|
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | تقييم الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
تفسير القرآن العظيم ( تفسير الإمام السعدي ) رحمه الله تعالى .
بسم الله الرحمن الرحيم
فهذه سلسلة من التفسيرات الجلية إخترنا منها تفسير الإمام عبدالرحمن بن ناصر السعدي ( رحمه الله تعالى ) . سورة الفاتحة " بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " أي : أبتدئ بكل اسم لله تعالى لأن لفظ اسم مفرد مضاف فيعم جميع الأسماء [ الحسنى ] " الله " : هو المألوه المعبود المستحق لإفراده بالعبادة لما اتصف به من صفات الألوهية وهي صفات الكمال " الرحمن الرحيم " : اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء وعمت كل حي وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة ومن عداهم فلهم نصيب منها واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها الإيمان بأسماء الله وصفاته وأحكام الصفات فيؤمنون مثلا بأنه رحمن رحيم ذو الرحمة التي اتصف بها المتعلقة بالمرحوم فالنعم كلها أثر من آثار رحمته وهكذا في سائر الأسماء يقال في العليم : إنه عليم ذو علم يعلم [ به ] كل شيء قدير ذو قدرة يقدر على كل شيء " الحمد لله " : [ هو ] الثناء على الله بصفات الكمال وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل فله الحمد الكامل بجميع الوجوه " رب العالمين " الرب : هو المربي جميع العالمين - وهم من سوى الله - بخلقه لهم وإعداده لهم الآلات وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة التي لو فقدوها لم يمكن لهم البقاء فما بهم من نعمة فمنه تعالى وتربيته تعالى لخلقه نوعان : عامة وخاصة فالعامة : هي خلقه للمخلوقين ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا والخاصة : تربيته لأوليائه فيربيهم بالإيمان ويوفقهم له ويكمله لهم ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه وحقيقتها : تربية التوفيق لكل خير والعصمة عن كل شر ولعل هذا [ المعنى ] هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة فدل قوله : " رب العالمين " على انفراده بالخلق والتدبير والنعم وكمال غناه وتمام فقر العالمين إليه بكل وجه واعتبار " مالك يوم الدين " المالك : هو من اتصف بصفة الملك التي من آثارها أنه يأمر وينهى ويثيب ويعاقب ويتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات وأضاف الملك ليوم الدين وهو يوم القيامة يوم يدان الناس فيه بأعمالهم خيرها وشرها لأن في ذلك اليوم يظهر للخلق تمام الظهور كمال ملكه وعدله وحكمته وانقطاع أملاك الخلائق حتى [ إنه ] يستوي في ذلك اليوم الملوك والرعايا والعبيد والأحرار كلهم مذعنون لعظمته خاضعون لعزته منتظرون لمجازاته راجون ثوابه خائفون من عقابه فلذلك خصه بالذكر وإلا فهو المالك ليوم الدين ولغيره من الأيام وقوله : " إياك نعبد وإياك نستعين " أي : نخصك وحدك بالعبادة والاستعانة لأن تقديم المعمول يفيد الحصر وهو إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه فكأنه يقول : نعبدك ولا نعبد غيرك ونستعين بك ولا نستعين بغيرك وتقديم العبادة على الاستعانة من باب تقديم العام على الخاص واهتماما بتقديم حقه تعالى على حق عبده والعبادة : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة والاستعانة : هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة به في تحصيل ذلك والقيام بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية والنجاة من جميع الشرور فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما وإنما تكون العبادة عبادة إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصودا بها وجه الله فبهذين الأمرين تكون عبادة وذكر الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى فإنه إن لم يعنه الله لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر واجتناب النواهي ثم قال تعالى : " اهدنا الصراط المستقيم " أي : دلنا وأرشدنا ووفقنا للصراط المستقيم وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله وإلى جنته وهو معرفة الحق والعمل به فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط فالهداية إلى الصراط : لزوم دين الإسلام وترك ما سواه من الأديان والهداية في الصراط تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علما وعملا فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته لضرورته إلى ذلك وهذا الصراط المستقيم هو : " صراط الذين أنعمت عليهم " من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين " غير " صراط " المغضوب عليهم " الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم وغير صراط " الضالين " الذين تركوا الحق على جهل وضلال كالنصارى ونحوهم فهذه السورة على إيجازها قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة : توحيد الربوبية يؤخذ من قوله : " رب العالمين " وتوحيد الإلهية وهو إفراد الله بالعبادة يؤخذ من لفظ : " الله " ومن قوله : " إياك نعبد " وتوحيد الأسماء والصفات وهو إثبات صفات الكمال لله تعالى التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه وقد دل على ذلك لفظ " الحمد " كما تقدم وتضمنت إثبات النبوة في قوله : " اهدنا الصراط المستقيم " لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة وإثبات الجزاء على الأعمال في قوله : " مالك يوم الدين " وأن الجزاء يكون بالعدل لأن الدين معناه الجزاء بالعدل وتضمنت إثبات القدر وأن العبد فاعل حقيقة خلافا للقدرية والجبرية بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع [ والضلال ] في قوله : " اهدنا الصراط المستقيم " لأنه معرفة الحق والعمل به وكل مبتدع [ وضال ] فهو مخالف لذلك وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى عبادة واستعانة في قوله : " إياك نعبد وإياك نستعين " سورة البقرة " الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون " تقدم الكلام على البسملة وأما الحروف المقطعة في أوائل السور فالأسلم فيها السكوت عن التعرض لمعناها [ من غير مستند شرعي ] مع الجزم بأن الله تعالى لم ينزلها عبثا بل لحكمة لا نعلمها وقوله : " ذلك الكتاب " أي : هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقة المشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين والمتأخرين من العلم العظيم والحق المبين " لا ريب فيه " ولا شك بوجه من الوجوه ونفي الريب عنه يستلزم ضده إذ ضد الريب والشك اليقين فهذا الكتاب مشتمل على علم اليقين المزيل للشك والريب وهذه قاعدة مفيدة أن النفي المقصود به المدح لا بد أن يكون متضمنا لضده وهو الكمال لأن النفي عدم والعدم المحض لا مدح فيه فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية لا تحصل إلا باليقين قال : " هدى للمتقين " والهدى : ما تحصل به الهداية من الضلالة والشبه وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة وقال : " هدى " وحذف المعمول فلم يقل هدى للمصلحة الفلانية ولا للشيء الفلاني لإرادة العموم وأنه هدى لجميع مصالح الدارين فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية ومبين للحق من الباطل والصحيح من الضعيف ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم في دنياهم وأخراهم وقال في موضع آخر : " هدى للناس " فعمم وفي هذا الموضع وغيره " هدى للمتقين " لأنه في نفسه هدى لجميع الخلق فالأشقياء لم يرفعوا به رأسا ولم يقبلوا هدى الله فقامت عليهم به الحجة ولم ينتفعوا به لشقائهم وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر لحصول الهداية وهو التقوى التي حقيقتها : اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فاهتدوا به وانتفعوا غاية الانتفاع قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا " فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية والآيات الكونية ولأن الهداية نوعان : هداية البيان وهداية التوفيق فالمتقون حصلت لهم الهدايتان وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها ليست هداية حقيقية [ تامة ] ثم وصف المتقين بالعقائد والأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة لتضمن التقوى لذلك فقال : " الذين يؤمنون بالغيب " حقيقة الإيمان : هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل المتضمن لانقياد الجوارح وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر إنما الشأن في الإيمان بالغيب الذي لم نره ولم نشاهده وإنما نؤمن به لخبر الله وخبر رسوله فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر لأنه تصديق مجرد لله ورسله فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به أو أخبر به رسوله سواء شاهده أو لم يشاهده وسواء فهمه وعقله أو لم يهتد إليه عقله وفهمه بخلاف الزنادقة المكذبين للأمور الغيبية ؛ لأن عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتد إليها فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ففسدت عقولهم ومرجت أحلامهم وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله ويدخل في الإيمان بالغيب [ الإيمان بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة وأحوال الآخرة وحقائق أوصاف الله وكيفيتها [ وما أخبرت به الرسل من ذلك ] فيؤمنون بصفات الله ووجودها ويتيقنونها وإن لم يفهموا كيفيتها ثم قال : " ويقيمون الصلاة " لم يقل : يفعلون الصلاة أو يأتون بالصلاة لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة فإقامة الصلاة إقامتها ظاهرا بإتمام أركانها وواجباتها وشروطها وإقامتها باطنا بإقامة روحها وهو حضور القلب فيها وتدبر ما يقوله ويفعله منها فهذه الصلاة هي التي قال الله فيها : " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " وهي التي يترتب عليها الثواب فلا ثواب للإنسان من صلاته إلا ما عقل منها ويدخل في الصلاة فرائضها ونوافلها ثم قال : " ومما رزقناهم ينفقون " يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة والنفقة على الزوجات والأقارب والمماليك ونحو ذلك والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير ولم يذكر المنفق عليه لكثرة أسبابه وتنوع أهله ولأن النفقة من حيث هي قربة إلى الله وأتى ب من الدالة على التبعيض لينبههم أنه لم يرد منهم إلا جزءا يسيرا من أموالهم غير ضار لهم ولا مثقل بل ينتفعون هم بإنفاقه وينتفع به إخوانهم وفي قوله : " رزقناهم " إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم ليست حاصلة بقوتكم وملككم وإنما هي رزق الله الذي خولكم وأنعم به عليكم فكما أنعم به عليكم وفضلكم على كثير من عباده فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم وواسوا إخوانكم المعدمين وكثيرا ما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود والزكاة والنفقة متضمنة للإحسان على عبيده فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود وسعيه في نفع الخلق كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه فلا إخلاص ولا إحسان ثم قال : " والذين يؤمنون بما أنزل إليك " وهو القرآن والسنة قال تعالى : " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة " فالمتقون يؤمنون بجميع ما جاء به الرسول ولا يفرقون بين بعض ما أنزل إليه فيؤمنون ببعضه ولا يؤمنون ببعضه إما بجحده أو تأويله على غير مراد الله ورسوله كما يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة الذين يؤولون النصوص الدالة على خلاف قولهم بما حاصله عدم التصديق بمعناها وإن صدقوا بلفظها فلم يؤمنوا بها إيمانا حقيقيا وقوله " وما أنزل من قبلك " يشمل الإيمان بجميع الكتب السابقة ويتضمن الإيمان بالكتب الإيمان بالرسل وبما اشتملت عليه خصوصا التوراة والإنجيل والزبور وهذه خاصية المؤمنين يؤمنون بجميع الكتب السماوية وبجميع الرسل فلا يفرقون بين أحد منهم ثم قال : " وبالآخرة هم يوقنون " والآخرة : اسم لما يكون بعد الموت وخصه [ بالذكر ] بعد العموم لأن الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان ؛ ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل واليقين : هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك الموجب للعمل " أولئك " أي : الموصوفون بتلك الصفات الحميدة " على هدى من ربهم " أي : على هدى عظيم لأن التنكير للتعظيم وأي هداية أعظم من تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيدة الصحيحة والأعمال المستقيمة وهل الهداية [ الحقيقة ] إلا هدايتهم وما سواها [ مما خالفها ] فهو ضلالة وأتى ب على في هذا الموضع الدالة على الاستعلاء وفي الضلالة يأتي ب في كما في قوله : " وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين " لأن صاحب الهدى مستعل بالهدى مرتفع به وصاحب الضلال منغمس فيه محتقر ثم قال : " وأولئك هم المفلحون " والفلاح [ هو ] الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب حصر الفلاح فيهم ؛ لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم وما عدا تلك السبيل فهي سبل الشقاء والهلاك والخسارة التي تفضي بسالكها إلى الهلاك فلهذا لما ذكر صفات المؤمنين حقا ذكر صفات الكفار المظهرين لكفرهم المعاندين للرسول فقال : " إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم " يخبر تعالى أن الذين كفروا أي : اتصفوا بالكفر وانصبغوا به وصار وصفا لهم لازما لا يردعهم عنه رادع ولا ينجع فيهم وعظ إنهم مستمرون على كفرهم فسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون وحقيقة الكفر : هو الجحود لما جاء به الرسول أو جحد بعضه فهؤلاء الكفار لا تفيدهم الدعوة إلا إقامة الحجة عليهم وكأن في هذا قطعا لطمع الرسول صلى الله عليه وسلم في إيمانهم وأنك لا تأس عليهم ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ثم ذكر الموانع المانعة لهم من الإيمان فقال : " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " أي : طبع عليها بطابع لا يدخلها الإيمان ولا ينفذ فيها فلا يعون ما ينفعهم ولا يسمعون ما يفيدهم " وعلى أبصارهم غشاوة " أي : غشاء وغطاء وأكنه تمنعها عن النظر الذي ينفعهم وهذه طرق العلم والخير قد سدت عليهم فلا مطمع فيهم ولا خير يرجى عندهم وإنما منعوا ذلك وسدت عنهم أبواب الإيمان بسبب كفرهم وجحودهم ومعاندتهم بعدما تبين لهم الحق كما قال تعالى : " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة " وهذا عقاب عاجل ثم ذكر العقاب الآجل فقال : " ولهم عذاب عظيم " وهو عذاب النار وسخط الجبار المستمر الدائم ثم قال تعالى في وصف المنافقين الذين ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر فقال : ( 8 - 10 ) " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون " واعلم أن النفاق هو : إظهار الخير وإبطان الشر ويدخل في هذا التعريف النفاق الاعتقادي والنفاق العملي فالنفاق العملي كالذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وفي رواية : وإذا خاصم فجر وأما النفاق الاعتقادي المخرج عن دائرة الإسلام فهو الذي وصف الله به المنافقين في هذه السورة وغيرها ولم يكن النفاق موجودا قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم [ من مكة ] إلى المدينة وبعد أن هاجر فلما كانت وقعة بدر وأظهر الله المؤمنين وأعزهم ذل من في المدينة ممن لم يسلم فأظهر بعضهم الإسلام خوفا ومخادعة ولتحقن دماؤهم وتسلم أموالهم فكانوا بين أظهر المسلمين في الظاهر أنهم منهم وفي الحقيقة ليسوا منهم فمن لطف الله بالمؤمنين أن جلا أحوالهم ووصفهم بأوصاف يتميزون بها لئلا يغتر بهم المؤمنون ولينقمعوا أيضا عن كثير من فجورهم [ قال تعالى ] : " يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم " فوصفهم الله بأصل النفاق فقال : " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين " فإنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم فأكذبهم الله بقوله : " وما هم بمؤمنين " لأن الإيمان الحقيقي ما تواطأ عليه القلب واللسان وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين والمخادعة : أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا ويبطن خلافه لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع فهؤلاء المنافقون سلكوا مع الله وعباده هذا المسلك فعاد خداعهم على أنفسهم فإن هذا من العجائب ؛ لأن المخادع إما أن ينتج خداعه ويحصل ما يريد أو يسلم لا له ولا عليه وهؤلاء عاد خداعهم عليهم وكأنهم يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم وإضرارها وكيدها ؛ لأن الله تعالى لا يتضرر بخداعهم [ شيئا ] وعباده المؤمنون لا يضرهم كيدهم شيئا فلا يضر المؤمنين أن أظهر المنافقون الإيمان فسلمت بذلك أموالهم وحقنت دماؤهم وصار كيدهم في نحورهم وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا والحزن المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة ثم في الآخرة لهم العذاب الأليم الموجع المفجع بسبب كذبهم وكفرهم وفجورهم والحال أنهم من جهلهم وحماقتهم لا يشعرون بذلك وقوله : " في قلوبهم مرض " والمراد بالمرض هنا : مرض الشك والشبهات والنفاق لأن القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله : مرض الشبهات الباطلة ومرض الشهوات المردية فالكفر والنفاق والشكوك والبدع كلها من مرض الشبهات والزنا ومحبة [ الفواحش والمعاصي وفعلها من مرض الشهوات كما قال تعالى : " فيطمع الذي في قلبه مرض " وهي شهوة الزنا والمعافى من عوفي من هذين المرضين فحصل له اليقين والإيمان والصبر عن كل معصية فرفل في أثواب العافية وفي قوله عن المنافقين : " في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا " بيان لحكمته تعالى في تقدير المعاصي على العاصين وأنه بسبب ذنوبهم السابقة يبتليهم بالمعاصي اللاحقة الموجبة لعقوباتها كما قال تعالى : " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة " وقال تعالى : " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " وقال تعالى : " وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم " فعقوبة المعصية المعصية بعدها كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها قال تعالى : " ويزيد الله الذين اهتدوا هدى " ( 11 - 12 ) " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون " أي : إذا نهي هؤلاء المنافقون عن الإفساد في الأرض وهو العمل بالكفر والمعاصي ومنه إظهار سرائر المؤمنين لعدوهم وموالاتهم للكافرين " قالوا إنما نحن مصلحون " فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض وإظهارهم أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح قلبا للحقائق وجمعا بين فعل الباطل واعتقاده حقا وهذا أعظم جناية ممن يعمل بالمعصية مع اعتقاد أنها معصية فهذا أقرب للسلامة وأرجى لرجوعه ولما كان في قولهم : " إنما نحن مصلحون " حصر للإصلاح في جانبهم وفي ضمنه أن المؤمنين ليسوا من أهل الإصلاح قلب الله عليهم دعواهم بقوله " ألا إنهم هم المفسدون " فإنه لا أعظم فسادا ممن كفر بآيات الله وصد عن سبيل الله وخادع الله وأولياءه ووالى المحاربين لله ورسوله وزعم مع ذلك أن هذا إصلاح فهل بعد هذا الفساد فساد ؟ ! ! ولكن لا يعلمون علما ينفعهم وإن كانوا قد علموا بذلك علما تقوم به عليهم حجه الله وإنما كان العمل بالمعاصي في الأرض إفسادا لأنه يتضمن فساد ما علي وجه الأرض من الحبوب والثمار والأشجار والنبات بما يحصل فيها من الآفات بسبب المعاصي ولأن الإصلاح في الأرض أن تعمر بطاعة الله والإيمان به لهذا خلق الله الخلق وأسكنهم في الأرض وأدر لهم الأرزاق ليستعينوا بها علي طاعته [ وعبادته ] فإذا عمل فيها بضده كان سعيا بالفساد فيها وإخرابا لها عما خلقت له . ( 13 ) " وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون " أي : إذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس أي : كإيمان الصحابة رضي الله عنهم وهو الإيمان بالقلب واللسان قالوا بزعمهم الباطل : أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ يعنون - قبحهم الله - الصحابة رضي الله عنهم بزعمهم أن سفههم أوجب لهم الإيمان وترك الأوطان ومعاداة الكفار والعقل عندهم يقتضي ضد ذلك فنسبوهم إلي السفه ؛ وفي ضمنه أنهم هم العقلاء أرباب الحجى والنهى فرد الله ذلك عليهم وأخبر أنهم هم السفهاء على الحقيقة لأن حقيقة السفه : جهل الإنسان بمصالح نفسه وسعيه فيما يضرها وهذه الصفة منطبقة عليهم وصادقه عليهم كما أن العقل والحجا معرفة الإنسان بمصالح نفسه والسعي فيما ينفعه وفي ] دفع ما يضره وهذه الصفة منطبقة على [ الصحابة و المؤمنين وصادقه عليهم فالعبرة بالأوصاف والبرهان لا بالدعاوى المجردة والأقوال الفارغة ثم قال تعالي : ( 14 - 15 ) " وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون " هذا من قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم [ وذلك ] أنهم إذا اجتمعوا بالمؤمنين أظهروا أنهم على طريقتهم وأنهم معهم فإذا خلوا إلى شياطينهم - أي : رؤسائهم وكبرائهم في الشر - قالوا : إنا معكم في الحقيقة وإنما نحن مستهزؤون بالمؤمنين بإظهارنا لهم أنا على طريقتهم فهذه حالهم الباطنة والظاهرة ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله قال تعالي : " الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون " وهذا جزاء لهم على استهزائهم بعباده فمن استهزائه بهم أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء والأحوال الخبيثة حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين لما لم يسلط الله المؤمنين عليهم ومن استهزائه بهم يوم القيامة أنه يعطيهم مع المؤمنين نورا ظاهرا فإذا مشى المؤمنون بنورهم طفىء نور المنافقين وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين فما أعظم اليأس بعد الطمع " ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم " الآية قوله : " ويمدهم " أي : يزيدهم " في طغيانهم " أي : فجورهم وكفرهم " يعمهون " أي : حائرون مترددون وهذا من استهزائه تعالى بهم ثم قال تعالى كاشفا عن حقيقة أحوالهم : ( 16 ) " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين " أولئك أي : المنافقون الموصوفون بتلك الصفات " الذين اشتروا الضلالة بالهدى " أي : رغبوا في الضلالة رغبة المشتري في السلعة التي من رغبته فيها يبذل فيها الأثمان النفيسة وهذا من أحسن الأمثلة فإنه جعل الضلالة التي هي غاية الشر كالسلعة وجعل الهدى الذي هو غاية الصلاح بمنزلة الثمن فبذلوا الهدى رغبة عنه بالضلالة رغبة فيها فهذه تجارتهم فبئس التجارة وهذه صفقتهم فبئست الصفقة وإذا كان من يبذل دينارا في مقابلة درهم خاسرا فكيف من بذل جوهرة وأخذ عنها درهما ؟ ! فكيف من بذل الهدى في مقابلة الضلالة واختار الشقاء على السعادة ورغب في سافل الأمور عن أعاليها ؟ ! فما ربحت تجارته بل خسر فيها أعظم خسارة " قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين " وقوله : " وما كانوا مهتدين " تحقيق لضلالهم وأنهم لم يحصل لهم من الهداية شيء فهذه أوصافهم القبيحة ثم ذكر مثلهم الكاشف لها غاية الكشف فقال : ( 17 - 20 ) " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير " أي : مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد نارا أي : كان في ظلمة عظيمة وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها من غيره ولم تكن عنده معدة بل هي خارجة عنه فلما أضاءت النار ما حوله ونظر المحل الذي هو فيه وما فيه من المخاوف وأمنها وانتفع بتلك النار وقرت بها عينه وظن أنه قادر عليها فبينما هو كذلك إذ ذهب الله بنوره فزال عنه النور وذهب معه السرور وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة فذهب ما فيها من الإشراق وبقي ما فيها من الإحراق فبقي في ظلمات متعددة : ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر والظلمة الحاصلة بعد النور فكيف يكون حال هذا الموصوف ؟ فكذلك هؤلاء المنافقون استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين ولم تكن صفة لهم فانتفعوا بها وحقنت بذلك دماؤهم وسلمت أموالهم وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا فبينما هم على ذلك إذ هجم عليهم الموت فسلبهم الانتفاع بذلك النور وحصل لهم كل هم وغم وعذاب وحصل لهم ظلمة القبر وظلمة الكفر وظلمة النفاق وظلمة المعاصي على اختلاف أنواعها وبعد ذلك ظلمة النار [ وبئس القرار ] فلهذا قال تعالى [ عنهم ] : " صم " أي : عن سماع الخير " بكم " [ أي ] : عن النطق به " عمي " أي عن رؤية الحق " فهم لا يرجعون " لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه فلا يرجعون إليه بخلاف من ترك الحق عن جهل وضلال فإنه لا يعقل وهو أقرب رجوعا منهم ثم قال تعالى : " أو كصيب من السماء " يعني : أو مثلهم كصيب أي : كصاحب صيب من السماء وهو المطر الذي يصوب أي : ينزل بكثرة " فيه ظلمات " : ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر " ورعد " : وهو الصوت الذي يسمع من السحاب " وبرق " : وهو الضوء [ اللامع ] المشاهد مع السحاب " كلما أضاء لهم " البرق في تلك الظلمات " مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا " أي : وقفوا فهكذا حال المنافقين إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده جعلوا أصابعهم في آذانهم وأعرضوا عن أمره ونهيه ووعده ووعيده فيروعهم وعيده وتزعجهم وعوده فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي يسمع الرعد فيجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت فهذا ربما حصلت له السلامة وأما المنافقون فأنى لهم السلامة وهو تعالى محيط بهم قدرة وعلما فلا يفوتونه ولا يعجزونه بل يحفظ عليهم أعمالهم ويجازيهم عليها أتم الجزاء ولما كانوا مبتلين بالصمم والبكم والعمى المعنوي ومسدودة عليهم طرق الإيمان قال تعالى : " ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم " أي : الحسية ففيه تحذير لهم وتخويف بالعقوبة الدنيوية ليحذروا فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم " إن الله على كل شيء قدير " فلا يعجزه شيء ومن قدرته أنه إذا شاء شيئا فعله من غير ممانع ولا معارض وفي هذه الآية وما أشبهها رد على القدرية القائلين بأن أفعالهم غير داخلة في قدرة الله تعالى لأن أفعالهم من جملة الأشياء الداخلة في قوله : " إن الله على كل شيء قدير " ( 21 - 22 ) " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون " هذا أمر لكل الناس بأمر عام وهو العبادة الجامعة لامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه وتصديق خبره فأمرهم تعالى بما خلقهم له قال تعالى : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " ثم استدل على وجوب عبادته وحده بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم فخلقكم بعد العدم وخلق الذين من قبلكم وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها وتنتفعون بالأبنية والزراعة والحراثة والسلوك من محل إلى محل وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها وجعل السماء بناء لمسكنكم وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم كالشمس والقمر والنجوم " وأنزل من السماء ماء " والسماء : [ هو ] كل ما علا فوقك فهو سماء ولهذا قال المفسرون : المراد بالسماء هاهنا : السحاب فأنزل منه تعالى ماء " فأخرج به من الثمرات " كالحبوب والثمار من نخيل وفواكه [ وزروع ] وغيرها " رزقا لكم " به ترتزقون وتقوتون وتعيشون وتفكهون " فلا تجعلوا لله أندادا " أي : نظراء وأشباها من المخلوقين فتعبدونهم كما تعبدون الله وتحبونهم كما تحبونه وهم مثلكم مخلوقون مرزوقون مدبرون لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ولا ينفعونكم ولا يضرون " وأنتم تعلمون " أن الله ليس له شريك ولا نظير لا في الخلق والرزق والتدبير ولا في العبادة فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك ؟ هذا من أعجب العجب وأسفه السفه وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده والنهي عن عبادة ما سواه وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته وبطلان عبادة من سواه وهو [ ذكر ] توحيد الربوبية المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك فكذلك فليكن الإقرار بأن [ الله ] ليس له شريك في العبادة وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري وبطلان الشرك وقوله تعالى : " لعلكم تتقون " يحتمل أن المعنى : أنكم إذا عبدتم الله وحده اتقيتم بذلك سخطه وعذابه لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك ويحتمل أن يكون المعنى : أنكم إذا عبدتم الله صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى وكلا المعنيين صحيح وهما متلازمان فمن أتى بالعبادة كاملة كان من المتقين ومن كان من المتقين حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه ثم قال تعالى : ( 23 - 24 ) " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين " وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحة ما جاء به فقال : " وإن كنتم " معشر المعاندين للرسول الرادين دعوته الزاعمين كذبه في شك واشتباه مما نزلنا على عبدنا هل هو حق أو غيره ؟ فهاهنا أمر نصف فيه الفيصلة بينكم وبينه وهو أنه بشر مثلكم ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم ولا يكتب ولا يقرأ فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله وقلتم أنتم أنه تقوله وافتراه فإن كان الأمر كما تقولون فأتوا بسورة من مثله واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم فإن هذا أمر يسير عليكم خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة والعداوة العظيمة للرسول فإن جئتم بسورة من مثله فهو كما زعمتم وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز ولن تأتوا بسورة من مثله ولكن هذا التقييم على وجه الإنصاف والتنزيل معكم فهذا آية كبرى ودليل واضح [ جلي ] على صدقه وصدق ما جاء به فيتعين عليكم اتباعه واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [ والشدة ] أن كانت وقودها الناس والحجارة ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله فاحذروا الكفر برسوله بعدما تبين لكم أنه رسول الله وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن قال تعالى : " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " وكيف يقدر المخلوق من تراب أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب ؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه أن يأتي بكلام ككلام الكامل الذي له الكمال المطلق والغنى الواسع من جميع الوجوه ؟ هذا ليس في الإمكان ولا في قدرة الإنسان وكل من له أدنى ذوق ومعرفة [ بأنواع ] الكلام إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء ظهر له الفرق العظيم وفي قوله : " وإن كنتم في ريب " إلى آخره دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة : [ هو ] الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق إن كان صادقا في طلب الحق وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه فهذا لا يمكن رجوعه لأنه ترك الحق بعدما تبين له ولم يتركه عن جهل فلا حيلة فيه وكذلك الشاك الذي ليس بصادق في طلب الحق بل هو معرض غير مجتهد في طلبه فهذا في الغالب لا يوفق وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم قيامه بالعبودية التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء فقال : " سبحان الذي أسرى بعبده " وفي مقام الإنزال فقال : " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده " وفي قوله : " أعدت للكافرين " ونحوها من الآيات دليل لمذهب أهل السنة والجماعة أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة وفيها أيضا أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار لأنه قال : " أعدت للكافرين " فلو كان [ عصاة الموحدين ] يخلدون فيها لم تكن معدة للكافرين وحدهم خلافا للخوارج والمعتزلة وفيه دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه وهو الكفر وأنواع المعاصي على اختلافها " وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون " لما ذكر جزاء الكافرين ذكر جزاء المؤمنين أهل الأعمال الصالحات على طريقته تعالى في القرآن يجمع بين الترغيب والترهيب ليكون العبد راغبا راهبا خائفا راجيا فقال : " وبشر " أي : [ يا أيها الرسول ومن قام مقامه ] " الذين آمنوا " بقلوبهم " وعملوا الصالحات " بجوارحهم فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة ووصفت أعمال الخير بالصالحات لأن بها تصلح أحوال العبد وأمور دينه ودنياه وحياته الدنيوية والأخروية ويزول بها عنه فساد الأحوال فيكون بذلك من الصالحين الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته فبشرهم " أن لهم جنات " أي : بساتين جامعة للأشجار العجيبة والثمار الأنيقة والظل المديد [ والأغصان والأفنان وبذلك ] صارت جنة يجتن بها داخلها وينعم فيها ساكنها " تجري من تحتها الأنهار " أي : أنهار الماء واللبن والعسل والخمر يفجرونها كيف شاؤوا ويصرفونها أين أرادوا وتسقى منها تلك الأشجار فتنبت أصناف الثمار " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " أي : هذا من جنسه وعلى وصفه كلها متشابهة في الحسن واللذة ليس فيها ثمرة خاصة وليس لهم وقت خال من اللذة فهم دائما متلذذون بأكلها وقوله : " وأتوا به متشابها " قيل : متشابها في الاسم مختلفا في الطعم وقيل : متشابها في اللون مختلفا في الاسم وقيل : يشبه بعضه بعضا في الحسن واللذة والفكاهة ولعل هذا هو الصحيح ثم لما ذكر مسكنهم وأقواتهم من الطعام والشراب وفواكههم ذكر أزواجهم فوصفهن بأكمل وصف وأوجزه وأوضحه فقال : " ولهم فيها أزواج مطهرة " فلم يقل مطهرة من العيب الفلاني ليشمل جميع أنواع التطهير فهن مطهرات الأخلاق مطهرات الخلق مطهرات اللسان مطهرات الأبصار فأخلاقهن أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن وحسن التبعل والأدب القولي والفعلي ومطهر خلقهن من الحيض والنفاس والمني والبول والغائط والمخاط والبصاق والرائحة الكريهة ومطهرات الخلق أيضا بكمال الجمال فليس فيهن عيب ولا دمامة خلق بل هن خيرات حسان مطهرات اللسان والطرف قاصرات طرفهن على أزواجهن وقاصرات ألسنتهن عن كل كلام قبيح ففي هذه الآية الكريمة ذكر المبشر والمبشر والمبشر به والسبب الموصل لهذه البشارة فالمبشر : هو الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من أمته والمبشر : هم المؤمنون العاملون الصالحات والمبشر به : هي الجنات الموصوفات بتلك الصفات والسبب الموصل لذلك هو الإيمان والعمل الصالح فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة إلا بهما وهذا أعظم بشارة حاصلة على يد أفضل الخلق بأفضل الأسباب وفيه استحباب بشارة المؤمنين وتنشيطهم على الأعمال بذكر جزائها [ وثمراتها ] فإنها بذلك تخف وتسهل وأعظم بشرى حاصلة للإنسان توفيقه للإيمان والعمل الصالح فذلك أول البشارة وأصلها ومن بعده البشرى عند الموت ومن بعده الوصول إلى هذا النعيم المقيم نسأل الله أن يجعلنا منهم ( 26 - 27 ) " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون " يقول تعالى : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما " أي مثل كان " بعوضة فما فوقها " لاشتمال الأمثال على الحكمة وإيضاح الحق والله لا يستحيي من الحق وكأن في هذا جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة واعترض على الله في ذلك فليس في ذلك محل اعتراض بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم فيجب أن تتلقى بالقبول والشكر ولهذا قال : " فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم " فيتفهمونها ويتفكرون فيها فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل ازداد بذلك علمهم وإيمانهم وإلا علموا أنها حق وما اشتملت عليه حق وإن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا بل لحكمة بالغة ونعمة سابغة " وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا " فيعترضون ويتحيرون فيزدادون كفرا إلى كفرهم كما ازداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ولهذا قال : " يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا " فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية قال تعالى : " وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون " فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة [ وضلالة ] وزيادة شر إلى شرهم ولقوم منحه [ ورحمة ] وزيادة خير إلى خيرهم فسبحان من فاوت بين عباده وانفرد بالهداية والإضلال ثم ذكر حكمته في إضلال من يضلهم وأن ذلك عدل منه تعالى فقال : " وما يضل به إلا الفاسقين " أي : الخارجين عن طاعة الله ؛ المعاندين لرسل الله ؛ الذين صار الفسق وصفهم فلا يبغون به بدلا فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى كما اقتضت حكمته وفضله هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة والفسق نوعان : نوع مخرج من الدين وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان كالمذكور في هذه الآية ونحوها ونوع غير مخرج عن الإيمان كما في قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا " [ الآية ] ثم وصف الفاسقين فقال : " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه " وهذا يعم العهد الذي بينهم وبينه ؛ والذي بينهم وبين عباده ؛ الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات فلا يبالون بتلك المواثيق بل ينقضونها ويتركون أوامره ويرتكبون نواهيه وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق " ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل " وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة فإن الله أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به والقيام بعبوديته وما بيننا وبين رسوله بالإيمان به ومحبته وتعزيره والقيام بحقوقه وما بيننا وبين الوالدين والأقارب والأصحاب وسائر الخلق بالقيام بتلك الحقوق التي أمر الله أن نصلها فأما المؤمنون فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق ؛ وقاموا بها أتم القيام وأما الفاسقون فقطعوها ونبذوها وراء ظهورهم معتاضين عنها بالفسق والقطيعة والعمل بالمعاصي وهو : الإفساد في الأرض " فأولئك " أي : من هذه صفته " هم الخاسرون " في الدنيا والآخرة فحصر الخسارة فيهم لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم ليس لهم نوع من الربح ؛ لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان فمن لا إيمان له لا عمل له وهذا الخسار هو خسار الكفر وأما الخسار الذي قد يكون كفرا وقد يكون معصية وقد يكون تفريطا في ترك مستحب المذكور في قوله تعالى : " إن الإنسان لفي خسر " فهذا عام لكل مخلوق إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر وحقيقته فوات الخير الذي [ كان ] العبد بصدد تحصيله وهو تحت إمكانه ( 28 ) ثم قال تعالى : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون " هذا استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ والإنكار أي : كيف يحصل منكم الكفر بالله الذي خلقكم من العدم ؛ وأنعم عليكم بأصناف النعم ثم يميتكم عند استكمال آجالكم ويجازيكم في القبور ثم يحييكم بعد البعث والنشور ثم إليه ترجعون فيجازيكم الجزاء الأوفى فإذا كنتم في تصرفه وتدبيره وبره وتحت أوامره الدينية ومن بعد ذلك تحت دينه الجزائي أفيليق بكم أن تكفروا به وهل هذا إلا جهل عظيم وسفه وحماقة ؟ بل الذي يليق بكم أن تؤمنوا به وتتقوه وتشكروه وتخافوا عذابه وترجوا ثوابه ( 29 ) " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا " أي : خلق لكم برا بكم ورحمة جميع ما على الأرض للانتفاع والاستمتاع والاعتبار وفي هذه الآية العظيمة دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة لأنها سيقت في معرض الامتنان يخرج بذلك الخبائث فإن [ تحريمها أيضا ] يؤخذ من فحوى الآية ومعرفة المقصود منها وأنه خلقها لنفعنا فما فيه ضرر فهو خارج من ذلك ومن تمام نعمته منعنا من الخبائث تنزيها لنا وقوله : " ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم " " استوى " : ترد في القرآن على ثلاثة معاني : فتارة لا تعدى بالحرف فيكون معناها الكمال والتمام كما في قوله عن موسى : " ولما بلغ أشده واستوى " وتارة تكون بمعنى علا وارتفع وذلك إذا عديت ب على كما في قوله تعالى : " ثم استوى على العرش " " لتستووا على ظهوره " وتارة تكون بمعنى قصد كما إذا عديت ب إلى كما في هذه الآية أي : لما خلق تعالى الأرض قصد إلى خلق السماوات " فسواهن سبع سماوات " فخلقها وأحكمها وأتقنها " وهو بكل شيء عليم " " يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها " و " يعلم ما تسرون وما تعلنون " يعلم السر وأخفى وكثيرا ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في هذه الآية وكما في قوله تعالى : " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " لأن خلقه للمخلوقات أدل دليل على علمه وحكمته وقدرته وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين " هذا شروع في ذكر فضل آدم عليه السلام أبي البشر أن الله حين أراد خلقه أخبر الملائكة بذلك وأن الله مستخلفه في الأرض فقالت الملائكة عليهم السلام " أتجعل فيها من يفسد فيها " بالمعاصي " ويسفك الدماء " [ وهذا تخصيص بعد تعميم لبيان [ شدة ] مفسدة القتل وهذا بحسب ظنهم أن الخليفة المجعول في الأرض سيحدث منه ذلك فنزهوا الباري عن ذلك وعظموه وأخبروا أنهم قائمون بعبادة الله على وجه خال من المفسدة فقالوا : " ونحن نسبح بحمدك " أي : ننزهك التنزيه اللائق بحمدك وجلالك " ونقدس لك " يحتمل أن معناها : ونقدسك فتكون اللام مفيدة للتخصيص والإخلاص ويحتمل أن يكون : ونقدس لك أنفسنا أي : نطهرها بالأخلاق الجميلة كمحبة الله وخشيته وتعظيمه ونطهرها من الأخلاق الرذيلة قال الله تعالى للملائكة : " إني أعلم " من هذا الخليفة " ما لا تعلمون " ؛ لأن كلامكم بحسب ما ظننتم وأنا عالم بالظواهر والسرائر وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة أضعاف أضعاف ما في ضمن ذلك من الشر فلو لم يكن في ذلك إلا أن الله تعالى أراد أن يجتبي منهم الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ولتظهر آياته لخلقه ويحصل من العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة كالجهاد وغيره وليظهر ما كمن في غرائز بني آدم من الخير والشر بالامتحان وليتبين عدوه من وليه وحزبه من حربه وليظهر ما كمن في نفس إبليس من الشر الذي انطوى عليه واتصف به فهذه حكم عظيمة يكفي بعضها في ذلك ثم لما كان قول الملائكة عليهم السلام فيه إشارة إلى فضلهم على الخليفة الذي يجعله الله في الأرض أراد الله تعالى أن يبين لهم من فضل آدم ما يعرفون به فضله وكمال حكمة الله وعلمه ف " وعلم آدم الأسماء كلها " أي : أسماء الأشياء ومن هو مسمى بها فعلمه الاسم والمسمى أي : الألفاظ والمعاني حتى المكبر من الأسماء كالقصعة والمصغر كالقصيعة " ثم عرضهم " أي : عرض المسميات " على الملائكة " امتحانا لهم هل يعرفونها أم لا ؟ " فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " في قولكم وظنكم أنكم أفضل من هذا الخليفة " قالوا سبحانك " أي : ننزهك عن الاعتراض منا عليك ومخالفة أمرك " لا علم لنا " بوجه من الوجوه " إلا ما علمتنا " إياه فضلا منك وجودا " إنك أنت العليم الحكيم " العليم الذي أحاط علما بكل شيء فلا يغيب عنه ولا يعزب مثقال ذرة في السماوات والأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر الحكيم : من له الحكمة التامة التي لا يخرج عنها مخلوق ولا يشذ عنها مأمور فما خلق شيئا إلا لحكمة ولا أمر بشيء إلا لحكمة والحكمة وضع الشيء في موضعه اللائق به فأقروا واعترفوا بعلم الله وحكمته وقصورهم عن معرفة أدنى شيء واعترافهم بفضل الله عليهم وتعليمه إياهم ما لا يعلمون فحينئذ قال الله : " يا آدم أنبئهم بأسمائهم " أي : أسماء المسميات التي عرضها الله على الملائكة فعجزوا عنها " فلما أنبأهم بأسمائهم " تبين للملائكة فضل آدم عليهم وحكمة الباري وعلمه في استخلاف هذا الخليفة " قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض " وهو ما غاب عنا فلم نشاهده فإذا كان عالما بالغيب فالشهادة من باب أولى " وأعلم ما تبدون " أي : تظهرون " وما كنتم تكتمون " ثم أمرهم تعالى بالسجود لآدم إكراما له وتعظيما وعبودية لله تعالى فامتثلوا أمر الله وبادروا كلهم بالسجود " إلا إبليس أبى " امتنع عن السجود واستكبر عن أمر الله وعلى آدم قال : " أأسجد لمن خلقت طينا " وهذا الإباء منه والاستكبار نتيجة الكفر الذي هو منطو عليه فتبينت حينئذ عداوته لله ولآدم وكفره واستكباره وفي هذه الآيات من العبر والآيات إثبات الكلام لله تعالى وأنه لم يزل متكلما يقول ما شاء ويتكلم بما شاء وأنه عليم حكيم وفيه أن العبد إذا خفيت عليه حكمة الله في بعض المخلوقات والمأمورات فالواجب عليه التسليم واتهام عقله والإقرار لله بالحكمة وفيه اعتناء الله بشأن الملائكة وإحسانه بهم بتعليمهم ما جهلوا وتنبيههم على ما لم يعلموه وفيه فضيلة العلم من وجوه : منها : أن الله تعرف لملائكته بعلمه وحكمته ومنها : أن الله عرفهم فضل آدم بالعلم وأنه أفضل صفة تكون في العبد ومنها : أن الله أمرهم بالسجود لآدم إكراما له لما بان فضل علمه ومنها : أن الامتحان للغير إذا عجزوا عما امتحنوا به ثم عرفه صاحب الفضيلة فهو أكمل مما عرفه ابتداء ومنها : الاعتبار بحال أبوي الإنس والجن وبيان فضل آدم وإفضال الله عليه وعداوة إبليس له إلى غير ذلك من العبر ( 35 - 36 ) " وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين " لما خلق الله آدم وفضله أتم نعمته عليه بأن خلق منه زوجة ليسكن إليها ويستأنس بها وأمرهما بسكنى الجنة والأكل منها " رغدا " أي : واسعا هنيئا " حيث شئتما " أي : من أي أصناف الثمار والفواكه وقال الله له : " إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " " ولا تقربا هذه الشجرة " نوع من أنواع شجر الجنة الله أعلم بها وإنما نهاهما عنها امتحانا وابتلاء [ أو لحكمة غير معلومة لنا ) " فتكونا من الظالمين " دل على أن النهي للتحريم لأنه رتب عليه الظلم فلم يزل عدوهما يوسوس لهما ويزين لهما تناول ما نهيا عنه حتى أزلهما أي : حملهما على الزلل بتزيينه " وقاسمهما " بالله " إني لكما لمن الناصحين " فاغترا به وأطاعاه فأخرجهما مما كانا فيه من النعيم والرغد وأهبطوا إلى دار التعب والنصب والمجاهدة " بعضكم لبعض عدو " أي : آدم وذريته أعداء لإبليس وذريته ومن المعلوم أن العدو يجد ويجتهد في ضرر عدوه وإيصال الشر إليه بكل طريق وحرمانه الخير بكل طريق ففي ضمن هذا تحذير بني آدم من الشيطان كما قال تعالى : " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير " " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا " ثم ذكر منتهى الإهباط إلى الأرض فقال : " ولكم في الأرض مستقر " أي : مسكن وقرار " ومتاع إلى حين " انقضاء آجالكم ثم تنتقلون منها للدار التي خلقتم لها وخلقت لكم ففيها إن مدة هذه الحياة مؤقتة عارضة ليست مسكنا حقيقيا وإنما هي معبر يتزود منها لتلك الدار ولا تعمر للاستقرار ( 37 ) " فتلقى آدم " أي : تلقف وتلقن وألهمه الله " من ربه كلمات " وهي قوله : " ربنا ظلمنا أنفسنا " الآية فاعترف بذنبه وسأل الله مغفرته " فتاب " الله " عليه " ورحمه " إنه هو التواب " لمن تاب إليه وأناب وتوبته نوعان : توفيقه أولا ثم قبوله للتوبة إذا اجتمعت شروطها ثانيا " الرحيم " بعباده ومن رحمته بهم أن وفقهم للتوبة وعفا عنهم وصفح " قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " كرر الإهباط ليرتب عليه ما ذكر وهو قوله : " فإما يأتينكم مني هدى " أي : أي وقت وزمان جاءكم مني - يا معشر الثقلين - هدى أي : رسول وكتاب يهديكم لما يقربكم مني ويدنيكم من رضائي " فمن تبع هداي " منكم بأن آمن برسلي وكتبي واهتدى بهم وذلك بتصديق جميع أخبار الرسل والكتب والامتثال للأمر والاجتناب للنهى " فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " وفي الآية الأخرى : " فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى " فرتب على اتباع هداه أربعة أشياء : نفي الخوف والحزن والفرق بينهما أن المكروه إن كان قد مضى أحدث الحزن وإن كان منتظرا أحدث الخوف فنفاهما عمن اتبع هداه وإذا انتفيا حصل ضدهما وهو الأمن التام وكذلك نفي الضلال والشقاء عمن اتبع هداه وإذا انتفيا ثبت ضدهما وهو الهدى والسعادة فمن اتبع هداه حصل له الأمن والسعادة الدنيوية والأخروية والهدى وانتفى عنه كل مكروه من الخوف والحزن والضلال والشقاء فحصل له المرغوب واندفع عنه المرهوب وهذا عكس من لم يتبع هداه فكفر به وكذب بآياته " أولئك أصحاب النار " أي : الملازمون لها ملازمة الصاحب لصاحبه والغريم لغريمه " هم فيها خالدون " لا يخرجون منها ولا يفتر عنهم العذاب ولا هم ينصرون وفي هذه الآيات وما أشبهها انقسام الخلق من الجن والإنس إلى أهل السعادة وأهل الشقاوة وفيها صفات الفريقين والأعمال الموجبة لذلك وأن الجن كالإنس في الثواب والعقاب كما أنهم مثلهم في الأمر والنهي ثم شرع تعالى يذكر بني إسرائيل نعمه شرع عليهم وإحسانه فقال : ( 40 - 43 ) " يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين " " يا بني إسرائيل " المراد بإسرائيل : يعقوب عليه السلام والخطاب مع فرق بني إسرائيل الذين بالمدينة وما حولها ويدخل فيهم من أتى من بعدهم فأمرهم بأمر عام فقال : " اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم " وهو يشمل سائر النعم التي سيذكر في هذه السورة بعضها والمراد بذكرها بالقلب اعترافا وباللسان ثناء وبالجوارح باستعمالها فيما يحبه ويرضيه " وأوفوا بعهدي " وهو ما عهده إليهم من الإيمان به وبرسله وإقامة شرعه " أوف بعهدكم " وهو المجازاة على ذلك والمراد بذلك : ما ذكره الله في قوله : " ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي " إلى قوله : " فقد ضل سواء السبيل " ثم أمرهم بالسبب الحامل لهم على الوفاء بعهده وهو الرهبة منه تعالى وخشيته وحده فإن من خشية أوجبت له خشيته امتثال أمره واجتناب نهيه ثم أمرهم بالأمر الخاص الذي لا يتم إيمانهم ولا يصح إلا به فقال : " وآمنوا بما أنزلت " وهو القرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالإيمان به واتباعه ويستلزم ذلك الإيمان بمن أنزل عليه وذكر الداعي لإيمانهم به فقال : " مصدقا لما معكم " أي : موافقا له لا مخالفا ولا مناقضا فإذا كان موافقا لما معكم من الكتب غير مخالف لها فلا مانع لكم من الإيمان به لأنه جاء بما جاءت به المرسلون فأنتم أولى من آمن به وصدق به لكونكم أهل الكتب والعلم وأيضا فإن في قوله : " مصدقا لما معكم " إشارة إلى أنكم إن لم تؤمنوا به عاد ذلك عليكم بتكذيب ما معكم لأن ما جاء به هو الذي جاء به موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء فتكذيبكم له تكذيب لما معكم وأيضا فإن في الكتب التي بأيديكم صفة هذا النبي الذي جاء بهذا القرآن والبشارة به فإن لم تؤمنوا به كذبتم ببعض ما أنزل إليكم ومن كذب ببعض ما أنزل إليه فقد كذب بجميعه كما أن من كفر برسول فقد كذب الرسل جميعهم فلما أمرهم بالإيمان به نهاهم وحذرهم من ضده وهو الكفر به فقال : " ولا تكونوا أول كافر به " أي : بالرسول والقرآن وفي قوله : " أول كافر به " أبلغ من قوله : ( ولا تكفروا به ) لأنهم إذا كانوا أول كافر به كان فيه مبادرتهم إلى الكفر به عكس ما ينبغي منهم وصار عليهم إثمهم وإثم من اقتدى بهم من بعدهم ثم ذكر المانع لهم من الإيمان وهو اختيار العرض الأدنى على السعادة الأبدية فقال : " ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا " وهو ما يحصل لهم من المناصب والمآكل التي يتوهمون انقطاعها إن آمنوا بالله ورسوله فاشتروها بآيات الله واستحبوها وآثروها " وإياي " أي : لا غيري " فاتقون " فإنكم إذا اتقيتم الله وحده أوجبت لكم تقواه تقديم الإيمان بآياته على الثمن القليل كما أنكم إذا اخترتم الثمن القليل فهو دليل على ترحل التقوى من قلوبكم ثم قال : " ولا تلبسوا " أي : تخلطوا " الحق بالباطل وتكتموا الحق " فنهاهم عن شيئين عن خلط الحق بالباطل وكتمان بيان الحق ؛ لأن المقصود من أهل الكتب والعلم تمييز الحق من الباطل وإظهار الحق ليهتدي بذلك المهتدون ويرجع الضالون وتقوم الحجة على المعاندين ؛ لأن الله فصل آياته وأوضح بيناته ليميز الحق من الباطل ولتستبين سبيل المهتدين من سبيل المجرمين فمن عمل بهذا من أهل العلم فهو من خلفاء الرسل وهداة الأمم ومن لبس الحق بالباطل فلم يميز هذا من هذا مع علمه بذلك وكتم الحق الذي يعلمه وأمر بإظهاره فهو من دعاة جهنم لأن الناس لا يقتدون في أمر دينهم بغير علمائهم فاختاروا لأنفسكم إحدى الحالتين ثم قال : " وأقيموا الصلاة " أي : ظاهرا وباطنا " وآتوا الزكاة " مستحقيها " واركعوا مع الراكعين " أي : صلوا مع المصلين فإنكم إذا فعلتم ذلك مع الإيمان برسل الله وآيات الله فقد جمعتم بين الأعمال الظاهرة والباطنة وبين الإخلاص للمعبود والإحسان إلى عبيده وبين العبادات القلبية والبدنية والمالية وقوله : " واركعوا مع الراكعين " أي : صلوا مع المصلين ففيه الأمر بالجماعة للصلاة ووجوبها وفيه أن الركوع ركن من أركان الصلاة لأنه عبر عن الصلاة بالركوع والتعبير عن العبادة بجزئها يدل على فرضيته فيها ( 44 ) " أتأمرون الناس بالبر " أي : بالإيمان والخير " وتنسون أنفسكم " أي : تتركونها عن أمرها بذلك والحال : " وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون " وأسمى العقل عقلا لأنه يعقل به ما ينفعه من الخير وينعقل به عما يضره وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به وأول تارك لما ينهى عنه فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله أو نهاه عن الشر فلم يتركه دل على عدم عقله وجهله خصوصا إذا كان عالما بذلك قد قامت عليه الحجة وهذه الآية وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل فهي عامة لكل أحد لقوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أمر به أنه يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين : أمر غيره ونهيه وأمر نفسه ونهيها فترك أحدهما لا يكون رخصة في ترك الآخر فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين والنقص الكامل أن يتركهما وأما قيامه بأحدهما دون الآخر فليس في رتبة الأول وهو دون الأخير وأيضا فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة ( 45 - 48 ) " واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون " أمرهم الله أن يستعينوا في أمورهم كلها بالصبر بجميع أنواعه وهو الصبر على طاعة الله حتى يؤديها والصبر عن معصية الله حتى يتركها والصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطها فبالصبر وحبس النفس على ما أمر الله بالصبر عليه معونة عظيمة على كل أمر من الأمور ومن يتصبر يصبره الله وكذلك الصلاة التي هي ميزان الإيمان وتنهي عن الفحشاء والمنكر يستعان بها على كل أمر من الأمور " وإنها " أي : الصلاة " لكبيرة " أي : شاقة " إلا على الخاشعين " فإنها سهلة عليهم خفيفة ؛ لأن الخشوع وخشية الله ورجاء ما عنده يوجب له فعلها منشرحا صدره لترقبه للثواب وخشية من العقاب بخلاف من لم يكن كذلك فإنه لا داعي له يدعوه إليها وإذا فعلها صارت من أثقل الأشياء عليه والخشوع هو : خضوع القلب وطمأنينته وسكونه لله تعالى وانكساره بين يديه ذلا وافتقارا وإيمانا به وبلقائه ولهذا قال : " الذين يظنون " أي : يستيقنون " إنهم ملاقوا ربهم " فيجازيهم بأعمالهم " وأنهم إليه راجعون " فهذا الذي خفف عليهم العبادات وأوجب لهم التسلي في المصيبات ونفس عنهم الكربات وزجرهم عن فعل السيئات فهؤلاء لهم النعيم المقيم في الغرفات العاليات وأما من لم يؤمن بلقاء ربه كانت الصلاة وغيرها من العبادات من أشق شيء عليه ثم كرر على بني إسرائيل التذكير بنعمته وعظا لهم وتحذيرا وحثا وخوفهم بيوم القيامة الذي " لا تجزي " فيه أي : لا تغني " نفس " ولو كانت من الأنفس الكريمة كالأنبياء والصالحين " عن نفس " ولو كانت من العشيرة الأقربين " شيئا " لا كبيرا ولا صغيرا وإنما ينفع الإنسان عمله الذي قدمه " ولا يقبل منها " أي : النفس شفاعة لأحد بدون إذن الله ورضاه عن المشفوع له ولا يرضى من العمل إلا ما أريد به وجهه وكان على السبيل والسنة " ولا يؤخذ منها عدل " أي : فداء " ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب " ولا يقبل منهم ذلك " ولا هم ينصرون " أي : يدفع عنهم المكروه فنفى الانتفاع من الخلق بوجه من الوجوه فقوله : " لا تجزي نفس عن نفس شيئا " هذا في تحصيل المنافع " ولا هم ينصرون " هذا في دفع المضار فهذا النفي للأمر المستقل به النافع " ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل " هذا نفي للنفع الذي يطلب ممن يملكه بعوض كالعدل أو بغيره كالشفاعة فهذا يوجب للعبد أن ينقطع قلبه من التعلق بالمخلوقين لعلمه أنهم لا يملكون له مثقال ذرة من النفع وأن يعلقه بالله الذي يجلب المنافع ويدفع المضار فيعبده وحده لا شريك له ويستعينه على عبادته . ونكمل فيما بعد بإذن الله . |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد | أبو عبد الرحمن السلفي1 | منبر التوحيد وبيان ما يضاده من الشرك | 4 | 08-11-2007 12:07PM |
شرح كتاب ثلاثة الأصول | أبو عبد الرحمن السلفي1 | منبر التوحيد وبيان ما يضاده من الشرك | 3 | 13-10-2007 08:38PM |
أصول في التفسير (للشيخ/محمد بن صالح العثيمين رحمه الله) | طارق بن حسن | منبر القرآن العظيم وعلومه | 1 | 13-12-2006 12:12AM |
حجية خبر الآحاد في العقائد والأحكام (الحلـــــــــقة الرابعـــــــــــــة) | الشيخ ربيع المدخلي | السنن الصحيحة المهجورة | 0 | 26-05-2004 01:05PM |
أسئلة الأسرة المسلمة للشيخ العثيمين رحمه الله تعالى | طارق بن حسن | منبر الأسرة والمجتمع السلفي | 0 | 12-12-2003 05:16PM |