عرض مشاركة واحدة
  #64  
قديم 22-01-2015, 12:52AM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم




إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد

باب ما جاء في منكري القدر

ج / 2 ص -248- [ الباب الستون:]
* باب ما جاء في منكري القدر

وقال ابن عمر: "والذي نفس ابن عمر بيده؛ لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً، ثم أنفقه في سبيل الله؛ ما قبله الله منه، حتى يؤمن بالقدر".

هذا الباب عقده الشيخ رحمه الله ليبيِّن أنّ الإيمان بالقدَر من الإيمان بربوية الله، وأنّ مَن أنكر القدر فقد أشرك في توحيد الربوبيّة، فالإيمان بالقدر من الإيمان بالربوبيّة، فالذي لا يؤمن به فإنه لا يؤمن بربوبيّة الله سبحانه وتعالى، لأنّه جَحد قدره وعلمَه وأنكر أن يكون ما يجري في هذا الكون بتقدير الله ومشيئَتِه، ووصف الله تعالى بالجهل وبالعجز، إلى غير ذلك.
والقدَر: مصدرُ (قدَرْتُ الشيء أقدره): إذا أحطت بمقداره.


فالقدَر هو: إحاطة الله سبحانه وتعالى بالأشياء وعلمُه بها قبل كونِها، ثم كتابتهُ لها في اللّوح المحفوظ، فكلّ ما يقع في هذا الكون فهو داخلٌ في علم الله سبحانه وتعالى الأزلي وفيما كتبه في اللّوح المحفوظ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}، فكلُّ شيءٍ بقضاء الله وقدره ومشيئته وإرادته، لا يخرُج عن ذلك شيءٍ من الأشياء، وهو- أيضاً- مكتوبٌ في اللّوح المحفوظ.


وفي السنّة النبويّة أحاديث في الصّحاح وغيرها، ساق المصنِّف منها طَرَفاً في هذا الباب.
وأجمع على ذلك المسلمون، إلاّ من ضلّ وانحرف عن منهج السّلف مع الفرق الضالّة، وهؤلاء محجوجون بالكتاب والسنّة وإجماع الأُمّة.
قال: "وقال ابن عمر" ابن الخطاب رضي الله عنهما
"والذي نفسُ ابن عمر بيده" أقسم عبد الله بن عمر بالله سبحانه وتعالى لتأكيد الأمر وأهميته.


"لو كان لأحدهم مثلُ أحدٍ ذهباً ثم أنفقَه في سبيل الله ما قبِلَهُ الله منه حتى يؤمن بالقدر" سببُ مقالة ابن عمر هذه: أنّه لَمّا وُجد في آخر حياته رضي الله عنه مَنْ يُنكر القدَر، وسُئل عن ذلك، أجاب بهذا الجواب.
ج / 2 ص -249- ثم استدل لقول النّبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ". رواه مسلم.


وذلك أنّه ظهر بالبصرة في آخر عصر الصّحابة بعد عهد الخلفاء الراشدين وبعد خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وفي آخر حياة ابن عمر وابن عبّاس وغيرِهما من الصّحابة ظهر بالبصرة رجلٌ يُقال له: مَعْبَد الجُهَني، يُنكر القدر، وكان يَحْيَى بن عمر وحُمَيْد بن عبد الرحمن الحِمْيَري: لَمّا ظهرت هذه المقالة بالبصرة قدمِا إلى الحجاز حاجّين أو معتمِرين، وقالا: "سنسأَل أوّل مَن نلقى من الصّحابة"، وهكذا المسلمون قديماً وحديثاً إذا أشكل عليهم شيء يرجعون إلى علمائهم ويسألونهم، ولا يستقلّون بالأمر، أو يكون لكلّ واحد منهم رأي، أو ينقسمون إلى جماعات وأحزاب، كلٌّ له قول، هؤلاء جاءوا من البصرة إلى مكّة المكرّمة بقصد مسألة واحدة مع ما في ذلك من مشقّة السفر وطول المسافة، لأنّ الأمر عظيم، يجب الرّجوع إلى أهل العلم فيه، فكان أوّل من لقيا: عبد الله بن عمر- رضي الله تعالى عنهما-، وقد وفّقهما الله لهذا الصحابي، العالِم الجليل، لقياه وهو يدخُلِ إلى المسجد الحرام، فأمسكا بكتفَيْه، فقالا: يا أبا عبد الرحمن، حَدَث عندنا في البصرة رجلٌ يقول كذا وكذا.


فكان جواب عبد الله بن عمر: أنّه أقسم بالله: "لو كان لأحدهم" أي: هؤلاء الذين يُنكرون القدر.
"مثل أحد ذهباً" هذا أبلغ تقدير وأكثر تقدير.
"ثم أنفقه في سبيل الله" النفقة في الجهاد في سبيل الله من أعظم النفقات أجراً، فهو مبلغٌ كبيرٌ صُرِف في مصرفٍ عظيم، يُرجى لصاحبِه الأجر العظيم، ولكن هؤلاء إذا أنفقوا هذا المبلغ في هذا المصرِف العظيم وهم يُنكرون القدر فإنّ الله لا يتقبّلُه منهم، لأنّهم لم يؤمنوا بالله عزّ وجلّ، والله لا يقبل إلاّ من المؤمنين: "ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر" فدلّ هذا على كفرهم، لأنهم لم يؤمنوا بالقضاء والقدر.


وقوله: "ثم استدل " إلخ.. أي: لم يقل هذا القول من عنده بل لَمّا قال هذه المقالة العظيمة، ذكر دليلَها من سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلُّ مَن قال قولاً في الإسلام فلابدّ أن يذكُر دليلَه من كتاب الله أو من سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن له دليل فإنْه مردودٌ عليه.
ج / 2 ص -250- ولذلك ابن عمر لَمّا ذكر هذه المقالة وهذا الجواب ذكر دليلَه من سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "حدّثني أبي" عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، "قال: بينما نحن جلوسٌ عند النّبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجلٌ شديدُ سواد الشعر، شديدُ بياض الثّياب، لا يُرى عليه أثرُ السفر، ولا يعرفُه منّا أحد، فجلس إلى النّبي صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه" يعني: أسند ركبتيه إلى ركبتي النّبي صلى الله عليه وسلم مقابِلاً له جلوسَ المتعلِّم من المعلِّم، "ووضع يديه على فخذيه" تأدُّباً مع رسول الله، "وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟، قال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسولُ الله، وتقيمَ الصلاة، وتؤتي الزّكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت إن استطعتَ إليه سبيلاً، فقال: صدقت، قال: فعجبنا له يسألُه ويصدِّقُه"، لأن من العادة أنّ السائل لا يكون عنده علم، فكونُه قال: "صدقتَ"، هذا دليلٌ على أنّه كان عالماً بالجواب.


ثم قال: "أخبرني عن الإيمان؟، قال: الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتُبه، ورُسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدَر خيرِه وشرِّه، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسألُه ويصدِّقُه.
ثم قال: أخبرني عن الإحسان؟، قال: الإحسان: أن تعبُد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك، قال: صدقت، فأخبرني عن السّاعة؟" يعني: متى قيام السّاعة؟، قال الرّسول صلى الله عليه وسلم: "ما المسؤولُ عنها بأعلم من السّائل" أي: أنا لا أدري وأنت لا تدري متى تقومُ السّاعة، لأنّ هذا من علم الله سبحانه وتعالى الذي اختصّ به، لا يعلمُه أحد، لا ملَك مقرّب ولا نبيٌّ مرسل، لا أفضل الملائكة وهو جبريل، ولا أفضل البشر وهو محمد صلى الله عليه وسلم.


"قال: فأخبرني عن أماراتها؟" أي: "علامات السّاعة التي إذا حصلت فإنّ قيام السّاعة قريب، "قال: أن تَلِد الأَمَة ربَّتَها، وأن ترى الحُفاة العُراة العالة رعاة الشاة يتطاولون في البُنيان. قال: ثم خرج الرّجل، ولبثنا مليَّاً، ثم قال الرسول: "اطلبوا السّائل"، فخرجوا يطلُبونه فلم يجدوه. قال: "هذا جبريل أتاكُم يعلِّمكم دينكم" تمثّل صورة بشرٍ، وجاء من أجل أن يعلِّم الصّحابة دينهم عن طريق السّؤال والجواب يبنه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسمعون.
ج / 2 ص -251- والشّاهد من هذا الحديث: قولُه: "أخبرني عن الإيمان" وذكر في آخره: "وأن تؤمن بالقدَر خيرِه وشرَّه"، ذكر ستّة أركان للإيمان، وخمسة أركان للإسلام، وركناً واحداً للإحسان.


فأركان الإيمان: الإيمان بالله، وهو: التصديق الجازم بوحدانيّة الله سبحانه وتعالى، واستحقاقِه للعبادة وحدَه لا شريك له، وذلك يشمل أنواع التّوحيد الثلاثة: الإيمان بتوحيد الرّبوبيّة، والإيمان بتوحيد الأُلوهية، والإيمان بتوحيد الأسماء والصّفات.
فمن جحد نوعاً من هذه الأنواع لم يكن مؤمناً بالله عزّ وجلّ.
ويدخُل في ذلك: الإيمان بالقدَر، لأنّه من توحيد الرّبوبيّة، ومن أفعال الله سبحانه وتعالى، فهو داخلٌ في توحيد الرّبوبيّة، لكنه أفرده بالذكر تأكيداً له.
"وملائكته": تؤمن أنّ لله ملائكة، خلقهم سبحانه وتعالى من نور، خلقهم لعبادته: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ(20)}، ينفّذون أوامره سبحانه وتعالى في مُلكه، كلّ نوعٍ من الملائكة له عملٌ خاص في هذا الكون يأمر الله تعالى به، فمنهم من هو موكّل بالوحي، وهو جبريل عليه الصّلاة والسلام، ومنهم من هو موكّل بالقطر والنّبات، وهو ميكائيل، ومنهم من هو موكّل بالنفخ في الصّور، وهو إسرافيل، ومنهم من هو موكّل بالأجنّة في البُطون- بطون الأُمّهات-، وهو الملك الذي يأتي إلى الجنين في بطن أُمِّه حينما يكمل الشهر الرّابع فينفخ فيه الرّوح، ثم يُؤمر بأربع كلمات: بكتْب رزْقِه، وأجلِه، وعملِه، وشقيٌّ أو سعيد.


ومنهم من هو موكّل بحفظ أعمال بني آدم خيرِها وشرِّها، وكتابتها: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ(10) كِرَاماً كَاتِبِينَ(11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ(12)}.
ومنهم من هو موكّل بحفظ بني آدم من المؤذيات: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}.
إلى غير ذلك من الأعمال التي لا يعلمُها إلاّ الله سبحانه وتعالى.
فالإيمان بالملائكة من الإيمان بالغيب، لأننا لا نراهم ولكن الله أخبرَنا عنهم وأخبرنا عنهم رسولُه صلى الله عليه وسلم، فنحنُ نؤمن بهم.
ومن لم يؤمن بالملائكة أو لم يؤمن ببعضهم؛ فإنّه كافرٌ بالله عزّ وجلّ.


ج / 2 ص -252- "وكتبه" وهي: الكتب التي أوحاها الله تعالى إلى رُسله، مثل: التوراة والإنجيل والقُرآن والزَّبور، وصحف إبراهيم، إلى غير ذلك من الكتب التي ينزّلها الله على رسله بواسطة جبريل- عليه الصلاة والسلام-، فيها أوامرُ الله سبحانه وتعالى ونواهيه، وفيها إصلاح البشريّة.
فمن لم يؤمن بالكتب من أوّلها إلى آخرها فإنّه كافر: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(136)}، فلابدّ من الإيمان بجميع الكُتب.



فمن لم يؤمن بالكتب أصلاً وهم الدهريّون والوثنيّون فهم أكفرُ الخلْق.
ومن آمن ببعض الكتب وكفر ببعضها كاليهود والنصارى فهم كفّار أيضاً.
إنّما الإيمان هو: الإيمان بجميع الكتب من أوّلها إلى آخرِها: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
فالذي يكفُر بكتابٍ واحد من كتب الله يكون كافراً بالجميع.
"ورسله" كذلك يجب الإيمان بجميع الرّسل من أوّلهم إلى آخرهم، من سمّى الله منهم ومن لم يسمِّ، نؤمن بجميع الرّسل- عليهم الصّلاة والسلام-.



فمن آمن ببعضهم وكفرَ ببعضهم فهو كافرٌ بالجميع، كحالة اليهود والنصارى الذين يكفُرون بمحمّد صلى الله عليه وسلم، واليهود يكفُرون بعيسى وبمحمَد- عليهما الصّلاة والسّلام-.
وكذلك من لم يؤمن بالرّسل أصلاً كالوثنيين والدهريّين والملاحدة: أغرقُ في الكفر وأبعد في الكفر -والعياذ بالله-.
"واليوم الآخر" يوم القيامة، يجب الإيمان باليوم الآخِر، وهو: ما بعد الموت ممّا أخبر الله تعالى به وأخبر به رسولُه صلى الله عليه وسلم من أحوال البَرْزَخ، ثم البعث والنُّشور، والقيام من القُبور، ثم الوُقوف في المحشَر، ثم الحساب، ثم الميزان، ثم تطايُر الصحُف فالمؤمن يأخُذ كتابه بيمينِه وغير المؤمن يأخذ كتابه بشمالِه، ثم المُرور على
ج / 2 ص -253- الصّراط، ثم الاستقرار في الجنّة أو في النّار، هذا كلُّه يشمله الإيمان باليوم الآخِر.


فمن لم يؤمن باليوم الآخر فإنّه ولو امن بالله وملائكته وكتبه ورسله إذا جحد البعث واليوم الآخر كان كافراً بالجميع.
"وتؤمن بالقدر" هذا هو محلّ الشّاهد، وهو أن تؤمن بقضاء الله وقدره، وأنّه لا يجري في هذه الكون شيءٌ إلاّ وقد علمه الله في الأزَل وكتبه في اللّوح المحفوظ وشاءه وأراده سبحانه وتعالى ثم خلقَه وأوجَدَه.


فالإيمان بالقضاء والقدر يتضمن أربع مراتب:
المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله الأزَلي بكل شيء، وأنّه يعلم سبحانه وتعالى ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، كلُّ ذلك يعلمُه الله سبحانه، لا يخفى عليه شيء: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، {أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}، والله جل وعلا لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ(5)}، {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(3)} فالإيمان بأنّ الله عالمُ بكلّ شيء لابدّ منه. ومن جحد علمَ الله فهو كافر.

المرتبة الثانية:
أن الله كتب في اللّوح المحفوظ كلّ شيء. فالذي يُنكر الكتابة في اللّوح المحفوظ لم يكن مؤمناً بالله سبحانه وتعالى ولم يكن مؤمناً بالقدَر.

المرتبة الثالثة:
إرادة الله ومشيئتُه للأشياء، فكل شيء يقع ويوجد فهو بإرادة الله.
المرتبة الرّابعة: خلْق الأشياء، فكلّ شيء في هذا الكون فهو من خلْق الله سبحانه {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ(96)}، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62)}، فكلّ شيء في هذا الكون فهو من خلْقه سبحانه وتعالى، من خيرٍ أو شر، من كفرٍ وإيمان، طاعة ومعصية، غنىً أو فقر، مرض أو صحّةً، حياة أو موت، إلى غير ذلك.


لكنِ الشر بالنسبة إليه لا يكون شرَّاً، لأنّه خلقه لحكمة ووضعه في موضعه، فهو بالنسبة إليه ليس شرَّاً، وإنّما هو شرِّ بالنسبة لمن وقع عليه ومن قُدِّر عليه بذُنوبه ومعاصيه، فإنّه شرٌّ بالنسبة للمحلّ الذي يقع عليه، أما بالنسبة لله فهو خير، لأنّه عدلٌ منه سبحانه.


ج / 2 ص -254- فالحاصل؛ أنّ كل ما يقع في هذا الكون فهو عدلٌ ورحمةٌ وخيرٌ من الله سبحانه وتعالى وإنْ كان ضرراً وعقوبةً وشرَّاً بالنسبة لمن وقع عليه ذلك.
هذه مراتب الإيمان بالقدر، وأهل السنّة والجماعة يؤمنون بها كلّها.


أمّا القدرية النُّفاة فهم على قسمين
- والعياذ بالله-:
القسم الأول:- وهم القدماء منهم- ويسمّون (غُلاة القدريّة): فإنّهم يُنكروا علمَ الله، ويقولون: (إنّ الله لا يعلم الأشياء قبلَ وقوعِها، إنّما يعلمها إذا وقعت وحصلت"، ويُنكرون عِلمَ الله القديم الأزَلي بالأشياء قبلَ كونِها.
فيكونون بذلك: قد كفروا وخرجوا من الملّة، لأنهم أنكروا علم الله سبحانه وتعالى، ومن أنكر علم الله فهو كافر.

القسم الثاني:
من يقرّ بعلم الله الأزليّ، لكن يقول: إنّ الله لم يقدِّر هذه الأشياء وإنّما النّاس هم الذين يفعلونها ويستقلّون بإيجادها وخلقها، كلٌّ يخلق فعل نفسه وهؤلاء أخفّ من الأوّلين، لكنّهم ضلاّل، لأنّهم أنكروا خلق الله، وهم متأخِّروا القدرية.
ولذلك سمّوا (مجوس هذه الأمة)، لأنّ المجوس يقولون: "إنّ الكون له خالقَان: خالق الخير والشر".
والمعتزلة الذين يقولون: "إنّ الله لم يخلق أفعال العباد، وإنّما هم الذين خلقوها"، أثبتوا خالقِيْن كثيرين، وصاروا شرًّا من المجوس، لأنّ المجوس إنّما أثبتوا خالقَيْن وهؤلاء أثبتوا خالقِيْن كثيرين.


ولا يجوز للمسلم أن يدخل في تفاصيل القدر ويفتح على نفسه باب الشُّكوك والأوهام، بل يكفيه أن يؤمن بالقدَر كما أخبر الله سبحانه وتعالى وكما أخبر رسولُه صلى الله عليه وسلم أنّ كلَّ شيء بقضاء الله وقدره، ولا يدخل في التفاصيل والأسئلة: لماذا كذا ولماذا كذا، لأنّه لن يصل إلى نتيجة، لأنّ الأمر كما يقول عبد الله بن عبّاس- رضي الله تعالى عنهما-: "القدر سِرُّ الله " سِرٌّ لا يعلمه إلاّ الله سبحانه وتعالى.


فالواجب علينا: أن نؤمن به، ولا ندخل في تفاصيله، بل نكتفي بالإيمان به على ما جاء في الدليل من كتاب الله وسنّة رسوله.
ج / 2 ص -255- وعن عبادة بن الصامت؛ أنه قال لابنه: يا بني، إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.


وعلينا العمل بطاعة الله وامتثال أمره واجتناب نهيه. هذا الذي كلّفنا به، ولم نكلّف بالبحث عن القدر، ولا نترك العمل ونقول: ما قُدّر لنا فسيحصل.
لذلك لَمّا أخبر النّبي صلى الله عليه وسلم أنّ كلّ أحد مقرّرٌ مكانه من الجنّة أو من النّار قالوا: يا رسول الله إلاَ نتكل على كتابنا؟، قال صلى الله عليه وسلم: "اعملوا فكلّ ميسّر لِمَا خُلِق له"، وأنزل الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى(10)}.


فأنت المطلوب منك: العمل والإيمان بالقضاء والقدر، وأنت قادرٌ على العمل، وممكّنٌ من العمل، فعليك أن تعمَل الخير وتترك الشّر، وتتوب من السيّئات وتكثر من الحسنات، هذا المطلوب منك، أمّا البحث في هذه الأمور التي لا يعلمها إلاّ الله سبحانه وتعالى والدّخول في هذه المخاصمات فهذا يؤدِّي إلى الضّلال ويؤدِّي إلى التِّيه، لأنّ الله سبحانه وتعالى لم يطلُب منّا هذه الأشياء، وإنّما أمرنا بالعمل، هذا الذي أمرنا الله به، أمرنا بالإيمان وأمرنا بالعمل، هذا المطلوب من المسلم.


قوله: "وعن عُبادة بن الصّامت" الصحابي الجليل، من السّابقين الأوّلين إلى الإسلام، وأحد النقباء المعروفين.
"أنه قال لإبنه" وهو الوليد بن عُبادة بن الصامت قال له ذلك عند وفاته لما قال له ابنه الوليد: يا أبت أوصني، فقال: أقعدوني، فأقعدوه، فقال هذا الحديث في القدر.


"يا بني" (يا): هذه حرف نداء، و (بُني) تصغير (ابن)، وذلك من أجل العطف والشَّفقة، مثل قول لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، فالأب يوصي أولاده بتقوى الله عزّ وجلّ، وبالتمسّك بالدين والعقيدة، هذا من واجب الآباء نحو أبنائهم، أن يوصوهم بتقوى الله وبإصلاح العقيدة وبالتمسُّك بالدين والأخلاق الفاضلة.
ج / 2 ص -256- سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. فقال: رب، وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة".


"إنّك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك" طعم الإيمان: حلاوته ولذته، وذلك لأنّ الإنسان إذا آمن أنّ ما يجري عليه فهو بقضاء الله وقدره؛ فإنّه يستريح، لا يجزع عند المصيبة، ولا يفرح فَرَح بَطَرٍ عند النعمة، لأنّه يؤمن أنّ هذا بقضاء الله وقدره، فيرتاح ضميرُه وتطمئنّ نفسُه ولا يجزع ولا يسخط، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(11)}، قال علقَمة: "هو الرجل تُصيبه المصيبة فيعلم أنّها من عند الله فيرضى ويسلِّم".
فمن آمن بالقضاء والقدر فإنّه يجد طعم الإيمان وراحة الإيمان عند الشدائد والمصائب والمنغِّصات، فلا يكون فيه جزع ولا تسخُّط ولا تضايُق، وإنّما يؤمن أنّ هذا قضاء وقدر وأنّه لابدّ منه.


أمّا الذي لا يؤمن بالقضاء والقدر فإنّه يُصبح في قلق وفي همْ. فإذا أصابه شيء فإنّه يجزع ويسخط ويلوم نفسَه: لماذا لم أعمل كذا؟، ليتني عملت كذا، ليتني فعلتُ كذا، ثم يُصبح في عذاب أشدّ من ألم المصيبة.
ثم قال: "سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ أوَّلَ ما خلَق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: ربِّ، وماذا أكتبُ؟" القلم هو: خلق من خلق الله سبحانه وتعالى، لا يعلم مقداره وصفته وكيفيّته إلاّ الله سبحانه وتعالى، لأنّه من عالم الغيب.
والمكتوب فيه هو: اللوح المحفوظ، ففيه: قلم، وفيه كتابة، وفيه مكتوب فيه وهو اللّوح المحفوظ.


"فقال له: اكتب مقادير كلّ شيء حتى تقوم السّاعة" فهذا فيه: أنّ كلّ ما يجري في هذا الكون فهو مكتوبٌ بالقلم- بقلم المقادير- في اللّوح المحفوظ، من أوّل الخلق إلى آخر الخلق، حتّى تقوم السّاعة، لا يخرُج عن هذا شيءٌ في هذا الكون أبداً، لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل، لا من الخير ولا من الشّر، لا من المحبوب ولا من المكروه، كلّه مكتوبٌ ولابدّ أن يقع.
ج / 2 ص -257- يا بني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غير هذا فليس مِنِّي ".


وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنّ أوّل ما خلق الله القلم" يدلّ بظاهره على أنّ القلم أوّل المخلوقات، ولكن هناك أحاديث تدلّ على أنّ العرش هو أوّل المخلوقات مثل حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألفَ سنة وكان عرشُه على الماء"، وكذلك في حديث عِمران بن حُصين في "الصحيحين" وغيرهما ما يدلّ على أنّ أوّل المخلوقات هو العرش، وهذا الحديث دلَّ على أن أوّل المخلوقات هو القلم، فكيف الجمع بين الأحاديث؟.


اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأوّل:
أنّ أوّل المخلوقات هو العرش، وأنّ القلم خُلق بعده، فيكون قوله صلى الله عليه وسلم: "إنّ أوّل ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب"" أن الكتابة متعقِّبة لخلق القلم، فهي جارية من أوّل ما خلق الله القلم.

والقول الثّاني:
العمل بظاهر هذا الحديث، وأنّ القلم هو أوّل المخلوقات مطلقاً، قبل العرش، لأنّ هذا هو ظاهر هذا الحديث، وهذا قولٌ لجمعٍ من أهل العلم.
ولكن الراجح الذي رجّحه شيخُ الإسلام ابن تيمية وابن القيِّم وغيرُها هو: أنّ العرش هو أوّل المخلوقات، وأنّ القلم بعده1.


ثم قال عُبادة رضي الله عنه: "يا بُني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غيرِ هذا فليس مِنِّي"" من مات على غير الإيمان بالقضاء والقدر ولم يتب إلى الله سبحانه وتعالى قبل موته فإنّ محمداً صلى الله عليه وسلم بريءٌ منه. فهذا وعيدٌ شديد حيث تبرّأ منه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.


1 قال ابن القيم:
والنّاس مختلفون في القلم الذي كتب القضاء به من الديان
هل كان قبل العرش أو هو بعده قولان عند أبي العلا الهمذاني
والحق أن العرش كان قبل لأنه وقت الكتابة كان ذا أركان

ج / 2 ص -258- وفي رواية لأحمد: "إن أوّل ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة".
وفي رواية لابن وهب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره؛ أحرقه الله بالنار".
وفي "المسند" و"السنن " عن ابن الديلمي؛ قال: "أتيت أبيّ بن كعب فقلت: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي.


قال: "وفي رواية لأحمد: "إنّ أوّل ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب. فجرى في تلك الساعة بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة"" رواية أحمد مثل رواية أبي داود والترمذي، وفيها: أنّ الله جل وعلا أمر القلم عندما خلقه أن يكتب مقادير الأشياء، إلاّ أنّ لفظة رواية أحمد: "إلى يوم القيامة"، والرواية التي قبلها: "إلى أن تقوم الساعة" والمعنى واحد، الساعة ويوم القيامة بمعنىً واحد، ولكن هذا من باب التأييد للروايات بعضها ببعض.


"ولابن وهب" عبد الله بن وهب: الإمام المحدِّث، من أصحاب الإمام مالك، توفّي على رأس المائة الثّانية، وله مؤلّفات مشهورةٌ في الحديث والرّواية.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنّار" هذا نوعٌ آخر من الوعيد، وهو أنّ من أنكر القضاء والقدر فإنّ الله يُحرقه بالنّار، فدلّ على أنّ الإيمان بالقضاء والقدر أمرٌ واجب، وأنّ إنكاره موجبٌ لدخول النّار إمّا لكفره وإمّا لبدعته، فالمنكر للقضاء والقدر إنْ كان مع هذا يجحد علم الله جل وعلا فهذا كفر كما عليه غُلاة القدرية، لأنّهم ينكرون علم الله جل وعلا، ويقولون: "إنّ الله لا يعلم الأشياء إلاّ إذا وقعت، والأمرُ أُنُف" يعني: مستأنَف لم يسبق له تقديرٌ ولا علم، هذا كفرٌ صريح.
أمّا إن كانوا يقرّون بالعلم ويُنكرون القدر فهذا بدعة شنيعة والعياذ بالله، قد تقرُب من الكفر، وهو ما عليه متأخِّروهم.


قال: "وفي المسند والسنن" المسند هو: "مسند الإمام أحمد"، والمراد بالسنن هنا: "سنن أبي داود" و"سنن ابن ماجه".
ج / 2 ص -259- فقال: لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو متّ على غير هذا لكنت من أهل النار.


"عن ابن الدَّيْلَمي" ابن الدَّيْلَمي هو: عبد الله بن فَيْرُوز الدَّيْلَمي، أحد كبار التّابعين، وأبوه فيروز الذي قتل الأسود العَنْسي الذي ادّعى النبوّة في اليمن، والديلمي نسبة إلى جبل الدَّيْلَم في بلاد فارس، فأصلُه فارسيّ، ممّن جاءوا إلى اليمن من الفُرس، وأسلم وحسُن إسلامُه، وابنُه من كبار التّابعين والأئمّة المشهورين رحمه الله.
قال: " أتيتُ أُبيَّ بن كعب" الأنصاري، الصحابيّ الجليل، أقرأ الصّحابة لكتاب الله عزّ وجلّ.


"فقلتُ: في نفسي شيءٌ من القدَر" هكذا طلبةُ العلم الذين يبحثون عن الحقيقة، ويبحثون عن العلم النّافع إذا أشكل عليهم شيء، لا يَعْتَمدون على رأيِهم، وإنّما يرجعون إلى أهل العلم، فهذا ابن الدّيلمي رجع إلى الصّحابة لَمّا أشكل عليه أمرُ القدر.
"فحدِّثني بشيء" يعني: أخبرني بشيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنّ أُبيّ بن كعب من خواصّ صحابة الرّسول صلى الله عليه وسلم.
"لعلّ الله أن يُذهبُه من قلبي" هذا دليلٌ على أنّ الإشكال يزول بالعلم، وعلى أن الوساوس تزول بالعلم النّافع، لا شفاء لها إلاّ العلم، والعلم إنّما يطلب عند أهله، لا يطلب من المتعالمين والمبتدئين والصحافيّين الذين يعتمدون على قراءة الكتب، هؤلاء قُرّاء، وليسوا علماء، وما يُخطئون فيه أكثر ممّا يصيبون، فلابدّ من الرّجوع إلى أهل العلم الرّاسخون في العلم.


"فقال: لو أنفقتَ مثل أُحدٍ ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدَر" لأنّ العمل وإن كان جليلاً فإنّه لا يُقبل إلاّ إذا صحّت العقيدة، ومن صحّة العقيدة: الإيمان بالقضاء والقدر، لأنّه من أركان العقيدة، كما مرّ في حديث عمر بن الخطّاب في سؤالات جبريل للنّبي صلى الله عليه وسلم.
"وتعلم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك" الله
ج / 2 ص -260- قال: فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت؛ فكُلُّهم حدثني بمثل ذلك عن النّبي صلى الله عليه وسلم "حديث صحيح، رواه الحاكم في "صحيحه".


أكبر!، تطابقت كلمة أبيّ بن كعب مع كلمة ابن عمر ومع كلمة عُبادة بن الصّامت - رضي الله عن الجميع-، لأنّهم يأخذون من مصدر واحد وهو سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقولون شيئاً من عند أنفسهم.
"ولو مِتّ على غير هذا لكنتَ من أهل النار" هذا- أيضاً- مطابِق لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي مرّ قريباً: "من لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنّار".


قال: "فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت " هؤلاء أقطاب من أقطاب العلم، من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويُروى: أنّ أُبيّ بن كعب أحاله إلى عبد الله بن مسعود، ولَمّا أجابه عبد الله بن مسعود أحاله على حُذيفة بن اليمان، ولَمّا أجابه حُذيفة بن اليمان أحاله على زيد بن ثابت، فكلّ واحد منهم يُحيلُه على أخيه لأجل أن يزول ما في قلبِه.
يقول ابن الديلمي: "فكلهم حدّثني بمثل ذلك عن النّبي صلى الله عليه وسلم" أنّ الإيمان بالقضاء والقدر أمرٌ لابدّ منه، ولا يقبل الله من أحدٍ عملاً إلاّ به، ومن لم يؤمن به فهو من أهل النّار، نسأل الله العافية والسّلامة.


فيُستفاد من هذه الأحاديث
التي أوردها المصنِّف رحمه الله في هذا الباب فوائد عظيمة:
الفائدة الأولى: وُجوب الإيمان بالقضاء والقدر، وأنّ ذلك من أركان الإيمان الستّة.

الفائدة الثانية:
أنّ الله سبحانه وتعالى كتب مقادير الأشياء في اللوح المحفوظ بعد علمه بها سبحانه وتعالى أزَلاً، ففيه: ثُبوت كتابة القدر في اللّوح المحفوظ.

الفائدة الثالثة:
أنّ القلم من أوّل المخلوقات، وهل هو قبل العرش أو بعده؟، على القولين السّابقين، والرّاجح: أن العرش هو السّابق.

الفائدة الرابعة:
أنّ من لم يؤمن بالقضاء والقدر فهو إمّا كافر وإمّا مبتدع، إمّا كافر إنْ كان ينكر العلم، أو مبتدع إنْ كان لا يُنكر العلم، وذلك لأُمور:

ج / 2 ص -261- أوّلاً: أنّ الله لا يقبَلُ منه النفقة في سبيله ولو كثرت.
ثانياً: براءة الرّسول صلى الله عليه وسلم منه.
ثالثاً: أنّ الله توعّده بالنّار: "أحرقه الله بالنّار"، "لو مِتّ على غير هذا لكنت من أهل النّار".
فهذه الأمور الثلاثة كلّها تدلّ على شناعة إنكار القضاء والقدر.


الفائدة الخامسة:
في الحديث دليلٌ على وُجوب الرُّجوع إلى أهل العلم عندما يعرِض للإنسان مشكِلة، فإنّها لا تزول إلاّ بالرجوع إلى أهل العلم، وذلك لقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.

الفائدة السادسة:
في هذه الأحاديث دليلٌ على أنّ أهل العلم لا يقولون إلاّ بما دلّ عليه الدّليل من كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فابن عمر استدلّ بالحديث الذي رواه أبوه في دخول جبريل على النّبي صلى الله عليه وسلم وسؤاله إيّاه، وفي آخره: "وتؤمن بالقدر خيرِه وشرِّه"، وحذيفة بن اليَمان يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غير هذا فليس مِنِّي".


كذلك الصّحابة الذين ذهب إليهم ابنُ الدّيلمي، وهم: أُبيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليَمان، وزيد بن ثابت، كلُّهم يحدِّثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدلّ على أنّ أهلَ العِلم إذا أفتوا بفتوى أو قالوا مقالاً أو أجابوا بإجابة علميّة أنّهم يُسندونها إلى الدّليل من كتاب الله ومن سنّة رسولِه صلى الله عليه وسلم، لاسيّما إذا كانت من أُمور العقائد، فإنّ العقائد توقيفيّة لا يصلُح فيها شيءٌ من الاجتهاد، وإنّما هي أمورٌ توقيفيّة.



المصدر :

كتاب :
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد

رابط تحميل الكتاب

http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf



رد مع اقتباس