#1
|
||||
|
||||
مجاهدة النفس §من كتاب رياض الصالحين §
شرح رياض الصالحين المجلد الثاني
11 ـ باب المجاهدة قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69) . وقال تعالى : ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين ُ) (الحجر:99). وقال تعالى : ( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) (المزمل:8)، أي انقطع إليه . وقال تعالى : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة:7) ، وقال تعالى : ( وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ) (المزمل:20) ، وقال تعالى : ( وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة:273) ، والآيات في الباب كثيرة معلومة . الشرح قال المؤلف رحمه الله تعالى : ( باب المجاهدة ) المجاهدة تعني مجاهدة الإنسان نفسه ومجاهدة غيره ، فأما مجاهدة الإنسان نفسه فإنها من أشق الأشياء ، ولا تتم مجاهدة الغير إلا بمجاهدة النفس أولاً ، ومجاهدة النفس تكون بأن يجاهد الإنسان نفسه على شيئين ، على فعل الطاعات ، وعلى ترك المعاصي ؛ لأن فعل الطاعات ثقيل على النفس إلا من خففه الله عليه ، وترك المعاصي كذلك ثقيل على النفس إلا من خففه الله عليه ، فتحتاج النفس إلى مجاهدة لا سيما مع قلة الرغبة في الخير ، فإن الإنسان يعاني من نفسه معاناةً شديدة ؛ ليحملها على فعل الخير. ومن أهم ما يكون من هذا مجاهدة النفس على الإخلاص لله ـ عز وجل ـ في العبادة ؛ فإن الإخلاص، أمره عظيم وشاق جداً ، حتى إن بعض السلف يقول : ( ما جاهدت نفسي على شيءٍ مجاهدتها على الإخلاص ولهذا كان جزاء المخلصين أن من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه حرمه الله على النار . لكن متى يكون هذا الأمر ؟ إن هذا الأمر شديد جداً ، فالمجاهدة على الإخلاص لله من أشق ما يكون على النفوس ؛ لأن النفوس لها حظوظ ؛ ولأن الإنسان يحب أن يكون مرموقاً عند الناس ، ويحب أن يكون محترماً بين الناس ، ويحب أن يقال : إن هذا رجل عابد ، هذا رجل فيه كذا وكذا من خصال الخير ، فيدخل الشيطان على الإنسان من هذا الباب ، ويحمله على مراءاة الناس . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (من سمع سمّع الله به ، ومن راءَى راءى الله به ) (46) . يعني أظهر أمره للناس حتى ينكشف والعياذ بالله . كذلك أيضاً مما يجاهد الإنسان نفسه عليه : فعل الطاعات الشاقة مثل الصوم ، فإن الصوم من أشق الطاعات على النفوس ؛ لأن فيه ترك المألوف من طعام وشراب ونكاح ، فتجده يكون شاقاً على الناس إلا من يسره الله عليه وخفف عنه . تجد بعض الناس مثلاً إذا دخل رمضان كأنما وضع على ظهره جبل ـ والعياذ بالله ـ لأنه يستثقل الصوم ويرى أنه شاق ، حتى إن بعضهم يجعل حظ يومه النوم ، وحظ ليله السهر في أمر لا خير له فيه ؛ كل ذلك من أجل مشقة هذه العبادة عليه . كذلك أيضاً من الأشياء التي تحتاج إلى مجاهدة ، مجاهدة الإنسان نفسه على الصلاة مع الجماعة ؛ كثير من الناس يسهل عليه أن يصلي في بيته ، لكن يشق عليه أن يصلي مع الجماعة في المسجد ، فتجده مع نفسه في جهاد ، يقول : أصبر، أؤدي هذا الشغل ، أو أفعل كذا ، أو أفعل كذا ، حتى .. سوف .. فتفوته صلاة الجماعة ، وثقل صلاة الجماعة على الإنسان يدل على أن في قلب الإنسان نفاقاً، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ، لو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً )(47) وهذا يحتاج إلى المجاهدة . أما مجاهدة النفس علي ترك المحرم ؛ فما أكثر المحرمات التي يشق علي بعض الناس تركها ، فتجد البعض يعتاد على فعل المحرم ويشق عليه تركه ، ولنضرب لهذا مثلين . المثل الأول : الدخان ، فإن كثيراً من الناس ابتلي بشرب الدخان ، وأول ما خرج الدخان اختلف العلماء فيه ؛ منهم من قال : إنه حلال ، ومنهم من قال : إنه حرام ، ومنهم من قال : إنه مكروه ، ومنهم من ألحقه بالخمر حتى أوجب الحد على شاربه ، ولكن بعد أنه مضت الأيام تبين تبيناً لا شك فيه أنه حرام؛ لأن الأطباء أجمعوا على أنه مضر بالصحة ، وأنه سبب لأمراض مستعصية تؤدي بالإنسان إلى الموت ، ولهذا تجد بعض المدخنين يموت وهو يكلمك ، ويموت وهو على الفراش ، وإذا حمل أدنى شيء انقطع قلبه ومات ، وهذا يدل على أنه ضار ، والشيء الضار محرم على الإنسان ؛ لأن الله يقول : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) (النساء: من الآية29) ،ويشق على بعض المبتلين بهذا الدخان أن يدعه ، مع أنه لو عود نفسه على تركه شيئاً فشيئاً ، وأبتعد عن الذين يشربونه لسهل عليه الأمر ، وصار يكره شم رائحته ، لكن المسألة تحتاج إلى عزيمة قوية وإيمان صادق . المثل الثاني : مما يشق على كثير من الناس ، وقد ابتلى به الكثير : حلق اللحى ، فإن حلق اللحية محرم ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:(خالفوا المجوس . خالفوا المشركين ، وفروا اللحى وأحفوا الشوارب )(48). كثير من الناس قد غلبته نفسه فصار يحلق لحيته ، ولا أدرى ما ذا يجني من حلق اللحية ؟ لا يجني إلا معاصي تتراكم عليه حتى تضعف إيمانه والعياذ بالله ، لأن من مذهب أهل السنة والجماعة أن المعاصي تنقص الإيمان ، فيكسب حالق اللحية معاصي تنقص إيمانه ، مع أنه لا يزيد نشاطه ولا صحته ، ولا تندفع عنه بذلك الأمراض ، ولكن ابتلي بهذا الشيء وصار شاقاً عليه ، فعلى الإنسان أن يجاهد نفسه على فعل الأوامر وعلى ترك النواهي ، حتى يكون من المجاهدين في الله ـ عز وجل ـ وقد قال الله تعالى في جزائهم : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين َ) (العنكبوت:69). أما مجاهدة الغير فإنها تنقسم إلى قسمين : قسم بالعلم والبيان ، وقسم بالسلاح . أما من مجاهدته بالعلم والبيان فهو الذي يتسمى بالإسلام وليس من المسلمين ؛ مثل المنافقين وأهل البدع المكفرة وما أشبه ذلك ، فإن هؤلاء لا يمكن أن نجاهدهم بالسلاح ؛ لأنهم يتظاهرون بالإسلام وأنهم معنا ، ولكننا نجاهدهم بالعلم والبيان ، قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة:73)، فجاهد الكفار يكون بالسلاح ، وجهاد المنافقين يكون بالعلم والبيان . ولهذا كان الرسول -عليه الصلاة والسلام ـ يعلم بأن في أصحابه منافقين ، ويعلمهم بأعيانهم ، ولكنه لا يقتلهم ، واستؤذن في قتلهم فقال : ( لا يتحدث الناس بأن محمداً يقتل أصحابه ) (49) ، فكذلك الذين ينضوون تحت لواء الإسلام من أهل البدع لا نقاتلهم بالسلاح ، لكننا نقاتلهم بالعلم والبيان . ولهذا كان واجباً على شباب الأمة الإسلامية أن يتعلموا العلم على وجه راسخ ثابت ، لا على وجه سطحي كما يوجد في كثير من بيوت العلم ، حيث يتعلمون علماً سطحياً لا يرسخ بالذهن ، علماً يقصد به الإنسان أن يحصل على بطاقة أو شهادة فقط ، ولكن العلم الحقيقي هو العلم الذي يرسخ في القلب ، ويكون كالملكة للإنسان ، حتى إن الإنسان الذي يوفق لهذا النوع من العلم ؛ تجده لا تكاد تأتيه مسألة من المسائل إلا عرف كيف يخرجها على الأدلة من الكتاب والسنة والقياس الصحيح ، فلابد من علم راسخ . والناس اليوم في عصرنا محتاجون إلى هذا النوع من العلم ؛ لأن البدع بدأ يفشو ظلامها في بلدنا هذه ؛ بعد أن كانت نزيهة منها ، لكن نظراً لانفتاحنا على الناس ، وانفتاح الناس علينا ، وذهاب بعضنا إلى بلاد أخرى ، ومجيء آخرين إلى بلادنا ليسوا على عقيدة سليمة ؛ بدأت البدع تظهر ويفشو ظلامها . وهذه البدع تحتاج إلى نور من العلم يضيء الطريق حتى لا يصيب بلادنا ما أصاب غيرها من البدع المنكرة العظيمة التي قد تصل إلى الكفر ـ والعياذ بالله ـ . فلابد من مجاهدة أهل البدع وأهل النفاق بالعلم والبيان ، وبيان بطلان ما هم عليه ؛ بالأدلة المقنعة من كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأقوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وأئمة الهدى من بعدهم . منقول من موقع الشيخ العثيمين رحمه الله http://www.ibnothaimeen.com/all/book...le_18021.shtml __________________________________________________ _______________ (46) أخرجه البخاري ، كتاب الرقاق ، باب الرياء والسمعة ، رقم ( 6499) ومسلم ، كتاب الزهد ، باب من أشرك في عمله غير الله رقم ( 2986 ، 2987) . (47) أخرجه البخاري ، كتاب الأذان ، باب فضل صلاة العشاء في جماعة ، رقم (657) ، ومسلم ، كتاب المساجد ، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها رقم ( 651) . (48) أخرجه البخاري ، كتاب اللباس ، باب تقليم الأظافر ، رقم (5892) ، ومسلم ، كتاب الطهارة ، باب خصال الفطرة ، رقم(359 ، 360) . (49) أخرجه البخاري ، كتاب التفسير ، باب قوله : (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ ) ، رقم (4905) ، ومسلم كتاب البر والصلة ، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوماً ، رقم (2584) . |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|