|
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | تقييم الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
شرح رسالة حقيقة الصيام ابن تيمية للعلامة ابن عثيمين رحمه الله
وَقَال شَيخ الإسْلامِ أحْمَد بن تيمية – رحمه الله - :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومـن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، ونشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً . فَصْـــل فيما يُفطِّر الصَّائم ومَا لا يُفطِّرُه وهذا نوعان : منه ما يفطر بالنص والإجماع ، وهو : الأكل ، والشرب ، والجماع ، قال تعالى :" فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ " [البقرة : 187]، فأذن في المباشرة ، فَعُقِلَ من ذلك أن المراد : الصيام من المباشرة والأكل والشرب، ولمَّا قال أولاً : " كُتِبَ عليكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ " [البقرة : 183]، كان معقولاً عندهم : أن الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع ، ولفظ ( الصيام ) كانوا يعرفونه قبل الإسلام ويستعملونه [ في هذا المعنى ] ، كما في الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ : أن يوم عاشوراء كان يومًا تصومه قريش في الجاهلية . الصيام لاشك أنه الإمساك عن المفطرات لكن لابد أن يضاف إلى هذا , التعبد لله بالإمساك عن المفطرات حتى يكون عبادة , لأن الإمساك عن المفطرات له أسباب متعددة فإذا كان الغرض من ذلك التعبد لله كان صياما شرعا , وكما قال الشيخ رحمه الله الأشياء المفطرة بالإجماع هي هذه الثلاثة الأكل والشرب الجماع , وما عدا ذلك فإما ثابت لأقيسة , وإما ثابت لنص مختلف في صحته أو في دلالته, لكن هذه الثلاثة مجمع عليها , والصيام كان معروفا في الجاهلية وفي الشرائع الأخرى كما قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ َ} وقالت عائشة رضي الله عنها أنهم كانوا في الجاهلية يصومون يوم عاشوراء, فلم تأت الشريعة الإسلامية بجديد إلا في بيان الحكمة من الصوم , وهي أنه ليس الحكمة من الصوم أن يُمنع الإنسان من فضل الله عز وجل من طعام وشراب ونكاح , ولكن الحكمة شيء فوق ذلك وهو تقوى الله عز وجل كما قال تعالى { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}حين ذكر فرض الصيام , وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" فالحاجة بمعنى الإرادة , يعني أنه ليس لله إرادة أن يدع الإنسان طعامه وشرابه بدون أن يدع قول الزور والعمل به والجهل , وإن قوما يمسكون عن ملاذهم ويتقون الله عز وجل شهرا كاملا و يكونون كذلك لابد أن تتغير مناهجهم , ولهذا كان شهر الصيام لمن وفق تربية عظيمة للنفس بالصبر والتحمل والتقوى وكثرة الطاعات نسأل الله أن يجعلنا و إياكم ممن اتعظ به وانتفع . و في قوله عز وجل { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ } الإشارة إلى معنى نفيس وهو أن لا يريد الإنسان بالجماع مجرد نيل الشهوة بل ابتغاء ماكتب الله لنا , يعني من الذرية ,وهو إذا نوى هذا حصل هذا وهذا , يعني لا يفوته إذا نوى ابتغاء ما كتب الله له أن لا يكون له ذرية بل يحصل على هذا وعلى هذا , ولهذا قال بعض المفسرين على قوله {وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ} أي بطلب الولد . [ وقد ثبت عن غير واحد ] : أنه قبل أن يُفرض شهر رمضان أُمِرَ بصومِ يوم عاشوراء ، وأرسل منادياً ينادي بصومه ؛ فَعُلِمَ أن مسمى هذا الاسم كان معروفًا عندهم . وكذلك ثبت [ بالسنة ] واتفاق المسلمين : أن دم الحيض ينافي الصوم ، فلا تصوم الحائض ، لكن تقضي الصيام . وثبت [ بالسنة ] ـ أيضًا ـ من حديث لَقِيط بن صَبِرة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : " وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً " ، فدل على أن إنزال الماء من الأنف يفطر الصائم ، وهو قول جماهير العلماء . ومن هنا صار في المسألة خلاف , يعني إذا أكل الإنسان الشراب من غير الفم ففيه خلاف بين العلماء ,ولكن ما دل عليه الحديث يجب أن يكون معتبرا , وهو أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال إلا أن تكون صائما ولا نعلم فائدة لهذا الاستثناء إلا خوف أن ينزل الماء من الأنف إلى المعدة وإلا لم يكن للاستثناء فائدة , فالصواب ما دل عليه الحديث , لكن لو جاء مجادل وقال المسألة ليست إجماع وأنا لا أعتبر إلا ما ثبت بالنص والإجماع فقط ولا أعترف بما ثبت قياسا , قلنا له الحمد لله هذا ثابت بالنص لأننا لا نعلم فائدة لاستثناء الصائم إلا خوف أن ينزل الماء من أنفه إلى معدته فيفطر . وفي السنن حديثان : أحدهما : حديث هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من ذَرَعَهُ قَيءٌ وهو صائم فليس عليه قَضَاءٌ، وإن استقاء فليقض " ، وهذا الحديث لم يثبت عند طائفة من أهل العلم ؛ بل قالوا : هو من قول أبي هريرة ، قال أبو داود : سمعت أحمد بن حنبل قال : ليس من ذا شيء . قال الخطابي : يريد أن الحديث غير محفوظ . وقال الترمذي : سألت محمد بن إسماعيل البخاري عنه ، فلم يعرفه إلا عن عيسى بن يونس ، قال : وما أراه محفوظاً . قال : وروى يحيى بن كثير ، عن عمر بن الحكم : أن أبا هريرة كان لا يرى القيء يفطر الصائم . المؤلف سيبين ثبوت هذا الحديث أو عدم ثبوته , لكن في قوله ومن استقاء فليقض فيه فائدة : وهي أن الإنسان إذا أفطر متعمدا فعليه القضاء خلافا لما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال : أن من تعمد الإفطار فلا يقض , والصواب أنه يقضي , بخلاف الذي لم يصم اليوم من أوله فهذا لا يقضي , والفرق بينهما ظاهر , لأن الأول شرع في العبادة فلزمته بشروعه فيها, والتزمها في أول نهاره , والثاني لم يلتزمها إطلاقا , فإذا قضاها بعد فوات الوقت فقد فعل فعلا ليس عليه أمر الله ورسوله وقد تعدى حدود الله , فقد حد الله الصوم بشهر معين في زمن معين من هذا الشهر فإذا لم يقم بالصوم في هذا فقد تعدى حدود الله وقد قال الله تعالى { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}والله لا يقبل من ظالم فهذه المسألة فيها أقوال ثلاثة : قول الجمهور أنه يقضي سواء صام ثم أفطر عمدا أو أنه ترك الصيام من أوله. الثاني: أنه لا يقضي سواء ترك الصيام من أوله أو تعمد الإفطار. الثالث: التفصيل أنه إن ترك الصيام ثم صامه بعد رمضان فإنه لا يقضيه لأنه لن ينتفع به ,وأما إذا صام ثم أفطر عمدا وجب عليه القضاء وهذا هو الراجح .وقد رأيتم الحديث الآن حديث أبي هريرة ومن استقاء فليقض يعني من استقاء عمدا فليقض . وهنا مسألة : لو أن إنسانا حس بالقئ هل يجب عليه أن يمنعه ؟ الجواب لا يجب , كما لو فكر وأحس بانتقال المني فإنه لا يلزمه أن يحجزه لما في ذلك من الضرر ولأنه لم يتعمد . مسألة أخرى : لو أنه أحس بهيجان المعدة ثم استقاء أيفطر أم لا ؟ يفطر لأنه تعمد القيء, والمعدة قد تهيج أحيانا ويتهيأ الإنسان للقيء ولكن تسكن ولا يحصل شيء . قال الخطابي : وذكر أبو داود أن حفص بن غياث رواه عن هشام ، كما رواه عيسى بن يونس ، قال : ولا أعلم خلافاً بين أهل العلم في أن من ذرعه القيء فإنه لا قضاء عليه ، ولا في أن من استقاء عامدًا فعليه القضاء ، ولكن اختلفوا في الكفارة ، فقال عامة أهل العلم : ليس عليه غير القضاء . وقال عطاء : عليه القضاء والكفارة ، وحكي عن الأوزاعي وهو قول أبي ثور . قلت : وهو مقتضى إحدى الروايتين عن أحمد في إيجابه الكفارة على المحتجم ، فإنه إذا أوجبها على المحتجم فعلى المستقيء أولى ، لكن ظاهر مذهبه : أن الكفارة لا تجب بغير الجماع ؛ كقول الشافعي . وهذا هو الصحيح أنه لاكفارة إلا بالجماع وذلك أن الأصل براءة الذمة ولا يمكن أن نلزم عباد الله بشيء دون دليل من الكتاب والسنة أو الإجماع , لأننا مسؤلون عن إيجاب ما لم يجب كما أننا مسؤلون عن تحريم مالم يحرم , فالصواب أن الإنسان إذا تعمد الفطر في رمضان يعني صام ثم أفطر عامدا أنه آثم ويلزمه الإمساك بقية اليوم وعليه القضاء , وأما الكفارة فلا تجب إلا بالجماع . والذين لم يثبتوا هذا الحديث لم يبلغهم من وجه يعتمدونه، وقد أشاروا إلى علته ، [ وهي ] انفراد عيسى بن يونس ، وقد [ ثبت ] أنه لم ينفرد به ، بل وافقه عليه حفص بن غياث ، والحديث الأخير يشهد له ، وهو ما رواه أحمد وأهل السنن ، كالترمذي ، عن أبي الدرداء : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر ، فذكرت ذلك لثوبان . فقال : صدق ، أنا صببت له وضوءًا ، لكن لفظ أحمد : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء فتوضأ . رواه أحمد عن حسين المعلم . قال الأثرم : قلت لأحمد : قد اضطربوا في هذا الحديث ، فقال : حسين المعلم يجوده . وقال الترمذي : حديث حسين [ أصح ] شيء في هذا الباب ، وهذا قد استُدل به على وجوب الوضوء من القيء ، ولا يدل على ذلك ، فإنه إذا أراد بالوضوء الوضوء الشرعي ، فليس فيه إلا أنه توضأ ، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب ، بل يدل على أن الوضوء من ذلك مشروع ، فإذا قيل : إنه مستحب كان فيه عمل بالحديث . قوله إذا أراد الوضوء: الوضوء الشرعي أفادنا أن هناك وضوءا ليس شرعيا, وهو الوضوء اللغوي , وهو النظافة , ولكن لدينا قاعدة مهمة وهي :أن ألفاظ الشرع تحمل على الحقائق الشرعية , والحقيقة الشرعية للوضوء : أنه التطهر المعروف , ولكن يمنع من القول بوجوب الوضوء من القيء ما ذكره الشيخ رحمه الله أن هذا فعل مجرد , والفعل المجرد لايدل على الوجوب . وكذلك ما روي عن بعض الصحابة من الوضوء من الدم الخارج ليس في شيء منه دليل على الوجوب ، بل يدل على الاستحباب ، وليس في الأدلة الشرعية ما يدل على وجوب ذلك ، كما قد بُسط في موضعه ، بل قد روى الدارقطني وغيره ، عن حميد ، عن أنس قال : احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يتوضأ ، ولم يزد على غسل محاجمه ، ورواه ابن الجوزي في ( حجة المخالف ) ولم يضعفه ، وعادته الجرح بما يمكن . وأما الحديث الذي يروى : " ثلاث لا تفطر : القيء ، والحجامة ، والاحتلام " ، وفي لفظ : " لا يفطر من قاء ولا من احتلم ولا من احتجم " ، فهذا إسناده الثابت : ما رواه الثوري وغيره ، عن زيد بن أسلم ، عن رجل من أصحابه ، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . هكذا رواه أبـو داود ، وهذا الرجـل لا يعـرف . وقد رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عطاء ، عن أبي سعيد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لكن عبد الرحمن ضعيف عند أهل العلم بالرجال . قلت : روايته عن زيد من وجهين مرفوعًا لا يخالف روايته المرسلة بل يقويها ، والحديث ثابت عن زيد بن أسلم ؛ لكن هذا فيه : " إذا ذرعه القيء " . [ ورواه غير واحد عن زيد بن أسلم مرسلاً ، وقال يحيى بن معين : حديث زيد بن أسلم ليس بشيء ، ولو قدر صحته ؛ لكان المراد من ذرعه القيء ، فإنه قرنه بالاحتلام ، ومن احتلم بغير اختياره ـ كالنائم ـ لم يفطر باتفاق الناس ] . وأما حديث الحجامة : فإما أن يكون منسوخًا ، وإما أن يكون ناسخًا لحديث ابن عباس : أنه احتجم وهو محرم صائم – أيضًا – ، ولعل فيه القيء إن كان متناولاً للاستقاءة هو ـ أيضًا ـ منسوخ . وهذا يؤيد أن النهي عن الحجامة هو المتأخر ، فإنه إذا تعارض نصان ناقل وباق على الاستصحاب ، فالناقل هو الراجح في أنه الناسخ ، ونسخ أحدهما يقوي نسخ قرينه . وأما من استمنى فأنزل : فإنه يفطر ، ولفظ الاحتلام إنما يطلق على من احتلم في منامه . وقد ظن طائفة أن القياس [ ألا ] يفطر شيء من الخارج ، وأن المستقيء إنما أفطر ؛ لأنه مظنة رجوع بعض الطعام ، وقالوا : إن فطر الحائض على خلاف القياس . ولهذا عندهم قاعدة يقولون : لا وضوء مما دخل بل مما خرج , ولا فطر مما خرج بل مما دخل , لكن من قال هذه القاعدة !! وقد بسطنا في الأصول : أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس الصحيح . فإن قيل : فقد ذكرتم أن من أفطر عامدًا بغير عذر كان فطره من الكبائر ، وكذلك من فوت صلاة النهار إلى الليل عامدًا من غير عذر كان تفويته لها من الكبائر ، وأنها ما بقيت تقبل منه على أظهر قولي العلماء ، كمن فوت الجمعة ، ورمي الجمار وغير ذلك من العبادات المؤقتة ، وهذا قد أمره بالقضاء . وقد روي في حديث المجامع في رمضان : أنه أمره بالقضاء ، قيل : هذا إنما أمره بالقضاء ؛ لأن الإنسان إنما يتقيأ لعذر كالمريض يتداوى بالقيء ، أو يتقيأ لأنه أكل ما فيه شبهة كما تقيأ أبو بكر من كسب المتكهن . قول الشيخ رحمه الله فيه نظر , وحصره التقيؤ بكونه دواء أو أكل ما فيه شبهة فيه نظر , قد يتقيأ الإنسان لثقل بطنه أو للتداوي بالاستسقاء بدون ضرورة , لكن ما قلنا أقرب للأصول , أنه إذا أفسد صومه بالقيء أو غيره وجب عليه القضاء , لأنه بشروعه فيه صار كالناذر له , ولهذا سمى الله تعالى مناسك الحج نذورا ومدح الذين يوفون بنذورهم , وليس هذا النذر الذي امتدح الله فاعله هو النذر المعروف كما توهمه بعض الناس , بل إن قوله {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} يعني العبادات الواجبة وكذلك قوله {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} المراد المناسك . وإذاكان المتقيء معذورًا كان ما فعله جائزًا وصار من جملة المرضى الذين يقضون ، ولم يكن من أهل الكبائر الذين أفطروا بغير عذر الآن الشيخ رحمه الله سوف يدفع الأحاديث التي وردت في قضاء من تقيأ عمدا بأنه إنما يتقيؤ غالبا للتداوي أو لوجود شبهة كما فعل أبو بكر رضي الله عنه , مع أن أبا بكر رضي الله عنه لا نعلم أنه كان صائما صوما واجبا ,لكن فيما يظهر أنه استمر في صومه ,أو أفطر لاندري الله أعلم . ثم أتى بحديث آخر أن الرسول أمر المجامع أن يقضي فأجاب عنه . وأما أمره للمجامع بالقضاء فضعيف ، ضعفه غير واحد من الحفاظ ، وقد ثبت هذا الحديث مـن غـير وجـه في الصحيحين من حديث أبي هريرة ومن حديث عائشة ، ولم يذكر أحد أمره بالقضاء ، ولو كان أَمَرَهُ بذلك لما أهمله هؤلاء كلهم وهو حكم شرعي يجب بيانه ، ولما لم يأمره به دل على أن القضاء لم يبق مقبولاً منه ، وهذا يدل على أنه كان متعمدًا للفطر لم يكن ناسيا ولا جاهلاً . أما كونه أنه لم يكن ناسيا ولا جاهلا فظاهر من قوله "هلكت" فإن هذا يدل على أنه ليس بجاهل ولا ناسي ,وأما كونه لم يأمره بالقضاء فقد تعقبه الشيخ الألباني وقال فيه نظر فقد ذكره أكثر من واحد وأصل الحديث في الصحيحين ثم ساقه , ثم قال ورواه البيهقي من طريق أبي مروان قال حدثنا إبراهيم بن سعد قال أخبرنا الليث بن سعد عن الزهري بإسناده هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اقض يوما مكانه قال البيهقي : وكذلك روي ....ولهذه الروايات شاهد من مرسل سعيد بن المسيب عند مالك ومن مرسل نافع بن جبير ومحمد بن كعب ذكرهما الحافظ في الفتح , ثم قال : وبمجموع هذه الطرق تعرف أن لهذه الزيادة أصلا (يقوله الحافظ) . والمجامع الناسي فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره ، ويذكر ثلاث روايات عنه : إحداها : لا قضاء عليه ولا كفارة ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والأكثرين . والثانية : عليه القضاء بلا كفارة ، وهو قول مالك . والثالثة : عليه الأمران ، وهو المشهور عن أحمد . والأول أظهر ـ كما قد بسط في موضعه ـ فإنه قد ثبت بدلالة الكتاب والسنة : أن من فعل محظورًا مخطئًا أو ناسياً لم يؤاخذه الله بذلك ، وحينئذ يكون بمنزلة من لم يفعله ، فلا يكون عليه إثم ، هذا هو الفقه العظيم , إذا كان الله لم يؤاخذه فمعناه أنه بمنزلة من لم يفعله , فما دام هو معفوا عنه فكأنه لم يفعله , وإذا لم يفعله هل يجب قضاء أو كفارة ؟لا يجب لاقضاء ولا كفارة , وكذلك يقال في جميع المحظورات في العبادات , في الصلاة إذا تكلم جاهلا أو ناسيا لم يؤاخذ , فيكون بمنزلة من لم يتكلم ,في الصيام إذا أكل أو شرب ناسيا لم يؤاخذ فيكون بمنزلة من يأكل ويشرب , في الحج إذا فعل محظورا ناسيا أو جاهلا فيكون غير مؤاخذ فهو بمنزلة من لم يفعله , وهذا الفقه من شيخ الإسلام رحمه الله عظيم , يعني ما كان يناله أحد من الذين يتبعون المذاهب اللهم إلا نادرا ,كل مالم تؤاخذ عليه فكأنه معدوم إلا في شيء واحد, فإذا تركت مأمورا فالعبادة ناقصة ما أتيت بها , لابد أن تأتي بها على ما أمرت , ولها لم يعذر النبي الرجل الجاهل الذي كان يصلي بلا طمأنينة بل قال له ارجع فصل فإنك لم تصل , لأنه ترك واجبا , لكن لم يأمره بقضاء ما سبق من الصلوات لأنه لم تبلغه الشريعة , ولا تلزم الشرائع إلا بعد العلم . ومن لا إثم عليه لم يكن عاصيا ولا مرتكبًا لِمَا نُهي عنه ، وحينئذ فيكون قد فعل ما أمر به ولم يفعل ما نهي عنه ، ومثل هذا لا يبطل عبادته ، إنما يبطل العبادات إذا لم يفعل ما أمر به أو فعل ما حظر عليه . وطرد هذا : أن الحج لا يبطل بفعل شيء من المحظورات لا ناسياً ولا مخطئًا لا الجماعِ ولا غيره ، وهو أظهر قولي الشافعي . وأما الكفارة والفدية ، فتلك وجبت لأنها بدل المتلَف من جنس ما يجب ضمان المتلف بمثله ، كما لو أتلفه صبي أو مجنون أو نائم ضمنه بذلك ، وجزاء الصيد إذا وجب على الناسي والمخطئ فهو من هذا الباب بمنزلة دية المقتول خطأ ، والكفارة الواجبة بقتله خَطَأً بنص القرآن وإجماع المسلمين . القرآن نص نصا صريحا بوجوب الكفارة في قتل الخطأ , وكلامه هنا يظهر منه أنه يرى وجوب الجزاء في قتل الصيد على الجاهل والناسي, والراجح أنه لا يجب في قتل الصيد خطأ أو نسيانا جزاء , وهو نص القرآن , قال الله تعالى { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } مُّتَعَمِّدًا : مشتق وهو وصف مناسب للحكم فوجب أن يختلف الحكم بفقده , وأنه إذا قتله غير المتعمد فليس عليه جزاء , وهذا هو الصواب , وهو أيضا مقتضى طرد القاعدة أن جميع المحظورات إذا كان جاهلا أو ناسيا ليس فيها شيء, ولا يصح قياس هذا على إتلاف الصبي لأموال بني آدم , ولا على إتلاف الجاهل والناسي لأموال بني آدم , لأن الصيد في الإحرام إنما حَرُم لحق الله لا لأنه ملك فلان أو فلان ,وعلى هذا فإذا قتل المحرم صيدا ناسيا أو جاهلا وهو مملوك لفلان ماذا عليه ؟ عليه الضمان إما مثله إن أمكن أو قيمته . وأما سائر المحظورات ، فليست من هذا الباب ، [ وتقليم ] الأظفار وقص الشارب والترفُّهُ المنافي للتفث كالطيب واللباس ؛ [ ولهذا ] كانت فديتها من جنس فدية المحظورات ليست بمنزلة الصيد المضمون بالبدل . خلافا للمذهب في هذه المسألة أن تقليم الأظفار وقص الشارب كالصيد لا يسقط بالنسيان والجهل , والصواب خلاف ذلك , فالصواب أنها ليست من باب المتلفات , فأي قيمة للظفر إذا قصه الإنسان أو الشعر ؟ ليس هناك قيمة . فأظهر الأقوال في الناسي والمخطئ إذا فعل محظورًا : ألا يضمن من ذلك إلا الصيد . وللناس فيه أقوال : هذا أحدها ، وهو قول أهل الظاهر . والثاني : يضمن الجميع مع النسيان ، كقول أبي حنيفة وإحدى الروايات عن أحمد ، واختاره القاضي وأصحابه . والثالث : يفرق بين ما فيه إتلاف كقتل الصيد والحلق والتقليم ، وما ليس فيه إتلاف كالطيب واللباس ، وهـذا قول الشافعي وأحمد في الرواية الثانيـة ، واختارهـا طائفـة مـن أصحابه ، وهذا القول أجود من غيره ، لكن إزالة الشعر والظفر ملحق باللباس والطيب لا بقتل الصيد . هذا أجود . والرابع : [ أن ] قتل الصيد خطأ لا يضمنه ، وهو رواية عن أحمد ، فخرجوا عليه الشعر والظفر بطريق الأولى . وجدت أن شيخ الإسلام رحمه الله لم يذكر أنه يُسقِط وجوب فدية الصيد مع النسيان أو الجهل أو الكراهة , لكن ذكر في الإنصاف وكذلك في الفروع رواية عن أحمد وقال في الفروع اختاره أبو محمد الجوزي وغيره , فكأن شيخ الإسلام يُعتمد أن قوله ما ذكره هنا في حقيقة الصيام , أنه تجب الفدية . وكذلك طرد هذا : أن الصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسياً أو مخطئًا ، فلا قضاء عليه وهو قول طائفة من السلف والخلف ، ومنهم من يفطر الناسي والمخطئ كمالك ، وقال أبو حنيفة : هذا هو القياس لكن خالفه لحديث أبي هريرة في الناسي ، ومنهم من قال : لا يفطر الناسي ويفطر المخطئ ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد ، فأبو حنيفة جعل الناسي موضع استحسان ، وأما أصحاب الشافعي وأحمد فقالوا : النسيان لا يفطر ؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه ، بخلاف الخطأ ، فإنه يمكنه ألا يفطر حتى يتيقن غروب الشمس ، وأن يمسك إذا شك في طلوع الفجر . وهذا التفريق ضعيف ، والأمر بالعكس ، فإن السنة للصائم أن يعجل الفطر ويؤخر السحور ، ومع الغيم المطبق لا يمكن اليقين الذي لا يقبل الشك إلا بعد أن يذهب وقت طويل جدًا يفوت [ مع ] المغرب ويفوت معه تعجيل الفطور ، والمصلي مأمور بصلاة المغرب وتعجيلها ، فإذا غلب [ على ] ظنه غروب الشمس [ و ] أُمر بتأخير المغرب إلى حد اليقين ، فربما يؤخرها حتى يغيب الشفق وهو لا يستيقن غروب الشمس ، وقد جاء عن إبراهيم النخعي وغيره من السلف ـ وهو مذهب أبي حنيفة ـ : أنهم كانوا يستحبون في الغيم تأخير المغرب وتعجيل العشاء ، وتأخير الظهر وتقديم العصر ، وقد نص على ذلك أحمد وغيره ، وقد علل ذلك بعض أصحابه [ بالاحتياط ] لدخول الوقت ، وليس كذلك ؛ فإن هذا خلاف الاحتياط في وقت العصر والعشاء ، وإنما سن ذلك ؛ لأن هاتين الصلاتين يجمع بينهما للعذر ، وحال الغيم حال عذر ، فأخرت الأولى من صلاتي الجمع ، وقدمت الثانية لمصلحتين : إحداهما : التخفيف عن الناس حتى يصلوها مرة واحدة لأجل خوف المطر ، كالجمع بينهما مع المطر . والثانية : أن يتيقن دخول وقت المغرب ، وكذلك يجمع بين الظهر والعصر على أظهر القولين ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، [ و ] يجمع بينهما للوحل الشديد والريح الشديدة الباردة ونحو ذلك في أظهر قولي العلماء ، وهو قول مالك وأظهر القولين في مذهب أحمد . الثاني : أن الخطأ في تقديم العصر والعشاء أولى من الخطأ في تقديم الظهر والمغرب ، فإن فعل هاتين قبل الوقت لا يجوز بحالٍ بخلاف تينك ، فإنه يجوز فعلهما في وقت الظهر والمغرب ؛ لأن ذلك وقت لهما حال العذر ، وحال الاشتباه حال عذر ، فكان الجمع بين الصلاتين مع الاشتباه أولى من الصلاة مع الشك . وهذا فيه ما [ ذكره ] أصحاب المأخذ الأول من الاحتياط ، لكنه احتياط مع تيقن الصلاة في الوقت المشترك ، ألا ترى أن الفجر لم يذكروا فيها هذا الاستحباب ولا في العشاء والعصر ، ولو كان لعلم خوف الصلاة قبل الوقت [ لطرد ] هذا في الفجر ، ثم يطرد في العصر والعشاء . وقد جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتبكير بالعصر في يوم الغيم ، فقال : " بَكِّروا بالصلاة في يوم الغيم ، فإنه من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله " . فإن قيل : فإذا كان يستحِب أن يؤخِر المغرب مع الغيم ، فكذلك يؤخر الفطور . قيل : إنما يستحب تأخيرها مع تقديم العشاء بحيث [ يصليهما ] قبل مغيب الشفق ، فأما تأخيرها إلى أن يخاف مغيب الشفق فلا يستحب ، ولا يستحب تأخير الفطور إلى هذه الغاية . ولهذا كان الجمع المشروع مع المطر هو جمع التقديم في وقت المغرب ، [ و ] لا يستحب أن يؤخر بالناس المغرب إلى مغيب الشفق ، بل [ في ] هذا حرج عظيم على الناس ، وإنما شرع الجمع لئلا يُحرَج المسلمون . وأيضًا ، فليس التأخير والتقديم المستحب أن يفعلهما مقترنتين ؛ بل أن يؤخر الظهر ويقدم العصر ، ولو كان بينهما فصل في الزمان . وكذلك في المغرب والعشاء بحيث يصلون الواحدة وينتظرون الأخرى لا يحتاجون إلى [ ذهاب ] إلى البيوت ثم رجوع ، وكذلك جواز الجمع لا يشترط له الموالاة في أصح القولين ، كما [ قد ] ذكرناه في غير هذا الموضع . الموالاة والترتيب في الجمع , يجب أن نعرفهما فالترتيب معناه أن يبدأ بالأولى قبل الثانية والموالاة ألا يفصل بينهما بفاصل كثير , فشيخ الإسلام رحمه الله يرى أن الجمع معناه ضم أحد الوقتين إلى الآخر وأنه لاتشترط الموالاة لا في جنع التقديم ولا في جنع التأخير , والمشهور من المذهب أنه تشترط الموالاة إذا كان الجمع تقديما وأما التقديم فلا , والاحتياط أن يوالي بينهما لافي التأخير ولا في التقديم لكن كون ذلك شرطا في جمع التقديم فيه شيء من القلق ولا يطمئن إليه الإنسان كثيرا , لكن الاحتياط يضم إحداهما إلى الأخرى وأن لايفصل بينهما , أما الترتيب فلا بد منه أن يبدأ بالأولى قبل الثانية. وأيضًا ، فقد ثبت في صحيح البخاري ، عن أسماء بنت أبي بكر قالت : أفطرنا يومًا من رمضان في غيم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم طلعت الشمس . وهذا يدل على شيئين : [ على ] أنه لا يستحب مع الغيم التأخير إلى أن يتيقن الغروب ؛ فإنهم لم يفعلوا ذلك ولم يأمرهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والصحابة مع نبيهم أعلم وأطوع لله ولرسوله ممن جاء بعدهم . والثاني : [ أنه ] لا يجب القضاء ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أمرهم بالقضاء لشاع ذلك [ كما ] [ نقل ] فطرهم ، فلما لم ينقل ذلك دل على أنه لم [ يأمرهم ] به . وعلى هذا فإذا كان يوم غيم لا نقول للناس انتظروا حتى تتيقنوا الغروب لأنه لو كان الانتظار حتى يُتيقن الغروب واجبا لتأخر الصحابة حتى يتيقنوا الغروب , وهذا قد يكون أمرا يستدعي وقتا طويلا خصوصا مع كثافة الغيم فإنه قد لايتفرق إلا بعد مدة طويلة فيفوت تعجيل الفطر الذي قال فيه النبي- صلى الله عليه وسلم - "لايزال الناس بخير ما عجلوا الفطر "هذا إذا لم يكن مع الإنسان ساعات أما الآن والحمدلله وقد جاءت الساعات فالانتظار إن قلنا به مع الغيم لن يعدو أن يكون دقيقتين أو ثلاثا يعني لا يتأخر كثيرا , لكن في عهد المؤلف وما حوله ليس هناك ساعات تحدد الوقت . أما الشيء الثاني فهو أنه لا يجب القضاء وهذا هو المهم , فلا يجب القضاء بناء على القاعدة وهي : العذر بالجهل والنسيان والإكراه , والإنسان مأمور بأن يفطر ويعجل الفطر فإذا فعل ما أُمر به ثم تبين الأمر بخلاف ذلك فإنه لا يُلزم بالقضاء , وكيف يُلزم بالقضاء من أطاع الله ورسوله . فإن قيل : فقد قيل لهشام بن عروة : أمروا بالقضاء ؟ قال : أو بُد من القضاء ؟ قيل : هشام قال ذلك برأيه ، و[لم ] يرو ذلك في الحديث ، ويدل على أنه لم يكن عنده [ بذلك ] علم : أن معمرًا روى عنه قال :سمعت هشامًا قال : لا أدري أقضوا أم لا ؟ذكر هذا وهذا عنه البخاري ، ومعلوم حتى العبارة الأولى لاتدل على أنه رفع الحديث بل على أنه قاله تفقها لقول "أوبد من قضاء " يعني كأنه يقول لا بد من القضاء , وهذا قاله تفقها من عنده رحمه الله , لكن اللفظ الثاني "لا أدري أقضوا أم لا؟" واضح , يعني أوضح من الأول مع أن الأول عند التأمل يدل على أنه قاله تفقها من عنده. والحديث رواه عن [ أمه ] فاطمة بنت المنذر عن أسماء . وقد نقل هشام عن أبيه عروة : أنهم لم يؤمروا بالقضاء ، وعروة أعلم من ابنه ، وهذا قول إسحاق بن راهويه [ ] ـ [ وهو ] قرين أحمد بن حنبل ـ ويوافقه في المذهب : أصوله وفروعه ، وقولهما كثيرًا ما يجمع بينه . إذا يكون أبو هشام وهو عروة بن الزبير أحد الفقهاء السبعة التابعين قال إنهم لم يؤمروا بالقضاء , وعلى هذا يكون المعتمد عدم أمرهم بالقضاء ,ولو كان القضاء واجبا لأمرهم النبي به بلا شك , إذ لايمكن أن يؤخر البلاغ مع حاجة الناس إليه , ثم لو أمرهم بالقضاء لنقل إلينا , لأنه إذا أمرهم بالقضاء صار القضاء من شريعة الله , ولابد أن تبقى إلى أن يأذن اببه تعالى بفناء أهل الأرض , فكلما تأملت الحديث وجدت أن كالمتيقن أنهم لم يقضوا. والكَوْسَج سأل مسائله لأحمد وإسحاق ، وكذلك حرب الكرماني سأل مسائله لأحمد وإسحاق ، وكذلك غيرهما ؛ ولهذا يجمع الترمذي قول أحمد وإسحاق ، فإنه روى قولهما من مسائل الكوسج . وكذلك أبو زرعة وأبو حاتم وابن قتيبة وغير هؤلاء من أئمة [ السلف ] والسنة والحديث ، [و] كانوا يتفقهون على مذهب أحمد وإسحاق، يقدمون قولهما على أقوال غيرهما ، وأئمة الحـديث كالبخاري ومسلم والترمـذي والنسائي وغـيرهم [ هم ] – أيضًا- مـن أتباعهما وممـن يأخـذ العلم والفقه عنهما ، وداود من أصحاب إسحاق . وقد كان أحمد بن حنبل إذا سئل عن إسحاق يقول : أنا أُسْأَلُ عن إسحاق ؟ إسحاق يسأل عني . تواضعٌ عظيمٌ الله أكبر, فمن عرف قدر غيره , عرف غيره قدره , الله المستعان . والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن نصر المروزي وداود بن على ونحو هؤلاء كلهم فقهاء الحديث - رضي الله عنهم أجمعين - . وأيضًا ، فإن الله قال في كتابه : " وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ" [البقرة: 187] وهذه الآية مع الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تُبين أنه مأمور بالأكل إلى أن يظهر الفجر ، فهو مع الشك في طلوعه مأمور بالأكل - كما قد بسط في موضعه - . وعند المتعمقين يقولون إذا شككت في الفجر وجب عليك الإمساك , ولهذا عندهم مدفع إمساك ومدفع فجر , وهذا لاشك أنه من التعمق المذموم ,لأن الرب عز وجل هو الذي يتعبد عباده وقد قال " وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ " , ولم يقل حتى يطلع بل قال حتى " يَتَبَيَّنَ " , فأنت مأمور أن تأكل وتشرب ما دمت شاكا في طلوع الفجر حتى يتبين لك , فإذا تبين أمسِك. وهنا مسألة : لو أنه تبين للإنسان الفجر وهو يجامع زوجته ماذا يفعل؟ الفقهاء قالوا إن بقي فعليه الكفارة , وإن نزع فعليه الكفارة , لأن النزع جماع عندهم , فماذا يصنع ؟نقول ينزع فورا ولاشيء عليه , لأن هذا عمل للتخلص من الإثم ,فرق بين الإنسان الذي يتخلص من الإثم والذي يريد الوقوع في الإثم . نظير ذلك : لو أن المحرم أصابه طيب في ثوبه أو في بدنه فإن مس المحرم للطيب محرم لكن لو أراد أن يغسله هل نقول له حرام عليك أن تغسله ؟ لا ,لأن ذا للتخلص منه . ونظير ذلك أيضا : الرجل الرجل يستنجي بالماء , ويباشر النجاسة البول أو الغائط بيده , ومباشرة النجاسة منهي عنها ,هل نقول لاتفعل ؟ لا ,نقول افعل لأنك تريد التخلص . ونظير ذلك : الرجل يغصب أرضا ثم يمن الله عليه وهو فيها ويجمع متاعه ومايتعلق به ليخرج منها هل نقول إنه آثم ؟ لا , نقول هذا للتخلص . فيجب التنبه لهذه الفائدة , وهو أن من باشر الـمُحرم للتخلص منه فإن ذلك أمر واجب عليه ولا يدخل في الحرام . فهمنا من كلام الشيخ رحمه الله أن الإنسان يأكل ويشرب حتى مع الشك بطلوع الفجر , وأنه لا إثم عليه , وأن هذا مقتضى قوله تعالى " وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ " وأنه متى غلب على ظنه أن الشمس غربت فله أن يفطر لفعل الصحابة رضي الله عنهم في عهد نبيهم - صلى الله عليه وسلم - لكن مع الشك في غروب الشمس لا يجوز الفطر بخلاف الشك بطلوع الفجر , والفرق ظاهر لأن الشك في طلوع الفجر يعارضه أن الأصل بقاء الليل , والشك في غروب الشمس يعارضه أن الأصل بقاء النهار , لكن مع غلبة الظن يعمل بغلبة ظنه ويأكل ويشرب , فإن تبين له بعدُ أن الشمس لم تغرب أمسك وصح صومه . فـَصْــل وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله ، ومداواة المأمومة والجائفة ، فهـذا مما تنازع فيه أهل العلم ، فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك ، ومنهم من فطر بالجميع [ لا ] بالكحل ، ومنهم من فطر بالجميع [ لا ] بالتقطير ، ومنهم من لم يفطر بالكحل ولا بالتقطير ويفطر بما سوى ذلك . والأظهر : أنه لا يفطر بشيء من ذلك ؛ فإن الصيام من دين [ الإسلام ] الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام ، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله [ على الصائم ] ، ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه ، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه ، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك لا حديثًا صحيحًا ولا ضعيفًا ولا مسندًا ولا مرسلاً علم أنه لم يذكر شيئًا من ذلك . الأصل بقاء الصوم وعدم فساده إلا بدليل , والذي جاء في الدليل ماسبق ثلاثة أشياء الأكل والشرب والجماع ,أما القيء والحجامة فيها خلاف معروف . والحديث المروي في الكحل ضعيفٌ ، رواه أبو داود في السنن ولم يروه غيره ولا هو في مسند أحمد ولا سائر الكتب المعتمدة . هذه نقطة مهمة في الحديث وهي أن الحديث إذا أعرض عنه أصحاب الصحيح وأصحاب السنن والكتب المعتمدة فلا تثق به ,حتى وإن كان رواه بعض الحفاظ ,خلافا لما يعمله بعض الناس الآن يتمسك بسنن لم تشتهر بين المسلمين ولم يعتمدوها ,وهي إذا لم تخالف الكتب المعتمدة الأصيلة لابأس بها , لكن المشكلة أنه أحيانا تخالف ومع ذلك يتمسك بها الناس , وشيخ الإسلام رحمه الله كما رأيتم يرى أن من المهم النظر إلى الكتب المعتمدة التي اعتمدها المسلمون وبنوا عليها دينهم وتلقوا دينهم منها , فالبقية التي قد يكون من أسندها غير معروف وقد يكون غير ثقة , وتكون هي أيضا من الكتب التي لم يمحصها المسلمون لأنها غير مشهورة بينهم , فمثل هذا يجب التفطن له لأن هذه المسائل مسائل دين ليست مسألة نظر فقط , هل رأى فلان كذا أو رأى فلان كذا , هذه المسائل دين يدين الله به , ولهذا قال بعض السلف : إن هذا العلم دين فانظروا عن من تأخذون دينكم . قال أبو داود : حدثنا النفيلي ، ثنا علي بن ثابت [ قال ] ، حدثني عبد الرحمن بن النعمان ، [ بن ] معبد بن [ هوذة ] ، عن أبيه، عن جده ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه أمر [ بالإثمد ] المروح عند النوم . وقال : " ليتقه الصائم " . قال أبو داود : [ و ] قال [] يحيى بن معين : هذا حديث منكر [يعني : حديث الكحل ] . قال المنذري وعبد الرحمن : [ قال يحيى بن معين ] : ضعيف . وقال أبو حاتم الرازي : هو صدوق ، لكن من الذي يعرف أباه وعدالته وحفظه ؟! وكذلك [ حديث ] معبد قد عورض بحديث ضعيف ، وهو ما رواه الترمذي بسنده عن أنس بن مالك قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – فقال : اشتكيت عيني ؛ أفأكتحل وأنا صائم ؟ قال : " نعم " . قال الترمذي : ليس بالقوي ، ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء . و [ فيه ] أبو عاتكة . قال البخاري : منكر الحديث . إذا انتهينا إلى أن الكحل لم يثبت فيه شيء, لا أنه يتقيه الصائم , ولا أنه لا يفطر الصائم , فيبقى على الأصل , والأصل الجواز , ومثله القطرة تقطر في العين وغير ذلك مما يوضع في العين . والذين قالوا : إن هذه الأمور تفطر كالحقنة ومداواة المأمومة والجائفة لم يكن معهم حجة عن النبي - صلى الله عليه وسلم – الحقنة الشرجية التي تحقن مع الشرج من أسفل أدوية أو ما أشبهها تحقن من أسفل وكثيرا ما تحقن من أجل اليبوسة , وأما المأمومة والجائفة , فالمأمومة :هو الجرح في الرأس يصل إلى أم الدماغ فيداوى , فبعض العلماء يقول إنه إذا داويت المأمومة فسد الصوم , لأن المأمومة جوف إذ أنها في وسط الرأس , والجائفة : هي التي تصل إلى الجوف , إنسان جرح حتى انفتح بطنه فداووه فهذه مداواة جائفة , عند بعض العلماء أنها تفطر أيضا لأن هذا الدواء وصل إلى الجوف , لكن شيخ الإسلام ليس معهم حجة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- وإنما ذكروا ذلك لما رأوه من القياس ولم يقل بما ثبت من القياس , لأن هذا القياس غير صحيح لكن هذا رأيهم , وعلى هذا ما يسمونها "تحاميل"يحملها الإنسان عند شدة الحُمى أو غير ذلك من الأسباب لا تفطر . أنت احفظ الأكل والشرب وما كان بمعناه في التغذية فله حكمه , على أنا ذكرنا لكم فيما سبق أنه قد يعارض معارض أنها تختلف عن الأكل والشرب أعني الإبر المغذية مثلا , لأن الأكل والشرب له لذة وطعم , ولهذا كان الذي يتغذى بهذه الإبر يشتاق اشتياقا كبيرا إلى الأكل والشرب , لكننا عارضنا هذا بحديث لقيط بن صبرة "بالغ بالاستنشاق إلا أن تكون صائما " فإن المستنشق للماء لا يتلذذ به . وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس ، [ وأقوى ] ما احتجوا به قوله : " وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا " . قالوا : فدل ذلك على أن ما وصل إلى الدماغ يفطر الصائم إذا كان بفعله ، وعلى [ القياس ] كل ما وصل إلى جوفه بفعله من حقنة وغيرها ، سواء كان ذلك في موضع [ الطعام والغذاء ] أو غيره من حشو جوفه . لكن هل إذا استنشق الإنسان الماء يصل إلى دماغه ؟ لا ما أظن الظاهر أنه يصل إلى جوفه , ولذلك النَفَس الآن يخرج من الرئتين لاشك ويخرج من طريق الأنف , لا أنه يذهب إلى الدماغ ثم ينزل , فالظاهر أن قوله يصل إلى الدماغ فيه نظر من حيث الطب. والذين استثنوا التقطير قالوا : التقطير لا ينزل إلى جوفه ، وإنما يرشَح رشحًا ، فالداخل إلى إحليله كالداخل إلى فمه وأنفه . قوله إنما يرشح: يعني البول , يقولون إن البول بإذن الله يرشح ينزل من الكلى رشحا ويجتمع بهذه الحاصلة ثم بإذن الله عز وجل إذا أراد الإنسان أن يخرجها أخرجها , فلذلك لو قطر في إحليله يعني في ذكره دهنا أو دواء أو غيره لم يفطر بذلك , لأنه إنما يرشح رشحا يعني البول . انظر إلى القياس الغلط فالداخل إلى إحليله كالداخل إلى فمه وأنفه هذا غلط , لأن الأنف والفم في حكم الظاهر , ولهذا وجبت المضمضة والاستنشاق في الوضوء تبعا لغسل الوجه فالفرق واضح , لكن كلامه هذا يدل على أن الذي يفطر هو الذي يصل إلى المعدة , وأما ما وصل إلى باطن الجوف من غير طريق المعدة فإنه لا يفطر كما هو الراجح , فالراجح أنه لا يفطر إلا ما يصل إلى المعدة دون ما يصل إلى الحلق ودون ما يصل إلى البطن أو إلى الرئة أو إلى غير ذلك . والذين استثنوا الكحل قالوا : العين ليست [ منفذاً ] كالقبل والدبر ، ولكن هي تشرب الكحل كما يشرب الجسم الدهن والماء . معلوم أن الإنسان إذا اغتسل وتَشَرَّبَ جلده الماء فإنه لايفطر بالاتفاق , كذلك الدهن فلو تدهن وهو صائم فإنه لايفطر بالاتفاق . والذين قالوا : الكحل يفطر ، قالوا : إنه ينفذ إلى داخله حتى يتنخمه الصائم ؛ لأن في داخل العين منفذًا إلى داخل الحلق . هل هي منفذ معتاد للأكل والشرب؟ لا , غير معتاد , فما رأينا أحدا يأخذ اللقمة ويضعها في عينه لكي تصل إلى بطنه , لكن في الأنف ربما يعطى الإنسان سعوطا أو نحوه ويصل إلى جوفه . وإذا كان عمدتهم هذه الأقيسةَ ونحوها لم يجز إفساد الصوم بمثل هذه الأقيسة لوجوه : أحدها : أن القياس وإن كان حجة إذا اعتبرت شروط صحته ، فقد قلنا في الأصول : إن الأحكام الشرعية كلها بينتها النصوص أيضًا ، وإن دل القياس الصحيح على مثل ما دل عليه النص دلالة خفية ، فإذا علمنا بأن الرسول لم يحرم الشيء ولم يوجبه علمنا أنه ليس بحرام ولا واجب ، وأن القياس المثبِتَ لوجوبه وتحريمه فاسد ، ونحن نعلم أنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على [ الإفطار ] بهذه الأشياء [ التي ذكرها بعض أهل الفقه، فعلمنا أنها ليست مفطرة ] . الثاني : أن الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لابد أن يبينها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيانًا عامًا ، ولابد أن تنقلها الأمة ، فإذا انتفى هذا عُلِمَ أن هذا ليس من دينه ، وهذا كما يعلم أنه لم يفرض صيام شهر غير رمضان ، ولا حج بيت غير البيت الحرام ، ولا صلاة مكتوبة [ في اليوم والليلة ] غير الخمس ، و [ أنه ] لم يوجب الغسل في مباشرة المرأة بلا إنزال ، ولا أوجب الوضوء من الفزع العظيم ، وإن كان في مظنة خروج الخارج . الفزع العظيم مظنة خروج الخارج سواء ريح أو بول أو غائط , ولهذا ذكر بعض الفقهاء أنه لو صاح بإنسان ففزع ثم أحدث فعليه ثلث الدية , وهذا غير مسلَّم لكن قصدنا أن الإنسان إذا فزع يحصل منه حدث . ولا سن الركعتين بعد الطواف بين الصفا والمروة كما سن الركعتين بعد الطواف بالبيت . وكذلك نعلم أنه لم يسن السعي بين الصفا والمروة في غير حج أو عمرة , خلافا لما يظنه بعض العوام فتجده يسعى وهو لابس ثيابه فتقول له لماذا؟ قال إن الله يقول { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}فيظن أن التطوع حتى في السعي . وبهذا يُعلَم أن المني ليس بنجس ؛ لأنه لم ينقل عن أحد بإسناد يحتج به أنه أمر المسلمين بغسل أبدانهم وثيابهم من المني مع عموم البلوى بذلك ، بل أمر الحائض أن تغسل قميصها من دم الحيض مع قلة الحاجة إلى ذلك ، ولم يأمر المسلمين بغسل أبدانهم وثيابهم من المني . والحديث الذي يرويه بعض الفقهاء : " يغسل الثوب من البول والغائط والمني و المذي والدم " ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وليس في شيء من كتب الحديث التي يعتمد عليها ، انتبهوا لهذا القيد لتثبيت ما ذكرناه قبل قليل واعتماده , الكتب كتب التي يعتمد عليها يعني بمعنى ليس كل ما رأينا كتابا مسندا نأخذ به ونعتبره. ولا رواه أحد من أهل العلم بالحديث بإسناد يحتج به ،و[إنما ] روي عن عمار [ وعائشة من قولهما ] . وغسل عائشة للمني من ثوبه وفركها إياه لا يدل على وجوب ذلك ، فإن الثياب تغسل من الوسخ والمخاط والبصاق ، والوجوب إنما يكون بأمره ، لاسيما ولم يأمر هو [ سائر ] المسلمين بغسل ثيابهم من ذلك ، [ بل ] ولا نقل [ عنه ] أنه أمر عائشة بذلك ، بل أقرها على ذلك ، فدل على جوازه أو حسنه واستحبابه . وأما الوجوب فلابد له من دليل . وبهذه [ الطريق ] يعلم ـ أيضًا ـ أنه لم يوجب الوضوء من لمس النساء ولا من النجاسات الخارجة من غير السبيلين ، فإنه لم ينقل أحد عنه بإسناد يثبت مثله أنه أمر بذلك مع العلم بأن الناس كانوا لا يزالون يحتجمون ويتقيؤون ويجرحون في الجهاد وغير ذلك ، وقد قطع عرق بعض أصحابه ليخرج منه الدم وهو الفِصَادُ ، ولم ينقل عنه مسلم : أنه أمر أصحابه بالتوضؤ من ذلك . وهكذا لو قيل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أحدا من الجرحى أن يغسل ثيابه أو بدنه من الدم وكذلك أيضا لم ينقل عنه أنه غسل محل الحجامة وما أشبه ذلك , وهذا يدل على أن دم الآدمي ليس بنجس , لكن الجمهور على نجاسته , والاحتياط طَيِّب , لكن الجزم بنجاسته وأن الإنسان لو صلى في ثوبه وفيه دم فصلاته باطله هذا يحتاج إلى دليل , فالمسألة ليست هيِّنَة وقد بينا ذلك غير مرة , وقلنا أن القاعدة : أنما أُبين من حيٍ فهو كميتته , واليد إذا قطعت من الإنسان فهي طاهرة مع أنها مملوءة دماً ,فإذا كانت اليد وهي جُرم مملوءة بالدم تكون طاهرةً إذا انفصلت عن الإنسان فالدم من باب أولى , ولا يَرِد على هذا دم الحيض لأن دم الحيض ليس دم عرق وقد فرق النبي- صلى الله عليه وسلم - بينه وبين دم العرق حيث قال للمستحاضة " إنما ذلكِ دمُ عرقٍ ". وكذلك الناس لا يزال أحدهم يلمس امرأته بشهوة وبغير شهوة ، ولم ينقل عنه مسلم : أنه أمر الناس بالتوضؤ من ذلك ، والقرآن لا يدل على ذلك ؛ بل المراد بالملامسة الجماع كما بسط في موضعه ، بعض العلماء رحمهم الله يرون أن مس المرأة مطلقا ينقض الوضوء , ولهذا تجد بعض الرجال كما نقل لي وهو يطوف يلبس قفازين لئلا تمس يده جسم امرأة ولُبس القفازين مُحرَّم على المحُرِم لكن مساكين أرادوا أن يحترزوا من شيء ووقعوا في شيء مُحرَّم , فعلى كل حال الأمر واسع فقوله " أَوْ لاَمَسْتُمُ " كما قال شيخ الإسلام رحمه الله : المراد بالملامسة الجماع كما فسرها بذلك ابن عباس رضي الله عنهما وكما أنه مقتضى الفصاحة والبلاغة لأننا ذكرنا في تفسير الآية أنه لو كان المراد بالملامسة هنا لمس اليد أو ما أشبهه لكان في الآية تكرار , تكرار في شيء لا حاجة إليه وحذف لشيء لابد أن يكون{ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء } إذا جعلنا الملامسة هنا اللمس باليد صار كلا الأمرين يدل على الحدث الأصغر ولا ذكر للحدث الأكبر , وإذا قلنا الملامسة الجماع لم يكن في الآية تكرار ودلت على فائدة وهي الحدث الأكبر . وأمره بالوضوء من مس الذكر إنما هو استحباب إما مطلقًا وإما إذا حرك الشهوة ، هذا أيضا من الأمور التي اختلف فيها الناس اختلافا كثيرا , والأقرب عندي أنه يجب الوضوء إذا كان لشهوة ولايجب إذا كان لغير شهوة , الفقهاء رحمهم الله يشددون في هذا , يقولون ينتقض الوضوء بمس الذكر ولو بلا قصد , وعلى هذا فلو أراد الإنسان أن يربط سرواله فمست يده ذكره بغير قصد انتقض وضوءه لكن هذا لادليل عليه , والصواب أن مس الذكر لايوجب الضوء إلا إذا كان لشهوة وبهذا يجتمع الحديثان حديث بسرة وحديث طلق بن علي , لأن طلق بن علي لما سُئل النبي- صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يمس ذكره أو قال يمس ذكره في الصلاة أعليه الوضوء قال:" لا" , ثم قال:"إنما هو بضعة منك" , ومعنى بضعة : جزء منك , فكما أنك لو لمست الأذن أو لمست اليد أو لمست الفخذ أو لمست الساق لا ينتقض وضوءك كذلك إذا لمست الذكر , وحديث بسرة " من مس ذكره فليتوضأ " هذا عام واللام للأمر فيُحمل على أن المراد من مسه لمسا ليس كلُمس بقية الأعضاء , واللَّمس الذي يختص بالذكر ولا يكون كلمس بقية الأعضاء هو لشهوة , ولهذا تجد الإنسان يمس ذكره لشهوة وربما يستمني بيده , فالمهم أن القول الراجح أنك إذا مسست الذكر المس الخاص به وهو الذي يكون لشهوة وجب عليك الوضوء لأن ذلك مظنة خروج شيء لاسيما في الرجل المذًّاء فقد يخرج مذي وهو لايدري , وأما إذا كان لغير شهوة فلا ينقض الوضوء , لكن هل يستحب احتياطاً ؟ من العلماء من قال يستحب احتياطا, وكذلك يقال في مس المرأة ذكره المؤلف . وكذلك يستحب لمن لمس النساء فتحركت شهوته أن يتوضأ ، وكذلك من تفكر فتحركت شهوته فانتشر ، وكذلك من مس الأمرد أو غيره فانتشر . انتشر :يعني انتفخ ذكره . فالتوضؤ عند تحرك الشهوة من جنس التوضؤ عند الغضب ، وهذا مستحب لما في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الغضب من الشيطان ، وإن الشيطان من النار ، وإنما تطفأ النار بالماء ، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ ". وكذلك الشهوة الغالبة هي من الشيطان [ والنار ، والوضوء يطفئها فهو يطفئ حرارة الغضب ، والوضوء من هذا مستحب ] . وكذلك أمره بالوضوء مما مسته النار أمرُ استحباب ؛ لأن ما مسته النار يخالط البدن [ فليتوضأ ] ، فإن النار تطفأ بالماء . وليس في النصوص ما يدل على أنه منسوخ ؛ بل النصوص تدل على أنه ليس بواجب ، واستحباب الوضوء [ من ] أعدل الأقوال من قول من يوجبه، وقول من يراه منسوخًا وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره . "مما مست النار" يعني كل ما طبخ بالنار فالأفضل أن يتوضأ منه وقد ورد فيه حديثان أحدهما : الأمر بالوضوء منه , والثاني :كان آخرين الأمرين من رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار , فمنهم من قال أن هذا الحديث يدل على نسخ الحديث الأول وأنه لا يعمل به إطلاقا ولا يتوضأ لذلك , ومنهم من قال إن الحديث الثاني يدل على أن الأمر بالوضوء مما مست النار ليس على سبيل الوجوب وهذا يستعمله العلماء كثيرا فيقولون : إن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد الأمر يدل على عدم الوجوب وأن فعله بعد النهي يدل على عدم التحريم , وهذا الذي ذكره المؤلف هو أعدل الأقوال أنه يسن أن يتوضأ مما مست النار كما نص على ذلك الفقهاء رحمهم الله فقهاء الحنابلة . وكذلك بهذه الطريق يعلم أن بول ما يؤكل لحمه وروثه ليس بنجس ، فإن هذا مما تعم به البلوى ، يعني كون الشيء مما تعم به البلوى ويكثر وقوعه بين الناس ولم يبين الشارع حكمه يدل على أنه ليس فيه وجوب ولا تحريم , لأنه لو كان فيه وجوب لأََُمر به ولو كان فيه تحريم لنُهي عنه . والقوم كانوا أصحاب إبل وغنم ، يقعدون ويصلون في أمكنتها وهي مملوءة من أبعارها ، فلو كانت بمنزلة المرَاحيض كانت تكون حشوشًا . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرهم باجتنابها ، وألا يلوثوا أبدانهم وثيابهم بها ولا [ يصلون ] فيها . فإن قال قائل : أليسوا أيضا أهل حمير وأهل بغال فهل نجعل أبوال الحمير والبغال طاهرة ؟ لا , لا نجعلها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الحُمُر إنها رجس , فهي نجسة , لكن لم يقل في الإبل والبقر والغنم وما أشبهها أنها رجس بل هي مما يؤكل ويُدخله الناس في بطونهم فضلا عن ظواهر أبدانهم , فالحاصل أن هذا الذي عمت به البلوى في الحمير والبغال عورض بدليل خاص وهو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حكم بأنها نجسة . فكيف وقد ثبتت الأحاديث بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا يصلون في مرابض الغنم ، وأمر بالصلاة في مرابض الغنم ، ونهى عن الصلاة في معاطن الإبل ، فعلم أن ذلك ليس لنجاسة الأبعار ، بل كما أمر بالتوضؤ من لحوم الإبل ، وقال في الغنم : " إن شئت فتوضأ ، وإن شئت فلا تتوضأ " ، وقال : " إن الإبل خلقت من جن ، وإن على ذروة كل بعير شيطانًا " ، وقال : " الفَخْرُ والخُيلاءُ في الفدادين أصحاب الإبل ، والسكينة في أهل الغنم " . ولهذا إذا نَفَرت[وعشَّرت] الإبل لا أحد يستطيعها أبدا وتكون كالمجنونة , فلولا أن الله ذللها لنا هل نستطيع أن نحكم عليها ؟ لكن الله ذللها لنا حتى أن الصبي يقودها إلى منحرها وتنقاد معه , لكن إذا أتاها جنونها ونَفَرَت لا أحد يستطيعها ؟ لذلك كانت الشياطين تحملها , فهي خُلِقت من الجن وكذلك على شعفت كل واحدٍ منها شيطان كما جاء في الحديث وهذه أمور في الواقع تخفى علينا وتخفى حتى على أهل الطب لأن هذه أمور غيبية ليست أمور محسوسة تدرك بالطب وشِبهِه ,ومن ثَم نُهي عن الصلاة في أعطانها لأنها مأوى للشياطين . هذا أيضا الفخر والخيلاء في الفدادين أصحاب الإبل هذا صحيح ونشاهد حتى إلى الآن تجد البدوي الذي عنده الإبل شامخ الرأس شامخ الأنف , وتجد صاحب الغنم هادئ ساكن , ولهذا اختار الله للرسل عليهم الصلاة والسلام أن يكونوا رعاة غنم كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم - "ما من نبي إلا رعى الغنم " من أجل أن يعرف كيف يختار المواقع وكيف يوجهها مع السكينة والهدوء . فلما كانت الإبل فيها من الشيطنة ما لا يحبه الله ورسوله أمر بالتوضؤ من لحمها ، [ فإن ] ذلك يطفئ تلك الشيطنة ، ونهى عن الصلاة في أعطانها ؛ لأنها مأوى الشياطين ، كما نهي عن الصلاة في الحمام ؛ لأنها مأوى الشياطين . فإن مأوى الأرواح الخبيثة أحق بأن تجتنب الصلاة فيه و [ في ] موضع الأجسام الخبيثة ، بل الأرواح الخبيثة تحب الأجسام الخبيثة . ولهذا كانت الحشوش محتضرة تحضرها الشياطين ، والصلاة فيها أولى بالنهي من الصلاة في الحمام ومعاطن الإبل ، و [ من ] الصلاة على الأرض النجسة . ولم يرد في الحشوش نص خاص ؛ لأن الأمر فيها كان أظهر عند المسلمين [ من ] أن يحتاج إلى بيان ؛ ولهذا لم يكن أحد من المسلمين يقعد في الحشوش ، ولا يصلي فيها ، الآن الخبثاء يخرجون فيها أو في ما يشابهها , يُذكر لنا أن الكفار يتخذون المقاعد التي تسمى عندنا بالمقاعد الإفرنجية لأنه إذا دخل الحمام وجلس على الكرسي هذا أخذ معه صحيفة أو جريدة ليقرأها حتى يكمل جميع الأخبار التي فيها ,وهذا من حكمة الله عز وجل {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} ولهذا كانوا يحبون الكلاب , والكلاب أنجس البهائم لا تطهر إلا بسبع غسلات إحداها بالتراب , لكن أولئك القوم يألفونها لأن النفوس الخبيثة تألف الأشياء الخبيثة أعاذنا الله وإياكم من ذلك . وكانوا ينتابون البرية لقضاء حوائجهم قبل أن [ تتخذ ] الكُنُف في بيوتهم . الكُنُف : عبارة عن أحواض مبنية لها سقوف يقضي فيها الإنسان حاجته ثم يستنجي في محل آخر . وإذا سمعوا نهيه عن الصلاة في الحمام أو أعطان الإبل علموا أن النهي عن الصلاة في الحشوش أولى وأحرى ، مع أنه قد روي الحديث الذي فيه النهيُ عن الصلاة في المقبرة والمجزرة والمزبلة والحشوش وقارعة الطريق ومعاطن الإبل وظهرِ بيت الله الحرام . و [ فقهاء ] الحديث متنازعون فيه ، وأصحاب أحمد فيه على قولين : منهم من يرى هذه مـن مواضـع النهي ، ومنهم مـن يقـول : [لم يثبت ] هذا الحديث ، والصواب أن الحديث ضعيف و لا تقوم به حجة ولا يعارض قول النبي- صلى الله عليه وسلم - "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" لكن معاطن الإبل صح النهي عن الصلاة فيها وكذلك المقبرة والحمام , وأما قارعة الطريق والمجزرة والمزبلة وفوق ظهر بيت الله فالحديث فيها لا يصح . ولم أجد في كلام أحمد في ذلك إذنًا ، ولا منعًا ، مع أنه قد كره الصلاة في مواضع العذاب ، نقله عنه ابنه عبد الله ؛ للحديث المسند في ذلك عن علي الذي رواه أبو داود ، وإنما نص على الحشوش وأعطان الإبل والحمام ، وهذه الثلاثة هي التي ذكرها الخِرَقِي وغيره , الخرقي من أكابر الأصحاب رحمه الله وله كتابه المشهور مختصر الخرقي والذي شرحه أمم عظيمة من العلماء , وأحسن شرح رأيناه عليه هو المغني لابن قدامة رحمه الله . والحكم في ذلك عند من يقول به قد [ يثبته ] بالقياس على موارد النص ، وقد يثبته بالحديث ، ومن فرق يحتاج إلى الطعن في الحديث وبيان الفارق ، إلى الطعن في الحديث إن اعتمد على الحديث ,وبيان الفارق إن اعتمد على القياس , وشيخ الإسلام يقول : الحكم في ذلك عند من يقول به أي بهذا الحكم وهو المنع من هذه الأماكن السبعة , الحكم فيه يقول : إما أنه للحديث و إما للقياس , فمن طعن في هذا الحكم فإنه يحتاج إلى الطعن في الحديث أو إلى بيان الفارق. و ـ أيضًا ـ المنع قد يكون منع كراهة ، وقد يكون منع تحريم . [فإذا ] كانت الأحكام التي تعم بها البلوى لابد أن يبينها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيانًا عامًا ، ولابد أن تنقل الأمة ذلك ، فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب ، فلو كان هذا مما يفطر لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما بين الإفطار بغيره ، فلما لم يبين ذلك علم أنه من جنس الطيب والبخور والدهن ، والبخور قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل في الدماغ وينعقد أجسامًا ، والدهن يشربه البدن ويدخل إلى داخله ويتقوى به الإنسان ، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة ، فلما لم ينه الصائم عن ذلك دل على جواز [تطيبه وتبخره] وادهانه ، وكذلك اكتحاله . وقد كان المسلمون في عهده - صلى الله عليه وسلم - يُجْرَح أحدهم إما في الجهاد وإما في غيره مأمومة وجائفة ، فلو كان هذا يفطِّر لبين [ لهم ] ذلك ، فلما لم ينه الصائم عن ذلك علم أنه لم يجعله مفطرًا . الوجه الثالث : إثبات التفطير بالقياس يحتاج إلى أن يكون القياس صحيحًا ، وذلك إما قياس [ علةٍ بإثبات ] الجامع ، وإما بإلغاء الفارق ، فإما أن يدل دليل على العلة في الأصل [ فيعدى بها ] إلى الفرع ، وإما أن يعلم ألا فارق بينهما من الأوصاف المعتبرة في الشرع ، وهذا القياس هنا منتفٍ . وذلك أنه ليس في الأدلة ما يقتضي أن المُفَطِّر الذي جعله الله ورسوله مُفَطِّرًا هو ما كان واصلاً إلى دماغ أو بدن ، خلافا لمن قال إن ما وصل إلى الدماغ أو وصل إلى الجوف بأي طريق فهو مفسد للصوم . أو ما كان داخلاً من منفذ ، كالعين مثلا أو الأذن تنفذ إلى الحلق أو واصلاً إلى الجوف . كالجائفة ونحو ذلك من المعاني التي يجعلها أصحاب هذه الأقاويل هي مناط الحكم عند الله ورسوله ، يعني أنه ليس في الأدلة ما يقتضي أن ذلك مناط الحكم عند الله ورسوله . ويقولون : إن الله ورسوله إنما جعلا الطعام والشراب مفطرًا لهذا المعنى المشترك [ من ] الطعام والشراب الذين يقولون ذلك هم الذين يفطرون بهذه الأشياء ومما يصل إلى الدماغ والجوف من دواء المأمومة والجائفة ، وما يصل إلى الجوف من الكحل ومن الحقنة والتقطير في الإحليل ونحو ذلك . هم يقولون بهذا وهم يتناقضون لأنهم نصوا على أن الإنسان لو وطيء حنظلة برجله , والحنظلة من أشد النبات مرارة ثم وجد طعمها في حلقه فإنه لايفطر مع أن طعمها وصل إلى الحلق لكن يقولون إن الرِّجل ليست منفذا معتادا , فيقال لهم والعين أيضا ليست منفذا معتادا ولا يكاد الناس أن يأكلوا بأعينهم ولا أن يأكلوا بئاذانهم فلا فرق . ثم ذكر قاعدة مهمة وإذا لم يكن على تعليق الله ورسوله للحكم بهذا الوصف دليل كان قول القائل : إن الله ورسوله إنما جعلا [ هذا ] مفطرًا لهذا قولاً بلا علم ، يعني يقولون إن الله جعل الطعام والشراب مفطرا لأنه يصل إلى الجوف , من قال أنه يصل إلى الجوف؟ بل لأنه شهوة يتلذذ به الإنسان ويتغذى به . وكان قوله : إن الله حرم على الصائم أن يفعل هذا ، قولاً بأن هذا حلال وهذا حرام بلا علم ، وذلك يتضمن القول على الله بما لا يعلم ، وهذا لا يجوز . ومعلوم أن الله تعالى قال {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ} ومناط الحكم : يعني الوصف الذي يعلَّق عليه الحكم . ومن اعتقد من العلماء أن هذا المشترك مناط الحكم ، فهو بمنزلة من اعتقد صحة مذهبٍ لم يكن صحيحًا ، أو دلالة لفظٍ على معنى لم يرده الرسول ، وهذا اجتهاد يثابون عليه ، شيخ الإسلام من أعظم من رأيته انصافا من العلماء , يقول هذا اجتهاد يثابون عليه بينما لو يحصل خطأ من بعض طلبة العلم في عصرنا هذا مع اجتهاده قالوا : هذا ضال , هذا مبتدع وجعلوا يغتابونه ويسبونه , وشيخ الإسلام مع أن كلامه قوي يقول: هذا لا يجوز , هذا قول على الله بغير علم , هذا حرام , بهذا الأسلوب القوي الشديد يقول إن هذا اجتهاد يثابون عليه , وهكذا يجب على الإنسان أن ينظر إلى غيره كما ينظر إلى نفسه , أليس هو يجتهد ويخطئ ويصيب , إذن غيره يجتهد ويخطئ ويصيب , فكيف تكون من المطففين {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}, فالواجب أن تنظر إلى غيرك كما تنظر إلى نفسك , فكما أن غيرك يخطئ بظنك فكذلك أنت تخطئ بظنه , والحاصل أن مثل هذا المسلك الذي يسلكه شيخ الإسلام رحمه الله بهذا العدل والإنصاف هو الذي يؤلف القلوب عليه ويوجب أن يؤخذ بقوله وأن يُعرف أنه لا يريد إلا الوصول إلى الحق اللهم اغفر له وارحمه . ولا يَلزم أن يكون قولاً بحجة شرعية يجب على المسلم اتباعها . صحيح إذا كان لم يبن قوله على حجة شرعية يجب اتباعها فإننا نسأل الله له الرحمة ونقول هو مجتهد ولكنه لم يصب . الوجه الرابع : أن القياس إنما يصح إذا لم يدل كلام الشارع على علة الحكم إذا سَبَرنَا أوصاف الأصل ، فلم يكن فيها ما يصلح للعلة إلا الوصف المعين ، وحيث أثبتنا علة الأصل بالمناسبة أو الدوران أو الشبه المطرد عند من يقول به ، فلابد من السَّبْر ، [ فإذا ] كان في الأصل وصفان مناسبان لم يجز أن يقول :[ عُلِّقَ ] الحكم بهذا دون هذا . ومعلوم أن النص والإجماع أثبتا الفطر بالأكل والشرب والجماع والحيض ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى المتوضئ عن المبالغة في الاستنشاق إذا كان صائمًا ، وقياسهم على الاستنشاق أقوى حججهم كما تقدم ، وهو قياس ضعيف ؛ وذلك لأن من نشق الماء بمنخريه ينزل الماء إلى حلقه وإلى جوفه ، فحصل له بذلك ما يحصل للشارب بفمه ويغذي بدنه من ذلك الماء ، ويزول [ به ] العطش ويطبخ الطعام في معدته كما يحصل بشرب الماء ، لأن الماء إذا نزل لاشك أن الطعام الذي في المعدة يكون رقيقا ولينا وهذا بمنزلة الطبخ . فلو لم يرد النص [ بذلك ] لعلم بالعقل أن هذا من جنس الشرب ، فإنهما لا يفترقان إلا في دخول الماء من الفم ، وذلك غير معتبر ، بل دخول الماء إلى الفم وحده لا يفطر ، فليس هو مفطرًا ولا جزءًا من المفطر لعدم تأثيره ، بل هو طريق إلى الفطر ، وليس كذلك الكحل والحقنة ومداواة الجائفة والمأمومة ، فإن الكحل لا يغذي [ البتة ] ولا يدخل أحد كحلاً إلى جوفه لا من أنفه ولا [ من ] فمه ، وكذلك الحقنة لا تغذي [ بوجهٍ من الوجوه ] ، بل تستفرغ ما في البدن كما لو شم شيئًا من المسهلات أو فزع فزعًا أوجب استطلاق جوفه [ وهي ] لا تصل إلى المعدة . والدواء الذي يصل إلى المعدة في مداواة الجائفة والمأمومة لا يشبه ما يصل إليها من غذائه ، والله ـ سبحانه ـ قال : " كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ " [البقرة: 183]، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " الصوم جنة " ، وقال : " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، فضيقوا مجاريه بالجوع [ والصوم ] " الشيخ رحمه الله يقول إن القياس قياس الكحل والاحتقان وما أشبهه على الأكل والشرب غير وارد أصلا , هل يقاس على الاستنشاق ؟ يقول لا , لأن مستنشق الماء يتغذى به ويصل إلى معدته , لكن هل المكتحل يتغذى بالكحل ؟ لا , ولو وصل إلى المعدة فَرَضا فإنه لا يتغذى به ,فلا يمكن أن يقاس هذا على هذا , هذا هو مضمون كلامه وهو واضح . الحقنة لاشك أنها تصل إلى الأمعاء ولكن هل الأمعاء تتغذى بها ؟ أو يستخرج ما كان ماكثا في الأمعاء ؟ الثاني بلا شك , فكيف يقاس هذا على هذا . فالصائم نهي عن الأكل والشرب ؛ لأن ذلك سبب [ التقوي ] ، فترك الأكل والشرب الذي يولد الدم الكثير الذي يجري فيه الشيطان [ ، والدم الذي يجري فيه الشيطان ] إنما يتولد من الغذاء لا عن حقنة ولا كحل ، ولا ما يقطر في الذكر ، ولا ما يداوى به المأمومة والجائفة ، وهو متولد عما [ استنشق ] من الماء ؛ لأن الماء [ مما يتولد منه الدم ] ، فكان المنع منه من تمام الصوم . فإذا كانت هذه المعاني وغيرها موجودة في الأصل الثابت بالنص والإجماع ، فدعواهم أن الشارع علق الحكم بما ذكروه من الأوصاف معارض بهذه الأوصاف ، والمعارضة[ في الأصل ] تبطل كل نوع من [ أنواع ] الأقيسة إن لم يتبين أن الوصف الذي ادعوه هو [ العلة ] دون هذا . المعارضة في الأصل يعني العلة التي من أجلها ثبت الحكم , إذا عارض الخصم وقال هذه ليست العلة يقول المؤلف أنها تُبطل كل نوع من الأقيسة . الوجه الخامس : [ أن نقول : بل الشارع إنما علَّقَ الحكم بأوصاف منتفيةٍ في محل النزاع ، فيدل ذلك على انتفاء علة الحكم في محل النزاع، وهذا مستقل عن انتفاء الحكم في محل النزاع وفساد القياس ، فإن الوصف الذي قصده الشارع في الأصل إذا كان منتفياً في الفرع علم أن الشارع لم يثبت الحكم في الفرع ، وانتفاء الحكم لانتفاء علته ، وهذا قياس العكس والفرق، وهو أحد نوعي القياس . وما تقدم إفسادٌ لقياس الطرد الذي استدلوا به ، وهذا إثبات لقياس العكس الدال على انتفاء الحكم في الفرع ، فذاك معارضة في الدليل ، وهذا دليل مستقل ، وهو يصح أن يكون معارضة في الحكم لو أقاموا عليه دليلاً ؛ فنقول : معلوم ] أنه ثبت بالنص والإجماع منع الصائم من الأكل والشرب والجماع ، وقد ثبت عن - النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " ولا ريب أن الدم يتولد من الطعام والشراب ، وإذا أكل أو شرب اتسعت مجاري الشياطين ؛ ولهذا [ قال ] : " فضيقوا مجاريه بالجوع " [ وبعضهم يذكر هذا اللفظ مرفوعًا ؛ ولهذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : " إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين " فإن مجاري الشياطين الذي هو الدم ضاقت ] ، وإذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات التي بها تفتح أبواب الجنة ، وإلى ترك المنكرات التي بها تفتح أبواب النار ، وصفدت الشياطين ، فضعفت قوتهم وعملهم بتصفيدهم ، فلم يستطيعوا أن يفعلوا في شهر رمضان ما كانوا يفعلونه في غيره ، ولم يقل : إنهم قتلوا ولا ماتوا ؛ بل قال : [ " صفدت " ] والمصفد من الشياطين قد يؤذي ، لكن هذا أقل وأضعف مما يكون في غير رمضان ، فهو بحسب كمال الصوم ونقصه ، فمن كان صومه كاملاً دفع الشيطان دفعًا لا يدفعه الصوم الناقص ، فهذه المناسبة ظاهرة في منع الصائم من الأكل والشرب ، والحكم ثابت على وفقه ، وكلام الشارع قد دل على اعتبار هذا الوصف وتأثيره ، وهذا المنع منتفٍ في الحقنة والكحل وغير ذلك . ولهذا جعل النبي- صلى الله عليه وسلم - الصوم وجاء لشهوة النكاح فقال :"يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج, فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج , ومن لم يستطع فعليه بالصوم " لأن الصوم يضيق المجاري ويقلل نشوة الإنسان وفرحه وطربه وما أشبه ذلك , فتضعف شهوة النكاح في حقه , وهذا ظاهر لأن هذا مما يدل على كلام شيخ الإسلام رحمه الله , أن الأكل والشرب إنما مُنِعَ منهما لهذا السبب . فإن قيل : بل الكحل قد ينزل إلى الجوف ويستحيل دمًا . قيل : هذا كما قد يقال في البخار الذي يصعد من الأنف إلى الدماغ فيستحيل دمًا ، [ وكالدهن ] الذي يشربه الجسم ، والممنوع منه إنما هو ما يصل إلى المعدة [ كالغذاء ] ، فيستحيل دمًا ويتوزع على البدن . ونجعل هذا وجهًا [ سادسًا ] ، فنقيس الكحل والحقنة ونحو ذلك على البخور والدهن ونحو ذلك ؛ لجامع ما يشتركان فيه من أن ذلك ليس مما يتغذى به البدن ويستحيل في المعدة دمًا ، وهذا الوصف هو الذي أوجب ألا تكون هذه الأمور مفطرة ، وهذا موجود في محل النزاع ، والفرع قد يتجاذبه أصلان فيلحق كلا منهما بما يشبهه من الصفات [ المعتبرة في الشرع ، وقد ذكرنا الصفة المعتبرة في الشرع . فإن قيل : فلو أكل تراباً ، أو حصى ، أو غير ذلك مما لا يغذي غذاءً نافعاً . ] قيل : هذا تطبخه المعدة ويستحيل دمًا ينمي عنه البدن لكنه غذاء ناقص ، فهو كما لو أكل سما أو نحوه مما يضره ، وهو بمنزلة من أكل أكلاً كثيرا أورثه تخمة ومرضًا ، فكان منعه في الصوم عن هذا أوكد ؛ لأنه ممنوع عنه في الإفطار [ ففي ] الصوم أوكد ، وهذا كمنعه من الزنا ، فإنه إذا منع من الوطء المباح فالمحظور أولى . بقي علينا أن نورد إيرادا ثانيا على هذه المسألة : فإن قيل لو أكل خرزة أو حديدة أو ما أشبه ذلك مما لايغذي إطلاقا وليس فيه تغذية فهل يفطر ؟ المسألة فيها خلاف , بعض العلماء يقول إنه لايفطر لأنه لاغذاء في ذلك , وبعضهم يقول إنه يفطر و ذلك لأنه أكل وصَدَقَ عليه أنه أكل والآية عامة { َكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ } فإذا أكل ولو ما لا غذاء فيه أصلا فإنه يفطر بذلك , على أنه قد يقال أيضا هذا الذي لايغذي أصلا لابد أن تمتلئ به المعدة فيغني عن الجوع أليس النبي- صلى الله عليه وسلم - يربط على بطنه الحجر من الجوع لأن المعدة تتلاءم فلا تتسع وتحتاج إلى طعام , فصار هنا نقول إنه لا يرد علينا لسببين : السبب الأول : أنه داخل في العموم ويسمى أكلا وشربا . السبب الثاني : أنه يملؤ المعدة فيحصل به تلاءم المعدة فيمنعه من الجوع . فإن قيل : فالجماع مفطر ، [ ودم الحيض مفطر ] ، وهذه العلة منتفية [ فيهما ] . قيل : تلك أحكام ثابتة بالنص والإجماع ، فلا يحتاج إثباتها إلى القياس ؛ بل يجوز أن تكون العلل مختلفة ، فيكون تحريم الطعام والشراب والفطر بذلك لحكمة ، وتحريم الجماع والفطر به لحكمة ، والفطر بالحيض لحكمة ، فإن الحيض لا يقال فيه : إنه [ يحرم ] وهذا لأن المفطرات بالنص والإجماع لما انقسمت إلى أمور اختيارية تحرم على العبد كالأكل والجماع ، وإلى أمور لا اختيار له فيها كدم الحيض ، كذلك تنقسم عللها . فنقول : أما الجماع فإنه باعتبار أنه سبب إنزال المني يجري مجرى الاستقاءة والحيض والاحتجام ـ كما سنبينه إن شاء الله تعالى ـ فإنه من نوع الاستفراغ لا الامتلاء كالأكل والشرب ، ومن جهة أنه إحدى الشهوتين ، فجرى مجرى الأكل والشرب ، [ و ] قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح عن الله ـ تعالى ـ " قال : الصوم لي وأنا أجزي به ، يدع شهوته وطعامه من أجلي " . فصار على كلام الشيخ رحمه الله أن الجماع يتجاذبه علتان : العلة الأولى : الاستفراغ. والعلة الثانية : الشهوة . فالاستفراغ يكون مقيسا على الحجامة والقيء , والشهوة مقيسة على الأكل والشرب . لكن العلة الأخيرة أوضح وأظهر وأعم أنه من أجل الشهوة , بدليل أنه قد يحصل جماع بلا إنزال فتنخرم علة الاستفراغ. فترك الإنسان ما يشتهيه لله هو عبادة مقصودة يثاب عليها كما يثاب المحرم على ترك ما اعتاده من اللباس والطيب ونحو ذلك من نعيم البدن ، لأن العبادات حقيقةً هي فعل وكف لابد منها , وإنما كان كذلك لأن من الناس من يسهل عليه الكف , ومن الناس من يسهل عليه الكف دون الفعل , فجمع الله تعالى في العبادات بين الفعل والكف حتى يتبين أن الإنسان عابد لله حقيقة لا عابد لهواه . إذن ترك الإنسان ما يشتهيه من الجماع وهو صائم هذا عبادة , وإن كان لا يتغذى بالجماع لكن نقول إن مجرد كونه يترك شهوته لله هو عبادة . والجماع من أعظم نعيم البدن ، وسرور النفس وانبساطها ، [ و ] هو يحرك الشهوة والدم والبدن أكثر من الأكل ، فإذا كان الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، والغذاء يبسط الدم الذي هو مجاريه ، فإذا أكل أو شرب انبسطت نفسه إلى الشهوات ، وضعفت إرادتها ومحبتها للعبادات ، فهذا المعنى في الجماع أبلغ ، فإنه يبسط إرادة النفس للشهوات ، ويضعف إرادتها عن العبادات أعظم , هذا باعتبار جنس بني آدم ,لكن من بني آدم من يجعل جِمَاعه عبادة كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم -:"وفي بضع أحدكم صدقة , قالوا يارسول الله : أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر , قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ؟ قالوا : نعم , قال : كذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر " فَيَعتَبِرُ أن جماعه عبادة , ولا يصده عن عبادة الله عز وجل , وهذا نبينا - صلى الله عليه وسلم - كان يدور على نساءه كلهن بغسل واحد ومع ذلك نعلم علم اليقين أنه أشد الناس عبادة لله عز وجل , لكن في الغالب أن الإنسان إذا انغمس في الشهوات غفل عن العبادات قال الله تعالى {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ }. بل الجماع هو غاية الشهوات ، وشهوته أعظم من شهوة الطعام والشراب ؛ ولهذا [ أوجب ] على المجامع كفارة الظهار ، فوجب عليه العتق أو ما يقوم مقامه بالسنة والإجماع ؛ لأن هذا أغلظ ، [ وداعيه ] أقوى ، والمفسدة به أشد ، فهذا أعظم الحكمتين في تحريم الجماع . هذا ما أشرنا إليه قبل قليل , أن حكمة كونه شهوةً كالطعام والشراب أبلغ وأشمل من أن يكون الحكمة فيه أنه استفراغ . وأما كونه يضعف البدن كالاستفراغ ، فذاك حكمة أخرى ، فصار فيهما كالأكل والحيض وهو في ذلك أبلغ منهما ، فكان إفساده الصوم أعظم من إفساد الأكل والحيض . فنذكر حكمة الحيض وجريان ذلك على وفق القياس ، فنقول : إن الشرع جاء بالعدل في كل شيء ، والإسراف في العبادات من الجور الذي نهى عنه الشارع وأمر بالاقتصاد في العبادات ؛ ولهذا أمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور ، ونهى عن الوصال وقال : " أفضل الصيام وأعدل الصيام صيام داود عليه السلام ، [ و ] كان يصوم يومًا ويفطر يومًا ، ولا يَفِرُّ إذا لاقَى " ، الحكمة من قوله " ولا يفر إذا لاقى " هي : أنَّ كونه يصوم يوما ويفطر يوما لا يُضعفه عن الصبر عند لقاء العدو , وكأن الرسول يشير إلى أنه لو صام الإنسان مواصلا لأضعفه عن الصبر عند ملاقاة العدو . فالعدل في العبادات من أكبر مقاصد الشارع ؛ ولهذا قال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ " الآية [المائدة : 87] ، فجعل تحريم الحلال من الاعتداء المخالف للعدل ، وقال تعالى : " فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ " [النساء : 161،160] ، فلما كانوا ظالمين عوقبوا بأن حرمت عليهم الطيبات ؛ بخلاف الأمة الوسط العدل ، فإنه أحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث . فإذا قال قائل : فهذا الآن مفقود في الشريعة الإسلامية بمعنى أن الحلال حلال والحرام حرام , فلو ظلم الإنسان نفسه فهل يمكن أن يعاقب بتحريم الحلال والطيبات ؟ قلنا شرعا لايمكن وأما قَدَرَاً فيمكن بأن يصاب بفقر أو يصاب بمرض يُمنع معه من بعض الأطعمة أو ما أشبه ذلك , فالتحريم الشرعي انتهى وقته لكن التحريم القدري لم ينتهي وقته فربما يُحرَمُ الإنسان الرزق من الطيبات بظلمٍ ظلم نفسه . وإذا كان كذلك ، فالصائم قد نهي عن أخذ ما يقويه ويغذيه من الطعام والشراب ، فينهى عن إخراج ما يضعفه ويخرج مادته التي بها يتغذى ، وإلا فإذا مكن من هذا ضره [ ذلك ] ، وكان متعديًا في عبادته لا عادلاً . [ والخارجات ] نوعان : نوع يخرج لا يقدر على الاحتراز منه أو [ على وجه ] لا يضره ، فهذا لا يمنع منه كالأخبثين ، فإن خروجهما لا يضره ، ولا يمكنه الاحتراز منه أيضا ، ولو استدعى خروجهما فإن خروجهما لا يضره بل ينفعه ، وكذلك إذا ذرعه القيء لا يمكنه الاحتراز منه ، وكذلك الاحتلام في المنام لا يمكنه الاحتراز منه ، وأما إذا استقاء فالقيء يخرج ما يتغذى به من الطعام والشراب المستحيل في المعدة ، وكذلك الاستمناء مع ما فيه من الشهوة فهو يخرج المني الذي هو مستحيل في المعدة عن الدم ، فهو يخرج الدم الذي يتغذى به ؛ ولهذا كان خروج المني إذا أفرط فيه يضر الإنسان ويخرج أحمر . والدم الذي يخرج [ زمن الحيض ] فيه خروج الدم ، والحائض يمكنها أن تصوم في غير أوقات الدم في حال لا يخرج فيها دمها ، فكان صومها في تلك الحال صوما معتدلا لا يخرج فيه الدم الذي يقوي البدن الذي هو مادته ، وصومها في الحيض يوجب أن يخرج فيه دمها الذي هو مادتها ، ويوجب نقصان بدنها وضعفها وخروج صومها عن الاعتدال ، فأمرت أن تصوم في غير أوقات الحيض . بخلاف المستحاضة ؛ فإن الاستحاضة تعم [ أوقات ] الزمان ، وليس لها وقت تؤمر فيه بالصوم [ ؛ بل لو أخرته زمن الاستحاضة إلى وقتٍ آخر ، فقد يكون الآخر زمن الاستحاضة ] ، وكان ذلك لا يمكن الاحتراز منه كذرع القيء ، وخروج الدم بالجراح والدمامل والاحتلام ونحو ذلك مما ليس له وقت محدد يمكن الاحتراز منه فلم يُجعل هذا منافيا للصوم كدم الحيض . المستحاضة تصوم مع أنه يلحقها ضعف بخروج الدم منها فإذا كانت لا تحتمل الصيام من أجل ضعفها فالغالب أن المستحاضة لايرجى زوال مرضها فتطعم عن كل يوم مسكينا كغيرها من ذوي المرض الذي لايرجى برؤه . وطرد هذا : إخراج الدم بالحجامة والفصاد ونحو ذلك ، فإن العلماء متنازعون في الحجامة : هل تفطر الصائم أم لا ؟ والأحاديث الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : " أفطر الحاجم والمحجوم " كثيرة قد بينها الأئمة الحفاظ . وقد كره غير واحد من الصحابة الحجامة للصائم ، وكان منهم من لا يحتجم إلا بالليل . وكان أهل البصرة إذا دخل شهر رمضان أغلقوا حوانيت الحجامين . والقول بأن الحجامة تفطر مذهب أكثر فقهاء الحديث كأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وابن خزيمة ، وابن المنذر وغيرهم . وأهل الحديث الفقهاء فيه العاملون به أخص الناس باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - . المؤلف رحمه الله اشترط ثلاثة شروط :1=أهل الحديث ,2= الفقهاء فيه ,3= العاملون به , هؤلاء أخص الناس به- صلى الله عليه وسلم . هناك أهل حديث ينقلونه رواية لكن ليس لهم به دراية وفقه , فهؤلاء يدخلون في قول الرسول- صلى الله عليه وسلم - "رب مبلغ أوعى من سامع ", ولاشك أنهم مثابون ومأجورون على عملهم وعلى اجتهادهم , لكن إذا اجتمع أهل حديث وفقهاء كالإمام أحمد مثلا , وعاملون به أيضا تمت الشروط , أي شروط تحقيق وتحقُّقِ المتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم . والذين لم يروا إفطار المحجوم احتجوا بما ثبت في الصحيح : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم محرم ، وأحمد وغيره طعنوا في هذه الزيادة ، وهي قوله : " وهو صائم " ، وقالوا : الثابت أنه احتجم وهو محرم ، قال أحمد : قال يحيى بن سعيد : قال شعبة : لم يسمع الحكم حديث مقسم في الحجامة للصائم ، يعنى حديث شعبة ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم محرم . قال مهنا : سألت أحمد عن حديث حبيب بن الشهيد ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس ؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهـو صائم محرم ، فقال : ليس بصحيح . وقد أنكره يحيى بن سعيد الأنصاري [ إنما كانت أحاديث ميمون بن مهران عن ابن عباس نحو خمسة عشر حديثاً ] . قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله [ رد ] هذا الحديث فضعفه ، وقال : كانت كتب الأنصاري ذهبت في [ أيام المنتصر ] ، فكان بعد يحدث من كتب غلامه ، وكان هذا من تلك . وقال مهنا : سألت أحمد عن حديث قبيصة ، عن سفيان ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس [ " احتجم النبي – صلى الله عليه وسلم – صائماً محرماً " ] فقال : هو خطأ من قبل قبيصة . وسألت يحيى عن قبيصة فقال : رجل صدق ، و [ الحديث ] الذي يحدث به عن سفيان عن سعيد خطأ من قبله . قال مهنا : [ و ] سألت أحمد عن حديث ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم صائم ، فقال : ليس فيه : صائم ، إنما هو محرم ، ذكره سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس [ : احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - على رأسه وهو محرم ، عن طاوس وعطاء مثله عن ابن عباس ] ، وعن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن خثيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مثله ، وهؤلاء أصحاب ابن عباس لا يذكرون [ فيه ] : صائماً . من المعلوم أن الحجامة تحتاج إلى حلق لأنه لا يمكن أن يحتجم الإنسان وعليه شعر ولا سيما مثل شعر النبي- صلى الله عليه وسلم - إلا بحلق , فقد حلق النبي- صلى الله عليه وسلم - موضع الحجامة بلا شك ولم يذكر أنه فدى , ولما احتاج كعب بن عجرة رضي الله عنه إلى حلق رأسه كله أُمِرَ بالفدية فما الفرق ؟ يقال الفرق أن الحجامة لا تستوعب كل الرأس وإنما تستوعب جزءاً يسيراً منه , فيؤخذ من ذلك أن ما ذكره بعض الفقهاء :أن الإنسان إذا أخذ ثلاث شعرات من رأسه وجبت عليه الفدية , وبعضهم يقول إذا أخذ الربع ربع الرأس وجبت عليه فدية , الربع قد يكون غير معارض لهذا الحديث , لكن ثلاث شعرات قطعا معارض لهذا الحديث , ولهذا كان الصحيح في هذه المسألة أنه لايفدي من حلق شيئا من رأسه إلا إذا أزال منه ما يزول به الأذى , أما الشيء اليسير فإنه يحرم عليه لكن ليس فيه فدية . قلت : وهذا الذي ذكره الإمام أحمد هو الذي اتفق عليه الشيخان : البخاري ومسلم ؛ ولهذا [ أعـرض مسلم ] عـن الحـديث الذي [ فيه ] ذكر حجامة الصائم ، ولم [ يثبت إلا ] حجامة المحـرم [ كما ذكر الإمام أحمد ، فأخرجا في الصحيحين عن عمرو ، عن طاووس ، عن ابن عباس قال : احتجم النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو محرم ] . [ وتأولوا ] أحـاديث الحجامـة بتأويلات ضعيفة ، كقولهم : كانا يغتابان ، وهذا في الحقيقة من التحريف البالغ , إذا قال مثلا : كانا يغتابان , يعني مر بهما النبي– صلى الله عليه وسلم – وكانا يغتابان فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – "أفطر الحاجم والمحجوم " هذا غلط عظيم , لأنه لا يمكن أن يذكر وصفا هو مناط الحكم ثم يلغي الوصف الذي هو مناط الحكم , لأنه لو كان إفطارهما من أجل الغيبة لقال : أفطر المغتابان ولا يقول أفطر الحاجم والمحجوم , فكيف يمكن أن نثبت معنى عُلِّق عليه الحكم لم يذكر في الحديث ونلغي ما ذُكِر في الحديث هذا من التحريف الذي فيه الخطأ من وجهين : الوجه الأول : إثبات علة لم يذكرها الشارع . الثاني : نفي علة ذكرها الشارع . فهذا غير مستقيم . وقولهم : أفطرا لسبب آخر . كيف لسبب آخر أين السبب الآخر ؟ ثم إن الحاجم اسم فاعل والمحجوم اسم مفعول فهما وصفان مشتقان فيفيدان العِليَّة , كما لوقلت : أكرم المجتهد ؟ يعني لاجتهاده , لأن هذا الذي يدل عليه المشتق . فأفطر الحاجم : يعني لكونه حَجَم , أفطر المحجوم : لكونه حُجِم , على كلِّ حال هذه تأويلات باردة في الواقع , وهذه كما يوجد في الأحكام الفقهية يوجد في الأحكام العلمية العقدية كما فعل أهل التحريف المعطلة الذين قالوا : المراد بعين الله كذا , المراد بيده كذا , المراد بقدمه كذا , فهم جنوا على النصوص من وجهين : نفي ما دلت عليه وإثبات مالم تدل عليه , ولهذا أنا أكرر عليكم دائما وأقول : استدلوا قبل أن تحكموا , لأن الشرع هو البينة ولا يمكن أن يحكم الإنسان إلا بوجود البينة , أما أن تحكموا ثم تستدلوا فثقوا أنكم سوف تنجرفون لأن الإنسان لابد مع الهواء أن يتجانح , فالواجب على الإنسان أن يستدل أولا ثم يحكم ثانيا سواء كان ذلك بعقيدة أو في أحكام فقهية . وأجود ما قيل : ما ذكره الشافعي وغيره[ من ] أن هذا منسوخ ، فإن هذا القول كان في [ ثمان عشرة من ] رمضان ، واحتجامه وهو [ صائم ] محرم كان بعد ذلك ؛ لأن الإحرام بعد رمضان ، وهذا ـ أيضا ـ ضعيف [ فإن احتجامه وهو محرم صائمٌ ، ليس فيه أنه كان بعد شهر رمضان الذي قال فيه : " أفطر الحاجم والمحجوم " ] ، بل هو صلوات الله عليه أحرم سنة ست عام الحديبية بعمرة في ذي القعـدة ، وأحـرم مـن العام القابل بعمرة القضية في ذي القعدة ، وأحرم من العام الثالث سنة الفتح من الجعرانة في ذي القعدة بعمرة ، وأحرم سنة عشر بحجة الوداع [ في ذي القعدة ] ، فاحتجامه [ صلى الله عليه وسلم ] وهو [ محرم ] صائم لم يبين في أي الإحرامات كان . [ وإنما يمكن دعوى النسخ بشرطين : أحدهما : أن يكون ذلك في حجته ، أو في عمرة الجعرانة ؛ فإن قوله : " أفطر الحاجم والمحجوم " فيه أنه كان في غزوة الفتح ، فلعل احتجامه كان في عمرته قبل هذا ، إما عمرة القصية ، وإما عمرة الحديبية . الثاني : أن يعلم أنه لمَّا احتجم لم يفطر ، وليس في هذا الحديث ما يدل على هذا ، وذلك الصوم لم يكن شهر رمضان ، فإنه لم يحرم في شهر رمضان ، وإنما كان في السفر ، والصوم في السفر لم يكن واجباً ؛ بل الذي ثبت عنه في الصحيح : أن الفطر في السفر كان آخر الأمرين منه ، وأنه خرج عام الفتح حتى إذا بلغ كديد أفطر ، والناس ينظرون إليه ، ولم يعرف بعد هذا أنه صام في سفر ، ولا علمنا أنه صام في إحرامه بالحج ؛ ( فهذا مما يقوي ) ] أن إحرامه الذي احتجم فيه كان قبل فتح مكة ، [ قوله ] : " أفطر الحاجم والمحجوم " ، [ فإنه ] كان عام الفتح بلا ريب هكذا [ جرى ] في أجود الأحاديث . [ وروى أحمد بإسناده ، عن ثوبان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى على رجل يحتجم في رمضان قال : " أَفطر الحاجم والمحجوم " ] . وقال أحمد : أنبأنا إسماعيل ، عن خالد الحذاء ، عن أبى قلابة ، عن [ أبي ] الأشعث ، عن شداد ابن أوس أنه مر مع النبي- صلى الله عليه وسلم - زمن الفتح على رجل [ يحتجم ] بالبقيع لثمان عشرةَ ليلةً خلت من رمضان ، فقال : " أفطر الحاجم والمحجوم " ، [ وقال الإمام أحمد أيضاً : حدثنا إسماعيل قال : ثنا هشام الدستوائي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثوبان ، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أتى على رجلٍ يحتجم في رمضان ، فقال : " أفطر الحاجم والمحجوم " ، وقال : حدثنا أبو الجواب ، عن عمار بن زريق ، عن عطاء بن السائب قال : حدثني الحسن ، عن معقل بن سنان الأشجعي أنه قال : مرَّ عليَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – وأنا أحتجم في ثمان عشرة خلت من رمضان ، فقال : " أفطر الحاجم والمحجوم " ، وذكر الترمذي عن علي بن المديني أنه قال : أصح شيءٍ في هذا الباب حديث ثوبان ، وحديث شداد بن أوس ] ، وقال الترمذي : سألت البخاري ، فقال : ليس في هذا الباب أصح من حديث شداد بن أوس ، وحديث ثوبان ، فقلت : وما فيه من الاضطراب ؟ فقال : كلاهما عندي صحيح ؛ لأن يحيى بن سعيد روى عن أبى قلابة ، عن أبى أسماء ، عن ثوبان ، [ و ] عن أبى الأشعث ، عن شداد الحديثين جميعاً . قلت : وهذا الذي ذكره البخاري من أظهر الأدلة على صحة كلا الحديثين اللذين رواهما أبو قلابة [ .. فإن الذي قال : مضطرب ، إنما هو لأنه روي عن أبي قلابة بإسنادين . فبين أن يحيى بن سعيد الإمام روى عن أبي قلابة بهذا الإسناد ، [ وهذا الإسناد ] ومثل هذا كان يكون عنده الحديث بطرق . والزهري روى الحديث بإسناده عن سعيد عن أبي هريرة ، وتارة عن غيره عن أبي هريرة ، فيكون هذا هو الناسخ ، ولو لم يعلم التاريخ . فإذا تعارض خبران أحدهما ناقلٌ عن الأصل والآخر مبقٍ على الأصل كان الناقل هو الذي ينبغي أن يجعل ناسخاً ، لئلا يلزم تغير الحكم مرتين ، فإذا قدر احتجامه قبل نهيه الصائم عن الحجامة لم يغير الحكم الأمر ، وإن قدر بعد ذلك لزم تغييره مرتين . وأيضاً ، فإذا لم يكن الصوم واجباً فقد يكون أفطر بالحجامة للحاجة ، فقد كان يفطر في صوم التطوع لما هو دون ذلك ؛ فيدخل إلى بيته ، فإن قالوا : عندنا طعام ، قال : قربوه ؛ فإني أصبحت صائماً . وابن عباس وإن لم يعلم ما في نفسه ، غايته أنه رآه أو أخبره من رآه أنه أصبح صائماً واحتجم ، وهذا لا يقتضي أنهم علموا من نفسه أنه استمر صومه ، وكأن من ادعى عليه النسخ تغْلُبُ عليه هذه الحجة من وجهين : أحدهما : أنه لا حجة فيه . والثاني : أنه منسوخ . وقد روي ما يدل على أن الفطر هو الناسخ ، ومما احتج به على النسخ : ما رواه الدارقطني : حدثنا البغوي قال : ثنا عثمان بن أبي شيبة قال : ثنا خالد بن مخلد ، عن عبد الله بن المثنى ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : أولُ ما كرهنا الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمرَّ به النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال : " أفطر هذان " . ثم رخَّص النبي – صلى الله عليه وسلم – بالحجامة للصائم . وكان أنس يحتجم وهو صائم . قال الدارقطني : كلهم ثقات ، ولا أعلم له علة . قال أبو الفرج ابن الجوزي : قال أحمد بن حنبل : خالد بن مخلد له أحاديث مناكير . قلت : ومما يدل على أن هذا من مناكيره : أنه لم يروه أحد من أهل الكتب المعتمدة ، مع أنه في الظاهر على شرط البخاري . والمشهور عن البصريين أن الحجامة تفطر ، وأيضاً : فجعفر بن أبي طالب إنما قدم من الحبشة عام خيبر في آخر سنة ست ، أو أول سنة سبع ، فإن خيبر كانت في هذه المدة في سنة سبع ، وقيل عام مؤتة قبل الفتح ، ولم يشهد فتح مكة ، فصام مع النبي – صلى الله عليه وسلم – واحداً سنة سبع . وإذا كان هذا الحكم قد شرع في ذلك العام فإنه ينشر ويظهر . والحديث المتقدم كان سنة ثمانٍ بعد هذا . فإن كان هذا محفوظاً فيكون النبي – صلى الله عليه وسلم – قد قال ذلك في عام بعد عام ، ولم ينقل عنه أحد لفظاً ثابتاً أنه رخص في الحجامة بعد ذلك ، فلعل هذا مدرج عن أنس لم يقله هو ، ولعل أنساً بلغه أنه أرخص ولم يسمع ذلك منه ، ولعل بعض التابعين حدثه بذلك . ومما يبين أن هذا ليس بمحفوظٍ عن أنس ولا عن ثابت : ما رواه البخاري في صحيحه عن ثابت قال : سئل أنس بن مالك : أكنتم تكرهون الحجامة للصائم ؟ قال : لا ، إلا من أجل الضعف . وفي رواية : على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – . فهذا ثابت يذكر عن أنس أمر الحجامة وليس فيها إلا أنهم كانوا يكرهونها من أجل الضعف ، ليس فيها أنه فطر الحاجم ، ولا أنه رخص فيها بعد ذلك ، وكلاهما يناقض قوله : لم يكونوا يكرهونها إلا من أجل الضعف . فإنه لو كان علم أنه فطر بها لم يقل هذا ، ولو علم أنه رخص فيها لم يكره ما أرخص فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – فعلم أن أنساً إنما كان عنده علم بما رآه من الصحابة من كراهة الحجامة لأجل الضعف ، وهذا معنى صحيح ، وهو العلة في إفطار الصائم كما يفطر بالاستقاءة ، و تفطر المرأة بدم الحيض . ] . ومما يقوي أن الناسخ هو [ الفطر ] بالحجامة أن ذلك رواه عنه خواص أصحابه الذين كانوا يباشرونه حضرا وسفرًا ، ويطلعون على باطن أمره مثل : بلال وعائشة ، ومثل : أسامة وثوبان مولياه ، ورواه عنه الأنصار الذين هم بطانته ، مثل : رافع بن خديج وشداد ابن أوس ، [ ففي ] مسند أحمد : [ ثنا عبد الرزاق ، قال : ثنا معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن قارظ ، عن السائب بن يزيد ] عن رافع بن خديج ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أفطر الحاجم والمحجوم " . قال أحمد [ بن حنبل ] : أصح شيء في هذا الباب حديث رافع [ بن خديج ] ، وذكر أحاديث : " أفطر الحاجم والمحجوم " [ وقال أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن أشعث الحراني ، عن أسامة بن زيد ، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " أفطر الحاجم والمحجوم " وقال أحمد : حدثنا يزيد بن هارون قال : ثنا أبو العلاء ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن بلال قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : " أفطر الحاجم والمحجوم " ، وقال أحمد : حدثنا علي بن عبد الله قال : ثنا عبد الوهاب الثقفي قال : ثنا يونس بن عبيد ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : " أفطر الحاجم والمحجوم " ، وقال أحمد : حدثنا أبو النضر قال : ثنا أبو معاوية ، عن سفيان ، عن ليث ، عن عطاء ، عن عائشة قالت : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : " أفطر الحاجم والمحجوم " ، والحسن البصري وإن قيل : إنه لم يسمع من أسامة وأبي هريرة فقد كان عنده من هذا الباب عدة أحاديث عن الصحابة يفتي بها عن معقل بن سنان وأسامة وأبي هريرة ، قال البخاري : وكان الحسن ... ، وكانت البصرة إذا دخل شهر رمضان يغلقون حوانيت الحجامين . ذكره أحمد وغيره . وأنس بن مالك كان آخر من مات بالبصرة ، والبصريون كلهم يأخذون عنه ، فلو كان عند أنس سنة من النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه رخص فيها بعد النهي ، لكان هذا مما يعرفه البصريون منه ، وكانوا يأخذون به الحسن وأصحابه ، لاسيما وقد ذكر أن ثابتاً سمع هذا من أنس ، وثابت من مشايخها المشهورين [ من ] أخص أصحاب الحسن ، فكيف يكون أنس عنده هذه السنة وأهل البصرة قد اشتهر بينهم السنة المنسوخة ، وهذه الناسخة عند أنس ، وهم يأخذون ليلاً ونهاراً ، ولا يعرفون هذه السنة ، ولا تحفظ عن علمائهم الذين اشتهر عنهم أمر الفطر ، ويؤيد ذلك أن أبا قلابة هو أيضاً من أخص أصحاب أنس ، وهو الذي يروي قوله : " أفطر الحاجم والمحجوم " من طريقين . ثم القائلون بأن الحجامة تفطر ، اختلفوا على أربعة أقوال في مذهب أحمد وغيره ] : أحدها : يفطر المحجوم دون الحاجم [ فإن الحاجم لم يوجد منه ما يفطر ، وهذا الذي ] ذكره الخرقي [ فإنه ذكر في المفطرات : إذا احتجم ، ولم يذكر إذا حجم ] ؛ لكن المنصوص عن أحمد وجمهور أصحابه الإفطار بالأمرين ، والنص دال على ذلك فلا سبيل إلى تركه [ ولو لم نعقل علته ] . والثاني : أنه يفطر المحجوم الذي يحتجم ويخرج منه [ الدم ] ، ولا يفطر بالافتصاد ونحوه ؛ [ لأنه ] لا يسمى احتــجاماً ، وهذا قول القاضي وأصحابه [ وهو الذي ذكره صاحب المحرر ، ثم على هذا القول ] ، فالتشريط في الآذان هل هو داخل في مسمى الحجامة ؟ تنازع فيه المتأخرون . [ فبعضهم ] يقول : التشريط [ كالحجامة ] ، [ كما يقوله ] شيخنا أبو محمد المقدسي ، وعليه يدل كلام العلمـاء قاطبـة ، [ فإنه ليس ] منهـم [ من ] خص التشريط بذكر ، ولو كان عندهم لا يدخل في الحجامـة لذكروه [ ، كما ذكروا الفصاد ] . فعلم أن التشريط عندهم من نوع الحجامة ، وقال شيخنا أبو محمد : هذا هو الصواب ، [ ومنهم من قال : التشريط ليس من الحجامة ؛ بل هو أضعف من الفصاد ، فإذا قيل : الفصاد لا يفطر ، احتمل التشريط وجهان ، وهذا قول أبي عبد الله بن حمدان . والأول أصح ، فإن التشريط نوع من الحجامة أو مثلها من كل وجه ، إذ الحجامة لا تختص بالساق ؛ بل تكون في الرأس والعنق والقفا وغير ذلك ، ومن فرَّق بينهما قال : الشارط لا يمتص من قارورة الدم كما يمتص الحاجم ، فلا يدخل في لفظ الحاجم ، وكذلك لا يدخل في لفظ المحجوم ، فيقال : بل هو داخل في لفظ المحجوم ، وإن لم يدخل في لفظ الحاجم ، أو إن لم يدخل في اللفظ فهو مثله من كل وجه ، وليس بينهما فرق أصلاً ، وقد يقال : الشارط حاجم أيضاً ، لكن لا يفطر ، لأن لفظ الرسول يتناول الحاجم المعروف المعتاد ، ولم يكونوا يشرطون . وأما لفظ المحجوم ، فإنه يتناول ما كان يعرفه وما لا يعرفه لأن المعنى المدلول عليه بلفظ المحجوم يتناول ذلك كله ، بخلاف المعنى المقصود بلفظ الحاجم ، أو يقال : وإن شمله لفظ الحاجم ، لكن الحاجم الممتص أقوى لأنه ذريعة إلى وصول الدم إلى حلقه هذا على ما نصرناه . ومنهم من يقول : بل الشارط يفطر أيضاً ، وهو قول من يجعل اللفظ يتناولهما ، ويجعل الحكم تعبداً ، وهؤلاء الذين قالوا : يفطر بالحجم دون الفصاد ، قالوا : هذا الحكم تعبد لا يعقل معناه ، فلا يقاس عليه ، وقال : لهذا بعض هؤلاء قولاً ثالثاً ، قاله ابن عقيل ، وهو : أنه يفطر المحجوم بنفس شرط الجلد ، وإن لم يخرج الدم ، قال : لأن هذا يسمى حجامة . وهذا أضعف الأقوال ] . والرابع : وهو الصواب واختاره أبو المظفر بن هبيرة ـ الوزير العالم العادل ـ [ وذكره المذهب ] وغيره أنه يفطر بالحجامة والفصاد ونحوهما ؛ وذلك لأن المعنى الموجود في الحجامة موجود في الفصاد شرعا [ وعقلاً ] وطبعاً ، وحيث حض النبي - صلى الله عليه وسلم - على الحجامة وأمر بها ، فهو حض على ما في معناها من الفصاد وغيره ؛ لكن الأرض الحارة تجتذب الحرارة فيها دم البدن ، فيصعد إلى سطح الجلد فيخرج بالحجامة ، والأرض الباردة يغور الدم فيها إلى العروق هربًا من البرد ، فإن شبه الشيء منجذب إليه ، كما تسخن الأجواف في الشتاء وتبرد في الصيف ، فأهل البلاد الباردة لهم الفصاد وقطع العروق ، كما للبلاد الحارة الحجامة ، لا فرق بينهما في شرع ولا عقل . وقد بينا أن الفطر بالحجامة على وفق [ الأصول والقياس ] ، وأنه من جنس الفطر بدم الحيض والاستقاءة [ وبالاستمناء ] ، وإذا كان كذلك ، فبأي وجه أراد [ إخراج ] الدم أفطر ، كما أنه بأي وجه أخرج القيء أفطر [ به ، كما يفطر بأي وجهٍ استقاء ] ، سواء جذب القيء بإدخال يده ، أو بشم مايقيئه ، أو وضع يده تحت بطنه واستخرج القيء ، فتلك طرق لإخراج القيء ، وهذه طرق لإخراج الدم ؛ ولهذا كان خروج الدم بهذا [ و ] هذا سواء في باب الطهارة ، فتبين بذلك كمال الشرع واعتداله وتناسبه ، وأن ما ورد من النصوص ومعانيها فإن بعضه يصدق [ بعضه ] بعضاً ويوافقه " وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا " [ النساء: 82 ] . وأما الحاجم ، فإنه يجتذب الهواء الذي في القارورة بامتصاصه ، والهواء يجتذب ما فيها من الدم ، فربما صعد مع الهواء شيء من الدم [ ودخل ] في حلقه وهو لا يشعر ، والحكمة إذا كانت [ خفية ] أو منتشرة علق الحكم بالمظنة ، كما أن النائم الذي [ تخرج ] منه الريح ولا يدري يؤمر بالوضوء ، فكذلك الحاجم يَدْخُلُ شيءٌ من الدم مع ريقه إلى [ بطنه ] وهو لا يدري . والدم من أعظم المفطرات ، فإنه حرام في نفسه لما فيه من طغيان الشهوة ، والخروج عن العدل ، والصائم أمر بحسم مادته ، فالدم يزيد الدم فهو من جنس المحظور ، فيفطر الحاجم لهذا ، كما ينتقض وضوء النائم ، وإن لم [ يستيقن ] خروج الريح منه ؛ لأنه يخرج ولا يدري ، [ وكذلك الحاجم ] قد يدخل الدم في حلقه وهو لا يدري . وأما الشارط فليس بحاجم ، وهذا المعنى منتف فيه ، فلا يفطر الشارط ، وكذلك لو قدر حاجم لا [ يمص ] القارورة بل [ يمتص ] [ غيرها ] أو يأخذ الدم بطريق [ أخرى ] لم يفطر . والنبي - صلى الله عليه وسلم - كلامه خرج على الحاجم المعروف المعتاد . وإذا كان اللفظ عامًا وإن كان [ قصده ] شخصًا بعينه ، [ فيشترك في الحكم سائر النوع ؛ للعادة الشرعية ] من أن ما ثبت في حق الواحد من الأمة ثبت في حق الجميع ، فهذا أبلغ ، فلا يثبت بلفظه ما يظهر لفظا ومعنى أنه لم يدخل فيه مع بُعده عن الشرع والعقل ، [ والله أعلم ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا ] . المؤلف رحمه الله ذكر ثلاثة أشياء : الحجامة والشرط والفصد , فالحجامة معروفة , والشرط : أن يُشَقَّ العرق طولا ويخرج الدم , أما الفصد : فأن يُجرح العرق عرضا فيخرج الدم . وما قاله الشيخ رحمه الله هو الصواب , وعلى هذا فإذا قُدِّر حجامة بالآلات الحديثة لا يمتص فيها الحاجم قارورة الدم فإنه لا يفطر بذلك , كما أن الفاصد لا يفطر و الشارط لا يفطر أيضا والله أعلم . نسأل الله تعالى أن يبارك لنا ولكم في شهرنا وأن يعيننا وإياكم على طاعته وأن يجعلنا ممن يصومه ويقومه إيمانا واحتسابا إنه على كل شيء قدير. التعديل الأخير تم بواسطة احمد الشهري ; 10-10-2007 الساعة 03:02PM |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد | أبو عبد الرحمن السلفي1 | منبر التوحيد وبيان ما يضاده من الشرك | 4 | 08-11-2007 12:07PM |
شرح كتاب ثلاثة الأصول | أبو عبد الرحمن السلفي1 | منبر التوحيد وبيان ما يضاده من الشرك | 3 | 13-10-2007 08:38PM |
أصول في التفسير (للشيخ/محمد بن صالح العثيمين رحمه الله) | طارق بن حسن | منبر القرآن العظيم وعلومه | 1 | 13-12-2006 12:12AM |