطل، لأن هذه مخلوقات ليس لها من الأمر شيء، مسخرة ليس لها من الأمر شيء، إنما التعلق يكون بالله عزّ وجلّ، والتوكل على الله، لأن الملائكة مفتقرون إلى الله، وكل المخلوقات مفتقرة إلى الله سبحانه وتعالى، وهو الغني الحميد، هو غني عن غيره، وأما غيره فهم فقراء إليه سبحانه وتعالى. ج / 1 ص -228- الفائدة الرابعة: في الحديث إثبات استراق السمع، وأن الشياطين قد يسترقون السمع، وهذا كان في الجاهلية كثيراً، فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم حُرست السماء بالشُّهب، وقلّ استراق السمع، قال بعضهم لبعض: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} يعني: هذا في الجاهلية، {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ} يعني: بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم { يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً * وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً(10)}. الفائدة الخامسة: فيه بُطلان السحر والكِهانة، وأن مصدرهما واحد، التلقي عن الشياطين، فلا يُقبل السحر، ولا خبر الساحر، ولا تُقبل الكِهانة ولا خبر الكاهن لأن مصدرها باطل، وقد جاء في الحديث: "من أتى كاهناً أو عرّافًا لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً" وفي الحديث الآخر: "من أتى كاهناً أو عرّافاُ فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمّد صلى الله عليه وسلم" فهذا فيه بطلان السحر والكِهانة، وأنه لا يجوز تصديق السحرة، ولا تصديق الكُهَّان، ولا الذهاب إليهم، لكن في وقتنا الحاضر السحرة والكهان خرجوا على الناس باسم أطباء ومعالجين، وفتحوا محلات، يعالجون فيها المرضى بالسحر والكهانة، لكن لا يقولون: هذا سحر، ولا يقولون: هذا كهانة، بل يُظهرون أنهم يعالجون النّاس بأمور مباحة، ويذكرون الله عند الناس، وقد يقرءون شيئاً من القرآن من أجل التلبيس، ولكن في الخفاء يقول للمريض اذبح شاة على صفة كذا وكذا، ولا تأكل منها، خذ من دمها واعمل كذا وكذا، أو اذبح ديكاً أو دجاجة، يصفه بأوصاف، ويقول له: ولا تذكر اسم الله عليه، أو يسأله عن اسم أمه واسم أبيه، أو يأخذ ثوبه وطاقيته من أجل أن يسأل عملاءه من الشياطين لأن الشياطين يخبر بعضهم بعضاً. ثمّ يقول الساحر أو الكاهن-: فلان هو الذي سحرك، وهو كله تدجيل، والواجب على المسلمين أن يتنبهوا لهذا، وأن يحذروا هؤلاء المشعوذين والدجالين الذين يفسدون عقائد الناس، ويأكلون أموالهم بالباطل. الفائدة السادسة: ذكرها الشَّيخ رحمه الله في قوله: "قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟" بحيث تُقبل مائة كذبة بسبب كلمة واحدة من الحق، فالنفوس تقبل الباطل، حيث إنها تقبل مائة كذبة بسبب كلمة واحدة من الحق، وهذا فيه: التحذير من لبس الحق بالباطل، وأن لا نغتر بمن يلبس علينا، ج / 1 ص -229- وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر؛ تكلّم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة "أو قال: رعدة شديدة: خوفاً من الله عزّ وجلّ، يأتي لنا بأشياء من الحق، ويدخل تحتها كثيراً من الباطل والخداع، والواجب على المؤمن أن يكون كَيِّساً فطناً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن كَيِّسٌ فطن" ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين"، فالمؤمن لا يتسرع بقبول الأقوال أو المذاهب أو المناهج حتى يفحصها تماماً، وكيف يفحصها؟، يعرضها على الكتاب والسنّة إن كان يعرف، وإن كان لا يعرف يسأل عنها أهل العلم وأهل البصيرة، حتى يميزوا له الصحيح من السقيم، هذا واجب علينا جميعاً أننا لا ننخدع بالدعايات المُزَوَّقَة والمستورة والمغلّفة بشيء من المحسّنات حتى نَسْبُرَ غَوْرَها، وَنَخْبُرَ ما بداخلها إن كنا نستطيع ذلك فالحمد لله، وإلاَّ فإننا نسأل أهل العلم وأهل البصيرة الذين يميّزون بين الحق والباطل. قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله أن يوحي بالأمر" فهذا فيه: إثبات الإرادة لله سبحانه وتعالى، وهي صفة من صفاته، دلّت عليها الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، فالله جل وعلا له إرادة، وإرادته على نوعين: إرادة كونية، بها يخلق ويرزق، ويهدي ويضل، ويحيي ويميت. وإرادة شرعية دينية بها يأمر عباده بما يصلحهم وينهاهم عما يضرهم، مثل قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، هذه إرادة دينية، كما فصّل ذلك أهل العلم. "أن يوحي" الوحي هو: الإعلام بسرعة وخفاء، وهو على نوعين: وحي إلهام ووحي إرسال. وحي الإلهام: يكون بإلهام الله بعض المخلوقات ببعض الأمور مثل قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} أي: ألهمها، ومثل قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} ألهم الله أم موسى أن تعمل هذا العمل ج / 1 ص -230- فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخرّوا لله سجّداً. بولدها لما ولدته، وكان فرعون يقتِّل الذكور، فالله ألهمها أن تعمل هذا العمل من أجل نجاة موسى من هذا الجبار. وأما وحي الإرسال فهو الذي ينزل به جبريل عليه السلام إلى الرسل. "بالأمر" أي: بالشأن من شؤون الكون والمخلوقات، أو بالأمر من الوحي المنزل على الرسل، فهو عام. فالأمر على نوعين: كوني وشرعي. "تكلم بالوحي" تكلماً يليق بجلاله، وهذا فيه: إثبات الكلام لله سبحانه وتعالى. "أخذت السماوات منه رجفة (أو قال: رعدة شديدة)" هذا شك من الراوي، أي: إذا سمعت كلام الله يصيبها خوف وهيبة لكلام الله، وهذا فيه: أن الجمادات تدرك عظمة ربها، وتسبّحه، وتعظمه كما قال سبحانه وتعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}، {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ}، وكما في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ(11)}، في هذا: أن السماوات والأرض تتكلم، وأنها تسبح كما قال تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}. "فإذا سمع ذلك أهل السماوات" يعني: سمع الملائكة كلام الله أيضاً. "صعِقُوا" بمعنى: أنهم يغشى عليهم من الخوف من الله عزّ وجلّ والهيبة والجلال. " وخروا لله" يعني: ينحطّون لله"سُجّداً"على وجوههم تعظيماً لله وتعبدًّا لله. قد يكون السجود قبل الصعق، وقد يكون بعد الصعق، لأن الواو لا تقتضي الترتيب. وفي هذا دليل على أن الملائكة عباد لله، يخافونه ويهابونه. وفي هذا ردٌّ على المشركين الذين يعبدون الملائكة، ويزعمون أن الملائكة تقرّبهم إلى الله، كما يقرب خاصة الملوك إلى الملوك من يريد قضاء حاجته منهم، قاسوا الخالق على المخلوقين، تعالى الله عما يقولون، فهذا فيه ردّ عليهم، وهو أن الملائكة عباد، كما قال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)}، عباد من عباد الله، يخافون ج / 1 ص -231- فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، من الله، ويسجدون له، والعبد لا يجوز أن يُعبد، ولا أن يُدعى، ويُستغاث به، وإنما يُعبد الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الذي ساق المصنّف رحمه الله هذا الحديث من أجله، وهو: الرد على المشركين الذين يتعلقون على المخلوقين في قضاء الحاجات التي لا يقدر عليها إلاّ الله، وتفريج الكربات، وهو أنه إذا كانت الملائكة مع عظمتهم وقوتهم ومكانتهم -بما فيهم جبريل عليه الصلاة والسلام-، كانوا بهذه المثابة إذا سمعوا كلام الله، دلَّ على أنهم ليس لهم من الأمر شيء، وأنه لا يجوز أن يُدعوا، ويُستغاث بهم، وإذا كان هذا في حق الملائكة ففي حق غيرهم من باب أولى، فلا يجوز دعاء الصالحين، أو الاستغاثة بهم، أو التقرب إليهم بالعبادة، أو الذبح، أو النذر، أو غير ذلك، كل هذا باطل، وشرك أكبر. وفيه دليل على أن السماوات متعددة وأنها سبع طِباق كما تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً(15)}، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}، { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}، ولكل سماء سكان من الملائكة. "فيكون أول من يرفع رأسه" يعني: من السجود. "جبريل" وهو: أعظم الملائكة، وهو موكّل بالوحي كما أن ميكائيل موكّل بالقطر والنّبات، وإسرافيل موكّل بالنفخ في الصُّور، وكل نوع من الملائكة له عمل، منهم ملائكة الموت، ورئيسهم مَلَك الموت: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ}، {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ}. وهناك ملائكة موكّلون بالأَجِنَّة في الأرحام، كما جاء في الحديث: "إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثمّ يكون عَلَقَة مثل ذلك، ثمّ يكون مُضْغَة مثل ذلك، ثمّ يُرسل إليه المَلَكَ في الطَّوْر الرابع "ويؤمر بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيُّ أو سعيد" فهؤلاء موكّلون بالأَجنَّة في الأرحام. وهناك ملائكة موكّلون بحفظ أعمال بني آدم، بكتابة الحسنات والسيّئات يلازمون بني آدم، إلاّ في الأحوال الخاصة، دائماً معهم في الليل والنهار يكتبون ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال طيّبة أو رديئة، وهؤلاء يسمون بالحَفَظَة. ج / 1 ص -232- ثمّ يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل. وهناك ملائكة موكّلون بحفظ الإنسان نفسه، يحفظون الإنسان من المخاطر، ورفع المؤذيات: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}. وهناك أنواع من الملائكة لا يعلمهم إلاّ الله. " ثم يمر جبريل على الملائكة" هذا فيه: فضل جبريل عليه السلام، وأن الله اختصه بائتمانه على الوحي، وأن أهل السماوات يسألونه وهذا دليل على فضله كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(40)} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)}، يعني: ذا مكانة عند الله سبحانه وتعالى، {مُطَاعٍ ثَمَّ} أي: في الملأ الأعلى، تطيعه الملائكة {أَمِينٍ} أمين على الوحي، لا يزيد فيه ولا ينقص- عليه الصلاة والسلام-. "كلما مر بسماء" هذا كما سبق فيه دليل على تعدّد السموات. "سأله ملائكتها" هذا فيه دليل على أن لكل سماء ملائكة خاصّون بها. "ماذا قال ربنا يا جبريل؟، فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل" تعظيماً لله سبحانه وتعالى. وهذا فيه دليل على أن كلام الله حق لا ريب فيه، وأن الملائكة لا تعلم الغيب ولذلك تسأل جبريل. "وهو العلى" هذا فيه إثبات العلو لله عزّ وجلّ، والعلو ثلاثة أقسام: علو الذات. وعلو القدر. وعلو القهر. وكلها ثابتة لله سبحانه وتعالى. فهو عليٌّ بذاته فوق مخلوقاته، وهو عليُّ القدر سبحانه وتعالى، وهو عليُّ القهر، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} بجميع أنواع العلو. وأهل السنّة والجماعة يثبتون العلو بأنواعه الثلاثة. أما المبتدعة فلا يُثبتون إلاّ علو القدر والقهر فقط، وأما علوّ الذات فينفونه، ولا يثبتون العلو لله عزّ وجلّ، تعالى الله عما يقولون علوًّ كبيراً. {الكبير} الذي لا أكبر منه سبحانه وتعالى، كل المخلوقات صغيرة بالنّسبة إلى الله سبحانه وتعالى، ج / 1 ص -233- ليست بشيء: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}، هذا من عظمته سبحانه وتعالى. فدلّ هذا الحديث على مسائل عظيمة: المسألة الأولى: إثبات الكلام لله سبحانه وتعالى، وهذا بإجماع أهل السنّة والجماعة، لم يخالف فيه إلاّ المبتدعة. المسألة الثانية: إثبات الإدراك للسماوات والخوف من الله، وأنها تُدرك عظمة الله، وتخافه، وهي جمادات، كما دلّت على ذلك الأدلة الأخرى فإذا كانت السماوات تخافه، فكيف لا يخافه ابن آدم هذا الضعيف المسكين؟، كيف لا يخاف من الله سبحانه وتعالى؟. المسألة الثالثة: وهي المسألة التي ساق المصنف هذا الحديث من أجلها، فيه: أن الملائكة يخافون من الله، ويسجدون له، فدلّ على أنهم عباد محتاجون إلى الله سبحانه وتعالى فقراء إلى الله، فهذا يدل على بُطلان دعائهم من دون الله، واتخاذهم وسائط، وشفعاء عند الله عزّ وجلّ، الملائكة يشفعون، لكن لا يشفعون إلاّ بإذن الله سبحانه وتعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}، فلا تحصل الشفاعة عند الله إلاّ بشرطين: الإذن بالشفاعة، ورضاه عن المشفوع فيه، بأن يكون المشفوع فيه من أهل الإيمان، أما الكافر، فقال الله تعالى فيه: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)}، {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ}، وليس الله مثل ملوك الدنيا يشفع الشفعاء عندهم ولو لم يأذنوا، ويضَطَّرُّ الملوك إلى قبول الشفاعة من أجل تأليف الكلمة، ومن أجل حاجتهم للوزراء، أما الله جل وعلا فإنه4 غني عن عباده، ولا أحد يتقدّم بالشفاعة عنده إلاّ بإذنه، ومحمَّد صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، في يوم القيامة في المحشر إذا تقدّمت الخلائق إلى محمَّد تطلب منه الشفاعة لفصل القضاء، لا يشفع إلاّ بعد أن يسجد لله عزّ وجلّ، ويحمد الله بمحامد عظيمة، ويدعوه بدعاء، ثمّ يقال له: يا محمَّد، ارفع رأسك، وسَلْ تُعط، واشفع تشفّع، فالشفاعة ملك لله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً}، وتُطلب الشفاعة من الله، تقول: اللهم شفِّع فيّ نبيّك محمداً صلى الله عليه وسلم، اللهم شفِّع فيّ عبادك الصالحين، تطلبها من الله، أما أن تقول بعد موت ج / 1 ص -234- الرسول: يا محمّد اشفع لي، أو يا فلان اشفع لي، تطلبها من الميّت فهذا لا يجوز. فطلب الشفاعة من القبور شرك أكبر، أما الحي فتُطلب منه الشفاعة بأن يطلب منه أن يدعو الله عزّ وجلّ لمن احتاج إلى ذلك، أما الميّت فلا يقدر على دعاء، ولا يطلب منه شيء. هذا هو المقصود من إيراد هذا الحديث، وهو بيان حالة الملائكة مع الله سبحانه وتعالى، وأنهم يخافونه، ويَصْعَقُون من هيبته سبحانه وتعالى، ومن سماع كلامه، ويخرُّون لله سجّداً، فدلّ على أنهم عباد فقراء إلى الله، ليس بيدهم شيء إلاّ ما أعطاهم الله سبحانه وتعالى، فلا تجوز دعوتهم من دون الله عزّ وجلّ، وإذا كان هذا في حق الملائكة ففي حق غيرهم من باب أولى وأحرى. المسألة الرابعة: فيه دليل على تعظيم كلام الله، وتعظيم القرآن الكريم، لأنه كلام الله، ووحي من الله، فيجب تعظيمه، والخشوع عند سماعه، والخوف مما فيه من الوعيد، والتهديد، والرجاء بما فيه من الوعد الكريم، فكلام الله سبحانه وتعالى يكرّم، ويُهاب، ويعظّم، ليس مثل كلام المخلوقين، وكذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يجلّ ويعظم، لأنه وحي من الله عزّ وجلّ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)}، فهو وحي من الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم . المسألة الخامسة: فيه فضل جبريل- عليه الصلاة والسلام-، وأنّه موكّل بالوحي، وأن الملائكة كلهم يسألونه: ماذا قال ربنا؟، هذا دليل على فضله ومكانته عند الله عزّ وجلّ. المسألة السادسة: فيه دليل على ما ذكرنا أن السماوات طِباق متعدِّدة إلى سبع سماوات، وفي كل سماء سكّان من الملائكة، يعمرونها بعبادة الله عزّ وجلّ من التسبيح والتهليل، وتعظيم الله عزّ وجلّ. المسألة السابعة: في الحديث دليل- أيضاً- على أن الملائكة كلٌّ له عمل موكّل به، إذا كان جبريل موكلاً بالوحي، فكذلك ميكائيل موكل بالقطر والنبات كما جاء في الحديث، وكذلك إسرافيل موكل بالنفخ في الصُّور، وكذلك بقية الملائكة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاحه إذا قام يتهجّد من الليل: "اللهم رب جبرائيل ج / 1 ص -235- وميكائيل وإسرافيل" لماذا خص هؤلاء، مع أن الله رب لكل شيء؟، لمكانة هؤلاء، لأن جبرائيل موكّل بالوحي الذي به حياة القلوب، وميكائيل موكّل بالفطر والنبات الذي فيه حياة الأرض بعد موتها، وإسرافيل موكّل بالنفخ في الصُّور الذي فيه حياة الأجسام بعد موتها، فكلّهم موكلون بالحياة، هذا بحياة القلوب بالوحي، وهذا بحياة الأرض بالماء والقطر، وهذا بحياة الأجساد يوم القيامة ونفخ الأرواح فيها. المسألة الثامنة: أن الملائكة لا يعلمون الغيب، ويسألون غيرهم عما خفي عليهم. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#21
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد بابُ الشفاعة ج / 1 ص -236- [الباب السابع عشر:] *بابُ الشفاعة قال الشيخ الإمام رحمه الله: "باب الشفاعة" الشفاعة معناها: التوسط في قضاء حاجة المحتاج لدى من هي عنده. سميت بذلك لأن طالب الحاجة كان منفرداً في الأول، ثمّ لما انضم إليه الشافع صار شفعاً، لأن الشفع ضد الوتر. فلما كان طالب الحاجة منفرداً، ثمّ انضم إليه الواسطة شفعه في الطلب، ولذلك سمّي شافعاً، وسمّي هذا العمل شفاعة، قال الله سبحانه وتعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا}، فالذي يشفع عند السلاطين، أو عند الأغنياء، أو عند غيرهم لقضاء حاجة المحتاجين يعتبر عمله شفاعة طيبة يؤجر عليها، قال صلى الله عليه وسلم: "اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء". أما إذا كانت الشفاعة في أمر محرّم، فهذه شفاعة سيئة، كالذي يشفع عند السلطان في تعطيل الحدود، إذا وجب الحد على شخص شفع عنده ليسقط الحد عنه، هذه شفاعة سيئة، ولهذا لما تقرر الحد على امرأة من بني مخزوم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كانت تستعير المتاع وتجحده، شقّ على أهلها وذويها قطع يدها، تراجعوا بمن يشفع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقرّر رأيهم أن يطلبوا من أسامة بن زيد رضي الله عنه، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حِبَّه، ليشفع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك قطع يد هذه المرأة، فكلم أسامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، وتغيّظ على أسامة رضي الله عنه، وقال له: "أتشفع في حد من حدود الله؟، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمَّد سرقت لقطعت يدها" وقال: "إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفّع". والحاصل؛ أن هذا تعريف الشفاعة، وانقسامها إلى شفاعة حسنة وشفاعة سيئة، هذا فيما بين النّاس، والمراد هنا: الشفاعة عند الله تعالى. ومراد المصنف رحمه الله من هذا الباب: أنه لما كان المشركون قديماً وحديثاً يعبدون من دون الله الأصنام والأشجار والأحجار والقبور والأضرحة والأولياء والصالحين والملائكة والأنبياء، فإذا أنكر عليهم ذلك قالوا: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، نحن نعلم ج / 1 ص -237- أنهم مخلوقون، وأن الأمر بيد الله، ولكن هؤلاء لهم مكانة عند الله، ونريد منهم أن يشفعوا لنا عند الله. فيذبحون للأولياء والصالحين والأشجار والأحجار، ويستغيثون بهم، ويصرفون لهم أنواع العبادة، فإذا أنكر عليهم قالوا: غرضنا من ذلك هو الشفاعة فقط. فبين الله أن ذلك هو الشرك، وأن تلك هي عبادة غير الله، فقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، يقولون: نحن نعلم أنهم مخلوقون، وأنهم ليس لهم من الأمر شيء، ولكننا فعلنا ذلك من أجل أن يشفعوا لنا عند الله لأن لهم مكانة عند الله، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} يعني: يعبدونهم، {مَا نَعْبُدُهُمْ}، اعترفوا أنهم يعبدونهم {إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} سَمَّى فعلهم هذا كذباً، وسَمّاه كفراً، ولم تنفعهم اعتذاراتهم، وذلك لأنهم قاسوا الخالق سبحانه وتعالى على ملوك الدنيا، فكما أنهم من عادتهم عند ملوك الدّنيا أنهم يوسطون الشفعاء بينهم وبين الملوك في قضاء حوائجهم، قاسوا الله جل وعلا بخلقه، اتخذوا عند الله الشفعاء كما يتخذونهم عند الملوك والرؤساء، وهذا باطل، لأنه تسوية بين الخالق والمخلوق، فإن ملوك الدنيا أو سلاطين الدّنيا أو رؤساء النّاس في الدّنيا يقبلون الشفاعة لحاجتهم إلى ذلك، وذلك لأن الملك أو الرئيس بحاجة إلى الوزراء والمستشارين ليعينوه على أمور الملك، فلو لم يقبل شفاعتهم لنفروا منه، ولم يعينوه، والله جل وعلا غني عن خلقه، ليس بحاجة إلى أن يعينه أحد، بخلاف الملوك والسلاطين فهم بحاجة. وأيضاً ملوك الدّنيا والسلاطين لا يعلمون أحوال الرّعيّة، فهم بحاجة إلى هؤلاء ليبلغوا حاجات النّاس وأحوال الناس، فإذا بلغهم هؤلاء الوسائط والشفعاء، فقد بلّغوهم ما لم يعرفوا من أحوال رعيتهم، أما الله جل وعلا فإنه يعلم كل شيء، لا تخفى عليه أحوال عباده، يعلم المحتاجين والمرضى والفقراء وأصحاب الحاجات، يعلم ذلك بدون أن يخبره أحد سبحانه وتعالى، فلا يقاس الخالق بالمخلوق. وأيضاً الملوك والرؤساء ولو علموا بأحوال الناس، فإنهم قد لا يلينون لهم، ولا يلتفتون إليهم، لكن إذا جاءهم هؤلاء الوسطاء، وتكلموا معهم أثّروا فيهم، ج / 1 ص -238- فقبلوا الشفاعة، أما الله جل وعلا فإنه لا يؤثر عليه أحد، الله جل وعلا يريد الزحمة لعباده، ويريد المغفرة، ويريد قضاء حاجات الناس، وإعطاءهم، ورزقهم، هو مريد لذلك سبحانه وتعالى بدون أن يؤثّر عليه أحد. ففيه فرق بين الخالق والمخلوق من هذه الوجوه، من ناحية أن الله غني لا يحتاج إلى إعانة الشّفيع، ومن ناحية أن الله عليم لا يحتاج إلى إخبار الشفيع عن أحوال خلقه، ومن ناحية أن الله سبحانه وتعالى مريد للخير والرحمة لعباده، وقضاء حوائجهم، إذا هم طلبوا من الله بصدق، ولجؤا إليه لإخلاص قضى حوائجهم، بدون أن يكون هناك واسطة. فتبيّن لنا إذاً الفرق بين الخالق والمخلوق، فغلِط المشركون في ذلك حيث سووا الخالق بالمخلوق، واتخذوا الشفعاء عنده كما يتخذون الشفعاء عند الملوك والرؤساء. والشفاعة في كتاب الله جاءت على قسمين: قسم منفي. وقسم مثبت. فالقسم المنفي: هو الشفاعة التي تطلب من غير الله. هذه الشفاعة منفية، لأن الشفاعة ملك لله، لا تطلب إلاّ منه، وكذلك الشفاعة التي تطلب فيمن لا تقبل فيه، وهو الكافر، فالكافر والمشرك لا تقبل فيه الشفاعة: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ}، وقال الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ}. والشفاعة المثبتة: هي التي توفر فيها الشرطان: الشرط الأول: أن تُطلب من الله. الشرط الثاني: أن تكون فيمن تقبل فيه الشفاعة، وهو المؤمن الموحِّد الذي عنده شيء من المعاصي دون الشرك، فهذا تُقبل فيه الشفاعة بإذن الله. قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}، هذا الشرط الأول. الشرط الثاني: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}، وهم أهل الإيمان. وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ} هذا الشرط الأول. {وَيَرْضَى}، هذا هو الشرط الثاني. ج / 1 ص -239- والشافعة المثبتة ستة أنواع: النوع الأول: الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود، وهي التي تكون من الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف، إذا طال الوقوف على أهل الموقف التمسوا من يشفع لهم إلى الله في القضاء بينهم، وإراحتهم من الموقف، فيأتون إلى آدم عليه السلام ثمّ إلى الأنبياء نبيًّا نبيًّا كلهم يعتذرون، حتى ينتهوا إلى محمَّد صلى الله عليه وسلم، فيقول: "أنا لها، أنا لها" ثمّ يخر ساجداً بين يدي ربه عزّ وجل، ويفتح الله عليه بمحامد، فلا يزال ساجداً حتى يقال له: "يا محمَّد ارفع رأسك، وسَلْ تعط، واشفع تشفّع"، هذا فيه أن الرسول لا يشفع ابتداءً، وإنما يشفع بعد الاستئذان، بعد أن يخر ساجداً لله، ولا يشفع إلاّ بعد أن يؤذن له، ويقال: اشفع تشفّع، ثمّ يشفع في أهل الموقف، فيحاسبون، ثمّ ينصرفون من الموقف إما إلى الجنة وإما إلى النار. هذه الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود الذي قال تعالى فيه: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}، لأنه يحمده عليه الأولون والآخرون -عليه الصلاة والسلام-، وهذه لم يخالف فيها أحد وحقيقتها أن الخلائق يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله لهم بأن يريحهم من الموقف الطويل. النوع الثاني: شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة في أن يدّخلوا الجنة. النوع الثالث: شفاعته صلى الله عليه وسلم في بعض أهل الجنة في رفعة درجاتهم في الجنة. النوع الرابع: شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمّه أبي طالب، وذلك أن أبا طالب كانت مواقفه مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وتأييده له، وحمايته من أذى قومه، كلها معروفة، وأنه صبر معه على الأذى وعلى الحصار والضيّق، فهو بذل مع الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً عظيماً من الحماية والنُّصرة والدفاع عنه، وهذا من تسخير الله سبحانه وتعالى، وتيسير الله، حيث سخّر هذا الكافر لحماية النبي صلى الله عليه وسلم، وحرص النبي صلى الله عليه وسلم على هدايته، ودخوله في الإسلام، حتى إنه زاره وهو يُحتضر، وقال له: "يا عم، قل: لا إله إلاّ الله، كلمة أحاج لك بها عند الله" إلاّ أنه كان عنده حَضْرة من المشركين قالوا له: أترغب عن مِلّة عبد المطلب؟. فأخذته النّخوة- والعياذ بالله-، والحَمِيَّة الجاهلية وقال: هو على ملّة عبد المطلب، ومات ولم يقل لا إله إلاّ الله، فصار من أهل النار، فالنبي صلى الله عليه وسلم ج / 1 ص -240- وقول الله عزّ وجلّ: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ}. يشفع له في تخفيف العذاب عنه يوم القيامة، لا في إخراجه من النار، فلا يتعارض هذا مع قوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ(48)}، لأنها لم تنفع أبا طالب بالخروج من النار، وإنما نفعته في تخفيف العذاب عنه. النوع الخامس: الشفاعة فيمن استحق النار من أهل التّوحيد أن لا يدخلها. النوع السادس: الشفاعة فيمن دخل النار من أهل التّوحيد أن يخرج منها، وهاتان الشفاعتان الأخيرتان ليستا خاصتين بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هما عامتان في الأنبياء والأولياء، والصالحين، والأفراط. فالأولياء يشفعون، والصالحون، والأفراط- وهم الأولاد الصغار- يشفعون لآبائهم. وهذه الشفاعة يثبتها أهل السنّة والجماعة للأحاديث الواردة الصحيحة فيها، ويخالف فيها المبتدعة من المعتزلة، والخوارج الذين يقولون إن من دخل النار لا يخرج منها، ويخالفون بذلك الأحاديث الصحيحة الواردة فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، هذه أنواع الشفاعات الثابتة الصحيحة التي توفر فيها الشرطان المذكوران. وأمر الشفاعة أمر عظيم، لأنه غلط فيها أمم من النّاس قديماً وحديثاً، وفهموها على غير المقصود، فجمهور المشركين- أو كل المشركين- فهموها على غير المقصود، وبعض المبتدعة من المسلمين أنكروا بعضها، فحصل الغلط، فلابد من التفصيل والإيضاح في أمر الشفاعة، لأنها أصبحت مزلة أقدام، يجب على طلبة العلم أن يهتموا بهذا الأمر، لأن فيها مغالطات عند القبوريين والخرافيين، لأنهم لا يفقهون معنى الشفاعة، أو أنهم يتعمّدون المعاندة والمخالفة، ويصرون على ما كان عليه آباؤهم وأجدادهم ومشايخهم من الضلال في هذا الباب. فالشفاعة ليست منفية مطلقة، ولا مثبتة مطلقة، بل فيها تفصيل، وفيها إيضاح لابد من معرفته، ولذلك عقد المصنف رحمه الله هذا الباب لها من أجل هذا الغرض. ثمّ ساق رحمه الله بعض الآيات والأحاديث في موضوع الشفاعة. والآية الأولى: قوله تعالى: "{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ ج / 1 ص -241- لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ}، هذا أمر من الله للنبي صلى الله عليه وسلم. يقول: "{وَأَنْذِرْ بِهِ}" الإنذار هو: الإعلام بشيء مَخُوْف. أما البشارة فهي: الإعلام بشيء محبوب، والنبي صلى الله عليه وسلم بشير ونذير، بشير لأهل الإيمان بالأجر والثواب والجنة، ونذير لأهل الشرك والمعاصي بالعذاب والنار. {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} الحشر معناه: الجمع، لأن الله يجمع الخلائق يوم القيامة أولهم وآخرهم في صعيد واحد، لا يخفى منهم أحد؛ لأجل فصل القضاء بينهم، وجزائهم بأعمالهم. وهذا الموقف لابد منه، فأنت أيها الرسول أنذر المؤمنين بهذا الموقف، ولماذا خص المؤمنين؟، لأنهم هم الذين يمتثلون، وإلاَّ فإنه مأمور بأن يبلغ النّاس كلهم، ولكنه- أحياناً- يؤمر بتخصيص المؤمنين، لأنهم هم الذين يمتثلون، وفي إنذارهم نفع لهم، أما المشركون والكفار فهم يبلغون من أجل إقامة الحجة عليهم، وأما المؤمنون فإنهم يبلغون من أجل نفعهم بذلك. "{ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ}" أي: غير الله. "{وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ}" لا أحد يتولاّهم يوم القيامة من الخلق، و{ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)}، يوم القيامة ما أحد يسأل عن أحد، قال تعالى: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}،فـ {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} يوم القيامة ما أحد يلوي على أحد، ولا أحد يسأل عن أحد، بل إن القريب إذا رأى أقرب النّاس إليه يفر منه. "{وَلا شَفِيعٌ}" أي: واسطة، يتوسط له عند الله، ما أحد يشفع له يوم القيامة إلاّ بإذن الله سبحانه وتعالى، وبشرط أن يكون هذا الشخص ممن يرضى الله عنه، هذه شفاعة منفيّة فبطل أمر هؤلاء الذين يتخذون الشفعاء ويظنون أنهم يخلصونهم يوم القيامة من عذاب الله كما يقول صاحب (البردة): يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلاَّ قل يا زلّة القدم هذا على اعتقاد المشركين أن الرسول يأخذ بيده ويخلصه من النار، وهذا ليس بصحيح، لا يخلصه من النار إلاّ الله سبحانه وتعالى إذا كان من أهل الإيمان. ج / 1 ص -242- وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً}. وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}. {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} هذا تعليل لقوله: "{وَأَنْذِرْ بِهِ}"، من أجل ماذا؟، أي: من أجل أن يتقوا ربهم سبحانه وتعالى، والتقوى معناها: أن يتخذوا ما يقيهم من عذاب الله يوم القيامة، وذلك بالأعمال الصالحة، بفعل الطاعات وترك المحرمات، ولا يقي من عذاب الله يوم القيامة إلاّ التقوى. فهذا فيه الرد على المشركين الذين يتخذون الشفعاء بيّن الله أنه سيأتي يوم القيامة ولا أحد يشفع لهم كما يزعمون. قوله: "{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً}" هذه الآية جزء من آية من سورة الزمر، وفي قوله تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(44)}. فقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} {أَمِ} هنا بمعنى: بل، أي: بل اتخذوا، وهذا من باب الإنكار عليهم. {اتَّخَذُوا} أي: المشركون. {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: غير الله. {شُفَعَاءَ} أي: وسائط، يتوسّطون بينهم وبين الله في إجابة دعواتهم، وقضاء حاجاتهم. {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً} فالشفاعة ليست ملكاً لهم، فأنتم تطلبون منهم ما لا يملكون. {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} إذاً تُطلب الشفاعة من الله سبحانه وتعالى، ولم تطلب من غيره. قال: وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} هذا جزء من آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ ج / 1 ص -243- وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)}. الْعَظِيمُ(255)}، وهي أعظم آية في كتاب الله عزّ وجلّ، لماذا صارت أعظم آية في كتاب الله؟، لأنها اشتملت على النفي والإثبات: نفي النقائص عن الله تعالى، وإثبات الكمال لله عزّ وجلّ والشاهد منها قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} {مَنْ} نفي، أي: لا أحد، "{يَشْفَعُ عِنْدَهُ}" أي: عند الله تعالى، {إِلَّا بِإِذْنِهِ} فهو الذي يأذن للشفعاء أن يشفعوا، وبدون إذنه لا يمكن لأحد أن يشفع أبداً، لا الأنبياء، ولا الملائكة، ولا الأولياء، ولا الصالحين، وهذا محل الشاهد؛ أن الشفاعة لا تكون إلاّ بإذن الله، ففي هذا رد على المشركين الذين اتخذوا الشفعاء بدون إذنه سبحانه وتعالى في ذلك، وزعموا أن هؤلاء الشفعاء يقومون بما يريدون منهم عند الله عزّ وجلّ، ولذلك صرفوا لهم العبادة، فصاروا يذبحون للقبور، وينذرون لها، ويطوفون بها، ويتبركون بها، ويتمسحون بترابها، وبجدرانها، يعبدونها من دون الله، لأنهم يقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، تركوا الله عزّ وجلّ وعبدوا غيره، فعملهم هذا حابط باطل، لأنهم يضعونه في غير محله، وقاسوا الخالق على المخلوق. ثم ساق رحمه الله آية النجم: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ}، كم هنا بمعنى: كثير، فهي خبريّة، أي: كثير من الملائكة. {فِي السَّمَاوَاتِ} لأن موطن الملائكة: السماوات، ومع كثرتهم {لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً} هذا نفي، لأن {شَيْئاً}: نَكِرة في سياق النفي، أي: لا تغني شيئاً أبداً إلاّ بشرطين: {إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ} هذا الشرط الأول. {وَيَرْضَى} هذا الشرط الثاني. ويأذن للشافع أن يشفع، ويرضى عن المشفوع فيه أن يُشفع فيه، وهو المؤمن الموحّد الذي عنده ذنوب يستحق بها العذاب، فإذا أذن الله جل وعلا في الشفاعة فيه، فإنه تنفعه الشفاعة، ويسلم من العذاب بإذن الله عزّ وجلّ. فدلّ على أن الأمر كله الله سبحانه وتعالى، وتُطلب الشفاعة وغيرها من الله، ولا يُتعلّق على غيره، ولا تُصرف العبادة إلاّ له، ولا يُدعى إلاّ هو سبحانه وتعالى، ولا يجوز اتخاذ ج / 1 ص -244- الوسائط بين الخلق وبين الله في قضاء الحاجات وتفريج الكربات وإجابة الدعوات، لا يجوز هذا، وإنما العباد يجب عليهم أن يتوجهوا إلى الله سبحانه وتعالى في عباداتهم، وفي دعواتهم، وفي سائر أمورهم، ومهمّة الرسل هي: التبليغ عن الله سبحانه وتعالى، أما أنهم يكونون وسطاء بين الله وبين خلقه في قضاء الحوائج فهذا أمر باطل، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيميّة: "هناك واسطة من أثبتها كفر، وواسطة من أنكرها كفر" فالواسطة التي من أنكرها كفر: هم الرسل- عليهم الصلاة والسلام- في تبليغ أمر الله سبحانه وتعالى، يعني: من جحد رسالة الرسول كفر، فالرسول واسطة بين الله وبين النَّاس في تبليغ الرسالة، أما الواسطة التي من أثبتها كفر، فهي: جعل الوسائط بين الخلق وبين الله في قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، هذه من أثبتها كفر، لأن الله كفّر المشركين في ذلك، والله جل وعلا أمرنا أن نتوجّه إليه مباشرة بدون أن نوسّط أحداً، أو نسأل بجاه أحد، أو بحق أحد، حتى ولو كان هذا الأحد له مكانة عند الله كالرسل والملائكة لأن الله لم يشرع لنا أن نوسطهم في قضاء حوائجنا، بل الله قال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ما قال: ادعوني بواسطة فلان، أو وسّطوا فلاناً بيني وبينكم، قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وفي الحديث: "ينزل ربنا سبحانه وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟، هل من مستغفر فأغفر له؟" فالباب مفتوح بينك وبين الله عزّ وجلّ، لماذا هذا التعريج، وهذه الأباطيل التي تجعلها بينك وبين الله؟، اتصل بالله مباشرة، وهو سميع مجيب: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، فهذا إبطال الوسائط التي يضعونها بينهم وبين الله، ويزعمون أنها تقربهم إلى الله زلفى، لا أصحاب القبور، ولا الأشجار، ولا الأحجار، ولا الأصنام، ولا أي مخلوق حتى ولا الأنبياء ولا الملائكة ليسوا الواسطة بين الله وبين خلقه في قضاء الحاجات غير الأعمال الصالحة أمر منفي، أما الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ الرسالات، فهذا أمر ثابت. ج / 1 ص -245- وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} الآيتين. قال أبو العباس: "نفى الله عما سواه كل ما يتعلّق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره مِلْكٌ أو قِسْط منه، أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلاَّ الشفاعة، فبيّن أنها لا تنفع إلاّ لمن أذن له الرب، كما قال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}. ثم ذكر الشيخ قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ}، وتماماً الآيتين: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ* )وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}. ثمّ ساقّ رحمه الله كلام شيخ الإسلام ابن تيميّة في توضيح هذه الآية وتفسيرها، وختم به هذا الباب العظيم، الذي هو: "باب الشفاعة". وقد مضى الكلام في أول الباب وما فيه من آيات وأحاديث وما فيه من تفصيل في أمر الشفاعة، لأن أمر الشفاعة أمر مشكل من قديم الزمان وحديثه، لأن كثيراً - أو جميع- من يقع منهم الشرك في العبادة بدعاء الأولياء والصالحين والموتى إذا سُئلوا وقيل لهم: هذا شرك، قالوا: لا، هذا ليس بشرك، لأننا لم نقصد أن نعبد من دون الله أحداً، لأننا نعلم أن العبادة حق لله، ولكن هؤلاء أناس صالحون لهم مكانة عند الله، ومن العادة أن الإنسان إذا كان له حاجة عند السلطان أو عند الملك أنه لا يتقدم إليه بحاجته مباشرة، لأنه يخشى أن لا يُقبل منه أو لا يُعرف، فحتى لا يُرد طلبه يجعل بينه وبين المطلوب منه واسطة، فهذه الواسطة تشفع له عند من عنده طلب المحتاج. هذا حاصل ما يجيبون به. وهو جواب باطل، لأن قياس الخالق على المخلوق قياس باطل، لأنّ الله سبحانه وتعالى ينزّه أن يقاس بأحد من خلقه، قال سبحانه: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(74)}، وقال سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ(4)}، إلى غير ذلك مما بيّن الله سبحانه أنه لا يجوز أن يُقاس بخلقه أو أن يشبّه بخلقه لوجود الفرق ج / 1 ص -246- فهذه الشفاعة التي، يظنها المشركون في منتفية يوم القيامة، كما فناها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده [لا يبدأ بالشفاعة أوّلاً] ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسلْ تُعط، واشفع تشفَّع ". العظيم بين الخالق والمخلوق، فإذا كان ملوك الدنيا تسوغ عندهم شفاعة الشافعين بغير إذنهم، فإن الخالق جل وعلا لا تسوغ عنده لأنه أعظم من ذلك، لأن ملوك الدّنيا بحاجة إلى هؤلاء الشفعاء لإعانتهم على أمور الملك، فيشفعونهم من أجل أن يعينوهم على أمور الملك، أو لأن ملوك الدّنيا لا يعلمون أحوال الرعيّة، فهم بحاجة إلى من يبلّغهم، أو لأن ملوك الدّنيا لا يريدون قضاء الحوائج أحياناً، ولا يريدون الرحمة حتى يأتي من الشفعاء من يتكلم معهم، حتى تتأثر قلوبهم بالعطف، وهذه الأمور كلها منتفية عن الله سبحانه وتعالى، فهو ليس بحاجة إلى من يعينه على أمور الملك، لأنه غني كريم، قادر على كل شيء، وليس بحاجة إلى من يبلّغه عن أحوال خلقه، لأنه يعلم كل شيء، وليس بحاجة إلى من يؤثر عليه ويعطفه، لأنه بعباده رؤوف رحيم، يريد لهم الخير، ويريد لهم الإعانة، ويحب العفو والمغفرة، ويجود على خلقه بدون أن يؤثر عليه أحد أو يتوسط عنده أحد، فهذه الأمور كلها منتفية، وبذلك بطلت حجة المشركين، وتبيّن أن فعلهم هذا هو الشرك، سماه الله شركاً في قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} هذا هو الشرك، وفي الآية الأخرى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، ثمّ توعدهم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}، فسمّى فعلهم هذا كذباً وسماه كفراً، بل سماه مبالغة في الكفر، لأن كفّار صيغة مبالغة، فالذي يفعل هذا قد بلغ غاية الكفر وأعظم الكفر- والعياذ بالله-. وفي هذه الآية يقول: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ(22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} هذه الآية والتي بعدها يقول العلماء عنها: إنها قطعت عروق الشرك من أصله. ج / 1 ص -247- أما قوله تعالى: {قُلِ} هذا أمر لرسوله محمَّد صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهؤلاء الذين يدعون الملائكة وغيرهم من دون الله ويزعمون أنهم يشفعون لهم عند الله بغير إذنه سبحانه وتعالى، قل لهم يا أيها الرسول، بلّغهم، أخبرهم، بيّن لهم. {ادْعُوا} هذا أمر توبيخ وتعجيز، لأن الأمر يأتي- أحياناً- للتّوبيخ والتعجيز، لا لطلب الشيء أو تشريع الشيء، كما في قوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}، ليس هذا أمراً بالكفر، وإنما هذا أمر توبيخ وتهديد، وإلاّ فالله سبحانه وتعالى لا يأمر بالكفر، وإنما {َفلْيَكْفُرْ} معناه أمر تهديد وتوبيخ وقد يكون الأمر للتعجيز {يَمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا} هذا أمر تعجيز. {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} هذا فيه رد عليهم وذلك لأنهم لتم يبنوا فعلهم هذا حتى دليل من الشرع النازل من عند الله، فالله لم يشرع دعاء غيره أبداً، وإنما أمر بدعائه وحده لا شريك له، فمن دعا غيره فهذا زعم منه، والزعم باطل، وكذلك لم يعتمدوا على دليل عقلي فطري، لأن العقل يدل على أن العبادة لا تكون إلاّ لمستحقها وهو الله سبحانه وتعالى، أما العبد الفقير العاجز، فإنه لا يستحق العبادة، هذا دليل العقل مع دليل الشرع بأن العبادة والدعاء لا يصلحان إلاّ لله سبحانه وتعالى، والزعم معناه: الكذب، دلّ على أنهم كاذبون في عملهم هذا، لأنه إذا لم يكن عليه دليل فهو كذب. ومعنى: {زَعَمْتُمْ} أي: زعمتم أنهم ينفعون أو يضرون. {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: غير الله سبحانه وتعالى. {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ(22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}، وذلك أن المدع و لابد أن يتوفر فيه أحد هذه الأحوال: الحالة الأولى: إما أن يكون مالكاً للمطلوب منه، فأنت إذا طلبت من أحد شيئاً فلابد أن يكون مالكاً له، وهؤلاء المدعوون لا يملكون شيئاً مما يطلب منهم؟ إذاً دعاؤهم باطل، كيف تطلبون من أناس لا يملكون ما تطلبونه منهم فهم: {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أي: ليس لهم ملك ولو قلّ، والذّرّة معروفة هي أصغر شيء، ج / 1 ص -248- إما أنها؛ الهَبَاءَة التي تطير في الهواء، أو أنها: النملة الصغيرة التي لا وزن لها، ودائماً يضرب الله هذا المثل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ(8)}، أقل شيء من الخير والشر: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} فالظلم منتفٍ عن الله سبحانه وتعالى قليله وكثيره، إذاً كيف تدعونهم وتطلبونهم وهم لا يملكون ما تدعونهم له وتطلبونه منهم؟، هذا من العبث، كيف تُعرضون عن الذي يملك السماوات والأرض ومن فيها، وهو الله، وتنصرفون إلى دعاء من لا يملك شيئاً، {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ}. الحالة الثانية: إذا لم يكن مالكاً فلا أقل من أن يكون شريكاً للمالك، وهذا منتفٍ في حق الخلق، لأنهم لا يشاركون الله في ملكه: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، فلا أحد يشارك الله في ملك السماوات والأرض أبداً، لا الملائكة، ولا الأنبياء، ولا الأولياء، الملك لله. الحالة الثالثة: إذا لم يكن مالكاً للشيء ولا شريكاً فيه فربما يكون معيناً للمالك، وإذا كان معيناً للمالك جاز أن يستشفع به إليه، والله نفى هذا وقال: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} لا أحد يعين الله من خلقه، لم يتخذ من خلقه من يعينه على تدبير خلقه سبحانه وتعالى، انفرد بخلق السماوات والأرض، وخلق المخلوقات، ولم يتخذ من يعينه على ذلك، لأنه قادر سبحانه وتعالى على كل شيء. الحالة الرابعة: قد يكون شفيعاً عند المالك مثل ما يشفع الناس عند الملوك، وهم ليسوا ملوكاً، وليسوا شركاء للملوك، وليسوا وزراء للملوك وأعواناً، لكنهم شفعاء، يأتي ذو جاه ومكانة فيدخل على السلطان ويشفع عنده، وهو ليس معيناً له ولا شريكاً له، هذا جائز في حق المخلوقين، لكن في حق الخالق لا يجوز، لأن الشفاعة لا تكون إلاّ بإذنه {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ} أي: عند الله {إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}، هذا بخلاف المخلوقين، قد يشفع عندهم بدون أن يأذنوا، وهل الله أذن في الشفاعة في المشركين من المستحيل أن تقع، الشفاعة في مشرك أو كافر. قال سبحانه وتعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ(48)}، {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ}، إذاً بطلت شفاعتهم من كل الوجوه الأربعة، فهي شفاعة باطلة، وإنما ج / 1 ص -249- وقال أبو هريرة له صلى الله عليه وسلم: من أسعد النّاس بشفاعتك؟، قال: "من قال: لا إله إلاّ الله؛ خالصاً من قلبه". فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله. الشفاعة الصحيحة هي الشفاعة التي يتوفر فيها شرطان: الشرط الأول: أن تكون بإذن الله. الشرط الثاني: أن تكون في أهل التّوحيد والإخلاص. وفي حديث أبي هريرة لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أسعد النّاس بشفاعتك يا رسول الله؟، قال: "لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث غيرك يا أبا هريرة لما أرى من حرصك على الحديث، أسعد النّاس بشفاعتي: من قال: لا إله إلاّ الله؛ خالصاً من قلبه". فدلّ هذا الحديث على أن شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد إذن الله تعالى بها لا تكون إلاّ لأهل الإخلاص، لا تكون لأهل الشرك، وأهل الإخلاص هم: "من قال: لا إله إلاّ الله " أي: تلفّظ بها، "خالصاً من قلبه" لم يقلها بلسانه فقط، وإنما قالها عارفاً لمعناها، عاملاً بمقتضاها، معتقداً لها بقلبه. أما الذي يقول: لا إله إلاّ الله، وهو لا يعرف معناها، ولا ما تدل عليه، أو يعرف معناها، ولكنه لا يعتقدها بقلبه، كحال المنافقين، فهذا لا تنفعه لا إله إلاّ الله، وليس له شفاعة عند الله سبحانه وتعالى، إنما الشفاعة لأهل الإخلاص، وهم الذين ينطقون بهذه الكلمة مخلصين لله عزّ وجلّ في قلوبهم ما تدل عليه هذه الكلمة من إفراد الله تعالى بالعبادة. فدلّ هذا على أنه لا حظ لأهل الشرك في الشفاعة. إذاً كل هؤلاء المشركون القدامى والمحدثون، هؤلاء الذين يأتون إلى القبور، ويجثون عندها على ركبهم، ويتمرّغون بجباههم على ترابها، ويذبحون لها، وينذرون لها، ويتمسحون بها، ويقولون: هؤلاء أولياء يشفعون لنا عند الله. هؤلاء كلهم محرومون من هذه الشفاعة، وفعلهم هذا تعب بلا فائدة، وضرر بلا منفعة، لأن هذا هو عين فعل المشركين السابقين. ج / 1 ص -250- وحقيقته: أن الله سبحانه يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع؛ ليُكرمه وينال المقام المحمود. فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أُثبتت الشفاعة بإذنه مواضع. والآية: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، عامة في الملائكة، وفي الأولياء، والصالحين، وغيرهم، كل من دُعي من دون الله عزّ وجلّ، فهو بهذه المثابة، لا يملك شيئاً ولا مثقال ذرة، ولا يشارك المالك، وليس هو ظهير للمالك، وليس هو شفيع عند المالك بشفاعة أهل الشرك، وأهل عبادة القبور، والأضرحة، والأشجار، والأحجار، والأصنام، وغيرها، هؤلاء لا حظ لهم في الشفاعة، كل هؤلاء القطعان الضائعة، هؤلاء الذين يأتون إلى هذه الأضرحة، وينفقون الأموال، ويضيعون الأوقات، كلهم لا حظ لهم في الشفاعة عند الله سبحانه وتعالى، وإنما الشفاعة لأهل التّوحيد. والسبب في جعل الله سبحانه وتعالى هذه الشفاعة أنها إكرام للشافع، يأذن الله لمن شاء من عباده أن يشفع إكراماً له، مثل ما يحصل لمحمد صلى الله عليه وسلم في المقام المحمود، إكراماً له صلى الله عليه وسلم، ورحمة للمشفوع فيه إذا كان من أهل الشفاعة والرحمة، هذا هو الحكمة في جعل الله هذه الشفاعة، فالأمر لله سبحانه وتعالى. وبهذا يتبيّن لنا معنى الآيتين الكريمتين مع بيان شيخ الإسلام ابن تيمية بهذا الكلام الواضح. وأبو العباس كنية شيخ الإسلام ابن تيمية، واسمه: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، الحنبلي، الإمام المشهور. وليس له ولد. وإنما يكنى أبا العباس من باب التكريم له، ويجوز أن يكنى الإنسان ولو لم يكن له ولد. فالحاصل؛ أن هذه الآية الكريمة قد أبطلت ما يعتقده المشركون في معبوداتهم، وردّت عليهم ردًّا مفحماً: هل يستطيع المشركون أن يقولوا: إن معبوداتنا هذه تملك في السماوات أو في الأرض شيئاً؟ لا يستطيعون. ج / 1 ص -251- وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلاّ لأهل الإخلاص والتّوحيد". انتهى كلامه رحمه الله. هل يستطيعون أن يقولوا: إنها شريكة لله؟، لا يستطيعون. هل يستطيعون أن يقولوا: إنها تعين الله في تدبير الملك؟، لا يستطيعون. هل يستطيعون أن يقولوا إنها تشفع عند الله بغير إذنه؟، لا يستطيعون. هل يستطيعون أن يقولوا: إن الشفاعة تنفع المشركين وتنفع الكفار؟ لا يستطيعون. كل هذا لا يستطيعونه أبداً. هل أحد منهم عارض هذه الآية، وقال: إن معبوداتنا تملك، أو أنها شريكة لله، أو أنها معينة لله، أو أنها تشفع عنده بغير إذنه؟، ما أحد يستطيع أن يعارض كلام الله سبحانه وتعالى، لأن كلام الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ولكن إذ عميت البصائر، وصار الناس يعملون على حسب أهوائهم، وحسب التقاليد الفاسدة؛ حينئذٍ يقعون في المهالك، يقعون فيما وقعوا فيه. ولو سألت أي خرافي أو أي مشرك من عباد الأضرحة قلت له: أجب عن هذه الآيات؟. ما استطاع الجواب. وإذا لم يستطع الجواب، تبيّن أنه مكابر، وأن عمله باطل. كان الواجب على من يدّعي الإسلام، ويشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله؛ الواجب أن يرجع إلى القرآن، وأن يتدبرّ القرآن، وأن يعمل به، وأن يراجع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعمل بها، ولا يذهب مع التقاليد الفاسدة، أو يتبع ما كان عليه الناس، أو الدعاوى الباطلة أن هذه القبور تنفع، أو أن هؤلاء الأموات ينفعون من دعاهم، أو من تقرّب إليهم، هذا كله إذا عُرِضَ على الكتاب والسنّة تبيّن بطلانه. نعم، قد يقع لهؤلاء الذين يدعون الأولياء أو القبور أن تحصل لهم حاجاتهم التي طلبوها، لكن هذا لا يدل على صحة ما هم عليه، لأنهم قد يُعطون ما طلبوا من باب الفتنة، ومن باب الاستدراج، أو أنه يصادف ذلك قضاءً وقدراً من الله سبحانه وتعالى ج / 1 ص -252- في إعطائهم هذا الشيء، فيظنون أنه بسبب القبور، وهو في الواقع بقضاء الله وقدره، فحصول المطلوب لا يدل على صحة الطلب، إنما الاحتجاج يكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا بالعادات، والتقاليد، والحكايات، والمنامات، والخرافات، أو أن فلاناً قد حصل له كذا، فلان ذهب إلى القبر الفلاني، فلانة ذهبت إلى القبر الفلاني فحملت، هذا ليس بدليل أبداً، لأن إعطاء الإنسان شيئاً مما يحتاج إليه، لا يدل على صحة ما ذهب إليه، أو ما فعل من الشرك والعادات السيئة. يقول شيخ الإسلام: "قد يرون عند القبور أو يسمعون عند القبور من يكلمهم، أو يخرج عليهم من القبر ويقول: أنا فلان الذي تطلب، وأنا أقضي حاجتك. يتمثل لهم الشيطان، ليس هو الميت، وإنما هو الشيطان، يتمثل لهم بصورة الميت، ويخاطبهم، وقد يجلب لهم شيئاً مما يطلبون من بعيد، وهو شيطان يريد أن يضلهم، ويريد أن يهلكهم، وأن يغرر بهم". فحصول المقصود لا يدل على صحة العمل، وكذلك كونهم يشاهدون الشخص الذي بصورة الميت، أو يسمعون كلاماً يكلمهم، كل هذا ليس بحجة، لأن هذه أعمال شيطانية، يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت، أو يكلمهم بصوت الميت، أو هو شيطان يريد أن يضلهم عن سبيل الله، أو يعطيهم بعض الحوائج، لأن الشيطان يستطيع أن يسير إلى الأمكنة البعيدة، وحمل الأشياء والمجيء بها، وتحضيرها، والجن يتعاونون على هذا الشيء ويحضرون مطلوب هؤلاء، ويعطونهم إياه. الحاصل؛ أنها كلها أعمال شيطانية، لأنها مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه من البلايا، يعني: كونهم يحتجّون بأن فلاناً شفي لما ذهب إلى القبر، فلانة حملت لما ذهبت إلى القبر، فلان أعطي كذا وكذا، وهذا ليس بحجة أبداً. هذا فتنة وابتلاء وامتحان، وهو من أعمال الشياطين. قد يقولون: إنه رأى الميّت في الرؤيا، وأنه قال له كذا وكذا، والرؤيا هذه من الشيطان، الشيطان قد يأتي النائم ويكلمه، أو يتمثل له بصورة من يعرف من الأموات، يأتيه في الرؤيا وهو شيطان، لأنه ليس كل رؤيا تكون صحيحة، الرؤيا على ثلاثة أقسام: ج / 1 ص -253- رؤياً هي حديث نفس، وأضغاث أحلام، لا أصل لها. والقسم الثاني: من الشيطان، جاءه فقال له في الرؤيا: اعمل كذا، أو اطلب كذا، أو اذهب إلى كذا، وهي رؤيا شيطانية، خصوصاً إذا كان الإنسان نام على غير ورد؛ لم يقرأ آية الكرسي عند النوم، ولم يقرأ سورة الإخلاص والمعوذتين عند النوم، فإنه يتسلط عليه الشيطان من أجل أن يضله، أو من أجل أن يكدّر عليه نومه، ويزعجه، لأنه يأتيه بمزعجات، يرى أشياء يكرهها. القسم الثالث: هي الرؤيا الصحيحة، وهي التي تجري على يد المَلَك، هذه الرؤيا الصحيحة وليس فيها تضليل، وإنما فيها خير، وهي جزء من النبوّة- كما في الحديث-، وهي من المبشرات، لكن هذه لا تحصل إلاّ لأهل الإيمان في الغالب، وقد تحصل الرؤيا للكفار لحكمة يريدها الله سبحانه وتعالى، كما حصلت للملك في قصة يوسف عليه السلام، والملك كان كافراً، هذه رؤيا صحيحة جرت لكافر لأمر أراد الله، وهو: الإرهاص ليوسف عليه السلام من أجل أن يكرمه الله بتأويل هذه الرؤيا، ويتبيّن عمله وفضله، ثمّ يُخرج من السجن، ثمّ يصل إلى درجة المُلك. الحاصل؛ أن الرؤيا، لا يُعتمد عليها في العبادات لأن العبادات ولاسيّما التّوحيد- لا يُبنى إلاَّ على دليل من كتاب الله أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع المسلمين، أما المنامات والرؤى والحكايات هذه كلها لا تُبنى عليها الأحكام الشرعية. لو جاءك واحد في الرؤيا وقال لك: صلِّ كذا وكذا من الصلوات، أو صُم، لم يجز العمل بهذه الرؤيا، لأن التشريع انتهى، ما هناك دليل إلاّ من الكتاب أو السنّة، فليس هناك تشريع بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاسيّما في أمور التّوحيد، وأمور العقيدة، فهؤلاء الذين شرّعوا في أمور العقيدة، فبنوا الأضرحة على القبور، والرسول ينهى عن ذلك، وطافوا بها، وتقربوا إليها، كل هذا مناف للكتاب والسنّة، لأن الله سبحانه وتعالى لم يشرَع لنا هذه الشركيّات، وهذه الخرافات، وهذه البِدْعيّات والمحدثات. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#22
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب قول الله تعالى {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}الآية. ج / 1 ص -254- [الباب الثامن عشر:] *باب قول الله تعالى {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}الآية. وفي الصحيح عن ابن المسيّب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب غرض المصنّف رحمه الله من عقد هذا الباب: الردّ على الذين غلو في النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى المشركين الذين يتعلّقون بالأولياء والصالحين، يدعونهم من دون الله، ويستغيثون بهم، لأنه إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يملك لعمه أبي طالب شيئاً، وأنه نُهي عن الاستغفار له، ففي حق غير النبي صلى الله عليه وسلم من باب أولى، فدلّ ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم لا يُدعى من دون الله، ولا يُطلب منه شيء من الأمور التي لا يقدر عليها إلاّ الله، لأنه لم يملك هذا لعمه أبي طالب مع حرصه على نفعه، وعاتبه الله بقوله: "{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}"، وبقوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}، فإذا كان هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل الخلق، دلّ على أنه لا يُدعى من دون الله، ولا يُطلب منه شيء من الأمور التي لا يقدر عليها إلاّ الله، فغيره من باب أولى من الأولياء، والصالحين، وأصحاب الأضرحة، مهما بلغوا من الصلاح، ومهما بلغوا من المكانة في الدين، فإنهم لا يُطلب منهم إلاّ ما يقدرون عليه من أمور الدنيا، إذا كانوا على قيد الحياة، أما أمور الهداية، وأمور قضاء الحاجات التي لا يقدر عليها إلاّ الله من شفاء المرضى، وإنزال المطر، وجلب الأرزاق، وإعطاء الأولاد، هذا كله لا يُطلب إلاّ من الله سبحانه وتعالى، ولا يطلب من غير الله، لا من نبي، ولا من ولي، ولا من أي مخلوق، ومن طلبه من غير الله فهو مشرك الشرك الأكبر المخرج من الملّة. فهذا غرض المصنّف رحمه الله من عقد هذا الباب. قال: "في الصحيح" يعني: في الصحيحين صحيح البخاريّ وصحيح مسلم. "عن ابن المسيّب" هو: سعيد بن المسيّب بن حَزَن بن أبي وهب المخزومي، أحد أكابر التابعين، وكان له منزلة في العلم عظيمة، فهو من أكبر علماء التابعين، وهو أحد الفقهاء السبعة الذين انتهت إليهم الفتوى في الدّنيا في زمانهم. ج / 1 ص -255- الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية، وأبو جهل، فقال له: "يا عم، قل: لا إله إلاّ الله؛ كلمة أحاجّ لك بها عند الله". وأبوه المسيّب بن حَزَن، صحابي، وجده الحَزَن- أيضاً- صحابي، فهو من كبار التابعين، وأبوه وجده صحابيّان. "عن أبيه" المسيّب. "قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة" معناه: قارب الوفاة، وليس المراد أنه نزل به الموت، لأنه إذا نزل الموت بالمحتضر، وبلغت الروح الغرغرة لا تُقبل منه توبة، كما جاء في الحديث: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" فالمراد بهذا- والله أعلم- أنه لما حضرته الوفاة وظهرت عليه علامات الموت قبل أن تبلغ روحه الغرغرة، وقبل أن يأتي الوقت الذي لا تُقبل منه التوبة. ويَحتمل أنه حضرته الوفاة يعني: بلغ نزع الروح، فيكون هذا خاصًّا بأبي طالب، وأما غيره فإذا وصل إلى هذا الحد فإنه لا تُقبل منه توبة. والله اعلم. وأبو طالب هو: أبو طالب بن عبد المطّلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، كَفَل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موت جدّه عبد المطّلب، وبقي أبو طالب حول الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعد البعثة، يدافع عنه، ويحميه، إلى سنة ثمان من البعثة، وهو لم يفارقه، يدافع عنه، ويحميه من أذى قومه، ويصبر معه على مضايقات المشركين، وبذل معه شيئاً كثيراً، وحرص النبي صلى الله عليه وسلم على هدايته، لعلّ الله أن ينقذه من النار، ومن ذلك أنه لما حضرته الوفاة جاء إليه، وهذا من حرصه صلى الله عليه وسلم على الدعوة إلى الله خصوصاً مع أقاربه، ففيه حرصه صلى الله عليه وسلم على الدعوة إلى الله، وصبره على ذلك. "وعنده عبد الله بن أبي أمية المخزومي، وأبو جهل" المخزومي، أما عبد الله بن أبي أمية فقد منّ الله عليه بالإسلام فأسلم، وأما أبو جهل عمرو بن هشام - قبّحه الله- فهذا ألدّ أعداء الإسلام، وأعظم الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فرعون هذه الأمّة"، وقُتل يوم بدر، وهو الذي قاد المشركين إلى بدر، وهو الذي حرّضهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقُتل مع صناديد قريش في غزوة بدر كافراً- والعياذ بالله-. ج / 1 ص -256- فقالا له: أترغب عن ملّة عبد المطلب؟، فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملّة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلاّ الله. "فقال له" أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب. "يا عم" هذا فمه استعطاف. "قل: لا إله إلاّ الله" يعني: انطق بهذه الكلمة، معتقداً لها بقلبك. "كلمة أحاج لك بها عند الله" "كلمة" منصوب على أنه بدل من: لا إله إلاّ الله، لأن لا إله إلاّ الله في محل نصب، مقول القول، وكلمة بدل منها، وبدل المنصوب منصوب، لأنه أحد التوابع الأربع. "أحاج لك بها عند الله" يعني: أشهد لك بها عند الله يوم القيامة، من أجل نجاتك من النار، و"أحاج" مجزوم على أنه جواب الأمر، وحرّك بالفتح من أجل التقاء الساكنين، وإلاّ أصله: أحاجج، فأدغمت الجيم في الجيم فصارت أحاج، التقى ساكنان، فحرّك بالفتح للتخلّص من التقاء الساكنين. بيّن له صلى الله عليه وسلم فائدة ذلك، ترغيباً له. ففيه أن الداعية إلى الله يبيّن للناس الترغيب، يرغّبهم في الخير، ويبيّن لهم العواقب الحسنة إن استجابوا، ويحذرهم من العواقب الوخيمة إن لم يستجيبوا، فالداعية يبشر وينذر. ولكن جلساء السوء- والعياذ بالله- تسببوا في شقاوة هذا الرجل: "فقالا له" قال: أبو جهل وعبد الله بن أمية لأبي طالب معارضين لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أترغب عن ملة عبد المطّلب؟" أي: أتترك ملّة أبيك؟، وهذا من إثارة النخوة الجاهلية، والحميّة الجاهلية، وهي: التعصّب الممقوت، وأتيا بالحجة الملعونة، وهي: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}، وهذه يحتج بها المشركون، إذا جاءتهم الرسل قالوا: نحن وجدنا آباءنا على هذا، لا نقدر أن نترك دين آبائنا ونتبعكم. وفرعون لما جاءه موسى وهارون عليهما السلام قال: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى}، يحتج عليهم بما كانت عليه القرون الأولى من الكفر والشرك، فهي حجة مطّردة عند المشركين، الاحتجاج بما عليه النّاس، والآباء، والأجداد، وهذه الحجة حالت بين كثير من النّاس وبين الإيمان- والعياذ بالله- إلاّ من هداه الله. ج / 1 ص -257- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فأنزل الله سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}. وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}. "فأعاد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم" هذا فيه: أن الداعية لا ييأس، أي: طلب منه أن يقول: لا إله إلاّ الله. "فأعادا عليه" أعاد عليه الرّجلان، قولتهم القبيحة: "أترغب عن ملّة عبد المطّلب؟". فعند ذلك أخذته الحميّة الجاهلية، فقال: "هو على ملة عبد المطلّب". "هو" هذا ضمير الغائب، يَحتمل أن الرّاوي صرفه، ولم يقل: أنا، من باب كراهة هذا اللّفظ. وجاء في بعض الروايات:"أنا على ملّة عبد المطلب". "وأبى أن يقول: لا إله إلاّ الله" ومات- والعياذ بالله- على الشرك. فعند ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من شفقته على عمه، ولما رأى أنه مات على الشرك، وكان منه في حياته من النُّصرة والتأييد قال: "لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك" هذا كله من كمال شفقته صلى الله عليه وسلم، ومن مجازاته على المعروف، ووفائه صلى الله عليه وسلم. "فأنزل الله سبحانه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}" نهاه الله عن ذلك، ونهى المؤمنين، لأن المسلمين لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لعمّه قالوا: إذاً نستغفر لموتانا، فأنزل الله هذه الآية. {مَا كَانَ} أي: لا يليق ولا ينبغي، وهذا خبر معناه: النهي والتحذير. "{لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}" المشرك لا يجوز الاستغفار له ولا التّرحّم عليه إذا مات على الشرك، وكذلك في حالة الحياة فالمشرك لا يستغفر له وهو حي، ولا يُترحّم عليه، وإنما يطلب له الهداية، يُقال: اللهم اهده، أما الاستغفار والترحّم فإنه لا يجوز للمشركين، لا أحياءً ولا أمواتاً، لأنه لا تجوز محبتهم وموالاتهم ما داموا على الشرك، وإبراهيم عليه السلام استغفر لأبيه لأنه وعده أن يستغفر له، {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}. "وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}" {إِنَّكَ} أيها الرسول، ج / 1 ص -258- {لا تَهْدِي} لا تملك هداية "{مَنْ أَحْبَبْتَ}" من أقاربك وعمك، والمراد بالمحبة هنا: المحبة الطبيعية، ليست المحبة الدينيّة، فالمحبة الدينيّة لا تجوز للمشرك، ولو كان أقرب الناس: { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}، فالمودة الدينيّة لا تجوز، أما الحب الطبيعي فهذا لا يدخل في الأمور الدينيّة. {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} فنفى سبحانه وتعالى عن نبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم أنه يملك الهداية لأحد، كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، قال سبحانه: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ(103)}. فإن قلت: أليس الله جل وعلا قال في الآية الأخرى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، فأثبت في هذه الآية أن الرسول يهدي إلى صراط مستقيم؟. فالجواب عن ذلك: أن الهداية هدايتان: هداية يملكها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهداية لا يملكها. أما الهداية التي يملكها الرسول فهي: هداية الإرشاد والدعوة والبيان ويملكها كل عالم يدعو إلى الخير. أما الهداية المنفيّة فهي: هداية القلوب، وإدخال الإيمان في القلوب، فهذه لا يملكها أحد إلاّ الله سبحانه وتعالى. فنحن علينا الدعوة، وهداية الإرشاد والإبلاغ، أما هداية القلوب فهذه بيد الله سبحانه وتعالى، لا أحد يستطيع أن يوجد الإيمان في قلب أحد إلاّ الله عزّ وجلّ، هذا هو الجواب عن الآيتين الكريمتين. {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} فلا يضع هداية القلب إلاّ فيمن يستحقّها، أما الذي لا يستحقّها فإن الله يحرمه منها، والله عليم حكيم جلّ وعلا، ما يُعطي هداية القلب لكل أحد، وإنما يُعطيها سبحانه من يعلم أنه يستحقّها، وأنه أهل لها، أما الذي يعلم منه أنه ليس أهلا لها، ولا يستحقّها، فإن الله يحرمه منها، ومن ذلك حرمان أبي طالب، حرمه الله من الهداية لأنه لا يستحقّها، فلذلك حرمه منها، والحرمان له أسباب: ومنها: التعصّب للباطل، وحميّة الجاهلية تسبّبان أن الإنسان لا يوفّقه الله جلج / 1 ص -259- وعلا، فمن تبيّن له الحق ولم يقبله فإنه يعاقب بالحرمان -والعياذ بالله-، يعاقب بالزّيغ والضلال، ولا يقبل الحق بعد ذلك، فهذا فيه الحثّ على أن من بلغه الحق وجب عليه أن يقبله مباشرة، ولا يتلكّأ ولا يتأخر، لأنه إن تأخر فحريّ أن يُحرم منه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}. وهذا الحديث مع الآية يدلان على مسائل عظيمة: المسألة الأولى: فيه مشروعية الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أتى عمه وهو في سياق الموت، من أجل ماذا؟، من أجل الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، ففيه: الدعوة إلى الله، وأن الداعية لا ييأس، ولا يقنط من القبول، أو يكسل عن مواصلة الدعوة، ويقول: النّاس ما هم بقابلين، النّاس ما فيهم خير، الإنسان يدعو إلى الله، من قَبِل فالحمد لله، ومن لم يقبل قامت عليه الحجّة، وحصل الأجر للداعية. المسألة الثانية: في الحديث دليل على مشروعية عيادة المريض المشرك من أجل دعوته إلى الله عزّ وجلّ، فإن الرسول عاد عمه وهو مشرك من أجل دعوته إلى الله. المسألة الثالثة: - وهي مهمة جدًّا-: أن من قال: لا إله إلاّ الله فإنه يُقبل منه، ويُحكم بإسلامه، ما لم يظهر منه ما يُناقض هذه الكلمة من قول أو فعل، فإن ظهر منه ما يناقض هذه الكلمة حُكم بردّته، أما ما لم يظهر منه ما يناقض هذه الكلمة، فإنه يُحكم بإسلامه، فإن كان صادقاً فيما بينه وبين الله، فهو مسلم حقًّا، وإن كان كاذباً فيما بينه وبين الله فهو منافق، أمره إلى الله عزّ وجلّ، أما نحن فليس لنا إلاّ الظاهر. المسألة الرابعة: في الحديث دليل على أن الأعمال بالخواتيم، فأبو طالب عاش على الكفر والشرك، لكنه لو قال: لا إله إلاّ الله عند الوفاة، واستجاب للرسول صلى الله عليه وسلم لختم له بالإسلام، فدلّ على أن الأعمال بالخواتيم، وهذا يصدقه قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن مسعود: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وان أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" فالأعمال بالخواتيم. ج / 1 ص -260- المسألة الخامسة: فيه التحذير من جلساء السوء، ماذا جرّ على أبي طالب هؤلاء الجلساء، ومات على الكفر بسبب مشورتهما- والعياذ بالله-. المسألة السادسة: في الحديث ردٌّ على من زعم إسلام أبي طالب من الشيعة والخرافيين لأن آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلاّ الله. المسألة السابعة: وهي عظيمة جدًّا: تفسير لا إله إلاّ الله كما يقول الشيخ رحمه الله، وأن معناها: ترك عبادة غير الله، لأن أبا جهل وزميله فهما أنه إذا قال: لا إله إلاّ الله فقد ترك ملّة عبد المطّلب، وأن لا إله إلاّ الله ليست مجرّد كلمة تُقال، وإنما هي كفر بالطّاغوت وإيمان بالله عزّ وجلّ، بخلاف ما يعتقده كثير من الخرافيين في هذا الزمان، يقولون: لا إله إلاّ الله، ويقولون: يا حسين، ويا فلان، ويذبحون للموتى، ويستغيثون بهم، وهم يقولون: لا إله إلاّ الله!!، بل لهم أوراد صباحية ومسائية يقولونها بالمئات، ثم يذبحون للضريح ويطوفون به، ويستغيثون به. فدلّ على أن أبا جهل أفهم منهم بمعنى لا إله إلاّ الله، لأن أبا جهل فهم أن معنى لا إله إلاّ الله: ترك عبادة الأوثان، وهؤلاء ما فهموا هذا، ما فهموا أن لا إله إلاّ الله معناها؛ ترك عبادة القبور، وهذا من الفقه العظيم، وهذه هي العقيدة الصحيحة، والداعي إلى الله يجب أن يفهم هذا الفقه، لأن هذا هو فقه الدعوة. المسألة الثامنة: فيه الردّ على المرجئة، الذين يقولون: إن الإيمان هو مجرّد المعرفة أو الاعتقاد، فإذا عرف الإنسان بقلبه أو اعتقد أنه لا إله إلاّ الله وأن محمّداً رسول الله، ولو لم يعمل؛ فإنه يكون مسلماً، لأن الأعمال ليست شرطاً في الإيمان، بل مجرّد المعرفة أو الاعتقاد بالقلب يكفي عندهم، وهذا باطل، لأنها لم تعتبر معرفة أبي طالب لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم، لم تعتبر إسلاماً، والله تعالى قال عن المشركين: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}، فهم يعرفون أنه رسول الله، لكن الكبر والحمية الجاهلية، جعلتهم لا يقبلون الدعوة، مع أنهم يعرفونها بقلوبهم، والله جل وعلا حكى عن موسى عليه السلام أنه قال لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّاج / 1 ص -261- رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، ففرعون عارف بقلبه صحّة ما جاء به موسى، ولكن منعه الكبر والمعاندة، وقال تعالى عن المشركين: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}، وأيضاً قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ}، فاليهود يعرفون أنه رسول الله - أيضاً- كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} يعرفون أنه رسول الله. وكان أبو طالب يعرف أنه رسول الله، وصرّح بهذا في قصائده، يقول: "ولقد علمت أن دين محمَّد من خير أديان البرية ديناً لو لا الملامة أو حذار مسبة لرأيتني سمحاً بذاك مبيناً" فالذي منعه هو ما جاء في هذا الحديث: أبى أن يقول: لا إله إلاّ الله وقال: "وهو على ملّة عبد المطلب"، وهو يعرف أنه رسول الله. المسألة التاسعة: فيه تحريم الاستغفار للمشركين، والترحّم عليهم، وموالاتهم، ومحبتهم، لأن الله جل وعلا يقول: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(113)}. المسألة العاشرة: فيه التحذير من التعصّب لدين الآباء والأجداد إذا كان يخالف ما جاءت به الرسل، فإن الذي حمل أبا طالب على ما وقع فيه هو التعصّب لدين عبد المطّلب، وأنه سبب لسوء الخاتمة- والعياذ بالله-، فليحذر المسلم من هذا. الواجب على المسلم أن يقبل الحق ولو خالف ما عليه آباؤه وأجداده، أما إذا كان آباؤه وأجداده على حق، فأتباعهم حق، ويوسف عليه السلام يقول: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ}. فإتباع الآباء والأجداد على الحق مشروع. ج / 1 ص -262- المسألة الحادية عشرة: وهي المقصودة بالذات من عقد هذا الباب، وهي: الردّ على المشركين الذين يتعلّقون بالأولياء والصالحين، ويدعونهم من دون الله، لأنه إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يملك لعمه أبي طالب الهداية فغيره من باب أولى، وهذه هي المناسبة للتّرجمة. والله تعالى أعلم. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#23
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب ما جاء في أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين ج / 1 ص -263- [الباب التاسع عشر:] *باب ما جاء في أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين وقول الله عزّ وجلّ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}. قال الشيخ رحمه الله: "باب ما جاء" يعني: ما ورد من الأدلة من أن "سبب كفر بني آدم" السبب في اللغة: ما يُتوصّل به إلى الشيء، ولذلك سمّي الحبل سبباً، قال تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} يعني: فليمدد بحبل إلى السماء. أما السبب عند الأصوليين فهو: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته. "كفر بني آدم" يعني : كفرهم بالله عزّ وجلّ. "وتركهم" بالجر عطفاً على كفر المضاف إليه، لأن المعطوف على المجرور مجرور. "دينهم" دينهم منصوب على المفعوليّة، لأن المصدر إذا أضيف أو دخلت عليه "ألـ" فإنه يعمل عمل فعله. "هو الغلو في الصالحين" الغلو في اللغة: هو الزيادة عن الحد، يقال:. غلى القدر إذا زاد ومنه يقال: غلى السعر؛ إذا زاد في الأسواق، فالغلو في اللغة: هو الزيادة عن الحد. أما في الشرع: هو الزيادة عن الحد المشروع، يسمّى غلوًّا، ويسمّى طُغياناً. والغلو في الصالحين، هو: الزيادة في مدحهم، ورفعهم فوق مكانتهم؛ بأن يُجعل لهم شيءٌ من العبادة. قال: "وقول الله عزّ وجلّ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}" المراد بأهل الكتاب: اليهود والنصارى، سُمّوا بأهل الكتاب: لأن الله سبحانه أنزل على أنبيائهم الكتب. اليهود أنزل الله على نبيهم موسى عليه السلام التوراة. والنصارى أنزل الله على نبيهم عيسى- عليه الصلاة والسلام- الإنجيل، فلذلك سُمّوا أهل الكتاب فَرْقاً بينهم وبين الأُميّيّن والوثنيّين الذين لا كتاب لهم. ج / 1 ص -264- وهذا فيه تنبيه على أن المطلوب منهم أن يتقيّدوا بالكتاب الذي أنزل عليهم، وعدم مجاوزته، وهو تنبيه لكل عالم بأن يلتزم الاعتدال. "{لا تَغْلُوا}" هذا نهي من الله تعالى لهم عن الغلو، لأن الغلو أن يكون في شخص، أو يكون في دين. والغلو في الشخص هو: المبالغة في مدحه، ورفعه فوق منزلته التي أنزله الله فيها. وأما الغلو في الدين فهو: الزيادة عن الحد المشروع في العبادات، في مقاديرها، أو في كيفيّتها، كما في قصة الثلاثة الذي جاءوا يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا بها كأنهم تقالّوها، ولكنهم قالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر؟، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي ولا أنام، قال الآخر: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء [يعني: يتبتّل]، وفي رواية: لا أكل اللحم [من باب التّقشّف وحِرمان النفس]. هذا غلو أيضاً، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟، أما والله إني لأرجو أن أكون أعرفكم بالله عزّ وجلّ، وأخشاكم لله، وإني أصلّي وأنام، أصوم وأفطر، وأتزوّج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منّي"، هذا غلو نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمر بالتّوسّط وعدم الغلو. ولما لُقطت له- عليه الصلاة والسلام - حصى الجمار أمثال حصى الخَذْف - يعني: أكبر من الحِمَّص بقليل- أخذها صلى الله عليه وسلم في كفّه وقال: "أمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو". واليهود والنصارى غلو في أنبيائهم، وغلو في دينهم- أيضاً-، غلو في أنبيائهم، حيث قالت النصارى للمسيح: ابن الله، فرفعوه فوق منزلة البشرية إلى منزلة الربوبية ويسمُّونه الرب. وأما اليهود فقد غلوا في عزير، قالوا: هو ابن الله. وكذلك النصارى غلو في دينهم فابتدعوا الرهبانية، وهي: التّبتّل والتّعبدّ، ولزوم الصّوامع، وعدم الخروج منها، رهبانية ابتدعوها، كما قال الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}، هذا من الغلو في الدين، قال تعالى: {لا ج / 1 ص -265- وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنه في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً(23)}. تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ}، وفي الآية الأخرى في سورة النساء يقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً(171)}. فكذلك الذين غلو في الصالحين من هذه الأمة حتى عبدوهم مع الله سبحانه وتعالى، وجعلوا لهم شيئاً من الرّبوبيّة والألوهيّة، سواءً بسواء. قال: "في الصحيح" يعني: صحيح البخاريّ. "عن ابن عباس رضي الله عنه في قول الله تعالى" يعني: في تفسير قوله تعالى: "{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً(23)}"، قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح...إلخ" قوم نوح لما نهاهم نبي الله نوح- عليه الصلاة والسلام- عن الشرك وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له؛ تواصوا فيما بينهم بهذه الوصية الكافرة: "وقالوا لا نذرن آلهتكم" يعني: لا تطيعوا نوحاً عليه السلام، لا تتركوا آلهتكم التي تعبدونها من دون الله. "{وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}" هذه أسماء رجال صالحين، وكان هذا في الأوّل، لأن النّاس كانوا بعد آدم عليه السلام على دين التّوحيد- كما قال ابن عباس-، كانوا على دين التّوحيد دين أبيهم آدم- عليه الصلاة والسلام- عشرة قرون، وكان هؤلاء الصالحون في هذا العهد- عهد التّوحيد-، فلما ماتوا - ويُروى: أنهم ماتوا في سنة واحدة- حزنوا عليهم حزناً شديداً، وبكوا عليهم، فاستغل الشيطان- لعنه الله- هذه العاطفة فيهم، وأشار عليهم بمشورة ظاهرها النصح، وباطنها الخديعة والمكر، أشار عليهم بأن يصوّروا تماثيلهم، يعني: يجعلوا لهم صوراً على شكل تماثيل، كل واحد له صورة، وأن ينصبوا هذه التماثيل على ج / 1 ص -266- قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبدت". مجالسهم؛ من أجل أن ينشطوا على العبادة، إذا رأوهم تذكّروا حالتهم فنشطوا على العبادة، فهو جاءهم من باب النصح، وأشار عليهم بمشورة ظاهرها الخبر، وأن هذه وسيلة للنشاط على العبادة، والتقوى، والصلاح، والإقتداء بهؤلاء، إذا رأوا صورهم تذكّروا صلاحهم وحالتهم فاقتدوا بهم، هذا ظاهر نصيحته، ولكنه في الباطن يمكر بهم، لأنه يرمي إلى مرمى بعيد- لعنه الله-، ينظر إلى العواقب، إلى الأجيال القادمة، يؤسس هذا الأساس للأجيال القادمة، وإلاَّ فإنه يعرف أن هؤلاء- ما دام العلم موجوداً، وما دام أنهم على التّوحيد- لن يتركوا عبادة الله عزّ وجلّ، فقبلوا هذه المشورة لأن ظاهرها أنها خير، وابتدعوا هذه البدعة. وهذا دليل على أن البدع لا تجوز وإن كان ظاهرها الخير، وإن كانت نيّة أصحابها الخير. ابتدعوا هذه البدعة، وصوّروا هذه التماثيل على مجالس هؤلاء الصالحين ولم تُعبد في هذا الجيل، لأنهم على علم وعلى دين، لكن لما مات هذا الجيل، ونُسي العلم- وفي رواية: نُسِخ العلم بموت العلماء-، لأن الشيطان لا يتسلّط- في الغالب- مع وجود العلماء، لأن العلماء يكافحونه، ويردّون كيده، إنما يتسلّط عند عدم العلماء. "حتى إذا هلك أولئك، ونُسي العلم" يعني: بموت العلماء الذي يحذّرون من الشرك، "عُبدت" هذه الصور لأن الشيطان قال لهم: إن آباءكم ما نصبوا هذه الصور إلاّ من أجل أن يتقرّبوا إليها، ويسقون بها المطر، فصدّقوه في هذا. ومقالته لهذا الجيل المتأخِّر تخالف مقالته للجيل السابق، هذا من باب المكر، فصدّقوه في هذا فعبدوهم، ومن حينها حدث الشرك في الأرض، وغُيّر دين آدم - عليه الصلاة والسلام- فبعث الله نبيّه نوحاً عليه السلام أول الرّسل. وهذا أول شرك حدث في الأرض، وسببه هو الغلو في الصالحين ثمّ بعث الله ج / 1 ص -267- قال ابن القيم: "قال غير واحد من السلف: لما ماتوا؛ عكفوا على قبورهم، ثمّ صوّروا تماثيلهم، ثمّ طال عليهم الأمد، فعبدوهم". نبيّه نوحاً عليه السلام ينهى عن ذلك، ويريد ردّهم إلى التّوحيد، ولكن لم يؤمن معه إلاّ القليل كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ}، كما قال كفّار قريش لما نهاهم محمّد صلى الله عليه وسلم عن الشرك: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ}، لا تطيعوا محمّداً فدين المشركين واحد من قديم الزمان وحديثه. "قال ابن القيم" ابن القيّم هو: محمّد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي، الإمام الجليل، الحافظ، صاحب المصنّفات المشهورة في التّوحيد والأصول والفقه ومختلف العلوم، وهو أكبر تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميّة- رحمهما الله- علماً وقدراً. قال: "لما ماتوا" يعني: لما مات هؤلاء الصالحون. وهذا تفسير وتوضيح لما قاله ابن عباس رضي الله عنه. "عَكَفوا على قبورهم" العُكوف هو: طول البقاء في المكان، ومنه: الاعتكاف في المساجد، كما عرّفه الفقهاء بأنه: لزوم مسجد لطاعة الله. "ثم صوّروا تماثيلهم" هذه خطوة ثانية. "ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم" هذه خطوة ثالثة. فهذه الآثار مع الآية الكريمة تدلّ على مسائل عظيمة: المسألة الأولى: تحريم الغلو في الصالحين، بمعنى ما ذكرناه في الغلو، وأنه يؤول إلى الشرك، فإن غلو قوم نوح في الصالحين آل بهم إلى الشرك- والعياذ بالله-، فهذا شاهد للتّرجمة: "باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين" وهذا ظاهر، فإن ما وقع في قوم نوح كان سببه الغلو في الصالحين. وفيه ردٌّ على عبّاد القبور اليوم، الذين يقولون: البناء على القبور من باب المحبة للصالحين. وكوننا نستغيث بهم، ونستشفع بهم، ونذبح لهم، وننذر لهم، ونتبرّك بتربتهم، هذا ليس من الشرك، هذا من باب محبة الصالحين. ويقولون: للذين ينكرون هذا أنتم تبغضون الصالحين. هكذا فسروا المحبة والبُغض، بأن ج / 1 ص -268- المحبة: عبادتهم، والبغض: ترك عبادتهم، هذا من انتكاس الفِطَر- والعياذ بالله-. فالآية والأثر يردّان عليهم، لأن هذا ليس من محبة الصالحين، وإنما هو من الغلو فيهم الذي يؤول إلى الشرك- والعياذ بالله-. المسألة الثانية: في هذه الآثار دليل على أن الغلو في الصالحين من سنّة اليهود والنصارى، قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}، فالغلو في الصالحين من سنة اليهود والنصارى، وليس من سنة المسلمين، فهؤلاء القبوريون سلفهم اليهود والنصارى، وبئس السلف. المسألة الثالثة: فيه التحذير من التصوير، ونشر الصور، لأن ذلك وسيلة إلى الشرك، فأول شرك حدث في الأرض هو بسبب الصور المنصوبة، وهذه إحدى علّتي تحريم التصوير، لأن التصوير ممنوع لعلّتين: العلّة الأولى: أنه وسيلة إلى الشرك. العلّة الثانية: أن فيه مُضاهاة لخلق الله سبحانه وتعالى. وقد قال تعالى كما في الحديث القدسي: "ومن أظلم ممّن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبّة، أو ليخلقوا شعيرة"، فالمصوّر يحاول أن يضاهي خلق الله تعالى بإيجاد الصورة، فلذلك يجعل لها أعضاء، ويجعل لها عينين، ويجعل لها أنفاً، ويجعل لها شفتين، ويجعل لها وجهاً، ويجعل لها يدين، ويجعل لها رجلين، يضاهي خلق الله، إلاّ أنه لا يقدر على نفخ الروح فيها، ويجعل الصورة على شكل ضاحكة، أو على شكل باكية، أو شكل مقطّبة الجبين، أو مسرورة، كل هذا مضاهاة لخلق الله، وإن كانوا يسمون هذا من باب الفنون، وهي فنون شيطانية، والجنون فنون، فتسميته من باب الفنون لا يسوغ عمله، والتصوير ملعون من فعله، ففيه: التحذير من التصوير ونصب الصور. لأن ذلك يؤول إلى الشرك بالله عزّ وجلّ، وهذا أعظم العلّتين في النهي عن التصوير ونصب الصور، لاسيّما صور المعظمين من الملوك والرؤساء ومن الصالحين والمشايخ إذا نُصبت فإن هذا يؤول إلى عبادتها، ولو على المدى البعيد، لأن الشيطان حاضر ويشغل الجهل والعواطف. المسألة الرابعة: في الآية والآثار دليل على تحريم البدع في الدين، وأنها ج / 1 ص -269- تؤول إلى الشرك، ولذلك قال العلماء: البدعة توصل إلى الشرك ولو على المدى البعيد. وهذه بدعة قوم نوح وصَّلت إلى الشرك، وهذا شيء واضح. المسألة الخامسة: فيه دليل على أن حسن النيّة لا يسوغ العمل غير المشروع، لأن قوم نوح نيّتهم حسنة، عندما صوّروا الصور يريدون النشاط على العبادة، وتذكر أحوال هؤلاء الصالحين، ولا قصدوا الشرك أبداً، وإنما قصدوا مقصداً حسناً، لكن لما كان هذا الأمر بدعة صار محرّماً لأنه يُفضي إلى الشرك ولو على المدى البعيد، فالنية الحسنة لا تسوغ العمل غير المشروع. المسألة السادسة: وهي عظيمة جداً: فيه بيان فضيلة وجود العلم والعلماء في النّاس، ومضرّة فقدهم، لأن الشيطان ما تجزّأ على الدعوة إلى الشرك مع وجود العلم ووجود العلماء، إنما تجزّأ لما فُقد العلم ومات العلماء، فهذا دليل على أن وجود العلم ووجود العلماء فيه خير كثير للأمة، وأن فقدهم فيه شر كثير. المسألة السابعة: فيه التحذير من مكر الشيطان، وأنه يُظهر الأشياء القبيحة بمظهر الأشياء الطيبّة حتى يغرِّر بالناس. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أنه يتدرّج بالناس شيئاً فشيئاً، لأنه تدرّج بقوم نوح من تذكّر العبادة والنشاط والمقصد الحسن، تدرّج بهم إلى المقصد السيء والشرك بالله عزّ وجلّ. وليسو هذا مقصوراً على شيطان الجن، بل وشيطان الإنس كذلك يعمل هذا العمل، فدعاة السوء ودعاة الضلال- أيضاً- يمكرون بالأمة الإسلامية مثل ما يمكر الشيطان: {شَيَطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً}. المسألة الثامنة: فيه دليل على تحريم الغلو في قبور الصالحين،، فقول ابن القيم: "لما ماتوا عكفوا على قبورهم" فيه: التحذير من الغلو في قبور الصالحين، وذلك بالعكوف عندها، أو البناء عليها، أو غير ذلك من أي مظاهر الغلو، والنبي صلى الله عليه وسلم حذّر من البناء على القبور، وحذّر صلى الله عليه وسلم من الصلاة عند القبور، والدعاء عند القبور، لأن ذلك وسيلة إلى الشرك، وحذّر صلى الله عليه وسلم من إسراج القبور، فقال: "لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسّرج" لأن هذا يغرّ العوام، ويقولون: ما عمل به هذا العمل إلاّ لأنه يضر أو ينفع، ولذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ج / 1 ص -270- وعن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" أخرجاه. قال: "لا تدع قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته" المشرف: هو المرتفع بالبناء، "إلاَّ سوّيته" يعني: هدمت البناء الذي عليه، وكذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور، وطلائها بالجص، أو بالنورة، أو بالبويات، أو الألوان المزخرفة، لأن هذا يغرّ العوام، ويظنون أنه ما عمل به هذا العمل إلاّ لأنه له خاصية، ونهى صلى الله عليه وسلم عن الكتابة على القبور، فلا يكتب على القبور اسم الميت، ولا تاريخ وفاته، ولا مكانته، فلا يقال: هذا قبر العالم الفلاني الذي عمل كذا وكذا، كل هذا لا يجوز، لأن هذا يغرر بالناس فيما بعد، ويقولون: ما كُتبت هذه الكتابة إلاّ لأن هذا الميّت له خاصيّة. كل هذه الأمور نهى عنها الشارع، لأنها وسائل إلى الشرك. والمشروع في القبور أن تُدفن كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم تُدفن بترابها، وتُرفع عن الأرض قدر شبر بالتراب من أجل أن تُعرف أنها قبور فلا تُداس، ويجعل عليها نصائب من طرفيها لتحديد القبر، لأجل أن لا يوطأ، وما زاد عن ذلك فهو ممنوع. هكذا كانت القبور في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم في دفن الأموات. المسألة التاسعة: فيه أن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح، وهذه قاعدة مشهورة، لأن عمل قوم نوح فيه مصلحة جزئية وهي: تذكر حالة الصالحين، لكن المفسدة أكبر من هذا، وهو أن ذلك يؤول إلى الشرك- والعياذ بالله-. قوله: "وعن عمر" المراد به: عمر بن الخطاب بن عمرو بن نُفَيْل العدوي القرشي، ثاني الخلفاء الراشدين، وأفضل هذه الأمة بعد أبي بكر الصدّيق، رضي الله تعالى عن الجميع. فهو عمر بن الخطاب الذي أعزّ الله به الإسلام والمسلمين، وفتح الله على يديه الفتوحات في المشرق والمغرب، حتى اتسعت رُقْعة الإسلام في الأرض، وله من الفضائل الشيء الكثير، رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعن جميع صحابة رسول الله والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُطْروني" هذا نهي منه صلى الله عليه وسلم عن الإطراء في حقهّ، ج / 1 ص -271- والإطراء هو: زيادة المدح والمبالغة فيه، كما هي عادة بعض المدّاحين من الشعراء وغيرهم، وهذه صفة ذميمة، فإن كثرة المدح والزيادة في ذلك منهي عنها في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وفي حق غيره، ولكن في حق الرسول أعظم، لأن ذلك يؤدي إلى الشرك والكفر، فإن الغلو في مدح الأنبياء يؤدي إلى الشرك، كما حصل للنصارى واليهود حينما غلو في الأنبياء. فمعنى قوله: "لا تُطروني" يعنني: لا تزيدوا في مدحي. "كما أطرت النصارى ابن مريم" النصارى المراد بهم: أتباع عيسى عليه السلام، قيل: سُمُّوا نصارى نسبة إلى البلد: الناصرة في فلسطين، أو من قوله تعالى: {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ}، وهم أهل ملّة من الملل الكتابيّة، ويسمّون بالنصارى، أما أن يسمّوا بالمسيحيين- كما عليه النّاس الآن- فهذا غلط، لأنه لا يقال: المسيحيون إلاّ لمن اتبع المسيح عليه السلام، أما الذي لم يتبعه فإنه ليس مسيحيًّا، وإنما هو نصراني، فاسمهم في الكتاب والسنّة: النصارى. كما أن اليهود نفروا من الاسم الخاص بهم في الكتاب والسنّة وهو اليهود فسموا أنفسهم إسرائيل، وإسرائيل هو نبي الله يعقوب - عليه الصلاة والسلام- فليسوا هم إسرائيل، وإنما هم اليهود. هذا هو اللفظ الموضوع لهم، الذي رُبطت به اللعنة والغضب من الله سبحانه وتعالى بسبب كفرهم بالله وعنادهم وتعنتّهم، فهم اليهود. نعم، يُقال: بنو إسرائيل- كما سمّاهم الله بذلك- لأنهم من ذرية يعقوب عليه السلام في الغالب، وفيهم أناس يهود ليسوا من ذرية إسرائيل، لكن الغالب عليهم أنهم من بني إسرائيل. وعلى كل حال؛ لا يجوز أن يُقال: إسرائيل، وإنما يُقال: اليهود، أو يقال: بنوا إسرائيل. " كما أطرت النصارى" أي: كما غلت النصارى في مدح المسيح عليه السلام. "ابن مريم"يُنسب إلى أمه عليها السلام لأنه ليس له أب، لأن الله خلقه من أم بلا أب بقوله: {كُن}، فهو تكوّن بالكلمة من قوله: {كُن}، ولذلك يُقال: (كلمة الله)، لأنه تكوّن بها من غير أب، فتكوّن بأمر الله سبحانه وتعالى حين قال له: "كُن" فكان بأمر الله، هذا ج / 1 ص -272- سبب تسميته كلمة الله، والله قادر على كل شيء، فالله خلق آدم من غير أب ولا أم، خلقه من تراب بشراً سوياً، وخلق حوّاء من غير أم، خلقها من آدم: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، وخلق عيسى أم بلا أب، وخلق سائر البشر من أم وأب، ولهذا يقول الله جل وعلا: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ}، فإذا كنتم تعجبون من خلق عيسى من أم بلا أب، فآدم عليه السلام أولى بالعجب، لأن الله خلقه من تراب {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، فلا غرابة في قدرة الله سبحانه وتعالى، فالله قادر على كل شيء، لا تتحكّم فيه الأسباب، وإنما هو سبحانه يتحكّم في الأسباب والمخلوقات: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} سبحانه وتعالى، ولا حَجْر على قدرته سبحانه وتعالى. وكيف أطرت النصارى ابن مريم؟، قالوا: إنه ابن الله، أو هو الله، أو ثالث ثلاثة. ولا يزالون على هذه المقالة إلى الآن، في إذاعاتهم، وفي كتاباتهم. فسبب وقوعهم في هذا الكفر هو: الغلو- والعياذ بالله-، لأنهم لم يرتضوا أن يصفوا عيسى بأنه عبد الله ورسوله، وإنما زادوا وقالوا: إنه ابن الله جاء ليخلّص النّاس من الخطيئة، وقُتل وصُلب من أجل أن يخلّص النّاس من الخطيئة، ثمّ بعد قتله وصلبه قام وصعد إلى السماء. وهذا كذب مَحْضٌ، كذبه الله وردّه بقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}، فالذي قُتل وصُلب هو شخص غير المسيح، ألقى الله شبه المسيح عليه، فقُتل وصُلب، لأنه خان ودلَّ الكفرة على مكان المسيح، أما المسيح فإنه رفعه الله إليه، ولهذا لم يجزموا أن الذي قتلوه هو المسيح: قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ}. فالحاصل؛ أن هذا هو غلو النصارى، أنهم مدحوا المسيح ورفعوه فوق منزلته، حتى عبدوه من دون الله، وادّعوا فيه الربوبية بسبب الغدو، وعيسى عليه السلام يقول: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً(31)}، وفي يوم القيامة يتبرّأ من هؤلاء: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}، فالعبادة حق الله ليست حقاً لمخلوق، {مَا يَكُونُ لِي} ما ينبغي ولا يليق ولا يصح {أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} لأن العبادة حق لله سبحانه وتعالى، ثمّ ردّ ذلك ج / 1 ص -273- إلى الله {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، والله يعلم سبحانه وتعالى أن عيسى لم يقل هذه المقالة، وإنما هذا من باب التوبيخ لهؤلاء، ثمّ قال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} هذا تصديق للمسيح عليه السلام على رؤوس الأشهاد يوم القيامة، حينما يجتمع الأولون والآخرون يوم القيامة، فهذا مآلهم -والعياذ بالله-، وهذا موقف المسيح - عليه الصلاة والسلام- في الدنيا والآخرة أنه عبد الله ورسوله، ليس له من الربوبية شيء، ولا يستحق من العبادة شيئاً، وإنما العبادة حق لله سبحانه وتعالى وحده لا شريك، وإذا كان المسيح ليس له حق في العبادة، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس له حق في العبادة، وجميع الرسل، فكيف بغيرهم من الأولياء والصالحين. ففي هذا الحديث دليل على ما ساقه المصنّف من أجله، وهو أن الغلو في الصالحين يسبِّبُ كفرَ بني آدم وتركهم دينهم. وفي هذا شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته، حيث حذّرهم مما وقعت فيه النصارى. وفيه: النهي عن التشبّه بالكفار. ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" "إنما" هذه كلمة حَصْر، أي: أن شأني ومكانتي أنني عبد الله سبحانه وتعالى، ليس لي من الربوبية شيء، والعبد لا يُغلى فيه ويُطرأ، ويُرفع فوق منزلته. "فقولوا: عبد الله ورسوله" أرشدنا صلى الله عليه وسلم إلى أن نقول فيه الكلام الواقع واللاّئق به صلى الله عليه وسلم، وهو أنه عبد الله ورسوله. فدلّ هذا على أنه يُمدح صلى الله عليه وسلم بصفاته من غير زيادة ومن غير نقص، وهي: العبودية والرسالة، والله جل وعلا وصف محمّداً بأنه عبد في كثير من الآيات، في مقام التنزيل قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا(1)}، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً(1)}، وفي مقام الإسراء قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}، والمعراج في قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى(9) ج / 1 ص -274- فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى(10)}، وفي مقام التحدّي وصفه الله بالعبودية قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(23)}. ففي قوله: "عبد الله" ردٌّ على الغلاة الذين يغلون في حقه صلى الله عليه وسلم. وفي قوله: "رسوله" ردٌّ على المكذبين الذين يكذّبون برسالته صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون يقولون: هو عبد الله ورسوله. هذا وجه الجمع بين هذين اللّفظين، أن فيهما رداً على أهل الإفراط وأهل التفريط في حقه صلى الله عليه وسلم. وفيه: ردٌّ على الذين غلو في مدحه صلى الله عليه وسلم من أصحاب القصائد، كقصيدة البُردة والهمزية وغيرهما من القصائد الشركية التي غلت في مدحه صلى الله عليه وسلم، حتى قال البوصيري: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم فنسي الله سبحانه وتعالى. ثم قال: إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلاّ قل يا زلة القدم يعني: ما ينجيه من النار يوم القيامة إلاّ الرسول. ثم قال: فإن من جودك الدّنيا وضرّتها ومن علومك علم اللّوح والقلم الدّنيا والآخرة كلها من جود النبي صلى الله عليه وسلم، أما الله فليس له فضل، هل بعد هذا الغلو من غلو؟؟. واللّوح المحفوظ والقلم الذي كتب الله به المقادير هذا بعض علم النبي صلى الله عليه وسلم، ونسي الله تماماً- والعياذ بالله-. وكذلك من نهج على نهج البردة ممن جاء بعده، وحاكاه في هذا الغلو، هذا كله من الغلو في مدح النبي صلى الله عليه وسلم ومن الإطراء. أما المؤمنون فيمدحون الرسول صلى الله عليه وسلم بما فيه من الصفات الحميدة والرسالة ج / 1 ص -275- وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو". والعبودية، كما أرشد إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، كما عليه شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم الذين مدحوه وأقرّهم، مثل: حسّان بن ثابت، وكعب بن مالك، وكعب بن زُهير، وعبد الله بن رواحة، وغيرهم من شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم الذين مدحوه بصفاته صلى الله عليه وسلم، وردوا على الكفّار والمشركين. هذا هو المدح الصحيح المعتدل، الذي فيه الأجر وفيه الخير، وهو وصفه صلى الله عليه وسلم بصفاته الكريمة من غير زيادة ولا نُقصان. ثم قال المصنّف رحمه الله: "وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو"، هكذا ذكره المصنف رحمه الله من غير أن يذكر راويه، ومن غير أن يعزوه إلى مخرِّج من أصحاب الكتب، بل جعل مكان ذلك بياضاً. والحديث رواه ابن عباس، وخرّجه أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، وابن ماجه في سننه. وهذا حصل في مُنْصَرَفه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من مزدلفة إلى منى من أجل رمي جمرة العقبة، ولما كان في الطريق بين مزدلفة ومنى قال لابن عباس: "التقط لي الحصى"، فلقط له سبع حصيات مثل حصى الخَذَف، وهي الصغار التي تُخْذَف على رؤوس الأصابع، وهي أكبر من الحِمَّص بقليل، فأخذها صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة، ثمّ نفضها والناس ينظرون إليه، ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: "أمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو"، وهذا يدل على أن الواجب علينا أن نتقيد بالعبادة كما جاءت. فـ "إياكم" هذه كلمة تحذير. "والغلو" تقدم معناه، وهو: الزيادة على الحد المشروع، وهذا لا يجوز، وهو مردود وهلاك، بل نتقيّد بضوابط العبادة كما جاءت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لنا تدخّل في تحديد العبادة ومواقيتها وصفاتها، وهيئاتها، وإنما يتبع في هذا ما دلّ عليه الدليل من كتاس الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، علينا الامتثال فقط. ج / 1 ص -276- "فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" مثل النصارى غلو في عيسى عليه السلام، يعني: فأخرجهم الغلو من الدين إلى الكفر- والعياذ بالله- فهلكوا، وهم يريدون النجاة، لكن لما كانت طريقتهم غير مشروعة لم تحصل لهم النجاة، وإنما حصل لهم الهلاك، فكل أحد يريد النجاة من غير أن يسلك طريقها فإنه هالك، لا نجاة إلاّ بإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، مهما كلّف الإنسان نفسه إذا خالف منهج الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه غالٍ وهالك، وهو مشابه لمن كان قبلنا من الغلاة. ففي هذا: التحذير من الغلو في العبادات، والغلو في الأشخاص، والغلو في كل شيء، فالغلو في كل شيء ممنوع، والمثل يقول: "كل شيء جاوز حدّه انقلب إلى ضده"، كل غلو فهو طريق هلاك، وإنما طريق النجاة هو الاعتدال والاستقامة: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا}. وما هلكت الخوارج والمعتزلة وعلماء الكلام إلاّ بسبب غلوهم. فالخوارج عندهم عبادة عظيمة، حتى إن الصحابة يحقرون صلاتهم إلى صلاتهم، وعندهم قراءة للقرآن كثيرة، لكنهم لم يقتصروا على المشروع، زادوا -والعياذ بالله- حتى هلكوا، وكل من فعل هذا فإنه يهلك، والتجربة موجودة، وما وصل أحد من المتنطّعين والغلاة إلى النتيجة المطلوبة أبداً، وإنما يكون سبيلهم الهلاك في الدّنيا والآخرة. فهذا مما يحذّر منه في هذا الزمان، لأن ظاهرة الغلو والتّنطع كثرت إلاّ من رحم الله عزّ وجلّ ، وذلك لما فشا الجهل في الناس جاء الغلو وجاءت المخالفات بتزيين شياطين الإنس والجن. فالواجب علينا أن نحذر من هذا، وأن نلزم طريق الاستقامة في كل شيء. أما المعتزلة فغلوا في تنزيه الله، حتى نفو صفات الله التي وصف بها نفسه. والممثلة غلو في إثبات الصفات، حتى شبّهوا الخالق بالمخلوق، فغلو في ذلك، فَضَلّوا -والعياذ بالله-. وأهل السنّة والجماعة توسطوا؛ فأثبتوا لله الأسماء والصفات كما جاءت، تنزيهاً بلا تعطيل، هذا نفي للغلو في التنزيه، وإثباتاً بلا تمثيل، هذا نفي للغلو في الإثبات، فهم توسطوا. ج / 1 ص -277- ولمسلم عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطّعون" قالها ثلاثاً. أما المعتزلة فهم غلو في التنزيه حتى نفو الصفات.والممثلة غلو في الإثبات حتى شبهوا الله بخلقه، تعالى الله عما يقولون. والخوراج والمعتزلة غلوا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى خرجوا على أئمة المسلمين، ومن أصولهم: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بمعنى: الخروج على الأئمة. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكرمطلوب، ولكن في حدود الشريعة، قال صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه" فجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب حسب الاستطاعة، ولم يأمر بالخروج على الولاة، ونقض البيعة، والتفريق بين المسلمين، وهذه طريقة المعتزلة والخوراج. والخوارج خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وانتهى بهم الأمر إلى أن قتلوه رضي الله عنه، هذا كله بسبب الغلو، بزعمهم أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فسبب لهم هذا الهلاك، وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم "فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو". فالغلو هلاك في الدّنيا، وهلاك في الآخرة، ولا يأتي بخير أبداً، ودين الله بيّن الغالي فيه والجافي عنه، دين الله وسط: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}، وسط بين الغلو وبين الجفاء، وهذه الأمة عدول خيار، ليس فيهم غلو، وليس فيهم جفاء، وإنما فيهم الاعتدال، هذا هو طريق النجاة دائما وأبداً. قال "ولمسلم" يعني روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه. "عن ابن مسعود" عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي، الصحابي الجليل، والعالم الكبير، الذي يُعد من أكابر علماء الصحابة، وإليه المرجع في الفتوى، ورواية الحديث، وغير ذلك، فهو من أكابر الصحابة، ومن السابقين الأولين إلى الإسلام، رضي الله تعالى عنه، وكان- أيضاً- من أشد الناس تحذيراً من البدع ج / 1 ص -278- "والغلو" ومواقفه من المبتدعة مشهورة، وكلماته رضي الله تعالى عنه في ذلك مأثورة. "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثا" المتنطعون: جمع متنطع، وأصل التنطع هو التقعّر في الكلام إظهاراً للفصاحة، هذا هو أصل التنطع في اللغة. والمراد هنا: التنطع في الكلام، والتنطع في الاستدلال، والتنطع في العبادة. والتنطع في الكلام معناه: أن يتكلم الإنسان بالكلمات الغريبة من اللغة التي لا يفهمها الناس، فيأتي بأسلوب وألفاظ من وحشي اللغة لا يعرفها النّاس. وكذلك من التنطع في الكلام: أن يخاطب الحاضرين بأشياء لا يفهمونها، فالنّاس بحاجة إلى أن يبيّن لهم عقيدتهم وعبادتهم وطهارتهم ومعاملاتهم، ثمّ يذهب يتكلم في أشياء بعيدة عنهم، بل بعيدة من مجتمعهم، يتكلم في أمور السياسة، والأمور البعيدة، وأمور الدول، والأمور وسائل الإعلام، ص وأمور بعيدة، العوام لا يعرفون منها شيئاً، ولا يستفيدون منها شيئاً، ويخرجون من عنده بجهلهم، لا يعرفون أمور دينهم، بل منهم من لا يعرف كيف يصلي، منهم من لا يعرف كيف يتوضأ، ومنهم من لا يعرف كيف يغتسل من الجنابة، فيخرجون بجهلهم، وما انتفعوا بهذا الكلام البعيد الغريب عن أسماعهم.. هذا من التنطع. وغرض المتكلم أن يبيّن للناس أنه فاهم، وأنه مثقّف ولو على حساب الحاضرين، ولو ما فهموا، ولو ما عرفوا شيئاً. وهذا من التنطع. والمطلوب من الخطيب والمحاضر والمتكلم والمدرس: أن يتكلم في حدود ما يفهمه الحاضرون، وما هم بحاجة إليه في أمور دينهم، وفي أمور معاملاتهم وأخلاقهم، هذا هو المطلوب. وأن يكون قصده نفع الحاضرين، وتعليم الحاضرين، لا يكون قصده إظهار شخصيته، وإظهار فصاحته، فهذا هالك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون". فلنحذر من هذا حينما نتكلم في درس، حينما نخطب في الجمعة، أو عيد أو استسقاء، حينما نلقي محاضرة، علينا أن نراعي حالة الحاضرين، وأن نأتي من ج / 1 ص -279- الكلام بما يفهمونه، وما يستفيدون منه، وأيضاً يكون بأسلوب سهل، لا نتعمّد المجيء بأساليب لا يفهمونها، وكلمات لا يفهمونها، بل يختار الموضوع المناسب، والأسلوب المناسب، واللغة التي يفهمونها. هذا الذي يريد الخير للناس، ويريد تعليم الناس. أما الذي يريد أن يُظهر نفسه على حساب الناس، فهذا هو المتنطع، وهذا لا يفيد شيئاً، ويَخرج كما دخل من غير فائدة. فعلينا أن نتنبّه لذلك، لئلا نكون من المتنطعين في الكلام. وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول: "حدثوا النّاس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟". أما التنطع في الاستدلال فهو: طريقة أهل الكلام وأهل المنطق الذين عدلوا عن الاستدلال بالكتاب والسنّة إلى الاستدلال بقواعد المنطق، ومصطلحات المتكلمين. والمنطق هذا من أين جاء؟، وقواعد المنطق من أين جاءت؟، جاءت من اليونان، استجلبوها واستعملوها في الإسلام، وتركوا الاستدلال بالكتاب والسنّة، وقالوا: إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين، وإنما الذي يفيد اليقين هو الأدلة العقلية - بزعمهم-، فبذلك هلكوا. الواجب أن يكون الاستدلال بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنّة وإجماع المسلمين والقياس الصحيح كما عليه علماء أهل السنّة والجماعة، ولهذا يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "حكمي في أهل الكلام: أن يضربوا بالجريد والنعال، وأن يطاف بهم في القبائل، وأن يقال: هذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنّة واشتغل بعلم الكلام". فمن هؤلاء من يترك كلام الله وكلام رسوله ويأتي بقواعد المنطق، حتى في العقائد وهو ما يسمونه الآن علم التّوحيد، يسمون علم المنطق، وعلم الكلام: علم التّوحيد، ولذلك وقعوا في الهلاك، وضلوا وأضلوا، وقد انتهى أمرهم إلى الحيرة، كما شهد بذلك أكابرهم، وبعضهم عند الوفاة أشهد الحاضرين بأنه مات وهو ج / 1 ص -280- لا يعرف شيئاً، مع أنه أفنى عمره في علم الكلام والجدل والمنطق، هذا مآل المتنطعين- والعياذ بالله-، وشهاداتهم على أنفسهم موجودة، مما يدل على صدق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون". أما التنطع في العبادة فهو كما سلف، هو: أن يزيد الإنسان في العبادة على الحد المشروع، وهذه رهبانية النصارى، أما الحد المشروع فهو كما قال صلى الله عليه وسلم: "أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، ومن رغب عن سنتي فليس مني" هذا هو الاعتدال، وأما التبتّل وعدم التزوج، والصيام دائماً ولا يُفطر، والصلاة كل الليل ولا ينام، هذا كله من الغلو ومن التنطع الذي يَهْلك صاحبه كما هلكت النصارى في رهبانيتهم، والنبي صلى الله عليه وسلم حذّر من الغلو، وحذّر من رهبانية النصارى، وأمر بالاعتدال والتوسط، وقال: "هذا الدين متين، ولن يشاد الدين أحد إلاّ غلبه، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا}، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن المنبتّ لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى" والمنبت هو: الذي يكلّف نفسه بالسير ولا يستريح ولا يريح راحلته، هذا ينبت، يعني: ينقطع وتموت راحلته، ويقف في وسط الطريق: "فلا ظهراً أبقى" لأن راحلته ماتت، ولا أرضاً قطع لأن المسافة باقية. أما لو أخذ الطريق على مراحل، وشيئاً فشيئاً، وأراح نفسه، وأراح راحلته لقطع الطريق، وبلغ المقصود ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "أوغلوا فيه برفق". فالحاصل؛ أن التنطع في العبادة هو: الزيادة فيها عن الحد المشروع، والمطلوب أن الإنسان يتوسط في العبادة من غير زيادة، ومن غير نقصان. ونبيّن هنا ما يُستفاد من هذه الأحاديث لاختصار: المسألة الأولى: التحذير من الغلو في مدحه صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك يؤدي إلى الشرك، كما أدى بالنصارى إلى الشرك. المسألة الثانية: فيه الرد على أصحاب المدائح النبوية التي غلوا فيها في حقه صلى الله عليه وسلم، كصاحب البردة، وغيره. المسألة الثالثة: فيه النهي عن التشبه بالنصارى، لقوله: "كما أطرت النصارى ابن مريم". ج / 1 ص -281- ومن الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم : إحياء المولد كل سنة، لأن النصارى يحيون المولد بالنسبة للمسيح على رأس كل سنة من تاريخهم، فبعض المسلمين تشبّه بالنصارى فأحدث المولد في الإسلام بعد مضي القرون المفضلة، لأن المولد ليس له ذكر في القرون المفضلة كلها، وإنما حدث بعد المائة الرابعة، أو بعد المائة السادسة لما انقرض عهد القرون المفضلة، فهو بدعة، وهو من التشبه بالنصارى. المسألة الرابعة: فيه مشروعية مدحه صلى الله عليه وسلم بصفاته الكريمة: عبد الله، ورسوله، الداعي إلى الله، بلّغ البلاغ المبين، جاهد في الله حق جهاده، كل هذا من صفاته صلى الله عليه وسلم؛ فذكره طيّب. المسألة الخامسة: يُستفاد من ذلك: كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته، وأنه حذّرها من الإطراء في حقه صلى الله عليه وسلم، وحذّرها من الغلو، وحذّرها من التنطع. ثلاثة أساليب جاء بها صلى الله عليه وسلم: الإطراء والغلو والتنطع. نوّعها صلى الله عليه وسلم من باب التأكيد والتحذير من الغلو. المسألة السادسة: فيه أن من نهى عن شيء فإنه يذكر البديل الصالح عنه إن كان له بديل، فإنه صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الإطراء قال: "إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" هذا البديل الصالح. المسألة السابعة: في الحديث: النهي عن الغلو في العبادات، ومنها حصى الجمار، قال فيها صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو"، والغلو في العبادات، هو: الزيادة فيها عن الحد المشروع: كميّة وكيفيّة ووقتاً، إلى غير ذلك، نحن لا نُحدث شيئاً من عند أنفسنا. والبدعة تنقسم إلى قسمين: بدعة حقيقية، وبدعة إضافية. البدعة الحقيقية: إذا أُحدث شيء لا أصل له، مثل المولد والتبرك بالآثار. والإضافية: أن نُحدِث للعبادة المشروعة وقتاً أو صفة لم يشرعها الله ورسوله، كما لو قلنا: ليلة النصف من شعبان يصلون النّاس ويتهجّدون، أو نصوم النصف من شعبان. فالصيام مشروع، وقيام الليل مشروع، لكن إذا حدّدناه بوقت لا دليل عليه فهذا ج / 1 ص -282- بدعة إضافية، لأن أصل العبادة مشروع، ولكن تقييدها بوقت محدّد، منه إضافة إلى العبادة وهي غير مشروعة، فهذه بدعة تسمى إضافية. ذكر الله مشروع؛ التسبيح والتهليل والتكبير، لكن إذا قلنا للناس: سبِّحوا ألف تسبيحة، كبروا ألف تكبيرة، قولوا: كذا ألف مرة بدون دليل. فهذا يُعتبر بدعة إضافية. المسألة الثامنة: فيه التحذير من التنطع في الكلام، والتنطع في الاستدلال، والتنطع في العبادة، وعرفنا بماذا يكون التنطع في الكلام، والتنطع في الاستدلال، والتنطع في العبادة. المسألة التاسعة: فيه تكرار النصيحة حتى ترسخ وتثبت، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كرّر قوله: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثاً، من أجل أن ترسخ هذه النصيحة، وتثبت في قلوب السامعين. والله تعالى أعلم. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#24
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح،فكيف إذا عبده؟ ج / 1 ص -283- [الباب العشرون: ] باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح،فكيف إذا عبده؟ قال المؤلف رحمه الله : "باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده" لما ذكر المؤلف رحمه الله في الباب الذي قبل هذا: التحذير من الغلو في الصالحين، وأنه سبب لكفر بني آدم، وتركهم دينهم، ذكر في هذا الباب الغلو في قبورهم، لأنه نوع من الغلو فيهم. والتغليظ معناه: بيان شدّة الأمر، خلاف التسهيل أو التخفيف. "فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح" عبد الله بدعاء الله عند القبر رجاء الإجابة، يظن أن الدعاء في هذا المكان سبب للإجابة، أو بالصلاة، يظن أن الصلاة عند القبر سبب للإجابة، أو الذبح عند القبر، وإن كان الفاعل يعبد الله بهذه العبادات ولكنه فعلها عند القبر رجاء أن تُقبل، وأن العبادة عند القبر لها مزية عن العبادة في مكان آخر، فهذا مبني على ظن فاسد، لأن القبور ليست مكاناً للعبادة، وأن العبادة عندها وإن كانت خالصة لله فإنها سبب للشرك، ولهذا حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من العبادة عند القبور سدًّا للذريعة. أما إذا كان يدعو القبر، ويستغيث بالميت؛ فهذا شرك أكبر. وأما إذا كان يعبد الله مخلصاً له العبادة لكن عند القبر، فهذا وسيلة إلى الشرك، وطريق إلى الشرك، فهو محرّم، فكيف إذا عبده؟ والذي عليه القبوريون اليوم، أنهم يعبدون القبور صراحة؛ ويستغيثون بها، ويذبحون لها، وينادون الموتى: المدد يا فلان، المدد يا بدوي، المدد يا علي، يطلبون منهم المدد صراحة، ويذبحون لهم، وينذرون لهم، ويصرفون لهم أنواعاً من العبادة، فهم داخلون فيمن عبد القبر. ج / 1 ص -284- في الصحيح عن عائشة: أن أم سلمة رضي الله عنها، ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح؛ بنوا على قبره مسجداً، وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شِرار الخلق عند الله". قال: "في الصحيح" يعني: في الصحيحين: صحيح البخاري وصحيح مسلم. "عن عائشة" أم المؤمنين، بنت أبي بكر الصديق. "أن أم سلمة" اسمها: هند بنت أبي أمية المخزومية، القرشية، زوج أبي سلمة، هاجرت هي وزوجها أبو سلمة الهجرتين: الهجرة إلى الحبشة، والهجرة إلى المدينة، وتوفي أبو سلمة رضي الله عنه في المدينة، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت من أمهات المؤمنين- رضي الله تعالى عنها-. "أنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها في أرض الحبشة" الكنيسة هي معبد النصارى الذي يجتمعون فيه يوم الأحد لعبادتهم. أما الصومعة فهي معبد خاص لفرد من النصارى يخلو فيه، وينقطع عن الدنيا. فالصومعة للأفراد من النصارى، وأما الكنيسة فهي للجميع. "وما فيها من الصور"يعني: من صور الصالحين. "أولئكِ" بالكسر خطاب لأم سلمة، ويجوز الفتح: "أولئكَ" خطاب للمذكر، ولكن الكسر أشهر، لأنه يخاطب امرأة. " أولئكِ إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح" هذا شك من الراوي: هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم رجل أو عبد، وهذا من تحرّيهم رضي الله عنهم في الرواية، وأنه لم يجزم باللّفظ الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم. "بنوا على قبره مسجداً" أي: مصلى، فالمراد بالمسجد هنا: المصلى والمتعبَّد، يعني: اتخذوا عليه كنيسة يتعبّدون فيها، فسمي مسجدا. " وصوّروا فيه تلك الصور" أي: صور الصالحين، ينصبونها في هذا المكان، من باب الغلو في الصالحين وتخليد شخصياتهم، واتخاذ التماثيل تخليداً للشخصيات من هذا الباب، هو من باب تعظيم الصالحين، أو تعظيم العظماء، ولو كانوا من غير الصالحين كالرؤساء والسلاطين والملوك، وهذا لا يجوز في الإسلام، لأنه وسيلة ج / 1 ص -285- هؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل. إلى الشرك، ولاسيّما في مواطن العبادة، كالمساجد ومحلات العبادة، فهذا الأمر أشد. ثم قال صلى الله عليه وسلم "أولئكِ شرار الخلّق عند الله" فدلّ على أن من بنى المسجد على القبر، أو صوّر الصور ونصبها؛ أنه من شرار الخلق. وشرار: جمع شر، وهو أفعل تفضيل، والمراد به: أشد الناس شرًّا، فدلّ على أن الذي يبني المساجد على القبور أنه أشد الناس شرًّا- والعياذ بالله-، وفي الحديث الآخر الذي سيأتي: "إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يبنون المساجد على القبور" لأنهم فتحوا للنّاس باب الشرك بهذا الفعل، وتسبّبوا في انحراف الأمة، وما حدث الشرك في هذه الأمة إلاّ بسبب البناء على القبور. وأول من بنى على القبور في الإسلام- كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- هم: الشيعة، الفاطميون، ثمّ قلدهم من قلدهم من المنتسبين إلى السنّة من الصوفية وغيرهم، فبنيت المساجد على القبور في الأمصار. ولا تزال الأمة الإسلامية تعاني من شر هذه القبور وفتنتها، وحدوث الشرك في الأمة، الذي لا يقره من يؤمن بالله ورسوله، لأنه شرك صُراح، وأصبحت هذه المساجد المبنية على القبور أوثاناً تُعبد من دون الله، ويظن أصحابها أن ذلك من الإسلام، وأن من أنكره فهو خارج عن الإسلام، كالذين يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}، فهم شرار الخلق، وإن كانوا يزعمون في أنفسهم أن ذلك إصلاح، وأنهم خير الخلق. ثم ذكر الشيخ عبارة لشيخ الإسلام ابن تيمية بعد الحديث وهي قوله: "فهؤلاء" يعني: اليهود والنصارى. "جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل" فتنة القبور هي الغلو في القبور، وتعظيم القبور حتى تتخذ متعبدات، هذه فتنة عظيمة في الأمم السابقة وفي هذه الأمة. والفتنة الثانية: فتنة التماثيل، وهي فتنة قديمة كما في قصة قوم نوح، فقوم نوح إنما وقع الشرك فيهم بسبب نصب التماثيل، ووقع الشرك في اليهود بسبب تمثال العِجل الذي عمله السامري، ووقع الشرك في النصارى بسبب نصب الصليب على ج / 1 ص -286- ولهما عنها قالت: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ طَفِق يطرح خميصة له على وجهه، فقال: وهو كذلك: صورة المسيح بزعمهم، ويُخشى أن يقع الشرك في هذه الأمة بسبب نصب التماثيل للعلماء والعباد الصالحين، فهذه فتنة عظيمة، حذّر منها النبي صلى الله عليه وسلم. قال: "ولهما" أي: البخاريّ ومسلم. "عنها قالت: لما نُزل برسول الله " يعني:. نزل به الموت -عليه الصلاة والسلام-. "طَفِقَ" طَفِقَ: من أفعال الشروع عند أهل اللغة، أي: جعل يفعل كذا. "يطرح خميصة" أي: يضعها، والخميصة: كساء له أعلام، أي فيه خطوط. "على وجهه" يغطّي وجهه صلى الله عليه وسلم بها وهو في هذه الحالة. "فإذا اغتم بها" أي: ضيّقت نفسه- عليه الصلاة والسلام-. "كشفها" من أجل أن يتنفّس. "فقال- وهو كذلك-" يعني: في هذه الحالة الحرجة، لم يشتغل عن الدعوة إلى التّوحيد، وإنكار الشرك، ونصيحة الأمة، صلوات الله وسلامه عليه. والمناسبة: أنه لما شعر بالموت خشي على أمته أن تفعل عند قبره ما فعل من قبلها من الأمم عند قبور الأنبياء والصالحين، فلم يترك الفرصة تذهب، وإنما استغلها بالنصيحة للأمة- عليه الصلاة والسلام. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذّر من الشرك وهو في هذه الحالة، فهذا دليل على أن التحذير من الشرك أمر متعيّن، وأنه يجب على الدعاة أن يهتموا بهذا الأمر اهتماماً بالغاً قبل غيره، قبل أن يحثوا النّاس على الصلاة والصيام، وترك الربا، وترك الزنا، وترك شرب الخمر، قبل ذلك ينهوهم عن الشرك، لاسيّما إذا كان واقعاً في الأمة، فالسكوت عنه من الغش للأمة، فلابد أن يُبدأ به، وأن يُعمل على إزالته قبل كل شيء، لأنه إذا صلحت العقيدة صلحت بقية الأعمال. أما إذا فسدت العقيدة فلا فائدة في الأعمال كلها، ولو ترك الربا، وتصدق بماله، وصلى الليل والنهار، وصام الدهر، وحج، واعتمر، وعنده شيء من الشرك الأكبر، فإن أعماله تكون هباءً منثوراً، لا فائدة منها، أما إذا كان موحّداً خالياً من ج / 1 ص -287- "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذِّر ما صنعوا، ولولا ذلك أُبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً. أخرجاه. الشرك، فلو وقع في الكبائر، ولو وقع في الزنا، ووقع في الربا، ووقع في المحرمات التي دون الشرك، فإنه يُرجى له المغفرة، وإن عذب بذنوبه فإنه لا يخلد في النار وهو مؤمن موحد، حكمه حكم المؤمنين، ولابد له من دخول الجنة بتوحيده وإيمانه، وإن كان ضعيفاً، أما إذا كان عنده شرك أكبر، فهذا لا فائدة في أعماله، لو ترك المحرمات كلها، وأدى الواجبات كلها ولم يتجنب الشرك، فإنه لا فائدة في أعماله كلها. فكيف إذاً نهتم بجوانب فرعية، أو جوانب جزئية، ونترك هذا الأمر الخطير يعجّ في جسم الأمة الإسلامية، ولا نحذّر منه، ولا ندعوا إلى تركه، ولا نسعى في إزالته عن الأمة؟؟ بحجة أننا نريد أن نجمع الأمة كما يقولون. هذا هو صميم الدعوة، هذا هو الذي جاءت الرسل من أولهم إلى آخرهم للتحذير منه، كل رسول يقول لقومه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}، لان العبادة لا تنفع مع وجود الشرك، فهذا أمر عظيم. قوله صلى الله عليه وسلم: "لعنة الله على اليهود والنصارى" اللعنة هي: الطرد والإبعاد من رحمة الله. واليهود: الأمة المغضوب عليها، والنصارى: الأمة الضالة. {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} المغضوب عليهم: اليهود، ومن اقتدى بهم من هذه الأمة، ممن علم ولم يعمل بعلمه، والضالون هم: النصارى الذين يعبدون الله على غير علم، بل بالبدع والمحدثاث والخرافات من النصارى وكل من اقتدى بهم. "اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يعني: أمكنة للعبادة يصلون عندها، يدعون الله عندها، ظنًّا منهم أن العبادة عند القبور أفضل من العبادة في الأمكنة الأخرى، مع أن العبادة عند القبور لا تجوز، لأنها وسيلة إلى الشرك. قالت عائشة رضي الله عنها: "يحذّر ما صنعوا" أي: أن الذي حمل النبي صلى الله عليه وسلم على أن يقول هذه الكلمة في هذه الحالة الحرِجة: أنه يحذّر أمته مما صنع اليهود والنصارى، ج / 1 ص -288- لئلا يفعلوا بقبر نبيهم ما فعل اليهود والنصارى مع قبور أنبيائهم. فالذي حمله على هذا تحذير هذه الأمة لئلا تعمل هذا العمل، فلا تتخذ القبور مساجد، سواء بُني عليها أو لم يُبن عليها، إذا بُني عليها فالأمر أشد، وإذا لم يُبن عليها، وصلّي عندها، ودعا عندها فكذلك، هذا من اتخاذها مساجد كما يأتي. "ولو ذلك" أي: ولولا الخوف من أن يحصل عند قبره صلى الله عليه وسلم مثل ما حصل عند قبور أنبياء بني إسرائيل. "أبرز قبره" أي: لدفن في مكان بارز يراه الناس. "ولكنه خَشي" بالفتح، أو "خُشي" بالضم. "أن يتخذ قبره مسجداً" يعني: مكان صلاة ودعاء، كما فعل اليهود والنصارى عند قبور أنبيائهم. فقطعاً لهذه الذريعة وسدًّا لهذا الباب دُفِنَ - عليه الصلاة والسلام- في بيته في حجرة عائشة، داخل الجدران وتحت السقف، لا يراه أحد. "ولا يزال- والحمد لله- في صيانة وأمانة، فلا يزال في بيته صلى الله عليه وسلم محاطاً بالجدران لا يراه أحد، صيانة لقبره أن يُفعل عنده كما فعلت اليهود والنصارى عند قبور أنبيائهم. هذه هي الحكمة في دفنه صلى الله عليه وسلم في بيته، وعدم دفنه في المقبرة مع أصحابه في البقيع. قال ابن القيم: ودعا بأن لا يجعل القبر الذي قد ضمه وثناً من الأوثان فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدران حتى اغترت أرجاؤه بدعائه في عزة وحماية وصيان فدلّ ذلك على تحريم الغلو في القبور، والبناء عليها، واتخاذ بقاعها أمكنة للصلاة عندها، والدعاء عندها. ويُستفاد من هذين الحديثين مسائل عظيمة: المسألة الأولى: تحريم البناء على القبور، لأن ذلك وسيلة إلى الشرك بالله عزّ وجلّ، ج / 1 ص -289- لأن القبر إذا بُني عليه بنيّة، أو جُعل عليه ستائر وزُخرف، فإن العوام والجهّال يفتتنون به، ويظنون أنه ما عُمل به هذا العمل إلاّ لأن فيه سراً، وأنه محل للعبادة والدعاء وطلب الحاجات -كما هو الواقع-، ولهذا كان هدي الإسلام في القبور أن الميت يُدفن في المقبرة العامة مع أموات المسلمين، ويُدفن في تراب قبره الذي حُفر منه، لا يزاد عليه، ويُرفع عن الأرض قدر شبر من التراب من أجل أن يعرف أنه قبر فلا يُداس، ولا يُبنى عليه شيء، هكذا كان قبر النبي وكانت قبور الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو هدي الإسلام في القبور، لا يُبنى عليها بنيّة، ولا يُكتب عليها، ولا تزخرف، ولا تجصّص، لأن هذه الأمور إذا فُعلت صارت وسيلة إلى الشرك، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة، فقال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لا تدع قبراً مشرفاً [يعني: مرتفعاً] إلاّ سوّيته" يعني: هدمت ما عليه من البناء، حتى يصبح كسائر القبور لا يُلفت النظر، ولا يُفتتن به، فالقبور إذا كانت على الهدي الشرعي لا يُفتتن بها، أما إذا بُني على بعضها، وجصّص، وزُخرف، فإن النّاس سينصرفون إليه ولابد. المسألة الثانية: في الحديث دليل على تحريم العبادة عند القبر، حتى ولو لم يُبْنَ عليه بنيّة، لا بدعاء، ولا بصلاة، ولا بذبح، ولا بنذر، ولا بغير ذلك، وإنما هدي الإسلام أن القبور تُزار من أجل السلام على الأموات، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة، واتعاظ الزائر بأحوال الموتى، هذا هو هدي الإسلام في القبور، وأن لا تُهان القبور- أيضاً-، ولا تُمتهن، بل يُحافظ عليها، فلا تُهان ولا تُداس. فهدي الإسلام وسط بين إفراط وتفريط، بين الغلو فيها، وبين التساهل في شأنها وإهانتها، يُحافظ عليها الإسلام، ولكنه لا يغلو فيها، هدي الإسلام هو الوسط في كل شيء- والحمد الله-، لأن من النّاس من يمتهن القبور، ويبني عليها المساكن، أو يجعلها محلاً للقمامات والقاذورات، أو بِدَوْسِ الأقدام عليها، أو مرور الحيوانات عليها، أو يقضون حوائجهم ويبولون عليها، وهذا حرام لا يقرّه الإسلام. المسألة الثالثة: فيه دليل على تحريم نصب الصور من التماثيل وغيرها، لأن ج / 1 ص -290- ذلك وسيلة إلى الشرك بهذه الصور ولو على المدى البعيد، كما حصل لقوم نوح. المسألة الرابعة: فيه دليل على أن النيّة الصالحة لا تسوغ العمل السيء، فهؤلاء إنما فعلوا هذا لظنهم أن فيه خيراً، وفيه تذكراً لأحوال هؤلاء الصالحين، أو إكراماً للصالحين- كما يقولون-، أو تخليداً لذكراهم، فهذا وإن كان قصدهم فيه حسناً، فإن هذا العمل غير مشروع لأنه يُفضي إلى الشرك في العبادة، والشارع جاء بسدّ الذرائع المُفضية إلى الشرك دون نظر إلى نيات أصحابها. المسألة الخامسة: فيه دليل على جواز لعن الكفار وأصحاب الكبائر على وجه العموم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى، وهذا لعن على العموم، فلعن الكفار وأصحاب الكبائر على العموم لا بأس به لأجل التنفير في فعلهم، وأما لعن المعيّن ففيه خلاف. المسألة السادسة: في الحديثين دليل على التحذير من التشبه بالنصارى، لأن البناء على القبور والصلاة عندها من هدي النصارى، ونحن منهيون عن هدي النصارى، ففي قول عائشة رضي الله عنها: "يحذّر ما صنعوا" دليل على النهي عن التشبه بالنصارى، ولاسيما في أمور العقيدة. المسألة السابعة: أن الذين يبنون على القبور والذين يذهبون إليها للتعبد عندها هم شرار الخلق، لا أحد شرٌّ منهم، لأن معصيتهم فوق كل معصية، فالزاني وشارب الخمر والسارق أخف من الذي يبني على القبور، ولو كان زاهداً عابداً. فالزاني والشارب- الذي يشرب الخمر- ومعه أصل التّوحيد وأصل العقيدة هذا خير من الذين يبنون على القبور، والذين يذهبون للعبادة عندها، وإن كانوا يبكون الليل والنهار، ويصومون، فهم شرار الخلق- والعياذ بالله-. المسألة الثامنة: فيه دليل على أن المصورين هم شرار الخلق، لأن فعلهم هذا وسيلة إلى الشرك، ولأنه مضاهاة لخلق الله، قال الله تعالى في الحديث القدسي: "ومن اظلم ممن ذهب يخلق كخلقي" يعني: المصورين، "فليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة"لما وهذا تعجيز لهم، فدلّ على أن المصورين هم شرار الخلق، سواء كانوا يصورون ببناء التماثيل، أو يصورون بالرسم، أو يصورون بالتقاط الصور بالآلة ج / 1 ص -291- الفوتوغرافية، كل ذلك داخل في الوعيد والنهي الشديد، وأنهم شرار الخلق عند الله. ومن أخرج التصوير بالكمرة عن حكم التصوير المنهي عنه فليس له دليل ولا عبرة بقوله. المسألة التاسعة: في الحديث دليل على وجوب الاهتمام بأمر العقيدة، والدعوة إليها قبل كل شيء من أنواع الفساد، نبدأ بإصلاح العقيدة قبل إصلاح الأمور الأخرى، لأن هذا منهج الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-. المسألة العاشرة: في الحديث دليل على كمال حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته، ونصيحته لأمته، وأنه بلّغ البلاغ المبين حتى في آخر لحظة من حياته صلى الله عليه وسلم، بل في حالة حرِجة، وهي حالة الاحتضار. المسألة الحادية عشر: فيه دليل على بيان الحكمة من دفنه صلى الله عليه وسلم في بيته. وعدم دفنه في المقبرة العامة، وأن ذلك لأجل الحفاظ على عقيدة المسلمين من الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم، وأن يُفعل عند قبره كما فُعل عند قبور الأنبياء والصالحين في بني إسرائيل، هذا هو بيان الحكمة. وهذا فيه بيان الإشكال الذي لا يزال يتردّد عند بعض الناس، ويقولون: إن مسجد الرسول مبني على القبر، فهذا دليل على جواز البناء على القبور بزعمهم. ونقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفن في المسجد، وإنما دفن في بيته خارج المسجد، والحكمة في ذلك ما ذكرته أم المؤمنين أنه خشي أن يتخذ مسجداً، فالبيت منفرد عن المسجد، وفي معزل عن المسجد، وإنما أدخل البيت في المسجد بعد عهد الخلفاء الراشدين في وقت الوليد بن عبد الملك؛ لما أراد أن يوسع المسجد عمّم التوسعة من جهة المشرق، فأدخل حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هذا بمشورة أهل العلم، وإنما هذا عمل الخليفة بدون مشورة أهل العلم، ولكن مع هذا فالبيت لا يزال على شكله وحيازته، والمسجد لا يزال على وضعه والحمد لله، وما يحصل من النّاس الجهّال إنما يكون في مسجد الرسول وليس عند القبر، لأن القبر بعيد عنهم، ومَصُون عنهم، ولا يرونه، ولهذا لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه قال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد" استجاب الله دعاءه، فصانه في بيته، ولهذا يقول العلامة ابن القيم: ج / 1 ص -292- ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً. فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدران يعني: صار القبر داخل الجدران، فلا يُرى أبداً، وذلك صيانة له عن الغلو - عليه الصلاة والسلام-. قوله: "ولمسلم عن جُندب بن عبد الله" هو: جُندب بن عبدالله البَجَلي، رضي الله تعالى عنه. "قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس" يحتمل أن المراد: خمس سنين، ويحتمل أن المراد: خمس ليال. "وهو يقول: إني أبرأ إلى الله" البراءة معناها: نفي الشيء والابتعاد عنه، كما يقال: برأ القلم إذا قطعه وأبعد جزءا منه، فالبرء هو: البعد والانقطاع، فـ "أبرأ إلى الله" أي: ابتعد عن ذلك وأكرهه. "أن يكون لي منكم خليل" من الصحابة، فليس له من الصحابة خليل، والسبب في ذلك، أن الله اتخذه خليلاً، والخُلّة لا تقبل الاشتراك، فلا يمكن أن يكون خليل الله وخليل أحد من الخلق، لأن الخُلّة لابد أن تكون لواحد، لا تقبل الاشتراك، والخُلّة هي أعلى درجات المحبة، كما قال الشاعر: تخللت مسلك الروح مني وبذا سمّي الخليل خليلاً وعباد الله وأنبياؤه كلهم يشتركون في المحبة، فالله يحب التوابين، ويحب المتطهرين ويحب المتقين، ويحب المحسنين، أما الخُلّة فهي لم تحصل إلاّ لاثنين فقط، هما: محمَّد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم، كما في قوله تعالى {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}، أما بقية الأنبياء والمؤمنين فإن الله يحبهم ويحبونه كما جاءت بذلك النصوص لكن لم يتخذ الله منهم خليلاً. ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: "ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً" يعني: على فرض لو صحّ لي وجاز لي أن أتخذ من أمتي خليلاً. ج / 1 ص -293- ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، إلاّ فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك". "لاتخذت أبا بكر خليلاً" فهذا فيه فضيلة أبي بكر الصديق- رضي الله تعالى عنه-، وأنه أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبو بكر كنيته، أما اسمه: فعبد الله بن عثمان، ولُقّب بالصديق لكثرة صدقه مع الله سبحانه وتعالى ومع رسوله صلى الله عليه وسلم ومع عباد الله، فهو كثير الصدق، رضي الله تعالى عنه. وفي قوله: "ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً" هذا فيه إشارة إلى استخلاف أبي بكر من بعده لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا في آخر حياته، كما أنه صلى الله عليه وسلم في مرض موته أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، ولما قيل له عن عمر؛ أبى وغضب، وأمر أن يُؤمر أبو بكر أن يصلّي بالناس، فهذا فيه إشارة إلى خلافته. وفي ذلك رد على الرافضة الذين يُبغضون أبا بكر الصديق، ويطعنون في خلافته وخلافة إخوانه: عمر وعثمان، ويقولون: إن الخلافة لعلي بعد الرسول، وإنما الصحابة اغتصبوها، وظلموا عليًّا، هكذا يقولون- قبحهم الله-. فعلي رضي الله هو الخليفة الرابع وهذا بإجماع المسلمين. ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن من كان قبلكم "ألا": حرف تنبيه، "وإن من كان قبلكم يتخذون القبور مساجد" يعني أن اليهود والنصارى يغلون في قبور الأنبياء ويبنون عليها المساجد ويصلون عندها. "ألا فلا تتخذوا القبور مساجد" كرّر كلمة "ألا" مرة ثانية لأجل التنبيه والتأكيد. ومعنى اتخاذها مساجد أي: مصليات. ثمّ لم يقتصر على هذا، بل قال: "فإني أنهاكم عن ذلك" تأكيد بعد تأكيد، لأهمية هذا الأمر. واتخاذ القبور مساجد على معنيين: المعنى الأول: وهو المراد بهذا الحديث-: اتخاذها مصليات يُصلّى عندها وإن لم يُبن مسجد، كما يأتي. ج / 1 ص -294- فقد نهى عنه في آخر حياته، ثمّ إنه لعن- وهو في السيّاق - من فعله. والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يُبن مسجد، وهو معنى قولها: "خشي أن يتخذ مسجداً"، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً. المعنى الثاني: أن يُبنى عليها مسجد كما حصل من اليهود والنصارى وكما حصل في القرون المتأخرة من هذه الأمة. وأول من بني المساجد على القبور- كما يقول الشيَّخ: تقي الدين هم: الشيعة الفاطميون في مصر والمغرب، ثمّ قلّدهم الخرافيون الذين ينتسبون إلى أهل السنّة من الصوفية وغيرهم، وبنوا على القبور، وهذا إنما حدث بعد القرون المفضلة، التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم نقل الشَّيخ رحمه الله كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: "فقد نهى عنه في آخر حياته" يعني: قبل أن يموت بخمس- كما في حديث جُندب-. "ثم إنه لعن- وهو في السياق-" في سياق الموت، كما في حديث عائشة الذي سبق: أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل به جعل يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك- يعني: في هذه الحالة الحرِجة-: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". قالت عائشة رضي الله عنها: يحذّر ما صنعوا، ولولا ذلك لأُبرز قبره، غير أنه خُشي أن يتخذ مسجداً. قال الشيخ: "فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً" لأنهم معصومون عن ذلك رضي الله عنهم، ولا يمكن ذلك أبداً في حقهم، بل لم تبن المساجد في القرون الأربعة كلها، لأن القرون الأربعة أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "خيركم قرني، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الذين يلونهم"، فإذا كانت القرون الأربعة لم يبن فيها على القبور مساجد فكيف يُبنى في عهد الصحابة الذين هم القرن الأول، رضي الله تعالى عنهم؟، فدلّ على أن المراد باتخاذها مساجد: تحرّي الصلاة عندها ظنًّا أن ج / 1 ص -295- وكل موضع قُصد الصلاة فيه فقد اتُّخذ مسجداً، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجداً كما قال صلى الله عليه وسلم: "جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً". الصلاة عندها فيها مزيّة، وأنها يُستجاب الدعاء عندها، لأن ذلك وسيلة من وسائل الشرك، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة عند القبور، واتخاذها مساجد سدًّا لذريعة الشرك، لأنه إذا صُلّي عندها، ودُعِيَ عندها، فإن ذلك يتطوّر وتُدعى من دون الله، وتُعبد من دون الله، كما حصل عند الأضرحة الآن حيث صارت تُعبد من دون الله؛ فيُذبح لها، وينذر لها، ويُستغاث بالموتى، ويُتمرّغ على تُربتها، ويُعكف عندها، ويُطاف حولها كما يُطاف بالكعبة، كل ذلك لأن الباب فُتح لما بُني عليها. ثمّ قال رحمه الله: "وكل موضع قُصدت الصلاة فيه" أي: كل موضع يُتردّد عليه ويصلى فيه، سواء كان عنده قبر أو ليس عنده قبر "فقد اتَّخذ مسجداً" وإن لم يُبن، ولو كان صحراء فهو يسمّى مسجداً، يعني: مكان صلاة ومكان سجود. "بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجداً" حتى لو لم يُبْنَ عليه. "كما قال صلى الله عليه وسلم: "جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" يعني: صالحة للصلاة فيها. فدلّ على أن المكان الذي يُصلى فيه يسمى مسجداً، سواءٌ قُصد أو لم يُقصد، سواءٌ بُني عليه أولم يُبن. فالحاصل؛ أن معنى اتخاذ القبور مساجد يشمل معنيين: المعنى الأول: الصلاة عندها وإن لم يُبن مسجد، وهذا هو المعنى المراد من الأحاديث. والمعنى الثاني: بناء المساجد فيها والقِباب، وهذا- أيضاً- منهي عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب: "لا تدع قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته" يعني: إلاّ هدمته، وسوّيته بالأرض، لأن هذا يفتن الناس، ويصبح وسيلة من وسائل الشرك. ج / 1 ص -296- ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود مرفوعاً: "إن من شرار النّاس من تُدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد". رواه أبو حاتم في صحيحه. ثمّ قال: "ولأحمد" أي: لأحمد بن حنبل رحمه الله. "بسند جيد، عن ابن مسعود مرفوعاً" إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: وليس من كلام ابن مسعود، وإنما هو من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم. "إن من شرار النّاس" شرار جمع: شر، وشر أفعل تفضيل، بمعنى أشر، أي: أشدّ الناس شرًّا. "الذين تدركهم الساعة" أي: قيام الساعة، وذلك عند نفخة الصعق التي يموت بها الخلق- إلاّ من شاء الله-، وهي المذكورة في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} صعقوا أي: ماتوا مرة واحدة من أثر الصعقة، إذا نفخ إسرافيل في الصورة النفخة الأولى صعق كل الأحياء، إلاّ من استثنى الله سبحانه وتعالى بقوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}، {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} وهذه نفخة البعث. الأولى نفخة الموت، والثانية: نفخة البعث، ينفخ إسرافيل عليه السلام في الصور مرّة ثانية، فيقومون من قبورهم أحياء يمشون: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}، وهذا بقدرة الله سبحانه وتعالى، فهاتان نفختان: نفخة الصعق، ونفخة البعث. وهناك نفخة ثالثة ذكرها الله في آخر سورة النمل: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} فهذه نفخة الفزع، وبعض العلماء -كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره- يرون أن النفخات ثلاثة: نفخة الفزع، وهي المذكورة في سورة النمل. ونفخة الموت. ونفخة البعث. وهما المذكورتان في سورة الزمر. وبعض العلماء يرى أنه ليس هناك إلاّ نفختان: نفخة الصعق، ونفخة البعث، ونفخة الصعق هذه عندهم هي نفخة الفزع، يفزعون ثمّ يموتون. فالذين يحضرون هذا الحدث الهائل- وهو: نفخة الصعق- هم شرار الناس، لأن المؤمنين يموتون قبل ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة وفي الأرض من يقول: الله، الله" لأنه إذا كان فيها من يقول: الله، الله، ويذكر الله فالحياة تبقى في ج / 1 ص -297- هذه الدنيا، لأن ذكر الله والتّوحيد والعبادة عِمارة لهذه الأرض، فإذا فُقد ذلك أستحق أهلها العقوبة، فيحصل بذلك الموت العام. أما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله" فالمراد بذلك أنهم يموتون قبل ذلك، يقبض الله أرواحهم قبل ذلك بريح يرسلها الله تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة، ولا يحضرون هذا الحدث المروّع، رحمة من الله تعالى بهم. يُستفاد من هذين الحديثين مسائل عظيمة: المسألة الأولى: يُستفاد من الحديثين إثبات المحبة الله سبحانه وتعالى، وأنها صفة من صفاته، وأنه يحب أولياءه ورسله، ويحب عباده المؤمنين، وهذه صفة من صفاته اللائقة بجلاله، كما يُبغض الكافرين والمنافقين، ويكره، ويمقت، ويغضب، ويرضى، ويضحك، كل هذه من صفاته سبحانه وتعالى، وهي صفات لائقة به جلّ وعلا. وهذا مذهب أهل السنّة والجماعة أنهم يثبتون ما جاء في الكتاب والسنّة من صفاته الذاتية، ومن صفاته الفعلية سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، ومن ذلك: أثبات المحبة، وأنه يحب. وتكرّر ذكر محبته لعباده في آيات كثيرة: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ(4)}، إلى غير من الآيات والأحاديث التي تثبت أن الله يحب عباده المؤمنين. المسألة الثانية: في الحديث دليل على أن الخُلّة أعلى درجات المحبة، ولذلك لم تحصل إلاّ للخليلين: محمد وإبراهيم- عليهما الصلاة والسلام-، أما بقية الأنبياء والصالحين فإن الله يحبهم، لكن لم تصل محبتهم إلى مرتبة الخُلّة. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم يحب أصحابه؛ فيحب عائشة، ويحب أبا بكر، ويحب عمر، وقال لمعاذ: "يا معاذ إني أحبك" فهو يحب أصحابه- عليه الصلاة والسلام-، أما الخُلّة فإنه لم يخالل أحداً منهم حتى ولا أبا بكر، لأن الخُلّة لا تقبل الاشتراك، فلم ج / 1 ص -298- تكن إلاّ لله سبحانه وتعالى خالصة، فهذا فيه دليل على أن الخُلّة أعلى درجات المحبة. وقولا بعض الصحابة: خليلي رسول الله هذا من قبل الصحابي لا من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم. المسألة الثالثة: فيه دليل على فضل الخليلين: محمَّد وإبراهيم - عليهما الصلاة والسلام-، حيث نالا هذه المرتبة التي لم ينلها أحد غيرهم. المسألة الرابعة: في الحديث دليل على فضل أبي بكر الصدّيق، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً" فهذا فيه فضيلة أبي بكر، وفيه إشارة إلى استخلافه من بعده. المسألة الخامسة: في الحديث دليل على تحريم الصلاة عند القبور، وبناء المساجد عليها، لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "فلا تتخذوا القبور مساجد" يشمل المعنيين: الصلاة المجردة عن البناء، أو مع البناء على القبر، كله من اتخاذها مساجد، وذلك سدًّا لذريعة الشرك، لا كما يقوله من قل فهمه أو أراد التضليل ممن زعم أن العلة هي: نجاسة المكان، فهذه علة غير صحيحة، لأن المكان ليس فيه نجاسة. أو من قال: المراد لا يصلي فوق القبر. المسألة السادسة: في الحديث دليل على بطلان الصلاة عند القبور، أو في المساجد المبنيّة على القبور، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، والنهي يقتضي الفساد عند الأصوليين، فالذي يصلي عند القبر صلاته غير صحيحة، فعليه أن يعيد الفريضة، لأن صلاته عند القبر أو في المسجد المبني على القبر غير صحيحة، لأنها صلاة منهي عنها، والصلاة المنهي عنها غير مشروعة، فهي لا تصحّ. المسألة السابعة: في الحديث دليل على أن الذين يتخذون القبور مساجد شرار الخلق، فالذين يفعلون هذا الفعل سواء كانوا من اليهود أو من النصارى أو من المنتسبين إلى الإسلام هم شر الخلق، لا أحد شر منهم، والعياذ بالله. المسألة الثامنة: أن الحديث يدل على أن الساعة لا تقوم على أهل الإيمان، وإنما تقوم على الكفار، لأن أهل الإيمان من خير الناس، وليسوا شر الناس، ج / 1 ص -299- فلا تقوم عليهم الساعة، وإنما يموتون قبل ذلك، تُقبض أرواحهم كما دلّت على ذلك الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله يُرسل ريحاً قبل قيام الساعة تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة، فلا يبقى في الأرض إلاّ الكفّار وشرار الخلق، يتهارجون كما تتهارج الحُمُر، لأنهم ليس عندهم دين، ولا خلق، ولا مروءة. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#25
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد بابُ ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيّرها أوثاناً تعبد من دون الله ج / 1 ص -300- [الباب الحادي والعشرون:] ج / 1 ص -301- روى مالك في "الموطأ" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".* بابُ ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيّرها أوثاناً تعبد من دون الله ـ قوله رحمه الله: "باب ما جاء" أي: من الوعيد. "إن الغلو في قبور الصالحين" الغلو تقدم لنا معناه، وهو: الزيادة عن الحد المشروع. والغلو في قبور الصالحين هو: الزيادة في تعظيمها، لأن ذلك يؤدي إلى الشرك، لأن المشروع في قبور الصالحين- وقبور المسلمين عموماً- احترامها، وعدم إهانتها، وصيانتها عن الأذى، وزيارتها للسلام على الأموات، والدعاء لهم، والاعتبار بأحوالهم، هذا هو المشروع، أما الغلو فهو قصدها للتبرّك، أو الدعاء عندها، أو الصلاة عندها رجاء الإجابة، هذا هو الغلو، لأن هذا لم يشرعه الله ولا رسوله، ولأنه وسيلة إلى الشرك. "يصيّرها" أي: يجعلها في المستقبل، وعلى امتداد الزمان. "أوثاناً تعبد" الأوثان: جمع وثن، والوثن ما عُبد من دون الله من قبر، أو شجر، أو حجر، أو بقاع، أو غير ذلك، أما الصنم فهو: ما عُبد من دون الله وهو على صورة إنسان أو حيوان، كما كان قوم إبراهيم يعبدون التماثيل: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ(52)}، والتماثيل جمع تمثال، وهو: ما كان على صورة إنسان، أو حيوان هذا هو الفرق بين الوثن والصنم، وقد يراد بالصنم الوثن، والعكس. والشارع رحمه الله يقول: إذا ذكر أحدهما شمل الآخر، إذا ذكر الصنم فقط دخل فيه الوثن، وإذا ذُكر الوثن فقط دخل فيه الصنم، أما إذا ذُكرا جميعاً افترقا في المعنى، فصار الصنم: ما كان على شكل تمثال، وأما الوثن فيراد به: ما عبد من دون الله من الشجر، والحجر، والقبور والصور وغير ذلك، ولم يكن على صورة تمثال، فبينهما عموم وخصوص مطلق، يجمعها أنها تُعبد من دون الله عزّ وجلّ. قال "روى مالك" هو: مالك بن أنس إمام دار الهجرة واحد الأئمة الأربعة المجتهدين: الذين هم أبو حنيفة، ومالك، والشافعي وأحمد أصحاب المذاهب الأربعة الباقية. وهناك مذاهب لأهل السنّة، لكن انقرضت، مثل:. مذهب سفيان الثوري، ومذهب ابن جرير الطبري. فمالك هو أحد الأئمة الأربعة المقلَّدين، وهو إمام جليل، يسمى بإمام دار الهجرة -يعني: المدينة-، ويسمى عالم المدينة، واشتهر في وقته، حتى قيل: لا يُفتى ومالك في المدينة، وذلك لعظيم منزلته وثقة النّاس به، رحمه الله رحمة واسعة. "في الموطأ" الموطأ: كتاب أَلَّفَه مالك في الحديث والفقه، حيث يذكر فيه الأحاديث ويذكر فقهها، وما يؤخذ منها، فهو كتاب عظيم من الكتب التي جمعت بين الفقه والحديث، ومرجع من مراجع الأمة الإسلامية، شرحه علماء كثيرون، لكن أشهر شروحه: "التمهيد" لابن عبد البر، وشرحه أبو الوليد الباجي في كتابه: "المنتقى"، وشرحه الزُّرقاني- أيضاً-، وشرحه السيوطي، وله شروح كثيرة، لكن أشهرها وأعظمها وأكثرها فائدة هو: كتاب: "التمهيد" للإمام ابن عبد البر النَّمَري رحمه الله. سُمي الموطأ من التوطئة وهي: التسهيل والتقريب، لأنه رحمه الله سهَّله للناس، ووطّأه للناس بترتيبه وتبويبه، حتى أصبح سهلاً، هذا معنى تسميته بالموطأ. "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد" هذا دعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم، دعا به ربه أن يصون قبره من الغلو به، كما حصل لقبور الأنبياء السابقين من اليهود والنصارى حيث غلوا في قبور أنبيائهم، فقال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد" فدلّ على أن الغلو في القبر يصيّره وثناً، وهذا الشاهد من الحديث للباب، ولكن الله حماه ولله الحمد، حماه بأن دفن في بيته، ومُنع النّاس من الوصول إليه وسيبقى مصوناً- بإذن الله- استجابة لدعوة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودفن في بيته من أجل هذا، كما مر قول عائشة: "ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خُشي أن يُتخذ مسجداً" فدفنه صلى الله عليه وسلم في بيته له سرٌّ عظيم، هو: صيانته من قصد النّاس له بالدعاء، والصلاة عنده، والتبرّك به، يقول ابن القيم رحمه الله: ج / 1 ص -302- فأجاب ربُ العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدران والمشروع: السلام عليه من غير مكوث عنده وطول قيام ولا تكرر زيارة كما كان الصحابة يفعلون ذلك: فقد كان ابن عمر يقف- إذا جاء من سفر- مقابل وجه النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: السلام عليك يا رسول الله، ثمّ يتأخر إلى جهة الشرق قليلاً فيقول: السلام عليك يا أبا بكر، ثمّ يتأخر قليلاً فيقول: السلام عليك يا أبت، ثمّ ينصرف. وهكذا كان عمل المسلمين عند السلام على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه رضي الله عنهما، ما كانوا يجلسون، وما كانوا يتردّدون، حتى إن الصحابة في المدينة ما كانوا كلما دخلوا إلى المسجد راحوا يسلمون على الرسول، لأن هذا يُعتبر من الغلو، إنما كانوا يسلمون على الرسول إذا جاءوا من سفر- كما فعل ابن عمر رضي الله تعالى عنه-، فالصحابة يأتون إلى المسجد، ويتردّدون عليه للصلاة، ولطلب العلم، وللاعتكاف فيه، لكن ما كانوا كلما دخلوا ذهبوا يسلمون على الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم عرفوا أن هذا من الغلو الذي حذّر منه النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم النّاس وافقه النّاس بمقاصد الرسول. ومن أجل ذلك ما كانوا يتردّدون على القبر، حتى إن مالكاً رحمه الله، كان يكره أن يقول الإنسان: زرت قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرِد بها دليل خاص، والأحاديث المروية في زيارة قبره كلها موضوعة أو ضعيفة شديدة الضعف، لم يثبت منها شيء، وإنما تدخل زيارة قبره صلى الله عليه وسلم في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "زوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة"، فزيارة قبره تدخل في عموم زيارة القبور التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، أما أنه ورد لفظ خاص بزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا لم يثبت أبداً، كما نبّه على ذلك الحفاظ؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن حجر، وابن عبد الهادي، وغيرهم من الأئمة الحفاظ. ولابن عبد الهادي كتاب مستقل اسمه: "الصارم المنكي في الرد على السبكي" تناول الأحاديث التي استدل بها السبكي على مشروعية السفر لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فبين ما فيها من المقال واحداً واحداً، حتى أتى على آخرها. فهذا الكتاب- الصارم المنكي- كتاب نفيس جدًّا، يحتاجه طالب العلم،ج / 1 ص -303- ولابن جرير بسنده: عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)} قال: "كان يَلُتُّ لهم السّويق، فمات، فعكفوا على قبره". ليتسلح به ضد الخرافيين الذي يحتجون بهذه الأحاديث التي لا تصلح للاحتجاج. ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" تحذير بعد تحذير، حيث سبق عدة مرات أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى وهو في سياق الموت لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ يحذّر ما صنعوا، وقال- قبل أن يموت بخمس-: "ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد إلاَّ فلا تتخذوا القبور مساجد" وهنا يقول: "اشتد غضب الله". "غضب الله" والغضب صفة من صفاته سبحانه وتعالى فالله يغضب، كما أنه يفرح ويضحك ويحب، كما جاءت بذلك النصوص، وكل هذه الصفات تليق بجلاله، ليس كغضب المخلوق، ولا كفرح المخلوق، ولا كضحك المخلوق، ويحب كما يليق بجلاله لا كمحبة المخلوق. ونُثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله من الصفات من غير تحريف ولا تأويل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فنُثبت أن الله يغضب، وأنه يشتدّ غضبه، وأنه يمقت، والمقت أشد الغضب: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ}، فالله يمقت بمعنى: أنه يشتد غضبه. وهذا فيه أن من جعل القبر مسجداً فقد اتخذه وثناً يُعبد. ودلّ على أن هذه الأضرحة المبنية على القبور التي يُطاف بها الآن، وينذر لها، ويُذبح لها، ويُستغاث بها أوثان، لا فرق بينها وبين اللاّت والعزّى ومناة الثالثة الأخرى، وإن سموها مساجد، أو سموها مقامات للصالحين، فالتسمية لا تغير المعنى، فهي أوثان كما سماها الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم قال: "ولابن جرير" ابن جرير هو: الإمام الجليل، إمام المفسرين، محمَّد بن جرير الطبري، صاحب كتاب "التفسير" الذي أصبح مرجعاً للمفسرين الذين جاءوا من بعده، فأعظم التفاسير هو تفسير ابن جرير، أما تفاسير أهل الكلام وأهل المنطق فليس مرجعها كتب أهل السنّة، بل مرجعها قواعد المنطق وعلم الكلام، ج / 1 ص -304- مثل: "تفسير الرازي" و"تفسير الزمخشري" وفيها من الخلط، وفيها مر الشر الشيء الكثير، وإن كان فيها فوائد، "تفسير الزمخشري" فيه فوائد لغوية، وأسرار بلاغية، وبيان لتفسير الألفاظ من جهة اللغة، فهو جيد من هذه الناحية، ولكنه من ناحية العقيدة ومن ناحية التأويل يشتمل على كثير من الشر والقول بخلق القرآن، فهو من هذه الناحية تفسير مختلط، لا يصلح أن يطالع فيه إلاَّ طالب العلم المتأصّل من أجل أن يأخذ ما فيه من الفوائد، ويترك ما فيه من الأباطيل، أما المبتدئ والجاهل فلا يصلح أن يطالع في تفسير الزمخشري. وأما: "تفسير الرازي" فهو أكثر شيئاً شرًّا من: "تفسير الزمخشري" لأنه كله جدل وافتراضات، وأحياناُ يأتي بإشكالات ولا يُجيب عليها. إنما التفاسير الموثوقة هي التفاسير المبنية على كلام الله عزّ وجلّ على قواعد التفسير المعروفة: تفسير القرآن بالقرآن، أو تفسير القرآن بالسنّة، أو تفسير القرآن بأقوال الصحابة، أو تفسير القرآن بمقتضى اللغة العربية، هذه وجوه التفسير. أما أن يُدخل فيها علم الكلام وعلم المنطق، فهذا ليس من التفسير. فأوثق التفاسير هو: "تفسير ابن جرير" وكذلك: "تفسير ابن كثير"، وكذلك: "تفسير البغوي" هذه كتب موثوقة، تنهج منهج السلف، وتفسر القرآن بالوجوه المعروفة التي هي وجوه التفسير الصحيحة، وما عداها ففيه خلط. وكل مفسر له اتجاه، بعضهم يتجه إلى النحو كأبي حيّان، وبعضهم يتجه إلى البلاغة كالزمخشري، وبعضهم يتجه إلى الأحكام الفقهية كالقرطبي. قال: "عن سفيان" سفيان هذا يحتمل أنه: سفيان بن عيينة، الإمام المشهور، ويحتمل أنه: سفيان الثوري، وهذا هو الذي رجّحه الشارح. وسفيان الثّوريّ إمام جليل في علم الحديث وفي علم الفقه، وله مذهب مستقلّ، لكنه انقرض. "عن منصور" منصور هو: منصور بن المعتمر، إمام جليل وثقة. "عن مجاهد" مجاهد بن جَبْر، التابعي الجليل، من أكبر تلاميذ عبد الله بن عباس- رضي الله تعالى عنهما-، وهو الذي يقول: "عرضت المصحف على ابن ج / 1 ص -305- وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: "كان يَلُتُّ السّويق للحاجّ". وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسُّرج " رواه أهل السنن. عباس من أوله إلى آخره، أقف عند كل آية، وأسأله عن معناها" هذا هو مجاهد بن جَبْر، من أكبر أئمة المفسرين، ومن أكبر تلاميذ عبد الله بن عباس- رضي الله تعالى عنهما-. "في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)}" هذه أسماء أصنام العرب. اللاّت في الطائف، والعزى في مكّة عند عرفات، ومناة على طريق المدينة بالمشلّل عند قُدَيْد، كان يُحرِم منها المشركون إذا جاءوا للحج. والشاهد من ذلك: اللاّت. "قال: كان يَلُتُّ لهم السّويق " ولَتُّ السويق هو: خلطه بالسمن. كان هذا الرجل يعمل هذا العمل من أجل إطعام النّاس، يعني: يُحسن إلى النّاس، فأحبوه، وتعلقت قلوبهم به، لأنه يبذل الطعام، فلما مات عكفوا على قبره حتى صار وثناً. "فمات، فعكفوا على قبره " دل على أن الغلو في قبور الصالحين يصيّرها أوثاناً تُعبد من دون الله، لان اللاّت رجل صالح ما صار قبره وثناً إلاَّ بسبب الغلو فيه، والعكوف عند قبره. "وكذا قال أبو الجوزاء" وأبو الجوزاء هو: سفيان بن عبد الله الرَّبَعي. "عن ابن عباس قال: كان يَلُتُّ السّويق للحاج" هذا مثل رواية ابن جرير، في أن اللات اسم رجل غلو في قبره حتى صار وثناً يعبد. قال: "وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم"" اللعن هو: الطرد والإبعاد عن رحمة الله عزّ وجلّ. ومعنى "لعن رسول الله": دعا عليهم باللعنة. فهذا فيه دليل على لعن أصحاب الكبائر. "زائرات القبور" أي: النساء اللاتي تزور القبور. ج / 1 ص -306- فدلّ هذا على تحريم زيارة النساء للقبور، وهذا مذهب الجمهور أهل العلم، أنه لا يجوز للنساء أن تزور القبور لهذا الحديث. قال العلماء: لأن المرأة ضعيفة، فإذا رأت قبر قريبها من ابنها، أو أبيها، أو أخيها، أو زوجها، فإنها لا تملك نفسها من النياحة ومن الجزع. وأيضاً: المرأة عورة، فإذا ذهبت إلى المقابر واختلطت بالرجال حصل من ذلك فواحش وزنى وشر، لأنها فتنة، كما هو الواقع الآن عند الأضرحة من اختلاط النساء بالرجال، وما يحصل من المفاسد. وذهب بعض العلماء إلى جواز زيارة النساء -للقبور أخذاً من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكر بالآخرة" قالوا: هذا لفظ عام يدخل فيه الرجال والنساء. والجواب عن ذلك من وجهين: الوجه الأول: أن قوله: "فزوروها" هذا الخطاب للرجال، وخطاب الرجال لا تدخل فيه النساء. الوجه الثاني: أنه على فرض أن هذا الخطاب عام للرجال والنساء، فإنه مخصوص بهذا الحديث. واحتجّوا- أيضاً- بأن عائشة رضي الله عنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن. قالوا: فهذا دليل على جواز زيارة النساء للقبور. والجواب عن ذلك: أن فعل عائشة هذا محمول على أنها لم يبلغها النهي، ولو بلغها النهي لم تكن لتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم. والجواب الثاني: وعلى فرض أنها بلغها هذا الحديث، فهذا اجتهاد منها، ولا شك أن الحجة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في اجتهاد المجتهدين. فبناءً على ذلك فالقول الصحيح الراجح هو: منع النساء من زيارة القبور، وأن كان بعض الباحثين في هذا العصر أظهر هذه المسألة وكتب فيها، وأباح للنساء زيارة القبور، فهذا قول مرجوح، ولم يأت بجديد وإنما أثار هذه المسألة فقط، ولا يجوز ج / 1 ص -307- لطالب العلم أنه يتتبّع المسائل الغريبة ويذهب يثيرها من جديد، ويبعثها على النّاس من جديد، لما يترتب على ذلك من المفاسد. قوله: "زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسُّرج" أما لعنه المتخذين عليها المساجد فهذا سبق في قوله صلى الله عليه وسلم: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وأما لعنة المتخذين عليها السّرج، فالمراد بذلك: إضاءة المقبرة بالأنوار. لأن هذا وسيلة إلى الغلو في القبور، ويُفضي إلى الشرك، فإن هذا يجلب إليها أنظار النّاس والجُهّال، ثمّ يزورونها، ويتردّدون عليها، ثمّ يؤول هذا إلى الشرك، فلا يجوز أن تُضاء المقابر، بل تُجعل المقابر خالية من الإضاءة، وإذا احتاج النّاس إلى دفن ميّت في الليل فإنهم يأخذون معهم سراجاً، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة عند الدفن بالليل. وفي هذه النصوص فوائد عظيمة: الفائدة الأولى: أن الغلو في قبور الأنبياء يصيّرها أوثاناً تُعبد من دون الله بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد". ومن الغلو فيها: اتخاذها مساجد، كما قال صلى الله عليه وسلم: "اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يعني: مصليات، يصلون عندها رجاء الإجابة. الفائدة الثانية: أن الله سبحانه صان قبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجاب دعاءه، فحفظ من الغلو فيه، وأحيط بالجُدارن التي تمنع الوصول إليه، بل تمنع رؤيته والوصول إليه، كل ذلك من أجل منع الغلو في قبره صلى الله عليه وسلم. الفائدة الثالثة: فيه أن العكوف على قبور الصالحين يصيّرها أوثاناً تُعبد من دون الله، كما حصل لقبر اللاّت، فإنه صار وثناً بسبب العكوف عنده بعد موته، كما أن الشرك حصل في قوم نوح بسبب الغلو في الصالحين، فسياسة إبليس- لعنه الله - واحدة مع الأولين والآخرين، يأتي النّاس من باب الغلو في الصالحين. الفائدة الرابعة: فيه الردّ على من زعم أن البناء على قبور الصالحين من محبة ج / 1 ص -308- الصالحين، ويقولون: أنتم لا تبنون على قبور الصالحين لأنكم تبغضون الصالحين. ففي هذا الحديث وهذه الآية ردٌّ عليهم وأن البناء على قبورهم والغلو فيها ليس من محبتهم، وإنما هو من اتخاذهم أوثاناً تُعبد من دون الله. الفائدة الخامسة: في الحديث دليل على تحريم زيارة النساء للقبور، وهو مخصِّص لقوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"، فالرسول صلى الله عليه وسلم في أول الأمر منع من زيارة القبور مطلقاً للرجال والنساء، لأنهم كانوا حديثي عهد بالشرك وبالجاهلية، فمنعهم من زيارة القبور خشية من أن يترسّب فيهم شيء من أمور الجاهلية عند القبور، فلما استقر التّوحيد في قلوبهم، وعرفوا التّوحيد، أَذِن للرجال في زيارة القبور خاصة، ومنع النساء، لأن المحذور باق في حقهن. الفائدة السادسة: في الحديث دليل على تحريم إضاءة المقابر بالأنوار، بأي وسيلة، سواء كان بالسُّرج، أو كان بالكهرباء، أو غير ذلك، كل أنواع الإضاءة على حسب الأزمنة ممنوعة، والواجب أن تكون القبور خالية من الإضاءة، لأن الإضاءة وسيلة إلى اتخاذها أوثاناً، والرسول صلى الله عليه وسلم لعن من فعل ذلك، لأنه وسيلة إلى الشرك. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#26
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد بابُ ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التّوحيد وسدّه إلى طريق يوصل إلى الشرك ج / 1 ص -309- [الباب الثاني والعشرون:] ج / 1 ص -310- وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} الآية.* بابُ ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التّوحيد وسدّه إلى طريق يوصل إلى الشرك هذا الباب عقده الشَّيخ رحمه الله في بيان حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم لجناب التّوحيد، والأبواب التي قبله- أيضاً- هي في حماية التّوحيد، لكن الأبواب التي قبله عامة، وما في هذا الباب أمور خاصة، وإلاَّ كل الأبواب السابقة: الغلو في الصالحين، وبناء المساجد على القبور، والغلو في القبور، كل هذا من الوسائل المُفضية إلى الشرك، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها سدّاً للطريق الموصِّل إلى الشرك، وهذه الأبواب كلها في موضوع واحد. ولا تعجبوا من كون الشَّيخ كرّر هذه الأبواب واحداً بعد واحد، لأن هذه المسألة عظيمة، فالشرك إنما حصل في هذه الأمة بسبب الفتنة في القبور والغلو فيها، وبسبب الغلو في الصالحين، والغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم، فالشرك إنما حصل في هذه الأمة بسبب هذه ا لأمور، منذ أن بُنيت المساجد على القبور، ومنذ أن ظهر التصّوف في هذه الأمة، والشرك يكثر ويتعاظم في هذه الأمة، من رحم الله عزّ وجلّ، فالأمر خطير جدًّا، ولذلك كرّر الشَّيخ رحمه الله في هذا الموضوع، وأبدى وأعاد، لأنه هو المرض الذي أصاب الأمة في أجل أن ينبه العلماء، وينبه المسلمين على هذا الخطر الشديد ليقوموا بعلاجه، والدعوة إلى التّوحيد، ونفي الشرك من هذه الأمة، وإلاَّ إن سكت العلماء عن هذا الأمر فإنه يتعاظم، وبالتالي في النّهاية يكثر الجهل، وتعتبر هذه الأمور من الدين، ويعتبر من نهى عنها من الخارجين عن الدين كما حصل الآن؛ أن من ينكر هذه الأمور، وينبه النّاس إلى خطرها، ويدعو إلى التّوحيد يرمونه بأنه متشدد، وأنه خارج عن الأمة، لأن ا لأمة عندهم هم عباد القبور، ومن أنكر عبادة القبور صار خارجاً عن الأمة، وهذا من قلب الحقائق -والعياذ بالله-، فالدين الذي جاءت به الرسل هو إخلاص العبادة لله عزّ وجلّ، هذا هو الدين. أما عبادة القبور فهي دين أبي جهل وأبي لهب ودين المشركين، ليست في دين الرسل- عليهم الصلاة والسلام-، ولكن إذا ظهر الجهل، وظهر إتباع الهوى حصل في الأمة ما حصل من جعل هذه الأمور الشركية من الدين، وجعل التّوحيد هو الخروج عن الدين، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله. قوله: "باب ما جاء في حماية المصطفى" المصطفى معناه: المختار، من الصفوة، أصله: مصتفى بالتاء، ثم أُبدلت التاء طاء، فصار مصطفى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} يعني: يختار، {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ(47)}، أي: المختارين، ومنهم: نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم، بل هو خيرهم وأفضلهم، فهو المصطفى صلى الله عليه وسلم، اختاره الله للرسالة، والقيام بدعوته على فترة من الرسل، وهو خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم. وقوله: "جناب التّوحيد" الجناب هو: الجانب، فالجناب والجانب بمعنى واحد، أي: حمايته صلى الله عليه وسلم حدود التّوحيد من أن يدخل عليه الشرك بسبب وسائل الشرك والتساهل فيها، فالرسول صلى الله عليه وسلم حمى حدود التّوحيد حماية بليغة، بحيث أنه نهى عن كل سبب أو وسيلة توصِّل إلى الشرك، ولو كانت هذه الوسيلة في أصلها مشروعة كالصلاة، فإذا فُعلت عند القبور، فهو وسيلة إلى الشرك، ولو حسُنت نية فاعلها، فالنية لا تبرّر ولا تزكي العمل إذا كان يؤدي إلى محذور، والدعاء مشروع، ولكن إذا دعى عند القبر، فهذا ممنوع، لأنه وسيلة إلى الشرك بهذا القبر، هذا سدّ الوسائل. فالرسول نهى عن الصلاة عند القبور، ونهى عن الدعاء عند القبور، ونهى عن البناء على القبور، ونهى عن العكوف عند القبور، واتخاذ القبور عيداً، إلى غير ذلك، كل هذا من الوسائل التي تُفضي إلى الشرك، وهي ليست شركاً في نفسها، بل قد تكون مشروعة في الأصل، ولكنها تؤدي إلى الشرك بالله عزّ وجلّ، ولذلك منعها صلى الله عليه وسلم. قال: "وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} وتمام الآية: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}، هذه الآية في ختام سورة التوبة. قوله تعالى: "{لَقَدْ جَاءَكُمْ}" اللاّم لام القسم، تدلّ على قسم مقدّر، تقديره: والله لقد جاءكم، وقد حرف تحقيق. والخطاب للعرب خاصة، وهو للناس ج / 1 ص -311- عامة- أيضاً، لكن للعرب خاصة لأن الرسول عربي، بُعث بلسانهم، فالمنة عليهم به أعظم. "{لَقَدْ جَاءَكُمْ}" أيها المسلمون عمومًا والعرب خصوصاً. "{رَسُولٌ}" الرسول هو: من أوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه. وأما النبي فهو: من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه. هذا التعريف المشهور عند أهل العلم، ويذكره المفسرون عند قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}، من سورة الحج، يذكرون هناك تعريف الرسول وتعريف النبي، والفرق بينهما، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه، وأشهرها كتابه: "النبوات": "الرسول من أوحي إليه بشرع، بخلاف النبي فإن النبي يبعث بشريعة من قبله، كأنبياء بني إسرائيل، يُبعثون بالدعوة إلى التوراة التي نزلت على موسى عليه السلام". وقد يوحى إلى النبي وحي خاص في بعض القضايا، لكن الغالب أنه يُبعث بشريعة سابقة، كأنبياء بني إسرائيل، أما الرسول فإنه يُبعث بشريعة مستقلّة. والمراد بتبليغه هنا: الجهاد والإلزام، أي: أُمر أن يُلزم النّاس بإتباعه، ويجاهدهم على ذلك، خلاف النبي فإنه يؤمر بالتبليغ، بمعنى: تعليم النّاس شرع من قبله وإفتائهم فيه. وهذا مأمور به غير الأنبياء، حتى العلماء. فالتبليغ الذي معناه التعليم والإفتاء، وبيان الحلال والحرام والحق من الباطل، هذا مأمور به كل من عنده علم، إنما المراد بالتبليغ هنا: التبليغ الخاص الذي هو الإلزام، والجهاد على ذلك. والنبي أيضاً يجاهد. لكن يجاهد على شرع من قبله. "{مِنْ أَنْفُسِكُمْ}" أي: من جنسكم من العرب، تعرفون لسانه، ويخاطبكم بما تعرفون، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}، فهذا من نعمة الله أن جعل هذا الرسول عربيًّا يتكلم بلغتنا، ولم يجعله أعجمياً لا نفهم ما يقول، ولهذا قال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}. فمن رحمة الله أن جعل هذا الرسول يتكلم بلغتنا، ونعرف نسبه، ونعرف لغته، ج / 1 ص -312- ولم يكن أجنبياً لا نعرفه، أو يكن أعجمياً لا نفهم لغته، هذا من تمام النعمة على هذه الأمة، ولم يكن من الملائكة، وهم جنس آخر من غير بني آدم، بل هو من جنسنا، ويتكلم بلغتنا. "{عَزِيزٌ عَلَيْهِ}" أي: شاقٌّ. "{مَا عَنِتُّمْ}" العنت معناه: العتب والمشقّة، ومعناه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يشق عليه ما يشق على أمته، وكان يحب لهم التسهيل دائماً، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يجب أن يأتي بعض الأعمال ولكنه يتركها رحمة بأمته خشية أن يشق عليهم، ومن ذلك: صلاة التراويح، فإنه صلاها بأصحابه ليالي من رمضان، ثم تخلف عنهم في الليلة الثالثة أو الرابعة، فلما صلّى الفجر، بيّن لهم صلى الله عليه وسلم أنه لم يتخلّف عنهم إلاَّ خوف أن تُفرض عليهم صلاة التراويح، ثمّ يعجزوا عنها، هذا من رحمته وشفقته بأمته. وقال صلى الله عليه وسلم: "لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، فلم يمنعه من ذلك إلاَّ خوف المشقة على أمته، وكان يحب تأخير صلاة العشاء إلى ثلث الليل، ولكنه خشي المشقة على أمته عليه الصلاة والسلام. وهكذا كل أوامره-، يراعي فيها التوسيع على الأمة، وعدم المشقة، لا يحب لهم المشقة أبداً، ويحب لهم دائماً التيسير عليهم، ولذلك جاءت شريعته سمحة سهلة، كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}. ولما ذكر الإفطار في رمضان للمسافر والمريض ذكر أنه شرع ذلك من أجلا التسهيل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}. هذا من صفة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يحب التيسير لأمته، ويكره المشقة عليها. "{بِالْمُؤْمِنِينَ}" وخاصة. "{رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}" الرأفة هي: شدّة الشفقة، {رَحِيمٌ} يعني : عظيم الرحمة بأمته صلى الله عليه وسلم، أما بالكفّار فإنه كان شديداً على الكفّار، كما وصفه الله تعالى بذلك: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، وكما قال الله سبحانه وتعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} يعني: رحماء، {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} يعني: ج / 1 ص -313- يتصفون بالغلظة والشدة على الكافرين، لأنهم أعداء لله وأعداء لرسوله، فتناسبهم الشدة والغلظة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} لأنهم كفار، لا تأخذكم بهم الرحمة والشفقة فلا تقاتلونهم، بل قاتلوهم، واقتلوهم، ما داموا مصرين على الكفر: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، الكافر ليس له جزاء إلاَّ القتل إذا أصر على الكفر، أو يخضع لحكم الإسلام ويدفع الجزية صاغراً، هذا في الدنيا. وأما في الآخرة فله النار -والعياذ بالله-، وهذا أشد من القتل، لأنه عدو لله، وعدو لرسوله، وعدو لدينه، فلا تناسب معه الرحمة والشفقة. فهذه الآية الكريمة مناسبة إيراد الشَّيخ رحمه الله قي هذا الباب: أنه إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم متصفاً بهذه الصفات التي هي أنه: عربي، يتكلم بلساننا ونفهم لغته، وأنه يشق عليه ما يشق علينا، وأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، فهل يليق بمن هذه صفاته أن يترك الأمة تقع في الشرك الذي يُبعدها عن الله، ويُسبب لها دخول النار؟، هل يليق بمن هذه صفاته أن يتساهل بأمر الشرك؟، أو أن يتركه ولا يهتم بالتحذير منه، ى لأن هذا هو أعظم الخطر على الأمة؟ وهذا هو الذي يشق على الأمة، لأنه يفسد عليها حياتها، ولا يجعل لها مستقبلاً عند الله عزّ وجلّ، لأن المشرك مستقبله النار، ليس له مستقبل إلاَّ العذاب، فهل يليق بهذا الرسول الذي هذه صفاته أن يتساهل في أمر الشرك؟، لا، بل اللاّئق به أن يبالغ أشد المبالغة في حماية الأمة من الشرك، وقد فعل صلى الله عليه وسلم، فقد سد كل الطرق الموصلة إلى الشرك بالأحاديث التي مرت في الأبواب السابقة. هناك ناس الآن يقولون: لا تذكروا الشرك، ولا تذكروا العقائد، يكفي التسمّي بالإسلام، لأن هذا ينفّر النّاس ويفرق الناس، اتركوا كلاًّ على عقيدته، دعونا نجتمع ولا تفرقونا. يا سبحان الله، نترك الشرك ولا نتكلم في أمر التّوحيد من أجل أن نجمع الناس؟!!. ج / 1 ص -314- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" رواه أبو داود بإسناد حسن، ورواته ثقات. وهذا الكلام باطل من وجوه: أولاً: لا يمكن اجتماع النّاس إلاَّ على العقيدة الصحيحة. وثانياً: ما الفائدة من الاجتماع على غير عقيدة، هذا ماذا يؤدي إليه؟، لا يؤدي إلى نتيجة أبداً. فلا بد من الاهتمام بالعقيدة، ولابد من تخليصها من الشرك، ع ولا بد من بيان التّوحيد، حتى يحصل الاجتماع الصحيح على الدين، لا يجتمع النّاس إلاَّ على التّوحيد، لا يوحد النّاس إلاَّ كلمة: لا إله إلاَّ الله؛ قولاً وعملاً واعتقاداً. هذا هو الذي جمع العرب على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعلهم أمة واحدة هو الذي يجمعهم في آخر الزمان، أما بدون ذلك فلا يمكن الاجتماع مهما حاولتم، فلا تتعبوا أنفسكم أبداً، وهذا من الجهل أو من المغالطة. فالتّوحيد ليس هو الذي يفرق الناس، بل العكس؛ الذي يفرق النّاس هو الشرك، والعقائد الفاسدة، والبدع والمنهجيات هذه هي التي تفرق الناس، أما التّوحيد والإتباع للرسول صلى الله عليه وسلم فهذا هو الذي يوحد الناس، كما وحّدهم في أول الأمر، ولا يُصلح آخر هذه الأمة إلاَّ ما أصلح أولها. قوله: (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً" الحديث). ثلاث كلمات قالها صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: الكلمة الأولى: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً" يعني: لا تعطلوا البيوت من ذكر الله، ومن صلاة النافلة، وتلاوة القرآن، لأنها إذا عُطلت صارت مثل القبور، لأن القبور ليس فيها عمل، خاوية خالية، حفر مظلمة، إلاَّ من نورها الله عليه بنور الإيمان الذي سبق لهم في الحياة الدنيا. فهذا فيه العناية بالبيوت، بيوت المسلمين، وأن تُعمر بذكر الله، وبتلاوة ج / 1 ص -315- القرآن، وصلاة النافلة، والإكثار من ذكر الله، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بأن تُجعل النوافل التي لا تُشرع لها الجماعة كلها في البيوت، أما الفرائض فإنها تكون في المساجد، وذلك لعمارة البيوت، لأنها إذا عمرت بذكر الله ابتعدت عنها الشياطين، ونشأ أهل البيوت من النساء والذرية والساكنين فيها على طاعة الله، وصارت هذه البيوت مدارس خير، يتخرج منها المسلم الموحد. أما إذا كانت هذه البيوت خالية من ذكر الله، فإن أهلها يعيشون في الجهل، ويعيشون في الغفلة، ويصيرون مثل الموتى، فما بالكم إذا خلت البيوت من ذكر الله، وجُلب إليها وسائل الشر من الأفلام الخليعة، وجلب إليها الجهاز الذي يستقبل محطات التلفزيون من العالم بما فيها من فساد وخلاعة ومجون وكفر وإلحاد وشرور عظيمة، كلها تدخل في هذا البيت بواسطة هذا الجهاز الشيطاني الذي ينُصبه صاحب البيت ماذا تكون هذه البيوت؟، تكون بيوتاً للشيطان، لا تكون مقابر فقط، وإنما تكون مآوي للشياطين- والعياذ بالله-، ويتخرج منها أشرار من الذرية والنساء، يصاحبهم عدم الحياء، وعدم الغيرة، وحب الشر، والحرص على تنفيذ ما يرونه في هذه المبثوثات من الشرور، وفساد الأخلاق، وفساد الأمور، سيطبقون هذه الأمور التي يرونها ويشاهدونها، وتؤثر على أخلاقهم وعلى عفتهم، ويتكاسلون عن الصلاة، بل يضيعون الصلاة بسببها، ويقولون: هذا العالم المتحضر، انظروا إلى العالم ماذا يفعلون؟. هذه هي الحياة، وهذه الحضارة، وهذا هو الرُّقي، نحن مشتغلون بأمور بعيدة عن الحياة. سيقولون هذا شئتم أم أبيتم أيها الآباء، وأنتم السبب في هذا، أنتم المسئولون أمام الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، الله قال لكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، أنتم ما وقيتم أنفسكم، ولا وقيتم أهليكم من النار، بل جلبتم النار إلى بيوتكم. اتقوا الله يا من ابتليتم بهذه الآلة الخبيثة؛ أزيلوها عن بيوتكم، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً" وأمركم بالعناية بالبيوت، بأن تعمروها بطاعة الله، ج / 1 ص -316- وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يفرّ من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة، وقال: "إنها لا تطيقها البَطَلَة" أي: الشياطين، أي لا تطيق سماع سورة البقرة، فتنبهوا لبيوتكم "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً" هذا فيه العناية بالبيوت المسلمة، وأن لا تُهمل، ولا تُجلب إليها وسائل الشر والتدمير الخلقي، بل يُعتنى بها غاية الاعتناء، يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيها. كما أن في الحديث الحث على عمارة البيوت بذكر الله فيه النهي عن الصلاة عند القبور؛ من مفهوم الحديث، لأن الذي لا يصلى عنده هو القبر، فالبيت الذي لا يصلى فيه نافلة، ولا يُقرأ فيه قرآن، ولا يُدعى فيه صار مثل القبر، لأنه ممنوع من الصلاة عنده، والدعاء عنده، فالحديث يدل بمفهومه على منع الصلاة عند القبر، ومنع الدعاء عند القبور. الكلمة الثانية، قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تجعلوا قبري عيداً" العيد: اسم لما يعود ويتكرّر في اليوم أو في الأسبوع، أو في الشهر، أو في السنّة، سمي عيداً من العود، وهو التكرّر. والعيد ينقسم إلى قسمين: عيد زماني، وعيد مكاني. فالعيد الزماني المشروع: عيد الفطر، وعيد الأضحى، هذه أعياد الإسلام المشروعة. والعيد الزماني الممنوع: أعياد الموالد، فهي الأعياد الزمانية المحرمة، وأعياد الجاهلية التي كانوا يعملونها في الجاهلية، أعياد الفُرس: النيروز والمهرجان، وعيد الميلاد المسيحي، بل الميلاد النصراني ولا نقول المسيحي لأن الله برّأ المسيح من هذا، وإنما هو العيد النصراني، ومثله كل عيد فعله بعض المسلمين أو المنتسبين للإسلام مما لم يشرعه الله كعيد المولد للرسول، أو المولد للشيخ، أو الموالد للعظماء، أو لغير ذلك، كل هذه أعياد جاهلية، وهي أعياد زمانية جاهلية، لا يجوز عملها. لأن الله شرع لنا عيدين: عيد الأضحى، وعيد الفطر، وكل عيد من هذين العيدين بعد أداء ركن من أركان الإسلام، فعيد الفطر بعد أداء ركن الصيام، وعيد الأضحى بعد أداء ركن الحج وهو الوقوف بعرفة، لأن الوقوف بعرفة هو الركن ج / 1 ص -317- الأعظم للحج كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "الحج عرفة" وما بعده من المناسك فهي تابعة له، فمن وقف بعرفة فقد أدّى الركن الأكبر للحج، ويتبعه بقية الأركان، أما من لم يقف بعرفة فقد فاته الحج، فلا فائدة من أنه يأتي ببقية الأركان، لأنه لم يأت بالأساس وهو الوقوف بعرفة، فجعل الله عيد الأضحى شكراً لله بعد أداء الركن الأعظم من أركان الحج، هذه أعياد الإسلام الزمانية. أما الأعياد المكانية: فهي- أيضاً- تنقسم إلى قسمين: أعياد شرعية، وأعياد محرّمة. الأعياد الشرعية مثل الاجتماع في المساجد في اليوم والليلة خمس مرات، فهذا عيد مكاني مشروع. كذلك الاجتماع في الأسبوع لصلاة الجمعة؛ هذا عيد الأسبوع عيد مكاني. وكذلك من الأعياد المكانية المشاعر: المسجد الحرام، ومنى، وعرفة، ومزدلفة، التي يجتمع فيها المسلمون أيام الحج لأداء المناسك، هذه أعياد إسلامية مكانية. أما الأعياد المكانية المحرمة، فهي: الاجتماع عند القبور، سواء قبر الرسول صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره، والسفر إلى القبور، والتردد على القبور من أجل الدعاء عندها، والصلاة عندها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا قبري عيداً" أي: مكاناً للعبادة، تصلون عنده، وتدعون عنده، وترددون عليه. وهذا من حمايته صلى الله عليه وسلم لجناب التّوحيد، ففيه شاهد للباب من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ قبره عيداً، أي: مكاناً يُجتمع عنده للعبادة، فالعبادة لا تُشرع عند القبور، لا قبور الأنبياء والرسل، ولا قبور غيرهم من الأولياء والصالحين أبداً، فالمقابر ليست محلاً للعبادة، فمن تردد عليها، وجلس عندها، أو وقف عندها للتبرك بها، أو للدعاء عندها، أو للصلاة عندها أو سافر إليها فقد اتخذها عيداً جاهليًّا وعيداً محرماً، ولهذا لما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله بأنه نذر أن ينحر إبلاً ببوانة- اسم مكان-، فقال له النبي صلى الله عليه وسل: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد؟ " قالوا: لا، قال: "هل كان فيها عيد من أعيادهم؟" يعني: مكان لاجتماع أهل ج / 1 ص -318- الجاهلية، قالوا: لا، قال: "فأوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملكه ابن آدم" والشاهد منه: أنه قال: "هل كان فيها عيد من أعيادهم؟" يعني: هل هذا المكان الذي خصّصته هل كان الجاهليون يخصّصونه؟، فدلّ على أن تخصيص مكان للعبادة لم يخصصه الله ولا رسوله أنه من أعياد الجاهلية، لا تجوز العبادة فيه أبداً، ومن ذلك: القبور، فالترّدد عليها، والجلوس عندها من أجل التبرّك بتربتها، أو من أجل الدعاء عندها، أو الصلاة عندها، كل هذا من اتخاذها عيداً، وهو وسيلة من وسائل الشرك. كما هو واقع الآن عند الأضرحة مما لا يخفاكم، وتسمعون عنه في البلاد الأخرى التي بُليت بهذه الفتنة -والعياذ بالله-، ولم تجد من دعاة التّوحيد من يقوم بنصيحة المسلمين عنها والأمر بإزالتها. نرجو الله أن يهيء للمسلمين من يقوم بإصلاح عقيدتهم، وإزاحة هذه الفتنة العظيمة عنهم، كما منّ على هذه البلاد- ولله الحمد- بهذه الدعوة المباركة التي أزاحت عنها هذه الأوثان الجاهلية. نسأل الله أن يثبتنا وإياكم وإخواننا المسلمين على هذا الدين، وأن يتم علينا هذه النعمة، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وإلاَّ فنحن معرضون للفتنة، ولا نزكي أنفسنا، ولا نأمن أن نصاب بمثل ما أصيب به أولئك، إذا تساهلنا وغفلنا وتركنا الدعوة إلى الله وتركنا بيان التّوحيد والتحذير من الشرك فإنه يدب إلينا ما وقع في البلاد المجاورة لنا. الكلمة الثالثة الواردة في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" هذا أمر بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ، وقد أمر الله بذلك في محكم كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً(56)}، أمرنا الله بالصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذكر سبحانه أنه هو وملائكته يصلّون عليه. والصلاة من الله: ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى. والصلاة من الملائكة: الاستغفار ومن الآدميين الدعاء كما ذكر الإمام البخاري عن أبي العالية. ج / 1 ص -319- وعن علي بن الحسين رضي الله عنه: أنه رأى رجلاً يجيء عند فُرْجة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها، فيدعو، فنهاه، وقال:.. وقوله: "صلّوا عليّ" هذا أمر يفيد الوجوب، فالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مشروعة ومتأكدة، وتجب في بعض المواضع. فتجب في الخطبتين للجمعة والعيد وخطبة الاستسقاء، وتجب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير في الصلاة، وكذلك تجب الصلاة على رسول الله عند ذكره صلى الله عليه وسلم، وتستحب في بقية الأحوال، وكلما أكثر الإنسان من الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم كثر أجره، كما قال صلى الله عليه وسلم: "من صلّى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً". قوله: "فإن صلاتكم تبلغني" فالله جل وعلا وكّل بصلاة المصلين على النبي صلى الله عليه وسلم من يبلغ الرسول إياها وهو في قبره صلى الله عليه وسلم، ففي أي مكان صليت عليه فإن صلاتك تبلغه ولو كنت في المشرق أو في المغرب، وهذا من آيات الله سبحانه وتعالى، أنها تبلغه الصلاة عليه في قبره صلى الله عليه وسلم، وهذا من أمور البرزخ التي لا يعلمها إلاَّ الله سبحانه وتعالى. فقوله: "فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" أي: أينما كنتم في بر، أو في بحر، قريبين أو بعيدين، في المشرق أو المغرب. وفي هذا الحديث دليل على أنه ليس للصلاة عليه عند قبره خاصية، بل إذا قصد الإنسان القبر لأجل الصلاة عليه فهذا منهي عنه، لكن إذا قصد قبره للسلام عليه ويصلى عليه فهذا مشروع، فتسلم وتصلي على الرسول عند قبره إذا قدمت من سفر، أما أن تقصده من أجل أن تجلس أو تقف وتصلي عليه دائماً فهذا غير مشروع، لأنه مطلوب منك الصلاة والسلام عليه في أي مكان. قال: "عن علي بن الحسين" أحد أعلام التابعين، وهو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وجدّته فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو جدّته هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو من بيت النبوّة، وهو يلقب بزين العابدين، وهو من كبار أئمة التابعين، رضي الله تعالى عنه. "أنه رأى رجلاً يجيء إلى فُرْجَة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم" قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فيج / 1 ص -320- ألا أحدثكم بحديث سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا عليَّ؛ فإن تسليمكم ليبلغني أين كنتم" رواه في "المختارة". بيته، في حجرة عائشة، وفي أحد الجدران فُرْجَة، أي: نَقْبٌ في الجدار، رآه هذا الرجل، فصار يتردد، ويأتي ويدخل من هذه الفُرْجَة، ويدعو عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه علي بن الحسين رحمه الله نهاه عن ذلك، قال له: لا تفعل هذا، لا تتردد على قبر الرسول، ولا تدع عنده. وهذا من إنكار المنكر، ولاسيما ما يؤدي إلى ا لشرك. فالتردّد على قبر الرسول والدعاء عنده من وسائل الشرك به، فيجب إنكاره، ولذلك أنكر علي بن الحسين على هذا الرجل ونهاه. ثمّ لم يكتف بهذا، بل بين الدليل والحجة على هذا الإنكار، فقال: "ألا أحدثكم حديثاً سمعته عن أبي" يعني: الحسين رضي الله عنه "عن جدَّي" يعني: علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيداً" هذا مثل ما في حديث أبي هريرة السابق ومعنى اتخاذ القبر عيداً: بأن يُتردّد عليه، ويجتمع عنده لأجل الدعاء أو التبرك أو الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذا مثل حديث أبي هريرة الذي قبله إلاَّ أنه زاد عليه: الإنكار على من يأتي ويدعو عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو يعد مفسّراً لحديث أبي هريرة، يبين معنى اتخاذه عيداً، وأنه يكون في الدعاء عنده، والتردّد عليه. ثم قال: "رواه في المختارة" المختارة: كتاب اسمه: الأحاديث الجياد المختارة" ومؤلفه هو: عبد الله بن محمَّد بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي، ألّف هذا الكتاب، وجمع فيه الأحاديث الجياد الزائدة على ما في الصحيحين، فهو كالمستدرك، لكنها أحسن من "مستدرك الحاكم". ما يُستفاد من الآية الكريمة ومن الحديثين: أولاً: يستفاد من الآية: امتنان الله على هذه الأمة ببعثة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي نعمة عظيمة، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو ج / 1 ص -321- عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، هذه أعظم منّة على الخلق، لأنه ببعثة هذا الرسول واتباعه خرجوا من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن النار إلى الجنة. المسألة الثانية: في الآية دليل على صفات عظيمة من صفاته صلى الله عليه وسلم: الصفة الأولى:{رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}. الثانية: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}. الثالثة: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ}. الرابعة: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ}. الخامسة: {رَحِيمٌ}. خمس صفات من صفاته صلى الله عليه وسلم. المسألة الثالثة: في الحديث دليل على أنه صلى الله عليه وسلم قد سدّ الطريق المُفضية إلى الشرك، بمقتضى هذه الصفات العظيمة التي ذكرها الله جل وعلا فيه، ولهذا جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما تركت شيئاً مما يقربكم إلى الله إلاَّ وبينته لكم، وما تركت شيئاً يُبعدكم عن الله إلاَّ وبينته لكم" أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ويقول أبو ذر: "لقد توفي رسول الله وما طائر يقلب جناحيه إلاَّ وذكر لنا منه علماً، علمه من علمه، وجهله من جهله"، والله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}، فلا يمكن أنه يترك النّاس ولا يبين لهم أعظم خطر عليهم وهو الشرك. المسألة الرابعة: حديث أبي هريرة يدلّ على وجوب العناية بالبيوت- بيوت المسلمين- وعمارتها بالعبادة، وإبعاد وسائل الشر عنها، وهذه مسألة عظيمة يجب التنبه لها في هذا الزمان أكثر من غيره. المسألة الخامسة: فيه أن القبور لا تصلح للصلاة عندها من مفهوم حديث أبي هريرة، فدلّ على أن القبور لا تصلح للصلاة عندها، وللدعاء، ولا للعبادة، وإنما هذا إما أن يكون في بيوت المسلمين إذا كان نافلة وإما أن يكون في بيوت الله المساجد إذا كان فريضة. المسألة السادسة: في حديث أبي هريرة النهي عن التردد على قبره صلى الله عليه وسلم، والقيام ج / 1 ص -322- أو الجلوس عنده، والدعاء والصلاة صلى الله عليه وسلم، لأن هذا من اتخاذه عيداً، فقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. المسألة السابعة: في حديث أبي هريرة أن الرسول سدّ الطريق المُفضية إلى الشرك، بنهيه عن اتخاذ قبره عيداً، لأن هذا من وسائل الشرك، ومن الطرق الموصلة إلى الشرك. المسألة الثامنة: في حديث أبي هريرة مشروعية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في أي مكان. المسألة التاسعة: في الحديث النهي عن التردّد على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل الصلاة عليه والسلام عليه، لأن هذا وسيلة إلى الشرك، ومن اتخاذه عيداً، ولهذا ما كان الصحابة رضي الله عنهم كلما دخلوا المسجد يذهبون إلى قبر الرسول ليسلموا عليه أو يصلوا عليه، أبداً، إنما يفعلون هذا إذا جاءوا من سفر فقط، لأنك إذا أكثرت التردّد عليه صار من اتخاذه عيداً. المسألة العاشرة: في حديث علي بن الحسين رحمه الله وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهل، لأنه لما رأى هذا الرجل وما يفعله من وسائل الشرك لم يسكت على هذا، بل نهاه عن ذلك، وحذّره من ذلك، وكان في ذلك الخير والبركة لهذه الأمة. المسألة الحادية عشرة: في الحديث دليل على أن من أنكر شيئاً أو أمر بشيء فإنه يُطالب بالدليل، لأن علي بن الحسين لما نهى هذا الرجل ذكر له الدليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أجل إقامة الحجة، ومن أجل معرفة الحق بدليله، وهذا منهج من مناهج الدعوة: أن الداعية إلى الله إذا أمر بشيء أو نهى عن شيء يذكر الدليل ويوضحه للناس من أجل أن يقتنعوا، ومن أجل أن تقوم الحجة على المخالف. المسألة الثانية عشرة: في عموم الآية والحديثين أن النبي صلى الله عليه وسلم سدّ الطرق المُفضية إلى الشرك، وهو الشاهد للباب من الآية والحديثين. المسألة الثالثة عشرة: في الحديثين دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم تبلغه صلوات أمته عليه في أي مكان كانوا من الأرض، وهذا مما يحث المسلمين على الإكثار من الصلاة والسلام عليه، لأن هذا يبلغه صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من صلّى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً". ج / 1 ص -323- وفي الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم أُلّفت كتب، منها-أو من أحسنها- كتاب: "جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام" للإمام ابن القيم، فهو كتاب جيد في هذا الموضوع، حيث جمع فيه الأدلة وفقهها، وما تدل عليه، وبسط الكلام في هذا. أما الكتب التي أُلفت في الصلاة والسلام عليه، والتبرّك به، والتوسل به، مثل كتاب "دلائل الخيرات"، ومثل كتب الخرافيين؛ فهذه يجب الحذر منها، وإن سموها كتب الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنهم دسوا فيها من الشرور والفتن والشركيّات الشيء الكثير- والعياذ بالله-. وكذلك صلاة الفاتح عند التيجانية- أيضاً- هي من الأمور المحدثة، وفيها غلو في حقه صلى الله عليه وسلم، وهي صلاة لا دليل عليها من كتاب الله ولا من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إنما من أراد أن يعرف أحكام الصلاة عليه وأدلتها مع الأمانة العلمية فيراجع كتاب "جلاء الأفهام" للإمام ابن القيّم، هذا هو الكتاب الذي يستفيد منه طالب العلم، ويأمن من الدسّ الذي في الكتب الأخرى. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#27
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد بابُ ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان ج / 1 ص -324- [الباب الثالث والعشرون:] *بابُ ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان قوله رحمه الله : "باب ما جاء" أي: من الأدلة في الكتاب والسنّة. "أن بعض هذه الأمة" يعني: وليس كلها، فالأمة لا تجتمع على ضلالة- ولله الحمد-، بل يبقى فيها من يثبت على الحق، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله "، فهذه الأمة لا تضل كلها، وإنما يضل الكثير، ولكن يبقى من هذه الأمة من يثبت على الحق إلى أن تقوم الساعة. فهذا من فضل الله ورحمته. ولهذا قال المصنف رحمه الله: "أن بعض هذه الأمة"، وهذا من دقة فقهه رحمه الله ، وعدم تسرعه في الأحكام، بخلاف الذين يكفرون عوام الأمة كما عليه بعض الكتاب المعاصرين. "يعبد الأوثان" أي: يشرك بالله عزّ وجلّ، والأوثان- كما سبق-: جمع وثن، والمراد به: كل ما عبد من دون الله من صنم، أو قبر، أو حجر، أو شجر، أو جن، أو إنس، كله يسمّى وثناً؛ فالوثن كل ما عبد من دون الله؛ مأخوذ من وثن بالمكان إذا ثبت وبقي فيه. وقصد الشَّيخ رحمه الله من هذه الترجمة: الرد على من زعم أنه لا يقع في هذه الأمة شرك، وهم عباد القبور يقولون: هذا الذي نعمله ليس بشرك، لأن هذه الأمة لا يقع فيها شرك؟ وإنما هو من باب التوسل بالصالحين، أو محبة الصالحين، أو ما أشبه ذلك من الأعذار الباردة. وهذه مقالة المشركين الأولين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، لكن هؤلاء- والعياذ بالله- يقرأون القرآن ولا يفقهون معناه، أو يعرفون معناه، ويغالطون ويكابرون تبعاً لهواهم. ج / 1 ص -325- وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}. قال: "وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ}، هذا استفهام تقرير، أي: قد رأيت وعلمت يا محمَّد. "{إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ}" أي: حظّاً من الكتاب فالنصيب: الحظ؛ والمراد بهم اليهود، لأن الله أعطاهم التوراة التي أنزلها على موسى- عليه الصلاة والسلام- من عند الله، فهو كتاب عظيم من عند الله. وهذا من باب الإنكار عليهم، لأن المفروض أن الذي أوتي نصيباً من الكتاب وعلم الحق يجب عليه أن يعمل به: فكونهم يخالفون الحق - وعندهم الكتاب- هذا دليل على غِلظ كفرهم وعنادهم. "{يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ}" أي: يصدقون بالجبت، وهو الشرك، أو السحر، أو الساحر، أو الكاهن، أو الشيطان، كل ذلك يسمى جبتاً. "{وَالطَّاغُوتِ}" في اللغة: مأخوذ من الطغيان، وهو: مجاوزة الحد؛ والمراد به هنا: ما تجاوز به العبد حدّه من معبود، أو متبوع، أو مطاع في غير طاعة"الله، كله طاغوت. ويقول العلامة ابن القيم: "الطواغيت كثيرون، ورؤوسهم خمسة: إبليس- لعنه الله- ومن عُبد وهو راض. ومن دعا النّاس إلى عبادة نفسه. ومن ادعى شيئاً من علم الغيب. ومن حكم بغير ما أنزل الله". "{وَيَقُولُونَ}" أي: يقول هؤلاء اليهود. "{لِلَّذِينَ كَفَرُوا}" وهم مشركوا قريش {هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} أي: هؤلاء الكفار أهدى من الذين آمنوا سبيلاً، أي: منهج الكفار أهدى من منهج المسلمين المتبعين لمحمد صلى الله عليه وسلم. وهذا وهم عندهم الكتاب، ويعرفون الحق من الباطل. وسبب ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وبايعه الأنصار من الأوس والخزرج، وصارت للمسلمين دولة عظيمة في المدينة، اغتاظ اليهود الذينج / 1 ص -326- كانوا في المدينة من المسلمين، وضاقوا بهم ذرعًا، فذهب كعب بن الأشرف وحيّي بن أخطب إلى المشركين في مكة يستنجدونهم على قتال الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانتهز المشركون الفرصة وقالوا: أنتم أهل كتاب، تعرفون الحق من الباطل، بينوا لنا أنحن أهدى أم محمّد؟، فقالوا: وما أنتم وما محمّد؟ يعني: بينوا لنا صفتكم وصفة محمّد-، قالوا: محمَّد صنبور مبتور، قطّع أرحامنا وسب آلهتنا. ونحن نذبح الكوم، ونطعم الحجيج، ونسقي الحجيج، ونفك العاني، ونصل الأرحام. يصفون أنفسهم بهذه الصفات. ومحمد قطع أرحامنا، وتبعه سراق الحجيج من غفار. ج / 1 ص -327- وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}.قالوا: أنتم خيرٌ وأهدى سبيلاً. والشاهد من الآية للباب: أنه إذا كان في اليهود من يؤمن بالجبت والطاغوت فسيكون في هذه الأمة من يفعل ذلك تشبّهاً بهم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خبر أنه يكون في هذه الأمة من يتشبه باليهود والنصارى، ومن ذلك: التشبه بهم في الإيمان بالجبت والطاغوت. وكذلك يوجد في هذه الأمة من يمجّد الكفار، وينتقّص المسلمين، كما كان اليهود يقولون: {هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}، فمن النّاس من يثني اليوم على دول الكفر والإلحاد، ويصفهم بصفات الكمال والعظمة، ويتنقص المسلمين، ويصفهم بالتأخر والرجعية، إلى آخره، فهذا شيء موجود. فدلّ على أن هذه الأمة يقع فيها ما وقع في اليهود من الإيمان بالجبت والطاغوت، ومن الشرك بالله عزّ وجلّ. وكل ما وقع في اليهود أو في النصارى فإنه سيقع في هذه الأمة من بعض أفرادها أو طوائفها من يفعله تشبّهاً بهم، فها هي الأضرحة، والبناء على القبور، والطواف بها، وإقامة الموالد، والاستغاثة بالأموات، والذبح والنذر لهم موجود، كما كان في اليهود. وهذا الشاهد من الآية للترجمة. وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً}. قال: "وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} تمام الآية: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}، هذه الآية في الرد على الذين يسخرون من المسلمين ومن دينهم من اليهود والنصارى والوثنيين. يقول تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} أي: أخبركم والاستفهام هنا المراد به: التقرير والتوبيخ. "{بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ}" : الذي زعمتم فينا. "{مَثُوبَةً}" منصوب على التمييز، يعني جزاء عند الله سبحانه وتعالى. "{مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ}" أي: طرده وأبعده من رحمته بسبب كفره، وهو أنتم أيها اليهود والنصارى. "{وَغَضِبَ عَلَيْهِ}" والغضب ضد الرضا، فالله جلّ وعلا يرضى عق عباده المؤمنين ويغضب على الكافرين، وغضبه لا يقوم له شيء، والمغضوب عليهم هم الذين عندهم علم ولم يعملوا به، لأنهم عصوا الله على بصيرة. "{وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ}" مسخهم قردة وخنازير، بسبب كفرهم. والشاهد في قوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} دلّ على أن في أهل الكتاب من يعبد كل الطاغوت، فلا بد أن يكون في هذه الأمة من يتشبّه بهم ويعبد الطاغوت. فالآية الأولى فيها: أنهم يؤمنون بالجبت والطاغوت، وهذه الآية فيها أن فيهم من عبد الطاغوت، فلا بد أن يكون من هذه الأمة من يتشبّه بهم في ذلك. قال: "وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} هذا في قصة أصحاب الكهف، وذلك أن جماعة من الفِتيان في الزمان القديم آمنوا بالله، وأنكروا ما عليه أهل بلدهم من الشرك بالله، فلما ماتوا بنى قومهم عليهم مسجداً لأجل التبرك بهم. {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} فقالوا: هؤلاء رجال ج / 1 ص -328- عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه" قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟، قال: "فمن؟" أخرجاه. صالحون، فيهم بركة، فيهم خير، نبني عليهم مسجداً من أجل التبرُّك بهم، والصلاة عندهم، والدعاء عندهم، لأنهم من أولياء الله، ونفّذوا ذلك بقوة السلطة لا بقوة الحجة، لأنهم غلبوا على أمرهم، أي: تمكنوا من تنفيذ ما أرادوا بقوتهم. فالشاهد من الآية: أنه كان في أول الخليقة من يبني المساجد على القبور، فلا بدّ أن يكون في هذه الأمة من يبني المساجد على القبور، تشبُّهاً بهم، وقد وقع هذا، ووُجِد في هذه الأمة من يبني المساجد على القبور، فدلّ على وقوع الشرك في هذه الأمة كما وقع في الأمم السابقة عن طريق التشبُّه والمحاكاة. قوله: "عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن،" سبق أن اللاّم هذه لام قسم، فهي على تقدير: والله لتتّبعن، وأكّده بالنون الثقيلة. "سنن" أي: طريق. فالسَّنن- بالفتح-: الطريق، أما السُّنن- بالضم- فهي جمع: سنَّة، وهي الطرق. فمن قرأه سَنَن فالمراد به: الطريق، وهذا هو المشهور. ومن قرأه سُنَن فالمراد به: جمع: سُنّة وهي: الطرق. والمعنى واحد. "حَذْوَ القُذَّة بالقُذَّة" حَذْوَ: منصوب على الحال، والقُذَّة: ريشة السهم الذي يُرمى به، والمعنى: تُشبونهم كما أشبهت ريشة السهم ريشة السهم الأخرى. "حتى لو دخلوا جُحْر ضب لدخلتموه" الجُحر- بالضم- هو: السَّرَب الذي يكون في الأرض، ومنه جُحر الضب، لأنه يحفر جحراً من أعسر الجحور، ومع هذا لو دخله اليهود والنصارى لكان في هذه الأمة من يفعل ذلك تقليداً لهم. وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فالتقليد والتشبه بالكفار قائم على قدم وساق بأتفه الأشياء وأحقر الأشياء، لا لشيء إلاَّ لأنهم يفعلونه، والمقلد يرى أنهم أهل العقول، وأنهم أهل التقدم والحضارة، فيقلدهم من أجل ذلك. ج / 1 ص -329- وهذا الحديث خبر بمعنى النهي، أي: لا تتشبّهوا بهم، ولا تقلّدوهم، وقد جاء النهي عن التشبّه بهم بقوله: "لا تشبّهوا باليهود والنصارى"، وقوله: "ومن تشبه بقوم فهو منهم". والشاهد من هذا الحديث واضح: أنه يكون في هذه الأمة من يتشبّه باليهود والنصارى في كل شيء، واليهود والنصارى يعملون الشرك فلا بد أن يوجد في هذه الأمة من يعمل الشرك مثلهم سواء بسواء. نعم، اليهود والنصارى بنوا على القبور، فيؤخذ في هذه الأمة من يبني على القبور تشبُّهاً بهم، والنصارى يعملون عيد المولد للمسيح عليه السلام فيُوجد في هذه الأمة من يعمل عيد المولد لمحمد صلى الله عليه وسلم تشبُّهاً بالنصارى. كما وُجد في اليهود والنصارى من يحلق لحيته ويُوَفِّر شاربه، فوُجد من هذه الأمة من يحلق لحيته ويوفّر شاربه، إلى غير ذلك من أنواع التشبُّه التي لا تُحصى مصداقاً لقوله من باب التحذير والنهي: "لتتبعن سَنن من كان قبلكم حَذْو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جُحْر ضب لدخلتموه". فالشاهد منه: أنه لا بد أن يوجد في هذه الأمة من يتشبّه باليهود والنصارى في الشرك بالله عزّ وجلّ، كما أنهم {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} فلا بدّ أن يوجد في هذه الأمة من يغلو بالأئمة، ويتخذهم أرباباً من دون الله، كما عند الصوفية الذين يتخذون رؤساء الطرق والمشايخ أرباباً من دون الله، يحلّلون ويحرّمون، ويقولون: المريد ينبغي أن يكون مع الشَّيخ كالميّت بين يدي غاسله. وكذلك من يتعصّب لشيخه ولو خالف الدليل إلى غير ذلك. أما فقه هذه النصوص، فإنها تدلّ على مسائل كثيرة: المسألة الأولى: في الآية الأولى دليل على أن من اليهود والنصارى من والطاغوت، الذي هو: الشرك، والسحر، والكِهانة، والطِّيرَة، والتّنجيم، والحكم بغير ما أنزل الله. فسيوجد في هذه الأمة من يؤمن بالجبت والطاغوت؛ تشبُّهاً بهم. المسألة الثانية: في الآية دليل على أن الموافقة لهم في الظاهر تسمّى إيماناً ج / 1 ص -330- ولو لم يوافقهم في الباطن، لأن اليهود لما قالوا كفّار قريش: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً. هم في الباطن يعتقدون بُطلان هذا الكلام، لكنهم وافقوهم في الظاهر ليحصلوا على مناصرتهم لهم، ومع هذا سمّى الله هذا إيماناً بالجبت والطاغوت. فالذي يمدح الكفر والكفار ولو بلسانه، ويفضّل الكفر والكفار على المؤمنين؛ يُعتبر مؤمناً بالجبت والطاغوت، ولو كان قلبه لا يوافق على هذا؛ ما لم يكن مُكرهاً، ففيه رد على مرجئة هذا العصر الذين يقولون: إن من تكلم بكلام الكفر لا يكفر حتى يعتقد بقلبه صحة ما يقول. وهذه دقيقة عظيمة ذكرها الشَّيخ في المسائل، وهي عظيمة جداً. المسألة الثالثة: في الآية الثانية بيان أن في أهل الكتاب من عبد الطاغوت، بمعنى: أنه دعا غير الله، أو ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله، فلا بد أن يكون في هذه الأمة من يعبد الطاغوت تشبُّهاً بهم. ففيه الرد على من زعم أنه لا يقع في هذه الأمة شرك، لأن الحديث يدلّ على أنه يوجد من يتشبّه باليهود والنصارى في عبادة الطاغوت التي منها عبادة القبور والأضرحة، ومنها الحكم بغير ما أنزل الله، ومنها الشيء الكثير الذي كله من عبادة الطاغوت. المسألة الرابعة: في الآية الثانية دليل على ذكر عيوب المردود عليه، وذلك في قوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} ففيه ذكر معائب المردود عليه حتى يَخْتَزِى ويُفْحَم في الخصومة. المسألة الخامسة: في الآية رد على من يقول : إنه ينبغي ذكر محاسن المردود عليه وهو ما يسمونه بالموازنات. وذكر محاسن الطوائف الضالّة والأشخاص الضالين من المبتدعة وغيرهم، ووجه الرد: أن الله ذكر في هذه الآية معايبهم، ولم يذكر لهم شيئاً من المحاسن. ففي الآية ردٌّ صريح على هذه المقالة التي يراد منها السكوت عن البدع والخرافات أو ذكر محاسن المبتدعة والمخالفين للحق. ج / 1 ص -331- ولمسلم عن ثوبان رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله زَوَى ليَ الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوِيَ لي منها. المسألة السادسة: في الآية الثالثة دليل على أنه كان في الأمم السابقة من يبني المساجد على القبور، فلا بد أن يوجد في هذه الأمة من يبني المساجد على القبور وقد وقع هذا. ففيه ردٌّ على من زعم أنه لا يقع في هذه الأمة شرك، ووجه الرد: لأن بناء المساجد على القبور وسيلة إلى الشرك. المسألة السابعة: في الحديث دليل على معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر أنه سيكون في هذه الأمة من يتشبّه باليهود والنصارى، وقد وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم. المسألة الثامنة: في الحديث دليل على تحريم التشبّه باليهود والنصارى، لأن الحديث خبرٌ معناه النهي والإنكار على من فعل ذلك. المسألة التاسعة: في الحديث دليل للتّرجمة: أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان، لأن في اليهود والنصارى من يعبد الأوثان، فلا بد أن يوجد في هذه الأمة من يتشبّه بهم فيعبد الأوثان، كما هو واقع وحاصل في عبادة القبور والأضرحة الآن لا بكثرة وعلى مَسْمع من علماء المسلمين ومرأى ولم ينكر ذلك الكثير منهم، بل بعضهم أجازه وشجع عليه. ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم. هذا حديث عظيم فيه أمور مخيفة، وفيه أخبار عظيمة، وفيه بشارة: فقوله: "عن ثوبان، ثوبان هو: مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمولى معناه ث العتيق، لازم الرسول صلى الله عليه وسلم، وله فضائل كثيرة رضي الله عنه. "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله زَوَى ليَ الأرض" يعني: جمعها، وحواها وطواها له صلى الله عليه وسلم حتى صارت حجماً صغيراً، يرى النبي صلى الله عليه وسلم أطرافه ما بعُد منها وما قرُب، والله قادر على كل شيء. أو أن المراد- والله أعلم- أنه قوّى بصر رسوله صلى الله عليه وسلم فصار يري كل الأرض مشارقها ومغاربها، كما حصل له صلى الله عليه وسلم لما سأله المشركون عن بيت المقدس، حيث ج / 1 ص -332- وأُعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض. قوّى بصر رسوله فصار ينظر إلى بيت المقدس وهو في مكّة يخطب في المشركين، ويصف لهم المسجد عن معاينة ومشاهدة، حتى ذكر لهم علاماته والأشياء التي يعرفونها فيه، وحتى إنه أخبرهم عن عيرهم التي في الطريق التي كانوا ينتظرونها، أخبرهم أين هي؟. "فرأيت مشارقها ومغاربها" رأى المشرق والمغرب وجمعها لكثرة الطالع والغارب من الكواكب. "وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زَوَى لي منها" بالبناء على الفاعل وهو الله سبحانه وتعالى، أو "ما زُوِي لي منها" بالبناء للمفعول، والفاعل هو الله سبحانه وتعالى. ولم يذكر صلى الله عليه وسلم الشمال والجنوب من الأرض لقلة سكانها ولأن هذا لم تبلغه الفتوحات، وإنما الفتوحات امتدّت من المشرق إلى المغرب. "وإن أمتي سيبلغ ملكها" هذا خبر عن المستقبل، وهو لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم. ففيه دليل من أدلّة نبوّته صلى الله عليه وسلم. الدّليل الأول: زَوي الأرض له. هذا دليل على نبوّته. الدليل الثاني: أنه أخبر عن ملك أمته، وأنه سيتّسع ويبلغ المشرق والمغرب في يوم أن كان ملك المسلمين في المدينة وما حولها فقط. فهذا من علامات نبوّته صلى الله عليه وسلم. وقد وقع كما أخبر، فانتشرت الفتوحات في عهد الخلفاء الراشدين وخلفاء بني أمية وبني العباس حتى سقطت دولة الفُرْس بالمشرق، وسقطت دولة الروم بالمغرب، وامتدّ سلطان المسلمين في الشرق إلى أن وصل السّند، وفي المغرب إلى أن وصل إلى طَنْجَة في أقصى المغرب، بل امتدّ إلى أن وصل إلى جبال البَرَانِس وهي حدود فرنسا، حيث دخلت الأندلس في الخلافة الأمويّة في ملك المسلمين، وهذا مِصْداق لخبره صلى الله عليه وسلم: "وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها". "وأُعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض" المراد بالكنزين: الأموال النّفيسة، "الأحمر": الذهب، "والأبيض": الفضة، وهذا عبارة عن أموال الفرس والروم. فأموال الفرس من الذهب، وأموال الروم من الفضة، أو العكس، قولان في المسألة. ج / 1 ص -333- وإني سألت ربي لأمتي أن لا يُهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم. وإن ربي قال: يا محمَّد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يُرد، وإني أعطيتك لأمتك: أن لا أهلكهم بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدوًّا من وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فقد جيء بأموال الفرس والروم في خلافة عمر بن الخطاب، ووزّعت بين المسلمين في المدينة، حتى إنه جيء بتاج كسرى الذي يلبسه على رأسه، وجيء بسواريه الذين يلبسهما في يديه، وهذا مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم. وقوله: "وإني سألت ربي لأمتي" هذا من شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته. "أن لا يهلكها بسنة بعامة" المراد بالسنة: الجُدْب، أي: لا يعمّ الجدب والقحط كل بلاد المسلمين، فتَهلك أموالهم وزروعهم وما يأكلون منه، فالسنّة المراد بها: الجَدْب كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ}يعني: بالجَدْب. دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن لا يُنزل الجَدْب والقَحْط على أمة محمَّد كلهم، لأنه إذا نزل بهم كلهم هلكوا. وقوله: "وأن لا يسلط عليهم عدَوّاً من سوى أنفسهم" يعني: من الكفار، أي: لا يسلط الكفار على المسلمين. "فيستبيح بيضتهم" البيضة: الحوزة، يعني: لا يستبيح الكفار حوزة المسلمين وبلادهم، أو المراد بالبيضة اجتماع الكلمة. والمعنى عام ومعناه: لا يستبيح بلادهم وجماعتهم. "وإن ربي قال: يا محمَّد" هذه إجابة الله لدعوة رسوله صلى الله عليه وسلم. "إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يردّ" إذا قدّر الله قدراً فلا بد من نفاذه، فأقدار الله نافذة في المسلمين والكفّار وعموم الناس، لا أحد يستطيع رد القضاء والقدر، فهذا فيه إثبات القدر، وأن قدر الله نافذ، لا يستطيع أحد رده. "وإني أعطيتك لأمتك: أن لا أهلكهم بسنة بعامة" استجاب الله الدعوة الأولى مطلقاً، وأنه سبحانه لا ينزل قحطاً عامًّا للبلاد كلها، وإنما ينزل القحط في بعض البلاد دون بعض بخلاف الأمم السابقة، فإن الله ينزل القحط العام عليهم فيضرهم، ج / 1 ص -334- سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يُهلك بعضاً، ويَسْبي بعضهم بعضاً". كما حصل لقوم فرعون، أما هذه الأمة لكرامتها على الله فإن الله لا ينزل عليها القحط العام. "وأن لا أسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يُهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً" استجاب الله له الدعوة الثانية استجابة معلّقة، يعني: ما دامت أمتك مجتمعة على الحق كلمتها واحدة، فإن الله لا يسلّط عليهم عدوًّا من الكفار، أما إذا حصل في الأمة افتراق كلمة، وحصل بينهم قتال فيما بينهم، وسبى بعضهم بعضاً، فحينئذ يعاقبهم الله عزّ وجلّ ويسلط عليهم الكفّار. قوله: "ولو اجتمع عليهم من بأقطارها" أي: إذا اجتمعت كلمة المسلمين، ولم يكن بينهم اختلاف ولا تقاتل فيما بينهم، فلو اجتمع أهل الأرض كلهم على قتال المسلمين أو أراد سلب شيء من ملكهم فلن يستطيعوا، وأما إذا اختلفوا فيما بينهم، وتقاتلوا فيما بينهم، وأخذ بعضهم أموال بعض، فإن الله يعاقبهم، ويسلّط عليهم الكفّار. وقد حصل مصداق هذا، فإنه لما كانت الأمة مجتمعة في عهد أبي بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب، وأول خلافة أمير المؤمنين عثمان، وسلطان المسلمين ظاهر في الأرض، قد خافتهم الأمم، فصار الكفار يخافون من المسلمين. ولما وقعت الفتنة بين المسلمين في خلافة عثمان- رضي الله تعالى عنه- بسبب اليهوديّ الذي ادّعى الإسلام وهو: عبد الله بن سبأ اليماني، وصار يحرّض المسلمين على الخليفة عثمان ذي النورين رضي الله عنه، واجتمع حوله من الأوباش وضعاف الإيمان من الشباب الطائش، اجتمعوا على هذه الطاغية، وفي النّهاية حاصروا عثمان رضي الله عنه وقتلوه، ولما قتلوا عثمان عاقب الله المسلمين فجعل بأسهم بينهم، وسلّط عليهم عدّوهم. وما زالت المداولات والحروب بين المسلمين بعضهم مع بعض ح وبين المسلمين والكفار. ج / 1 ص -335- رواه البَرْقاني في "صحيحه"، وزاد: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلّين. صحيح أنها قامت دولة بني أمية بعد ذلك وانتشر الإسلام، ودولة بني العباس، ولكن لم تخل الأمة من اقتتال ومن فتن فيما بينها، إلى أن جاءت الداهية الدهياء في آخر خلافة بني العباس، فغزا التّتار بلاد المسلمين، واستباحوا عاصمة المسلمين بغداد، وقتلوا الخليفة العباس، وقتلوا من المسلمين مئات الألوف، واحرقوا -كتب المسلمين- وألقوها في نهر دِجلة حتى تغير الماء بمداد الكتب، وتسلّلوا إلى بقية البلاد، وحصل من الحروب الطاحنة ما سجّله التاريخ. ما وكذلك الصليبيّون زحفوا على المسلمين واستولوا على الأندلس، وزحفوا إلى بلاد الشام واستولوا على بيت المقدس، وبقي بيت المقدس حوالي مائة سنة تحت أيدي الصليبيّين، حتى جاء صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، فخلّص بيت المقدس من أيدي الصليبيّين. ولا يزال الخلاف وتسلط الكفار على المسلمين إلى وقتنا هذا، بل في وقتنا هذا اشتدّ فيه الأمر، والسبب في هذا هو اختلاف المسلمين فيما بينهم، كما في هذا الحديث: "حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً" ويسبي بعضهم بعضاً" فإذا حصل للمسلمين هذا سلّط الله عليهم الكفار بسبب الاختلاف، واستباحة حرمة المسلمين فيما بينهم، هذا يقتل هذا، وهذا يسبي هذا، مع أنهم إخوة مسلمون. والواجب على المسلمين أن يكونوا أمة واحدة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)}، {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا}، {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا}، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}، فالاختلاف عذاب، وسبب لتسلّط الكفار، والاجتماع رحمة وقوة وعزّة للمسلمين ولن يحصل الاجتماع إلاَّ تحت عقيدة التّوحيد. قوله: "رواه البَرْقاني في صحيحه" البَرْقاني هو: أبو بكر محمَّد الخوارزمي الشافعي، وكتابه يسمّى بالمسند الصحيح، جمع فيه الأحاديث الصحيحة، ويقول: أنه جمع فيه أحاديث الصحيحين وزاد عليهما ما صح عنده من الأحاديث. ج / 1 ص -336- "وزاد" يعني: على رواية مسلم. أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين" هذا سبب آخر، السبب الأول: الاختلاف بينهم. السبب الثاني: وجود دعاة الفتنة، ودعاة الضّلال. فهؤلاء سبب آخر لهلاك المسلمين، وسبب لتفرق كلمتهم، وتسلط العدوّ عليهم، بأن يكون هناك دعاة ضلال، ودعاة فتنة، ودعاة فُرقة، وتحريش بين المسلمين، كما حصل من الداعية الخبيث الأول عبد الله بن سبأ. والأئمة جمع: إمام، والإمام هو القدوة الذي يُقتدى به في الخير أو الشر. فإذا كانت القدوة من أهل الضلال ضلّت الأمة، وحصل فيهم الشر، ويراد بهم الأمراء الضالون، والعلماء الضالون، والعُبّاد الضالون، والدُّعاة الضالون، كل هؤلاء من الأئمة المضلّين، فإذا قاد الأمة هؤلاء قادوها إلى الهلاك، أما إذا قاد الأمة دعاة الحق قادوها إلى الصلاح والسلامة. ففي قوله: "أخاف على أمتي الأئمة المضلين" مفهومه؛ أن الأئمة المصلحين خير للأمة، يجمعون كلمتها، ويصلحون عقيدتها، ويردونها إلى منهج السلف الصالح، ويحصل بهم الخير. أما دعاة الضلال فإنهم يصدونها عن الحق، ويدعونها إلى خلاف منهج السلف. والآن فيما بيننا ظهر من يزهّد في منهج السلف ويعتبره من الأمور الرجعية، ومن الأمور القاصرة، ويريد من المسلمين أن ينهجوا مناهج حديثة، ابتكرها جهّال أو ضُلاّل، يريدون أن الدعاة يسيرون على هذا المنهج المبتكر المحدث، ويتركون منهج السلف الصالح الذي فيه الخير، وفيه الصلاح والفلاح، هذا ظهر وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه يكون في هذه الأمة دعاة على أبواب جهنم من أطاعهم قذفوه فيها، قالوا: صفهم لنا يا رسول الله، قال: "هم قوم من جِلْدَتنا، ويتكلمون بألسنتنا" فلنحذر من هؤلاء غاية الحذر. لا نجاة لنا إلاَّ بإتباع دعاة الصلاح الذين يدعون إلى منهج السلف الصالح وإلى إتباع الكتاب والسنّة، هؤلاء هم الخير على الأمة. ج / 1 ص -337- وإذا وُضع عليهم السيف لم يُرفع إلى يوم القيامة. ولا تقوم الساعة حتى يلحق حيٌّ من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فِئَام من أمتي الأوثان. أما من أراد بالأمة خلاف ذلك، وابتكر لها منهجاً أو خطّط لها تخطيطاً جديداً يخالف منهج السلف، فهذا لا يريد للأمة خيراً سواءً كان متعمداً أو لم يتعمّد. وأخطر ما على الأمة الآن الدعاة الجُهّال الذين لا يعرفون العلم، ويدعون النّاس بجهل وضلال، أو الدعاة المغرضون الذين يعرفون الحق لكنهم معرضون، يريدون صرف الأمة عن جادّة الصواب. الحاصل، أن الأمة على خطر من هؤلاء، فعلينا أن نتنبّه لهذا الأمر، وأن نعالج هذا الأمر قبل أن يستحفل. قوله: "وإذا وضع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة" كذلك خاف عليهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا بدأ القتال بين المسلمين فإنه لا يُرفع إلى يوم القيامة، وهذه بليّة أخرى. البليّة الأولى: تسلُّط الكفار على المسلمين. والبليّة الثانية: إذا وقع القتال بين المسلمين فإنه لا يُرفع إلى يوم القيامة عقوبة لهم. وذلك حصل كما أخبر به صلى الله عليه وسلم فإنه لما قُتل الخليفة الراشد أمير المؤمنين عثمان فإنه لا يزال القتال مستمرًّا بين المسلمين، وسيستمر إلى يوم القيامة. ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "ولا تقوم الساعة حتى يلحق حيٌّ من أمتي بالمشركين" الحي: المراد به: القبيلة، ومعنى يلحق: يتبع؛ إما بأن يذهبوا إلى بلادهم ويسكنوا معهم ويكونوا من دولتهم، وإما بأن يبقوا في بلاد المسلمين ولكن يكونون على منهج الكفار ويرتدّون عن الإسلام. ووقع هذا كما أخبر به صلى الله عليه وسلم، ففيهم من ذهب إلى بلاد الكفار وثم يرجع وصار يوافق الكفار في أمورهم الدينية، ويجري عليهم حكمهم وهو مختار للإقامة بينهم. وفيهم من بقي في بلاد المسلمين ويعتنق مذاهب الكفر من شيوعية وبعثية وقومية وغير ذلك، وهؤلاء لحقوا بالمشركين في قلوبهم وعقائدهم كما أخبر صلى الله عليه وسلم وإن لم يلحقوا بهم في أبداًنهم. ج / 1 ص -338- وإنه سيكون في أمتي كذّابون ثلاثون، كلّهم يزعم أنه نبيّ. وأنا خاتم النبيّين، لا نبي بعدي. قوله: "وحتى تعبد فِئام من أمتي الأوثان" الفِئام: الجماعات، والأوثان: كل ما عبد من دون الله. وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فعَبَدت جماعات من هذه الأمة القبور والأضرحة، واعتبروا هذا هو الدين الصحيح، وسموا دين التّوحيد الصحيح دين الخوارج. وهذا مع ما قبله هو الشاهد من هذا الحديث للباب. وفيه رد على من زعم أن هذه الأمة لا يقع فيها شرك، ووجه الرد: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر- وهو الصادق المصدوق- أنه لا بدّ أن تعبد جماعات وليسوا أفراداً من هذه الأمة الأوثان. وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنه سيكون في أمتي كذّابون ثلاثون كلّهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيّين، لا نبي بعدي"، هذا فيه إخبار منه صلى الله عليه وسلم بظهور المتنبِّئين الكَذَبَة الذين يدعون النبوة. وقد حصل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وأول من ظهر في حياته صلى الله عليه وسلم اثنان: مُسَيْلِمة الكذّاب في اليمامة، والأسود العَنْسي في اليمن. أما الأسود العَنْسي فقد قتله المسلمون قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم. وأما مُسَيْلِمة الكذّاب فإنه قد تبعه قوم من أهل اليمامة، ولما بُويع أبو بكر الصديق- رضي الله تعالى عنه- بالخلافة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم جهّز له الصديق جيشاً من المسلمين من المهاجرين والأنصار بقيادة خالد بن الوليد اليمامة، وحصل قتال شديد جدًّا، وقُتل فيه من المسلمين ومن أفاضلهم ومن قُرّاء القرآن العدد الكثير، ولكن في النّهاية قَتل الله مُسَيْلِمة الكذّاب على يد المسلمين في خلافة أبي بكر الصديق- رضي الله تعالى عنه-، وأراح الله المسلمين من شرِّه. ثم ظهر طُليحة الأسدي وادّعى النبوّة، وظهرت سَجَاح التميمية وادّعت النبوة، ولكن الله منّ على طُلَيحة فتاب إلى الله عزّ وجلّ، وجاهد في سبيل الله، وتوفّي على الإسلام، وكذلك سَجَاح تابت إلى الله عزّ وجلّ. ثمّ ظهر المختار بن أبي عُبيد الثقفي في خلافة عبد الملك بن مروان، وادّعى النبوّة، وقتله الله سبحانه وتعالى على أيدي المسلمين. ج / 1 ص -339- ولا يزال المتنبئون الكذَبَة يظهرون بين الحين والآخر، إلى أن ظهر منذ سنين رجل في الباكستان يسمّى غلام أحمد القادياني، ادّعى النبوّة، وتَبِعه قوم، وصار له أتباع الآن يسمّون القاديانية، وقد كفّرهم المسلمون، ونبذوهم- ولله الحمد-. وقوله صلى الله عليه وسلم: "وأنا خاتم النبيّين، لا نبيّ بعدي" هذا كما قال الله سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}، والخاتم- بفتح التاء-: الذي يختم على الشيء فلا يزاد فيه، يقال: ختم الكتاب، يعني: وضع الختم عليه بحيث لا يُزاد فيه، وختم الكيس، بمعنى أنه أغلقه بحيث لا يُزاد فيه ولا يُنقص، فالرسول صلى الله عليه وسلم ختم الأنبياء، بمعنى انه هو آخرهم، ولا يأتي بعده نبي. وأما لفظ خاتِم- بالكسر- فهو: اسم فاعل، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو خاتِم النبيّين، أي: الذي كمّلهم وانتهى به عددهم، فلا يُبعث نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة، كما أن شريعته لا تُنسخ إلى أن تقوم الساعة، وأرسله الله إلى العالمين كافّة: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}، أرسله إلى العالم كافّة - عليه الصلاة والسلام-، إلى العرب والعجم، والجن والإنس {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}، وأنزل عليه شريعة كاملة، شاملة لكل زمان ومكان إلى أن تقوم الساعة. فالذي يدّعي النبوة بعد محمَّد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، لأنه مكذِّب لله، لأن الله قال: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}، ومكذِّب لرسول الله في قوله: "أنا خاتم النبيين" ومكذِّب لإجماع المسلمين، لأن المسلمين أجمعوا على أنه لا نبيّ بعد محمَّد صلى الله عليه وسلم. فإن قال قائل: "ليس المسيح عيسى بن مريم ينزل في آخر الزمان كما تواتر ذلك في الأحاديث؟. قلنا: نعم، ينزل في آخر الزمان، ولكن لا ينزل بشريعة جديدة، وإنما ينزل ليعمل بشريعة محمَّد صلى الله عليه وسلم، فهو يُعتبر مجدِّداً من المجدِّدين، ومصلحاً من المصلحين، يحكم بشريعة الإسلام، ويتبع محمداً صلى الله عليه وسلم، فنزول عيسى عليه السلام لا يختلف مع قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا خاتم النبيين" وقول الله: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}، لأنه لا ينزل بشريعة، ولا ينزل على أنه نبي يُبعث إلى الناس، وإنما ينزل على أنه حاكم بشريعة محمَّد صلى الله عليه وسلم، وتابع لمحمد - عليه الصلاة والسلام-. ج / 1 ص -340- ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى". ثم قال مبشراً لأمته بعد هذه الأخبار المروِّعة: "ولا تزال طائفة من أمتي على الحق" يعني: مع هذه الحوادث العظيمة، وهذا الابتلاء العظيم، ووقوع الشرك، ووقوع اللَّحاق بالمشركين من بعض القبائل وتسلّط الكفّار، وقلّة أهل الحق، وكثرة أهل الباطل، مع هذا يبقي في هذه الأمة بقية صالحة إلى أن يأتي أمر الله تبارك وتعالى. والطائفة في الأصل الجماعة. والمراد هنا من كان على الحق ولو كان واحداً. بدليل قوله تعالى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} وهو واحد. "على الحق ظاهرين" يعني: غالبين. "لا يضرّهم من خذلهم" مع هذه الشرور كلها، وهذه الفتن كلها، هذه الطائفة لا تتضرّر، بل تبقى على الحق الذي بُعث به محمَّد صلى الله عليه وسلم، ولم يعيّن صلى الله عليه وسلم عددها، ولم يعيّن مكانها، لأن العدد قد يقلّ وقد يكثر، وكذلك المكان قد تكون تارة في المشرق، وتارة في المغرب، وتارة في العرب، وتارة في العجم، المهم أنها تبقى هذه الطائفة من الأمة، لتبقى حجّة الله سبحانه وتعالى على خلقه. وقد قال أهل العلم- كالإمام أحمد وغيره-: "إن هذه الطائفة هم أهل الحديث"، أي: الذي يتمسّكون بسنّة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال صلى الله عليه وسلم - لما ذكر افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة-: "كلها في النار إلاَّ واحدة" قالوا: من هي يا رسول الله؟، قال: "من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي"، فهم أهل الحديث الذين يتمسّكون بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يتمسّكون بالآراء والأقوال وعلم الكلام والمنطق. فهم الطائفة المنصورة وهم الفرقة الناجية وهم أهل الحديث وهم أهل السنّة والجماعة، لا كما يقول بعض المعاصرين: إن الفرقة الناجية غير الطائفة المنصورة، وهذا تفريق بغير علم. وقوله: "حتى يأتي أمر الله" المراد بأمر الله ما يكون في آخر الزمان من قبضج / 1 ص -341- أرواح أهل الإيمان، حين يبعث الله ريحًا طيّبة في آخر الزمان قبل قيام الساعة فتقبض روح كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى شرار الناس، وحينئذ تقوم الساعة. هذا الحديث يدلّ على مسائل عظيمة: المسألة الأولى: في هذا الحديث دلائل من دلائل النبوة، وهي: أولا: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زَوَى ليَ الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها". ثانياً: قوله صلى الله عليه وسلم: "سيبلغ ملك أمتي ما زُوِيَ لي منها،. ثالثاً: إخباره صلى الله عليه وسلم بأن هذه الأمة إذا افترقت وتقاتلت يتسلّط عليها العدّو. وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم. رابعاً: إخباره صلى الله عليه وسلم عن وقوع الشرك في أمته. وقد وقع ما أخبر ول صلى الله عليه وسلم. خامساً: إخباره بظهور المتنبّئين الكَذَبَة. وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فلا يزال المتنبئون الكَذَبَة يظهرون بين الحين والآخر، لكن منهم من له شوكة، ومنهم من ليس له شوكة. سادساً: إخباره صلى الله عليه وسلم ببقاء الطائفة المنصورة على الحق. وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فلا تزال هذه الأمة- ولله الحمد- يبقى فيها من أهل الصلاح والإصلاح من يبقى بهم هذا الدين، وتقوم به حجّة الله على العالمين، مع اشتداد الغُربة، وعظيم الكُرْبة، ولكنهم يصبرون، ويثبتون على الحق. المسألة الثانية: في هذا الحديث كمال شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته، حيث دعا لهم صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوات المباركات العظيمة، واستجاب الله له. المسألة الثالثة: في هذا الحديث أن تفرّق الأمة وتناحرها فيما بينها سبب لتسلُّط العدوّ عليها، وأن اجتماعها وتوحّدها على الحق سبب لمنع الكفّار من الاستيلاء على شيء من بلادها. المسألة الرابعة: في الحديث دليل على خطر الأئمة المضلّين، أي: القيادات الفاسدة من الأمراء والعلماء والعبّاد والدعاة الفاسدين، أما الأئمة المصلحون فهؤلاء خير على الأمة وصلاح لها. ج / 1 ص -342- المسألة الخامسة: في الحديث دليل على أنه إذا وقع في هذه الأمة قتال فيما بينهم أنه سيستمرّ إلى أن تقوم الساعة، ولا يُرفع، ولكن يكثر ويقل أحياناً. المسألة السادسة: في الحديث دليل فيما ترجم له المصّنف رحمه الله من وقوع الشرك والردّة في بعض هذه الأمة، فهذا شاهد لقول المصنِّف: "باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان". المسألة السابعة: في الحديث دليل على خَتْم النبوة به صلى الله عليه وسلم، وأن من ادّعى النبوة بعده فهو كافر، لأنه مكذِّب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين ولما عُلم بالدين بالضرورة. المسألة الثامنة: في الحديث دليل على بقاء الفرقة الناجية المنصورة، مع كثرة الفتن والمحن والشرور، فإن الله سبحانه وتعالى لا يُخلي الأرض من الدعاة إلى الحق القائمين عليه من الأئمة المصلحين. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#28
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باب ما جاء في السحر ج / 1 ص -343- [ الباب الرابع والعشرون:] * باب ما جاء في السحر مناسبة هذا الباب للأبواب السابقة: أن الشَّيخ رحمه الله في الأبواب السابقة ذكر أنواعاً من الشرك، ووسائل الشرك. ولما كان السحر نوعاً من أنواع الشرك عقد له هذا الثالث؟ لأن السحر لا يمكن الوصول إليه إلاَّ عن طريق الشياطين، فالسحرة يخضعون للشياطين، ويستعينون بهم في سحرهم، وهذا شرك بالله عزّ وجلّ. والسحر في اللغة هو: كل ما لَطُفَ وخَفِيَ سببه، ومنه سُمّي السَّحَر سَحَراً في آخر الليل، لأنه خفيٌّ وكل ما لَطُف يعني: دقّ، وخَفِيَ سببه عن النّاس يُسمّى سحراً في اللغة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحراً" البيان معناه: الكلام البليغ، لأنه يستميل النفوس ويؤثّر فيها كما يؤثر السحر، إلاَّ أنه ليس حراماً وكذلك النميمة، سُميّت سحراً1 لأنها تعمل عمل السحر في الإفساد بين الناس، وأحداث البغضاء في القلوب، وإن لم تكن سحراً في الحقيقة، لكنها سحر لغوي، هذا تعريف السحر في اللغة. أما تعريفه في الشرع: فالسحر عبارة عن عزائم ورُقى وعُقد يؤثر في بدن المسحور بالقتل أو بالمرض، أو بالإخلال بعقله، أو يفرِّق بين الزوجين، أو يأخذ الزوج عن زوجته فلا يستطيع الوصول إليها، قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(4)} يعني: السواحر. فالساحر يعقد العقد بالخيط ثمّ ينفث فيها من ريقه، ويستعين بالشيطان، ويؤثِّر هذا بإذن الله في المسحور إما قتلاً، وإما مرضاً، وإما تفريقاً بينه وبين حبيبه، وإما أن يمنعه عن زوجته فلا يستطيع الوصول إليها. وقد سُحر النبي صلى الله عليه وسلم2، وأثر فيه السحر، وصار- عليه الصلاة والسلام - يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله، ورقاه جبريل فبرئ بإذن الله. 1 في قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم ما العضة- يعني السحر- هي النميمة القالة بين الناس". 2 كما في الصحيح ولا عبرة بمن أنكر ذلك من العقلانيين لأن السحر مرض والنبي صلى الله عليه وسلم بشر يجري عليه ما يجري على البشر من الأمراض. ج / 1 ص -344- فالسحر له حقيقة، ويؤثر في بدن المسحور، ولكنه لا يؤثِّر إلاَّ بإذن الله القدريّ، كما قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، أي: إذن الله القدريّ الكونيّ. وقد ذكر العلماء أن السحر المحرم على نوعين: سحر حقيقي، وهو هذا الذي ذكرنا. والنوع الثاني: سحر نخييلي، ليس له حقيقة، وإنما هو خيال وشعوذة، وهو ما يسمّى بالقُمْرة، فالساحر يخيِّل للناس شيئاً وهو ليس حقيقة، كأن يخيِّل للناس أنه دخل في النار، وليس كذلك، أو يخيِّل للناس أنه يمشي على حبل، وهو ليسق كذلك، أو يخيِّل للناس أن السيارة تمشي على بطنه، وليس كذلك، أو يخيِّل للناس أنه يطعن نفسه بالسلاح ولا يؤثِّر فيه، وليس كذلك، والحقيقة أنه عمل شيئاً من التخيل والقُمْرة فأثر على الأبصار. كما قال الله تعالى ني قوم فرعون: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}، فسحروا الأعين فقط، وذلك بما يعملونه من الحِيَل، ويجعلون في العِصِيّ التي معهم مواد تحرّكها، وتجعل العصى كأنها حيّة، وهي ليست كذلك كما قال تعالى عن موسى عليه السلام: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}، حيث حشوها بشيء من الزِّئْبق وشيء من الأمور التي لا يراها الناس، وظنوا أنها تتحرك. وأنكرت المعتزلة النوع الأول، مع أن النوع الأول هو الخطير، وقالوا: السحر كله تخييلي. وهذا غير صحيح، لأنه لو كان كذلك لما أثّر في المسحور ولما قتل المسحور، ولما أمرضه، ولما فرّق بينه وبين زوجه، فدلّ على أنه حقيقي، وعمل شيطاني، لأنه عُقد وعزائم، ولهذا يقول تعالى لنبيه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(1)}، إلى قوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(4)} فدل على أنه حقيقي. والذي ذكره الشَّيخ في هذا الباب من النصوص على نوعين: النوع الأول: في حكم السحر. والنوع الثاني: في حكم الساحر. ج / 1 ص -345- وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}. وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}. قال عمر: "الجبت: السحر. والطاغوت: الشيطان". وقال جابر: "الطواغيت: كُهَّان كان ينزل عليهم الشيطان، في كل حيٍّ واحد". قال: "وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا}" أي: اليهود، لأن الآية في سياق الآيات التي تتحدّث عن اليهود، أي: تحققوا. "{لَمَنِ اشْتَرَاهُ}" أي: استبدل السحر بالتوراة. "{مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}" أي: الساحر ليس له نصيب من الجنة. وهذا دليل على أنه كافر، فالسحر كفر بالله عزّ وجلّ، وذلك من عدة مواضع في الآية: أولاً: قوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}. ثانياً: قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا} أي: الملكان {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}. ثالثاً: قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} أي: السحر {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}، أي: نصيب من الجنة. قال المصنِّف- رحمه الله تعالى-: " وقوله {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}" ثمّ ذكر تفسير الجبت والطاغوت بقوله: "قال عمر: الجبت: السحر" فاليهود يؤمنون بالسحر، وهو كفر بالله عزّ وجلّ. "والطاغوت: الشيطان " أي: هو رأس الطواغيت، والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، كما سبق. في قوله: "وقال جابر: الطواغيت: كُهَّان تنزل عليهم الشياطين، في كل حيٍّ منهم واحد" الكاهن هو الذي يدّعي علم الغيب، وكانوا في الجاهلية يتخذون حُكّاماً من الكهّان، يحكمون بين الناس. ج / 1 ص -346- وكان هؤلاء الكُهَّان تنزل عليهم الشياطين التي تسترق السمع، كما قال الله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)}، وكما جاء في الحديث أن مسترق السمع قد يسمع الكلمة من السماء فيُلقيها على الكاهن، فيكذب الكاهن معها مائة كذبة، فيصدِّقه النّاس بسبب هذه الكلمة التي سُمعت من السماء. فالكاهن هو: الذي يخبر النّاس عن المُغَيّبات، بسبب أنه يسأل الشياطين، وتُخبره الشياطين عن الأشياء الغائبة، والأشياء المسروقة والمفقودة، والأشياء البعيدة، فهو يخبر الناس، فيظنون أن هذا الكاهن يعلم الغيب، وهو ليس كذلك، لا يعلم الغيب، وإنما أخبرته الشياطين بأشياء غائبة، لأن الشياطين لهم قدرة على الطيران السريع، والوصول إلى الأمكنة البعيدة، حتى إنهم يصعدون إلى السحاب، ويطيرون في الآفاق، فهم يجوبون الآفاق بسرعة، فيأتون بالأخبار ويُخبرون الكهّان، ويرون الأشياء المغيبة في البيوت أو في الأمكنة، لأنهم يدخلون بعض البيوت، وعندهم مقدرة ليست عند الإنس، فإذا تقرّب إليهم الإنسي بما يريدون من الشرك والذبح لغير الله والسجود لهم؛ فإنهم يخدمونه بما يريد، فيظن الإنس أن هذا الكاهن عنده خبر من الغيب، وأنه له خاصّية، والحقيقة أن هذا كله من الشيطان. وكانوا يحكِّمونهم في المنازعات والخصومات، وكان عند كل حي كاهن، يعني: عند كل قبيلة كاهن يحكم بينهم. فلما جاء الإسلام أبطل الله ذلك كله، لكن لا يزال عند بعض البوادي والجهّال نوع من هذا الشيء، يسألون الكُهّان، ويحكّمونهم، ويرجعون إليهم وقد جاء في الحديث: "من أتى كاهناً أو عَرَّافاً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم" فلا يجوز الذهاب إلى الكُهَّان والمشعوذين والدجّالين لا للعلاج، ولا للسؤال عن الأشياء الضائعة، ولا الأشياء الغائبة، وهذا كفر بما أنزل الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز إقرارهم وتركهم، بل يجب القضاء عليهم، وإراحة البلاد والعباد منهم، لأنهم دُعاة كفر وشرك، يُفسدون العقائد، ويأكلون أموال النّاس بالباطل ويُحدثون الشر في ج / 1 ص -347- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: يا رسول الله، وما هنّ؟، قال: "الشرك بالله.... الأمة، فلا يجوز تركهم وإقرارهم، فضلاً عن الذهاب إليهم وتصديقهم فيما يقولون، إنما هذا من عادات الجاهلية كما قال جابر رضي الله عنه. فالكُهَّان لا يأتون بالأخبار من عند أنفسهم، وإنما جاءتهم بها الشياطين؛ لما عبدوهم من دون الله، وأطاعوهم في معصية الله، وتقرّبوا إليهم بالعبادة. قال: "وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا" أي: ابتعدوا، ولفظة: "اجتنبوا" أبلغ من: لا تفعلوا، لأن الاجتناب يعني: ترك الشيء وترك الأسباب الموصلة إليه. "السبع" أي: المعاصي السبع. "الموبقات" يعني: المهلكات. "قالوا: يا رسول الله، وما هن؟" سألوه صلى الله عليه وسلم: ما هي هذه السبع حتى نتجنبها؟، لأن الإنسان لا يمكن يتجنّب الشيء إلاَّ بعد أن يعرفه. ففي هذا دليل على أنه يجب على المسلم أن يسأل عن الأمور المحرّمة، ويعرف الأمور الشركيّة، حتى يتجنبها. وهناك من يقولون: علّموا النّاس التّوحيد واتركوا الكلام في الشرك، والكلام في المحرّمات، علِّموهم الخير فقط، ولا تبيّنوا لهم الشرك والأمور المحرّمة. وهذا خداع من الشيطان، لأنه لا بد أن يعرف الإنسان الخير ويعرف الشر من أجل أن يعمل بالخير ويترك الشر، والله قدّم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله فقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}وكيف يكفر بالطاغوت وهو لا يعرفه؟، لا بدّ أن يعرفه من أجل أن يكفر به، إلاَّ إذا لم يعرفه ظنّه خيراً. "قال: الشرك بالله" هذا أكبر الكبائر، وأعظم الموبقات، وأعظم ذنب عُصي الله به. وما هو الشرك؟، الشرك هو عبادة غير الله سبحانه وتعالى، بأن يصرف له شيئاً من العبادة ج / 1 ص -348- والسحرّ. وقتل النفس التي حرّم الله إلاَّ بالحق.... إما دعاءاً أو استغاثة: كأن يقول: يا سيدي فلان أغثني اشفني من المرض، أو يذهبون إلى القبور والأضرحة ويقولون: يا سيدي فلان أنا بحسبك، أغثني، أو اشفني من المرض، أو اعطني ولداً، أو هب لي زوجة... إلى آخره. وهذا شرك بالله عزّ وجلّ، لأنه دعاء لغير الله. كذلك الذبح لغير الله، كان يذبح للقمر أو الضريح من أجل أن يُعطى ولداً، أو يُدفع عنه البلاء، أو يُشفى من المرض، ينذر للقبور، هذا هو الشرك بالله عزّ وجلّ. فليس الشرك مقصوراً على عبادة الأصنام، بل الشرك في كل ما صُرف لغير الله من العبادة أياً كان المصروف له، سواء كان صنماً أو قبراً أو شجراً أو حجراً أو غير ذلك. والشرك لا يغفره الله عزّ وجلّ كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}. والمشرك لا يدخل الجنة أبداً، ومأواه النار، قال تعالى: {فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ}، {حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} يعني: منعه من دخولها منعاً باتاً، {وَمَأْوَاهُ النَّارُ} مقرّه ومصيره الأبدي {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}. ثم قال صلى الله عليه وسلم: "والسحر" وهذا محل الشاهد من الحديث، لأن السحر كفر وشرك بالله عزّ وجلّ، وعطفه على الشرك من باب عطف الخاص على العام، وإلاَّ فالسحر نوع من أنواع الشرك، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم خصّه بالذكر، وعطفه على الشرك من باب عطف الخاص على العام من أجل الاهتمام بتجنبه. "وقتل النفس التي حرّم الله إلاَّ بالحق" النفس التي حرم الله هي نفس المؤمن ونفس المعاهد، فالمؤمن عصم الله دمه وماله وعرضه، فلا يجوز الاعتداء عليه، قال صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أُقاتل النّاس حتى يقولوا: لا إله إلاَّ الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاَّ بحقها، وحسابهم على الله عزّ وجلّ"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا،ألاَّ هل بلغت؟". فالمؤمن حرّم الله قتله بغير الحق، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ج / 1 ص -349- وأكل الربا... فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً(93)}. وكذلك الكافر المعاهَد، لا يجوز قتله، فقد جاء في الحديث: "من قتل معاهَداً لم يَرَحْ رائحة الجنة". وقوله صلى الله عليه وسلم: "إلاّ بالحق" أي: إلاَّ بسبب يبيح قتل المؤمن أو المعاهد، وقد بيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا يحل دم امرئ مسلم إلاَّ بإحدى ثلاث: الثّيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". و"الثيب الزاني" المراد به: المُحْصَن الذي تزوج ووطئ زوجته بنكاح صحيح، ثمّ زنى فإنه يُقتل، وكيفيّة قتله: أنه يُرجم بالحجارة حتى يموت، كما تواترت بذلك سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك حماية للأعراض. "والنفس بالنفس" والمراد به: القصاص، إذا قتل مُكافِئاً له عمداً عدواناً، فإنه يُقتل قصاصاً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}، وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(179)}، وذلك حماية للأنفس. "والتارك لدينه المفارق للجماعة" وهو المرتد، وهو الذي ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام، فهذا يُستتاب، فإن تاب ورجع إلى الإسلام وإلاَّ قُتل مرتداً، حماية للدين من العبث. ثم قال صلى الله عليه وسلم: "وأكل الربا" والربا لغة: الزيادة، والمراد به هنا: زيادة مخصوصة في مال مخصوص، وهي الأصناف التي حرم الرسول صلى الله عليه وسلم الزيادة فيها بقوله: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرّ بالبُرّ، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، سواءً بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيفما شئتم إذا كان يداً بيد" وألحق جمهور العلماء بهذه الستة ما شابهها في العلة. والربا من أكبر الكبائر بعد الشرك، قد توعّد الله عليه بأشد الوعيد، كما في آخر سورة البقرة: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ج / 1 ص -350- وأكل مال اليتيم. والتَّوَلِّي يوم الزَّحْف. وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276)} إلى قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه، فالربا من أعظم الكبائر بعد الشرك. قوله: "وأكل الربا" ليس المراد خصوص الأكل، وإنما كل الاستعمالات: من أكله ولبسه وإهدائه، إلى غيره، كل استعمالات الربا حرام، وكذلك من ادّخره عنده أو جعله رصيداً له في البنك. وإنما ذكر الأكل لأنه غالب وجوه الانتفاع، وإلاَّ فكل وجوه استعمالات الريا محرّمة. قال صلى الله عليه وسلم: "وأكل مال اليتيم" المراد باليتيم: من مات أبوه وهو دون البلوغ، والواجب الإحسان إلى اليتيم، لأنه فقد أباه وعطفَه، فيجب على المسلمين أن يسدّوا محلّ والده بالإحسان إليه ورعايته، وإن كان له مال فيجب أن يحافظ عليه حتى يبلغ رشيداً، ويسلم له ماله بالتمام، كما قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} إلى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً(10)}. لأن اليتيم ضعيف لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، فإذا تسلّط عليه ظالم وأكل ماله فهذا من أعظم الظلم، وليس المراد خصوص الأكل، بل كل استعمالات مال اليتيم حرام، إلاَّ ما فيه مصلحة له. قال صلى الله عليه وسلم: "والتولِّي يوم الزحف" التولي يوم الزحف، هو: الفرار من القتال بين المسلمين والكفار إذا حضر المعركة. فمن حضر المعركة بين المسلمين والكفار وهو يستطيع القتال فلا يجوز له أن ينصرف، بل يجب عليه أن يقاتل مع المسلمين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(16)}. قال صلى الله عليه وسلم: "وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" المراد بالقذف: الرمي ج / 1 ص -351- وعن جندت مرفوعاً: "حَدّ الساحر ضربة بالسيف" رواه الترمذي، وقال: "الصحيح أنه موقوف". بالفاحشة، من زنا أو لواط. والمراد بالمحصنات: العفيفات عن الزنا من الحرائر، ومثلهن الرجال العفيفون. والواجب على المسلم أن يحفظ لسانه، ولا يرمي أحداً بالزنى، أو باللواط، وإذا قذفه ولم يُقم البيّنة فإنه يُجلد ثمانين جلدة، قال تعالي: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}. والشاهد من هذا الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم عدّ السحر من السبع الموبقات. أما ما يُستفاد من هذه النصوص فهو كما يلي: أولاً: يُستفاد من هذه النصوص تحريم تعلّم السحر، وتعليمه، والعمل به، وأنه من السبع الموبقات، وأنه من الإيمان بالجبت وأنه كفر يخرج من الملة. ثانياً: في هذه النصوص الأمر بالابتعاد عن الكبائر خصوصاً، والمعاصي عموماً، وترك أسبابها، لأن كلمة "اجتنبوا" معناها: أن الإنسان يترك الأسباب الموصِّلة إلى الحرام. ثالثاً: يُستفاد من الحديث أن الشرك أكبر الكبائر، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ به في هذا الحديث، فدلّ على أن الشرك بالله أكبر الكبائر. قوله: "عن جُندب" قيل هو: جُندب بن عبد الله البَجَلي، وقيل غيره. والله أعلم. "حدّ الساحر ضربه بالسيف" المعنى: أن حكم الساحر وجوب قتله، لأنه يُفسد في الأرض، كما قال تعالى: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}، فالساحر مفسد في الأرض، يجب قتله، وأيضاً هو كافر، والكافر يجب قتله، إن كان كافراً أصلياً وجب قتله بكفره وإفساده، وإن كان مسلماً ثمّ استعمل السحر وجب قتله لردّته. والسحر ناقض من نواقض الإسلام، كما ذكر ذلك الشَّيخ في نواقض الإسلام العشرة، قال: "ومنها تعلّم السحر، وتعليمه". ج / 1 ص -352- في صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة، قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أن اقتلوا كل ساحر وساحرة"، قال: فقتلنا ثلاث سواحر. وصحَّ عن حفصه رضي الله عنها: "أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقُتلت". وكذلك صح عن جندب. قال أحمد: "صحّ عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "وفي صحيح البخاريّ: عن بَجَالة بن عَبَدة، قال: كتب عمر بن الخطاب" أمير المؤمنين، ثاني الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم أجمعين. "أن اقتلوا كل ساحر وساحرة" فهذا يؤيِّد حديث جُنْدب: "حدّ الساحر: ضربه بالسيف". إذا كان عمر بن الخطاب- أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين- كتب إلى الأمصار وإلى ولاته: "أن اقتلوا كل ساحر وساحرة" واشتهر ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدييّن من بعدي"؛ إذاً فقتل الساحر دلّ عليه الحديث، وفعل عمر بن الخطاب. وكان بَجَالة بن عَبَدة كاتباًَ لبعض الوُلاة، فهو يذكر ما وصلهم من عمر. قال: "فقتلنا ثلاث سواحر" يعني: نفّذنا ما كتب به أمير المؤمنين، وسواحر: جمع ساحرة، وهي المرأة التي تتعاطى السحر. قال: "وصحّ عن حفصة" هي: حفصة بنت عمر بن الخطاب، أم المؤمنين رضي الله عنها. "أنها أمرت بقتل جارية لها" أي: مملوكة لها. "سحرتها"سحرت حفصة رضي الله عنها فأمرت بقتلها. وهذا أيضاً فعل صحابيّة، وهي أم المؤمنين، أمرت بقتل مملوكتها لما سحرت. ولذلك "قال أحمد" هو أحمد بن حنبل، إمام أهل السنّة، والصابر على المحنة، أحد الأئمة الأربعة المشهورين في الإسلام الذين بقِيت مذاهبهم حيّة، وله من الفضائل رحمه الله الشيء الكثير، وكُتب في مناقبه وترجمته مؤلّفات، كان إماماً في ج / 1 ص -353- السنّة، ومناصراً للحق، وصابراً على المحنة، حتى ثبّته الله، وثبّت به عقيدة المسلمين من الزيغ حينما امتُحن النّاس بالقول بخلق القرآن، فثبت، وصبر على الجلد، وعلى السجن، وعلى الإهانة حتى أظهره الله، ونشر به الحق. قال: "صح عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" يعني: صح قتل الساحر عن عمر بن الخطاب، وحفصة أم المؤمنين، وجُنْدب، وهو جُنْدب بن كعب الأزدي الغامدي، وله قصة، وهي: أن الوليد كان يلعب عنده ساحر، ومن جملة سحره أنه يُظهر للناس بأنه يقتل الرجل ثمّ يحييه، حيث يستعمل القُمْرة، أي: السحر التخييلي، فيخيّل إلى النّاس أنه يقطع رأس الرجل ثمّ يعيد الرأس مكانه، فيما يظهر للنّاس، فجاء جُنْدب بن كعب رضي الله عنه مُخْفيًّا السيف، فلما وصله قطع رأسه، وقال: إن كان صادقاً فليحيي نفسه. قتله غَيْرة على دين الله عزّ وجلّ، وتحدِّياً لهذا الساحر الذي يُحيي الموتى بزعمه، فبذلك بطلت هذه الحيلة الشيطانية، وانقشعت هذه القُمْرة، وتبيّن أنه كاذب. ويُستفاد من هذه الآثار فوائد عظيمة: الفائدة الأولى: كُفر الساحر، لأن الصحابة قتلوه، وما قتلوه إلاَّ لكفره. هذا مع الآيات التي تدل على كفره، كقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ}، يعني: ما استعمل السحر كما يظن اليهود، فدلّ على أن استعمال السحر كفر، {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}، يعني: سبب كفرهم أنهم {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فدلّ على أن تعليم السحر كفر. وأن الله قال في الملكين: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى} ينصحاه {يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} يعني: نحن امتحان واختبار، فمن قبل السحر فهو كافر، {فَلا تَكْفُرْ} بتعلُّم السحر. {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} يعني: من الملكين، {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}، هذا دليل على أن السحر له حقيقة، وأنه يؤثِّر ويفرِّق بين المرء وزوجه بإحداث البغضاء، فهو دليل لمذهب أهل السنّة على أن السحر له حقيقة يؤثِّر، ولو لم يكن له حقيقة لم يؤثِّر البغضاء. ج / 1 ص -354- ثمّ قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، أي: القدري الكوني، لأن الإذن على نوعين: النوع الأول: القدري الكوني، الذي تنتج عنه المقدَّرات، خيرها وشرّها. والنوع الثاني: الإذن الشرعي المذكور في هذه الآية: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} أي: بشرعه. وهذا فيه: أن الإنسان يتوكّل على الله، ومن توكّل على الله كفاه شرّ السحرة وغيرهم، ولهذا أمر الله بالاستعاذة به من السحرة: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(4)} أي: من شر السواحر. ثمّ قال جل وعلا: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ}، دلّ على أن تعلم السحر ضرر محض، ليس فيه مصلحة، لأن الأمور على خمسة أقسام: ما كان ضرراً محضاً: ومنه السحر، والكفر والمعاصي. النوع الثاني: ما كان مصلحة محضة، ليس فيه ضرر البتّة كالطاعات. النوع الثالث: ما كان فيه مضرّة ومصلحة، لكن مضرّته أكثر من مصلحته. النوع الرابع: ما كان مصلحته أكثر من ضرره، كالجهاد في سبيل الله على ما فيه من القتل والجراح. النوع الخامس: ما تساوى ضرره ومصلحته. الموضع الرابع: مما يدل عدى كفر الساحر:وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} أي: قد علم اليهود أن من تعلم السحر وعلمه ما له نصيب في الجنة، وهذا هو الكافر. والموضع الخامس: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ* وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ}، قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا}، أي: تركوا السحر، وهذا دليل على أن السحر كفر ينافي الإيمان، لكنهم لم يتركوا السحر بل اتخذوه بدل الإيمان فكفروا. فهده خمسة مواضع من هذه الآيات تدل على كفر الساحر، مع عمل الصحابة، وقتلهم للسحرة. ج / 1 ص -355- وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}، دليل على كفر الساحر، حيث نفي فلاحه، والمؤمن يفلح ولو كان إيمانه ضعيفاً، ولو لم يكن عنده إلاَّ ذرّة من الإيمان فإنه يُفلح، وإن عُذِّب، والله نفى عن الساحر الفلاح مطلقاً، فدلّ على أنه كافر، والعياذ بالله. هذه المسألة الأولى، وهي مسألة مهمة جدًّا، ذكرنا فيها الأدلة التي تدلّ على كفر الساحر. وكفر الساحر مطلقاً كما ذكر الشارح هو مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، ومالك، وأحمد؛ يرون كفر الساحر، وقد سبقهم جمع من الصحابة. والإمام الشافعي يقول: "نقول للساحر: صف لنا سحرك، فإن وصفه بما يُقتضى الكفر فهو كافر، وإلاَّ فلا". ولكن هذا المذهب مرجوح، لأنه لا يمكن السحر إلاَّ بالتعاون مع الشياطين، والخضوع لهم، وحينئذ يكون كافراً. الفائدة الثانية: في الحديث دليل على وجوب قتل الساحر قتل ردّة، لأنه صحّ عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: عمر وحفصة وجُنْدب، ولم يظهر لهم مخالف من الصحابة، فدلّ على وجوب قتله، لأنه مرتدّ، والمرتدّ يجب قتله لقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ دم امرئ مسلم إلاَّ بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة" فالساحر من هذا القسم الأخير التارك لدينه المفارق لجماعة المسلمين. فيجب قتله. الفائدة الثالثة: في هذه الآثار دليل على أنه يُقتل ولا يُستتاب، لأنه لم يذكر في هذه الآثار أن الصحابة استتابوه، وإنما فيها أنهم قتلوه، ولم يذكر أنهم استتابوه. وأيضاً إذا تاب في الظاهر فعلم السحر لا يزول من قلبه، فهو وإن أظهر التوبة فإنه يُقتل في كل حال، لأن التوبة لا تزيل السحر من قلبه بعدما تعلّمه، ومن أجل دفع فساده، لأنه قد يُظهر التوبة وهو غير صادق، بل من أجل أن يتّقي القتل. قال الشارح: "هذا قول الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد". ج / 1 ص -356- والقول الثاني -وهو قول الشافعي-، ورواية عن أحمد-: أنه يُستتاب كغيره من المرتدّين، لأن المشرك يُستتاب، فالساحر- أيضاً- يُستتاب. ولكن الرأي الأول أرجح، فيُقتل ولا يُستتاب لِغِلَظ ردّته، ولأجل كفِّ شرِّه عن المسلمين، ولأنه يُظهر التوبة ويخدع النّاس. لكن إن كان صادقاً في توبته فهذا فيما بينه وبين الله، أما الحد فلا يسقط عنه. وهذا حكمه في الدنيا. وعلى كل حال؛ أمر السحر أمرٌ خطير. وفي هذا الزمان كثر شرّ السحرة، وصاروا يستعملون السحر من أجل ابتزاز أموال الناس، واللعب عليهم، وأمر الأموال أخف من أمر العقيدة، وإن كانت الأموال شيئاً مهمًّا يجب الحفاظ عليه، ولكن العقيدة أهمّ، ووجود السحرة في المجتمعات الإسلامية وباء خطير فتَّاك، يجب علاجه، ويجب القضاء عليه. فالسحرة في العالم في هذا الزمان يقيمون نوادي، يجتمعون فيها، ومؤتمرات يعقدونها من أجل إهلاك البشر، وتعاظَم شرّهم وخطرهم، فيجب على المسلمين أن يحذروا منهم غاية الحذر، ويجب على من علم بوجود ساحر في البلد أن يبلِّغ ولاة الأمور عنه. ولا يجوز الذهاب إلى السحرة وتصديق السحرة، فالسحرة مثل الكُهَّان أو شرّ من الكُهَّان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهناً لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً"، وقال صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهناً أو عرّافاً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم"، والسحر من الطاغوت ومن الجبت- كما سبق-، وهو شرّ من الكِهانة. وإذا كان الكاهن يجب على المسلمين هجره والابتعاد عنه، وأن من أتاه لا تُقبل صلاته أربعين يوماً، ومن صدقه يكفر بما أنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم، فكيف يذهب بعض النّاس إلى السحرة والمشعوذين، وقد يأمرونه بالشرك، فيأمرونه بالذبح لغير الله؟! فالأمر خطير جدًّا فيجب على المسلمين أن يحذروا من هذا البلاء، ومن هذا الوباء، وهذا الخطر؛ أن لا يتفشَّى بين المسلمين. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#29
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد باُب بيان شيء من أنواع السحر ج / 1 ص -357- [الباب الخامس والعشرون:] * باُب بيان شيء من أنواع السحر مناسبة هذا الباب بعد الباب الذي قبله ظاهرة، لأنه في الباب الذي قبله بَيّن ما جاء من الأدلة في كتاب الله وسنّة رسوله في حكم السحر وحكم الساحر، فتطلَّعت الأنظار إلى أن يعرف النّاس ما هو السحر، وما هي أنواعه حتى يتجنّبوه. ومن ثَمّ يتعيّن على العلماء وطلبة العلم أن يبيّنوا للناس الحق والباطل، أن يبينوا للناس الحق وأدلّته، وأن يبيّنوا للناس الباطل وأدلّته وأنواعه؛ من أجل أن يأخذوا بالحق على بصيرة، وأن يتركوا الباطل على بصيرة، وإلاَّ فإنه إذا لم يبيّن الحق والباطل التبس على الناس، وظنوا الحق باطلاً والباطل حقّاً. ومن هنا يتعيّن على الدعاة وعلى الخطباء في المساجد وعلى المدرِّسين أن يعتنوا بهذا الأمر، وأن يبيّنوا للناس أمور عقيدتهم، وأمور دينهم. ومما حمل المصنِّف- أيضاً- رحمه الله على عقد هذا الباب: أن هناك خوارق تجري على أيدي بعض النّاس خارجة عن الأسباب المعروفة، مثل: المشي على الماء، والطَّيَران في الهواء، والإخبار عن الأشياء الغائبة، وإحضار الشيء البعيد. وهذه الخوارق إن جرت على أيدي الصالحين فهي كرامات من الله سبحانه وتعالى، والكرامات ثابتة عند أهل السنّة والجماعة، تجري على أيدي الصالحين إكراماً لهم من الله سبحانه وتعالى، وقد تجري على أيدي الكفرة، والفسّاق، والمنافقين، فتكون هذه الخوارق شيطانية، يفتِنون بها الناس، ويلبِّسون بها على الناس، وهي إما سحر، وإما بسبب استخدام هؤلاء الفسّاق للشياطين، فيخدمهم الشياطين بهذه الأمور التي ليست من مقدور بني آدم، وإما أن لها أسباباً خفيّة لم تظهر للنّاس من حِيَل، يعملونها. فمن أجل التباس الحق بالباطل في هذه الخوارق أراد الشَّيخ أن يعقد هذا الباب ليبيّن أن هذه الخوارق من السحر، وليست من الكرامات. فيجب أن نعرف هذا الباب، والفرق بين الكرامات وخوارق الشيطان، لئلا يلتبس الأمر، ولئلا يتخذ المخرِّفون والمنحرفون الخوارق الشيطانية دليلاً على الولاية لله عزّ وجلّ، فيعبدون هؤلاء من دون الله عزّ وجلّ. ج / 1 ص -358- قال أحمد: حدّثنا محمَّد بن جعفر، حدّثنا عوف، وحدّثنا حَيَّان بن العلاء، حدّثنا قَطَن بن قَبِيصة، عن أبيه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العِيافة والطَّرْق والطِّيَرة من الجبت". ال عوف: العِيافة: زجر الطير. والطَّرْق: الخطُّ يُخطُّ بالأرض. والجبت: قال الحسن: رنّة الشيطان. إسناده جيّد. قوله: "قال أحمد: حدَّثنا محمَّد بن جعفر" المراد به: غُنْدُر. "حدثنا عوف " هو: عوف بن أبي جميلة، المسمى بعوف الأعرابي، إمام ثقة مشهور. "حدثنا حيان بن العلاء" حيان- بالياء المثنّاة- بن العلاء، بصريٌّ مقبول. "حدثنا قَطَن بن قَبِيصة" قَطَن بن قَبِيصة تابعي، بصري ثقة. "عن أبيه": قَبِيصة بن المُخَارق الهلالي، صحابي معروف. "أنه" يعني: قبيصة- رضي الله عنه-. "سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن العِيافة والطَّرْق والطِّيَرة من الجبت". وتفسير هذه الألفاظ مروي عن: "عوف"، وهو: عوف بن أبي جميلة، المسمى بعوف الأعرابي؛ أحد رواة هذا الحديث. قال: "العيافة: زَجْر الطير" ومعناه: التشاؤم بأصواتها وأسمائها ومسارها. "والطَّرْق: الخطُّ يخطّ في الأرض" من أجل استطلاع الأمور الغائبة، وهي طريقة جاهلية، وهم لا يعلمون بها الغيب بذاتها، وإنما الشياطين هي التي تأتي لهم بما يريدون إذا تقرّبوا إليهم بالعبادة، وكفروا بالله عزّ وجلّ، لأن الشياطين تريد إضلال بني آدم مهما استطاعت. قوله: "قال الحسن " هو الحسن البصري إمام التابعين. "الجبت: رنّة الشيطان" أي: صوت الشيطان، وصوت الشيطان يشمل أشياء كثيرة، منها: الأغاني والمزامير، قال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ}. وصوت الشيطان: كل كلام باطل، وكل كلام كفر أو شرك. فهذا فيه بيان الشيء من أنواع السحر: ج / 1 ص -359- ولأبي داود والنسائي وابن حبّان في "صحيحه" المسند منه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس شُعبة من النجوم، فقد اقتبس شُعبة من السحر، زاد ما زاد" رواه أبو داود، وإسناده صحيح. فالعِيافة نوع من أنواع السحر. والطَّرْق نوع من أنواع السحر. والطِّيَرة نوع من أنواع السحر. كلها من أنواع السحر؛ لأنها من الجبت، والجبت السحر كما سبق، فالسحر إذاً كلمة عامة تجمع شروراً كثيرة، إما قولية، وإما عمليّة. ثم قال المصنِّف رحمه الله: "إسناده جيّد" أي: إسناد الإمام أحمد جيد، لأن رواته ليس فيهم أحد مجروح. قال: "وروى أبو داود والنسائي وابن حيان في صحيحه المسنَدَ منة" أي: رووا أصل الحديث، دون التفسير المذكور الذي ذكره عوف. "وأبو داود"، هو الإمام المشهور، سليمان بن الأشعث، صاحب السنن المشهورة بسنن أبي داود وهي إحدى السنن الأربع. "والنسائي" هو: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، الإمام الجليل، صاحب "السنن الكبرى" إحدى السنن الأربع. "وابن حبّان في صحيحه" ابن حبّان هو: أبو حاتم، محمَّد بن حبان البُسْتي، صاحب الصحيح المسمّى بـ"صحيح ابن حبان". قال: "وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس شُعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد" رواه أبو داود، وإسناده صحيح". قوله صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس شُعبة" يعني: تعلَّم. والشُّعبة: الطائفة أو القطعة. "من النجوم" يعني: من علم التنجيم. والتنجيم معناه: اعتقاد أن النجوم تؤثِّر في الكون،- كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية- هو: نسبة الحوادث الأرضيّة إلى الأحوال الفلكيّة. ج / 1 ص -360- وللنسائي من حديث أبي هريرة: "من عقد عُقْدة ثمّ نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلَّق شيئاً وُكِل إليه". ولا تزال آثار هذه الخصلة الجاهلية في عصرنا الحاضر فيما يظفر عند المنجِّمين والذين يذهبون إليهم، وبما يُكتب في بعض الصُّحف والمجلاّت من أحوال البُرُوج، لأن نسبة هذه الأمور إليها في طلوعها أو غروبها، أو إلى الأفلاك في تحرُّكها؛ شرك بالله عزّ وجلّ، لأن الذي يدبِّر النجوم، ويدبِّر الأفلاك، ويدبِّر الكون كله هو الله سبحانه وتعالى، فيجب أن نؤمن بذلك. أما النجوم، وأما الأفلاك، وأما جميع المخلوقات فليس لها تدبير، وليس لها إحداث شيء، أو جَلْبُ نفع، أو دفع ضر إلاَّ بإذن الله سبحانه وتعالى، فالأمر يرجع كلّه إلى الله. ويجب على المسلم أن يعتمد على الله، وأن يتوكّل على الله، ولا يتأثّر بما يقوله المنجِّمون والفلكيُّون. أما تعلّم حساب منازل القمر من أجل معرفة مواقيت العبادات، ومواقيت الزراعة والبذور؛ فلا بأس به، وهذا ما يسمِّيه العلماء بعلم التَّسْيِير. وأما الاعتقاد بالنجوم بأنها تؤثِّر فهو علم التَّأْثير، وهو المحرّم. قوله: "فقد اقتبس شُعبة من السحر" وهذا هو الشاهد من الحديث للباب، حيث دلّ على أن التنجيم نوع من أنواع السحر، لأن كلاًّ من المنجِّم والساحر يدّعي علم الغيب الذي اختص الله تعالى بعلمه. وقوله: "زاد ما زاد" يعني: كل ما زاد من الاقتباس زاد من السحر، فمُقِلٌّ ومُسْتَكْثِر. فهذا تحذير من الرسول صلى الله عليه وسلم. فالإنسان لا يجوز له أن يتعلم التنجيم الذي عليه المشركون، لأنه سحر وشرك بالله سبحانه وتعالى، وادِّعاءٌ لعلم الغيب الذي لا يعلمه إلاَّ الله سبحانه وتعالى. والنجوم إنما خُلقت لفوائد بيّنها الله سبحانه وتعالى في كتابه قال: "وللنسائي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عقد عُقدة" هذا من عمل السحرة؛ يعقدون الخيوط ثمّ ينفثون فيها، والنفث هو: النفخ مع الرِّيق، ينفث فيها من ريقه الخبيث، لأنه متكيِّف بالشيطان، فريقه ممزوج بالخُبث وتأثير الشيطان. ج / 1 ص -361- وقد يضرّ من وُجّه إليه بإذن الله عزّ وجلّ، كما قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}. وقد أمر الله نبيّه بالاستعاذة منه في سورة الفلق، قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(4)}، {النَّفَّاثَاتِ}: السواحر، و {الْعُقَدِ} هي: العُقد التي في الخيوط. وقوله: "فقد سحر" يدل على أن هذا العمل سحر. وقوله: "ومن سحر فقد أشرك" هذا هو الشاهد من الحديث؛ أن من أنواع الشرك: عقد العُقد والنفث فيها بقصد السحر، لأن الساحر لا يتوصّل إلى سحره إلاَّ بالاستعانة بالشياطين، وإذا استعان بالشياطين فقد أشرك بالله عزّ وجلّ. قوله: "ومن تعلّق شيئاً وُكِل إليه" أي: من اعتقد في شيء من دون الله أنه ينفع أو يضر وَكَله الله إلى ذلك الشيء. فمن اعتقد في السحرة والكُهّان والمشعوذين والمنجِّمين والأموات والأولياء أنهم ينفعون أو يضرُّون من دون الله وُكِل إليهم؛ عقوبةً له، وتخلّى الله سبحانه وتعالى عنه، وَوَكَله إلى هؤلاء الذين لا يملكون ضرًّا ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، ولا وتنقطع صلته بالله الذي بيده المُلْك، والذي بيده الخير، والذي يرحم عباده ويرزقهم، ويكلِه الله إلى هذه المخلوقات الضعيفة، لأنه اعتمد عليها، وتوكّل عليها، وخاف منها، ورجاها، فيوكل إليها. فمن ذهب إلى مشعوذ يريد منه العلاج والشفاء من المرض وَكَله الله سبحانه وتعالى، ومن سأل كاهناً أو عرَّافاً عن شيء من الأشياء وَكَله الله إليه إذ اعتمد عليه. ومن توكّل على الله، وتعلّق بالله سبحانه وتعالى، وخاف الله ورجاه فإن الله يتولّى أمره، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}، فالذي يتوكّل على الله، ويؤمن بالله، ويعتمل! على الله؛ فإن الله يكفيه، ويصونه من شر عباده، قال تعالى{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}،. فمن توكّل على الله كفاه، ومن تركل على غير الله وَكَله الله إلى ضعيف، عاجز لا يُغني عنه من الله شيئاً، لا في الدّنيا ولا في الآخرة. ج / 1 ص -362- وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا هل أنبئكم ما العَضْةُ؟ هي النميمة، القالة بين الناس" رواه مسلم. أما في الدّنيا فيكِله الله إلى هؤلاء الذي يضلُّونه، ويُفسدون عقيدته، أو يوهِّمونه، ويتسلَّطون عليه حتى يعيش عيشة القلق والأوهام والضّعف والخَوَر. ولذلك نجد الخرافيّين والقبوريين دائماً في قلق، ودائماً في خوف، ودائماً في ذلّ، لأنهم تعلَّقوا بغير الله. أما في الآخرة فمعلوم مصيره إن لم يتب. ونجد الموحِّدين الصادقين في قوة وفي أمن، وفي سرور بال وراحة نفس وطُمأنينة، لأنهم توكّلوا على الله. ومن عبد الله وحده تولى الله أمره في الدُنيا والآخرة، ونجاه من العذاب، وأدخله الجنة. ومن عبد الشياطين والمخلوقين والقبوريين وغير ذلك وَكَله الله إليهم يوم القيامة، يقول لهم: اذهبوا إلى من كنتم تعبدونهم في الدنيا، وإذا ذهبوا إليهم تبرأوا منهم: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)}، هذا في الدّنيا. وفي الآخرة: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ(6)}، وقت الحاجة ووقت الخطر كفروا بعبادتهم وتبرأوا منهم، فيذهبون إلى النار، لأنهم لم يعقدوا مع الله صلة تصلهم بالله عزّ وجلّ، ولم يعبدوا الله ويوحِّدوه، بل عبدوا غيره. قال: "وعن ابن مسعود" رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا هل أنبئكم ما العَضْةُ؟""العضه: السحر، أي: ما هو السحر؟. وهذا فيه التعليم وطريقة السؤال الجواب، لأن ذلك أوقع في النفس، إذا صار الشيء مهمًّا وخطيراً فإنه يُلقى على النّاس بطريق السؤال، من أجل أن يتنبّهوا. ثمّ قال صلى الله عليه وسلم في الجواب: "هي النميمة" وهذا لبيان خطر النميمة، كأن النبي صلى الله عليه وسلم حصر السحر فيها تحذيراً منها. ولماذا صارت النميمة بهذه الخطورة؟، لأن النميمة تعمل عمل السحر، فتفرِّق ج / 1 ص -363- ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن من البين لسحراً". بيّن النّاس كما يفرِّق بينهم السحر، بل هي أشد، كما قال بعضهم: "يُفسد النمّام في ساعة ما يُفسده الساحر في سنة"، فالنميمة أشدّ تأثيراً من السحر، لأنها تفرِّق بين المسلمين والسحر إنما يؤثر فيمن وقع عليه. والنميمة معناها: نقل الحديث بين النّاس على وجة الوشاية والإفساد، يذهب إلى شخص فيقول له: إن فلاناً يسبُّك ويتنقَّصك، ويقول فيك كيت وكيت. ثمّ يغضب هذا الشخص على فلان. ثمّ يذهب إلى الثاني، ويقول: إن فلاناً يقول فيك كذا وكذا، ويسبّك، ويتنقّصك. فيغضب هذا على هذا، وهذا على هذا، ثمّ تقوم القطيعة بين الوالد وولده، وبين الأخ وأخيه، وبين المسلم وأخيه المسلم، حتى ربّما تقوم الحروب الطاحنة بين النّاس بسبب النميمة. والنميمة من الكبائر، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن النميمة من أسباب عذاب القبر، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقبرين فقال: "إنهما ليعذّبان، ما يعذّبان في كبير، أما إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله". فدلّ على أن النميمة تسبِّب عذاب القبر. وفي الحديث الصحيح: "لا يدخل الجنة نمّام" وفي رواية: "لا يدخل الجنة قتّات". والنمام ليس له حكم الساحر، فلا يكفر كما يكفر الساحر. وإنما النميمة محرَّمة كما يحرُم السحر، إلاَّ أن السحر كفر، والنميمة فسق. قال: "ولهما" أي للشيخين: البخاري ومسلم. "من حديث ابن عمر رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من البيان لسحراً"" البيان هو: البلاغة والفصاحة، لأن النّاس يُصغون إلى المتكلِّم إذا كان فصيحاً في كلامه، وبليغاً في منطقه، بخلاف ما إذا كان ثَرْثَاراً، فإنهم لا يُصغون إلى كلامه، ويستثقلونه، ويملُّون من سماعه، فإن استعمل هذه القوّة البيانيّة في الخير والدفاع عن ج / 1 ص -364- الحق، والردّ على الباطل، فهو مأجور، أما إن استعملها بضدّ ذلك، فاستعملها في نُصرة الباطل، وهدم الحق فهو آثم، وهذا هو المذموم. ج / 1 ص -365- والإضرار بالنّاس أن هذا سحر، ومن سحر فقد أشرك، فالسحر نوع من أنواع الشرك، لأن الساحر يستعين بالشيطان، ويتقرّب إلى الشيطان، وهذا هو الشرك. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يذم البيان مطلقاً، وإنما ذم البيان الذي يقلب الحق باطلاً والباطل حقًّا، فإن البليغ الفصيح يستطيع بأسلوبه أن يزيّن للناس الباطل، وان يزوّره بكلامه حتى يظنّوه صحيحاً، ويستطيع أن يؤثِّر على الحق حتى يخيّل إلى النّاس أنه باطل. فالواجب على المسلم إذا أعطاه الله مقدرة في الكلام والمحاورة أن يستعمل هذا في طاعة الله سبحانه وتعالى، وفي الدعوة إلى الخير، وترغيب النّاس في الخير، وتنفيرهم من الشرّ. أما أن يستعمله بضدّ ذلك بأن يستعمله بالكلام في أعراض العلماء الربانيين وتبديعهم، وتجهيلهم؛ فهذا من السحر. أو يستعمله في تزيين الشرك، وعبادة القبور، وتزيين البدع والخرافات والمحدثات؛ فهذا من السحر، لأن السحر يقلب الحق باطلاً والباطل حقًّا، كذلك البليغ الذي يستعمل فصاحته في الدعوة إلى الشر. وما ضلّ كثير من النّاس إلاَّ بسبب الدعاة البُلغاء المنحرفين إما في الإذاعات، وإما في الصحف، وإما فوق المنابر، وإما في مدرّجات الجامعات، إذا تكلموا استمالوا الحاضرين، وملئوا أدمغتهم بكلام مزوّر، حتى يخرجوا وهم يُبغضون الحق ويحبون الباطل- والعياذ بالله-، فهذا خطر عظيم. ما يًستفاد من هده الأحاديث: أولاً: في حديث قبيصة رضي الله عنه أن العِيَافة والطَّرْق والطِّيُرة من الجبت، والجبت هو السحر، وكما سبق: أن الجبت كلمة عامة تشمل السحر، وتشمل الكهانة، وتشمل العِيَافة، وتشمل الخطّ يخطّ في الأرض. يعني: تشمل كل ما فيه ادّعاءٌ لعلم الغيب. ثانياً: في حديث ابن عباس تحريم تعلّم التنجيم، وأنه نوع من أنواع السحر. ثالثاً: في حديث أبي هريرة أن عقد الخيوط والنفث فيها بقصد التأثير رابعاً: في حديث أبي هريرة أن من تعلّق على السحرة والمشعوذين والدجّالين أنه يوكل إليهم، ويتخلى الله سبحانه وتعالى عنه، وإذا تخلى الله عنه وَوَكَله إلى غيره هلك. خامساً: في حديث ابن مسعود رضي الله عنه تحريم النميمة، وأنها من الكبائر، وأنها نوع من أنواع السحر. سادساً: في حديث ابن عمر تحريم البلاغة التي تُستخدم لنصر الباطل والدعوة إليه، والتنفير من الحق، وتشويه الحق، وأن هذا نوع من أنواع السحر. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
#30
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد بابُ ما جاء في الكهان ونحوهم ج / 1 ص -366- [ الباب السادس والعشرون: ] * بابُ ما جاء في الكهان ونحوهم مناسبة هذا الباب لما قبله: أن ما قبله في بيان السحر وحكم الساحر، وبيان بعض أنواع السحر. وهذا في حكم الكُهّان، وذلك للتشابه بين الكُهّان والسحرة، لأن كلاًّ من السحر والكهانة عمل شيطاني يُنافي العقيدة ويضادّها. والشيخ رحمه الله في هذا الكتاب يبيّن العقيدة الصحيحة، ويبيّن ما يضادّها من الشركيّات والكفريّات أو ينقصها من البدع والمحدثات. وهذه هي الطريقة الصحيحة المتمشِّية مع الكتاب والسنّة؛ أنه يبيّن الخير ويوضِّحه، ثمّ يبيّن ضدّه من الشر؛ من أجل أن يكون المسلم على حذر، لأنه لا يكفي أن الإنسان يعرف الخير فقط، بل لابد مع معرفته للخير أن يعرف الشر؛ من أجل أن يتجنّبه، وإلاَّ إذا لم يعرف الشر فإنه حريٌّ أن يقع فيه وهو لا يدري بل قد يظنه خيراً. فقوله: "باب ما جاء في الكُهّان ونحوهم " يعني: ومن كان مثلهم من العرّافين والرّمّالين وغير ذلك، لأن هذا باب يشمل كل ما هو من نوع الكِهانة. والكِهانة معناها: ادّعاء علم الغيب، بطرق شيطانية. فالكاهن هو: الذي يُخبر عن المغيبّات من الأشياء المستقبَلَة، والأشياء المفقودة والضالّة، بسبب أنه يخضع للشياطين، لأن الشياطين عندهم مقدرة ليست عند الإنس، فهم يرتفعون في الجوّ ويحاولون استراق السمع من السماء، ثمّ يُخبرون بما يسمعون من يخضع لهم من الإنس، ثمّ هذا الإنسي يأخذ الكلمة التي سُمعت من السماء، ويكذب معها مائة كذبة، من أجل أن يلبِّس على النّاس. ولا تُخبره الشياطين إلاَّ إذا أطاعهم، وكفر بالله سبحانه وتعالى، وأشرك بالله، ونفّذ ما تمليه عليه الشياطين من الكفر والشرك، وإلاَّ فالشياطين لا تطيع المؤمن، الموحّد لأنه لا يطيعها، وإنما تطيع من يأتي على رغبتهم في الكفر بالله والشرك بالله. وكانت الكهانة سوقاً رائجة عند العرب في الجاهلية، وكان الكُهّان لهم شأن عند العرب، كل قبيلة لها كاهن يتحاكمون إليه، وكانت الشياطين تسترق السمع، ج / 1 ص -367- روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرّافاً فسأله عن شيء فصدّقه بما يقول، لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً". وتُخبر به هؤلاء الكُهّان، فلما أراد الله بعثة نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم حُرست السماء بالشُّهب، ومنعوا من استراق السمع. كما قال تعالى حكاية عن الجن في أول سورة الجن: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً(9)}. فلما بعث الله نبيّه محمّداً صلى الله عليه وسلم قَلّت الكِهانة عمّا كانت عليه في الجاهلية، وذلك لظهور الإسلام، ومعرفة الحق من الباطل، لكن لهم وجود مستمرّ إلى يومنا هذا. وكلما فشا الجهل في الأمة ظهر الكُهّان، وكلما كثر العلم والتمسك بالدين والعقيدة الصحيحة قلّ الكُهّان، أو انقرضوا. فالجهات التي فيها توحيد، وفيها إسلام صحيح، لا يوجد فيها كُهّان، وإن وُجدوا فإنهم لا يظهرون، ولا يُعرفون إلاَّ نادراً. أما المجتمعات الهمجيّة، والمجتمعات التي فشا فيها الجهل والخرافات، فإن الكُهّان يكثرون فيها، وتكون لهم سوق رائجة فيها، كما كانت لهم في الجاهلية. فمن أجل ذلك عقد الشَّيخ رحمه الله هذا الباب في موضوع الكُهّان، وبيان حكمهم، وحكم من يأتي إليهم وحكم من يسألهم ويصدّقهم؛ من أجل أن يكون المسلمون على حذر منهم، وأن لا يغتروا بهم، ولو ظهروا للناس باسم أطبّاء أو معالجين أو أصحاب خِبرة، فإن هذه الأسماء أسماء خدّاعة، لا تغيّر الحقيقة، فالكاهن كاهن مهما تسمّى بالأسماء التي يستتر بها. قال: "روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم" ورد في رواية أخرى بأنها حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرَّافاً" العرّاف قيل: هو الذي يُخبر عن الأمور الغائبة عن طريق الحَدْس والتّخمين والظّن. وقيل: هو الكاهن. فلا فرق بينهما -كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية-؛ أن العرَّاف اسم عام يدخل فيه كلّ من أخبر عن المغيّبات، سواء عن طريق الشياطين، أو عن طريق الحَدْس والتّخمين، ج / 1 ص -368- وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهناً فصدَّقه بما يقول؛ فقد كفر بما أُنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم" رواه أبو داود. أو عن طريق الخطّ في الرّمل، أو قراءة الكف والفِنْجَان، أو غير ذلك. "فصدَّقه بما يقول لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً" هذه اللَّفظة (فصدَّقه) ليست في صحيح مسلم، وإنما وردت في رواية الإمام أحمد في المسند، والذي في صحيح مسلم: "من أتى عرَّافاً لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً"، فالحكم مرتّب على مجيء العرَّاف فقط، لأن إتيان العرّاف والذهاب إليه جريمة ومحرم حتى ولو لم يصدِّقه. ولهذا لما سأل معاوية بن الحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العرَّافين قال: "لا تأتهم" فالنبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن مجرّد إتيانهم. فهذا الحديث يدلّ على تحريم الذهاب إلى العرَّافين، حتى ولو لم يصدِّقهم، ولو قال: أنا أذهب من باب الإطلاع، فهذا لا يجوز. "لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً" في رواية: "أربعين يوماً وليلة". فدلّ هذا على شدّة عقوبة من يأتي العرَّاف، وأن صلاته لا تُقبل عند الله، ولا ثواب له عند الله فيها، وإن كان لا يؤمر بالإعادة، لأنه صلّى في الظاهر، لكن فيما بينه وبين الله صلاته لا ثواب له فيها لأنها غير مقبولة. وهذا وعيد شديد يدلّ على تحريم الذهاب إلى العرَّافين مجرّد الذهاب، ولو لم يصدِّق، أما إذا صدّقهم فسيأتي في الأحاديث ما عليه من الوعيد الشديد، والعياذ بالله. قال: "وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهناً... إلخ" هذا الحديث فيه شيئاًن: الشيء الأول: المجيء إلى الكاهن. والشيء الثاني: تصديقه بما يخبر به من أمر الكِهانة. وحكمه: أنه يكون كافراً بما أنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يجتمع التصديق بما أنزل على محمَّد والتصديق بما عند الكُهّان من عمل الشياطين. ضدّان لا يجتمعان، لا يمكن أن يصدِّق بالقرآن ويصدِّق بالكِهانة. ج / 1 ص -369- وللأربعة والحاكم- وقال: صحيح على شرطهما- عن أبي هريرة: "من أتى عرَّافاً أو كاهناً فصدّقه بما يقول؛ فقد كفر بما أُنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم". ولأبي يعلى بسند جيّد عن ابن مسعود مثله موقوفاً. وظاهر هذا أنه يخرج من الملّة. وعن أحمد روايتان في نوع هذا الكفر: رواية أنه كفر أكبر يُخرج من الملّة. ورواية أنه دون ذلك. وفيه قول ثالث: وهو التوقّف، وأن يُقرأ الحديث كما جاء من غير أن يفسِّر بالكفر الأكبر أو الكفر الأصغر، فنقول ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ويكفي. ولكن الظاهر- والله أعلم- هو القول الأول؛ أنه كفر يُخرج من الملّة، لأنه لا يجتمع التصديق بالقرآن والتصديق بالكهانة، لأن الله أبطل الكِهانة، وأخبر أنها من عمل الشياطين، فمن صدّقها وصوّبها كان كافراً بالله كفراً أكبر. هذا هو الظاهر من الحديث. قال: "وللأربعة والحاكم وقال: صحيح على شرطهما- عن أبيص هريرة: من أتى عرَّافاً أو كاهناً... الخ" في هذا الحديث جمع بين الاثنين: العرَّاف والكاهن، فإذا جُمع بينهما فالكاهن هو: الذي يُخبر عن المغيّبات بسبب ما تُلقيه عليه الشياطين. وأما العرّاف فهو الذي يُخبر عن المغيّبات بسبب الحَدْس والتّخمين والخطّ في الأرض، وما أشبه ذلك. فإذا ذُكر الاثنان جميعاً صار لكل واحد معنى. أما إذا ذُكر الكاهن وحده دخل فيه العرّاف، وإذا ذُكر العراف وحده دخل فيه الكاهن. قال: "ولأبي يعلى" أبو يعلى هو: أبو يعلى الموصلي، الإمام الحافظ. "بسند جيّد عن ابن مسعود مثله" أي: مثل حديث أبي هريرة: "من أتى عرَّافاً أو كاهناً فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم" إلاَّ أنه موقوف على ابن مسعود، ولم يُرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والموقوف: ما كان من كلام الصحابي. فهذا يؤيّد ما سبق. ج / 1 ص -370- الأحاديث كلها تدل على تحريم الذهاب إلى الكهان والعرّافين، وتصديقهم بما يقولون. فقد دلت هده الأحاديث على مسائل: المسألة الأولى: بُطلان الكِهانة ومشتقّاتها من العِرافة وغير ذلك من دعاوى علم الغيب، وأن هذا كله باطل، لأن الغيب لا يعلمه إلاَّ الله سبحانه وتعالى، قال تعالى{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول الله عنه:{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}، فالرسول لا يعلم الغيب إلاَّ ما علمه الله، كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً(26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27)}، فقد يطلع الله أنبياءه على شيء من الغيب من أجل إقامة الحجّة على الخلق، وتكون معجزة لهذا الرسول. المسألة الثانية: في الحديث دليل على وجوب تكذيب الكُهّان ونحوهم، وأن لا يقع في نفس الإنسان أدنى شك في كذبهم، فمن صدّقهم، أو شك في كذبهم، أو توقّف؛ فقد كفر بما أُنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم، لأنه يجب الجزم بكذبهم. المسألة الثالثة: فيه دليل على تحريم الذهاب إلى الكهّان ولو لم يصدِّقهم، وأنه إذا فعل ذلك لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً. المسألة الرابعة: فيه دليل على أن تصديق خبر الكُهّان كفر بما أنزل الله على رسوله محمَّد صلى الله عليه وسلم، والذي أنزل الله على رسوله هو الكتاب والسنّة. المسألة الخامسة: تدلّ هذه الأحاديث على وجوب معاقبة الكهان ومن يذهب إليهم من قِبَل ولاة الأمور، لأجل إراحة المسلمين من شرّهم، ووقاية المجتمع من خطرهم، لأن خطر الكُهّان في المجتمع خطر شديد يقضي على عقيدة التّوحيد، وينشر الخوف والرّعب بين الناس، لأن هؤلاء الكُهّان يُرهبون النّاس بما يقولون لهم من الكذب والوعيد والترهيب حتى يخيفوهم، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً(6)}، يعني: خوفاً. فهؤلاء وجودهم في المجتمع يسبب الإرهاب، ويسبب التشويش على عقول الناس، والخوف، ويروِّجون الكذب والشر، حتى يُصبح النّاس في خوف وقلق ج / 1 ص -371- عن عمران بن حصين مرفوعًا: "ليس منا من تَطَيَّر أو تُطُيِّر له، أو تَكَهَّن أو تُكُهِّن له، أو سَحَر أو سُحِر له، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم" رواه البزار بإسناد جيد. بسبب الكهّان، يأتونهم ويقولون لأحدهم: إن فلاناً عمل لك سحراً، أو ربطك، أو ربط فيك الجن، أو غير ذلك من أكاذيبهم وإرجافاتهم. قال: "وعن عمران بن حصبن مرفوعاً: "ليس منا من تطيّر أو تطيّر له" الطيرة: سيأتي لها باب خاص. وهذا الحديث كالذي سبقه، يدل على تحريم الكِهانة، والذهاب إلى الكهان، لأنهم يفسدون عقيدة من يذهب إليهم، وبعضهم ربما تظاهر بذكر اسم الله أو يصلي، أو غير ذلك، حتى يقول من رآه: رأيته يصلي، رأيته يذهب للمسجد. وما كل مَنْ يصلي يصير مسلماً، قد يصلي الإنسان ويزكِّي ويصوم ويحج وهو كافر، إذا فعل ذلك نفاقاً أو ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام، فالكاهن لو صلى ولو صام ولو حج، ولو تصدّق ولو زكّى لا تُقبل أعماله لأنه مشرك كافر، وكذلك الساحر. وبعضهم يقول: أنا انتفعت من ذهابي إلى هؤلاء، أنا كنت مريضاً وانتفعت، وحصول الحاجة أو حصول الغرض ليس دليلاً على الجواز، فقد يُعطى الإنسان حاجته من باب الفتنة ومن باب الاستدراج والاختبار، والعبرة في كونه دلّ الدليل الشرعي على جواز هذا الشيء أو على تحريمه هذا هو الشأن. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس منّا من تكهّن أو تُكُهِّن له، أو سحر أو سُحر له"، ويقول: "ومن أتى كاهناً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم". ومعنى: "تكهّن" فعل الكهانة. ومعنى: "تُكُهِّن له" فعلت الكهانة من أجله بطلبه. فمن ذهب إلى الكهّان فله حالتان: الحالة الأولى: أن لا يصدِّقهم، ولكن يقول: أريد أن أرى ماذا عندهم؟. فهذا لا تُقبل له صلاةٌ أربعين يوماً، لأن ذهابه إليهم محرّم، فعوقب بأنه لا تُقبل له صلاةٌ أربعين يوماً، إلاَّ إذا ذهب إليهم من أجل التثبت في شأنهم مي أجل منعهم والقضاء على فسادهم. ج / 1 ص -372- ورواه الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن من حديث ابن عباس، دون قوله: "ومن أتى..." إلى آخره. قال البغوي: "العرّاف: الذي يدّعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة، ونحو ذلك". أما إذا صدّقهم فقد كفر بما أُنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم، فهو لا يرجع سالماً أبداً، ممّا يدل على تحريم الذهاب إلى الكُهّان والمشعوذين والمدجِّلين. وقوله "رواه البزّار بإسناد جيِّد" البزّار هو: أبو بكر أحمد البزّار،: صاحب "المسند" المعروف بـ "مسند البزّار"، وهو إمامٌ جليل، توفي على رأس القرن الثالث رحمه الله، ومسنده يعرف عند العلماء بـ "مسند البزّار". وقوله: "ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عبّاس" أي: روى الطبراني هذا الحديث الذي رواه عمران بن حُصين من حديث ابن عباس. "دون قوله: ومن أتى" إلى آخره" يعني: روى منه أوله: "ليس منا من تكهّن أو تُكُهِّن له، أو تطيّر أو تُطيِّر له، أو سحر أو سُحر له"، وبإسناد حسن، فهو يؤيِّد رواية البزّار عن عمران بن حُصين. ثم ذكر الشَّيخ رحمه الله تفسير هذه الألفاظ التي وردتْ في الباب نقلاً عن "البغوي" وهو: الإمام الحافظ الجليل، محيي السنّة، الحسين بن مسعود البغوي، نسبة إلى "بَغْ" من بلاد المشرق، لأنها من حرفين، فإذا نُسب إلى اسم من حرفين تُزاد فيه (واو) فيقال: (بغوي) مثلاً. وهو: إمام جليل، سلفي العقيدة، وله مؤلَّفات جليلة، منها: "تفسير البغوي" المطبوع المعروف المتداوَل، وهو يشبه "تفسير ابن كثير" في التحقيق والأصالة وسلامة العقيدة، إلاَّ أنه أخصر من "تفسير ابن كثير"، ومنها: "شرح السنّة" الذي يتكوّن من حوالي أربعة عشر مجلّد، وقد طُبع والحمد لله، ومنها: "مصابيح السنّة" التي رتّبها وزاد عليها التِّبْريزي في كتاب "مِشْكاة المصابيح". فهو إمامٌ جليل رحمه الله، وهو من أئمة الشافعية ويُلقّب بمحيي السنّة، لأنه إمامٌ مجدِّد رحمه الله. ج / 1 ص -373- وقيل: هو الكاهن. والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. وقيل: الذي يخبر عما في الضمير. وقال أبو العباس ابن تيمية: العرّاف: اسم للكاهن والمنجّم والرمّال ونحوهم؛ ممن يتكلّم في معرفة الأمور بهذه الطرق". "العرّاف: الذي يدّعي معرفة الأمور بمقدِّمات يستدلُّ بها على المسروق ومكان الضالة، ونحو ذلك" وهذا من الشيطان، فالشياطين تأتيه بذلك، لكن يتظاهر بعمل أشياء يظن النّاس أنّ هذه الأشياء من الأمور المباحة، لكن هذه رموز فقط، وإلاَّ في الحقيقة هو يتعامل مع الشيطان، وإلاَّ ما الذي يدريه عن مكان المسروق، وما الذي يدريه عن مكان الضالّة لولا أنه يتعامل مع الجن ومع الشياطين. قال: "وقيل: هو: الكاهن" أي: العرَّاف والكاهن سواء، لأنّ كلاًّ منهما يخبر عن الأمور الغائبة بواسطة الشياطين، فكلهم عملاء للشياطين، وإنِ اختلفوا في الاسم، هذا عرّاف، وهذا كاهن، فالمعنى واحد، والمهنة واحدة، وهي ادّعاء علم الغيب، وإن اختلف اللفظ. "والكاهن هو: الذي يُخبر عن المغيِّبات في المستقبل" بسبب أن الشياطين تُخبره بما تعلَم ممّا لا يعلمه الإنسان، لأن الشياطين تدري عن أشياء لا يعرفها الناس، فيخبرون النّاس في مقابل إن النّاس يخضعون لهم، ويفعلون ما يطلبونه منهم من الشرك والكفر بالله عزّ وجلّ، ويتقرّبون إليهم، فإذا تقرّب الإنسي إلى الجنيّ بما يريد خدمه الجني بما يطلبه منه من الأمور الغائبة. "وقيل: هو الذي يُخبر عمّا في الضمير"يعني: عمّا في النفس، ولا يعلم ما في القلوب إلاَّ الله سبحانه وتعالى، لكن الشيطان قد يعرف شيئاً من هواجس الإنسان، لأنه هو الذي يوسوس للإنسان، ولأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فيعرف الشيطان من الإنسان ما لا يعرفه الإنسان عن الإنسان. هذا تفسير البغوي رحمه الله. قال: "وقال أبو العبّاس ابن تيمية" أبو العبّاس هذه كنيته، وليس له ابن اسمه ج / 1 ص -374- العباس، لأنه لم يتزوّج رحمه الله، ولكن يجوز أنّ الإنسان يُكَنَّى بأبي فلان ولو لم يكن له ابن. وهو: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، شيخ الإسلام، الإمام المجدِّد المشهور، الذي نفع الله بعلومه، ولا يزال نفعه مستمرَّاً ولله الحمد، وكتبه لا تزال موضع تنافُس طلاب العلم للحصول عليها والإطلاع عليها، وهذا ممّا كتبه الله من الكرامة لهذا العالم الجليل؛ لصدْق نيّته، وإخلاصه وجهاده في سبيل الله عزّ وجلّ، وصبره واحتسابه. قال: "العرّاف: اسم للكاهن والمنجِّم والرمّال ونحوهم " لأن كلمة العرّاف عامّة، يدخل تحتها كل من يدّعي معرفة المستقبل، سواءٌ بِكِهانة أو بتنجيم، أو بخط في الرمل، فكلهم يتعاملون مع الشياطين ويتقربون إليهم. ولهذا يقول الله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ(222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ(223)}، وهذا يدخل فيه الكاهن والمنجِّم والرمّال والعرّاف، كلهم يدخلون تحت كلمة {أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}، وتتنزّل عليهم الشياطين، بخلاف الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- فإنهم تتنزّل عليهم الملائكة، ولهذا قال: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ(210)}، يعني: القرآن، {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ(211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)}، فالأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- تتنزّل عليهم الملائكة من الرحمن، وأما الكهّان فتتنزّل عليهم الشياطين. فهذا يشمل كل من يتكلّم في معرفة الأمور بهذه الطرق ممّن يُخبر عن هذه الأشياء بتلك الأمور التي يسمونها خطًّا في الرمل، إلى آخره. فهذا تفسير جامع. وأما اختلاف الوسائل؛ هذا يستعمل كذا، وذا يستعمل كذا فلا عبرة بها، لأن النتيجة وهي ادّعاء علم الغيب؛ نتيجة واحدة. والذي يهمنا النتيجة والحكم، فالنتيجة: الإخبار بعلم الغيب، وادعاء مشاركة الله سبحانه وتعالى في علم الغيب. والحكم: أن كل هؤلاء كفرة، لأنهم يدّعون مشاركة الله تعالى في صفة من أعظم صفاته وهي علم الغيب. ج / 1 ص -375- وقال ابن عباس في قوم يكتبون (أبا جاد)، وينظرون في النجوم: "ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق". قال الشَّيخ رحمه الله "وقال ابن عبّاس في قوم يكتبون (أبا جاد) وينظرون في النجوم" (أبا جاد) المراد بها: حروف الجُمَّل، التي هي: (أبْجَدْ، هَوِّزْ، حُطِّيْ، كَلِمَنْ) إلى آخره، وهي حروف مقطّعة يكتبونها لتمييز الجمل، والمشعوذ إذا كتب هذه الحروف قال: يحدث كذا ويكون كذا. وهذه في الحقيقة طلاسِم. وهؤلاء هم الذين قال فيهم عبد الله بن عباس رضي الله عنه: "ما أرى مَنْ فعَل ذلك" أي: كتب هذه الحروف، ونظر في النجوم، وأخبر أنه سيحدث كذا وكذا. "له عند الله من خَلاق" أي: ليس له نصييبٌ من الجنّة عند الله عزّ وجلّ، ومعناه: أنه كافر، لأن الذي ليس له عند الله مِنْ خلاق هو الكافر، كما قال تعالى في السَّحَرة:{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}. فهذا حكم عبد الله بن عبّاس رضي الله عنه على أصحاب الطلاسم الذين يكتبون الحروف المقطّعة، وينظرون في النجوم، ويقولون: سيحدث كذا. فهذا من ادّعاء علم الغيب، وهو طريقة من طرق الكِهانة أو العِرافة أو التنجيم أو السحر، سمِّها ما شئت، لا يهمّنا الأسماء، الذي يهمّنا النتيجة والحكم الشرعي. أما الذي يكتب (حروف الجُمل) لتمييز الجُمَل فقط وهو تمييز الفقرات؛ فهذا لا بأس به، مثلاً يقول: الفقرة (أ)، الفقرة (ب)، الفقرة (ج)، الفقرة (د) لا يدّعي به علم الغيب، وإنما يريد ترتيب الجمل فقط. والحاصل؛ أن هذا بابٌ عظيم؛ لأنه يعالج أمراضاً واقعة في العالم اليوم، لا أقول في العالم الكافر، لأنه ليس بعد الكفر ذنب، لكن في العالم الإسلامي، وربما يسمونه أعمالاً رياضية وفنوناً تشكيلية، ووُجود هذا الوباء؛ وباء السحرة والمشعوذين والدّجالين والكَهَنة والمنجِّمين، ويسمون هذا من باب الفنون، أو يسمونهم بأسماء تدلُّ على تبجيلهم، وعلى أنهم أصحاب علم، وأصحاب خبرة، أو أشد من ذلك يدّعون أنهم أولياء الله، وأنّ هذه كرامات تدلُّ على أنهم من أولياء الله، وهذه ليستْ كرامات، وإنما هي خوارق شيطانية، لأن الكرامات هي التي تجري على أيدي الصالحين، وليس لهم فيها تصرُّف منهم، وإنما هي من الله سبحانه وتعالى. ج / 1 ص -376- فالكرامات تجري على أيدي رجال صالحين مستقيمين على الكتاب والسنّة. والخوارق الشيطانية تجري على أيدي كفرة مشعوذين. وأيضاً الكرامات لا صنع للآدمي فيها، وإنما يجريها الله سبحانه وتعالى، بخلاف هذه الخوارق الشيطانية، فهي حِيَل ومِهَن وحِرَف وتدجيل يعملونه هم، ويتظاهرون أمام النّاس أنه بسبب هذه الأشياء حصل ما حصل. وهو في الحقيقة إنما هو من عمل الشياطين الذين لا يراهم الناس. فالحاصل؛ أنّ هذا بابٌ عظيم، ويشتمل على علاج لمرض خطير يتفشّى الآن في العالم الإسلامي، وهو مرض الكهنة والسحرة والمنجِّمين والعرّافين؛ الذين صار لهم صوْلة وجولة في العالم، وأشدّ من ذلك إذا ادُّعِي أن هؤلاء من أولياء الله، وأنّ هؤلاء لهم كرامات، مع أنهم كفرة لا يصلون ولا يصومون ولا يتطهّرون من الجنابة!، وربما يقولون: هذا دليل على كرامتهم، وكونه لا يصلي لأنه وُضِعَتْ عنه التكاليف، ووصل إلى الله، والتكاليف هذه على النّاس العوام!! فالحاصل؛ أن هذا الباب إذا تأمّلته وجدت أن الشَّيخ رحمه الله لم يكتبه من فراغ، وإنما كتبه ليعالِج به أمراضاً متفشِّية، وازدادت الآن بحكم تأخر الزمان، وبحكم فُشُوُّ الجهل، وبحكم تقارب العالم وارتباط بعضه ببعض، وسريان الشرور في العالم بسرعة. فيجب على طلبة العلم أن يتنبّهوا لهذه الأمور ويقوموا بالتحذير منها وإنكارها، لأن أكثر النّاس سُذَّج لا يعرفون هذه الأمور، فيغرِّرون بهم. وأيضاً هم محتاجون للعلاج من الأمراض، فيقولون: هذه فيها منافع، وفيها علاج، ولا يدرون أن المضار التي فيها أكبر من المنافع، إن كان فيها منافع أو يدخلونها في قسم الفنون والمهارات. فيجب على طلبة العلم أن يهتمُّوا بهذا الأمر وأن يتفهّموا هذا الأمر، ويتفقهوا فيه، ويعالجوا هذه الأمراض المتفشيِّة التي تقضي على العقيدة، وتقضي على دين الإسلام، والعياذ بالله. المصدر : كتاب : إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد رابط تحميل الكتاب http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
[جمع] الجمع الثمين لكلام أهل العلم في المصرّين على المعاصي والمدمنين | أبو عبد الودود عيسى البيضاوي | منبر التوحيد وبيان ما يضاده من الشرك | 0 | 13-09-2011 09:33PM |
أقوال العلماء السلفيين في حكم من حكَّم القوانين | أبو حمزة مأمون | منبر التحذير من الخروج والتطرف والارهاب | 0 | 10-06-2010 01:51AM |
(الشيخ ربيع بين ثناء العلماء ووقاحة السفهاء) | أبوعبيدة الهواري الشرقاوي | منبر الجرح والتعديل | 0 | 21-12-2008 12:07AM |
مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد | أبو عبد الرحمن السلفي1 | منبر التوحيد وبيان ما يضاده من الشرك | 4 | 08-11-2007 12:07PM |
صحيح المقال في مسألة شد الرحال (رد على عطية سالم ) | ماهر بن ظافر القحطاني | منبر البدع المشتهرة | 0 | 12-09-2004 12:02PM |