عرض مشاركة واحدة
  #67  
قديم 22-01-2015, 01:42AM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم




إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد

باب ما جاء في ذِمة الله وذمة نبيه

ج / 2 ص -285- [الباب الثالث والستون:]
* باب ما جاء في ذِمة الله وذمة نبيه

وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} الآية.

مناسبة هذا الباب لكتاب التّوحيد:
أن نقض العهود فيه نقصٌ في التّوحيد، لأنّه يدلّ على عدم احترام عهدِ الله، ومن لم يحترم عهد الله، فإنّ هذا يدلّ على نقص توحيده، ومن وفى بعهد الله وعظم عهد الله فهذا يدلُّ على كمال توحيده. هذا وجه المناسبة.
وقول الشيخ رحمه الله: "باب ما جاء في ذمّة الله وذمّة نبيّه" الذِّمّة معناها: العهْد.


وما جاء يعني: من النّهي عن نقض العهود من كتاب الله وسنّة نبيّه، وما جاء من الوعيد في ذلك.
قال: "وقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا}" هذا أمرٌ من الله سبحانه وتعالى بالوفاء بالعهود، والوفاء: ضدّ الغدر والخيانة.
{بِعَهْدِ اللَّهِ} المراد به: الميثاق الذي يُعقد بين النّاس، وأضافه إلى نفسه إضافة تشريف؛ ممّا يدلّ على تعظيم العهد، لأن الشيء إذا أضيف إلى الله فهذا دليلٌ على تعظيمه، مثل: بيتِ الله، وناقة الله، وعبد الله، فالإضافة هنا تقتضي تعظيم المضاف، فهي تدلّ على عظم العهد، ووجوب احترامه.


"{إِذَا عَاهَدْتُمْ}" أي: عاهدتم طرفاً آخر من النّاس، وهذا يشمل الذي بين الله وبين خلقه والعهد الذي بين المسلمين وبين الكُفّار، ويشمل العهد الذي بين وليّ أمر المسلمين وبين الرعيّة، ويشمل العهد الذي بين أفراد النّاس بعضهم مع بعض.
فهذه العهود العامّة والخاصّة يجب الوفاء بها، لأنّ نقض العُهود من علامات المنافقين، قال سبحانه وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ(75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ(76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ(77)}،
ج / 2 ص -286- قال صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
فنقض العهود من صفات المنافقين، والوفاء بالعهود من صفات المؤمنين.
ثم نهى سبحانه وتعالى عن نقض العهود، فقال{وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ} يعني: العهود، لأنّ العهد يسمّى يميناً.


{بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} أي: بعد إبرامها وعقْدِها، لأنّها إذا عُقدت وأبرمت وجب الوفاء بها والالتزام بها من الطرفين، حتى ولو كانت مع كفّار، قال تعالى: "{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ(58)}" أي: أعلِن لهم أنّك تريد إنهاء العقد الذي بينك وبينهم، حتى يكونوا على بيِّنة وعلى بصيرة، ولا تفاجئهم بنقض العهد بدون سابقة إنذار{إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}، هذا مع الكفّار، فكيف مع المسلمين؟.
{وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} الواو: واو الحال، أي: والحال أنّكم إذا عاهدتّم فقد جعلتم الله كفيلاً عليكم.


والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى ينتقم ممّن نقض العهد، لأنّهم إنّما وثِقوا بكم ووثقتم بهم باسم الله سبحانه وتعالى، فصار الله سبحانه كفيلاً وحسيباً ورقيباً على الجميع، ومن كان الله حسيبَه ورقيبَه ومحاسبه فإنّه لن يفوت على الله جل وعلا، ولا يخفى ما في قلبه وفي نيّته من النّيات الباطلة والغدر، فالله يعلم ما في القلوب، فكيف إذا ظهر ووقع: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}، هذا الكفيل ليس كغيره من الكفلاء فالكفيل من الخلق قد يغفل وقد يجهل، ولا يعلم بما يحصل من المكفول، ولكنّ الله جل وعلا لا تخفى عليه أفعال خلقه وأعمال عباده، فهو يعلم أفعالكم ونيّاتكم ومقاصدكم وأهدافكم وما ترمون إليه، فاحذروا من الله سبحانه وتعالى، احذروا من هذا الكفيل العليم الخبير القدير الذي لا يخفى عليه شيء ولا يُعجزه شيء.


فهذه الآية فيها شاهدٌ واضح للترجمة وهي: النّهي عن إخفاء العهد ونقض العهد من غير مسوغ ومن غير سبب يقتضي ذلك.
ج / 2 ص -287- وعن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أَمَّر أميراً على جيش أو سريّة؛ أوصاه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً، فقال:

ثم أورد الحديث الذي في "صحيح مسلم" وغيره، فقال:
"وعن بُرَيْدة" هو بُريدة بن الحُصَيْب الأسلمي، الصحابي الجليل- رضي الله تعالى عنه-.
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أَمَّر أميراً على جيش أو سَرِيَّة" النّبي صلى الله عليه وسلم كان يعقِد الجيوش والسرايا للجهاد في سبيل الله، بعدما هاجر إلى المدينة وقَوِيَ الإسلام وأمرهُ الله بالجهاد، كان صلى الله عليه وسلم يكوِّن الجيوش والسرايا لمحاربة المشركين، امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(73)}، {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}، {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، إلى غير ذلك.
والجيش هو: العسكر العظيم الكثير، وأمّا السرية فهي القطعة من الجيش، تنطلق من الجيش وترجع إليه.


وكان صلى الله عليه وسلم يؤمِّر على السرايا، وأمّا الجيوش فكان يقودُها بنفسه في الغالب -عليه الصلاة والسلام-.
فقوله: "إذا أمّر أميراً" فيه: أنّه لابدّ من نصب الأمير على الجيوش والسرايا لأجل أن ترجع إليه ولأجل أن يتولّى أمرها ويحلّ مشاكلها ونزاعاتها، لابدّ من الإمارة في الجيوش والسرايا، ولابدّ من الإمامة العظمى للمسلمين، لأنّ الفوضى وعدم وُجود الوُلاة فيه مفاسد عظيمة، وفيه شرٌّ كبير.


وفيه: أنّ تأمير الأمراء سواء على الأقاليم أو على الجيوش أو على السرايا يُرجع فيه إلى وليّ الأمر، هو الذي يومِّر وهو الذي يعزل، لأنّ ذلك من صلاحيّاته في حدود ما شرعه الله سبحانه وتعالى.
"أوصاه بتقوى الله" هذا من عناية الرّسول صلى الله عليه وسلم بأمور المسلمين، وهكذا ينبغي لوُلاة أمور المسلمين أن يقتدوا الرّسول صلى الله عليه وسلم فيوصوا أمراءهم ومَن تحت أيديهم بتقوى الله.
ج / 2 ص -288- "اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله.


وتقوى الله هي: فعلُ أوامره وترك نواهيه. سُميت تقوى لأنّها تقي من عذاب الله.
فالتقوى معناها: اتّخاذ الوقاية من عذاب الله وسخطه وغضبه، وذلك إنّما يكون بطاعته وترك معصيته خوفاً من عقابه ورجاءً لثوابه.
وهي كلمةٌ جامعة تجمع خصال الخير كلّها، ولذلك أوصى الله بها في كتابه في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ}، وفي كثير من الآيات، فهي كلمة جامعة.
ومن اتقى الله فهو أشرف النّاس، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، فالتقيُّ هو الكريم عند الله سبحانه وتعالى دون نظرٍ إلى نسبه أو إلى ماله أو إلى جاهه.


"وبمَن معه من المسلمين خيراً" أي: وأوصاه بمن معه من المسلمين ممّن تحت يده من السريّة أو الجيش خيراً: بأن ينصح لهم ويتولّى أمرهم ويدبِّر شؤونهم وينظر في مصالحهم، ويحلّ مشاكلهم، ويرفُق بهم، فليست المسألة مسألة إمارة فقط، أو نيل مرتبة فقط، أو نيل لقب.
ثم يقول- عليه الصلاة والسلام- للأمير وللجيش وللسرية، يقول للجميع:
"اغزوا" الغزو هو: قصْد العدوّ والذّهاب إليهم.


"باسم الله" أي: مستعينين بالله، وهذا فيه: بَدَاءَة الأمور المهمّة باسم الله، وأنّ الإنسان إذا بدأ بشيء فإنّه يبدأ باسم الله، فإذا شَرَع في السفر، أو شرع في الغزو، أو شرع في الأكل أو الشُّرب، أو الدخول في البيت أو المسجد، وحتّى الدخول في محلّ قضاء الحاجة يقول: (باسم الله) قبل الدّخول، لأن هذا الاسم يعصمه من الشيطان، وتنزل عليه وعلى عمله وعلى فعله الرحمة والبركة، كما يُذكر اسم الله على الذّبائح عند التذكية، بل جاء في الحديث: "كلُّ أمرٍ ذي بال لا يُبْدأ فيه باسم الله فهو أَبْتَر" أي: ناقصُ البَرَكة، وتُبدأ به الرسائل والمؤلَّفات، وتُبدأ به الدروس والنصائح، وتُبدأ به سورة القرآن الكريم- ما عدا سورة براءة، فـ (باسم الله) كلمة عظيمة، تُبدأ بها مهامّ الأمور.


ج / 2 ص -289- "في سبيل الله" يعني: أن الغزو لا يكون لطلب الملك أو لطلب المال أو التسلّط على النّاس، هذا شأن أهل الجاهلية، إنّما يكون الغزو لمصالح المغزوِّين، وليس للانتقام منهم إذا لم يصرُّوا على الكفر، وإنّما هي لمصالحهم، لأجل إنقاذهم من الكفر وإخراجهم من الظلمات إلى النور، فهو في سبيل الله، القصد منه: إعلاءُ كلمة الله سبحانه وتعالى، والمصلحة في هذا عائدة إلى المغزويّن، والى الغازين أيضاً، فالغازون يكون لهم أجر الجهاد في سبيل الله وأجر الشهادة والغنيمة، والمغزوّون يكون لهم إخراجهم من الكفر إلى الإيمان ومن الظّلمات إلى النّور، ومن الكفر إلى الإسلام.


"قاتلوا من كفر بالله" القصد من الغزو هو: قتال الكفّار، لكفرهم، لأن الله خلق النّاس لعبادته سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)}، والمصلحة في العبادة راجعةٌ إليهم، لأنّهم إذا عبدوا الله أكرمهم الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة، أما إذا عبدوا غير الله فقد ضرّوا أنفسهم.
فالمقصود من الغزو في الإسلام هو: إزالة الكفر وإحلال التّوحيد محلّه، هذا هو المقصود من الغزو، ليس المقصود من الغزو الاستيلاء على البلاد، أو أخذ الأموال، أو توسيع الملك، أو ما أشبه ذلك، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}.


وهذا فيه دليلٌ على أنّ الجهاد يكون بالغزو والهجوم على الكفّار في ديارِهم بعد دعوتهم إلى الإسلام وليس المقصود منه- كما يقول بعض الكُتّاب العصريّين: إن المقصود به الدفاع، إنّما المقصود من الجهاد هو: إزالة الكفر والشرك من الأرض، كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ(40)}. فالمقصود من الغزو والجهاد في الأصل: هو طلب الكفّار في بلادهم، ونشر الإسلام، وإزالة الكفر.


أمّا قصة الدفاع فمعناه: أنّنا نبقى في ديارِنا، فإن جاءونا دافعناهم، وإن ما جاءونا تركناهم. وهذا باطل، ولم يأتِ الإسلام بهذا، إنما كان هو موجوداً في أوّل
ج / 2 ص -290- اغزوا ولا تغُلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً.

الإسلام لَمّا كان المسلون قِلّة، ولم يكن للمسلمين دولة فعندما كانوا في مكّة، كانوا منهيِّين عن القتال لأنّ المفسدة فيه أعظم من المصلحة، لكن لّمّا قويَ المسلمون ووجُدت دولة المسلمين في المدينة أمر الله المسلمين بالجهاد والغزو وقتال الكفّار وغزوهم في ديارهم وفي بلادهم لنشر الإسلام، ونفّذ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما تُوفّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلاّ والإسلام منتشر في معظم جزيرة العرب، وجاء النّاس ودخلوا في دين الله أفواجاً قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، وكاتب الملوك- ملوك الأرض- يدعوهم إلى ا لإسلام، وكان ذلك مقدَّمة لجهادهم.


وجاء مِن بعده الخلفاء الرّاشدون فواصلوا الجهاد الذي بدأه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى انتشر الإسلام في مشارق الأرض وفي مغاربها، ودخلت دولة الفُرس ودولة الروم تحت حكم الإسلام، منهم من أسلم ومنهم من خضع لبذل الجزية، وصارت الغلبة والظهور لدين الإسلام كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(33)}، فتحقّق وعدُ الله سبحانه وتعالى وظهر دينُ الإسلام على الدين كلّه، وبلغ مشارق الأرض ومغاربها، بجهاد المجاهدين في سبيل الله.
"اغزوا" هذا تكرارٌ منه صلى الله عليه وسلم للتأكيد.
"ولا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليداً" يرسم لهم صلى الله عليه وسلم الخُطَّة التي يسيرون عليها في جهادهم، وهي خُطّة العدل والإنصاف والرِّفْق والحكمة.


"ولا تَغُلُّوا" الغُلول هو: أن يأخذ شيئاً من الغنيمة قبل القِسْمة، فالغنيمة تُجمع ثم يُقْسَم حسب ما شرعه الله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}.
فمن أخذ شيئاً منها بدون القسمة أو التنفيل الذي يمنحُه القائد لبعض المجاهدين لمزية فيه؛ فمن أخذ شيئاً بدون وجه شرعي من المغانم فهذا الغُلول، وهو كبيرة من كبائر الذّنوب، وقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(161)}، ففي يوم القيامة يأتي الغالّ يحمل ما أخذه في الدنيا، يحمله على ظهره، إن أخذ بعيراً جاء
ج / 2 ص -291- وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال [أو خلال]، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكُفّ عنهم:


بالبعير على رقبته، وإن أخذ بقرة جاء بها يحملها على رقبته، وإن أخذ مالاً جاء به يحملُه يوم القيامة فضيحةً له في هذا الموقف العظيم.
والغالُّ يؤدَّب بأن يُحْرَقُ رَحْلُه، والأثاث الذي معه، من باب العقوبة بالمال، ولا يصلِّي عليه الإمام إذا مات بل يتركُه يصلِّي عليه النّاس من أجل الردع للنّاس.
وحتّى العُمّال الذين يبعثهم وليّ الأمر لجباية الزكاة؛ إذا قبِلوا الهدايا من النّاس فهي غُلول، قال صلى الله عليه وسلم: "هدايا العُمّال غُلول".
"ولا تَغْدِرُوا" هذا الشّاهد من الحديث للباب، والغدر هو: الخيانة في العهد.
"ولا تُمَثِّلُوا" أ التمثيل معناه: تشويه جُثَث القتلى؛ بقطع آذانهم أو أُنوفهم أو أطرافهم، وهذا لا يجوز، لأنّ جُثة الآدمي لها حُرْمة حتى ولو كان كافراً، فلا يجوز التمثيل به.


"ولا تقتلوا وليداً" الوليد معناه: الصّغير من الكُفّار، لأنّه ليس منه خطرٌ على المسلمين، كما أنّها لا تُقتل -أيضاً- المرأة من الكُفّار، لأن النساء لسن من أهل القتال، وإنّما الأطفال والنساء يؤخذون أرقّاء للمسلمين، وكذلك الشيخ الكبير الهَرِم لا يُقتل، إلاّ إذا كان له رأي ومشورة في الخَرْب، مثَل ما قُتل دُرَيْد بن الصِّمَّة سيِّد هوازِن، وكان رجلاً كبيراً هَرِماً لكن قُتل في غزوة حُنين لأنّه كان يعطي الآراء للكُفّار، لأنّه كان سيِّداً من ساداتهم وشجاعاً من شجعانهم، وقد مارس الحروب وساس المعارك، فعنده خِبرة، وكانوا يرجعون إليه، فقتله المسلمون، لأنّه يصدُر منه ضررٌ على المسلمين، أمّا الشيخ الذي ليس له أهميّة، وكفره قاصرٌ على نفسه، فلا يقتل، إنّما يُقتل الكافر الذي يتعدّى ضرره وكفره إلى النّاس، وكذلك الرُّهبان الذين في الصوامع أيضاً لا يُقتلون، لأنّهم مشغولون بما هم فيه ولا يصدُر منهم أذى للمسلمين وكفرهم قاصر عليهم.
وقوله: "وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال [أو خِلال]" الخصال والخِلال بمعنىً واحد، ولكن هذا شكٌّ من الراوي، وهذا من الدقّة في الرواية، إذا كان الراوي لا يجزم باللّفظة التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنّه يأتي بالكلمة
ج / 2 ص -292- ادعهم إلى الإسلام؛ فإن أجابوك فاقبل منهم. ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين.


التي تشابهها تحرُّجاً من القول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل وإنْ كان المعنى صحيحاً، وهذا من احترام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنّ أحداً لا يُضيف إليه شيئاً، ويقول: قال رسول الله كذا وهو لم يجزم.
"فأَيَّتَهُنَّ " بالنصب على أنّه مفعول للفعل المتأخِّر وهو "أجابوك".
"ما أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم" إذا قبلوا أيّ واحدة من هذه الخلال الثلاث- أو الخصال- فاقبل منهم إجابتهم وكُفّ عنهم القتال، ولا تقاتلهم.
هذا فيه: أنّ القتال لا يجوز إلاّ بعد الدعوة إلى الإسلام، ولا تجوز مفاجأتهم وقتالهم وهم لم يسبق لهم دعوة من المسلمين.
"ادعهم إلى الإسلام" قوله في الحديث: "ثم ادعهم إلى الإسلام" هذه رواية مسلم: (ثم)، وفي رواية غير مسلم بحذف (ثمّ)، وهو الصحيح، ويكون: "ادعهم إلى الإسلام" بداية الكلام.


فالكفّار يجب أن يُدعوا إلى الإسلام أوّلاً، فإنّ قبلوا فالحمد لله، لأنّ هذا هو المقصود، نحن لا نقاتلهم إلاّ لأجل دخولهم في الإسلام، فمن شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسولُ الله وجب الكفُّ عنه، واعتبرناه من المسلمين، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، إلاّ أن يظهر منه بعد ذلك ما يخالف الشهادتين فنعتبرُه مرتدًّا، ونعامله معاملة المرتدّ، أمّا إذا لم يظهر منه شيء فإنّه يُقبل منه الإسلام، ولو مات بعد نُطقه بالشهادتين عاملناه معاملة المسلم في الميراث والجنازة وغير ذلك.
ثم إذا قبلوا الإسلام فـ"ادعهم إلى التحوّل من دارهم" يعني: من مكانهم الذي يقيمون فيه.


"إلى دار المهاجرين" وهي المدينة في ذاك الوقت.
والهجرة في اللغة هي: ترك الشيء، قال تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ(5)} أي: اترُك الشرك، وقال صلى الله عليه وسلم: "المهاجر: من هجر ما نهى الله عنه" الهجر هو: التَّرْك. هذا في اللغة.
ج / 2 ص -293- فإن أبوا أن يتحوّلوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء؛ إلاّ أن يجاهدوا مع المسلمين.


أمّا في الاصطلاح الشرعي فالهجرة صارت تُطلق على الانتقال من بلاد الكفر إلى بلاد المسلمين من أجل حفظ الدين.
والهجرة من أعظم الأعمال بعد الإسلام، ولهذا صار للمهاجرين ميزة على إخوانهم من الأنصار، وصاروا يقدّمون في الذّكر لشرفهم، لأنّهم تركوا أوطانهم وديارهم وأموالهم وخرجوا، بل تركوا أولادهم وأزواجهم، وخرجوا إلى المدينة من أجل الدين ومن أجل نُصرة الرّسول صلى الله عليه وسلم، فشكر الله لهم ذلك وأثنى عليهم ووعدهم بجزيل الثواب.


والهجرة باقية إلى أن تقوم السّاعة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} هؤلاء الذين تركوا الهجرة عن غير عذر فظلموا أنفسهم بذلك.
فالهجرة واجبة وباقية إلى أن تقوم السّاعة، وفي الحديث: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرُج الشمس من مغرِبها".
وأمّا قولُه صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهادٌ ونيّة" فالمراد به: الهجرة من مكّة، لأنّها بعد الفتح صارت دارَ إسلام، وأمّا الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام فهي باقية إلى قيام السّاعة.


والهجرة في هذا الحديث وهي الانتقال من دارهم إلى دار المهاجرين مستحبّة في حقّهم، إذا كانت البلاد بلاداً إسلامية فالانتقال منها إلى بلد أفضل منها مستحبّ، لأن الرّسول صلى الله عليه وسلم هنا خيَّرهم، فدلّ على أن الهجرة هنا غير واجبة عليهم، وإنّما هي أفضل في حقِّهم.
"فإن أبوا أن يتحوّلوا منها فأخبرهم أنّهم يكونون كأعراب المسلمين" يعني: إن آثروا البقاء في بلدهم ولم ينتقلوا إلى المدينة فأخبرهم أنّهم يكونون كأعراب ا لمسلمين، والأعراب: جمع أعرابي، وهو: ساكنُ البادية.


ولا شكّ أن سُكنى الحاضرة الإسلاميّة أفضل من سُكنى البادية الإسلامية لأنّ
ج / 2 ص -294- فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكُفّ عنهم.


سُكنى البادية فيها جفاء، أمّا سُكنى الحاضرة الإسلاميّة ففيها في الغالب خير، وفيها تعلُّم العلم النّافع، وفيها مخالطة الصّالحين، فالتعرُّب فيه جهل، وفيه بعدٌ عن العلم، خلاف الهجرة ففيها خيرٌ كثير.
"يجري عليهم حكم الله تعالى" أي: حكم الإسلام، فيكونون مسلمين، ولكن "لا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء" الغنيمة هي: ما يستولي عليه المسلمون من أموال الكُفّار في أثناء القتال.


وقد تولّى الله تعالى قسمَتها في كتابه فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}، وأربعة الأخماس الباقية توزّع بين المقاتلين: للرّاجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهمٌ له وسهمان لفرسه.
فهؤلاء الذين أسلموا ولكنّهم لم ينتقلوا إلى بلاد الهجرة، وبقوا في البادية؛ ليس لهم من الغنيمة شيء، لأنّهم لم يشاركوا المجاهدين ولم يكونوا في بلد المجاهدين رِدْءاً لهم، لأنّ الذين يقيمون في الحواضر يكونون رِداً للمجاهدين إذا احتاجوا إليهم.


"فإنْ أبَوا" يعني: أبوا الإسلام، فينتقل معهم إلى الخصلة الثانية، وهي: طلب الجِزْية.
والجزية: مقدارٌ من المال يدفعه الكافر حتى يُحْقَنَ دمه ويعيش تحت ظلِّ الإسلام وحكم الإسلام، ويبقى على كفره، لكن يكون خاضعاً لحكم الإسلام.
واختلف العلماء- رحمهم الله- هل تُؤخذ الجزية من كُلِّ كافر كما هو ظاهر هذا الحديث، أو أنّها تُؤخذ من أهل الكتاب فقط لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ(29)}، فخصّ الله في الآية أهلَ الكتاب: اليهود والنصارى، فالذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى، وأُلْحِقَ بهم المجوس بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب" يعني: في أخذ الجزية، فهم يُسَنُّ بهم سنة أهل الكتاب في أَخذ الجزية، أمّا ذبائحهم فهي حرام، بخلاف ذبائح أهل الكتاب، ونسائهم.
ج / 2 ص -295- فإن هم أبوا فاستعِن بالله وقاتلهم.


فتؤخذ الجزية من أهل الكتاب بنصَ الآية، وتؤخذ الجزية من المجوس بالسنّة النبويّة وفعل الخلفاء الراشدين، ويبقى الخلاف في بقيّة المشركين، فهذا الحديث يدلّ على أخذها منهم أيضاً.


والعلماء اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال:

القول الأوّل: وهو قولُ الإمام مالك رحمه الله، واختيار الإمام ابن القيِّم: أنّها تُؤخذ من كُلِّ كافر، بدليل هذا الحديث، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم عمّم أخذ الجزية، وقال: "إذا لقيتَ عدوّك من المشركين"، وهذا عامّ يعمّ جميع المشركين.

القول الثّاني:
أنّها تؤخذ من كلّ مشرك من العجم. أما مشركو العرب فلا تؤخذ منهم الجزية، فلا يُقبل منهم إلاّ الإسلام أو القَتْل، وهذا قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله.

القول الثالث:
أنّ أخذ الجزية خاصٌّ بأهل الكتاب وبالمجوس فقط من العرب ومن العجم، ومن عداهم من المشركين فلا يُقبل منهم جزية، وهذا قولُ الإمام الشافعي، وظاهر مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
والمسألة مفصّلة في كتب الفقه وفي "كتاب أحكام أهل الذمَّة" للإمام ابن القيِّم، وفي كلام شيخ الإسلام ابن تيميّة في "مجموع الفتاوى".


والحكمة في أخذ الجزية في مقابل تأمينهم ولإتاحة الفرصة لهم ليتأمّلوا في أحكام الإسلام ويعيشوا تحت حكمه، فتظهر لهم سماحة الإسلام، وفضك الإسلام فيكون ذلك دافعاً لدخولهم فيه، هذا من الحكمة في أخذ الجزية ليتأمّلوا في الإسلام، ويجرّبوا العيش تحت ظلّه وعدله، ويتمكّنوا من سماع القرآن والسنّة، ويكون ذلك دافعاً لهم للدّخول في الإسلام.
وقوله: "فإن هم أبوا" يعني: أبوا دفع الجزية.


"فاستعن بالله وقاتلهم" هذه الخصلة الثاّلثة، وهي المرحلة الأخيرة معهم، وهي: القتال، لأنّهم أبوا الدخول في الإسلام، وأبوا دفع الجزية، فلم يبق إلاّ
ج / 2 ص -296- وإذا حاصرت أهل حِصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذِمّة الله وذِمّة نبيه؛ فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمة أصحابك؛ فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه.


القتال، وقد بلغتهم الدعوة، وقامت عليهم الحجة، وانقطعت معذرتهم فلم يبق إلاّ قتالُهم لأجل أن تكون كلمة الله هي العليا، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}، {لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} يعني: لا يكون شرك ولا يفتنون المسلمين عن دينِهم، لأنّهم إذا بقوا صاروا دُعاة إلى الكفر، وهم خطرٌ يهدِّد المسلمين لصرفهم عن دينهم، فالكفّار دائماً وأبداً يريدون صَرّْف المسلمين عن دينهم: قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً}، وقال سبحانه وتعالى: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}، وقال سبحانه وتعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}، فالكفّار دائماً في كلِّ مكان وزمان يحاولون صرف المسلمين عن دينهم، وقوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} هذا هو الواجب، لأنّ الله هو الخالق الرازق الرب المدبِّر الذي يستحقّ العبادة، وعبادة غيرِه باطلة، لأنّها بغير حقّ.


وقوله: "استعن بالله" هذا دليلٌ على وجوب الاستعانة بالله وعدم الاغترار بالقوّة، وأن المسلمين إنّما يقاتِلون بإعانة الله جل وعلا ويعتمدون على الله، ويطلُبون منه النصر والقوّة، ولا يعتمدون على قوّتهم وعبي كثرتهم، فإنهم إن اعتمدوا على ذلك هُزِموا، كما قال سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ(26)}.


فالمسلمون يعتمدون على الله، ويتّخذون القوّة والسلاح: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، ولكن هذه القوّة وهذا السلاح إنما هو سبب من الأسباب، وأمّا الاعتماد فهو على الله جل وعلا، فلا يُعتمد على القوّة ولا على الكثرة، فإنّ ذلك لا ينفع إذا لم يساعد الله جل وعلا بنصره وتأييده.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "وإذا حاصرت أهلَ حِصْن" والمراد بالحِصْن: واحد الحُصون، وهي: الأبنية والقِلاع التي يتحصَّن بها المقاتلون.
ج / 2 ص -297- وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله؛ فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟ " رواه مسلم.


وأغلب من يتحصّن بالقلاع هم أهل الكتاب وأهل المدن والحضر، أمّا البادية فإنّهم يكونون في الصحراء، ليس لهم قلاع ولا حصون.
والحصار معناه: تطويق الحُصون من كلِّ المنافذ، ومنعهم من الخروج والدخول، ووصول الأمداد إليهم. من الحصر وهو: الحبْس. وهذه خُطَّة من خطط الحرب.
"فأرادوك أن تجعل لهم ذِمّة الله وذِمّة نبيه" الذمّة: العهد.


"فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه" هذا نهي عن ذلك؛ احتراماً لذمة الله وذمة نبيه من النقض وعدم الوفاء.
"فإنّكم أن تَخْفِرُوا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تَخْفروا ذمّة الله " "فإنكم أن تَخْفِرُوا" تنقضوا، الإخفار معناه: النّقص، والخفر معناه: الحماية. ولا يؤمن ممن أعطى ذمة أن ينقضها، فنقض ذمته أهون من نقض ذمة الله وذمة رسوله.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تُنزلهم على حكم الله فلا تُنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك" يعني: على اجتهادك، تقول لهم: أنا أجتهد فيكم فرب الحكم الذي أرى أنّه حق وصواب، فإن وُفِّقت وأصبت فذلك من الله سبحانه وتعالى، وإنْ أخطأتُ فهذا من اجتهادي ولا يُنسب إلى الله سبحانه وتعالى.


وإذا حصل خطأ في اجتهاد البشر فإنه لا يُنسب إلى حكم الله سبحانه وتعالى.
ولهذا قال في ختام الحديث: "فإنك لا تدوي أتصيب فيهم حكم الله أم لا".
قال الفقهاء: هذا فيه دليل على الاجتهاد في الأحكام الفقهيّة.
وفيه: دليل على أنّ المصيب من المختلفِين واحد، فليس كلُّ مجتهد مصيباً، وإنّما المصيب يكون واحداً والبقيّة يكونون مخطئين.
فهذا فيه دليل على أنّ المفتي إذا أفتى بفتوى لا يقول: هذا حكم الله، وإنّما يقول: هذا اجتهادي الذي أراه، لأنّه لا يدري هل أصاب الحقّ أو لا، فلا ينسب إلى الله شيئاً لا يدري هل هو حقّ، أو خطأ.


ج / 2 ص -298- وفي هذا دليلٌ على أنّ الخطأ يتفاوت، وأنّ الذنب يتفاوت؛ بعضُه أعظم من بعض.
وفيه: الإرشاد إلى أخفّ الضررين، فإنّ نقض عهد الله سبحانه أشدّ من نقض عهد المخلوق، وإن كان الكلّ حراماً، سواء كان مضافاً إلى الله أو مضافاً إلى المخلوق، ولكن نقض عهد الله أشدّ من نقض عهد المخلوق.
وهذا في المسائل الاجتهادية.
أمّا المسائل التي نصّ الله على حكمها؛ فهذا لا إشكال فيه، يقال: هذا حكم الله، تقول: الزنا حرام، هذا حكم الله.
تقول: الرِّبا حرام، هذا حكم الله.
الشرك حرام، هذا حكم الله سبحانه وتعالى.


لأن الحكم في هذا واضح، وهذه أمور ليست من مسائل الاجتهاد، لأنّ الله نصّ على حكمها.
كذلك القاضي الذي يحكم بين النّاس لا يقول: هذا حكم الله، وإنّما يقول:
هذا حكمي واجتهادي، وهذا الذي توصّلتُ إليه.


فيؤخذ من الآية والحديث مسائل عظيمة:

المسألة الأولى:
يؤخذ من الآية تحريم نقض العُهود، قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}.
والعهود عامّة، تشمل العهود التي بين العبد وبين ربِّه، العهود التي بين الرّاعي والرعيّة، العهود التي بين المسلمين والكُفّار، العهود التي بين المسلمين بعضهم مع بعض كلها يجب الوفاء بها، ويحرم نقضُها بدون سبب صحيح.

المسألة الثانية: في الحديث أنّ تكوين الجيوش والسرايا والغزو والجهاد من صلاحيَّات الإمام، هو الذي يأمر بذلك وهو الذي ينظِّم هذه الأمور ويُرجع إليه فيها، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان هو الذي ينظِّم الجيوش والسرايا ويؤمِّر الأمراء عليها، ويوصيهم، فدلّ هذا على أن هذا الأمر من صلاحيّات الإمام، وأنّه لا يجوز لأحدٍ
ج / 2 ص -299- من النّاس أن يغزو أو يقاتِل أو يجمِّع جماعة في وسط ولاية الإمام ويأمر وينهى ويُصدر أوامر بدون إذن إمام المسلمين، هذا يُعتبر من الاعتداء على صلاحيّات الإمام ومن الفوضى في الإسلام، ويحصل بهذا مفاسد عظيمة.

المسألة الثالثة:
في الحديث دليلٌ على أنّ الجهاد في الإسلام شرُع من أجل إعلاء كلمة الله ونشر الإسلام والقضاء على الكفر والشِّرك، لقوله صلى الله عليه وسلم: "قاتلوا مَن كفر بالله".

المسألة الرابعة:
في الحديث دليلٌ على تحريم قتل من لا يقاتِل من الكفّار كالطفل الوليد: "لا تقتلوا وليداً"، وكذلك النساء، وكذلك الشيخ الكبير الهَرِم، وكذلك الرُّهبان في الصوامع، هؤلاء لا يجوز قتلُهم لأنّهم لا يقاتِلون، وكفرهم قاصرٌ على أنفسهم لا يتعدّى إلى غيرهم، أمّا إذا كان هؤلاء لهم رأيٌ ولهم دعوة إلى الكفر فإنّهم يُقتلون دفعاً لشرهم.

المسألة الخامسة:
في الحديث دليلٌ على أنّ الكُفّار لا يقاتَلون إلاّ بعد دعوتهم إلى الإسلام، وأنّه لا تجوز بداءتهم بالقتال قبل الدعوة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادعهم إلى الإسلام"، وهذا أوّل ما بدأ به صلى الله عليه وسلم.

المسألة السادسة:
فيه أنّ من أظهر الإسلام ونطق بالشهادتين فإنّه يُقبَل منه ويُكَفُّ عنه، حتى يتبيّن منه ما يناقض الإسلام، فعند ذلك يُحكم عليه بحكم المرتد لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم".

المسألة السابعة:
في الحديث دليلٌ على مشروعية أخذ الجزية ممّن أبى أن يقبل الإسلام وبَذَل الجزية.

المسألة الثامنة:
في الحديث دليلٌ على أن المسلمين يعتمدون في قتالهم للكفّار على الله سبحانه وتعالى، ولا يعتمدون على حولهم وقوّتهم وكثرة جنودهم ولا يغترون بذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "فاستعن بالله وقاتلهم".

المسألة التاسعة:
في الحديث دليلٌ على أنَّ المسلمين لا يُنزلون الكُفّار المحاصرين على ذمّة الله وذمّة رسوله، يعني: على عهد الله وعهد رسوله، وإنّما يُنزلونهم على ذممهم هم، لأنّه إنْ حصل خطأ فإنّه ينسب إليهم ولا ينسب إلى ذمة الله وذمة رسوله.

ج / 2 ص -300- المسألة العاشرة: فيه دليلٌ على أنّ الذنوب تختلف، بعضها أشدّ من بعض، وذلك أنّ نقض عهد الله أشدّ من نقض عهد المخلوقين، وإنْ كان الكلُّ حراماً، ولكن الذنوب تتفاوت، وارتكاب أخفّ الذنوب أسهل من ارتكاب أعظمها.

المسألة الحادية عشرة:
في آخر الحديث دليلٌ على مشروعية الاجتهاد في المسائل التي هي مَحَلٌّ للاجتهاد.

والمسألة الثانية عشر:
في الحديث دليلٌ على أنّ الصواب يكون مع واحد من المجتهدين ولا يكون مع جميعهم، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنّك لا تدري"، وإذا كان هذا خطاباً للصحابة، وهم أقرب النّاس إلى العلم والإصابة، لأنّهم يتلّقون عن الرّسول صلى الله عليه وسلم، فغيرهم من باب أولى من المجتهدين، فلا يغترّ الإنسان برأيه وباجتهاده، لأنّه يحتمل أنّه مخطئ وأنّ الصواب مع مخالفه، فلا يغتّر الإنسان باجتهاده أو يتعصّب لرأيه أو يشتدّ عندما يناقَش، هذا لا يجوز، لأنك مجتهد وهذا مجتهد، والصواب محتمل أن يكون معك وأن يكون معه، فلا يجزع الإنسان من المناقشة ومن المساءلة في المسائل الخلافية، ويقول: هذا اجتهادي وهذا الذي أرى، والإنسان عُرْضة للخطأ، ولا يقول هذا حكم الله في المسألة.





المصدر :

كتاب :
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد

رابط تحميل الكتاب

http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf




رد مع اقتباس