عرض مشاركة واحدة
  #43  
قديم 21-01-2015, 01:06AM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم




إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد

باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60)} الآيات.

ج / 2 ص -118- [الباب التاسع والثلاثون:]
* باب قول الله تعالى:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60)} الآيات.



هذا الباب من جنس الباب الذي قبله كلاهما في تغيير شرع الله، لكن هذا الباب يخص التحاكم في الخصومات خاصة والباب الذي قبله في التحليل والتحريم عموماً.
وقولُ المصنف- رحمه الله تعالى-: "باب قول الله تعالى" يعني: ما جاء في تفسير هذه الآيات ممّا ذكره أهلُ العلم في تفسيرها؛ ممّا يدلّ دَلالة واضحة على أنّ التحاكُم إلى ما أنزل الله من التّوحيد والعبادة، وأنّ التحاكُم إلى غيره شركٌ بالله عزّ وجلّ وكفرٌ به، لأنّ الحكم لله وحده: الحكم القدَري، والحكم الشرعي، والحُكم الجزائي كلّه لله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}، {لَهُ الْخَلْقُ}، هو الذي خلق، (وله الأمر)، فهو الذي يأمر وينهى، ويحلِّل ويحرِّم، ليس لغيره شركٌ في ذلك. وقال تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
فالتحاكم إلى ما أنزل الله داخلٌ في التوحيد، والتحاكُم إلى غيره من أنواع الشرك، لأنّ من معنى {لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} ومقتضاها ومدلولها: التحاكُم إلى كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم.


ومَن تحاكَم إلى غير كتاب الله وسنّة رسوله فإنّه قد أخلّ بكلمة التّوحيد فأخلّ بمقتضى "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".
فمدلول الشّهادتين: أن نتحاكَم إلى كتاب الله وإلى سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أُمورنا، ليس المُراد: التحاكُم في المنازعات فقط، بل التحاكُم في المقالات والاجتهادات الفقهيّة أيضاً، فلابدّ أن نحكِّم كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقوال المجتهدين، ونأخذ منها ما دلّ عليه الدليل، ونترك ما لم يدل عليه دليل، ولا نتعصّب

ج / 2 ص -119-لرأي فلان أو للإمام فُلان، فمن تعصّب لم يكن متحاكماً إلى ما أنزل الله وإلى الرّسول، وإنما تحاكم إلى هذا الشخص الذي تعصّب له وجَمَد على رأيه، مع مخالفته، وهو اجتهاد اجتهد فيه، لكن إذا خالف الدليل فلا يجوز لنا أن نتعصّب لرأي إمام أو لرأي عالم أو لرأي مفت من المفتين، ونحنُ نعلم أنّه مخالِفٌ للدّليل، لكن ذلك العالم معذور لأنّه مجتهِد، ولكنّه لم يصادف الدّليل، فهو معذور له أجرٌ على ذلك، لأنّ هذا منتهى اجتهادِه، أما مَن تبيّن له أن هذا الاجتهاد غير مطابِق للدّليل فلا يسعه أن يأخذ بهذا الاجتهاد، ولا يجوز له. والأئمّة ينهون عن ذلك، ينهوننا أن نأخُذ بآرائهم دون نظرٍ إلى مستندها من كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلاّ كنا- كما سبق في الباب الذي قبل هذا- أطعنا العلماء والأمراء في تحريم ما أحلّ الله وتحليل ما حرّم الله.


وكذلك التحاكُم في المناهِج التي يسمّونها الآن: مناهج الدّعوة، ومناهج الجماعات هي من هذا الباب، يجب أن نحكِّم فيها كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما كان منها متمشِّياً مع الكتاب والسنّة فهو منهجٌ صحيح يجب السّير عليه، وما كان مخالِفاً لكتاب الله وسنّة رسوله يجب أن نرفُضه وأن نبتعد عنه.
ولا نتعصّب لجماعة أو لحزب أو لمنهج دَعَوِيّ ونحنُ نرى أنه مخالِف لكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالدعاة منهم من هو داعية ضلال.
فالذي يَقْصُر هذا التحاكُم إلى الكتاب والسنّة على المحاكم الشرعيّة فقط غَالِط، لأن المراد: التحاكُم في جميع الأمور وجميع المنازَعات: في الخُصومات وفي الحُقوق المالية، وغيرها، وفي أقوال المجتهدين، وأقوال الفقهاء، وفي المناهج الدّعويّة، والمناهج الجماعيّة، لأن الله تعالى يقول: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ} و{شَيْءٍ} نكِرة في سياق الشرط، فتعتمّ كل نزاع وكل خِلاف في شيء، سواءً في الخُصومات، أو في المذاهب، أو في المناهِج. وفي أقوال الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والقدرية.


يجب أنّنا نعرف هذا، لأن بعض الناس وبعض المنتسبين للدّعوة يَقْصُر هذا على وجوب التحاكُم في المنازعات والخُصومات إلى المحاكِم الشرعية، ويقول: يجب تحكيم الشريعة ونَبْذِ القوانين، نعم، يجب هذا، ولكن لا يجوز الاقتصار
ج / 2 ص -120-عليه، بل لابُدّ أن يتعدّى إلى الأُمور الأخرى، إلى تحكيم الشريعة في كلّ ما فيه نزاع، سواءً كان هذا النّزاع بين دُول، أو كان هذا النّزاع بين جماعات، أو كان هذا النزاع بين أفراد، أو كان هذا النّزاع بين مذاهب واتّجاهات، لابدّ من تحكيم الكتاب والسنّة. نحن نُطالِب بهذا في كلّ هذه الأُمور.
أما أن نَقْصُرَهُ على ناحية ونسكُت عن النّاحية الأخرى، فنقول: النواحي الأخرى دعوا الناس إلى رغباتهم، دعوا كلاًّ يختار له مذهباً، وكلاًّ يختار له منهجاً.


نقول: هذا قُصور عظيم، لأنه يجب أن نحكِّم الشريعة في المحاكِم، ونحكّمها في المذاهب الفقهيّة، ونحكّمها في المناهج الدّعويّة، لابد من هذا، فلا يجوز لنا أن نَقْصُر كلام الله وكلام رسوله على ناحية ونترُك النواحي الأخرى، لأنّ هذا إمّا جهل وإمّا هوى.
كثيرٌ من النّاس اليوم ينادون بتحكيم الشريعة في المحاكِم وهذا حق؛ لكن هم متنازِعون ومختلفون في مناهجهم وفي مذاهبهم، ولا يريدون أن يحكِّموا الشّريعة في هذه الأمور، بل يقولون: اتركوا الناس على ما هم عليه، لا تتعرّضوا لعقائدهم، لا تتعرضوا لمصطلحاتهم، لا تتعرّضوا لمناهجهم، اتركوهم على ما هم عليه، وهذا ضلال، بل هذا من الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر، مثل قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}.


فهذا أمر يجب التنبُّه له، لأنّ هذه مسألة عظيمة غفل عنها الآن الأكثرون.
فالذين ينادون بتحكيم الشريعة إنما يريدون تحكيمَها في المخاصَمات، في الأموال، والأعراض، والخلافات بين الناس، والأمور الدّنيوية دون العقائد والمذاهب. ومناسبة عقد هذا الباب في كتاب التوحيد: أن التّحاكُم إلى ما أنزل الله هو من التّوحيد والتحاكُم إلى غيره شركٌ بالله عزّ وجلّ، شركٌ في الحكم والتّشريع.


ثم ذكَر الآيات، وهي قولُ الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} هذا تعجُّب استنكار.
{إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ
ج / 2 ص -121- يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} هل يتّفق هذا مع دعوى الإيمان؟، لا يتّفق، لأنهم يريدون أن يجمعوا بين الإيمان والكُفر، ولا يمكن هذا، فالمؤمن بالله وبرسوله يحكِّم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أما الذي يدّعي الإيمان ولكنّه في الحكم لا يرجع إلى الله ولا إلى رسول الله، فهذا ليس بمؤمن، ولهذا قال: {يَزْعُمُونَ} والزّعمُ هو: أكذبُ الحديث، وهذا يدلّ على أنهم كاذبون في دعواهم الإيمان، والدليل على كذبهم: أنّهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطّاغوت، ولو كان إيمانهم صادقاً لم يتحاكموا إلاّ إلى كتاب الله وسنّة رسول الله.


فدلّ هذا على أن إرادة التحاكُم إلى غير كتاب الله وسنة رسول الله- مجرّد الإرِادة- يتنافى مع الإيمان، فكيف إذا فَعل؟، كيف إذا تحاكَم إلى غير كتاب الله وسنّة رسوله؟، إذا كان مَن نوى بقلبه واستباح هذا الشيء ولو لم يفعل أنّه غير مؤمن، فكيف بمن نفّذ هذا وتحاكَم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله في أموره كلها، أو في بعضها؟.
وقوله: {آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} وهو القُرآن.


{وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} وهو: الكُتُب السابقة، لأنّ الإيمان بالكُتُب كلها هو أحد أركان الإيمان الستّة، الإيمان بالكُتب التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على رُسله، يجب الإيمان بها، ما سمّى الله منها وما لم يسمّ. أما الذي يؤمن بكتابٍ ويكفُر بالكتب الأخرى فهذا كافرٌ بالجميع، فاليهود إذا قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله، {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ}، فالذي يقول: لا نؤمن إلاّ بالكتاب الذي نزل على رسولنا فقط، أما الكتاب الذي نزل على غير رسولنا فلا نؤمن به. فهذا كافر بالكتاب الذي نزل على رسوله، لأنّ الكتب مصدرها واحد، يصدِّق بعضها بعضاً، وكلّها من الله سبحانه وتعالى، والرُّسل إخوة، كلّهم- عليهم الصلاة والسلام- إخوة، دعوتهم واحدة، ومنهجهم واحد، فالذي يؤمن بكتاب ويجحد غيره، أو يؤمن بالكتب إلا واحداً منها، أو يؤمن بالرسل ويكفر ببعضهم فهذا كافر ٌبالجميع، ولهذا قال: { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ(105)}، {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ(123)}، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ(141)}، {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ(160)}، مع أنهم لم يكذُبوا إلا رسولهم، لكن لَمّا كفروا
ج / 2 ص -122-برسولهم صاروا مكذبين للمرسلين جميعاً، لأنّ الرسل- عليهم الصلاة والسلام- دينهم واحد، ومنهجهم واحد، وهم إخوة، يجب الإيمان بهم جميعاً.


وقوله: {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} ادّعوا هذا، لكن لَمّا جاء التنفيذ اختلف الفعل عن القول، وتبيّنت حقيقتهم.
{يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} الطّاغوت: مشتقٌّ من الطُّغيان، وهو: مجاوزة الحدّ، قال الشيخ الإمام ابن القيِّم: (الطّاغوت: ما تجاوز به العبدُ حدّه من معبود أو متبوعٍ أو مُطاعٍ في معصية الله، والطّواغيتُ كثيرون، ورؤوسهم خمسة: إبليسٌ- لعنه الله، ومَن عُبد وهو راضٍ، ومَن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومَن حكم بغير ما أنزل الله، ومن ادّعى علم الغيب".


هؤلاء رؤوس الطواغيت، ومنهم: مَن حكم بغير ما أنزل الله، الذي هو موضوع هذا الباب، وهم الذين يحكمون ويتحاكمون بغير شريعة الله سبحانه وتعالى من القوانين والأنظِمَة، والعادات والتقاليد، وأمور الجاهلية والقَبَلِيّة، لأن هناك قوانين وَضْعِيّة وضعها البَشَر، وهناك عادات وتقاليد في المجتمعات، يمشي بعضُ الناس عليها، وهُناك أعرافٌ جاهليّة بين القبائل يسمّونها (السُّلُوم)، وشيوخ القبائل (العوارِف)، كل قبيلة لها عارفة يحكم بينهم، إمّا كاهن، وإِمّا ساحر، وإمّا رجل عادي، وهذا كلَّه منبوذ، وكلّه مطروح بعد بِعثَة الرّسول صلى الله عليه وسلم، ويَجب الرُّجوع إلى كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلّ من حكم بغير كتاب الله وسنّة رسوله مستحلاً لذلك فإنه طاغوت يجب الكُفر به. ولهذا قال: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}، وكذلك في قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا}، فالإيمان بالله لا يصحّ إلاّ بعد الكفر بالطّاغوت، فالكفر بالطّاغوت ركن الإيمان، فلا يصحّ أن يجمع بين الإيمان بالله والإيمان بالطّاغوت، لأن هذا جمعٌ بين نقيضين، والله قدّم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله. وهذا معنى "لا إله إلاّ الله"، لأنّ "لا إله إلاّ الله" إيمانٌ بالله وكُفرٌ بالطّاغوت، فقولنا: "لا إله" هذا نفيٌ، ينفي جميع المعبودات والطّواغيت، وقولُنا: "إلاّ الله" هذا إيمانٌ بالله سبحانه وتعالى وحده.


ج / 2 ص -123-وقوله: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} بيّن سبحانه وتعالى أنّ عملهم هذا إنما هو إملاءٌ من الشيطان، فهو الذي سوّل لهم هذه الإرادة- إرادة التحاكُم إلى الطّاغوت-، هو الذي سوّل لهم وأملى عليهم هذه الفكرة الخبيثة، يريد أن يُبعدهم ويُغوِيَهم، وليس ضلالاً عاديًّا، بل {ضَلالاً بَعِيداً} عن الحقّ، يُبعدهم غاية البُعد، فلا يكفيه أنّه يتركهم في مكان قريب، لأنّهم إذا كانوا في مكان قريب ربّما يرجعون، لكن يُبعدهم بُعداً لا يرون معه الحق أبداً. هذا الذي يريده الشيطان، فهو الذي يبعد الناس عن تحكيم كتاب الله وسنّة رسوله، لأنّ الشيطان يريد لهم الشّرّ ولا يُريد لهم الخير، ولا يكفيه الانحراف اليسير، لا يرضى إلاّ بالانحراف الكُلِّي والبعيد عن منهج الله سبحانه وتعالى.


ثم- أيضاً- من علاماتهم: أنهم لا يقبلون النّصيحة، لأنّ الشيطان أضلّهم ضلالاً بعيداً، ولهذا قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} طُلب منهم ونُصحوا أن يرجعوا إلى الحق لا يقبلون، لأنهم تعمّدوا مخالفة الحق، فهم ما تركوا الحقّ عن جهل، ولكنّهم تركوه عن تعمُّد، فلذلك لا يقبلون النّصيحة، ولهذا قال: {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} يعرضون إعراضاً كلياً.


والمنافقون: جمع منافق، وهو: الذي أظهر الإسلام وأبطن الكفر، لأنه لَمّا رأى قوة الإسلام لم يستطع معارضته، فلجأ إلى حيلة وهي أن يُظهِر الإيمان من أجل أن يعيش مع المسلمين ويسلَم على دمه وماله، ويَبقَى على الكفر في باطن أمره، فهو أظهر الإسلام خداعاً ومكْراً، فصار شرًّا من الكافر الخالص، لأنّ الكافر الخالص أخفّ من المنافق، لأنّ الكافر الخالص معلوم ومعروف عداوته، معروف موقفه من الإسلام، لكن هذا موقفه من الإسلام متذبذب، لا هو مع الكفّار ولا هو مع المسلمين {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ}، إن صارت الغلبة للكفّار فرح وعاش معهم، وإن صارت العزّة والغَلَبة للمؤمنين عاش معهم، فيُريد أن يعيش مع القوي، وهذا أخسّ المذاهب، وأحطّ المذاهِب، لأنّ الإنسان يجب أن يكون صريحاً، لا يخادع، لكن هؤلاء يخادعون، ولذلك صاروا في الدَّرْك الأسفل من النار {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا}.
ج / 2 ص -124-وقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً(62)} يعني: إذا نزلت بهم كارثة، أو أنزل الله فيهم قرآناً يفضحهم جاءوا إلى الرّسول يعتذرون، ويحلفون بالله، وهم أكثرُ الناس حلفاً بالله وهم كاذبون، يحلفون على الكذب وهم يعلمون.


{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} يقولون: ما أردنا مخالفتك، ولا أردنا مخالفة كتاب الله، ولكن عملنا هذا للمصلحة، وتوفيقاً بين الناس، وهذا ممّا يدلّ على غباوتهم، وعلى قُبْح سجيّتهم، فالاعتذار أخسّ من الفعل، لأنهم يدّعون أن تحكيم غير كتاب الله إحسان وتوفيق، فهذا عذرٌ أقبح من فعل، لأن الإحسان والتوفيق هو بإتّباع كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولَمّا قالوا في إحدى الغزوات: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطوناً، وأكذب ألسناً، وأجبن عند اللّقاء" يعنون: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان قد حضر مجلسهم واحدٌ من المسلمين فذهب وبلّغ الرسول صلى الله عليه وسلم، فلمّا علموا جاءوا يركضون يريدون الاعتذار، فوجدوا الوحي قد سبقهم، فأنزل الله على رسوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، ما يزيد الرسول على أن يقرأ هذه الآية، وهم متعلِّقون بناقته صلى الله عليه وسلم يعتذرون، ولا يلتفت إليهم.


ثم بيّن الله أنهم كاذبون، وأنهم يقولون ما ليس في قلوبهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ}، فهم يعتذرون إليك في الظّاهر ويحلفون في الظّاهر، وما جاءوا تائبين ونادمين، وإنّما جاءوا مخادعين.
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} لا تقبل اعتذارهم، لأنّه اعتذارٌ كاذب، وإنما يُقبل الاعتذار من الإنسان النّادم والإنسان التّائب، والإنسان المخطئ من غير تعمّد، أما الإنسان المتعمِّد للباطل فلا يُقبَل اعتذارُه إلاّ إذا رجع إلى الصواب.



{وَعِظْهُمْ} يعني: الواجب عليك تجاههم: الموعظة، بأن تخوِّفهم بالله عزّ وجلّ، وتحذّرهم من النّفاق والكذب، وتأمُرهم بالتّوبة، وتبيِّن لهم عقوبة مَن فعل هذا الفعل.
{وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} {فِي أَنْفُسِهِمْ} قيل: معناه: بيِّن لهم ما
ج / 2 ص -125-في أنفسهم، وما يبيِّتونه ممّا بيّنه الله لك، وأطلعك عليه. وقيل: معناه: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ} أي: قل لهم خالياً بهم وحدهم وأسِرَّ إليهم بالنصيحة. {قَوْلاً بَلِيغاً} يعني: كلاماً جَزْلاً فاصلاً يؤثِّر فيهم، ومعنى هذا: أنّك لا تقابلهم باللّين أو بالكلام اللّيّن أو بالملاطفة، لأنهم ليسوا أهلاً لذلك، ولكن قابلهم بالكلام البليغ الزّاجر المخوِّف المروِّع، لأنهم فعلوا فعلاً قبيحاً لا يناسِب معهم الملاطفة والملايَنة.
ثم قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ} يعني: جميع الرّسل- عليهم الصلاة والسلام- ومنهم: محمد صلى الله عليه وسلم.


{إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} بشرعه ودينه، أو بتوفيقه سبحانه وتعالى، فالواجب: طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم مخالفته، ومن طاعته: التحاكُم إليه.
ثم بيّن سبحانه وتعالى: أنّ هؤلاء لو تابوا ورجعوا إلى الله لتاب الله عليهم، فقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} يعني: لَمّا حصل منهم ما حصل من التحاكُم إلى غير كتاب الله وسنّة رسوله {جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} هذا عَرْضٌ للتّوبة. {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} لأنّ استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم شفاعةٌ منه صلى الله عليه وسلم. وهذا في حياته صلى الله عليه وسلم، فهو يستغفر للمذنبين والمسيئين، ويدعو للمسلمين في قضاء حوائجهم، فهو صلى الله عليه وسلم في حياته يستغفر ويدعو للمسلمين، أما بعد مماته صلى الله عليه وسلم فلا يُذهب إلى قبره، ولا يُطلب منه الاستغفار ولا الدّعاء، لأنّ هذا انتهى بموته صلى الله عليه وسلم، ولكن بقي- ولله الحمد- كتابُ الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم فيهما الخير، وفيهما البَرَكة، وما كان الصّحابة رضي الله عنهم يذهبون إلى قبره، ويطلبون منه ذلك.


أما الذين يستدلّون بهذه الآية على المجيء إلى قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم والدعاء عنده، وطلب الاستغفار من الرّسول وهو ميّت، فهذا باطل، لأن الصّحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا هذا، وهم أعلم الأمة وأحرص الأمة على الخير، وما كانوا يأتون إلى قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم إذا أشكل عليهم شيء، أو نزلت بهم نازلة، أو أصابهم قحط، أو انحباس مطر، أو أصابتهم شدّة من الشّدائد، ما كانت القرون المفضّلة يأتون إلى قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يطلُبون من الله، وإذا كان فيهم أحدٌ من أهل الصلاح أو من قَرابة الرّسول صلى الله عليه وسلم طلبوا منه أن يدعوَ الله لهم، كما فعل عمر رضي الله عنه مع العبّاس بن
ج / 2 ص -126-عبد المطّلب- عمّ الرّسول صلى الله عليه وسلم- لَمّا انحبس المطر واستسقوْا، قال عمر رضي الله عنه: "اللهم إنّا كنا نتوسّل إليك بنبيّك فتسقينا" يعني: يوم أنْ كان حيًّا- عليه الصّلاة والسلام، "وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا، ادع يا عبّاس".


هذا عمل الصّحابة رضي الله عنهم، ما كانوا يأتون إلى قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم، بل عدَلوا إلى العبّاس لأنّ العباس حيّ موجود بينهم والرّسول صلى الله عليه وسلم ميّت، والحي يقدر على الدعاء والاستغفار، والميت لا يقدر، ومن لم يفرّق بين الحي والميت فهو ميّت القلب.


وكذلك معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لَمّا استسقى، طلب من أبي يزيد الجُرَشي أن يدعوَ الله، فدعا، هذا عمل الصّحابة، وهم أفقهُ الأمة وأعلم الأمة، ما كانوا يأتون إلى قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم، وإنما كانوا إذا قدِموا من سفر يأتون إلى قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم للزّيارة والسلام على الرّسول صلى الله عليه وسلم ثم ينصرفون، ما كانوا يأتون ويدعون عند القبر، أو يطلُبون من الرّسول صلى الله عليه وسلم الشّفاعة، أو يطلُبون منه الاستغفار بعد موته هذا لا يجوز، لأنّه من وسائل الشّرك.


وتدلّ الآية على أن المنافقين لو تابوا تاب الله عليهم، وأنّ مَن تحاكَم إلى غير شريعة الله أنه يجب عليه التّوبة، وإذا تاب تاب الله عليه.
أما المخادَعة، وأما الكلام الفارغ، وأنّنا ما أردنا بهذه الأُمور إلاّ الخير والإصلاح بين الناس، وما أردنا مخالفة الكتاب والسنّة، فهذا لا يُقبل، ولا اعتذار فيه أبداً. وتنميق الألفاظ، وتنميق الاعتذارات والحُجج المزخرفة، كل هذا لا يُقبل إلاّ مع التّوبة الصّادقة، وترْك هذا الذنب العظيم.


كثيرٌ ممّن يحكِّمون القوانين اليوم ممّن يدّعون الإسلام يعتذرون بأعذار باطلة فيقال لهم: إنْ كنتم تريدون الحق فارجعوا عمّا أنتم عليه وتوبوا إلى الله كما عرض الله التّوبة على مَن كان قبلكم. أزيلوا هذه القوانين، وهذه الطاغوتيّة إنْ كنتم صادقين وتوبوا إلى الله، والله يتوب على مَن تاب. أما الاستمرار على الذّنب مع إظهار التّوبة والاستغفار، فهذه مخادَعة لا تجوز، لأن شروط التّوبة: الإقلاع عن الذّنب، والعزم أن لا يعود إليه، والنّدم على ما فات.


ثم قال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} هذا ردٌّ على دعواهم الإيمان، وهو ردّ مؤكّد بالقسم.
ج / 2 ص -127- {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} من النِّزاع والاختلاف، وهذا- كما ذكرنا- عامٌّ للاختلاف في الخُصومات الّتي تنشَبُ في الأموال أو غيرها، وفي العقائد، وعامٌّ في الخُصومات في المذاهب والآراء الفقهية، وعام في الخصومات في المناهج الدّعويّة التي انقسم فيها النّاس اليوم، يجب أن يحكَّم فيها كتاب الله وسنّة رسوله، فإن لم يُفعلوا فليسوا بمؤمنين، لأن الله أقسم سبحانه على نفي الإيمان عن من لم يعمل هذا العمل.
ثم قال تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} أما مَن تحاكَم إلى الشّريعة ولكنّه قَبِل الحُكم على مَضَض، وهو يجد في نفسه كراهية لهذا الحكم فهذا ليس بمؤمن، لابدّ أن يقبَل هذا الحُكْم عن اقتناع، أما إنْ قَبِلَه مضطّرًّا وأغمض عليه إغماضاً فهذا ليس بمؤمن.
ثم قال تعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ينقادون انقياداً تاماً.


فهذه ثلاثة أمور:
أولاً: يحكِّموك فيما شَجَر بينهم.
ثانياً: أن لا يجدوا في أنفسهم حرجاً من حكم الله ورسوله.
ثالثاً: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ينقادون انقياداً لحكم الله ورسوله.
فبهذه الأمور الثلاثة يثبُت الإيمان بها ويتحقّق.


فالذي لا يحكِّم كتاب الله وسنّة رسوله ليس بمؤمن، والذي يحكِّم كتاب الله وسنّة رسوله ولا يرضى به، وإنما يقبَله مجامَلة، أو لأجل غَرضٍ من الأغراض هذا ليس بمؤمن، والّذي لا ينقاد ولا يسلِّم، هذا ليس بمؤمن.
ثم- أيضاً- ليس المقصود من التحاكُم إلى الشريعة هو مجرّد تحقيق الأمن والعَدالة بين الناس، فهذا لا يكفي، لابدّ أن يكون تحكيم الشريعة تعبُّدا ًوطاعةً لله، فالّذين يحكِّمون الشّريعة من أجل ما فيها من المصالح والعدل بين الناس فقط، فهذا لا يدلّ على الإيمان، لابد أن يكون تحكيم الشّريعة صادراً عن إيمان وتعبُّد لله عزّ وجلّ وطاعةً لله عزّ وجلّ، لأنّ هذا من التّوحيد، أمّا الذي لا يقبل من الشّريعة إلا المصالح الدنيويّة والعدالة الحاصلة بين الناس في هذه الدنيا فهذا لا يكفي، بل يحكِّم الشريعة

ج / 2 ص -128-وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)}.
وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}.


طاعةً وتعبُّداً، وخُضُوعاً لحكم الله سبحانه وتعالى، ولهذا صار تحكيم الشّريعة من التّوحيد.
والشّاهد من الآيات للباب واضح، أنّها تدلّ على أنّ تحكيم الشّريعة والتحاكُم إليها من توحيد الله عزّ وجلّ، وأنّ ترْكَ ذلك من الشّرك بالله ومن صفات المنافقين.


قوله رحمه الله: "وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11)}" هذه الآية في سياق الآيات التي ذكرها الله في مطلَع سورة البَقرة في المنافقين أي إذا قيل للمنافقين: لا تُفسدوا في الأرض بالمعاصي، ومن أشدّ المعاصي: التحاكُم إلى غير ما أنزل الله، وهذا وجه إيراد الآية في هذا الباب وهو أنّ تحكيم غير شريعة الله من الإفساد في الأرض، وأن تحكيم شريعة الله هو صَلاح الأرض، فكذلك بقيّة الطّاعات، فصلاح الأرض إنّما يكون بطاعة الله عزّ وجلّ وفساد الأرض إنّما يكون بمعصية الله عزّ وجلّ، فالمعاصي تُحدِثُ الفساد في الأرض من نُضوب المياه، وانحباس الأمطار، وغلاء الأسعار، وظُهور المعاصي والمنكَرات، كلّ هذا فسادٌ في الأرض، ولا صلاح للأرض إلا بطاعة الله عزّ وجلّ، ولا عِمارة للأرض إلاّ بطاعة الله عزّ وجلّ.


فالمنافقون إذا قيل لهم: اترُكوا النّفاق لأنّ النفاق فساد، {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، وهذا من فساد الفِطْرة، حيث يعتقدون أنّ ما هم عليه هو الإصلاح، وأنّ ما عليه المؤمنون هو الفساد. وهكذا كلّ صاحب مذهب فاسد، يدّعي أن مذهبه إصلاح في ا لأرض، وأنّه تقدّم، وأنه رُقيّ، وأنّه حضارة، وأنّه، وأنه، إلى آخره.
وكما ذكرنا: أنّ التحاكُم إلى كتاب الله من الإصلاح في الأرض، والتحاكُم إلى غير كتاب الله من الإفساد في الأرض، فيكون هذا وجه سِياق المصنِّف رحمه الله لهذه الآية في هذا الباب.
قال رحمه الله: "وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}" هذه الآية من سورة الأعراف.
ج / 2 ص -129-وقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} الآية.


وهذه كآية سورة البقرة تماماً ومعناها لا تُفسدوا في الأرض بالمعاصي، والشّرك بالله عزّ وجلّ، وتحكيم غير ما أنزل الله، {بَعْدَ إِصْلاحِهَا} بإرسال الرُّسل وإنزال الكتب والإيمان بالله عزّ وجلّ، فالله أصلح الأرض بإرسال الرُّسل وإنزال الكُتب وحُصول الإيمان فيها، فلا يجوز أن تُغَيَّر نعمةُ الله عزّ وجلّ وتُسْتَبْدَل بضدّها، فيكون بعد التّوحيد الشرك، ويكون بعد تحكيم كتاب الله تحكيم القوانين الوضعيّة والعوائد الجاهليّة، ولا يكون بعد الطّاعات المعاصي والمخالفَات.


قال رحمه الله: "وقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} المراد بالجاهلية: ما كان قبل الإسلام، كان أهل الجاهليّة على ضلالة، ومن ذلك: التّحاكم، كانوا يتحاكمون إلى الكُهّان، وإلى السحرة، وإلى الطّواغيت، وإلى العوارِف القَبَليّة.
فهؤلاء المنافقون الذين ادّعوا الإسلام يريدون حكم الجاهليّة، ولا يريدون حكم الله سبحانه وتعالى، ولا يريدون أن ينتقلوا من حكم الجاهلية إلى حكم الشريعة، بل يريدون البقاء على حكم الجاهلية، وهذا مذهب المنافقين دائماً ومَن سار في رَكْبِهم.


وهذا استنكارٌ من الله سبحانه وتعالى لمن يريد أن يستبدل الشّريعة بالقوانين الوضعيّة، لأنّ القوانين الوضعيّة هي حكم الجاهليّة، لأنّ حكم الجاهلية أوضاع وضعوها ما أنزل الله بها من سلطان، والقوانين الوضعيّة أوضاع وضعها البشر، فهي وحكم الجاهليّة سواء لا فرق، فالذي يريد أن يحكم بين الناس بالقوانين الوضعيّة يريد حكم الجاهليّة الذي أراده المنافقون من قبل.
ثم قال: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} {مَنْ} بمعنى: لا، أي: لا أحد أحسنُ من الله حكماً، لأنّ الله سبحانه وتعالى، عليم حكيم خبير، يعلم ما يصلُح به العباد، ويعلم حوائج النّاس، ويعلم ما يُنْهِي النزاعات بين النّاس، ويعلم العواقب وما تؤول إليه، فهو تشريعٌ من عليم حكيم سبحانه وتعالى، لا يستوي هو والقوانين التي وضعها البشر، الذين عقولهم قاصرة وتدخُلهم الأهواء والرّغبات، وعلمهم محدود، إنْ كان عندهم علم، لا يشرِّع للبشر إلاّ خالق البشر الذي يعلم مصالحهم، وبعلم ما تنتهي إليه أُمورهم، ولهذا قال: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ} أي: لا أحد أحسنُ حكماً من الله،
ج / 2 ص -130-وعن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لَمّا جئت به" قال النووي: (حديث صحيح، رويناه في كتاب "الحجة" بسند صحيح".


وأفعل التفضيل هنا على غير بابه، فليس هناك طرفان، أحدهما أفضل من الآخر، فحكم البشر ليس فيه حسن أبداً، وإنما حكم الله هو الحسن وحده.
قال: "وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لِمَا جئت به".
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدُكم" هذا نفيٌ للإيمان الكامل، وليس نفياً للإيمان كلِّه، لأنّه قد يأتي نفي الإيمان، ويُراد نفي الإيمان الكامل كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبّ لنفسه"، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرِق السّارق حين يسرِق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" فالمراد بهذَا: نفيُ الإيمان الكامل، لا نفي مطلَق الإيمان، فإنّ الفاسق يكون معه من الإيمان ما يصحّ به إسلامُه، أمّا الذي ليس معه إيمان أصلاً، فهذا كافرٌ خارجٌ من الملّة. وهذا مذهب أهل السنّة والجماعة: أن الفاسق لا يُسْلَب مطلَق الإيمان، ولا يعطى الإيمان المطلَق، فلا يُسلب لمطلق الإيمان بحيث يكون كافراً كما تقوله الخوارج والمعتزلة، ولكنه لا يُعطى الإيمان المطلق كما تقوله المرجئة، وإنما يُقال: "مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته"، أو يُقال: "مؤمنٌ ناقص الإيمان"، لأنّ الذين يقولون: إن صاحب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان، هم المرجئة، والذين يقولون: إن صاحب الكبيرة كافرٌ خارجٌ من الإيمان وليس معه من الإيمان شيء، هؤلاء هم الخوارج والمعتزلة.


وأهل السنّة- ولله الحمد- وسط بين هذين المذهبين، فلا يسلِبون مرتكب الكبيرة الإيمان بالكُلِيّة، ولا يُعطونه الإيمان الكامل، وإنما يسمّونه مؤمناً فاسقاً أو مؤمناً ناقص الإيمان.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "حتى يكون هواه" الهوى مقصور، معناه: تكون محبّته ورغبته تابِعةً لِمَا جئتُ به، فما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم أحبّه، وما خالف ما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم أبغضه، هذا هو المؤمن الذي يحبّ ما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم ويُبغض ما خالفه.
ج / 2 ص -131-"تبعاً لِمَا جئتُ به" من الشّريعة والكتاب والسنّة، فهذه علامةٌ واضحة بين أهل الإيمان وأهل الكفر.


قوله: "قال النّووي" الإمام أبو زكريّا يحيى بن شَرَف النّووي، صاحب التصانيف العظيمة في الإسلامِ كـ "شرح صحيح الإمام مسلم"، "وروضة الطالبين" في الفقه، وغير ذَلك من المصنّفات العظيمة، وقد تُوفّي رحمه الله وهو شابّ في الأربعين من عُمُره.
وقوله: "رَوَيْنَاهُ في كتاب الحُجّة" وهو كتابٌ لأبي الفتح نصرْ بن إبراهيم المقدِسي الشّافعي، سماه: "الحُجّة على تارك المَحَجَّة"، وهو كتابٌ في التوحيد يردّ فيه على المبتدعة وأصحاب المقالات الباطلة في العقيدة، فيُعتبر من كتب العقيدة وهو مطبوع محقق.


"بسند صحيح" الإسناد تؤيِّده الأدلّة من الكتاب والسنّة، فإنّ المؤمن يجب أن يكون محبًّا وراغباً فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ومبغضاً لِمَا سواه، قال الله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ}، وقال سبحانه وتعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} فالذي لا يأخذ من الشرع إلاّ ما يوافق هواه ويترك ما خالف هواه ورغبته إنَّما يتّبع هواه، وقد اتّخذ هواه إلهاً يطيعُه فيما يريد وفيما يكره، أما الذّي يتّخذ الله جل وعلا إلهاً فإنه يتبع ما جاء عن الله سواءً وافق رغبته أو خالف رغبته، فإنّ الله وصف المنافقين بأنهم لا يأخذون إلاّ ما وافق أهواءهم، قال صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ(48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49)} يعني: إذا كان الحكم لهم جاءوا، وإذا كان الحكم عليهم لم يأتوا ولا يقبلون، وهذا نفاق، وفي آخر الآيات السابقة: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً(65)}.


وهذا كلّه يشهد لهذا الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
ثم ذكر المؤلِّف- رحمه الله تعالى- سببين من أسباب نُزول قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ}:
ج / 2 ص -132-وقال الشعبي: كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد. عرف أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود. لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، فاتفقا أن يأتيا كاهناً في جهينة فيتحاكما إليه، فنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} الآية.


السبب الأول:
قوله: "قال الشّعبي: كان بين رجلٍ من المنافقين ورجل من اليهود خُصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد" لأنّه يعرف أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يأخذ الرشوة.
"وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود. لعلمه أنهم يأخذون الرشوة" والرّشوة مثلّث الرّاء، يقال: رِشوة، ورَشوة، ورُشوة، هي: ما يدفعه أحدُ الخصمين للحاكم من أجل أن يقضي له، وما يدفعه للموظّف أحدُ المراجعين من أجل أن يقدِّم معاملته على معاملة غيره من المستحقِّين، أو من أجل أن يعطيه ويحرِم المستحقِّين، أو من أجل أن يعطيه حقّه الذي ليس فيه ضرر على أحد، فهذه رشوة، سواء كانت للقاضي في المحكمة، أو كانت لموظّف في أحد الدوائر الحُكوميّة، من أجل أن يتلاعب بحقوق المراجعين، ويقدِّم من لا يستحقّ التقديم، ويؤخّر من يستحقّ التقديم، أو يعطي من لا يستحقّ، ويحرِم المستحقّ في الوظائف أو في أيّ شيء من المراجَعات.


والرّشوة سُحْتٌ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الراشي والمرتشي" الراشي هو: الذي يدفع الرّشوة، والمرتشي هو: الذي يأخُذ الرشوة، وقد سمّاها الله سُحْتاً في قوله عن اليهود: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}، والمراد بالسُّحت: الرّشوة، لأنّ الرشوة تُفسد المجتَمَع، فتفسد الحُكّام، والقُضاة، والموظّفين، وتضرّ أهل الحق، وتقدِّم الفُسّاق، ويحصُل بها خللٌ عظيم في المجتمع.
فالرشوة وَباءٌ خطير، إذا فَشَتْ في المجتمع خَرب نظامُه، واستطال الأشرار على الأخيار، وأُهين الحقّ، فهي سُحْتٌ وباطلٌ، وهي من أعظم الحرام- والعياذ بالله- قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا
ج / 2 ص -133-وقيل: نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له القصة، فقال للذي لم يرضَ برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟، قال: نعم. فضربه بالسيف فقتله.


فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(188)} قيل: هذه الآية نزلت في الرّشوة التي تُدفع للحُكّام من أجل أكل أموال النّاس بالباطل، سُمِّيت رشوة؛ مأخوذة من الرِّشاء وهو الحبل الذي يُتَوَصِّل به إلى استنباط الماء من البئر، فكأن مقدِّم الرشوة يريد سحب الحكم أو جذب الحكم لنفسه دون غيره، من ذلك سمّيت رشوة.


فهذا اليهودي طلب التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لعلمه أن الرسول لا يأخذ الرشوة لأن الرشوة سُحْتٌ وحرام وباطل، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالحقّ والعدل بين الناس.
وأما المنافق- مع أنه يزعُم الإيمان- طلب أن يتحاكم إلى اليهود لعلمه أنّ اليهود يأخذون الرشوة، فقد قال الله تعالى فيهم: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}.


"ثم اتّفقا أن يأتيا كاهناً" والكاهن هو الذي يتلقّى عن الشّياطين في استراق السمع، فالكاهن يستخدم الشياطين، وتُخبره بأشياء من الأمور الغائبة، فيُخبِر بها الناس ويكذب معها.
"في جُهينة" وجهينة: قبيلة معروفة، وبقال: إنها حيٌّ من قُضاعَة، وهي قبيلة كبيرة.
"فنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ}".
فيكون هذا أحد القولين في سبب نزول الآية الكريمة.


والسبب الثاني
لنزول الآية:
أنها: "نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخَر: إلى كعْب بن الأَشْرف" وكعب بن الأشرف زعيمٌ من زعماء اليهود، وهو عربيّ من قبيلة طَيِّء، ولكن كان أخوالُه من اليهود من بني النّضير، فتهوّد، وكان من أَلَدِّ خُصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ذهب إلى أهل مكّة بعد غزوة بدر يرثي قتلى
ج / 2 ص -134-المشركين، ويحرّض أهل مكّة على غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أنزل الله تعالى فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً(50)}، ثم رجع إلى المدينة وجعل يُنشد الأشعار في ذمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحرِّض الناس عليه، فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لي بكعب بن الأشْرَف فقد آذى الله ورسوله؟" فانتدب محمد بن مَسْلَمة الأنصاري رضي الله عنه، واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله، فخرج هو ورجالٌ معه إلى كعب بن الأشرَف باللّيل، فدعوه فنزل إليهم، فقتلوه وأراحوا المسلمين من شرّه، لأنّه لَمّا خان الله ورسوله، وصار يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقض عهده، فأهدر النّبي صلى الله عليه وسلم دمه، وأَمر هؤلاء بقتله، فقتلوه بأمر النّبي صلى الله عليه وسلم، وأراح الله المسلمين من شرّه.


"ثم ترافعا إلى عمر" وكلّ هذا محاولة للابتعاد عن حكم الله ورسوله.
"فذكر له" أحدُهما "القصّة" يعني: سبب مجيئهما.
"فقال": عمر رضي الله عنه: "للّذي لم يرضَ برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟، قال: نعم. فضربه بالسّيف فقتله" لأنّه مرتدّ عن دين الإسلام، أو لأنّه لم يُسْلِم من الأصل، ولكنّه أظهر الإسلام نفاقاً، والمنافق إذا ظهر منه ما يعارِض الكتاب والسنّة وَجَب قتلُه دفعاً لشرّه، ولكنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين كعبد الله بن أُبيّ وغيره، درْءاً للمفسدة، لئلاّ يتحدّث الناس أنّ محمداً يقتُل أصحابه. فالرّسول صلى الله عليه وسلم ارتكب أخفّ، المفسدتين- وهي: ترك قتله- لدفع أعلاهما وهو قول الناس: محمد يقتل أصحابه.
هذا وجه كون الرّسول لم يقتل المنافقين مع عداوتهم لله ولرسوله، لأنّه خشي من مفسدة أكبر.


فدلّت هذه النّصوص في هذا الباب العظيم على أحكام عظيمة:

أوّلاً:
في الآيات والحديث: وُجوب التحاكُم إلى كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنّ هذا هو مقتضى الإيمان.
ثانياً: وُجوب تحكيم الكتاب والسنّة في كلّ المنازَعات، لا في بعضها دون بعض، فيجب تحكيمها في أمر العقيدة، وهذا أهمّ شيء، وفي المنازعات الحقوقيّة
ج / 2 ص -135-بين الناس، وفي المنازعات المنهجيّة والمذاهب والمقالات، وفي المنازعات الفقهية: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}"، أما الذي يريد أن يأخُذ جانباً فقط، ويترك ما هو أهمّ منه، فهذا ليس تحاكُماً إلى كتاب الله، فما يقوله دعاة الحاكميّة اليوم ويريدون تحكيم الشريعة في أُمور المنازعات الحقوقيّة، ولا يحكِّمونها في أمر العقائد، ويقولون: النّاس أحرار في عقائدهم، يكفي أنّه يقول: أنا مسلم، سواءً كان رافضيّاً أو كان جهمياً أو معتزليّاً، أو.. أو.. إلى آخره، "نجتمع على ما اتفقنا عليه، ويعذُر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه" هذه القاعدة التي وضعوها، ويسمونها: القاعدة الذهبية. وهي في الحقيقة: تحكيم للكتاب في بعض، وترك له فيما هو أهمّ منه، لأنّ تحكيم الشريعة في أمر العقيدة أعظم من تحكيمها في شأن المنازعات الحُقوقية، فتحكيمُها في أمر العقيدة وهدم الأضرحة ومشاهد الشرك، ومقاتلة المشركين حتى يؤمنوا بالله ورسوله، هذا أهمّ، فالذي إنما يأخذ جانب الحاكميّة فقط ويُهمِل أمر العقائد، ويُهمِل أمر المذاهب والمناهج التي فرّقت الناس الآن، ويُهمل أمر النّزاع في المسائل الفقهيّة، ويقول: أقوال الفقهاء كلها سواء، نأخذ بأيّ واحدٍ منها دون نظر إلى مستنده. فهذا قول باطل، لأن الواجب أن نأخذ بما قام عليه الدليل، فيحكَّم كتاب الله في كلّ المنازَعات العَقَديّة، وهذا هو الأهم، والمنازَعات الحُقوقيّة، والمنازَعات المنهجيّة، والمنازَعات الفقهيّة، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} هذا عامّ، {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ} هذا عام أيضاً.


وهؤلاء الذين جعلوا الحاكميّة بدل التوحيد غالطون، حيث أخذوا جانباً وتركوا ما هو أعظم منه، وهو العقيدة، وتركوا ما هو مثله- أو هو أعظم منه- وهو المناهج التي فرّقت بين الناس، كلّ جماعة لها منهج، كل جماعة لها مذهب، لم لا نرجع إلى الكتاب والسنّة ونأخذ المنهج والمذهب الذي يوافق الكتاب والسنّة ونسير عليه.


والحاصل؛ أنّ تحكيم الكتاب والسنّة يجب أن يكون في كلّ الأُمور، لا في بعضها دون بعض، فمن لم يحكِّم الشريعة في كلّ الأمور كان مؤمناً ببعض الكتاب وكافراً ببعض شاء أم أبى، {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}.
ج / 2 ص -136- المسألة الثالثة: في هذه النصوص تفسير الطّاغوت، وأنّ من معانيه: كل بغير ما أنزل الله.
المسألة الرّابعة: في هذه النصوص دليل على أنّ مَن اختار حكم الطاغوت على حكم الله، أو سوّى بين حكم الله وحكم الطّاغوت وادّعى أنّه مخيّر بينهما أنّه كافر بالله خارجٌ من الملّة، لأن الله تعالى قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا} فكذّبهم في دعواهم الإيمان ما داموا يتحاكمون إلى الطّاغوت، لأنّه لا يمكن الجمع بين النّقيضين، فمن اختار حكم الطّاغوت على حكم الله أو سوّى بينهما وقال: هما سواء، إنْ شئنا أخذنا بهذا، وإنْ شئنا أخذنا بهذا، أو قال: تحكيم الطاغوت جائز، أو حَكَم بالشريعة في بعض الأمور دون بعض، فهذا كافر بالله. كالذين يحكِّمون الشريعة في الأحوال الشخصية فقط. أما من حَكَم بغير ما أنزل الله لهوىً في نفسه، وهو يعترف ويعتقد أن حكم الله هو الحق، وحكم غيره باطل، ويعترف أنه مخطئ ومذنب، فهذا يكفر كفراً أصغر لا يخرج من المِلّة.


المسألة الخامسة: في حديث عبد لله بن عمرو وفي آخر الآيات: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} دليل على أنّ علامة الإيمان: أن يقتنع بحكم الله ورسوله، فإن لم يقتنع وكان في نفسه شيء من عدم الاطمئنان فهذا دليلٌ على ضعف إيمانه، أو على عدم إيمانه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدُكم حتى يكون هواهُ تَبعاً لِمَا جئتُ به"، قال تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}. فمن علامة الإيمان: الاطمئنان لحكم الله ورسوله، سواءً كان له أو عليه، فلا يجد في نفسه شيئاً من التّبرُّم أو الكراهية حتى ولو كان الحكم عليه.


المسألة السّادسة: في سبب نزول الآية: دليل على تحريم الرّشوة، لأنّها من أكل المال بالباطل، ولأنّها تسبّب تغيير الأحكام عن مجراها الصحيح، وأنّها من صفة اليهود، فمن أخذها من هذه الأمّة فقد تشبّه باليهود، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من تشبّه بقوم فهو منهم"، مع ما فيها من أكل المال بالباطل مع ما فيها من إفساد الحكم، ونشر الفوضى في الحُقوق، وهي شرٌّ كلّها.


ج / 2 ص -137- المسألة السّابعة: في الحديث دليل على وُجوب قتل المنافق إذا ظهر منه ما يعارض الكتاب والسنّة، لأنّه أصبح مفسداً في الأرض، فيجب على ولي الأمر قتله إلاّ إذا ترتب على قتله فساد أكبر.
المسألة الثامنة: في قوله: {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} أنّه لا يُقبل اعتذار من تحاكَم إلى غير الكتاب والسنّة، لأنّ الله أنكر عليهم ذلك، وهم {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}، فلا يُقبل اعتذار مَن حكّم غير الكتاب والسنّة، ولو اعتذر بما اعتذر فإنّه لا عُذر له، لأنّ الله لم يقبل منهم هذا الاعتذار.


المسألة التاسعة: في قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} فيه: قَبول التّوبة من المرتدّ، فإنّ الله عرَض عليهم التّوبة مع ردّتهم في تحكيم غير ما أنزل الله أنهم لو تابوا تاب الله عليهم.
والمسألة العاشرة: فيه أن طلب الدّعاء من الرّسول صلى الله عليه وسلم إنما هو في حال حياته، بدليل أن الصّحابة رضي الله عنهم ما كانوا يأتون إلى قبره صلى الله عليه وسلم يطلبون منه الاستغفار والدعاء، وهم القدوة، وخير القرون، وأعلم الناس بتفسير القرآن ولأنه سبحانه قال: {إِذْ ظَلَمُوا} وإذ ظرف لما مضى من الزمان. ولم يقل: "إذا ظلموا" لأن إذا ظرف لما يستقبل من الزمان.


وما يذكرونه من قصة الأعرابي الذي جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه الاستغفار بعدما تلا الآية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا...}، فهي قصة مختلقة لا أصل لها، ولو صحّت لم يجز الاستدلال بها، لأنها فعل أعرابي جاهل مخالف لما عليه الصّحابة، وهم أعلم الأمة بما يُشرع وما لا يُشرع. وديننا لا يُؤخذ من القصص والحكايات، وإنما يُؤخذ من الكتاب والسنّة وهدي السلف الصالح.


قال الشيخ رحمه الله: "فيه مسائل:
المسألة الأولى: تفسير آية النساء، وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت" أي: أنّ الطاغوت هو من يحكُم بغير ما أنزل الله، سمّاه الله طاغوتاً.
الثانية: تفسير آية البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ...} الآية" أي:
ج / 2 ص -138- ومن أعظم الإفساد في الأرض: التحاكُم إلى غير ما أنزل الله.
"الثّالثة: تفسير آية الأعراف: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}" أي: أن مِن أعظم الإفساد في الأرض بعد إصلاحها: تحكيم غير الشّريعة.
"الرّابعة: تفسير: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}" أي: أنّ حكم الجاهلية هو الحكم بغير ما أنزل الله، فكلّ حكم يخالف حكم الله فإنّه حكم الجاهلية في أيّ وقت، ولو سُمّي قانوناً، أو نظاماً، أو دستوراً، أو سُمّي ما سُمّي، فإنّه حكم الجاهليّة.
"الخامسة: ما قال الشّعبي في سبب نزول الآية" أي: أن الشّعبي ذكر سبب نزول الآية الأولى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ}، وأنّها نزلت في رجلين أرادا التحاكم إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم فنفى الله الإيمان عمن أراد ذلك؛ مجرد نية فكيف إذا نفذ هذا!.
"السّادسة: تفسير الإيمان الصادق والإيمان الكاذب" أي: أن من الإيمان الصّادق: تحكيم ما أنزل الله عزّ وجلّ، والإيمان الكاذب هو تحكيم الطاغوت ولو ادعى الإيمان بالله.





المصدر :

كتاب :
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد

رابط تحميل الكتاب

http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf





رد مع اقتباس