عرض مشاركة واحدة
  #40  
قديم 21-01-2015, 12:13AM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم



إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد

بابُ ما جاء في الرياء

ج / 2 ص -89- [الباب السادس والثلاثون:]
* بابُ ما جاء في الرياء



قول الشيخ رحمه الله: "باب ما جاء في الرياء" أي: ما جاء فيه من الوعيد، وبيان أنه شرك يحبط العمل الذي خالطه.


ومناسبة هذا الباب لكتاب التّوحيد:
أنّ فيه بيان نوعٍ من أنواع الشرك الأصغر، وذلك أن هذا الكتاب صنّفه الشيخ رحمه الله في بيان التّوحيد وبيان ما يضادُّه من الشرك الأكبر أو ينقِّصه من الشرك الأصغر.
ولَمّا كان الشرك على نوعين: شركٌ ظاهر، وشرك خفي.


فالشرك الظاهر هو: ما يكون في الأعمال الظاهرة كالذي يذبح لغير الله أو ينذر لغير الله أو يستغيث بغير الله إلى غير ذلك من أنواع الشرك الأكبر الذي يراه النّاس ويسمعونه.
أما النوع الثاني وهو: الشرك الخفي، فهذا لا يراه النّاس ولا يعلمونه؛ لأنه في القلوب.
فالشرك الأول يكون في الأعمال الظاهرة، وهذا في النيّات والمقاصد القلبية التي لا يعلمها إلاَّ الله سبحانه وتعالى. فلهذا عقد له الشيخ رحمه الله هذا الباب.


فكلُّ ما سبق من أنواع الشرك فهو من الشرك الظاهر، ولهذا يقول العلاّمة ابن القيم رحمه الله:

والشرك فاحذره فشرك ظاهر ذا القسم ليس بقابل الغفران
وهو اتّخاذ النِّدِّ للرحمن أيًّا كان من حجر ومن إنسان
يدعوه أو يرجوه ثمّ يخافه ويحبه كمحب الديّان

فعبادة الأصنام، وعبادة الأضرحة، وعبادة الأشجار والأحجار، كل هذا شرك ظاهر.

أما الرياء فإنه شرك خفي لأنه في المقاصد والنيّات التي لا يعلمها إلاَّ الله سبحانه وتعالى.
والرياء مأخوذٌ من: الرؤية، وذلك بأن يزيِّن العمل ويُحَسِّنه من أجل أن يراه النّاس ويمدحوه ويُثنوا عليه، أو لغير ذلك من المقاصد، فهذا يسمّى رياءً، لأنه يقصد رؤية النّاس له.


ج / 2 ص -90- والفرق بين الرياء والسمعة:
أن الرياء فيما يُرى من الأعمال التي ظاهرها لله وباطنها لغيره كالصلاة والصدقة. أما السمعة فهي لِمَا يُسْمَع من الأقوال التي ظاهرها لله والقصد منها لغير الله كالقراءة والذكر والوعظ وغير ذلك من الأقوال، وقصد المتكلِّم أن يسمع النّاس كلامه فيثنوا عليه، ويقولوا هو جيِّد في الكلام، جيِّد في المحاورة، جيِّد في الخُطْبة، إنه حسن الصوت في القرآن، إذا كان يحسِّن صوته بالقرآن، لأجل ذلك فإذا كان يُلقي المحاضرات والندوات والدروس من أجل أن يمدحه النّاس فهذا سُمعة.


والرياء على قسمين:
القسم الأول:
شركٌ أكبر وهو: إذا كان قصد الإنسان بجميع أعماله مراءاة النّاس، ولا يقصد وجه الله أبداً، وإنما يقصد العيش مع المسلمين، وحقن دمه، وحفظ ماله، فهذا رياء المنافقين، وهو شركٌ أكبر، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً(142)}، وهذا لا يصدر من مؤمن.


القسم الثاني: قد يصدر من مؤمن، ويكون في بعض الأعمال، وهو: أن يكون العمل فيه قصدٌ لله وفيه قصدٌ لغير الله.
وهذا هو الشرك الأصغر.


وهذا النوع من الرياء له ثلاثة حالات:

الحالة الأولى:
إن كان مقصوداً في العمل من أوله واستمرّ معه إلى آخره فإنّ هذا عملٌ مردود، لا يقبله الله سبحانه وتعالى. فمن صلّى لله وهو يحب أن يُمدح وأن يُثنى عليه، واستمرّ معه الرياء إلى آخر صلاته؛ فهذا لا تُقبل منه صلاته، بدليل الحديث الآتي.


الحالة الثانية: أن يكون أصل العمل لله ثمّ يطرأ عليه الرياء. فهذا إن تاب منه صاحبه في الحال ودفعه، وأخلص العمل لله؛ فإنه لا يضر صاحبه قولاً واحداً، لأن أصل العمل لله وطرأ الرياء، ثمّ دفعه وأخلص العمل لله وعاد إلى الإخلاص، فهذا لا يضرُّه.
ج / 2 ص -91- وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} الآية.


الحالة الثالثة: أن يطرأ في أثناء العمل ويستمر معه. فهذا موضع خلاف بين أهل العلم؛ منهم من قال: إنه يحبط العمل كالنوع الأول، ومنهم من قال: إنه يثاب على قدر نيّته لله في هذا العمل. ذكر هذا التفصيل الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين.

قال: "وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}" وتمام الآية: "{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}" هذه الآية ختام سورة الكهف.
{قُلْ} أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ}، فالرسول صلى الله عليه وسلم بشر، وكلُّ الرسل من البشر.
فالرسل قسمان: رسلٌ من الملائكة ورسلٌ من البشر، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ}.


فالرسل من الملائكة يكونون واسطة بين الله وبين الرسل من البشر، لأن البشر لا يطيقون مقابَلة الملك ورؤيته على صورته الملَكية، وإنما يطيقون رؤية البشر الذي هو مثلهم، ولذلك يبعث الله الرسل من البشر إلى البشر، لأن هذا مقتضى رحمته بعباده، من أجل أن يفقهوا عنهم، ويتعلّموا منهم ويألفوهم، ولو كانوا من الملائكة ما استطاعوا أن يروهم، لأن صورة الملَك مخالِفة لصورة البشر.
وقوله: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} يعني: ليس لي من الربوبية شيء ولا من العبادة شيء.
{أَنَا بَشَرٌ} عبدٌ من عباد الله.


فهذا فيه: ردٌّ على الذين يغلون في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدعونه من دون الله، ويستغيثون به من دون الله، أو يقولون: إنه مخلوقٌ من نور، أو من كذا وكذا، ولم يُخلق ممّا خُلق منه بنو آدم وأنه مخلوق قبل آدم.
وهذا -والعياذ بالله- من أعظم أنواع الغلو والكفر بالله عزّ وجلّ.
ثمّ قال: {مِثْلُكُمْ} يعني: مثلكم في أمور البشريّة، فهو بشر يجوع، ويمرض، ويتعب في السفر مثل البشر وتجري عليه العوارض البشرية كما تجري على البشر، فيُصيبه صلى الله عليه وسلم الهم، ويصيبه الحَزَن، ويصيبه ما يصيب البشر: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ
ج / 2 ص -92- لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ}، {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ}، فهو يهْتَمُّ ويحزن لما يرى من مخالفة النّاس لعبادة الله سبحانه وتعالى، لأنه يريد للناس الخير، ويريد لهم النجاة، فيُحزنه إذا رآهم على سبيل الهلاك لكمال شفقته صلى الله عليه وسلم.


وإنما امتاز- عليه الصلاة والسلام- عن البشر بالرسالة والفضيلة وكمال العبودية لله، فهو أكمل الخلق عبودية لله، وأخشاهم لله، وأتقاهم له.
{يُوحَى إِلَيَّ} من الله سبحانه وتعالى بواسطة جبريل عليه السلام كغيري من الرسل. فكل ما جاء به من الشرع وحي من الله.
{أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} يعني: معبودكم بحق. فالإله معناه: المعبود.
والمعبود بحق هو الله وحده. وما سواه فهو معبود بالباطل كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}.
فهذا فيه: أن زبْدة رسالة الرسول وأصل دين الرسول والذي جاء به وبدأ به هو: التّوحيد والإنذار عن الشرك، وكلُّ الرسل كذلك أول ما يبدؤون بالدعوة إلى التّوحيد وإنكار الشرك.


وهذا فيه ردٌّ على الذين يقولون في هذا الزمان: إن الرسل جاءوا لتحقيق الحاكمية في الأرض.
وهذا كلام محدَث باطل، فالرسل جاءوا لتحقيق العبودية بجميع أنواعها لله عزّ وجلّ.
كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)}، هذا هو الذي جاءتْ به الرسل، ويدخل فيه بقية أوامر الدين ومنها الحاكمية، أما أن تُجعل هي الأصل فهذا باطل، وهذا معناه: إهمال التّوحيد وعدم الاهتمام بأمر الشرك وعدم الالتفات إليه، وأن الرسل جاءوا لطلب الحكمة والرئاسة.


{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا} معناه: يخشى ويخاف، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} أي: يؤمِّل رؤية الله يوم القيامة، لأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، ويتنعّمون برؤيته صلى الله عليه وسلم أعظم مما يتنعّمون بنعيم الجنة".
ج / 2 ص -93- {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} لأنه لا يمكن أن تحصُل هذه الرؤية إلاَّ لمن عمل عملاً صالحاً.
والعمل لا يكون صالحاً إلاَّ إذا توفّر فيه شرطان:
الشرط الأول: الإخلاص لله عزّ وجلّ من الرياء والسمعة، ومن جميع أنواع الشرك الأكبر والأصغر.
والشرط الثاني: أن يكون موافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، خالياً من البدع والمحدَثات والخُرافات.
أما إنِ اختلّ شرطٌ من هذين الشرطين فليس عملاً صالحاً، وإنما هو عملٌ باطل.


فإن اختلّ الشرط الأول، صار العمل حابطاً لما دخله من الشرك.
وإنِ اختلّ الشرط الثاني صار بدعاً ومحدَثات ومخالَفات فهو مردود باطل، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من عمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، وفي رواية: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".
فلا يكون العمل صالحاً إلاَّ إذا توفّر فيه هذان الشرطان كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}. قال الفُضيل بن عياض رحمه الله: "أخلصه وأصوبه"، قالوا: يا أبا علي وما أخلصه وأصوبه؟، قال: "أخلصه: أن يكون خالصاً لوجه الله، وأصوبه: أن يكون صواباً على سنة رسول الله، فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل، وإنما يُقبل إذا كان خالصاً صواباً".


{وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} ومن ذلك: أن يرائي بعمله، أو يسمِّع بعمله، فإنه إذا راءى بعمله، أو سمّع به، أبطله اله وردّه عليه.
وقوله: {أَحَداً} نكرة في سياق النهي، تعمُّ كلَّ أحد، فالله لا يقبل أن يُشرك معه أحد لا من الملائكة، ولا من الرسل، ولا من الأولياء والصالحين، ولا من الأحجار والأشجار، ولا من الجن، ولا من الإنس.
فهذا فيه ردٌ على الذين يقولون: إنما الشرك عبادة الأصنام فقط، أما أن نتقرَّب
ج / 2 ص -94- وعن أبي هريرة مرفوعاً: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري؛ تركته وشركه"رواه مسلم.


إلى الله ونتوسّل إلى الله بأولياء وعبادٍ صالحين، فهذا ليس مثل عبادة الأصنام.
وهذا باطل، لأن الله يقول: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}، وهو عام يشمل كلُّ من عبد مع الله، سواءً كان من الجن، أو من الإنس، أو من الملائكة، أو من الأنبياء والرسل، أو من الصالحين والأولياء، أو أيًّا كان، فالله لا يقبل أن يُشرك معه في عبادته أحد كائناً من كان، ولا تفريق في ذلك بين الأصنام وبين الأولياء والصالحين والأضرحة كله داخل في قوله تعالى: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}.


قال: "عن أبي هريرة مرفوعاً. قال الله تعالى:أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه" رواه مسلم.
قوله: "قال الله تعالى" هذا حديث قدسي، والحديث القدسي: ما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربّه عزّ وجلّ، والقدسي: نسبة إلى القدْس، وهو التطهير والتنزيه، لأن الله مقدَّسٌ ومنزّهٌ عن صفات النقص.
والحديث القدسي: ما كان من كلام الله عزّ وجلّ لفظه ومعناه ورواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم. فالفرق بينه وبين الحديث النبوي:
أن الحديث القدسي: ما كان لفظه ومعناه مرويّاً عن الله سبحانه وتعالى.
وأما الحديث النبوي فهو: ما كان معناه من الله ولكن لفظه من الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)}.
فقوله: "قال الله تعالى" هذا فيه إثبات أن الله يتكلّم كما يليق بجلاله سبحانه وتعالى.


"أنا أغنى الشركاء عن الشرك" الله سبحانه وتعالى غنيٌّ عن عبادة خلقه، وإنما أمرهم بعبادته لمصلحتهم هم، لأنهم محتاجون إلى الله عزّ وجلّ ولا يقربهم من الله إلاَّ العبادة، فعبادتهم لله من أجل مصلحتهم، من أجل أن يغفر الله لهم، وأن يرزقهم، وأن يُدخلهم الجنة، فالمصلحة من عبادتهم عائدةٌ إليهم، أما الله سبحانه وتعالى فإنه لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضرُّه معصية العاصين، وإنما هو النافع الضار، ولهذا يقول سبحانه وتعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}، ويقول سبحانه وتعالى
ج / 2 ص -95- وعن أبي سعيد مرفوعاً: "ألا أخبركم بما هو أخوف عندي من المسيح الدجال؟ "قالوا: بلى. قال: "الشرك الخفي، يقوم الرجل فيزين صلاته لِما يرى من نظر رجل إليه"رواه أحمد.


حكاية عن موسى- عليه الصلاة والسلام-: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ(8)}.
وفي الحديث القدسي الذي رواه أبو ذر رضي الله عنه: أن الله سبحانه وتعالى يقول: "يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخِركم وإنْسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو كان أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً".
إذاً، فعبادة النّاس لله يرجع ثوابها ويرجع خيرها إليهم، أما الله جل وعلا فهو غنيٌّ عنها، ومن باب أولى: من عمل عملاً أشرك مع الله فيه فإنه سبحانه وتعالى غنيٌّ لا يقبل ما فيه شرك، وإنما يتقبّل الخالص لمصلحة العباد.
وهذا يدخل فيه الرياء، فمن عمل عملاً ودخله الرياء والقصد لغير الله سبحانه وتعالى فإن الله يردُّه عليه ولا يقبله منه.
وهذا وجه الشاهد من الحديث للباب.


وفي قوله: "تركته وشركه" دليل على أن الشرك يُحْبِط العمل سواءً كان أكبر أو أصغر.
والشاهد منه للباب: أن الرياء نوعٌ من الشرك يرد العمل الذي خالطه على صاحبه، ولا يقبله الله.
قال: وعن أبي سعيد مرفوعاً: "ألا أخبركم بما هو أخوف عندي من المسيح الدجال قالوا: بلى. قال الشرك الخفي. يقوم الرجل فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه".
قوله: "وعن أبي سعيد" أبو سعيد هو أبو سعيد الخدري، مالك بن سِنان الخُدْري الصحابي الجليل المشهور، رضي الله تعالى عنه.
"مرفوعاً" المرفوع: ما كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إلاَّ أخبركم بما هو أخوفُ عليكم عندي من المسيح الدّجال؟" هذا الحديث له سبب وهو: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أصحابه وهم يتحدّثون عن الدجال
ج / 2 ص -96- وعن فتنته، وكانوا خائفين منه، فقال: "ألا أنبِّئكم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟" الحديث.


فأجابوا و"قالوا: بلى" وهذا فيه: مشروعية التعليم عن طريق السؤال والجواب، لأنه يكون أوقع في الذهن، فإذا أراد أن يعلِّم أصحابه شيئاً مهمًّا ألقاه على طريقة السؤال حتى يتطلّعوا إلى الجواب ثمّ يُلقي عليهم الجواب.
"قال: "الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيُزَيِّن صلاته لِمَا يرى من نظر رجل إليه" هذا فيه: أن الرياء شركٌ خفي، ووجهُ كونه خفياًّ: أنه في النيّات والمقاصد وأعمال القلوب، وهذه لا يعلمها إلاَّ الله سبحانه وتعالى، لا أحد يعلم النيّات ويعلم المقاصد إلاَّ الله سبحانه وتعالى.


وفي الحديث دليلٌ على خطورته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خافه على أفضل هذه الأمة وهم الصحابة، فكيف بغيرهم، وأنه صلى الله عليه وسلم يخافه عليهم أشد مما يخاف عليهم من فتنة المسيح الدّجال، لأنه قَلّ من يسلم منه.
أما المسيح الدجال مع عِظَم فتنته -وقانا الله وإيّاكم من فتنته- فإنما ضرره على الذين يعاصِرونه ويخرج وهم أحياء، أما الرياء فهذا خطره على الجميع في كل عصر، في كل وقت.
والمسيح الدجّال هو: مسيح الضّلالة الذي يخرُج في آخر الزمان، وخروجه من علامات الساعة، وسُمي بالمسيح لأنه ممسوح العين، أعور، وقيل: سمّي بالمسيح لسُرعة سيره في الأرض، يعني: يمسح الأرض بسرعة، وهو: مسيح الضلالة، الأعور الدجّال، وما من نبي إلاَّ حذّر أمته من الدجّال، وكان تحذير نبيّنا صلى الله عليه وسلم أكثر وأشد من تحذير من سبقه، لأنه أقرب إلى عهده ممن سبقه، فهو يخرج في آخر الزمان، ويتبعه اليهود، ثمّ ينزل المسيح عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- مسيح الهداية فيقتل هذا الدّجال بباب لُدٍّ- في فلسطين، وعند ذلك يكفي الله المسلمين شرّه، وعند ذلك ينتصر المسلمون على اليهود، ويظهر حكم الإسلام في الأرض، ويظهر الحق، لكن بعد المحنة وبعد الشدّة.


والنبي صلى الله عليه وسلم شرع لنا أن نستعيذ منه في كل تشهُّد أخير في الصلاة، فقال:
ج / 2 ص -97- "استعيذوا بالله من أربع: من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال".


فهذه النصوص- الآية والحديثان- يدلان على مسائل عظيمة:

المسألة الأولى:
الآية تدلّ على أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر، ليس له من الربوبية والألوهية شيء، ففيه: الرد على الذين يغلون في حق النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتقدون فيه شيئاً من صفات الربوبية، ويتعلّقون به صلى الله عليه وسلم من دون الله بالدعاء والاستغاثة وطلب الحاجات، وتفريج الكربات، وهذا شركٌ أكبر.
المسألة الثانية: يُستفاد من الآية مسألة عظيمة وهي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بُعث بالدعوة إلى التّوحيد والنهي عن الشرك بالله عزّ وجلّ، كمُهِمّة غيره من الأنبياء والمرسلين. وهذه هي المهمّة العظمى، وهي قضية القضايا.
المسألة الثالثة: تدُلُّ الآية الكريمة على وجُوب الإخلاص في العمل لله، وهذا محل الشاهد منها للباب.
المسألة الرابعة: في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الله سبحانه وتعالى غنيٌّ عن عبادة الخلق، ولو أشرك النّاس كلهم، أو كفروا كلهم، لم ينقُص ذلك من ملكه شيئاً.
المسألة الخامسة: في حديث أبي هريرة: التحذير من الشرك في العمل، وأنه سببٌ لِرَدِّه وعدم قَبوله سواء كان شركاً أكبر أو شركاً أصغر، ومنه الرياء.
المسألة السادسة: فيه إثبات أن الله جل وعلا يتكلّم كما يشاء سبحانه وتعالى، والكلام ثابتٌ له سبحانه، صفةٌ فعليّة كسائر صفاته الفعلية تليق بجلاله، ليس مثل كلام المخلوقين، بل هو كلامٌ يليق بجلاله سبحانه وتعالى.
المسألة السابعة: في حديث أبي سعيد رضي الله عنه: التحذير من الرياء، وبيان تفسيره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فسّره في قوله: "يقوم الرجل فيصلي فيُزَيِّن صلاته لِمَا يرى من نظر رجل إليه".
المسألة الثامنة: في حديث أبي سعيد: أن الشرك ينقسم إلى شرك ظاهر وشرك خفي، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "الشرك الخفي" فهذا دليل على أنّ هناك شركاً ظاهراً، وهو الشرك في الأعمال الظاهرة كالركوع والسجود والدعاء والذبح والنذر. فإذا صرفت هذه العبادات لغير الله صار شركاً ظاهراً.


ج / 2 ص -98- أما الرياء فإنه شركٌ خفي يكون في القلوب والمقاصِد، ولهذا جاء في الحديث: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة السوداء على صَفاةٍ سوداء في ظُلمة الليل"، وكفّارته أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم".
وكان الصحابة يخافون من هذا الشرك.
وهكذا كلما قويَ إيمان العبد قويَ خوفه من الرياء، وخوفه من جميع الشرك،



المصدر :

كتاب :
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد

رابط تحميل الكتاب

http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf





رد مع اقتباس