عرض مشاركة واحدة
  #42  
قديم 21-01-2015, 12:45AM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم




إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد

بابٌ من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحلَّ الله أو تحليل ما حرّمه الله فقد اتخذهم أرباباً

ج / 2 ص -107- [الباب الثامن والثلاثون:]
* بابٌ من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحلَّ الله أو تحليل ما حرّمه الله فقد اتخذهم أرباباً


ـ
قال الشيخ رحمه الله: بابٌ "من أطاع العلماء والأمراء" هذا شرط وجوابه، وذلك لأن التحليل والتحريم حقٌّ لله سبحانه وتعالى لا يشاركه فيه أحد، فمن حلّل أو حرّم من غير دليلٍ من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جعل نفسه شريكاً لله، ومن أطاعه فقد أشركه مع الله في التشريع. وليس في الآية التي سيوردها المصنف ذكر للأمراء. وإنما هو إشارة إلى قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67)}.


وهذا ما يسمى بشرك الطاعة، لأن العبادة معناها: طاعة الله سبحانه وتعالى بفعل أوامره وترك نواهيه، ومن ذلك: مسألة التحليل والتحريم، فهي داخلة في العبادة، بدليل قوله تعالى لَمّا ذكر ما يفعله المشركون من استباحة ما حرّمه الله من الميتة التي حرّمها وهم يستحلُّونها ويقولون: هي أولى بالأكل من المُذَكّاة، لأن المذكّاة أنتم ذبحتموها، وأمّا الميتة فإن الله هو الذي ذبحها، وكانوا تلقّوا هذه المقالة من المجوس، فأنزل الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ(118)} إلى قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ(121)} أي: إنْ أطعتموهم في استباحة الميتة وخالفتم أمرَ الله سبحانه وتعالى بتركها، {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} مع الله في التحليل والتحريم.
فطاعة العلماء والأمراء في مثل هذا شرك، في تحليل ما حرّم الله أو تحريم ما أحل الله. فإن كان الذي أطاعهم يعلم أنهم خالفوا أمر الله في ذلك وتعمّد طاعتهم واستباح هذا، فهذا شركٌ أكبر يُخرِج من الملّة.


وإنْ كان الذي أطاعهم يعتقد أن هذا حرام، ويعترف أن هذا خطأ، ولكنه أطاعهم لهوىً في نفسه أو رغبة في نفسه مع اعترافه بالمعصية، فهذا شرك أصغر.
وإن كان أطاعهم وهو لا يعلم أنهم خالفوا شرع الله، بل ظن أنهم على حق، فهذا معذور إن كان مثله يجهل ذلك.
وأما طاعة العلماء والأمراء في غير معصية الله فهذا أمرٌ واجب، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، فطاعة العلماء
ج / 2 ص -108- وقال ابن عبّاس: "يوشِك أن تنزل عليكم حجارةٌ من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟! ".


وطاعة وُلاة الأمور في غير معصية الله أمرٌ أوجبه الله على الناس.
و {وَأُولِي الْأَمْرِ} قيل: هم الأمراء، وقيل: هم العلماء.
والصواب: أن الآية تعني العلماء والأمراء معاً، فكلهم من أولي الأمر، فالعلماء يبيِّنون الأحكام الشرعية، والأمراء ينفِّذونها.
فليست طاعة وُلاة الأمور ممنوعة مطلَقاً ولا جائزة مطلقاً، بل فيها هذا التفصيل الذي لابد منه. والشيخ رحمه الله خصص تحريم طاعتهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال فقال: "من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً" ولم يعمم تحريم طاعتهم.
قوله: "وقال ابن عبّاس" هو: حَبْر الأمة، وترجُمان القرآن، عبد الله بن عبّاس بن عبد المطّلب، ابن عمّ النبي صلى الله عليه وسلم.
"يوشِكُ" معناه: يقرُب.


"أن تنزل عليكم حجارة من السماء" عقوبةً لكم كما نزلت الحجارة على من كان قبلكم ممن خالفوا الرسل.
"أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر" هذا هو السبب الذي يوجِب نزول الحجارة وهو طاعة العلماء والأمراء فيما يخالف شرع الله.
قال ابن عبّاس رضي الله عنهما هذه المقالة لَمّا بلغه أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما الخليفتين الراشدين، كانا لا يريان فسخ الحج إلى العمرة، بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بفسخ الحج إلى العمرة لمن لم يَسُقِ الهدي.
فهذا عند عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما يدلُّ على وجوب فسْخ الحج إلى العمرة لمن لم يَسُقِ الهدي، عملاً بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه أمر بذلك أصحابه وأكّد عليهم، ولَمّا خالف ذلك الخليفتان الراشدان أبو بكر وعمر، ورأيا أنه لا يجب فسْخ الحج إلى العمرة، بل المُضي في الإفراد أفضل، من أجل أن لا يُهْجَر البيت في بقية السنّة، لأن الحاج إذا جمع بين الحج والعمرة في سفر واحد، فهذا مما يسبِّب أن لا يأتي الناس مّرة أخرى للعمرة، بل يكتفون بسفرٍ واحد.


ج / 2 ص -109- وقال أحمد بن حنبل: "عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحّته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

هذه وِجهة نظرهما رضي الله عنهما، وهي مسألة اجتهادية، ولكن الاجتهاد إذا خالف الدليل فإنه لا يجوز العمل به.
فإذا كان ابن عبّاس يُنكر على من أخذ برأي الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر، لأنه اجتهاد مخالف للنص، وأن ذلك يوجِب العقوبة، فكيف بطاعة العلماء والأمراء في التحليل والتحريم من غير دليل؟.


وهذا مما يدل على وجوب احترام سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنها هي المنتهى بعد كتاب الله عزّ وجلّ، وأنه إذا حصل اجتهاد من المجتهدين يجب عرضه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما قام عليه الدليل أخذناه، وما خالف الدليل تركناه، وإنْ كان قائله من أفضل الناس، كأبي بكر وعمر، فضلاً عن غيرهما.


والاجتهاد سائغ، وهو "استنباط الأحكام الشرعية من أدلة الكتاب والسنّة"، ولكن عند التطبيق لا يجوز لنا أن نأخذ إلا ما قام عليه الدليل من أقوال أهل العلم، فلا يجوز لنا أن نأخذ ما خالف الدليل إمّا تعصُّباً لصاحبه، وإما لأنه يوافق أهواءنا، ويوافِق رغباتنا، بل المدار على الكتاب والسنّة: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
والعامي يسأل أهل العلم، ويأخذ بقولهم، لقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.


قوله: "وقال أحمد" هو: الإمام أحمد بن حنبل، إمام أهل السنّة، الصابر على المحنة.
قال رحمه الله: "عجبت" تعجُّب استنكار.
"لقوم عرفوا الإسناد وصحّته" يعني: عندهم علم بالأدلّة، والإسناد هو: سلسلة الرُّواة الذين يروون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من لَدُن الراوي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، سواءٌ قصُر السند أو طال، وهو ما يسمى بالعالي والنازل.


ج / 2 ص -110- والإسناد يحتاج إلى دراسة لمعرفة رُواته من حيث الثقة والحفظ والإتقان، وعدم ذلك، فإذا توفّر في السند أن راويه عدل تام الضبط من بداية السند إلى نهايته مع السلامة من الشذوذ والعلل فهو صحيح وإن نقص شيءٌ من ذلك نزل عن درجة الصحيح إلى الحسن أو إلى الضعيف.
والعلماء هم الذين يميِّزون ذلك ويعرفونه، فالذين بلغوا من العلم بحيث أنهم يعرفون صحّة الإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم يجب عليهم الأخذ بالدليل، لأن صحة الإسناد تدلّ على صحة المُسْنَد، فصحة السند تدلُّ على صحة المتن، كما هو مدلول عبارة الإمام أحمد هذه.
وفي هذا ردٌّ على بعض المتشدِّقين من بعض العصْريِّين العقلانيِّين الذين يقولون: حتى لو صحّ الإسناد فهذا لا يدل على صحة المتن، وينتقدون أحاديث في "صحيح البخاري" صحّتْ أسانيدها لأنها تخالف عقولهم القاصرة.
وهذا لجهلهم، أو لتجرّئهم على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يخالف أهواءهم ويخالف عقولهم.
يا سبحان الله! كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخضع للعقول، إنه يجب على من يؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يقدِّم قوله ويعتقده ويعمل به بدون مناقشة، وبدون جدال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}.


ومن معنى شهادة أن محمداً رسول الله: تصديقه فيما أخبر. فمن لم يصدِّق ما أخبر به وإنما يُخضعه لهواه، ويُخضعه لقواعده المنطقية أو العقلية أو للعلم الحديث -كما يسمُّونه-؛ فهذا كأنه لم يؤمن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأمر خطيرٌ جدًّا، مع العلم أن النقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح، فإن اختلفا ففي أحدهما خلل، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.


وقوله: "يذهبون إلى رأي سفيان" يعني: يتركون ما صحّ به الإسناد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذهبون إلى رأي سفيان، وهو الإمام الجليل الفقيه الزاهد المتقن، سفيان بن سعيد الثوري، كان فقيهاً، محدِثاً، وله اجتهاد، وله مذهب في الفقه، لكنه انقرض بسبب أنه لم يكن له أتباع يحفظونه ويتدارسونه كما كان للأئمة الأربعة، وقد
ج / 2 ص -111- نقل كثير من مذهبه في موسوعات الفقه، كـ "المغني"، وكـ "المحلّى" لابن حزم، وكتب التفسير، وشروح الحديث، لأنه إمامٌ مجتهد، وله باعٌ طويلٌ في الفقه والحديث والتفسير، رحمه الله.


ولكن هو كغيره من الأئمة، لا يجوز أن يقدَّم قوله على قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو رحمه الله لا يرضى بذلك، كغيره من الأئمة لا يرضون بذلك.
ولهذا يقول الإمام مالك: "كلنا رادٌّ ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر" يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول الإمام الشافعي: "إذا صحّ الحديث فهو مذهبي"، ويقول: "إذا خالف قولي قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا بقول رسول الله واضربوا بقولي عرْض الحائط"، ويقول رحمه الله: "أجمع المسلمون على أنّ من استبانتْ له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان".


ويقول الإمام مالك رحمه الله: "أَوَ كلَّما جاءنا رجلٌ أَجْدَلَ من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء؟".
والإمام أحمد يقول هذه المقالة: "عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحّته يذهبون إلى رأي سفيان".
والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: "إذا جاء القولُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصّحابة فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال"، لأنه رحمه الله كان من أتباع التابعين، وتتلمذ على التابعين، فأبو حنيفة هو أقدم الأئمة الأربعة، بل يُقال: إنه أخذ عن بعض الصّحابة، ولكن هذا لم يَثْبُت، فهو يقول هذه المقالة، يقدِّم قول الرسول صلى الله عليه وسلم على الرأس والعين، ولا يقدِّم عليه قول أحد، ثم بعد قول الرسول صلى الله عليه وسلم يقدِّم قولَ الصحاب. ولا يعدِل بالصحابي أحداً ممّن جاء بعده، وأما من بعد الصّحابة فيقول: "نحن رجال وهم رجال"، يعني: متساوين في المدارك والعلم.


هذه مقالاتهم- رحمهم الله- تدلُّ على أن الواجب هو الأخذ بما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن اجتهادات العلماء يُستفاد منها وتُدْرَس، ولكن إذا خالف الدليل
ج / 2 ص -112- شيءٌ منها فيجب الأخذ بالدليل، ولا يجوز التعصُّب لقائله، فإن تعصّب أحدٌ لقولٍ يخالف الدليل وقع في هذا المحظور، وصار من الذين اتّخذوا أحبارهم ورُهبانهم أرباباً من دون الله.
ونحن لا نرفض الفقه كما يظن بعض الجهال أو بعض المبتدئين، بل نعتبره ثروة عظيمة، فيها علمٌ غزير، فندرسُ الفقه ولكن لا نأخذ منه إلا ما قام دليله، وما علمنا أنه خلاف الدليل حرُم علينا الأخذ به، مع اعتذارنا لقائله، واحترامه، لأنه لم يتعمّد المخالفة، والمجتهد يخطئ ويصيب، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد. والخطأ مغفور، كما صحّ بذلك الحديث.


والناس على أربعة أقسام:
القسم الأول: من يستطيع الاجتهاد المطلق بأن يأخذ من الكتاب والسنّة ويستنبط من الكتاب والسنّة ولا يقلِّد أحداً.
وهذا أعلى الطبقات، ولكن هذا إنما يكون لمن توفّرتْ فيه شروط الاجتهاد المعروفة، بأن يكون عالماً بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون عالماً بلغة العرب التي نزل بها القرآن، وأن يكون عالماً بالمحكم والمتشابه وبالناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيَّد، والخاص والعام، ويكون عنده معرفة بمدارك الاستنباط، أعني: لديه مؤهِّلات، فهذا يجتهد. وهذا الصنف كالأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وسفيان الثوري، والأوزاعي، هؤلاء أعطاهم الله مَلَكة الاجتهاد.
الصنف الثاني: من لا يستطيع الاجتهاد المطلَق، ولكنه يستطيع الترجيح بين أقوال أهل العلم بأن يعرف ما يقوم عليه الدليل وما لا يقوم عليه الدليل من أقوالهم.



فهذا يجب عليه الأخذ بما قام عليه الدليل وترك ما خالف الدليل وهذا العمل يسمى بالترجح ويسمى بالاجتهاد المذهبي.
الصنف الثالث: من لا يستطيع الترجيح.
فهذا يُعتبر من المقلدِّين، ولكن إذا عرف أنّ قولاً من الأقوال ليس عليه دليل
ج / 2 ص -113- فلا يأخذ به، أما ما دام لا يعرف ولم يتبيّن له مخالفة، فلا بأس أن يقلِّد ويأخُذ بأقوال أهل العلم الموثوقين.


والصنف الرابع: من لا يستطيع الأمور الثلاثة: لا الاجتهاد المطلق، ولا الترجيح، ولا التقليد المذهبي كالعامي- مثلاً-.
فهذا يجب عليه أن يسأل أهل العلم كما قال الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، فيسأل أوثق من يرى، ومن يطمئن إليه من أهل العلم، ممّن يثق بعلمه وعمله ويأخذ بفتواه.
هذه أقسام الناس في هذا الأمر.


ومن هنا علِمنا أن الأمر ليس بمتروك ومُفْلَت، كل واحد ينصب نفسه منصب الأئمة ومنصب المجتهدين، ويغلِّط العلماء، ويرجّح من غير علم.
أو يزهِّد في الفقه وأقوال الفقهاء، ويعتبرها شيئاً مرفوضاً. وهذا ليس من آداب طلبة العلم المريدين للحق.


والواجب على الإنسان: أن يعرف قدْر نفسه، فلا يجعل نفسه في مكانة أعلى مما تستحقُّها، بل الأمر أخطر من ذلك وهو أن يخاف من الله سبحانه وتعالى لأن الأمر أمر تحليل وتحريم وجنة ونار، فلا يورِّط نفسه في أمور لا يُحسن الخروج منها.


والمجتهد إذا توفّرت فيه شروط الاجتهاد فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجرٌ واحد، لأنه يريد الحق، ولكنه لم يستطع الوصول إليه بعد بذْل مجهوده، بذَل مجهوده وتحرّى الحق ولم يصل إليه، فهو معذور، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد"، لكن مع كونه معذوراً ومأجوراً في الخطأ لا يجوز لنا أن نأخذ بقول نرى أنه خطأ، بل يجب علينا أن نأخذ بالقول الصواب، سواء كان هذا القول الصواب في المذهب الذي نقلّده، أو في مذهب آخر، هذا هو طريق أهل الحق، أنهم لا يقلِّدون على خطأ، بل يأخذون ما ترجّح بالدليل ولو لم يكن عليه إمامهم.


ولهذا- ولله الحمد- إمام هذه الدعوة ومؤلِّف هذا الكتاب الشيخ محمد بن عبد الوهّاب وتلاميذه ومَن جاء بعده من علماء هذه البلاد ينهجون هذا المنهج،
ج / 2 ص -114- ويقولون: نحن حنابلة، ولكن ليس معنى هذا أننا نأخذ كل ما في المذهب الحنبلي بدون تمحيص، بل إذا قام الدليل على قول من الأقوال أخذنا به ولو لم يكن في المذهب الحنبلي، كالمذهب المالكي، أو المذهب الشافعي، أو المذهب الحنفي، لأننا ننشُد الدليل، ولا يمنع هذا أن يكون الإنسان حنبليًّا وإذا أخذ بقول قام عليه الدليل يخالف قول ابن حنبل أخذ به لأن إمامه أرشده إلى هذا، فقال له: خذ ما قام عليه الدليل، ولا تقلِّدني على خطأ، كلُّ الأئمة يقولون هذا، ما أحد منهم ادّعى العصمة أو ادّعى الكمال أو قال للناس لا تخالِفوا مذهبي أبداً، بل هم يحذِّرون من هذا، فأنت إذا أخذت بالدليل فإنك موافِقٌ لإمامك الذي تقلِّده، أما إذا أخذت الخطأ فأنت مخالفٌ لإمامك وإن كنت تزعُم التعصُّب له.


فهذه مسألة يجب علينا أن نهتمّ بها، فنتجنّب الإفراط والتفريط، لا نكون مع الذين يرفضون الفقه، ويقولون: هذه أقوال رجال، فيضيعون، فلا هم الذين أخذوا بالفقه، ولا هم الذين يُحسنون الاستنباط والاستدلال، فضاعوا وضيعوا من تبعهم.


ولا نحن مع الذين يقلِّدون تقليداً أعمى، ويتعصّبون لمذاهبهم، ويأخذون بقول إمامهم، ولو خالف الحديث، ويقول: آخذ بقول إمامي ولو خالف الدليل، لأن إمامي أعلم بالدليل. فهذان على طرفي نقيض.
والصواب الوسط، أننا نأخذ بالفقه، ونأخذ بأقوال الأئمة، وندرُس الفقه، لأن دراسته طريقٌ إلى معرفة الحق، ولكن لا نقلِّد تقليداً أعمى، وإنما نميِّز بين الأقوال التي عليها دليل والتي ليس عليها دليل، وإذا كنا لا نعرف هذا علينا أن نسأل أهل العلم عن ذلك.


هذا هو الحق والوسط في هذه المسألة التي خاض فيها الناس في وقتنا الحاضر على غير هدى إلا من رحم الله.
قال الإمام أحمد: "والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} هذا أمرٌ من الله سبحانه وتعالى وتهديد: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}.
والضمير في {أَمْرِهِ} يرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي مرّ ذكره في أول الآية.
ج / 2 ص -115- أتدري ما الفتنة؟، الفتنة الشرك، لعلّه إذا ردّ بعضَ قوله أن يقع في قلبه شيءٌ بلا من الزيغ فيهلِك".


{أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} فسّرها الإمام أحمد بالزيغ والشرك، قال: "أتدري ما الفتنة؟، الفتنة الشرك، لعله إذا ردّ بعض قوله" أي: بعض قول الرسول صلى الله عليه وسلم، "أن يقع في قلبه شيءٌ من الزَّيْغ فيَهْلِك".
فمن ردّ قول الرسول صلى الله عليه وسلم متعمِّداً تَبَعاً لهواه، أو تعصُّباً لشيخه

الذي يقلِّده، فإنه مهدّد بعقوبتين:
العقوبة الأولى: الزيغ في قلبه، لأنه إذا ترك الحق ابتُلي بالباطل، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، لَمّا انصرفوا عن تلقِّي القرآن عند نزوله وتعلُّمه صرف الله قلوبهم عن الحق عقوبةً لهم، وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، لَمّا رفضوه أول الأمر عند ذلك ابتلاهم الله بتقليب أفئدتهم وأبصارهم عقوبةً لهم، فلا تقبل الحق بعد ذلك. وهذا خطرٌ شديد، بخلاف الذي يقبل الحق ويرغب فيه، فإن الله يهديه ويزيده علماً وبصيرة، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ(125)}، فالمؤمن يَتْبع الدليل ويفرح به إذا حصل عليه، والحق ضالّة المؤمن أنّى وجده أخذه، أما الذي في قلبه زيع أو نفاق فهذا إنما يتّبع هواه ولا يتّبع الدليل، وهذا يُصاب بالزيغ والانحراف في العقيدة والانحراف في الدين والانحراف في الأخلاق وفي كلِّ شيء، عقوبةً له من الله سبحانه وتعالى.


والعقوبة الثانية: {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في أبدانهم، بالقتل في الدنيا، بأن يسلِّط الله عليهم من يستأصِل شَأْفَتهم ويقتلهم، إما من المؤمنين، وإما من غير المؤمنين، عقوبةٌ لهم {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، إن ماتوا ولم يُقتلوا بأن يعذبوا في النار. فهذا وعيدٌ شديد على مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
فترك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، والأخذ بأقوال العلماء والأمراء المخالِفة لِمَا قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في التحليل والتحريم يسبب الفتنة، أو العذاب الأليم.


ج / 2 ص -116- وعن عديّ بن حاتم: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية، فقلت له: إنا لسنا نعبدهم. قال: "أليس يحرِّمون ما أحل الله فتحرِّمونه، ويُحِلُّون ما حرّم الله فتُحلُّونه؟ " فقلت: بلى. قال: "فتلك عبادتهم" رواه أحمد والترمذي وحسّنه.


وهذا هو الشاهد من الآية للباب.
قوله: "وعن عدي بن حاتم: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ} الأحبار جمع حَبر أو جمع حِبر وهو: العالِم.
"{وَرُهْبَانَهُمْ}" جمع راهب، وهو: العابد، والغالب أن الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى.
"{أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}" أي: يطيعونهم في التحليل والتحريم.
{وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} غلوا فيه واتخذوه رباً يعبدونه.
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} فسمّاه شركاً، ونزّه نفسه عنه، فدلّ على أنّ طاعة الأحبار والرُّهبان في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرّم الله أنه يُعتبر شركاً بالله عزّ وجلّ، ويعتبر حديث عديّ هذا تفسيراً للآية.
فَلمّا سمع عديّ رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية قال: "إنا لسنا نعبدهم"، فَهِمَ رضي الله عنه أن عبادتهم تعني الركوع لهم والسجود لهم، والذبح لهم فقط.
قال صلى الله عليه وسلم: "أليس يحرِّمون ما أحل الله فتحرِّمونه، ويحلون ما حرّم الله فتحلُّونه؟"، قال: بلى، قال: "فتلك عبادتهم" فدلّ هذا على أن طاعة الأحبار والرُّهبان في تحريم الحلال وتحليل الحرام عبادة لهم، ويُعتبر هذا من شرك الطاعة، لأن التحليل والتحريم حقٌّ لله سبحانه وتعالى، فليست العبادة قاصرة على السجود والركوع والدعاء والذبح والنذر وغير ذلك مما يفعله الوثنيُّون، بل ويشمل طاعة المخلوقين في معصية الخالق سبحانه وتعالى ومخالفته في تشريعه، يدخل هذا في ضِمْن العبادة، فالعبادة عامة ليست مقصورة على نوع أو أنواع من العبادة، بل هي شاملة لكل ما هو من حق الله، ومن ذلك: التحليل والتحريم.


ج / 2 ص -117- ما يُستفاد من هذه النصوص:
أولاً: تحريم طاعة العلماء والأمراء في تحريم الحلال وتحليل الحرام، وأنه إن استباح ذلك فهذا هو الشرك الأكبر، وإن لم يستبحه فإنه يُعتبر معصيةً عظيمة من المعاصي، وهو من الشرك الأصغر.
ثانياً: أن طاعة العلماء والأمراء في غير معصية الله واجبة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، وذلك لأنه لا يتمّ نظام العالَم وقيام المصالح إلاّ بطاعة وُلاة الأمور ما لم يأمروا بمعصية الله عزّ وجلّ، فإن أمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق في تلك المعصية، ويُطاعون فيما ليس بمعصية.
ثالثاً: في قول ابن عبّاس رضي الله عنهما أن قولَ العالم إذا خالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يجب الأخذ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك قولَ العالم مهما بلغ من الفضل، كأبي بكر وعمر، وسفيان الثوري. والعالم إذا أخطأ عن اجتهاد فخطأه مغفور، لكن لا يجوز لنا تقليده على خطأ.
رابعاً: يؤخذ من قول الإمام أحمد رحمه الله: أن الذي بلغ رُتبة الاجتهاد ومعرفة صحة الإسناد أنه لا يجوز له أن يقلِّد، بل يجب عليه الاجتهاد للتوصُّل إلى الحق بنفسه، ولا يسعه إلاّ ذلك، لأن التقليد لا يجوز إلاّ عند الحاجة، وهذا غير محتاج للتقليد.
خامساً: يؤخذ من قول الإمام أحمد: أن من لا يعرف الإسناد وصحته يجب عليه التقليد لمن يثق بعلمه وعمله، لئلا يضيع في دينه.
سادساً: أن صحة الإسناد تدلُّ على صحة المتن خلافاً لمن قال من العقلانيِّين: إنه وإنْ صحّ الإسناد فهو لا يدل على صحة المتن.
سابعاً: يؤخذ من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أن العبادة ليستْ قاصرةً على الركوع والسجود والدعاء والاستغاثة، بل تشمل طاعة الأوامر وترك النواهي.
ثامناً: أنّ مَن أطاع العلماء والأمراء أو غيرهم في تحريم الحلال أو تحليل الحرام أنه قد اتّخذهم شركاء لله سبحانه وتعالى في عبادته، وهذا محلّ الشاهد من الآية الكريمة وحديث عدي للترجمة.
والله تعالى اعلم.



المصدر :

كتاب :
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد

رابط تحميل الكتاب

http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf




رد مع اقتباس