مجلة معرفة السنن والآثار العلمية

مجلة معرفة السنن والآثار العلمية (http://www.al-sunan.org/vb/index.php)
-   منبر التوحيد وبيان ما يضاده من الشرك (http://www.al-sunan.org/vb/forumdisplay.php?f=2)
-   -   القول المفيد على كتاب التوحيد شرح فضيلة الشيخ / محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- (http://www.al-sunan.org/vb/showthread.php?t=10544)

ام عادل السلفية 26-01-2015 05:45AM

القول المفيد على كتاب التوحيد شرح فضيلة الشيخ / محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-
 
بسم الله الرحمن الرحيم




القَوْلُ المُفِيدُ عَلَى كِتَابِ التَّوْحِيدِ

شرح فضيلة الشيخ / مُحَمَّدٌ بن صَالِحٍ العُثَيْمِين
-رحمه الله-




نبذة مختصرة :

القول المفيد على كتاب التوحيد :
هذا شرح مبارك على كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -, قام بشرحه الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -, وأصل هذا الشرح دروس أملاها الشيخ في الجامع الكبير بمدينة عنيزة بالسعودية, فقام طلبة الشيخ ومحبيه بتفريغ هذه الأشرطة وكتابتها؛ فلما رأى الشيخ حرص الطلبة عليها قام بأخذ هذا المكتوب وتهذيبه والزيادة عليه ثم خرج بهذا الشكل .



وعلى كثرة ما للكتاب من شروح إلا أن هذا الشرح يتميز بعدة ميزات تجعل له المكانة العالية بين شروح الكتاب؛ فالشرح يجمع بين البسط وسهولة الأسلوب وسلاسته, كما أنه أولى مسائل كتاب التوحيد عناية بالشرح والربط والتدليل, وهذا الأمر مما أغفله كثير من شراح الكتاب, كما أن هذا الشرح تميز بكون مؤلفه اعتنى فيه بالتقسيم والتفريع لمسائل الكتاب مما له أكبر الأثر في ضبط مسائله, كما أن مؤلفه لم يهمل المسائل العصرية والكلام عليها وربطه لقضايا العقيدة بواقع الناس الذي يعشيه, ويظهر كذلك اعتناء المؤلف بمسائل اللغة والنحو خاصة عند تفسيره للآيات التي يسوقها المصنف, وغير ذلك من فوائد يجدها القارئ في أثناء هذا الشرح المبارك.



المصدر :


http://www.ajurry.com/vb/showthread.php?t=29775



تحميل متن "كتاب التوحيد"

نسخة مصورة [pdf]
نسخة وورد [doc]
قراءة صوتية [mp3]


http://www.ajurry.com/vb/showthread.php?t=22868



القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979



كتاب التوحيد - بمسائله
قراءة صوتية متن كتاب التوحيد

لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
-رحمه الله-


http://subulsalam.com/site/audios/Mo...ed_massail.mp3



كتاب التوحيد - بدون مسائل
قراءة صوتية متن كتاب التوحيد

لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
- رحمه الله -


http://subulsalam.com/site/audios/Mo...wheed_lite.mp3









ام عادل السلفية 27-01-2015 08:41PM

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

لفضيلة الشيخ العلامة / محمد بن صالح العثيمين
-رحمه الله-




ج / 1 ص -7- القول المفيد على كتاب التوحيد
شرح فضيلة الشيخ، محمد بن صالح العثيمين



المجلد الأول:


المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد:

فقد سبق أن طبع لنا كتاب ((القول المفيد على كتاب التوحيد))، وكان منقولا من الأشرطة المسجلة من الدرس، وقد حصل فيه بعد خروجه تعديل بزيادة أو حذف تدعو الحاجة إليه، وها نحن نعيد طبعه لأول مرة بعد مراجعته في دار (ابن الجوزي).
فلتكن هذه هي النسخة المعتمدة؛ ولذا جرى التنبيه والله الموفق.
حرر في 29/10/1417 ?
أملاه الفقير إلى الله


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي، له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما.
أما بعد :


فقد سبق لنا- ولله الحمد والمنة- أن قمنا بشرح كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب على الطلبة، أثناء جلساتنا في الجامع الكبير بعنيزة، وقام بعض الطلبة بتسجيل ما تكلمنا به.


وقد بادر الأخوان الكريمان/ الدكتور سليمان العبد الله أبا الخيل، والدكتور: خالد العلي المشيقح بتفريغ المسجل كتابة، وقاما بطبعه، وسمياه: القول المفيد على كتاب التوحيد. فأسأل الله تعالى أن يجزل لهما المثوبة وينفع بذلك.


ومن المعلوم أن ما نقل تسجيلا من الشرح على الطلاب لا يساوي ما كتب تحريرا، بل سيكون فيه نقص أو زيادة، أو تقديم أو تأخير أو تكرار، أو نحو ذلك من الخلل.
ولما ظهرت طبعته الأولى وجد فيها شيء من ذلك، فحرر ونقح، ثم أعيد طبعه مرة ثانية، فاحتاج إلى إعادة النظر؛ لخلل يسير غالبه في الطباعة.
وها هو يعاد للمرة الثالثة، وقد رأيت أن يحذف من الكتاب جميع الحواشي، ما عدا عزو الآيات والأحاديث، أسأل الله تعالى أن يكون خالصا لوجهه، موافقا لمرضاته، نافعا لعباده، إنه جواد كريم.
وهذا أوان الشروع في المقصود مستعينين بالله تعالى.


قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:

كتاب التوحيد.


أما التوحيد فهو في اللغة: مصدر وحَّد الشيء إذا جعله واحدا.
وفي الشرع: إفراد الله- تعالى- بما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.

ج / 1 ص -12- أقسامه:

ينقسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام:
1. توحيد الربوبية

2. توحيد الألوهية.
3. توحيد الأسماء والصفات
.


وقد اجتمعت في قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: الآية 65].


* القسم الأول: توحيد الربوبية: هو إفراد الله -عز وجل- بالخلق، والملك، والتدبير. فإفراده بالخلق: أن يعتقد الإنسان أنه لا خالق إلا الله.
قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر}
[ الأعراف: من الآية54] فهذه الجملة تفيد الحصر لتقديم الخبر، إذ إن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر. وقال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْض}[فاطر: من الآية3] فهذه الآية تفيد اختصاص الخلق بالله لأن الاستفهام فيها مشرب معنى التحدي.

ج / 1 ص -13- أما ما ورد من إثبات خالق غير الله; كقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: من الآية14] وكقوله صلى الله عليه وسلم في المصورين يقال لهم: ((أحيوا ما خلقتم))1.


فهذا ليس خلقا حقيقة، وليس إيجادا بعد عدم، بل هو تحويل للشيء من حال إلى حال، وأيضا ليس شاملا، بل محصور بما يتمكن الإنسان منه، ومحصور بدائرة ضيقة; فلا ينافي قولنا: إفراد الله بالخلق.


وأما إفراد الله بالملك:

فأن نعتقد أنه لا يملك الخلق إلا خالقهم، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض} [آل عمران: من الآية198]، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْء} [المؤمنون: من الآية88].


وأما ما ورد من إثبات الملكية لغير الله; كقوله تعالى: {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:6]، وقال تعالى: { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ}
[النور: من الآية61]؛ فهو ملك محدود لا


1 من حديث ابن عمر, أخرجه: البخاري في "صحيحه" (كتاب اللباس, باب عذاب المصورين يوم القيامة, 10/283), ومسلم في "صحيحه" (كتاب اللباس والزينة, باب تحريم تصوير صورة الحيوان, 3/1670).


ج / 1 ص -14- أحدهما على الآخر ثبتت الربوبية له، وإن عجز كل منهما عن الآخر زالت الربوبية منهما جميعا; لأن العاجز لا يصلح أن يكون ربا.
القسم الثاني: توحيد الألوهية: ويقال له: توحيد العبادة باعتبارين; فباعتبار إضافته إلى الله يسمى: توحيد الألوهية، وباعتبار إضافته إلى الخلق يسمى توحيد العبادة. وهو إفراد الله- عز وجل- بالعبادة. فالمستحق للعبادة هو الله تعالى، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِل} [لقمان: من الآية30].


والعبادة تطلق على شيئين:
الأول: التعبد بمعنى التذلل لله- عز وجل- بفعل أوامره واجتناب نواهيه; محبة وتعظيما.
الثاني: المتعبد به; فمعناها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
مثال ذلك: الصلاة; ففعلها عبادة، وهو التعبد.


ج / 1 ص -15- ونفس الصلاة عبادة، وهو المتعبد به.
فإفراد الله بهذا التوحيد: أن تكون عبدا لله وحده تفرده بالتذلل; محبة وتعظيما، وتعبده بما شرع. قال تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} [الإسراء:22].


وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] فوصفه سبحانه بأنه رب العالمين كالتعليل لثبوت الألوهية له; فهو الإله لأنه رب العالمين، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: من الآية21] فالمنفرد بالخلق هو المستحق للعبادة.


إذ من السفه أن تجعل المخلوق الحادث الآيل للفناء إلها تعبده; فهو في الحقيقة لن ينفعك، لا بإيجاد ولا بإعداد ولا بإمداد، فمن السفه أن تأتي إلى قبر إنسان صار رميما تدعوه وتعبده، وهو بحاجة إلى دعائك، وأنت لست بحاجة إلى أن تدعوه; فهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فكيف يملكه لغيره؟!


وهذا القسم كفر به وجحده أكثر الخلق، ومن أجل ذلك أرسل الله الرسل، وأنزل عليهم الكتب، قال الله تعالى: {وَمَا

ج / 1 ص -16- أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].


ومع هذا، فأتباع الرسل قلة، قال عليه الصلاة والسلام: " فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد" 1.

تنبيه:
من العجب أن أكثر المصنفين في علم التوحيد من المتأخرين يركزون على توحيد الربوبية، وكأنما يخاطبون أقواما ينكرون وجود الرب -وإن كان يوجد من ينكر الرب- لكن ما أكثر المسلمين الواقعين في شرك العبادة!!
ولهذا ينبغي أن يركز على هذا النوع من التوحيد؛ حتى نخرج إليه هؤلاء المسلمين الذين يقولون بأنهم مسلمون، وهم مشركون ولا يعلمون.


القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات: وهو إفراد الله- عز وجل- بما له من الأسماء والصفات.

وهذا يتضمن شيئين:

1 من حديث ابن عباس, أخرجه: البخاري (كتاب الطب, باب من اكتوى أو كوى غيره, 10/155), ومسلم (كتاب الإيمان, باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب, 1/199).

ج / 1 ص -17- الأول: الإثبات، وذلك بأن نثبت لله- عز وجل- جميع أسمائه وصفاته التي أثبتها لنفسه في كتابه أو سنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

الثاني: نفي المماثلة، وذلك بأن لا نجعل لله مثيلا في أسمائه وصفاته، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: من الآية11].
فدلت هذه الآية على أن جميع صفاته لا يماثله فيها أحد من المخلوقين; فهي وإن اشتركت في أصل المعنى، لكن تختلف في حقيقة الحال، فمن لم يثبت ما أثبته الله لنفسه; فهو معطل، وتعطيله هذا يشبه تعطيل فرعون، ومن أثبتها مع التشبيه؛ صار مشابها للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره، ومن أثبتها بدون مماثلة صار من الموحدين.


وهذا القسم من التوحيد هو الذي ضلت فيه بعض الأمة الإسلامية، وانقسموا فيه إلى فرق كثيرة:
فمنهم من سلك مسلك التعطيل، فعطل ونفى الصفات زاعما أنه منزه لله، وقد ضل؛ لأن المنزه حقيقة هو الذي ينفى عنه صفات النقص والعيب، وينزه كلامه من أن يكون تعمية وتضليلا، فإذا قال: إن الله ليس له سمع، ولا بصر، ولا علم، ولا قدرة، لم ينزه الله، بل وصمه بأعيب العيوب، ووصم كلامه بالتعمية والتضليل; لأن الله يكرر

ج / 1 ص -18- ذلك في كلامه ويثبته، {سَمِيعٌ بَصِيرٌ} {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} {غَفُورٌ رَحِيمٌ} فإذا أثبته في كلامه وهو خال منه؛ كان في غاية التعمية والتضليل، والقدح في كلام الله- عز وجل-.


ومنهم من سلك مسلك التمثيل، زاعما بأنه محقق لما وصف الله به نفسه، وقد ضلوا؛ لأنهم لم يقدروا الله حق قدره، إذ وصموه بالعيب والنقص; لأنهم جعلوا الكامل من كل وجه كالناقص من كل وجه.


وإذا كان اقتران تفضيل الكامل على الناقص يحط من قدره; كما قيل:
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
فكيف بتمثيل الكامل بالناقص؟ ! هذا أعظم ما يكون جناية في حق الله- عز وجل-، وإن كان المعطلون أعظم جرما، لكن الكل لم يقدر الله حق قدره.
فالواجب: أن نؤمن بما وصف الله وسمى به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.


هكذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم.
فالتحريف في النصوص، والتعطيل في المعتقد، والتكييف في الصفة، والتمثيل في الصفة، إلا أنه أخص من التكييف; فكل ممثل. مكيف، ولا عكس.


ج / 1 ص -19- فيجب أن تبرأ عقيدتنا من هذه الأمور الأربعة.
ونعني بالتحريف هنا: التأويل الذي سلكه المحرفون لنصوص الصفات، لأنهم سموا أنفسهم أهل التأويل، لأجل تلطيف المسلك الذي سلكوه، لأن النفوس تنفر من كلمة تحريف، لكن هذا من باب زخرفة القول وتزيينه للناس، حتى لا ينفروا منه.


وحقيقة تأويلهم: التحريف، وهو صرف اللفظ عن ظاهره، فنقول: هذا الصرف إن دل عليه دليل صحيح، فليس تأويلا بالمعنى الذي تريدون، لكنه تفسير.
وإن لم يدل عليه دليل، فهو تحريف، وتغيير للكلم عن مواضعه، فهؤلاء الذين ضلوا بهذه الطريقة، فصاروا يثبتون الصفات لكن بتحريف، قد ضلوا، وصاروا في طريق معاكس لطريق أهل السنة والجماعة.


وعليه لا يمكن أن يوصفوا بأهل السنة والجماعة، لأن الإضافة تقتضي النسبة، فأهل السنة منتسبون للسنة; لأنهم متمسكون بها، وهؤلاء ليسوا متمسكين بالسنة فيما ذهبوا إليه من التحريف.


وأيضا الجماعة في الأصل: الاجتماع، وهم غير مجتمعين في آرائهم; ففي كتبهم التداخل، والتناقض، والاضطراب، حتى إن بعضهم يضلل بعضا، ويتناقض هو بنفسه.


ج / 1 ص -20- وقد نقل شارح "الطحاوية" عن الغزالي- وهو ممن بلغ ذروة علم الكلام- كلاما إذا قرأه الإنسان تبين له ما عليه أهل الكلام من الخطأ والزلل والخطل، وأنهم ليسوا على بينة من أمرهم1.

وقال الرازي وهو من رؤسائهم:
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبالُ
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا


ثم قال: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية; فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طـه:5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: من الآية10] يعني: فأثبت، وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: من الآية11]، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طـه: من الآية110]، يعني: فأنفي المماثلة، وأنفي الإحاطة به علما، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي2.


1"شرح الطحاوية" (1/245). وانظر أيضا: "درء تعارض العقل والنقل" (1/162), و"الإحياء" (1/94-97).
2 انظر: "درء تعارض العقل والنقل" (1/ 159, 160), و "الفتاوى" (4/71), و "شرح الطحاوية" (1/244), و "طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (2/82).


ج / 1 ص -21- فتجدهم حيارى مضطربين، ليسوا على يقين من أمرهم، وتجد من هداه الله الصراط المستقيم مطمئنا منشرح الصدر، هادئ البال، يقرأ في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات؛ فيثبت، إذ لا أحد أعلم من الله بالله، ولا أصدق خبرا من خبر الله، ولا أصح بيانا من بيان الله; كما قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ}[النساء: من الآية26]، { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: من الآية176]، { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء} [النحل: من الآية89]، { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء: من الآية122]، { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء: من الآية87].


فهذه الآيات وغيرها؛ تدل على أن الله يبين للخلق غاية البيان الطريق التي توصلهم إليه، وأعظم ما يحتاج الخلق إلى بيانه ما يتعلق بالله تعالى، وبأسماء الله وصفاته، حتى يعبدوا الله على بصيرة؛ لأن عبادة من لم نعلم صفاته، أو من ليس له صفة: أمرٌ لا يتحقق أبدا، فلا بد أن تعلم من صفات المعبود ما تجعلك تلتجئ إليه وتعبده حقا.


ولا يتجاوز الإنسان حده إلى التكييف أو التمثيل; لأنه إذا كان عاجزا عن تصور نفسه التي بين جنبيه; فمن باب أولى أن

ج / 1 ص -22- يكون عاجزا عن تصور حقائق ما وصف الله به نفسه، ولهذا يجب على الإنسان أن يمنع نفسه عن السؤال ب "لم" و "كيف" فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته. وكذا يمنع نفسه من التفكير بالكيفية.


وهذا الطريق إذا سلكه الإنسان استراح كثيرا، وهذه حال السلف رحمهم الله، ولهذا لما جاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس رحمه الله قال: يا أبا عبد الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طـه:5]، كيف استوى؟ فأطرق برأسه وقال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا".


أما في عصرنا الحاضر، فنجد من يقول: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة، فيلزم من هذا أن يكون كل الليل في السماء الدنيا; لأن الليل يمشي على جميع الأرض، فالثلث ينتقل من هذا المكان إلى المكان الآخر! وهذا لم يقله الصحابة رضوان الله عليهم، ولو كان هذا يرد على قلب المؤمن; لبينه الله إما ابتداء أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أو يقيض من يسأله عنه فيجاب، كما سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين كان الله قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ فأجابهم1.


1 من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما, وفيه: "جئنا نسألك عن هذا الأمر. قال: كان الله ولم يكن شيء غيره, وكان عرشه على الماء". رواه البخاري (كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قوله تعالى :{ وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ }، 1/418). ومن حديث أبي رزين قال : قلت يا رسول الله ! أين ربنا قبل أن يخلق خلقه ؟ قال : كان في عماء ما تحته هواء، وما فوقه هواء وخلق عرشه على الماء ". رواه الترمذي (التفسير، رقم 3108) - وقال : " حديث حسن " -، وابن ماجه في (المقدمة، رقم 13)، وأحمد في المسند " (4/11، 12).


ج / 1 ص -23- فهذا السؤال العظيم يدل على أن كل ما يحتاج إليه الناس فإن الله يبينه بأحد الطرق الثلاثة.

والجواب عن الإشكال في حديث النزول1 أن يقال: ما دام ثلث الليل الأخير في هذه الجهة باقيا، فالنزول فيها محقق، وفي غيرها لا يكون نزول قبل ثلث الليل الأخير أو النصف، والله عزوجل ليس كمثله شيء، والحديث يدل على أن وقت النزول ينتهي بطلوع الفجر.


وعلينا أن نستسلم، وأن نقول: سمعنا، وأطعنا، واتبعنا، وآمنا; فهذه وظيفتنا لا نتجاوز القرآن والحديث.


1 من حديث أبي هريرة، أخرجه : البخاري في " صحيحه " (كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة آخر الليل، رقم 1145، 3621، 7494)، ومسلم (كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر آخر الليل، 1/521).



المصدر :


كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979






ام عادل السلفية 27-01-2015 09:20PM

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

لفضيلة الشيخ العلامة / محمد بن صالح العثيمين
-رحمه الله-



كتاب التوحيد

ج / 1 ص -25- [شرح قوله تعالى{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }] وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذريات:56] الآية.


وقد ذكر المؤلف رحمه الله في هذه الترجمة عدة آيات:
الآية الأولى: قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذريات:56].
قوله: {إلا ليعبدون} استثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي: ما خلقت الجن والإنس لأي شيء إلا للعبادة.


واللام في قوله: {إلا ليعبدون} للتعليل، وهذا التعليل لبيان الحكمة من الخلق، وليس التعليل الملازم للمعلول; إذ لو كان كذلك؛ للزم أن يكون الخلق كلهم عبادا لله يتعبدون له، وليس الأمر كذلك.
فهذه العلة غائية، وليست موجبة.


فالعلة الغائية لبيان الغاية والمقصود من هذا الفعل، لكنها قد تقع، وقد لا تقع مثل: بريتُ القلم لأكتب به، فقد تكتب، وقد لا تكتب.
والعلة الموجبة معناها: أن المعلول مبني عليها، فلا بد أن تقع، وتكون سابقة للمعلول، وملازمة له. مثل: انكسر الزجاج لشدة الحر.
قوله: {خلقت} أي: أوجدت، وهذا الإيجاد مسبوق بتقدير، وأصل الخلق التقدير.


قال الشاعر:

ولأنت تفري ما خلقت وبعض الناس يخلق ثم لا يفري
ج / 1 ص -26-

قوله: {الجن} هم عالم غيبي مخفي عنا، ولهذا جاءت المادة من الجيم والنون، وهما يدلان على الخفاء والاستتار ومنه: الـجَنة، والـجِنة، والـجُنَّة.
قوله: {الإنس} سموا بذلك، لأنهم لا يعيشون بدون إيناس، فهم يأنس بعضهم ببعض، ويتحرك بعضهم إلى بعض.


قوله: {إلا ليعبدون} فسر: إلا ليوحدون، وهذا حق، وفسر: بمعنى يتذللون لي بالطاعة فعلا للمأمور، وتركا للمحظور، ومن طاعته أن يوحد سبحانه وتعالى، فهذه هي الحكمة من خلق الجن والإنس.


ولهذا أعطى الله البشر عقولا، وأرسل إليهم رسلا، وأنزل عليهم كتبا، ولو كان الغرض من خلقهم كالغرض من خلق البهائم، لضاعت الحكمة من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، لأنه في النهاية يكون كشجرة نبتت، ونمت، وتحطمت.


ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: من الآية85] فلا بد أن يردك إلى معاد تجازى على عملك إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وليست الحكمة من خلقهم نفع الله، ولهذا قال تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } [الذريات:57].


وأما قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَه} [البقرة: من الآية245] فهذا ليس إقراضا لله سبحانه، بل هو غني عنه، لكنه سبحانه شبه معاملة عبده له بالقرض; لأنه لا بد من وفائه، فكأنه التزام من الله سبحانه أن يوفي العامل أجر عمله، كما يوفي المقترض مَنْ أقرضه.



ج / 1 ص -27- [شرح قوله تعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً}]
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: من الآية36].


·الآية الثانية: قوله تعـالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: من الآية36].
قوله: {ولقد} اللام موطئة لقسم مقدر، وقد: للتحقيق. وعليه، فالجملة مؤكدة بالقسم المقدر، واللام، وقد.
قوله: {بعثنا} أي: أخرجنا، وأرسلنا في كل أمة. والأمة هنا: الطائفة من الناس.


وتطلق الأمة في القرآن على أربعة معان:
أ- الطائفة: كما في هذه الآية.
ب- الإمام، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ} [النحل: من الآية120].
ج- الملة: ومنه قوله تعالى: { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: من الآية22].
د- الزمن: ومنه قوله تعالى: { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: من الآية45].
فكل أمة بعث فيها رسول من عهد نوح إلى عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم


والحكمة من إرسال الرسل:

أ- إقامة الحجة: قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: من الآية165].
ب- الرحمة: لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء:107].


ج / 1 ص -28- ج- بيان الطريق الموصل إلى الله تعالى، لأن الإنسان لا يعرف ما يجب لله على وجه التفصيل إلا عن طريق الرسل.
قوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} "أن": قيل: تفسيرية، وهي التي سبقت بما يدل على القول دون حروفه، كقوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْك} [المؤمنون: من الآية27] والوحي فيه معنى القول دون حروفه، والبعث متضمن معنى الوحي; لأن كل رسول موحى إليه. وقيل: إنها مصدرية على تقدير الباء، أي: بأن اعبدوا، والراجح: الأول; لعدم التقدير.


قوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} أي: تذللوا له بالعبادة وسبق تعريف العبادة.
قوله: {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} أي: ابتعدوا عنه بأن تكونوا في جانب، وهو في جانب.
والطاغوت: مشتق من الطغيان، وهو صفة مشبهة، والطغيان: مجاوزة الحد; كما في قوله تعالى: { إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] أي: تجاوز حده.
وأجمع ما قيل في تعريفه هو ما ذكره ابن القيم رحمه الله بأنه: ما تجاوز به العبد حده من متبوع، أو معبود، أو مطاع.


ومراده من كان راضيا بذلك، أو يقال: هو طاغوت باعتبار عابده، وتابعه، ومطيعه، لأنه تجاوز به حده؛ حيث نزله فوق منزلته التي جعلها الله له، فتكون عبادته

ج / 1 ص -29- لهذا المعبود، واتباعه لمتبوعه، وطاعته لمطاعه طغيانا لمجاوزته الحد بذلك.
فالمتبوع مثل: الكهان، والسحرة، وعلماء السوء.
والمعبود مثل: الأصنام.


والمطاع مثل: الأمراء الخارجين عن طاعة الله، فإذا اتخذهم الإنسان أربابا يحل ما حرم الله من أجل تحليلهم له، ويحرم ما أحل الله من أجل تحريمهم له، فهؤلاء طواغيت، والفاعل تابع للطاغوت، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } [النساء: من الآية50].
ولم يقل: إنهم طواغيت.


ودلالة الآية على التوحيد: أن الأصنام من الطواغيت التي تعبد من دون الله. والتوحيد لا يتم إلا بركنين، هما:
1- الإثبات.
2- النفي.


إذ النفي المحض: تعطيل محض، والإثبات المحض: لا يمنع المشاركة، مثال ذلك: زيد قائم، يدل على ثبوت القيام لزيد، لكن لا يدل على انفراده به.
ولم يقم أحد، هذا نفي محض.
ولم يقم إلا زيد، هذا توحيد له بالقيام، لأنه اشتمل على إثبات ونفي.
وقوله: "الآية": أي: إلى آخر الآية، وتقرأ بالنصب، إما على أنها

ج / 1 ص -30- وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: من الآية23 ] الآية.

مفعول به لفعل محذوف تقديره أكمل الآية، أو أنها منصوبة بنزع الخافض، أي: إلى آخر الآية.


ووجه الاستشهاد بهذه الآية لكتاب التوحيد:

أنها دالة على إجماع الرسل عليهم الصلاة والسلام على الدعوة إلى التوحيد، وأنهم أرسلوا به; لقوله تعالى: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: من الآية36].
[شرح قوله تعالى وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ]
· الآية الثالثة: قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}الآية.


قوله: { قضى } قضاء الله- عز وجل- ينقسم إلى قسمين:
1- قضاء شرعي.
2- قضاء كوني.

فالقضاء الشرعي: يجوز وقوعه من المقضي عليه وعدمه، ولا يكون إلا فيما يحبه الله. مثال ذلك: هذه الآية: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} فتكون قضى بمعنى: شرع، أو بمعنى: وصى، وما أشبههما.


والقضاء الكوني: لا بد من وقوعه، ويكون فيما أحبه الله، وفيما لا يحبه.
مثال ذلك: قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء:4] فالقضاء هنا كوني، لأن الله لا يشرع الفساد في الأرض، ولا يحبه.



ج / 1 ص -31- وقوله: {ألا تعبدوا} "أن" هنا: مصدرية بدليل حذف النون من "تعبدوا"، والاستثناء هنا مفرغ، لأن الفعل لم يأخذ مفعوله، فمفعوله ما بعد إلا.
وقوله: {إلا إياه} ضمير نصب منفصل واجب الانفصال، لأن المتصل لا يقع بعد إلا، قال ابن مالك:

وذو اتصال منه ما لا يبتدا ولا يلي إلا اختيارا أبدا1


إشكال وجوابه:

إذا قيل: ثبت أن الله قضى كونا ما لا يحبه، فكيف يقضي الله ما لا يحبه؟

فالجواب: أن المحبوب قسمان:
1- محبوب لذاته.
2- محبوب لغيره.


فالمحبوب لغيره قد يكون مكروها لذاته، ولكن يحب لما فيه من الحكمة والمصلحة، فيكون حينئذ محبوبا من وجه، مكروها من وجه آخر. مثال ذلك: الفساد في الأرض من بني إسرائيل في حد ذاته مكروه إلى الله; لأن الله لا يحب الفساد، ولا المفسدين، ولكن للحكمة التي يتضمنها يكون بها محبوبا إلى الله- عز وجل- من وجه آخر.


ومن ذلك: القحط، والجدب، والمرض، والفقر، لأن الله رحيم لا يحب أن يؤذي عباده بشيء من ذلك، بل يريد بعباده اليسر، لكن يقدره للحكم المترتبة عليه، فيكون محبوبا إلى الله من وجه، مكروها من وجه آخر.



1"ألفية ابن مالك" (ص 12).


ج / 1 ص -32- قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].
فإن قيل: كيف يتصور أن يكون الشيء محبوبا من وجه مكروها من وجه آخر ؟


فيقال: هذا الإنسان المريض يعطى جرعة من الدواء مرة كريهة الرائحة واللون، فيشربها، وهو يكرهها لما فيها من المرارة واللون والرائحة، ويحبها لما فيها من الشفاء، وكذا الطبيب يكوي المريض بالحديدة المحماة على النار، ويتألم منها، فهذا الألم مكروه له من وجه، محبوب له من وجه آخر.
فإن قيل: لماذا لم يكن قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}[الإسراء: من الآية23 ] من باب القضاء القدري؟
أجيب: بأنه لا يمكن; إذ لو كان قضاء قدريا لعبد الناس كلهم ربهم، لكنه قضاء شرعي قد يقع وقد لا يقع.


والخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم لكن قال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}[الإسراء: من الآية23 ] ولم يقل: "أن لا تعبد"، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: من الآية1] فالخطاب الأول للرسول صلى الله عليه وسلم والثاني عام،

فما الفائدة من تغيير الأسلوب؟
أجيب: إن الفائدة من ذلك:
1. التنبيه؛ إذ تنبيه المخاطب أمر مطلوب للمتكلم، وهذا حاصل هنا بتغيير الأسلوب.
2. أن النبي صلى الله عليه وسلم زعيم أمته، والخطاب الموجه إليه موجه لجميع الأمة.

ج / 1 ص -33- 3. الإشارة إلى أن ما خوطب به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو له ولأمته; إلا ما دل الدليل على أنه مختص به.
4. وفي هذه الآية خاصة الإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم مربوب لا رب، عابد لا معبود، فهو داخل في قوله: {تعبدوا} وكفى به شرفا أن يكون عبدا لله- عز وجل-، ولهذا يصفه الله تعالى بالعبودية في أعلى مقاماته، فقال في مقام التحدي والدفاع عنـه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: من الآية23]، وقال في مقام إثبات نبوته ورسالته إلى الخلق: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: من الآية1]، وقال في مقام الإسراء والمعـراج: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: من الآية1]، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10].


أقسام العبودية:
تنقسم العبودية إلى ثلاثة أقسام:
1.عامة: وهي عبودية الربوبية، وهي لكل الخلق، قالت تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:93] ويدخل في ذلك الكفار.
2. عبودية خاصة: وهي عبودية الطاعة العامة، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان: من الآية63] وهذه تعم كل من تعبد لله بشرعه.
3. خاصة الخاصة: وهي عبودية الرسل عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى عن نوح: { إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء: من الآية3]وقال عن محمد: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: من الآية23] وقال في

ج / 1 ص -34- آخرين من الرسل:{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [صّ:45].


فهذه العبودية المضافة إلى الرسل خاصة الخاصة، لأنه لا يباري أحد هؤلاء الرسل في العبودية.
وقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} أي: قضى ربك أن نحسن بالوالدين إحسانا.
والوالدان: يشمل الأم، والأب، ومن فوقهما، لكنه في الأم والأب أبلغ، وكلما قربا منك كانا أولى بالإحسان، والإحسان بـذل المعروف، وفي قوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} بعد قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} دليل على أن حق الوالدين بعد حق الله- عز وجل-.


فإن قيل: فأين حق الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
أجيب: بأن حق الله متضمن لحق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله لا يعبد إلا بما شرع الرسول صلى الله عليه وسلم
وقوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: من الآية23] أي: كف الأذى عنهما، ففي قوله: {إحسانا} بذل المعروف، وفي قوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}كف الأذى، ومعنى {أف} أتضجر، لأنك إذا قلته، فقد يتأذيان بذلك، وفي الآية إشارة إلى أنهما إذا بلغا الكبر صارا عبئا على ولدهما، فلا يتضجر من الحال، ولا ينهرهما في المقال إذا أساءا في الفعل أو القول.


وقوله: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء: من الآية23 ] أي: لينا حسنا بهدوء وطمأنينة، كقولك: أعظم الله أجرك، أبشري يا أمي، أبشر يا أبي، وما

ج / 1 ص -35-
وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء: من الآية36] الآية.


أشبه ذلك، فالقول الكريم يكون في صيغته، وأدائه، والخطاب به، فلا يكون مزعجا كرفع الصوت مثلا، بل يتضمن الدعاء والإيناس لهما.
والشاهد من هذه الآية: قوله تعالى: {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: من الآية23] فهذا هو التوحيد لتضمنه للنفي والإثبات.


[ شرح قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}]
الآية الرابعة: قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء: من الآية36] الآية: فقوله {ولا تشركوا} في مقابل "لا إله" لأنها نفي.
وقوله: {واعبدوا} في مقابل "إلا الله"، لأنها إثبات.
وقوله: {شيئا} نكرة في سياق النهي، فتعم كل شيء: لا نبيا، ولا ملكا، ولا وليا، بل ولا أمرا من أمور الدنيا، فلا تجعل الدنيا شريكا مع الله، والإنسان إذا كان همه الدنيا كان عابدا لها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة)1.


وقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة: من الآية83] يقال فيها ما قيل في الآيه السابقة2.
وقوله: {وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [النساء: من الآية36] أي: إحسانا، وذوو القربى هم من يجتمعون بالشخص في الجد الرابع، واليتامى: جمع يتيم، وهو الذي مات أبوه، ولم يبلغ والمساكين: هم الذين عدموا المال فأسكنهم الفقر، وابن السبيل: هو المسافر الذي انقطعت به النفقة.



1 أخرجه البخاري في (الجهاد، باب الحراسة في الغزو 2/327).
2 انظر: (ص 34).

ج / 1 ص -36- وقوله: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} [الأنعام: من الآية150] الآيات.

وقوله: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} الجار: الملاصق للبيت، أو من حوله،وذي القربى، أي: القريب، والجار الجنب، أي: الجار البعيد.
وقوله: {وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ} قيل: إنه الزوجة، وقيل: صاحبك في السفر; لأنه يكون إلى جنبك، ولكل منهمـا حق، فالآية صـالحة لهما. وقوله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} هذا يشمل الإحسان إلى الأرقاء والبهائم، لأن الجميع ملك اليمين.
وقوله: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} المختال: في هيئته. والفخور: في قوله، والله لا يحب هذا ولا هذا.


[ شرح قوله تعالى {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً]
الآية الخامسة إلى السابعة: قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يقول للناس: {تعالوا} أي: أقبلوا، وهلموا، وأصله من العلو كأن المنادي يناديك أن تعلو إلى مكانه، فيقول: تعال، أي: ارتفع إلي.


وقوله: {أتل} بالجزم جوابا للأمر في قوله: {تعالوا}.
وقوله: {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} "ما" اسم موصولٍ مفعول لأتل، والعائد محذوف، والتقدير: ما حرمه ربكم عليكم.
وقال: {ربكم} ولم يقل: ما حرم الله، لأن الرب هنا أنسب، حيث إن الرب له مطلق التصرف في المربوب، والحكم عليه بما تقتضيه حكمته.

ج / 1 ص -37-
وقوله: {ألا تشركوا} "أن": تفسيرية، تفسر {أتل ما حرم} أي: أتلو عليكم ألا تشركوا به شيئا، وليست مصدرية، وقد قيل به، وعلى هذا القول تكون "لا" زائدة، ولكن القول الأول أصح، أي: أتل عليكم عدم الإشراك، لأن الله لم يحرم علينا أن لا نشرك به، بل حرم علينا أن نشرك به، ومما يؤيد أن "أن" تفسيرية أن "لا" هنا ناهية لتتناسب الجمل، فتكون كلها طلبية.


وقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} أي: وأتلو عليكم الأمر بالإحسان إلى الوالدين.
وقوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم} بعد أن ذكر حق الأصول ذكر حق الفروع.
والأولاد في اللغة العربية: يشمل الذكر والأنثى، قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: من الآية11].
وقوله: {من إملاق} الإملاق: الفقر، و (من) للسببية والتعليل؛ أي: بسبب الإملاق.


وقوله: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} أي: إذا أبقيتموهم، فإن الرزق لن يضيق عليكم بإبقائهم; لأن الذي يقوم بالرزق هو الله.
وبدأ هنا برزق الوالدين، وفي سورة الإسراء بدأ برزق الأولاد، والحكمة في ذلك أنه قال هنا: {من إملاق} فالإملاق حاصل، فبدأ بذكر الوالدين اللذين أملقا، وهناك قال: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}[الإسراء: من الآية31]1 فهما غنيان، لكن يخشيان الفقر، فبدأ برزق الأولاد قبل رزق الوالدين.
وتقييد النهي عن قتل الأولاد بخشية الإملاق بناء على واقع المشركين غالبا; فلا مفهوم له.



1 سورة الإسراء آية : 31.

ج / 1 ص -38-
وقوله:{ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} 1 لم يقل: لا تأتوا، لأن النهي عن القرب أبلغ من النهي عن الإتيان; لأن النهي عن القرب نهي عنها، وعما يكون ذريعة إليها، ولذلك حرم على الرجل أن ينظر إلى المرأة الأجنبية، وأن يخلو بها، وأن تسافر المرأة بلا محرم; لأن ذلك يقرب من الفواحش.


وقوله: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } 2 قيل: ما ظهر فحشه، وما خفي; لأن الفواحش منها شيء مستفحش في نفوس جميع الناس، ومنها شيء فيه خفاء.
وقيل: ما أظهرتموه، وما أسررتموه، فالإظهار: فعل الزنا- والعياذ بالله- مجاهرة، والإبطان فعله سرا. وقيل: ما عظم فحشه، وما كان دون ذلك، لأن الفواحش ليست على حد سواء، ولهذا جاء في الحديث: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟"3،وهذا يدل على أن الكبائر فيها أكبر وفيها ما دون ذلك.


وقوله:{ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ } 4 النفس التي حرم الله: هي النفس المعصومة، وهي نفس المسلم، والذمي، والمعاهد، والمستأمن، بكسر الميم. والحق: ما أثبته الشرع. والباطل: ما نفاه الشرع. فمن الحق الذي أثبته الشرع في قتل النفس المعصومة أن يزني المحصن فيرجم حتى يموت، أو يقتل مكافئه، أو يخرج على الجماعة، أو يقطع الطريق، فإنه


1 سورة الأنعام آية : 151.
2 سورة الأنعام آية : 151.
3 من حديث أبي بكرة, أخرجه: البخاري (كتاب الشهادات, باب ما قيل في شهادة الزور, 2/251), ومسلم (كتاب الإيمان, باب بيان الكبائر, 1/91).
4 سورة الأنعام آية : 151.

ج / 1 ص -39-
يقتل، قال صلى الله عليه وسلم " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة"1 وقال هنا:{ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ } 2 وقال قبلها: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ } 3 فيكون النهي عن قتل الأولاد مكررا مرتين: مرة بذكر الخصوص، ومرة بذكر العموم.


وقوله: { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ } 4 المشار إليه ما سبق، والوصية بالشيء هي العهد به على وجه الاهتمام، ولهذا يقال: وصيته على فلان، أي: عهدت به إليه ليهتم به. وقوله: {تَعْقِلُونَ}العقل هنا: حسن التصرف، وأما في قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 5 فمعناه: تفهمون.


وفي هذا دليل على أن هذه الأمور إذا التزم بها الإنسان، فهو عاقل رشيد، وإذا خالفها، فهو سفيه ليس بعاقل. وقد تضمنت هذه الآية خمس وصايا:
الأولى: توحيد الله.
الثانية: الإحسان بالوالدين.
الثالثة: أن لا نقتل أولادنا.
الرابعة: أن لا نقرب الفواحش.
الخامسة: أن لا نقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.



1 من حديث ابن مسعود, رواه: البخاري (كتاب الديات, باب إذا قتل بحجر أو بعصا, 4/ 268), ومسلم (كتاب القسامة, باب ما يباح به دم المسلم, 3/1302).
2 سورة الأنعام آية : 151.
3 سورة الأنعام آية : 151.
4 سورة الأنعام آية : 151.
5 سورة الزخرف آية : 3.

ج / 1 ص -40-

وقوله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } 1.
وقوله: {وَلا تَقْرَبُوا }هذا حماية لأموال اليتامى أن لا نقربها إلا بالخصلة التي هي أحسن، فلا نقربها بأي تصرف إلا بما نرى أنه أحسن، فإذا لاح للولي تصرفان أحدهما أكثر ربحا، فالواجب عليه أن يأخذ بما هو أكثر ربحا لأنه أحسن.


والحسن هنا يشمل: الحسن الدنيوي، والحسن الديني، فإذا لاح تصرفان أحدهما أكثر ربحا وفيه ربا، والآخر أقل ربحا وهو أسلم من الربا، فنقدم الأخير، لأن الحسن الشرعي مقدم على الحسن الدنيوي المادي.


وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } (حتى): هنا: حرف غاية، فما بعدها مخالف لما قبلها. أي: إذا بلغ أشده، فإننا ندفعه إليه بعد أن نختبره، وننظر في حسن تصرفه، ولا يجوز لنا أن نبقيه عندنا، ومعنى أشده: قوته العقلية والبدنية، والخطاب هنا لأولياء اليتامى، أو للحاكم على قول بعض أهل العلم، وبلوغ الأشد يختلف، والمراد به هنا الأشد الذي يكون به التكليف، وهو تمام خمس عشرة سنة أو إنبات العانة أو الإنزال.


وقوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ } 2 أي: أوفوا الكيل إذا كلتم فيما يكال من الأطعمة والحبوب. وأوفوا الميزان: إذا وزنتم فيما يوزن، كاللحوم مثلا والأمر بالإيفاء شامل لجميع ما تتعامل به مع غيرك; فيجب عليك أن توفي بالكيل والوزن وغيرهما في التعامل. وقوله: {بِالْقِسْطِ }أي: بالعدل. ولما كان قوله: {بِالْقِسْطِ }قد




1 سورة الأنعام آية : 152.
2 سورة الأنعام آية : 152.

ج / 1 ص -41-
يشق بعض الأحيان; لأن الإنسان قد يفوته أن يوفي الكيل أو الوزن أحيانا، أعقب ذلك بقوله: {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } 1 أي: طاقتها، فإذا بذل جهده وطاقته، وحصل النقص، فلا يعد مخالفا؛ لأن ما خرج عن الطاقة معفو عنه فيه، وكما أن هذه الجملة تفيد العفو من وجه، وهو ما خرج عن الوسع، فإنها تفيد التغليظ من وجه، وهو أن على المرء أن يبذل وسعه في الإيفاء بالقسط، ولكن متى تبين الخطأ وجب تلافيه؛ لأنه داخل في الوسع.


وقوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا } 2 معناه: أي قول تقوله، فإنه يجب عليك أن تعدل فيه، سواء كان ذلك لنفسك على غيرك، أو لغيرك على نفسك، أو لغيرك على غيرك، أو لتحكم بين اثنين، فالواجب العدل، إذ العدل في اللغة الاستقامة، وضده الجور والميل، فلا تمل يمينا ولا شمالا، ولم يقل هنا: {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } 3 لأن القول لا يشق فيه العدل غالبا.


وقوله: {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } 4 أي: المقول له ذا قرابة، أي: صاحب قرابة، فلا تحابيه لقرابته؛ فتميل معه على غيره من أجله، فاجعل أمرك إلى الله- عز وجل- الذي خلقك، وأمَرك بهذا، وإليه سترجع، ويسألك عزوجل ماذا فعلت في هذه الأمانة. وقد أقسم أشرف الخلق، وسيد ولد آدم، وأعدل البشر، محمد صلى الله عليه وسلم وقال: " وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت; لقطعت يدها " 5.

وقوله: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا } 6 قدم المتعلَّق، للاهتمام به. وعهد الله:



1 سورة الأنعام آية : 152.
2 سورة الأنعام آية : 152.
3 سورة الأنعام آية : 152.
4 سورة المائدة آية : 106.


5 من حديث عائشة, رواه: البخاري (كتاب الأنبياء, باب حدثنا أبو اليمان, 2/466), ومسلم (كتاب الحدود, باب قطع السارق الشريف, 3/1315).
6 سورة الأنعام آية : 152.

ج / 1 ص -42-

ما عهد به إلى عباده، وهي عبادته سبحانه وتعالى والقيام بأمره، كما قال عزوجل : {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } 1 [المائدة: 12].


هذا ميثاق من جانب المخلوق، وقوله تعالى: {لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } 2 [المائدة: 12] هذا من جانب الله- عز وجل.
وقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 3 : هذه الآية الكريمة فيها أربع وصايا من الخالق عزوجل:
الأولى: أن لا نقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن.
الثانية: أن نوفي الكيل والميزان بالقسط.
الثالثة: أن نعدل إذا قلنا.
الرابعة: أن نوفي بعهد الله.
والآية الأولى فيها خمس وصايا. صار الجميع تسع وصايا.
ثم قال عزوجل:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ } 4 هذه هي الوصية العاشرة، فقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي } 5 يحتمل أن المشار إليه ما سبق، لأنك لو تأملته وجدته محيطا بالشرع كله، إما نصا، وإما إيماء، ويحتمل أن المراد به ما علم من دين الله، أي: هذا الذي جاءكم به الرسول صلى الله عليه وسلم هو صراطي، أي: الطريق الموصل إليه سبحانه وتعالى.


والصراط يضاف إلى الله- عز وجل-، ويضاف إلى سالكه; ففي قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } 6 هنا أضيف إلى


1 سورة المائدة آية : 12.
2 سورة المائدة آية : 12.
3 سورة الأنعام آية : 152.
4 سورة الأنعام آية : 153.
5 سورة الأنعام آية : 153.
6 سورة الفاتحة آية : 7.

ج / 1 ص -43- سالكه، وفي قوله تعالى: {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } 1 هنا أضيف إلى الله- عز وجل- فإضافته إلى الله عز وجل- لأنه موصل إليه، ولأنه هو الذي وضعه لعباده- جل وعلا-، وإضافته إلى سالكه لأنهم هم الذين سلكوه.


وقوله: { مُسْتَقِيماً }هذه حال من: { صِرَاطُ }أي: حال كونه مستقيما لا اعوجاج فيه فاتبعوه.
وقوله: { وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } 2 السبل، أي: الطرق الملتوية الخارجة عنه، وتفرق: فعل مضارع منصوب بأن بعد فاء السببية، لكن حذفت منه تاء المضارعة، وأصلها: "تتفرق"، أي أنكم إذا اتبعتم السبل تفرقت بكم عن سبيله، وتشتت بكم الأهواء وبعدت.


وهنا قال: (السبل): جمع سبيل، وفي الطريق التي أضافها الله إلى نفسه قال: (سبيله) سبيل واحد، لأن سبيل الله- عز وجل- واحد، وأما ما عداه، فسبل متعددة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة "3، فالسبيل المنجي واحد، والباقية متشعبة متفرقة، ولا يرد على هذا قوله تعالى: { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ } 4 لأن :{ سُبُلَ } في الآية الكريمة، وإن كانت مجموعة، لكن أضيفت إلى السلام فكانت منجية، ويكون المراد بها شرائع الإسلام.


1 سورة الشورى آية : 53.
2 سورة الأنعام آية : 153.
3 أخرجه: أحمد (2/332), وأبو داود (4596), والترمذي (2640), وابن ماجه (3991), وابن أبي عاصم (66), وابن حبان (3991); عن أبي هريرة, وصححه الترمذي والحاكم.
4 سورة المائدة آية : 16.

ج / 1 ص -44- قال ابن مسعود: " من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم
وقوله: { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } 1 أي: ذلك المذكور وصاكم لتنالوا به درجة التقوى، والالتزام بما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم
· وقوله: قال ابن مسعود: "من أراد..." إلخ: الاستفهام هنا للحث والتشويق، واللام في قوله: "فليقرأ" للإرشاد.


وقوله: "وصية محمد": الوصية بمعنى العهد، ولا يكون العهد وصية إلا إذا كان في أمر هام.
وقوله: "محمد صلى الله عليه وسلم ": أي: رسول الله محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي صلى الله عليه وسلم وهذا التعبير من ابن مسعود يدل على جواز مثله، مثل: قال محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصية محمد صلى الله عليه وسلم ولا ينافي قوله تعالى: { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } 2 لأن دعاء الرسول هنا أي: مناداته، فلا تقولوا عند المناداة: يا محمد! ولكن قولوا: يا رسوله الله! أما الخبر، فهو أوسع من باب الطلب، ولهذا يجوز أن تقول: أنا تابع لمحمد صلى الله عليه وسلم، أو اللهم! صل على محمد، وما أشبه ذلك.


وقوله: "التي عليها خاتمه": الخاتم بمعنى التوقيع.
وقوله: "وصية محمد صلى الله عليه وسلم "، ليست وصية مكتوبة مختوما عليها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص بشيء، ويدل لذلك: أن أبا جحيفة سأل علي بن أبي طالب: " هل عهد إليكم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة؛ إلا فهما يؤتيه الله تعالى رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة.


1 سورة الأنعام آية : 153.
2 سورة النور آية : 63.

ج / 1 ص -45- التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } 1 إلى قوله: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ } 2 "3 الآية.
وعن معاذ بن جبل (رضي الله عنه)، قال: " كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال لي: يا معاذ ! أتدري
قيل: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر "4.


فلا يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بهذه الآيات وصية خاصة مكتوبة، لكن ابن مسعودرضي الله عنهيرى أن هذه الآيات قد شملت الدين كله، فكأنها الوصية التي ختم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبقاها لأمته. وهي آيات عظيمة، إذا تدبرها الإنسان وعمل بها، حصلت له الأوصاف الثلاثة الكاملة: العقل، والتذكر، والتقوى.


وقوله: "فليقرأ قوله تعالى... " إلخ الآيات سبق الكلام عليها.
وقوله: "رديف": بمعنى رادف، أي: راكب معه خلفه، فهو فعيل بمعنى فاعل، مثل: رحيم بمعنى راحم، وسميع بمعنى سامع.
وقوله: "على حمار": أي: أهلي، لأن الوحشي لا يركب.
وقوله: "أتدري": أي: أتعلم.


1 سورة الأنعام آية : 151.
2 سورة الأنعام آية : 153.
3 أخرجه: الترمذي (أبواب تفسير القرآن, 8/230) - وقال: "حديث حسن غريب"-, والطبراني في "الكبير" (10060) بلفظ: "من سره أن يقرأ صحيفة محمد صلى الله عليه وسلم..." إلخ.


4 رواه: البخاري (كتاب الديات, باب العاقلة, 4/274).

ج / 1 ص -46- ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟. قلت، الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا.
قوله: "ما حق الله على العباد؟": أي: ما أوجبه عليهم، وما يجب أن يعاملوه به، وألقاه على معاذ بصيغة السؤال، ليكون أشد حضورا لقلبه حتى يفهم ما يقوله صلى الله عليه وسلم
قوله: "وما حق العباد على الله ؟": أي: ما يجب أن يعاملهم به، والعباد لم يوجبوا شيئا، بل الله أوجبه على نفسه فضلا مـنه على عباده، قـال تعـالى: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } 1.


فأوجب سبحانه على نفسه أن يرحم من عمل سوء بجهالة، أي: بسفه وعدم حسن تصرف ثم تاب من بعد ذلك وأصلح. ومعنى كتب، أي: أوجب.
قوله: "قلت: الله ورسوله أعلم": لفظ الجلالة: مبتدأ و"رسوله": معطوف عليه، وأعلم: خبر المبتدأ، وأفرد الخبر هنا مع أنه لاثنين، لأنه على تقدير: "من"، واسم التفضيل إذا كان على تقدير: "من"، فإن الأشهر فيه الإفراد والتذكير.
والمعنى: أعلم من غيرهما، وأعلم مني أيضا.
قوله: "يعبدوه": أي: يتذللوا له بالطاعة.


قوله: "ولا يشركوا به شيئا": أي: في عبادته وما يختص به، وشيئا نكرة في سياق النفي، فتعم كل شيء؛ لا رسولا، ولا ملكا، ولا وليا، ولا غيرهم.


1 سورة الأنعام آية : 54.

ج / 1 ص -47- وحق العباد على الله ، أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا؟. قلت، يا رسول الله! أفلا أبشر الناس ؟......
وقوله: "وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا": وهذا الحق تفضل الله به على عباده، ولم يوجبه عليه أحد، ولا تظن أن قوله: "من لا يشرك به شيئا" أنه مجرد عن العبادة، لأن التقدير: من يعبده ولا يشرك به شيئا، ولم يذكر قوله: "من يعبده"، لأنه مفهوم من قوله: "وحق العباد"، ومن كان وصفه العبودية، فلا بد أن يكون عابدا.


ومن لم يعبد الله ولم يشرك به شيئا; هل يعذب ؟
الجواب: نعم، يعذب، لأن الكلام فيه حذف، وتقديره: من يعبده ولا يشرك به شيئا، ويدل لهذا أمران:
الأول: قوله: "حق العباد"، ومن كان وصفه العبودية; فلا بد أن يكون عابدا.
الثاني: أن هذا في مقابل قوله فيما تقدم: "أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا"; فعلم أن المراد بقوله: "لا يشركوا به شيئا"; أي: في العبادة.
قوله: "أفلا أبشر الناس": أي: أأسكت فلا أبشر الناس؟ ومثل هذا التركيب: الهمزة ثم حرف العطف ثم الجملة،


لعلماء النحو فيه قولان:
الأول: أن بين الهمزة وحرف العطف محذوفا يقدر بما يناسب المقام، وتقديره هنا: أأسكت فلا أبشر الناس؟
الثاني: أنه لا شيء محذوف، لكن هنا تقديم وتأخير، وتقديره: فألا أبشر؟ فالجملة معطوفة على ما سبق، وموضع الفاء سابق على

ج / 1 ص -48- قال: لا تبشرهم فيتكلوا". أخرجاه في "الصحيحين"1.
الهمزة، فالأصل: فألا أبشر الناس؟ لكن لما كان مثل هذا التركيب ركيكا، وهمزة الاستفهام لها الصدارة، قدمت على حرف العطف، ومثل ذلك قوله تعالى:{ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} 2 وقوله تعالى: {أَفَلا تُبْصِرُونَ}، وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ } 3.


والبشارة: هي الإخبار بما يسر. وقد تستعمل في الإخبار بما يضر، ومنه قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 4 لكن الأكثر الأول.
قوله: "لا تبشرهم": أي: لا تخبرهم، ولا ناهية.


ومعنى الحديث أن الله لا يعذب من لا يشرك به شيئا، وأن المعاصي تكون مغفورة بتحقيق التوحيد، ونهى صلى الله عليه وسلم عن إخبارهم، لئلا يعتمدوا على هذه البشرى دون تحقيق مقتضاها، لأن تحقيق التوحيد يستلزم اجتناب المعاصي، لأن المعاصي صادرة عن الهوى، وهذا نوع من الشرك، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } 5.

ومناسبة الحديث للترجمة

فضيلة التوحيد، وأنه مانع من عذاب الله.


1رواه البخاري (كتاب اللباس، باب إرداف الرجل خلف الرجل، 4/84)، ومسلم (كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة، 1/58).
2 سورة الغاشية آية : 17.
3 سورة يوسف آية : 109.
4 سورة آل عمران آية : 21.
5 سورة الجاثية آية : 23.



ج / 1 ص -49- · فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق الجن والإنس.
الثانية: أن العبادة هي التوحيد، لأن الخصومة فيه.

المسائل:

· الأولى: الحكمة من خلق الجن والإنس: أخذها رحمه الله من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 1 فالحكمة هي عبادة الله، لا أن يتمتعوا بالمآكل والمشارب والمناكح.
· الثانية: أن العبادة هي التوحيد: أي: أن العبادة مبنية على التوحيد، فكل عبادة لا توحيد فيها ليست بعبادة، لا سيما أن بعض السلف فسروا قوله تعالى: { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}إلا ليوحدون.
وهذا مطابق تماما لما استنبطه المؤلف رحمه الله من أن العبادة هي التوحيد، فكل عبادة لا تبنى على التوحيد فهي باطلة، قال صلى الله عليه وسلم " قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مـن عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه "2.


وقوله: "لأن الخصومة فيه": أي في التوحيد بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش، فقريش يعبدون الله؛ يطوفون له، ويصلون، ولكن على غير الإخلاص والوجه الشرعي، فهي كالعدم لعدم الإتيان بالتوحيد، قال تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ } 3.



1 سورة الذاريات آية : 56.
2 من حديث أبي هريرة, رواه: مسلم (كتاب الزهد, باب من أشرك في عمله غير الله, 4/ 2289).
3 سورة التوبة آية : 54.

ج / 1 ص -50- الثالثة: أن من لم يأت به، لم يعبد الله، ففيه معنى قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} 1.
الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل.
الخامسة: أن الرسالة عمت كل أمة.
السادسة: أن دين الأنبياء واحد.


·وقوله في الثالثة:
ففيه معنى قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} 2 لستم عابدين عبادتي، لأن عبادتكم مبنية على الشرك، فليست بعبادة لله تعالى.
·الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل: أخـذها رحمه الله تعالى مـن قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } 3 فالحكمة هي: الدعوة إلى عبادة الله وحده، واجتناب عبادة الطاغوت.
·الخامسة: أن الرسالة عمت كل أمة: أخذها مـن قوله تعـالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً } 4.


·السادسة: أن دين الأنبياء واحد: أخذها من قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } 5 ومثله قوله تعالى: { َمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 6 وهذا لا ينافي قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } 7 لأن الشرعة العملية تختلف باختلاف الأمم، أو الأماكن، والأزمنة، وأما أصل الدين فواحد، قال تعالى: {شَرَعَ


1 سورة الكافرون آية : 3.
2 سورة الكافرون آية : 3.
3 سورة النحل آية : 36.
4 سورة النحل آية : 36.
5 سورة النحل آية : 36.
6 سورة الأنبياء آية : 25.
7 سورة المائدة آية : 48. أن من لم يأت به، لم يعبد الله، ففيه معنى قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} 1.

ج / 1 ص -51- لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ }
السابعة: المسألة الكبيرة إن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت ففيه معنى قوله تعالى: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ } 1 الآية.


2.
السابعة: المسألة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت.
ودليله قوله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } 3 فمن عبد الله ولم يكفر بالطاغوت، فليس بموحد، ولهذا جعل المؤلف رحمه الله هذه المسألة كبيرة، لأن كثيرا من المسلمين جهلها في زمانه وفي زماننا الآن.


تنبيه:

لا يجوز إطلاق الشرك أو الكفر أو اللعن على من فعل شيئا من ذلك لأن الحكم بذلك في هذه وغيرها له أسباب وله موانع، فلا نقول لمن أكل الربا: ملعون، لأنه قد يوجد مانع يمنع من حلول اللعنة عليه، كالجهل مثلا، أو الشبهة، وما أشبه ذلك، وكذا الشرك لا نطلقه على من فعل شركا، فقد تكون الحجة ما قامت عليه بسبب تفريط علمائهم، وكذا نقول: من صام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه، ولكن لا نحكم بهذا لشخص معين إذ إن الحكم المعلق على الأوصاف لا ينطبق على الأشخاص إلا بتحقق شروط انطباقه وانتفاء موانعه.


فإذا رأينا شخصا يتبرز في الطريق، فهل نقول له: لعنك الله؟
الجواب: لا، إلا إذا أريد باللعن في قوله: "اتقوا الملاعن"4: أن


1 سورة البقرة آية : 256.
2 سورة الشورى آية : 13.
3 سورة النحل آية : 36.
4 من حديث معاذ, رواه: أبو داود (كتاب الطهارة, باب المواضع التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البول فيها, 1/29), وابن ماجه (كتاب الطهارة, باب النهي عن الخلاء على قارعة الطريق, 1/119), والحاكم (1/167)- وقال: "صحيح", ووافقه الذهبي-, والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 97).



ج / 1 ص -52- الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله.
التاسعة: عظم شأن الثلاث آيات المحكمات في سورة الأنعام عند السلف، وفيها عشر مسائل، أولها النهي عن الشرك.
العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء وفيها ثماني عشرة مسألة، بدأها الله بقوله:{ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً}

الناس أنفسهم يلعنون هذا الشخص ويكرهونه، ويرونه مخلا بالأدب مؤذيا للمسلمين، فهذا شيء آخر.
فدعاء القبر شرك، لكن لا يمكن أن نقول لشخص معين فعله: هذا مشرك، حتى نعرف قيام الحجة عليه، أو نقول: هذا مشرك باعتبار ظاهر حاله.
·الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله: فكل ما عبد من دون الله، فهو طاغوت، وقد عرفه ابن القيم: بأنه كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع1 فالمعبود كالصنم، والمتبوع كالعالم، والمطاع كالأمير.


·التاسعة: عظم شأن الثلاث آيات المحكمات في سورة الأنعام: المحكمات، أي: التي ليس فيها نسخ، أخذ ذلك من قول ابن مسعود (.
·العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء: وهي قوله



1 انظر: (ص 28) في تقييد عبارة ابن القيم رحمه الله.

ج / 1 ص -53- 1 وختمها بقوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} 2 ونبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله:{ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ } 3.
الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة بدأها الله تعالى بقوله:{ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } 4.


تعالى:{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ } 5 وفيها ثماني عشرة مسألة بدأها بقوله تعالى:{ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} 6 وختمها بقوله تعالى:{ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} 7.
وقد نبهنا الله- سبحانه- على عظم شأن هذه المسائل بقوله تعالى:{ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ } 8 فبدأها الله بالنهي عن الشرك بقوله تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} 9 والقاعد ليس قائما، لأنه لا خير لمن أشرك بالله، (مذموما) عند الله وعند أوليائه، (مخذولا) لا ينتصر في الدنيا ولا في الآخرة. وختمها بقوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} 10 فهذه عقوبته عندما يلقى في النار، كل يلومه ويدحره، فيندحر، والعياذ بالله.


·الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة بدأها بقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } 11 فأحق الحقوق


1 سورة الإسراء آية : 22.
2 سورة الإسراء آية : 39.
3 سورة الإسراء آية : 39.
4 سورة النساء آية : 36.
5 سورة الإسراء آية : 23.
6 سورة الإسراء آية : 22.
7 سورة الإسراء آية : 39.
8 سورة الإسراء آية : 39.
9 سورة الإسراء آية : 22.
10 سورة الإسراء آية : 39.
11 سورة النساء آية : 36.



ج / 1 ص -54- الثانية عشرة: التنبيه على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته.
الثالثة عشرة: معرفة حق الله علينا.
الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه.
الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة.


حق الله، ولا تنفع الحقوق إلا به، فبدئت هذه الحقوق به، ولهذا لما سأل النبِيَّ صلى الله عليه وسلم حكيمُ بن حزام عمن كان يتصدق ويعتق ويصل رحمه في الجاهلية هل له من أجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " "أسلمت على ما أسلفت من الخير "1 فدل على أنه إذا لم يسلم لم يكن له أجر، فصارت الحقوق كلها لا تنفع إلا بتحقيق حق الله.


·الثانية عشرة: التنبيه على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته: وذلك من حديث ابن مسعود (2، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص بها حقيقة، بل أشار إلى أننا إذا تمسكنا بكتاب الله، فلن نضل بعده، ومن أعظم ما جاء به كتاب الله قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } 3.
·الثالثة عشرة: معرفة حق الله علينا: وذلك بأن نعبده ولا نشرك به شيئا.
·الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه: وذلك بأن لا يعذب من لا يشرك به شيئا، أما من أشرك، فإنه حقيق أن يعذب.
·الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة: وذلك



1 من حديث حكيم بن حزام, رواه: البخاري (كتاب الزكاة, باب من تصدق في الشرك ثم أسلم, 1/443), ومسلم (كتاب الإيمان, باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده, 1/ 113).
2 سبق تخريجه (ص 45).
3 سورة الأنعام آية : 151.

ج / 1 ص -55- السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة.
السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره.


أن معاذا أخبر بها تأثما، أي خروجا من إثم الكتمان عند موته، بعد أن مات كثير من الصحابة، وكأنهرضي الله عنهعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخشى أن يفتتن الناس بها، ويتكلوا، ولم يرد صلى الله عليه وسلم كتمها مطلقا؛ لأنه لو أراد ذلك لم يخبر بها معاذا ولا غيره.


·السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة: هذه ليست على إطلاقها، إذ إن كتمان العلم على سبيل الإطلاق لا يجوز لأنه ليس بمصلحة، ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم معاذا ولم يكتم ذلك مطلقا، وأما كتمان العلم في بعض الأحوال، أو عن بعض الأشخاص لا على سبيل الإطلاق، فجائز للمصلحة، كما كتم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عن بقية الصحابة؛ خشية أن يتكلوا عليه، وقال لمعاذ: " لا تبشرهم فيتكلوا "1.


ونظير هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: " بشر الناس أن من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة "2 بل قد تقتضي المصلحة ترك العمل، وإن كان فيه مصلحة لرجحان مصلحة الترك، كما هم النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدم الكعبة ويبنيها على قواعد إبراهيم، ولكن ترك ذلك خشية افتتان الناس، لأنهم حديثو عهد بكفر3.


·السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره لقوله: " أفلا أبشر الناس؟ " وهذه من أحسن الفوائد.


1 سبق تخريجه (ص 48).
2 من حديث أبي هريرة, رواه: مسلم (كتاب الإيمان, باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة, 1/59).
3 من حديث عائشة, رواه: البخاري (كتاب الحج, باب فضل مكة, 1/487), ومسلم (كتاب الحج, باب نقض الكعبة 2/969).

ج / 1 ص -56- الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله.

·الثامنة عشرة:
الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله: وذلك لقوله: " لا تبشرهم فيتكلوا "؛ لأن الاتكال على رحمة الله يسبب مفسدة عظيمة هي الأمن من مكر الله.
وكذلك القنوط من رحمة الله، يبعد الإنسان من التوبة، ويسبب اليأس من رحمة الله، ولهذا قال الإمام أحمد: "ينبغي أن يكون سائرا إلى الله بين الخوف والرجاء، فأيهما غلب هلك صاحبه"، فإذا غلب الرجاء أدى ذلك إلى الأمن من مكر الله، وإذا غلب الخوف أدى ذلك إلى القنوط من رحمة الله.


وقال بعض العلماء: إن كان مريضا غلَّب جانب الرجاء، وإن كان صحيحا غلب جانب الخوف. وقال بعض العلماء: إذا نظر إلى رحمة الله وفضله؛ غلَّب جانب الرجاء، وإذا نظر إلى فعله وعمله؛ غلَّب جانب الخوف لتحصل التوبة.
ويستدلون بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } 1 أي: خائفة أن لا يكون تقبل منهم لتقصير أو قصور، وهذا القول جيد، وقيل: يغلب الرجاء عند فعل الطاعة ليحسن الظن بالله، ويغلِّب جانب الخوف إذا هم بالمعصية؛ لئلا ينتهك حرمات الله.


وفي قوله: " أفلا أبشر الناس؟ "2 دليل على أن التبشير مطلوب فيما يسر من أمر الدين والدنيا، ولذلك بشرت الملائكة إبراهيم، قال تعالى: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} 3 وهو إسحاق، والحليم إسماعيل، وبشر النبي صلى الله عليه وسلم أهله بابنه إبراهيم، فقال: " ولد لي الليلة ولد


1 سورة المؤمنون آية : 60.
2 سبق تخريجه (ص 48).
3 سورة الذاريات آية : 28.

ج / 1 ص -57- التاسعة عشرة: قول المسؤول عما لا يعلم: الله ورسوله أعلم.

سميته باسم أبي إبراهيم "1. فيؤخذ منه أنه ينبغي للإنسان إدخال السرور على إخوانه المسلمين ما أمكن بالقول أو بالفعل، ليحصل له بذلك خير كثير، وراحة، وطمأنينة قلب، وانشراح صدر.
وعليه، فـلا ينبغي أن يدخل السوء على المسلم، ولهذا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يحدثني أحد عن أحد بشيء، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر "2. وهذا الحديث فيه ضعف، لكن معناه صحيح، لأنه إذا ذكر عندك رجل بسوء، فسيكون في قلبك عليه شيء ولو أحسن معاملتك، لكن إذا كنت تعامله وأنت لا تعلم عن سيئاته، ولا محذور في أن تتعامل معه، كان هذا طيبا، وربما يقبل منك النصيحة أكثر، والنفوس ينفر بعضها من بعض قبل الأجسام، وهذه مسائل دقيقة تظهر للعاقل بالتأمل.


·التاسعة عشرة: قول المسؤول عما لا يعلم: الله ورسوله أعلم: وذلك لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم معاذا لما قالها، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على معاذ، حيث عطف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الله بالواو، وأنكر على من قال: " ما


1 من حديث أنس رضي الله عنه, رواه: مسلم (كتاب الفضائل, باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال, 4/1807).
2 من حديث ابن مسعود, رواه: أبو داود (كتاب الأدب, باب في رفع الحديث من المجلس, 5/183)- وسكت عنه-, والترمذي (المناقب, باب في فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم, رقم 3893)- وقال: "غريب من هذا الوجه"-, وأحمد في "المسند" (1/395). وفي إسناده عندهم الوليد بن هشام أو ابن أبي هشام الكوفي, مستور; كما في "تقريب التهذيب" (2/336). وزيد بن زائدة; قال ابن حجر في "التقريب" (1/274): "مقبول", وباقي رجاله ثقات. وصححه أحمد شاكر -رحمه الله- في تحقيقه لـ "المسند" (3759).



ج / 1 ص -58- العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض.
شاء الله وشئت، وقال:أجعلتني لله ندا؟! بل ما شاء الله وحده "1.
فيقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم عنده من العلوم الشرعية ما ليس عند القائل، ولهذا لم ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم على معاذ، بخلاف العلوم الكونية القدرية، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس عنده علم منها.
فلو قيل: هل يحرم صوم العيدين؟ جاز أن نقول: الله ورسوله أعلم، ولهذا كان الصحابة إذا أشكلت عليهم المسائل؛ ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبينها لهم، ولو قيل: هل يتوقع نزول مطر في هذا الشهر؟ لم يجز أن نقول: الله ورسوله أعلم؛ لأنه من العلوم الكونية.


·العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خص هذا العلم بمعاذ دون أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. فيجوز أن نخصص بعض الناس بالعلم دون بعض، حيث إن بعض الناس لو أخبرته بشيء من العلم افتتن، قال ابن مسعود: " إنك لن تحدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة "2 وقال علي:


1 من حديث ابن عباس, رواه: أحمد; كما في "المسند" (1/214), وابن ماجه (كتاب الكفارات, باب النهي أن يقال: ما شاء الله وشئت, 1/684). وقال البوصيري في "الزوائد": "وفي إسناده الأجلح بن عبد الله, مختلف فيه, ضعفه الإمام أحمد وأبو حاتم والنسائي وأبو داود وابن سعد, ووثقه ابن معين ويعقوب بن سفيان والعجلي, وباقي الإسناد ثقات". ورواه أيضا: الطبراني في "الكبير" (13005), والبيهقي في, "السنن" (3/217).
2 رواه: مسلم في مقدمة "صحيحه" (1/11).



ج / 1 ص -59- الحادية والعشرون: تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوب الحمار مع الإرداف عليه.
الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة.
الثالثة والعشرون: عظم شأن هذه المسألة.
الرابعة والعشرون: فضيلة معاذ بن جبل.


" حدثوا الناس بما يعرفون "1 فيحدث كل أحد حسب مقدرته وفهمه وعقله.
الحادية والعشرون: تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوب الحمار مع الإرداف عليه: النبي صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق جاها، ومع ذلك هو أشد الناس تواضعا، حيث ركب الحمار وأردف عليه، وهذا في غاية التواضع، إذ إن عادة الكبراء عدم الإرداف، وركب صلى الله عليه وسلم الحمار، ولو شاء لركب ما أراد، ولا منقصة في ذلك، إذ إن من تواضع لله- عز وجل- رفعه.


·الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف معاذا، لكن يشترط للإرداف أن لا يشق على الدابة، فإن شق، لم يجز ذلك.
·الثالثة والعشرون: عظم شأن هذه المسألة: حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم معاذا، وجعلها من الأمور التي يبشر بها.
·الرابعة والعشرون: فضيلة معاذ (: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خصه بهذا العلم، وأردفه معه على الحمار.


1 رواه: البخاري (كتاب العلم, باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه, 1/62).



المصدر :


كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




ام عادل السلفية 27-01-2015 09:45PM

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

ج / 1 ص -60- باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

سبق أن ذكر المؤلف كتاب التوحيد، أي: وجوب التوحيد، وأنه لا بد منه، وأن معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 1؛ أن العبادة لا تصح إلا بالتوحيد. وهنا ذكر المؤلف فضل التوحيد، ولا يلزم من ثبوت الفضل للشيء أن يكون غير واجب، بل الفضل من نتائجه وآثاره. ومن ذلك صلاة الجماعة ثبت فضلها بقوله صلى الله عليه وسلم " صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة "2 متفق عليه3. ولا يلزم من ثبوت الفضل فيها أن تكون غير واجبة، إذ إن التوحيد أوجب الواجبات، ولا تقبل الأعمال
إلا به، ولا يتقرب العبد إلى ربه إلا به، ومع ذلك، ففيه فضل.


قوله: (وما يكفر من الذنوب): معطوف على "فضل"؟ فيكون المعنى: باب فضل التوحيد، وباب ما يكفر من الذنوب، وعلى هذا، فالعائد محذوف والتقدير ما يكفره من الذنوب. عقد هذا الباب لأمرين: الأول: بيان فضل التوحيد.
الثاني: بيان ما يكفره من الذنوب; لأن من آثار فضل التوحيد تكفير الذنوب.



1 سورة الذاريات آية : 56.
2 البخاري : الأذان (645) , ومسلم : المساجد ومواضع الصلاة (650) , والترمذي : الصلاة (215) , والنسائي : الإمامة (837) , وابن ماجه : المساجد والجماعات (789) , وأحمد (2/65 ,2/102 ,2/112) , ومالك : النداء للصلاة (290) , والدارمي : الصلاة (1277).
3 من حديث ابن عمر, رواه: البخاري في (كتاب الأذان, باب فضل صلاة الجماعة, ا/ 216), ومسلم (كتاب المساجد, باب فضل صلاة الجماعة, 1/450).

ج / 1 ص -61- وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } 1 الآية.


فمن فوائد التوحيد:
1. أنه أكبر دعامة للرغبة في الطاعة؛لأن الموحد يعمل لله- سبحانه وتعالى-، وعليه، فهو يعمل سرا وعلانية، أما غير الموحد، كالمرائي مثلا، فإنه يتصدق ويصلي، ويذكر الله إذا كان عنده من يراه فقط، ولهذا قال بعض السلف: " إني لأود أن أتقرب إلى الله بطاعة لا يعلمها إلا هو ".


2. أن الموحدين لهم الأمن وهم مهتدون، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2.
قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا }أي: يخلطوا.


قوله: " بظلم ": الظلم هنا ما يقابل الإيمان، وهو الشرك، ولما نزلت هذه الآية شق ذلك على الصحابة، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ليس الأمر كما تظنون، إنما المراد به الشرك "3 ألم تسمعوا إلى قول الرجل الصالح- يعني لقمان-:{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 45.

والظلم أنواع:

1. أظلم الظلم:وهو الشرك في حق الله.


1 سورة الأنعام آية : 82.
2 سورة الأنعام آية : 82.
3 البخاري : استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6937) , ومسلم : الإيمان (124) , والترمذي : تفسير القرآن (3067) , وأحمد (1/378 ,1/424 ,1/444).
4 سورة لقمان آية : 13.
5 من حديث ابن مسعود, رواه: البخاري: (كتاب الأنبياء, باب قول الله تعالى: ولقد آتينا لقمان الحكمة , 2/484).



ج / 1 ص -62- 2. ظلم الإنسان نفسه: فلا يعطيها حقها، مثل أن يصوم فلا يفطر، ويقوم فلا ينام.
3. ظلم الإنسان غيره: مثل أن يتعدى على شخص بالضرب، أو القتل، أو أخذ مال، أو ما أشبه ذلك. وإذا انتفى الظلم; حصل الأمن،

لكن هل هو أمن كامل؟
الجواب: إنه إن كان الإيمان كاملا لم يخالطه معصية، فالأمن أمن مطلق، أي كامل، وإذا كان الإيمان مطلق إيمان- غير كامل-، فله مطلق الأمن، أي: أمن ناقص.


مثال ذلك: مرتكب الكبيرة، آمن من الخلود في النار، وغير آمن من العذاب، بل هو تحت المشيئة، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } 1 وهذه الآية قالها الله تعالى حكما بين إبراهيم وقومه حين قال لهم: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ } 2 إلى قوله: { إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فقال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } 3 الآية، على أنه قـد يقول قائل: إنها من كلام إبراهيم ليبين لقومه؛ ولهذا قال بعدها: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } 4.


وقوله: " بالأمن ": أل فيها للجنس، ولهذا فسرنا الأمن بأنه إما أمن مطلق، وإما مطلق أمن، حسب الظلم الذي تلبس به.
وقوله: " وهم مهتدون ": أي: في الدنيا إلى شرع الله بالعلم والعمل، فالاهتداء بالعلم هداية إرشاد. والاهتداء بالعمل: هداية توفيق، وهم مهتدون في الآخرة إلى الجنة. كما قال الله تعالى في أصحاب


1 سورة النساء آية : 48.
2 سورة الأنعام آية : 81.
3 سورة الأنعام آية : 82.
4 سورة الأنعام آية : 83.

ج / 1 ص -63- عن عبادة بن الصامترضي الله عنهقال: قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم " من شهد أن لا إله إلا الله....


الجحيم:{ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}1 فهذه هداية الآخرة، وهي للذين ظلموا إلى صراط الجحيم، فيكون مقابلها أن الذين آمنوا ولم يظلموا، يهدون إلى صراط النعيم.
وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ } 2 إن الأمن في الآخرة، والهداية في الدنيا، والصواب أنها عامة بالنسبة للأمن والهداية في الدنيا والآخرة.


مناسبة الآية للترجمة
أن الله أثبت الأمن لمن لم يشرك، والذي لم يشرك يكون موحدا، فدل على أن من فضائل التوحيد استقرار الأمن.
قوله: " من شهد أن لا إله إلا الله " : الشهادة لا تكون إلا عن علم سابق، قال تعالى: { إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 3 وهذا العلم قد يكون مكتسبا وقد يكون غريزيا.
فالعلم بأنه لا إله إلا الله غريزي، قال صلى الله عليه وسلم " كل مولود يولد على الفطرة " 4.
وقد يكون مكتسبا، وذلك بتدبر آيات الله، والتفكر فيها.



1 سورة الصافات آية : 23.
2 سورة الأنعام آية : 82.
3 سورة الزخرف آية : 86.
4 من حديث أبي هريرة, رواه: البخاري في (كتاب الجنائز, باب إذا أسلم الصبي فمات, 1/416), ومسلم (كتاب القدر, باب معنى كل مولود يولد على الفطرة, 4/2047).



ج / 1 ص -64- ولا بد أن يوجد العلم بلا إله إلا الله ثم الشهادة بها.
وقوله: (أن): مخففة من الثقيلة، والنطق بأن مشددة خطأ، لأن المشددة لا يمكن حذف اسمها، والمخففة يمكن حذفه.
وقوله: (لا إله): أي: لا مألوه، وليس بمعنى لا آله، والمألوه: هو المعبود محبة وتعظيما، تحبه وتعظمه؛ لما تعلم من صفاته العظيمة، وأفعاله الجليلة.
وقوله: (لا الله): أي: لا مألوه إلا الله، ولهذا حكي عن قريش قولهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 1.
أما قوله تعالى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } 2 فهذا التأله باطل؛ لأنه بغير حق، فهو منفي شرعا، وإذا انتفى شرعا، فهو كالمنتفي وقوعا فلا قرار له: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}3.


وبهذا يحصل الجمع بين قوله تعالى: { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ } 4 وقوله تعالى حكاية عن قريش: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً } 5 وبين قوله تعالى: { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ } 6 فهذه الآلهة مجرد أسماء لا معاني لها ولا حقيقة، إذ هي باطلة شرعا، لا تستحق أن تسمى آلهة، لأنها لا تنفع ولا تضر، ولا تخلق ولا ترزق; كما قال تعالى: { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } 7.


التوحيد عند المتكلمين:
يقولون: إن معنى إله: آله، والإله: القادر على الاختراع، فيكون معنى لا إله إلا الله: لا قادر على الاختراع إلا الله.



1 سورة ص آية : 5.
2 سورة هود آية : 101.
3 سورة إبراهيم آية : 26.
4 سورة هود آية : 101.
5 سورة ص آية : 5.
6 سورة آل عمران آية : 62.
7 سورة يوسف آية : 40.



ج / 1 ص -65- والتوحيد عندهم: أن توحد الله، فتقول: هو واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وواحد في صفاته لا شبيه له، ولو كان هذا معنى لا إله إلا الله، لما أنكرت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم دعوته، ولآمنت به وصدقت، لأن قريشا تقول: لا خالق إلا الله، و((لا خالق)) أبلغ من كلمة ((لا قادر))، لأن القادر قد يفعل وقد لا يفعل، أما الخالق، فقد فعل وحقق بقدرة منه، فصار فهم المشركين خيرا من فهم هؤلاء المتكلمين والمنتسبين للإسلام، فالتوحيد الذي جاءت به الرسل في قوله تعالى: { مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } 1 أي: من إله حقيقي يستحق أن يعبد، وهو الله.


ومن المؤسف؛ أنه يوجد كثير من الكتاب الآن، الذين يكتبون في هذه الأبواب، تجدهم عندما يتكلمون على التوحيد: لا يقررون أكثر من توحيد الربوبية، وهذا غلط، ونقص عظيم، ويجب أن نغرس في قلوب المسلمين توحيد الألوهية، أكثر من توحيد الربوبية، لأن توحيد الربوبية لم ينكره أحد إنكارا حقيقيا، فكوننا لا نقرر إلا هذا الأمر الفطري المعلوم بالعقل، ونسكت عن الأمر الذي يغلب فيه الهوى؛ هو نقص عظيم، فعبادة غير الله هي التي يسيطر فيها هوى الإنسان على نفسه؛ حتى يصرفه عن عبادة الله وحده، فيعبد الأولياء، ويعبد هواه، حتى جعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي همه الدرهم والدينار ونحوهما، عابدا2، وقال الله- عز وجل-:{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } 3.


فالمعاصي من حيث المعنى العام، أو الجنس العام يمكن أن نعتبرها من الشرك.


1 سورة الأعراف آية : 59.
2 سبق تخريجه (ص 35).
3 سورة آية : 23.



ج / 1 ص -66- وأما بالمعنى الأخص،

فتنقسم إلى أنواع:

1. شرك أكبر.
2. شرك أصغر.

3. معصية كبيرة.


4. معصية صغيرة. وهذه المعاصي منها ما يتعلق بحق الله، ومنها ما يتعلق بحق الإنسان نفسه، ومنها ما يتعلق بحق الخلق. وتحقيق لا إله إلا الله أمر في غاية الصعوبة ولهذا قال بعض السلف: " كل معصية، فهي نوع من الشرك". وقال بعض السلف: "ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص" ولا يعرف هذا إلا المؤمن، أما غير المؤمن; فلا يجاهد نفسه على الإخلاص، ولهذا قيل لابن عباس: " إن اليهود يقولون: نحن لا نوسوس في الصلاة. قال: فما يصنع الشيطان بقلب خرب؟!" فالشيطان لا يأتي ليخرب المهدوم، ولكن يأتي ليخرب المعمور، ولهذا لما شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل يجد في نفسه ما يستعظم أن يتكلم به، قال: " وجدتم ذلك؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان "1 أي: أن ذاك هو العلامة البينة على أن إيمانكم صريح، لأنه ورد عليه، ولا يرد إلا على قلب صحيح خالص.


قوله: " من شهد أن لا إله إلا الله " من: شرطية، وجواب الشرط: " أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ". والشهادة: هي الاعتراف


1 من حديث أبي هريرة, رواه: مسلم (كتاب الإيمان, باب الوسوسة في الإيمان, 1/119).

ج / 1 ص -67- وحده لا شريك له،...

باللسان، والاعتقاد بالقلب، والتصديق بالجوارح، ولهذا لما قال المنافقون للرسول صلى الله عليه وسلم:{ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } 1 وهذه جملة مؤكدة بثلاث مؤكدات: الشهادة، وإن واللام، كذبهم الله بقوله: { وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } 2 فلم ينفعهم هذا الإقرار باللسان؛ لأنه خال من الاعتقاد بالقلب، وخال من التصديق بالعمل، فلم ينفع، فلا تتحقق الشهادة إلا بعقيدة في القلب، واعتراف باللسان، وتصديق بالعمل.
وقوله: "لا إله إلا الله": أي: لا معبود على وجه يستحق أن يعبد إلا الله، وهذه الأصنام التي تعبد لا تستحق العبادة، لأنه ليس فيها من خصائص الألوهية شيء.


قوله: " وحده لا شريك له " : ((وحده)): توكيد للإثبات ((لا شريك له)): توكيد للنفي في كل ما يختص به من الربوبية والألوهية، والأسماء والصفات؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من المؤمنين يلجؤون إلى الله تعالى عند الشدائد، فقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أصحابه، وقد علق سيفه على شجرة فاخترطه الأعرابي، وقال: من يمنعك مني؟ قال: "يمنعني الله"3 ولم يقل أصحابي، وهذا هو تحقيق توحيد الربوبية، لأن الله هو الذي يملك النفع، والضر، والخلق، والتدبير، والتصرف في الملك، إذ لا شريك له فيما يختص به من الربوبية، والألوهية والأسماء والصفات.



1 سورة المنافقون آية : 1.
2 سورة المنافقون آية : 1.
3 من حديث جابر, رواه: البخاري (كتاب الجهاد, باب من علق سيفه بالشجر, 2/335), ومسلم (كتاب صلاة المسافرين, باب صلاة الخوف, 1/576).

ج / 1 ص -68- وأن محمد عبده ورسوله..........


وقولنا: ((فيما يختص به))، حتى نسلم من شبهات كثيرة، منها شبهات النافين للصفات، لأن النافين للصفات زعموا أن إثبات الصفات إشراك بالله عزوجل حيث قالوا: يلزم من ذلك التمثيل، لكننا نقول: للخالق صفات تختص به، وللمخلوق صفات تختص به.


قوله: "وأن محمدا عبده ورسوله": محمد: هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، القرشي، الهاشمي، خاتم النبيين.
وقوله: "عبده"; أي: ليس شريكا مع الله.


وقوله: "ورسوله"؟ أي: المبعوث بما أوحي إليه، فليس كاذبا على الله. فالرسول صلى الله عليه وسلم عبد مربوب، جميع خصائص البشرية تلحقه ما عدا شيئا واحدا، وهو ما يعود إلى أسافل الأخلاق، فهو معصوم منه، قال تعالى: { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ } 1 وقال تعالى: { قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً } 2 فهو بشر مثلنا، إلا أنه يوحى إليه، قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } 3 ومن قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له ظل، أو أن نوره يطفئ ظله إذا مشى في الشمس، فكله كذب باطل، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: " كنت أمد رجلي بين يديه وتعتذر بأن البيوت ليست فيها مصابيح "4، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم له نور، لم تعتذر رضي الله عنها، ولكنه الغلو الذي أفسد الدين والدنيا. والعياذ بالله.


ومن الغلو قول البوصيري في "البردة" المشهورة:


1 سورة الأعراف آية : 188.
2 سورة الجن آية : 21، 22.
3 سورة الكهف آية : 110.
4 أخرجه البخاري (513) ومسلم (512).



ج / 1 ص -69-يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذا يدي فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
قال ابن رجب وغيره: إنه لم يترك لله شيئا ما دامت الدنيا والآخرة من جود الرسول صلى الله عليه وسلم ونشهد أن من يقول هذا، ما شهد أن محمدا عبد الله، بل شهد أن محمدا فوق الله! كيف يصل بهم الغلو إلى هذا الحد؟!
وهذا الغلو فوق غلو النصارى الذين قالوا: إن المسيح ابن الله، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة.


هم قالوا فوق ذلك، قالوا: إن الله يقول: " من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وأنا مع عبدي إذا ذكرني "1 والرسول معنا إذا ذكرناه، ولهذا كان أولئك الغلاة ليلة المولد إذا تلى التالي "المخرف" كلمة المصطفى قاموا جميعا قيام رجل واحد، يقولون: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حضر مجلسنا بنفسه، فقمنا إجلالا له، والصحابة رضي الله عنهم أشد إجلالا منهم ومنا، ومع ذلك إذا دخل عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو حي يكلمهم لا يقومون له، وهؤلاء يقومون إذا تخيلوا أو جاءهم شبح إن كانوا يشاهدون شيئا، فانظر كيف بلغت بهم عقولهم إلى هذا الحد! فهؤلاء ما شهدوا أن محمدا عبد الله ورسوله، وهؤلاء المخرفون مساكين، إن نظرنا إليهم بعين


1 من حديث أبي هريرة, رواه: البخاري (كتاب التوحيد, باب قول الله تعالى: وبحذركم الله نفسه , 4/284), ومسلم (كتاب الذكر والدعاء, باب الحث على ذكر الله تعالى, 4/2061).



ج / 1 ص -70- القدر؟ فنرق لهم، ونسأل الله لهم السلامة والعافية، وإن نظرنا إليهم بعين الشرع; فإننا يجب أن ننابذهم بالحجة حتى يعودوا إلى الصراط المستقيم، والرسول صلى الله عليه وسلم أشد الناس عبودية لله، أخشاهم لله، وأتقاهم لله، قام يصلي حتى تورمت قدماه، وقيل له في ذلك، فقال: " أفلا أكون عبدا شكورا "1 وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، هذا تحقيق العبادة العظيمة.


أما الرسالة؛ فهو رسول أرسله الله- عز وجل- بأعظم شريعة إلى جميع الخلق، فبلغها غاية البلاغ، مع أنه أوذي وقوتل، حتى إنهم جاؤوا بسلا الجزور وهو ساجد عند الكعبة ووضعوه على ظهره، كل ذلك كراهية له ولما جاء به، ومع ذلك صبر، يلقون الأذى والأنتان والأقذار على عتبة بابه، لكن هذا للنبي الكريم امتحان من الله- عز وجل-؛ لأجل أن يتبين صبره وفضله، يخرج ويقول: أي جوار هذا يا بني عبد مناف2، فصبر صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه، وأنذر أم القرى ومن حولها، ثم إنه حَمَّل هذه الشريعةَ مِن بعده أشدَّ الناس أمانة وأقواهم على الاتباع، الصحابة رضي الله عنهم، وأدوها إلى الأمة نقية سليمة، ولله الحمد.


ونحب الرسول صلى الله عليه وسلم لله وفي الله، فحب الرسول صلى الله عليه وسلم من حب الله، ونقدمه على أنفسنا، وأهلنا، وأولادنا، والناس أجمعين، وأحببناه من أجل أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحقق شهادة أن محمدا رسول الله، وذلك بأن نعتقد


1 من حديث عائشة, رواه: البخاري (كتاب التفسير, باب تفسير سورة الفتح 3/293), ومسلم (كتاب صفات المنافقين, باب إكثار الأعمال, 4/2172).


2 ذكره ابن هشام في "السيرة النبوية" (2/54), وابن كثير في "البداية والنهاية" (2/489), وغيرهم من أهل السير.



ج / 1 ص -71- ذلك بقلوبنا، ونعترف به بألسنتنا، ونطبق ذلك في متابعته صلى الله عليه وسلم بجوارحنا، فنعمل بهديه، ولا نعمل له.


أما ما ينقض تحقيق هذه الشهادة، فهو:
1. فعل المعاصي، فالمعصية نقص في تحقيق هذه الشهادة، لأنك خرجت بمعصيتك من اتباع النبي صلى الله عليه وسلم
2. الابتداع في الدين ما ليس منه، لأنك تقربت إلى الله بما لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم والابتداع في الدين في الحقيقة من الاستهزاء بالله، لأنك تقربت إليه بشيء لم يشرعه. فإن قال قائل: أنا نويت التقرب إلى الله بهذا العمل الذي أبتدعه.


قيل له: أنت أخطأت الطريق، فتعذر على نيتك، ولا تعذر على مخالفة الطريق متى علمت الحق. فالمبتدعون قد يقال: إنهم يثابون على حسن نيتهم إذا كانوا لا يعلمون الحق، ولكننا نخطئهم فيما ذهبوا إليه، أما أئمتهم الذين علموا الحق، ولكن ردوه ليبقوا جاههم، ففيهم شبه بأبي جهل، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة، وغيرهم الذين قابلوا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بالرد إبقاء على رئاستهم وجاههم.


أما بالنسبة لأتباع هؤلاء الأئمة، فينقسمون إلى قسمين:
القسم الأول: الذين جهلوا الحق، فلم يعلموا عنه شيئا، ولم يحصل منهم تقصير في طلبه، حيث ظنوا أن ما هم عليه هو الحق، فهؤلاء معذورون.
القسم الثاني: من علموا الحق، ولكنهم ردوه تعصبا لأئمتهم، فهؤلاء لا يعذرون، وهم كمن قال الله فيهم: { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ } 1.


1 سورة الزخرف آية : 22.

ج / 1 ص -72- وأن عيسى عبد الله ورسوله...........

وقوله: "وأن عيسى عبد الله ورسوله": الكلام فيها كالكلام في شهادة أن محمدا رسول الله، إلا أننا نؤمن برسالة عيسى، ولا يلزمنا اتباعه إذا خالفت شريعته شريعتنا.

فشريعة من قبلنا لها ثلاث حالات
الأولى: أن تكون مخالفة لشريعتنا، فالعمل على شرعنا.
الثانية: أن تكون موافقة لشريعتنا، فنحن متبعون لشريعتنا.
الثالثة: أن يكون مسكوتا عنها في شريعتنا، وفي هذه الحال اختلف علماء الأصول: هل نعمل بها، أو ندعها؟ والصحيح أنها شرع لنا، ودليل ذلك:
1. قوله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } 1.
2. قوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ } 2.


وقد تطرف في عيسى طائفتان:
الأولى: اليهود كذبوه، فقالوا: بأنه ولد زنى، وأن أمه من البغايا، وأنه ليس بنبي، وقتلوه شرعا، أي: محكوم عليهم عند الله أنهم قتلوه في حكم الله الشرعي، لقوله تعالى عنهم: { إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } 3 وأما بالنسبة لحكم الله القدري، فقد كذبوا، وما قتلوه يقينا، بل رفعه الله إليه، ولكن شبه لهم، فقتلوا المشبه لهم وصلبوه.
الثانية: النصارى قالوا: إنه ابن الله، وإنه ثالث ثلاثة، وجعلوه إلها مع الله، وكذبوا فيما قالوا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 90.
2 سورة يوسف آية : 111.
3 سورة النساء آية : 157.

ج / 1 ص -73- وكلمته ألقاها إلى مريم.......


أما عقيدتنا نحن فيه: فنشهد أنه عبد الله ورسوله، وأن أمه صديقة، كما أخبر الله تعالى بذلك، وأنها أحصنت فرجها، وأنها عذراء، ولكن مثله عند الله كمثل آدم، خلقه من تراب ثم قال له: كن، فيكون.
وفي قوله: "عبد الله": رد على النصارى.
وفي قوله: "ورسوله": رد على اليهود.


قوله: "وكلمته ألقاها إلى مريم": أطلق الله عليه كلمة، لأنه خلق بالكلمة عليه السلام، فالحديث ليس على ظاهره، إذ عيسى عليه السلام ليس كلمة، لأنه يأكل، ويشرب، ويبول ويتغوط، وتجري عليه جميع الأحوال البشرية، قال الله تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } 1 وعيسى عليه السلام ليس كلمة الله، إذ أن كلام الله وصف قائم به، لا بائن منه، أما عيسى، فهو ذات بائنة عن الله- سبحانه- يذهب ويجيء، ويأكل الطعام ويشرب.


قـوله: " ألقاها إلى مريم " أي: وجهها إليها بقـوله: { كُنْ فَيَكُونُ } كما قـال تعـالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } 2.


ومريم ابنة عمران ليست أخت موسى وهارون عليهما السلام كما يظنه بعض الناس، ولكن كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم3 فهارون أخو مريم، ليس هارون أخا موسى، بل هو آخر يسمى باسمه، وكذلك عمران سمي باسم أبي موسى.


1 سورة آل عمران آية : 59.
2 سورة آل عمران آية : 59.
3 من حديث المغيرة بن شعبة, رواه: مسلم (كتاب الأدب, باب النهي عن التكني بأبي القاسم وما يستحب من الأسماء, 3/1685).

ج / 1 ص -74- وروح منه، والجنة حق، والنار حق،.........


قوله: { وَرُوحٌ مِنْهُ } أي: صار جسده عليه السلام بالكلمة، فنفخت فيه هذه الروح التي هي من الله، أي: خلق من مخلوقاته أضيفت إليه تعالى للتشريف والتكريم.
وعيسى عليه السلام ليس روحا، بل جسد ذو روح، قال الله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ } 1 فبالنفخ صار جسدا، وبالروح صار جسدا وروحا.


وقوله: "منه": هذه هي التي ضل بها النصارى، فظنوا أنه جزء من الله، فضلوا وأضلوا كثيرا، ولكننا نقول: إن الله قد أعمى بصائركم، {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}، فمن المعلوم أن عيسى عليه السلام كان يأكل الطعام، وهذا شيء معروف، ومن المعلوم أيضا أن واليهود يقولون: إنهم صلبوه، وهل يمكن لمن كان جزءا من الرب أن ينفصل عن الرب ويأكل، ويشرب ويدعى أنه قتل وصلب؟ وعلى هذا تكون "من" للابتداء، وليست للتبعيض، فهي كقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ } 2 فلا يمكن أن نقول: إن الشمس والقمر والأنهار جزء من الله وهذا لم يقل به أحد.


فقوله: "منه"; أي: روح صادرة من الله- عز وجل-، وليست جزء من الله كما تزعم النصارى.
واعلم أن ما أضافه الله إلى نفسه ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: العين قائمة بنفسها، وإضافتها إليه من باب إضافة المخلوق



1 سورة المائدة آية : 75.
2 سورة الجاثية آية : 13.

ج / 1 ص -75-


إلى خالقه، وهذه الإضافة قد تكون على سبيل عموم الخلق; كقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ } 1 وقوله تعالى: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ } 2 وقد تكون على سبيل الخصوص لشرفه، كقوله تعالى: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } 3 وكقوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} 4 وهذا القسم مخلوق.


الثاني: أن يكون شيئا مضافا إلى عين مخلوقة يقوم بها، مثاله قوله تعالى: { وَرُوحٌ مِنْهُ }فإضافة هذه الروح إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى خالقه تشريفا، فهي روح من الأرواح التي خلقها الله، وليست جزء أو روحا من الله، إذ إن هذه الروح حلت في عيسى عليه السلام، وهو عين منفصلة عن الله، وهذا القسم مخلوق أيضا.


الثالث: أن يكون وصفا غير مضاف إلى عين مخلوقة.
مثال ذلك قوله تعالى: { إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي } 5.
فالرسالة والكلام أضيفا إلى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، فإذا أضاف الله لنفسه صفة، فهذه الصفة غير مخلوقة، وبهذا يتبين أن هذه الأقسام الثلاثة: قسمان منها مخلوقان، وقسم غير مخلوق.


فالأعيان القائمة بنفسها والمتصل بهذه الأعيان مخلوقة، والوصف الذي لم يذكر له عين يقوم بها غير مخلوق، لأنه يكون من صفات الله، وصفات الله غير مخلوقة.
وقد اجتمع القسمان في قوله: "كلمته، وروح منه"; فكلمته هذه وصف مضاف إلى الله، وعلى هذا، فتكون كلمته صفة من صفات الله.



1 سورة الجاثية آية : 13.
2 سورة العنكبوت آية : 56.
3 سورة البقرة آية : 125.
4 سورة الشمس آية : 13.
5 سورة الأعراف آية : 144.

ج / 1 ص -76- أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " أخرجاه1.
ولهما2 في حديث عتبان:.....

وروح منه: هذه أضيفت إلى عين; لأن الروح حلت في عيسى، فهي مخلوقة.
قوله: "أدخله الله الجنة": إدخال الجنة ينقسم إلى قسمين:
الأول: إدخال كامل لم يسبق بعذاب لمن أتم العمل.
الثاني: إدخال ناقص مسبوق بعذاب لمن نقص العمل. فالمؤمن إذا غلبت سيئاته حسناته إن شاء الله عذبه بقدر عمله، وإن شاء لم يعذبه، قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } 3.
قوله: "عتبان": هو عتبان بن مالك الأنصاريرضي الله عنه كان يصلي بقومه، فضعف بصره، وشق عليه الذهاب إليهم، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إليه وأن يصلي في مكان من بيته ليتخذه مصلى، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه طائفة من أصحابه، منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما دخل البيت، قال: أين تريد أن أصلي؟. قال: صل ها هنا.
وأشار إلى ناحية من البيت، فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم جلس على طعام صنعوه له، فجعلوا يتذاكرون، فذكروا رجلا يقال له



1 رواه: البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء, باب قوله تعالى: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم} , 2/486), ومسلم (كتاب الإيمان, باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة, 1/57).
2 من حديث عتبان بن مالك, رواه: البخاري (كتاب الصلاة, باب المساجد في البيوت, 1/ 154), ومسلم (كتاب المساجد, باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر, 1/455).
3 سورة النساء آية : 48.



ج / 1 ص -77- "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله".


مالك بن الدخشم، فقال بعضهم: هو منافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقل هكذا، أليس قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله؟ !. ثم قال: فإن الله حرم على النار... " الحديث.
فنهاهم أن يقولوا هكذا، لأنهم لا يدرون عما في قلبه، لأنه يشهد أن لا إله إلا الله، وهنا الرسول قال هكذا، ولم يبرئ الرجل، إنما أتى بعبارة عامة بأن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله، ونهى أن نطلق ألسنتنا في عباد الله الذين ظاهرهم الصلاح، ونقول: هذا مراء، هذا فاسق، وما أشبه ذلك، لأننا لو أخذنا بما نظن فسدت الدنيا والآخرة; فكثير من الناس نظن بهم سوءا ولكن لا يجوز أن نقول ذلك وظاهرهم الصلاح، ولهذا قال العلماء: يحرم ظن السوء بمسلم ظاهره العدالة.


قوله: " فإن الله حرم على النار " أي: منع من النار، أو منع النار أن تصيبه.
قوله: " من قال: لا إله إلا الله " أي: بشرط الإخلاص، بـدليل قولـه: " يبتغي بذلك وجه الله " أي: يطلب وجه الله ومن طلب وجها، فلا بد أن يعمل كل ما في وسعه للوصول إليه، لأن مبتغي الشيء يسعى في الوصول إليه، وعليه، فلا نحتاج إلى قول الزهري رحمه الله بعد أن ساق الحديث، كما في "صحيح مسلم"1 حيث قال: " ثم وجبت بعد ذلك أمور، وحرمت أمور، فلا يغتر مغتر بهذا" فالحديث واضح الدلالة على شرطية العمل لمن قال: لا إله إلا الله، حيث قال: " يبتغي بذلك وجه الله "،



1 في (كتاب المساجد, باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر, 1/456).

ج / 1 ص -78- وعن أبي سعيد الخدريرضي الله عنهعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قال موسى عليه السلام: يا رب! علمني شيئا أذكرك وأدعوك


ولذا قال بعض السلف عند قول النبي صلى الله عليه وسلم " مفتاح الجنة: لا إله إلا الله "1 : (لكن من أتى بمفتاح لا أسنان له لا يفتح له).
قال شيخ الإسلام: إن المبتغي لا بد أن يكمل وسائل البغية، وإذا أكملها حرمت عليه النار تحريما مطلقا، فإذا أتى بالحسنات على الوجه الأكمل، فإن النار تحرم عليه تحريما مطلقا، وإن أتى بشيء ناقص، فإن الابتغاء فيه نقص، فيكون تحريم النار عليه فيه نقص، لكن يمنعه ما معه من التوحيد من الخلود في النار، وكذا من زنى، أو شرب الخمر، أو سرق، فإذا فعل شيئا من ذلك ثم قال حين فعله: أشهد أن لا إله إلا الله أبتغي بذلك وجه الله، فهو كاذب في زعمه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "2 فضلا عن أن يكون مبتغيا وجه الله.


وفي الحديث رد على المرجئة الذين يقولون: يكفي قول: لا إله إلا الله، دون ابتغاء وجه الله. وفيه رد على الخوارج والمعتزلة، لأن ظاهر الحديث أن من فعل هذه المحرمات لا يخلد في النار، لكنه مستحق للعقوبة، وهم يقولون: إن فاعل الكبيرة مخلد في النار.
قوله: "أذكرك وأدعوك به": صفة لشيء، وليست جواب الطلب، فموسى عليه السلام طلب شيئا يحصل به أمران:



1 كما في "صحيح البخاري" عن وهب بن منبه. انظر: "الفتح" (3/109). والحديث عزاه الهيثمي للإمام أحمد والبزار. وخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/16), ولفظه: "مفاتيح الجنة...".
2 من حديث أبي هريرة, رواه: البخاري (كتاب المظالم, باب النهبى بغير إذن صاحبه, 2/ 201) ومسلم (كتاب الإيمان, باب نقصان الإيمان بالمعاصي, 1/76).

ج / 1 ص -79- به قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا؟ قال: يا موسى! لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة،......

1. ذكر الله.
2. دعاؤه. فأجاب الله بقوله: "قل لا إله إلا الله"، وهذه الجملة ذكر متضمن للدعاء، لأن الذاكر يريد رضا الله عنه، والوصول إلى دار كرامته، إذن، فهو


ذكر متضمن للدعاء، قال الشاعر:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك إن شيمتك الحباء
يعني: عطاؤك.
واستشهد ابن عباس على أن الذكر بمعنى الدعاء بقول الشاعر:
إذا أثنى عليك العبد يوما كفاه من تعرضه الثناء
قوله: "كل عبادك يقولون هذا": ليس المعنى أنها كلمة هينة كل يقولها، لأن موسى عليه الصلاة والسلام يعلم عظم هذه الكلمة، ولكنه أراد شيئا يختص به، لأن تخصيص الإنسان بالأمر يدل على منقبة له ورفعة; فبين الله لموسى أنه مهما أعطي فلن يعطى أفضل من هذه الكلمة، وأن لا إله إلا الله أعظم من السماوات والأرض وما فيهن، لأنها تميل بهن وترجح، فدل ذلك على فضل لا إله إلا الله وعظمها لكن لا بد من الإتيان بشروطها، أما مجرد أن يقولها القائل بلسانه، فكم من إنسان يقولها لكنها عنده كالريشة لا تساوي شيئا، لأنه لم يقلها على الوجه الذي تمت به الشروط وانتفت به الموانع.


قوله: "والأرضين السبع": في بعض النسخ بالرفع، وهذا لا يصلح، لأنه إذا عطف على اسم أن قبل استكمال الخبر وجب النصب.

ج / 1 ص -80- و (لا إله إلا الله) في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله " رواه ابن حبان والحاكم وصححه1.
وللترمذي وحسنه عن أنس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: يا ابن آدم!.....


قوله: "مالت": أي: رجحت حتى يملن. قوله: "عامرهن": أي: ساكنهن، فالعامر للشيء هو الذي عمر به الشيء.
قوله: "غيري": استثنى نفسه تبارك وتعالى، لأن قول لا إله إلا الله ثناء عليه، والمثنى عليه أعظم من الثناء، وهنا يجب أن تعرف أن كون الله تعالى في السماء ليس ككون الملائكة في السماء، فكون الملائكة في السماء كون حاجي، فهم ساكنون في السماء لأنهم محتاجون إلى السماء، لكن الرب تبارك وتعالى ليس محتاجا إليها، بل إن السماء وغير السماء محتاج إلى الله تعالى، فلا يظن ظانّ أن السماء تُقِلُّ الله أو تُظِلُّهُ أو تحيط به، وعليه، فالسماوات باعتبار الملائكة أمكنة مقلة للملائكة، وما فوقهم منها مُظِلٌّ لهم، أما بالنسبة لله فهي جهة لأن الله تعالى مستو على عرشه، لا يُقِلُّه شيء من خلقه.


قوله: "قال الله تعالى: يا ابن آدم..." إلخ: هذا من الأحاديث القدسية، والحديث القدسي: ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه، وقد أدخله


ـ
1 رواه: ابن حبان برقم (2324), والحاكم (1/528) - وصححه ووافقه الذهبي-, والبيهقي في "الأسماء والصفات" (ص 102). وعزاه الهيثمي في "المجمع" (10/82) لأبي يعلى, وقال: "رجاله وثقوا على ضعف فيهم". وفي إسناده دراج بن سمعان, أبو السمح, وهو ضعيف. انظر: "تقريب التهذيب" (1/235).



ج / 1 ص -81- المحدثون في الأحاديث النبوية، لأنه منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تبليغا، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كل واحد منهما قد بلغه النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن الله- عز وجل-.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في لفظ الحديث القدسي هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم معناه

واللفظ لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قولين:
القول الأول: أن الحديث القدسي من عند الله لفظه ومعناه; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقله، لا سيما والنبي صلى الله عليه وسلم أقوى الناس أمانة وأوثقهم رواية.


القول الثاني: أن الحديث القدسي معناه من عند الله ولفظه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لوجهين:
الوجه الأول: لو كان الحديث القدسي من عند الله لفظا ومعنى، لكان أعلى سندا من القرآن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه تعالى بدون واسطة، كما هو ظاهر السياق، أما القرآن، فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل، كما قال تعالى:{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ } 1 [النحل: 102] وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 2 [الشعراء: 193- 195]
الوجه الثاني: أنه لو كان لفظ الحديث القدسي من عند الله، لم يكن بينه وبين القرآن فرق، لأن كليهما على هذا التقدير كلام الله تعالى، والحكمة تقتضي تساويهما في الحكم حين اتفقا في الأصل، ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسي فروقاً كثيرة:



1 سورة النحل آية : 102.
2 سورة الشعراء الآيات : 193- 195.

ج / 1 ص -82-

منها: أن الحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته، بمعنى أن الإنسان لا يتعبد لله تعالى بمجرد قراءته، فلا يثاب على كل حرف منه عشر حسنات، والقرآن يتعبد بتلاوته بكل حرف منه عشر حسنات.
ومنها: أن الله تعالى تحدى أن يأتي الناس بمثل القرآن أو آية منه، ولم يرد مثل ذلك في الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن محفوظ من عند الله تعالى، كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1 [الحجر: 9] والأحاديث القدسية بخلاف ذلك، ففيها الصحيح والحسن، بل أضيف إليها ما كان ضعيفا أو موضوعا، وهذا وإن لم يكن منها لكن نسب إليها وفيها التقديم والتأخير والزيادة والنقص.
ومنها: أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، وأما الأحاديث القدسية فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبوي بالمعنى والأكثرون على جوازه.
ومنها: أن القرآن تشرع قراءته في الصلاة ومنه ما لا تصح الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن لا يمسه إلا طاهر على الأصح، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن لا يقرؤه الجنب حتى يغتسل على القول الراجح، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن ثبت بالتواتر القطعي المفيد للعلم اليقيني، فلو أنكر منه حرفا أجمع القراء عليه، لكان كافرا، بخلاف الأحاديث القدسية،




1 سورة الحجر آية : 9.

ج / 1 ص -83-
فإنه لو أنكر شيئا منها مدعيا أنه لم يثبت، لم يكفر، أما لو أنكره مع علما أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، لكان كافرا لتكذيبه النبي صلى الله عليه وسلم
وأجاب هؤلاء عن كون النبي صلى الله عليه وسلم أضافه إلى الله، والأصل في القول المضاف أن يكون لفظ قائله بالتسليم أن هذا هو الأصل، لكن قد يضاف إلى قائله معنى لا لفظا، كما في القرآن الكريم، فإن الله تعالى يضيف أقوالا إلى قائليها، ونحن نعلم أنها أضيفت معنى لا لفظا، كما في "قصص الأنبياء" وغيرهم، وكلام الهدهد والنملة; فإنه بغير هذا اللفظ قطعا.


وبهذا يتبين رجحان هذا القول، وليس الخلاف في هذا كالخلاف بين الأشاعرة وأهل السنة في كلام الله تعالى، لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى، فأهل السنة يقولون: كلام الله تعالى كلام حقيقي مسموع يتكلم سبحانه بصوت وحرف، والأشاعرة لا يثبتون ذلك، وإنما يقولون: كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه، وليس بحرف وصوت، ولكن الله تعالى يخلق صوتا يعبر به عن المعنى القائم بنفسه، ولا شك في بطلان قولهم، وهو في الحقيقة قول المعتزلة، لأن المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق، وهو كلام الله، وهؤلاء يقولون: القرآن مخلوق، وهو عبارة عن كلام الله، فقد اتفق الجميع على أن ما بين دفتي المصحف مخلوق.


ثم لو قيل في مسألتنا- الكلام في الحديث القدسي-: إن الأولى ترك الخوض في هذا، خوفا من أن يكون من التنطع الهالك فاعله، والاقتصار على القول بأن الحديث القدسي ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه وكفى، لكان ذلك كافيا، ولعله أسلم والله أعلم.



ج / 1 ص -84- لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة "1.

(فائدة):
إذا انتهى سند الحديث إلى الله تعالى سمي (قدسيا)، لقدسيته وفضله، وإذا انتهى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم سمي مرفوعا، وإذا انتهى إلى الصحابي سمي موقوفا، وإذا انتهى إلى التابعي فمن بعده سمي مقطوعا.
قوله: "بقراب الأرض": أي: ما يقاربها، إما ملئا، أو ثقلا، أو حجما. قوله: "خطايا": جمع خطيئة، وهي الذنب، والخطايا الذنوب، ولو كانت صغيرة، لقوله تعـالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } [البقرة: 81]. قوله: "لا تشرك بي شيئا": جملة "لا تشرك" في موضع نصب على الحال من التاء، أي: لقيتني في حال لا تشرك بي شيئا.


قوله: "شيئا": نكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي: لا شركا أصغر ولا أكبر. وهذا قيد عظيم قد يتهاون به الإنسان، ويقول: أنا غير مشرك وهو لا يدري، فحب المال مثلا بحيث يلهي عن طاعة الله من الإشراك، قال النبي صلى الله عليه وسلم " تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخمصية، تعس عبد الخميلة... "2 الحديث.



1 رواه: الترمذي (الدعوات, باب فضل التوبة والاستغفار, (5/548) رقم (3540), وله شاهد عند مسلم (2687) من حديث أبي ذر.
2 البخاري : الرقاق (6435) , وابن ماجه : الزهد (4136).

ج / 1 ص -85- ·فيه مسائل:
الأولى: سعة فضل الله.
الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله.
الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب.
الرابعة: تفسير الآية التي في سورة الأنعام.


فسمى النبي صلى الله عليه وسلم من كان هذا همه: عبدا له.
قوله: "لأتيتك بقرابها مغفرة": أي: أن حسنة التوحيد عظيمة تكفر الخطايا الكبيرة؛ إذا لقي الله وهو لا يشرك به شيئا، والمغفرة ستر الذنب والتجاوز عنه.


مناسبة الحديث للترجمة

أن في هذا الحديث فضل التوحيد، وأنه سبب لتكفير الذنوب، فهو مطابق لقوله في الترجمة: "وما يكفر من الذنوب".

قوله: "فيه مسائل":
·الأولى: سعة فضل الله: لقوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "أدخله الله الجنة على ما كان من العمل".
·الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله لقوله تعالى: "مالت بهن لا إله إلا الله".
·الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب: لقوله تعالى: "لأتيتك بقرابها مغفرة"، فالإنسان قد تغلبه نفسه أحيانا، فيقع في الخطايا، لكنه مخلص لله في عبادته وطاعته، فحسنة التوحيد تكفر عنه الخطايا إذا لقي الله بها.


·الرابعة: تفسير الآية التي في سورة الأنعام: وهي قوله تعالى:

ج / 1 ص -86- الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة.
السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده، تبين لك معنى قول:لا إله إلا الله، وتبين لك خطأ المغرورين.
السابعة: التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان.


{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } 1 فالظلم هنا الشرك، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ألم تسمعوا قول الرجل الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 2.
الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة.
1. 2. الشهادتان.
3. أن عيسى عبد الله، ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه
4. الجنة حق.
5. أن النار حق.
·السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان، وحديث أبي سعيد، وحديث أنس، تبين لك معنى قول: (لا إله إلا الله) وتبين لك خطأ المغرورين؛ لأنه لا بد أن يبتغي بها وجه الله، وإذا كان كذلك، فلا بد أن تحمل المرء على العمل الصالح.


·السابعة: التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان: وهو أن يبتغي بقولها وجه الله، ولا يكفي مجرد القول، لأن المنافقين كانوا يقولونها ولم تنفعهم.



1 سورة الأنعام آية : 82.
2 سورة لقمان آية : 13.

ج / 1 ص -87- الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله).
التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه.
العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسماوات.

· الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله: فغيرهم من باب أولى.


·التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه: فالبلاء من القائل لا من القول، لأنه قد يكون اختل شرط من الشروط، أو وجد مانع من الموانع، فإنها تخف بحسب ما عنده، أما القول نفسه، فيرجح بجميع المخلوقات.
·العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسماوات: لم يرد في القرآن تصريح بذلك، بل ورد صريحا أن السماوات سبع بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ } 1 لكن بالنسبة للأرضين لم يرد إلا قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } 2 فالمثلية بالكيفية غير مرادة لظهور الفرق بين السماء والأرض في الهيئة، والكيفية، والارتفاع، والحسن، فبقيت المثلية في العدد.


أما السنة، فهي صريحة جدا بأنها سبع، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " من اقتطع شبرا من الأرض، طوقه يوم القيامة من سبع أرضين "3، وقد اختلف في قوله صلى الله عليه وسلم "من سبع أرضين"; كيف تكون سبعا؟ فقيل: المراد: القارات



1 سورة المؤمنون آية : 86.
2 سورة الطلاق آية : 12.
3 من حديث سعيد بن زيد, رواه: مسلم (كتاب المساقاة, باب تحريم الظلم وغصب الأرض, 3/1230).

ج / 1 ص -88- السبع، وهذا ليس بصحيح، لأن هذا يمتنع بالنسبة لقوله: "طوقه من سبع أرضين"، وقيل: المراد المجموعة الشمسية، لكن ظاهر النصوص أنها طباق كالسماوات، وليس لنا أن نقول إلا ما جاء في الكتاب والسنة عن هذه الأرضين، لأننا لا نعرفها.
الحادية عشرة: أن لهن عمارا.
الثانية عشرة: إثبات الصفات خلافا للأشعرية.
الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس، عرفت أن قوله في حديث عتبان: " فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله "1 أن ترك الشرك، ليس قولها باللسان.


السبع، وهذا ليس بصحيح، لأن هذا يمتنع بالنسبة لقوله: "طوقه من سبع أرضين"، وقيل: المراد المجموعة الشمسية، لكن ظاهر النصوص أنها طباق كالسماوات، وليس لنا أن نقول إلا ما جاء في الكتاب والسنة عن هذه الأرضين، لأننا لا نعرفها.


·الحادية عشرة: أن لهن عمارا: أي: السماوات، وعمارهن الملائكة.
·الثانية عشرة: إثبات الصفات خلافا للأشعرية وفي بعض النسخ خلافا للمعطلة، وهذه أحسن، لأنها أعم، حيث تشمل الأشعرية والمعتزلة والجهمية وغيرهم، ففيه إثبات الوجه لله سبحانه بقوله: "يبتغي بذلك وجه الله"، وإثبات الكلام بقوله: "وكلمته ألقاها"، وإثبات القول في قوله: "قل لا إله إلا الله".
·الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس، عرفت أن قوله في حديث عتبان: " فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله أن ترك الشرك. ". وفي بعـض النسخ:" إذا ترك الشرك " أي: أن قولـه:" حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك (يعني: ترك الشرك) ". وليست مجرد قولها باللسان، لأن من ابتغى وجه الله في هذا القول لا يمكن أن يشرك أبدا.



1 البخاري : الصلاة (425) , ومسلم : المساجد ومواضع الصلاة (33).

ج / 1 ص -89- الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه.
الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله.
السادسة عشرة: معرفة كونه روحا منه.
السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار.

الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون كل من عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه: عبدي: منصوب على أنه خبر كون، لأن كون مصدر كان وتعمل عملها

وعيسى ومحمد: اسم كون. وتأمل الجمع من وجهين:
الأول: أنه جمع لكل منهما بين العبودية والرسالة.
الثاني: أنه جمع بين الرجلين، فتبين أن عيسى مثل محمد، وأنه عبد ورسول، وليس ربا ولا ابنا للرب- سبحانه- وقول المؤلف: "تأمل"، لأن هذا يحتاج إلى تأمل..


·الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله: أي: أن عيسى انفرد عن محمد في أصل الخلقة، فقد كان بكلمة، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد خلق من ماء أبيه.
·السادسة عشرة: معرفة كونه روحا منه: أي: أن عيسى روح من الله، و "من" هنا بيانية أو للابتداء، وليست للتبعيض، أي: روح جاءت من قبل الله وليست بعضا من الله، بل هي من جملة الأرواح المخلوقة.


·السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار لقوله في حديث عبادة: "وأن الجنة حق، والنار حق"، والفضل أنه من أسباب دخول الجنة.

ج / 1 ص -90- الثامنة عشرة: معرفة قوله: "على ما كان من العمل".
التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان.
العشرون: معرفة ذكر الوجه.

·الثامنة عشرة: معرفة قوله: "على ما كان من العمل": أي: على ما كان من العمل الصالح ولو قل، أو على ما كان من العمل السيئ ولو كثر، بشرط أن لا يأتي بما ينافي التوحيد ويوجب الخلود في النار، لكن لا بد من العمل.
ولا يلزم استكمال العمل الصالح كما قالت المعتزلة والخوارج، ولم تذكر أركان الإسلام هنا; لأن منها ما يكفر الإنسان بتركه، ومنها ما لا يكفر، فإن الصحيح أنه لا يكفر إلا بترك الشهادتين والصلاة، وإن كان روي عن الإمام أحمد أن جميع أركان الإسلام يكفر بتركها; لكن الصحيح خلاف ذلك.


·التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان؛ أخذها المؤلف من قوله: "لو أن السماوات... إلخ، وضعت في كفة و(لا إله إلا الله) في كفة". والظاهر أن الذي في الحديث تمثيل، يعني أن قول: (لا إله إلا الله) أرجح من كل شيء، وليس في الحديث أن هذا الوزن في الآخرة، وكأن المؤلف رحمه الله حصل عنده انتقال ذهني; فانتقل ذهنه من هذا إلى ميزان الآخرة.


·العشرون: معرفة ذكر الوجه: يعني: وجه الله تعالى، وهو صفة من صفاته الخبرية الذاتية التي مسماها بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء، لأن من صفات الله تعالى ما هو معنى محض، ومنه ما مسماه بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء، ولا نقول بالنسبة لله تعالى أبعاض، لأننا نتحاشى كلمة التبعيض في جانب الله تعالى.




المصدر :


كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 28-01-2015 02:49PM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب

ج / 1 ص -91- باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب

هذا الباب كالمتمم للباب الذي قبله; لأن الذي قبله: "باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب"، فمن فضله هذا الفضل العظيم الذي يسعى إليه كل عاقل، وهو دخول الجنة بغير حساب.

قوله: "من": شرطية، وفعل الشرط: "حقق" وجوابه: "دخل"، قوله: "بلا حساب"، أي: لا يحاسب لا على المعاصي ولا على غيرها.

وتحقيق التوحيد: تخليصه من الشرك،
ولا يكون إلا بأمور ثلاثة:
الأول: العلم; فلا يمكن أن تحقق شيئا قبل أن تعلمه، قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } 1.

الثاني: الاعتقاد، فإذا علمت ولم تعتقد واستكبرت، لم تحقق التوحيد، قال الله تعالى عن الكافرين: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2 فما اعتقدوا انفراد الله بالألوهية.

الثالث: الانقياد، فإذا علمت واعتقدت ولم تنقد، لم تحقق التوحيد، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 3 فإذا حصل هذا وحقق التوحيد; فإن الجنة مضمونة له بغير حساب، ولا يحتاج أن نقول إن شاء الله، لأن هذا حكاية حكم ثابت شرعا، ولهذا جزم المؤلف رحمه الله تعالى بذلك في الترجمة دون أن يقول: إن شاء الله.

أما بالنسبة للرجل المعين، فإننا نقول: إن شاء الله.


1 سورة محمد آية : 19.
2 سورة ص آية : 5.
3 سورة آية : 36-37.

ج / 1 ص -92- وقـول الله تعـالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1.


وقد ذكر المؤلف في هذا الباب آيتين، ومناسبتهما للباب الإشارة إلى تحقيق التوحيد، وأنه لا يكون إلا بانتفاء الشرك كله.
·الآية الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } الآية.
قول: (أمة): أي: إماما، وقد سبق أن أمة تأتي في القرآن على أربعة أوجه: إمام، ودهر، وجماعة، ودين.
وقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } هذا ثناء من الله- سبحانه وتعالى - على إبراهيم بأنه إمام متبوع، لأنه أحد الرسل الكرام من أولي العزم، ثم إنه صلى الله عليه وسلم قدوة في أعماله وأفعاله وجهاده، فإنه جاهد قومه وحصل منهم عليه ما حصل، وألقي في النار فصبر. ثم ابتلاه الله- سبحانه وتعالى- بالأمر بذبح ابنه، وهو وحيده، وقد بلغ معه السعي (أي: شب وترعرع)، فليس كبيرا قد طابت النفس منه، ولا صغيرا لم تتعلق به النفس كثيرا، فصار على منتهى تعلق النفس به، ثم وفق إلى ابن بار مطيع لله، قال الله تعالى عنه: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} 2 لم يحنث والده ويتمرد ويهرب، بل أراد من والده أن يوافق أمر ربه، وهذا من بره بأبيه وطاعته لمولاه سبحانه وتعالى، وانظر إلى هذه القوة العظيمة مع الاعتماد على الله في قوله: { ُسَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} 3.


فالسين في قوله: (ستجدني) تدل على التحقيق، وهو مع ذلك لم يعتمد على نفسه، بل استعان بالله في قوله: إن شاء الله. وامتثلا جميعا



1 سورة النحل آية : 120.
2 سورة الصافات آية : 102.
3 سورة الصافات آية : 102.


ج / 1 ص -93- وأسلما، وانقادا لله- عز وجل-، وتله للجبين، أي: على الجبين، أي جبهته، لأجل أن يذبحه وهـو لا يرى وجهه، فجاء الفرج مـن الله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} 1 ولا يصح ما ذكره بعضهم من أن السكين انقلبت، أو أن رقبته صارت حديدا، ونحو ذلك.


وقوله: " قانتا ": القنوت: دوام الطاعة، والاستمرار فيها على كل حال، فهو مطيع لله، ثابت على طاعته، مديم لها في كل حال. كما أن ابنه محمدا صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه2 إن قام ذكر الله، وإن جلس ذكره، وإن نام، وإن أكل، وإن قضى حاجته ذكر الله، فهو قانت آناء الليل والنهار.
وقوله: (حنيفا): أي: مائلا عن الشرك، مجانبا لكل ما يخالف الطاعة، فوصف بالإثبات والنفي، أي: بالوصفين الإيجابي والسلبي.


وقوله: { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3 تأكيد، لاستمراره على التوحيد، فقد كان عليه الصلاة والسلام معصوما عن الشرك، مع أن قومه كانوا مشركين، فوصفه الله بامتناعه عن الشرك استمرارا في قوله: (حنيفا) وابتداء في قوله: { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 4 والدليل على ذلك: أن الله جعله إماما، ولا يجعل الله للناس إماما من لم يحقق التوحيد أبدا.


ومن تأمل حال إبراهيم عليه السلام وما جرى عليه وجد أنه في غاية ما يكون من مراتب الصبر، وفي غاية ما يكون من مراتب اليقين، لأنه لا يصبر على هذه الأمور العظيمة إلا من أيقن بالثواب، فمن عنده شك أو



1 سورة آية : 104-106.
2 من حديث عائشة, رواه: مسلم (كتاب الحيض, باب ذكر الله تعالى حال الجنابة, 1/ 282).
3 سورة النحل آية : 120.
4 سورة النحل آية : 120.

ج / 1 ص -94-

تردد لا يصبر على هذا، لأن النفس لا تدع شيئا إلا لما هو أحب إليها منه، ولا تحب شيئا إلا ما ظنت فائدته، أو تيقنت.
ويجب أن نعلم أن ثناء الله على أحد من خلقه لا يقصد منه أن يصل إلينا الثناء فقط،

لكن يقصد منه أمران هامان:
الأول: محبة هذا الذي أثنى الله عليه خيرا، كما أن من أثنى الله عليه شرا، فإننا نبغضه ونكرهه، فنحب إبراهيم عليه السلام، لأنه كان إماما حنيفا قانتا لله ولم يكن من المشركين، ونكره قومه، لأنهم كانوا ضالين، ونحب الملائكة وإن كانوا من غير جنسنا، لأنهم قائمون بأمر الله، ونكره الشياطين، لأنهم عاصون لله وأعداء لنا ولله، ونكره أتباع الشياطين، لأنهم عاصون لله أيضا وأعداء لله ولنا.


الثاني: أن نقتدي به في هذه الصفات التي أثنى الله بها عليه، لأنها محل الثناء، ولنا من الثناء بقدر ما اقتدينا به فيها، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ } 1، وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } 2 وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ } 3 وهذه مسألة مهمة، لأن الإنسان أحيانا يغيب عن باله الغرض الأول، وهو محبة هذا الذي أثنى الله عليه خيرا، ولكن لا ينبغي أن يغيب، لأن الحب في الله، والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان.


فائدة
أبو إبراهيم مات على الكفر، والصواب الذي نعتقده أن اسمه آزر، كما قال الله تعالى:{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً } 4، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلاَّ عَنْ


1 سورة يوسف آية : 111.
2 سورة الممتحنة آية : 4.
3 سورة الممتحنة آية : 6.
4 سورة الأنعام آية : 74.

ج / 1 ص -95- وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} 1.

مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ } 2لأنه قال: { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} 3،:{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} 4، وفي سورة إبراهيم قال:{ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} 5 ولكن فيما بعد تبرأ منه أما نوح، فقال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} 6، وهذا يدل على أن أبوي نوح كانا مؤمنين.


فائدة أخرى:
قال الإمام أحمد: ثلاثة ليس لها أصل: المغازي، والملاحم، والتفسير، فهذه الغالب فيها أنها تذكر بدون إسناد، ولهـذا، فإن المفسرين يذكـرون قصـة آدم،:{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً } 7 وقليل منهم من ينكر القصة المكذوبة في ذلك8.


فالقاعدة إذا:
أنه لا أحد يعلم عن الأمم السابقة شيئا إلا من طريق الوحي، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ } 9.


·الآية الثانية: قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} 10 هذه الآية سبقها آية، وهي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} 11.


1 سورة المؤمنون آية : 59.
2 سورة التوبة آية : 114.
3 سورة مريم آية : 47.
4 سورة التوبة آية : 114.
5 سورة إبراهيم آية : 41.
6 سورة نوح آية : 28.
7 سورة الأعراف آية : 190.


8 انظر: الجزء الثاني باب قول الله تعالى: فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما.
9 سورة إبراهيم آية : 9.
10 سورة المؤمنون آية : 59.
11 سورة المؤمنون آية : 57.

ج / 1 ص -96- وعن حصين بن عبد الرحمن، قال: " كنت عند سعيد بن جبير،......


لكن المؤلف ذكر الشاهد وقوله تعالى: { مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ }أي: من خوفهم منه على علم، و (مشفقون) أي: خائفون من عذابه إن خالفوه.
فالمعاصي بالمعنى الأعم- كما سبق1- شرك، لأنها صادرة عن هوى مخالف للشرع، وقد قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } 2.


أما بالنسبة للمعنى الأخص،
فيقسمها العلماء قسمين:
1- شرك.
2- فسوق.

وقوله: " لا يشركون ": يراد به الشرك بالمعنى الأعم، إذ تحقيق التوحيد لا يكون إلا باجتناب الشرك بالمعنى الأعم، ولكن ليس معنى هذا ألا تقع منهم المعاصي، لأن كل ابن آدم خطاء، وليس بمعصوم، ولكن إذا عصوا، فإنهم يتوبون ولا يستمرون عليها; كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 3.
قوله: "عن حصين بن عبد الرحمن; قال: كنت عند سعيد بن جبير": وهما رجلان من التابعين ثقتان.



1 انظر: (ص: 65).
2 سورة الجاثية آية : 23.
3 سورة آل عمران آية : 135.

ج / 1 ص -97- فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة. ولكني لدغت قال: فما صنعت؟........

قوله: "انقض البارحة": أي: سقط البارحة، والبارحة: أقرب ليلة مضت، وقال بعض أهل اللغة: تقول فعلنا الليلة كذا إن قلته قبل الزوال، وفعلنا البارحة كذا إن قلته بعد الزوال.
وفي عرفنا، فمن طلوع الشمس إلى الغروب نقول: البارحة لليلة الماضية، ومن غروب الشمس إلى طلوعها نقول: الليلة لليلة التي نحن فيها. بل بعض العامة يتوسع متى قام من الليل قال: البارحة، وإن كان في ليلته.
قوله: "فقلت أنا": أي: حصين.


قوله: "أما إني لم أكن في صلاة": أما: أداة استفتاح، وقيل: إنها بمعنى حقا، وعلى هذا، فتفتح همزة "إن"، فيقال: أما أني لم أكن في صلاة، أي حقا أني لم أكن في صلاة. وقال هذا رحمه الله لئلا يظن أنه قائم يصلي فيحمد بما لم يفعل، وهذا خلاف ما عليه بعضهم، يفرح أن الناس يتوهمون أنه يقوم يصلي، وهذا من نقص التوحيد.


وقول حصين رحمه الله ليس من باب المراءاة، بل هو من باب الحسنات، وليس كمن يترك الطاعات خوفا من الرياء، لأن الشيطان قد يلعب على الإنسان، ويزين له ترك الطاعة خشية الرياء، بل افعل الطاعة، ولكن لا يكن في قلبك أنك ترائي الناس.


قوله: "لدغت": أي: لدغته عقرب أو غيرها، والظاهر أنها شديدة، لأنه لم ينم منها.

ج / 1 ص -98- قلت: ارتقيت قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي. قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب، أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة1.
قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ".


قوله: "ارتقيت"، أي: استرقيت، لأن افتعل مثل استفعل، وفي رواية مسلم: "استرقيت"، أي: طلبت الرقية. قوله: "فما حملك على ذلك": أي: قال سعيد: ما السبب أنك استرقيت.
قوله: "حديث حدثناه الشعبي": وهذا يدل على أن السلف رضي الله عنهم يتحاورون حتى يصلوا إلى الحقيقة. فسعيد بن جبير لم يقصد الانتقاد على هذا الرجل، بل قصد أن يستفهم منه ويعرف مستنده.


قوله: "لا رقية": أي: لا قراءة أو لا استرقاء على مريض أو مصاب.
قوله: "إلا من عين": ويسميها العامة الآن: "النحاتة"، وبعضهم يسميها "النفس"، وبعضهم يسميها "الحسد". وهي نظرة من حاسد نفسه خبيثة، تتكيف بكيفية خاصة؛ فينبعث منها ما يؤثر على المصاب.


قوله: "حمة": بضم الحاء، وفتح الميم، مع تخفيفها، وهي كل ذات سم، والمعنى لدغته إحدى ذوات السموم، والعقرب من ذوات السموم. فقال سعيد بن جبير: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس... إلخ. إذن، فحصين استند على حديث: " لا رقية إلا من عين أو حمة " وهذا يدل على أن الرقية من العين أو الحمة مفيدة، وهذا أمر واقع، فإن


1 الترمذي : الطب (2057) , وأبو داود : الطب (3884) , وأحمد (4/436 ,4/438 ,4/446).



ج / 1 ص -99- الرقى تنفع بإذن الله من العين ومن الحمة أيضا، وكثير من الناس يقرؤون على الملدوغ فيبرأ حالا، ويدل لهذا قصة الرجل الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، فاستضافوا قوما، فلم يضيفوهم، فلدغ سيدهم؛ لدغته عقرب، فقالوا: من يرقي؟ فقالوا: لعل هؤلاء الركب عندهم راق، فجاؤوا إلى السرية، قالوا: هل فيكم من راق؟ قالوا: نعم، ولكن لا نرقي لكم إلا بشيء من الغنم. فقالوا: نعطيكم. فاقتطعوا لهم من الغنم، ثم ذهب أحدهم يقرأ عليه الفاتحة، قرأها ثلاثا أو سبعا، فقام كأنما نشط من عقال، فانتفع اللديغ بقراءتها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم " وما يدريك أنها رقية؟ " (يعني: الفاتحة)1 وكذا القراءة من العين مفيدة.


ويستعمل للعين طريقة أخرى غير الرقية، وهو الاستغسال، وهي أن يؤتى بالعائن، ويطلب منه أن يتوضأ، ثم يؤخذ ما تناثر من الماء من أعضائه، ويصب على المصاب، ويشرب منه، ويبرأ بإذن الله. وهناك طريقة أخرى، ولا مانع منها أيضا، وهي أن يؤخذ شيء من شعاره، أي: ما يلي جسمه من الثياب، كالثوب، والطاقية، والسروال، وغيرها، أو التراب إذا مشى عليه وهو رطب، ويصب على ذلك ماء يرش به المصاب أو يشربه، وهو مجرب.
وأما العائن، فينبغي إذا رأى ما يعجبه أن يبّرك عليه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف: "هلا برّكت عليه"2 أي: قلت: بارك الله عليك.



1 من حديث أبي سعيد, رواه: البخاري (كتاب الإجارة, باب ما يعطى في الرقية, 2/ 136), ومسلم (كتاب السلام, باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن, 4/1727).
2 من حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه, رواه: مالك في "الموطأ" (كتاب العين, باب الوضوء من العين, 2/938), ورجاله ثقات. انظر: حاشية "زاد المعاد" (4/163).

ج / 1 ص -100- ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد.إذ رفع لي سواد عظيم قوله: "ولكن حدثنا": القائل: سعيد بن جبير.
قوله: " عرضت علي الأمم ": العارض لها الله- سبحانه وتعالى-، وهذا في المنام فيما يظهر. وانظر: "فتح الباري" (11/ 407 باب يدخل الجنة سبعون ألفا، كتاب الرقاق)، والأمم: جمع أمة، وهي أمم الرسل.
وقوله: "الرهط": من الثلاثة إلى التسعة.


قوله: " والنبي ومعه الرجل والرجلان ": الظاهر أن الواو بمعنى أو، أي: ومعه الرجل أو الرجلان، لأنه لو كان معه الرجل والرجلان صار يغني أن يقول: ومعه ثلاثة، لكن المعنى: والنبي ومعه الرجل، والنبي الثاني ومعه الرجلان.
قوله: " والنبي وليس معه أحد ": أي: يبعث ولا يكون معه أحد، لكن يبعثه الله لإقامة الحجة، فإذا قامت الحجة حينئذ، يعذر الله من الخلق، ويقيم عليهم الحجة.
قوله: " إذ رفع لي ": هذا على تقدير محذوف، أي: بينما أنا كذلك، إذ رفع لي.


قوله: " سواد عظيم ": المراد بالسواد هنا الظاهر أنه الأشخاص، ولهذا يقال، ما رأيت سواده، أي شخصه، أي: أشخاصا عظيمة كانوا من كثرتهم سوادا.


ج / 1 ص -101- فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت; فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب. ثم نهض. فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك. فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم "1.


قوله: " فظننت أنهم أمتي ": لأن الأنبياء عرضوا عليه بأممهم; فظن هذا السواد أمته - عليه الصلاة والسلام -.
قوله: " فقيل لي: هذا موسى وقومه ": وهذا يدل على كثرة أتباع موسى عليه السلام، وقومه الذين أرسل إليهم. قوله: " فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ": وهذا أعظم من السواد الأول; لأن أمة النبي صلى الله عليه وسلم أكثر بكثير من أمة موسى عليه السلام.
قوله: " بغير حساب ولا عذاب ": أي: لا يعذبون ولا يحاسبون كرامة لهم، وظاهره أنه لا في قبورهم، ولا بعد قيام الساعة.


قوله: " فخاض الناس في أولئك": هذا الخوض للوصول إلى الحقيقة نظريا وعمليا؛ حتى يكونوا منهم.
قوله: "الذين صحبوا رسول الله": يحتمل أن المراد الصحبة المطلقة، ويؤيده ظاهر اللفظ.
ويحتمل أن المراد الذين صحبوه في هجرته، ويؤيده أنه لو كان المراد الصحبة المطلقة; لقالوا: نحن; لأن المتكلم هم الصحابة، ويدل على هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد: " لا تسبوا أصحابي "2 فإن



1 البخاري : الطب (5752) , ومسلم : الإيمان (220) , والترمذي : صفة القيامة والرقائق والورع (2446) , وأحمد (1/271 ,1/321).
2 من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, رواه: البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذا خليلا , 3/8), ومسلم (كتاب فضائل الصحابة, باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم, 4/1967).



ج / 1 ص -102- وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا... وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون........

المراد بهم الذين صحبوه في هجرته، لكن يمنع منه أن المهاجرين لا يبلغون سبعين ألفا.
ويمنع الاحتمال الأول: أن الصحابة أكثر من سبعين ألفا. ويحتمل أن المراد من كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى فتح مكة; لأنه بعد فتح مكة دخل الناس في دين الله أفواجا. وهذه المسألة تحتاج إلى مراجعة أكثر.
قوله: "الذين ولدوا في الإسلام": أي: من ولد بعد البعثة وأسلم، وهؤلاء كثيرون، ولو قلنا: ولدوا في الإسلام من الصحابة ما بلغوا سبعين ألفا.
قوله: "فخرج عليهم رسول الله، فأخبروه": أي: أخبروه بما قالوا وما جرى بينهم.


قوله: " لا يسترقون "، في بعض روايات مسلم1 " لا يرقون ": ولكن هذه الرواية خطأ; كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية; لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرقي2، ورقاه جبريل3، وعائشة4، وكذلك الصحابة كانوا يرقون5.
واستفعل بمعنى طلب الفعل، مثل استغفر; أي: طلب المغفرة،



1 في (كتاب الإيمان, باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب 1/200).
2 من حديث عائشة, رواه البخاري (كتاب الطب, باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم, 4/44), ومسلم (كتاب السلام, باب استحباب الرقية من العين, 4/1724).
3 من حديث عائشة, رواه مسلم (كتاب السلام, باب الطب والمرض والرقي, 4/1718).
4 رواه البخاري (كتاب فضائل القرآن, باب فضل المعوذات, 3/344), ومسلم (كتاب السلام, باب رقية المريض, 4/1723).
5 كما في قصة صاحب السرية.



ج / 1 ص -103- ولا يكتوون ولا يتطيرون.....


واستجار: طلب الجوار، وهنا استرقى; أي: طلب الرقية،
أي لا يطلبون من أحد أن يقرأ عليهم; لما يلي:
1 - لقوة اعتمادهم على الله.
2 - لعزة نفوسهم عن التذلل لغير الله.
3 - ولما في ذلك من التعلق بغير الله.

قوله: " ولا يكتوون ": أي: لا يطلبون من أحد أن يكويهم. ومعنى اكتوى: طلب من يكويه، وهذا مثل قوله: " ولا يسترقون ".
أما بالنسبة لمن أعد للكي من قبل الحكومة، فطلب الكي منه ليس فيه ذل; لأنه معد من قبل الحكومة يأخذ الأجر على ذلك من الحكومة، ولأن هذا الطلب مجرد إخبار من الطالب بأنه محتاج إلى الكي، وليس سؤال تذلل.
قوله: " ولا يتطيرون ": مأخوذ من الطير، والمصدر منه تطير، والطيرة اسم المصدر، وأصله: التشاؤم بالطير، ولكنه أعم من ذلك; فهو التشاؤم بمرئي، أو مسموع، أو زمان، أو مكان.


وكانت العرب معروفة بالتطير، حتى لو أراد الإنسان منهم خيرا ثم رأى الطير سنحت يمينا أو شمالا حسب ما كان معروفا عندهم، تجده يتأخر عن هذا الذي أراده. ومنهم من إذا سمع صوتا أو رأى شخصا تشاءم. ومنهم من يتشاءم في شهر شوال بالنسبة للنكاح، ولذا قالت عائشة رضـي الله عنهـا: " عقد علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال; فأيكن كان أحظى عنده "1. ومنهم من يتشاءم بيوم الأربعاء، أو بشهر صفر.



1 رواه: مسلم (كتاب النكاح, باب استحباب التزوج والتزويج في شوال, 2/1039).

ج / 1 ص -104- وعلى ربهم يتوكلون "1.


وهذا كله مما أبطله الشرع; لضرره على الإنسان عقلا وتفكيرا وسلوكا، وكون الإنسان لا يبالي بهذه الأمور، هذا هو التوكل على الله، ولهذا ختم المسألة بقوله: " وعلى ربهم يتوكلون " ; فانتفاء هذه الأمور عنهم يدل على قوة توكلهم.


وهل هذه الأشياء تدل على أن من لم يتصف بها فهو مذموم، أو فاته الكمال؟
الجواب: أن الكمال فاته إلا بالنسبة للتطير; فإنه لا يجوز; لأنه ضرر وليس له حقيقة أصلا.
أما بالنسبة لطلب العلاج; فالظاهر أنه مثله لأنه عام، وقد يقال: إنه لولا قوله: " ولا يسترقون " ; لقلت: إنه لا يدخل; لأن الاكتواء ضرر محقق: إحراق بالنار، وألم للإنسان، ونفعه مرتجى، لكن كلمة "يسترقون" مشكلة; فالرقية ليس فيها ضرر، إن لم تنفع لم تضر، وهنا نقول: الدواء مثلها; لأن الدواء إذا لم ينفع لم يضر، وقد يضر أيضا; لأن الإنسان إذا تناول دواء وليس فيه مرض لهذا الدواء فقد يضره.


وهذه المسألة تحتاج إلى بحث، وهل نقول مثلا: ما تؤكد منفعته إذا لم يكن في الإنسان إذلال لنفسه; فهو لا يضر، أي: لا يفوت المرء الكمال به، مثل الكسر وقطع العضو مثلا، أو كما يفعل الناس الآن في الزائدة وغيرها.
ولو قال قائل بالاقتصار على ما في هذا الحديث، وهو أنهم لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وأن ما عدا ذلك لا يمنع من دخول الجنة بلا حساب ولا عذاب; للنصوص الواردة بالأمر بالتداوي والثناء



1 مسلم : الإيمان (218) , وأحمد (4/443).

ج / 1 ص -105- فقام عكاشة بن محصن، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: أنت منهم. ثم قام رجل آخر، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم....


على بعض الأدوية;
كالعسل1؛
والحبة السوداء2؛
لكان له وجه.
وإذا طلب منك إنسان أن يرقيك; فهل يفوتك كمال إذا لم تمنعه؟.
الجواب: لا يفوتك; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع عائشة أن ترقيه3؛ وهو أكمل الخلق توكلا على الله وثقة به، ولأن هذا الحديث: " لا يسترقون... " إلخ، إنما كان في طلب هذه الأشياء، ولا يخفى الفرق بين أن تحصل هذه الأشياء بطلب، وبين أن تحصل بغير طلب.


قوله: " فقال: أنت منهم ": وقول الرسول صلى الله عليه وسلم هذا، هل هو بوحي من الله إقراري، أو وحي إلهامي، أو وحي رسول؟
مثل هذه الأمور يحتمل أنها وحي إلهامي، أو بواسطة الرسول، أو وحي إقراري بمعنى أن الرسول يقولها، فإذا أقره الله عليه; صارت وحيا إقراريا.
لكن رواية البخاري: " اللهم اجعله منهم "، تدل على أن الجملة: " أنت منهم " خبر بمعنى الدعاء.
قوله: " ثم قام رجل آخر، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم.



1 كحديث ابن عباس مرفوعا: الشفاء في ثلاث: شربة عسل, وشرطة محجم, وكية نار, وأنا أنهى أمتي عن الكي , رواه: البخاري (كتاب الطب, باب الشفاء في ثلاث, 4/32).
2 لحديث عائشة مرفوعا: إن هذه الحبة السوداء, شفاء من كل داء إلا من السام. قلت: وما السام؟ قال: "الموت ", رواه: البخاري (كتاب الطب, باب الحبة السوداء, 4/34), ومسلم (كتاب السلام, باب التداوي بالحبة السوداء, 4/1735).


3 سبق تخريجه (ص 102).

ج / 1 ص -106- فقال: سبقك بها عكاشة "1.

فيه مسائل:

الأولى:
معرفة مراتب الناس في التوحيد.
الثانية: ما معنى تحقيقه.

قال: سبقك بها عكاشة ".لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول له: لا، ولكن قال: سبقك بها; أي: بهذه المنقبة والفضيلة، أو بهذه المسألة عكاشة بن محصن. وقد اختلف العلماء لماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الكلام؟ فقيل: إنه كان منافقا، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يجابهه بما يكره تأليفا. وقيل: خاف أن ينفتح الباب فيطلبها من ليس منهم; فقال هذه الكلمة التي أصبحت مثلا، وهذا أقرب.


قوله: "فيه مسائل": أي: في هذا الباب مسائل:
·المسألة الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد: وهذه مأخوذة من قوله: " يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ". ثم قال: " هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون "2.

·الثانية: ما معنى تحقيقه؟ أي: تحقيق التوحيد، وسبق لنا في أول الباب أن تحقيقه: تخليصه من الشرك.



1 البخاري : الرقاق (6541) , ومسلم : الإيمان (220) , والترمذي : صفة القيامة والرقائق والورع (2446) , وأحمد (1/271).
2 رواه: البخاري (كتاب الرقاق, باب يدخل الجنة سبعون ألفا, 4/199), ومسلم (كتاب الإيمان, باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب, 1/199).



ج / 1 ص -107- الثالثة: ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين.
الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك.
الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد.

·الثالثة: ثناؤه - سبحانه - على إبراهيم بكونه لم يكن من المشركين: وهو ظاهر في الآية الكريمة: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1 [النحل: 120] ; فإن هذه الآية لا شك أنها سيقت للثناء على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإذا كان مناط الثناء انتفاء الشرك عنه; دل ذلك على أن كل من انتفى عنه الشرك فهو محل ثناء من الله - سبحانه وتعالى -:


·الرابعة:
ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم مـن الشرك:
لقـوله تعـالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} 2 وهذه الآية في سياق آيات كثيرة ابتدأها الله بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57-61]; فهؤلاء هم سادات الأولياء، وكلام المؤلف من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، أي: الأولياء السادات، وليس يريد رحمه الله السادات من الأولياء، بل يريد الأولياء الذين هم سادات الخلق.


·الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد؛ لقوله: " الذين لا يسترقون ولا يكتوون "; فالمراد بقول المؤلف: "الرقية والكي": الاسترقاء والاكتواء.



1 سورة النحل آية : 120.
2 سورة المؤمنون آية : 59.

ج / 1 ص -108- السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل.
السابعة: عمق علم الصحابة بمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل.
الثامنة: حرصهم على الخير.
التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية.
العاشرة: فضيلة أصحاب موسى.


·السادسة:
كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل: الخصال هي: ترك الاسترقاء، وترك الاكتواء، وترك التطير يعني أن العامل لهذه الأشياء هو قوة التوكل على الله عزوجل
·السابعة: عمق علم الصحابة لمعرفة أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل: أي: لم ينل هؤلاء السبعون ألفا هذا الثواب إلا بعمل، ووجهه أن الصحابة خاضوا فيمن يكون له هذا الثواب العظيم وذكروا أشياء.


·الثامنة: حرصهم على الخير: وجهه خوضهم في هذا الشيء; لأنهم يريدون أن يصلوا إلى نتيجة حتى يقوموا بها.
·التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية: أما الكمية; فلان النبي صلى الله عليه وسلم رأى سوادا عظيما أعظم من السواد الذي كان مع موسى، وأما الكيفية; فلأن معهم هؤلاء الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون.
·العاشرة: فضيلة أصحاب موسى: وهو مأخوذ من قوله: " إذ رفع لي سواد عظيم "، ولكن قد يقال: إن التعبير بقول كثرة أتباع موسى أنسب لدلالة الحديث; لأن الحديث يقول: " سواد عظيم فظننت أنهم أمتي "، وهذا يدل على الكثرة.



ج / 1 ص -109- الحادية عشرة: عرض الأمم عليه - عليه الصلاة والسلام -.
الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها.
الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء.
الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأتي وحده.
· الحادية عشرة: عرض الأمم عليه - عليه الصلاة والسلام -؛

وهذا له فائدتان:

الفائدة الأولى: تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث رأى من الأنبياء من ليس معه إلا الرجل والرجلان، ومن الأنبياء من ليس معه أحد; فيتسلى بذلك عليه الصلاة والسلام، ويقول: {مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ } [الأحقاف: 9].
الفائدة الثانية: بيان فضيلته عليه الصلاة والسلام وشرفه، حيث كان أكثرهم أتباعا وأفضلهم; فصار في عرض الأمم عليه هاتان الفائدتان.


·الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها: لقوله: " رأيت النبي ومعه الرجل والرجلان "، ولولا أن كل نبي متميز عن النبي الآخر; لاختلط بعضهم ببعض، ولم يعرف الأتباع من غير الأتباع، ويدل لذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } [الجاثية: 28] فإنه يدل على أن كل أمة تكون وحدها.
·الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء: وهو واضح من قوله: " والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد ".
·الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأتي وحده: لقوله: " والنبي وليس معه أحد ".

ج / 1 ص -110- الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة، وعدم الزهد في القلة.
السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة.
السابعة عشرة: عمق علم السلف; لقوله: " قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا "، فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني.

· الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة... إلخ: فإن الكثرة قد تكون ضلالا، قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [الأنعام: 116]، وأيضا الكثرة من جهة أخرى إذا اغتر الإنسان بكثرته وظن أنه لن يغلب أو أنه منصور; فهذا أيضا سبب للخذلان; فالكثرة إن نظرنا إلى أن أكثر أهل الأرض ضلال لا تغتر بهم، فلا تقل: إن الناس على هذا، كيف أنفرد عنهم؟ كذلك أيضا لا تغتر بالكثرة إذا كان معك أتباع كثيرون على الحق;
فكلام المؤلف له وجهان:
الوجه الأول: أن لا نغتر بكثرة الهالكين فنهلك معهم.

الوجه الثاني: أن لا نغتر بكثرة الناجين فيلحقنا الإعجاب بالنفس وعدم الزهد في، القلة، أي أن لا نزهد بالقلة; فقد تكون القلة خيرا من الكثرة.
·السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة مأخوذة من قوله: " لا رقية إلا من عين أو حمة ".
·السابعة عشرة: عمق علم السلف; لقوله: " قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا " ; فعلم أن الحديث الأول لا يخالف

ج / 1 ص -111- الثامنة عشرة: بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه.
التاسعة عشرة: قوله:"أنت منهم": علم من أعلام النبوة.

الثاني. لأن قوله: لا رقية إلا من عين أو حمة لا يخالف الثاني; لأن الثاني إنما هو في الاسترقاء، والأول في الرقية; فالإنسان إذا أتاه من يرقيه ولم يمنعه; فإنه لا ينافي قوله: " ولا يسترقون " ;
لأن هناك ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: أن يطلب من يرقيه، وهذا قد فاته الكمال.
المرتبة الثانية: أن لا يمنع من يرقيه، وهذا لم يفته الكمال; لأنه لم يسترق ولم يطلب.
المرتبة الثالثة: أن يمنع من يرقيه، وهذا خلاف السنة; فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع عائشة أن ترقيه، وكذلك الصحابة لم يمنعوا أحدا أن يرقيهم1؛ لأن هذا لا يؤثر في التوكل.


·الثامنة عشرة: بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه: يؤخذ من قوله: "أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت"; لأنه إذا كان رأى الكوكب الذي انقض استلزم أن يكون يقظان، واليقظان: إما أن يصلي، وإما أن يكون له شغل آخر، وإما أن يكون لديه مانع من النوم.
·التاسعة عشرة: قوله: " أنت منهم " علم من أعلام النبوة: يعني: دليلا على نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف ذلك؟ لأن عكاشة بن محصنرضي الله عنهبقي محروسا من الكفر حتى مات على الإسلام، فيكون في هذا علم، يعني: دليلا من دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم هذا إذا قلنا: إن الجملة خبرية وليست جملة دعائية. فإن قلنا: إنها جملة دعائية; فقد نقول أيضا: فيه علم من أعلام النبوة، وهو أن الله استجاب دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم



1 انظر: (ص 102).

ج / 1 ص -112- العشرون: فضيلة عكاشة.
الحادية والعشرون: استعمال المعاريض.
الثانية والعشرون: حسن خلقه صلى الله عليه وسلم

لكن استجابة الدعوة ليست من خصائص الأنبياء; فقد تجاب دعوة من ليس بنبي، وحينئذ لا يمكن أن تكون علما من أعلام النبوة، إلا حيث جعلنا الجملة خبرية محضة.


·العشرون:
فضيلة عكاشة: بكونه ممن يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهل نشهد له بذلك؟ نعم; لأن الرسول صلى الله عليه وسلم شهد له بها.

·الحادية والعشرون
:
استعمال المعاريض: وفي المعاريض مندوحة عن الكذب، وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم " سبقك بها عكاشة " ; فإن هذا في الحقيقة ليس هو المانع الحقيقي، بل المانع ما أشرنا إليه في الشرح: إما أن يكون هذا الرجل منافقا فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله مع الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وإما خوفا من انفتاح الباب; فيسأل هذه المرتبة من ليس من أهلها.


·الثانية والعشرون: حسن خلقه صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه رد هذا الرجل، وسد الباب على وجه ليس فيه غضاضة على أحد ولا كراهة.




المصدر :


كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979







ام عادل السلفية 28-01-2015 05:13PM

بسم الله الرحمن الرحيم






القول المفيد على كتاب التوحيد

باب الخوف من الشرك

ج / 1 ص -113- باب الخوف من الشرك

وقول الله عزوجل{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } 1.


مناسبة الباب للبابين قبله
في الباب الأول ذكر المؤلف رحمه الله تحقيق التوحيد، وفي الباب الثاني ذكر أن من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، وثلث بهذا الباب رحمه الله تعالى; لأن الإنسان يرى أنه قد حقق التوحيد وهو لم يحققه، ولهذا قال بعض السلف: " ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص"، وذلك أن النفس متعلقة بالدنيا تريد حظوظها من مال أو جاه أو رئاسة، وقد تريد بعمل الآخرة الدنيا، وهذا نقص في الإخلاص، وقل من يكون غرضه الآخرة في كل عمله، ولهذا أعقب المؤلف رحمه الله ما سبق من البابين بهذا الباب، وهو الخوف من الشرك،

وذكر فيه آيتين:
·الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } 2 " لا ": نافية، " أن يشرك به ": فعل مضارع، مقرون بأن المصدرية; فيحول إلى مصدر تقديره: إن الله لا يغفر الإشراك به، أو لا يغفر إشراكا به; فالشرك لا يغفره الله أبدا; لأنه جناية على حق الله الخاص، وهو التوحيد.
أما المعاصي; كالزنى والسرقة; فقد يكون للإنسان فيها حظ نفس



1 سورة النساء آية : 48.
2 سورة النساء آية : 48.

ج / 1 ص -114- وقال الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} 1.


بما نال من شهوة، أما الشرك; فهو اعتداء على حق الله تعالى، وليس للإنسان فيه حظ نفس، وليس شهوة يريد الإنسان أن ينال مراده، ولكنه ظلم، ولهذا قـال الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
وهل المراد بالشرك هنا الأكبر، أم مطلق الشرك؟ قال بعض العلماء: إنه مطلق يشمل كل شرك ولو أصغر; كالحلف بغير الله، فإن الله لا يغفره، أما بالنسبة لكبائر الذنوب; كالسرقة، والخمر; فإنها تحت المشيئة، فقد يغفرها الله، وشيخ الإسلام ابن تيمية المحقق في هذه المسائل، اختلف كلامه في هذه المسألة; فمرة قال: الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، ومرة قال: الشرك الذي لا يغفره الله هو الشرك الأكبر. وعلى كل حال; فيجب الحذر من الشرك مطلقا; لأن العموم يحتمل أن يكون داخلا فيه الأصغر; لأن قوله: " أن يشرك به " أن وما بعدها في تأويل مصدر، تقديره: إشراكا به; فهو نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم.


قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } المراد بالدون هنا: ما هو أقل من الشرك، وليس ما سوى الشرك.
الآية الثانية: قوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}قيل: المراد ببنيه: بنوه لصلبه، ولا نعلم له من صلبه سوى إسماعيل وإسحاق. وقيل: المراد ذريته وما توالد من صلبه، وهو الأرجح، وذلك للآيات التي



1 سورة إبراهيم آية : 35.

ج / 1 ص -115- دلت على دعوته للناس من ذريته، ولكن كان من حكمة الله أن لا تجاب دعوته في بعضهم، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا الله أن لا يجعل بأس أمته بينهم1 فلم يجب الله دعاءه.
وأيضا يمنع من الأول: أن الآية بصيغة الجمع، وليس لإبراهيم من الأبناء سوى إسحاق وإسماعيل. ومعنى: " اجنبني " ; أي: اجعلني في جانب والأصنام في جانب، وهذا أبلغ مما لو قال: امنعني وبني من عبادة الأصنام; لأنه إذا كان في جانب عنها كان أبعد.


فإبراهيم عليه السلام يخاف الشرك على نفسه، وهو خليل الرحمن وإمام الحنفاء; فما بالك بنا نحن إذن؟! فلا تأمن الشرك، ولا تأمن النفاق; إذ لا يأمن النفاق إلا منافق، ولا يخاف النفاق إلا مؤمن، ولهذا قال ابن أبي مليكـة: " أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه "2.


وها هو عمر بن الخطابرضي الله عنهخاف على نفسه النفاق; فقال لحذيفة بن اليمانرضي الله عنهالذي أسر إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأسماء أناس من المنافقين; فقال له عمررضي الله عنه" أنشدك الله; هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من سمى من المنافقين؟ فقال حذيفةرضي الله عنهلا، ولا أزكي بعدك أحدا "3 أراد عمر بذلك زيادة الطمأنينة، وإلا; فقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.



1 يأتي تخريجه (ص 471).
2 رواه: البخاري (كتاب الإيمان, باب خوف المؤمن أن يحبط عمله, 1/32).
3 انظر: "طريق الهجرتين" لابن القيم آخر الطبقة الخامسة عشرة.

ج / 1 ص -116- وفي الحديث:........
ولا يقال: إن عمررضي الله عنهأراد حث الناس على الخوف من النفاق ولم يخفه على نفسه; لأن ذلك خلاف ظاهر اللفظ، والأصل حمل اللفظ على ظاهره، ومثل هذا القول يقوله بعض العلماء فيما يضيفه النبي صلى الله عليه وسلم إلى نفسه في بعض الأشياء، يقولون: هذا قصد به التعليم، وقصد به أن يبين لغيره، كما قيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: رب اغفر لي؛ لأن له ذنبا، ولكن لأجل أن يعلم الناس الاستغفار، وهذا خلاف الأصل، وقول بعضهم: إنه جهر بالذكر عقب الفريضة ليعلم الناس الذكر، لا لأن الجهر بذلك من السنة ونحو ذلك.


قوله: { أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}أن والفعل بعدها في تأويل مصدر مفعول ثان لقوله: اجنبني.
والأصنام: جمع صنم، وهو ما جعل على صورة إنسان أو غيره؛ يعبد من دون الله. أما الوثن: فهو ما عبد من دون الله، على أي وجه كان، وفي الحديث: " لا تجعل قبري وثنا يعبد "1. فالوثن أعم من الصنم.
ولا شك أن إبراهيم سأل ربه الثبات على التوحيد; لأنه إذا جنبه عبادة الأصنام صار باقيا على التوحيد.


الشاهد من هذه الآية: أن إبراهيم خاف الشرك، وهو إمام الحنفاء، وهو سيدهم ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم
قوله: "وفي الحديث"، الحديث: ما أضيف إلى الرسول من قول أو



1 يأتي (ص 423).

ج / 1 ص -117- " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. فسئل عنه؟ فقال: الرياء "1.


فعل أو إقرار أو وصف والخبر: ما أضيف إليه وإلى غيره والأثر: ما أضيف إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم أي: إلى الصحابي فمن بعده، إلا إذا قيد فقيل: وفي الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون على ما قيد به.
قوله: " أخوف ما أخاف عليكم ": الخطاب للمسلمين; إذ المسلم هو الذي يخاف عليه الشرك الأصغر، وليس لجميع الناس.
قوله: " الرياء ": مشتق من الرؤية، مصدر راءى يرائي، والمصدر رياء; كقاتل يقاتل قتالا.


والرياء: أن يعبد الله ليراه الناس؛ فيمدحوه على كونه عابدا، وليس يريد أن تكون العبادة للناس; لأنه لو أراد ذلك; لكان شركا أكبر، والظاهر أن هذا على سبيل التمثيل، وإلا; فقد يكون رياء، وقد يكون سماعا، أي يقصد بعبادته أن يسمعه الناس فيثنوا عليه، فهذا داخل في الرياء; فالتعبير بالرياء من باب التعبير بالأغلب. أما إن أراد بعبادته أن يقتدي الناس به فيها; فليس هذا رياء، بل هذا من الدعوة إلى الله عزوجل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " فعلت هذا لتأتموا بي وتعلموا صلاتي "2.


و الرياء ينقسم باعتبار إبطاله للعبادة إلى قسمين:


1 من حديث محمود بن لبيد, رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/428). قال ابن حجر في "بلوغ المرام" (ص 302): "أخرجه أحمد بإسناد حسن", وقال المنذري في "الترغيب" (1/69): "إسناده جيد", وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/222): "رجاله رجال الصحيح; غير عبد الله بن شبيب بن خالد, وهو ثقة".
2 من حديث سهل بن سعد الساعدي, رواه البخاري (كتاب الجمعة, باب الخطبة على المنبر, 1/290), ومسلم (كتاب المساجد,
باب جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة, 1/386).



ج / 1 ص -118- الأول: أن يكون في أصل العبادة، أي ما قام يتعبد إلا للرياء; فهذا عمله باطل مـردود عليه لحديث أبي هريرة في "الصحيح" مرفوعا، قال الله تعالى: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه " 1.


الثاني: أن يكون الرياء طارئا على العبادة، أي: أن أصل العبادة لله، لكن طرأ عليها الرياء;

فهذا ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يدافعه; فهذا لا يضره. مثاله: رجل صلى ركعة، ثم جاء أناس في الركعة الثانية، فحصل في قلبه شيء؛ بأن أطال الركوع أو السجود أو تباكى وما أشبه ذلك، فإن دافعه; فإنه لا يضره لأنه قام بالجهاد.

القسم الثاني: أن يسترسل معه; فكل عمل ينشأ عن الرياء، فهو باطل; كما لو أطال القيام، أو الركوع، أو السجود، أو تباكى; فهذا كل عمله حابط، ولكن هل هذا البطلان يمتد إلى جميع العبادة أم لا؟

نقول: لا يخلو هذا من حالين:
الحالة الأولى: أن يكون آخر العبادة مبنيا على أولها، بحيث لا يصح أولها مع فساد آخرها; فهذه كلها فاسدة. وذلك مثل الصلاة; فالصلاة مثلا لا يمكن أن يفسد آخرها ولا يفسد أولها، وحينئذ تبطل الصلاة كلها؛ إذا طرأ الرياء في أثنائها ولم يدافعه.

الحالة الثانية: أن يكون أول العبادة منفصلا عن آخرها، بحيث يصح أولها دون آخرها، فما سبق الرياء; فهو صحيح، وما كان بعده; فهو باطل. مثال ذلك: رجل عنده مئة ريال، فتصدق بخمسين بنية خالصة، ثم



1 سبق تخريجه (ص 49).

ج / 1 ص -119- تصدق بخمسين بقصد الرياء; فالأولى مقبولة، والثانية غير مقبولة; لأن آخرها منفك عن أولها.
فإن قيل: لو حدث الرياء في أثناء الوضوء; هل يلحق بالصلاة فيبطل كله، أو بالصدقة فيبطل ما حصل فيه الرياء فقط.

فالجواب: يحتمل هذا وهذا; فيلحق بالصلاة لأن الوضوء عبادة واحدة ينبني بعضها على بعض، ليس تطهير كل عضو عبادة مستقلة، ويلحق بالصدقة لأنه ليس كالصلاة من كل وجه، ولا الصدقة من كل وجه; لأننا إذا قلنا ببطلان ما حصل فيه الرياء، فأعاد تطهيره وحده لم يضر; لأن تكرار غسل العضو لا يبطل الوضوء ولو كان عمدا، بخلاف الصلاة; فإنه إذا كرر جزءا منها كركوع أو سجود لغير سبب شرعي; بطلت صلاته، فلو أنه بعد أن غسل يديه رجع وغسل وجهه; لم يبطل وضوؤه، ولو أنه بعد أن سجد رجع وركع; لبطلت صلاته، والترتيب موجود في هذا وهذا، لكن الزيادة في الصلاة تبطلها، والزيادة في الوضوء لا تبطله، والرجوع مثلا إلى الأعضاء الأولى لا يبطله أيضا، وإن كان الرجوع في الحقيقة لا يعتبر وضوءا؛ لأنه غير شرعي، وربما يكون في الأولى غسل وجهه على أنه واحدة، ثم غسل يديه، ثم قال: الأحسن أن أكمل الثلاث في الوجه أفضل، فغسل وجهه مرتين، وهو سيرتب أي سيغسل وجهه ثم يديه; فوضوءه صحيح.


ولو ترك التسبيح ثلاث مرات في الركوع، وبعدما سجد قال: فوت على نفسي فضيلة، سأرجع لأجل أن أسبح ثلاث مرات; فتبطل صلاته; فالمهم أن هناك فرقا بين الوضوء والصلاة، ومن أجل هذا الفرق لا أبت فيها الآن حتى أراجع وأتأمل إن شاء الله تعالى.



ج / 1 ص -120- وعن ابن مسعودرضي الله عنهأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من مات وهو يدعو من دون الله ندا؛....

قوله: " من ": هذه شرطية تفيد العموم للذكر والأنثى.
قوله: " يدعو من دون الله ندا ": أي: يتخذ لله ندا سواء دعاه دعاء عبادة أم دعاء مسألة; لأن الدعاء

ينقسم إلى قسمين:
الأول: دعاء عبادة، مثاله: الصوم، والصلاة، وغير ذلك من العبادات، فإذا صلى الإنسان أو صام; فقد دعا ربه بلسان الحال أن يغفر له، وأن يجيره من عذابه، وأن يعطيه من نواله، وهذا في أصل الصلاة، كما أنها تتضمن الدعاء بلسان المقال. ويدل لهذا القسم قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } 1 ; فجعل الدعاء عبادة، وهذا القسم كله شرك، فمن صرف شيئا من أنواع العبادة لغير الله؛ فقد كفر كفرا مخرجا له عن الملة، فلو ركع لإنسان، أو سجد لشيء يعظمه كتعظيم الله في هذا الركوع أو السجود; لكان مشركا، ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم من الانحناء عند الملاقاة؛ لما سئل عن الرجل يلقى أخاه ينحني له؟ قال: "لا"2.
خلافا لما يفعله بعض الجهال إذا سلم عليك انحنى لك; فيجب على كل مؤمن بالله أن ينكره; لأنه عظمك على حساب دينه.


الثاني: دعاء المسألة; فهذا ليس كله شركا، بل فيه تفصيل، فإن كان المخلوق قادرا على ذلك; فليس بشرك; كقولك: اسقني ماء لمن



1 سورة غافر آية : 60.
2 من حديث أنس, رواه: الترمذي (كتاب الاستئذان, باب ما جاء في المصافحة, 7/356)- وقال: "حديث حسن"-, وابن ماجه (كتاب الأدب, باب في المصافحة, 2/1220), وأحمد في "المسند" (3/198).

ج / 1 ص -121- دخل النار " رواه البخاري1.


يستطيع ذلك، قـال صلى الله عليه وسلم: " من دعاكم فأجيبوه "2 وقال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ } 3. فإذا مـد الفقير يده، وقال: ارزقني; أي: أعطني; فليس بشرك، كما قـال تعالى: { فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ }وأما إن دعا المخلوق بما لا يقدر عليه إلا الله; فإن دعوته شرك مخرج عن الملة. مثال ذلك: أن تدعو إنسانا أن ينزل الغيث معتقدا أنه قادر على ذلك.


والمراد بقوله الرسول صلى الله عليه وسلم " من مات وهو يدعو من دون الله ندا " المراد الند في العبادة، أما الند في المسألة; ففيه التفصيل السابق. ومع الأسف; ففي بعض البلاد الإسلامية من يعتقد أن فلانا المقبور الذي بقي جثة، أو أكلته الأرض؛ ينفع أو يضر، أو يأتي بالنسل لمن لا يولد لها، وهذا - والعياذ بالله - شرك أكبر مخرج من الملة، وإقرار هذا أشد من إقرار شرب الخمر، والزنا، واللواط، لأنه إقرار على كفر، وليس إقرارا على فسوق فقط.
قوله: " دخل النار ": أي: خالدا، مع أن اللفظ لا يدل عليه; لأن دخل فعل، والفعل يدل على الإطلاق.


وأيضا قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 4، وإذا حرمت الجنة; لزم أن يكون خالدا في النار أبدا، فيجب أن نخاف من الشرك ما


1 رواه: البخاري (كتاب التفسير, باب {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا} , 3/ 196).
2 أخرجه: أحمد (2/68), وأبو داود (3/17), والنسائي (5/28), والحاكم (1/412), والبيهقي (4/99). وصححه الحاكم والحافظ في "تخريج الأذكار"; كما في "الفتوحات" (5/250).
3 سورة النساء آية : 8.
4 سورة المائدة آية : 72.

ج / 1 ص -122- ولمسلم عن جابر; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من لقي الله


دامت هذه عقوبته; فالمشرك خسر الآخرة; لأنه في النار خالد، وخسر الدنيا أيضا; لأنه لم يستفد منها شيئا، وقامت عليه الحجة، وجاءه النذير، ولكنه خـسر - والعياذ بالله -، ما استفاد شيئا من الدنيا، قال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ } 1، وقـال الله عزوجل:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} 2.


وقال تعالى: { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } 3. فخسر نفسه; لأنه لم يستفد منها شيئا، وخسر أهله; لأنهم إن كانوا من المؤمنين فهم في الجنة، فلا يتمتع بهم في الآخرة، وإن كانوا في النار فكذلك; لأنه كلما دخلت أمة لعنت أختها، والشرك خفي جدا; فقد يكون في الإنسان وهو لا يشعر إلا بعد المحاسبة الدقيقة، ولهذا قال بعض السلف4: " ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص ".
فالشرك أمره صعب جدا ليس بالهين، ولكن ييسر الله الإخلاص على العبد، وذلك بأن يجعله الله نصب عينيه، فيقصد بعمله وجه الله، لا يقصد مدح الناس، أو ذمهم، أو ثناءهم عليه; فالناس لا ينفعونه أبدا، حتى لو خرجوا معه لتشييع جنازته؛ لم ينفعه إلا عمله، قال صلى الله عليه وسلم " يتبع الميت ثلاثة: فيرجع اثنان ويبقى واحد، يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله "5.


1 سورة فاطر آية : 37.
2 سورة آية : 11-12.
3 سورة الزمر آية : 15.
4 القائل هو سفيان الثوري -رحمه الله- انظر: "جامع العلوم" لابن رجب (ص 70).
5 من حديث أنس, رواه: البخاري (6514), ومسلم (2960).

ج / 1 ص -123- لا يشرك به شيئا; دخل الجنة،...


وكذلك أيضا من المهم: أن الإنسان لا يفرحه أن يقبل الناس قوله لأنه قوله، لكن يفرحه أن يقبل الناس قوله إذا رأى أنه الحق لأنه الحق، لا أنه قوله، وكذا لا يحزنه أن يرفض الناس قوله لأنه قوله; لأنه حينئذ يكون قد دعا لنفسه، لكن يحزنه أن يرفضوه لأنه الحق، وبهذا يتحقق الإخلاص. فالإخلاص صعب جدا، إلا أن الإنسان إذا كان متجها إلى الله اتجاها صادقا سليما على صراط مستقيم; فإن الله يعينه عليه، وييسره له.


قوله: " من ": شرطية تفيد العموم، وفعل الشرط: " لقي "، وجوابه قوله: " دخل الجنة "، وهذا الدخول لا ينافي أن يعذب بقدر ذنوبه إن كانت عليه ذنوب; لدلالة نصوص الوعيد على ذلك، وهذا إذا لم يغفر الله له; لأنه داخل تحت المشيئة.
قوله: " لا يشرك ": في محل نصب على الحال من فاعل "لقي".


قوله: " شيئا ": نكرة في سياق الشرط; فيعم أي شرك حتى ولو أشرك مع الله أشرف الخلق، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم دخل النار; فكيف بمن يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم من الله، فيلجأ إليه عند الشدائد، ولا يلجأ إلى الله بل ربما يلجأ إلى ما دون الرسول صلى الله عليه وسلم!


وهناك من لا يبالي بالحلف بالله صادقا أم كاذبا، ولكن لا يحلف بقوميته إلا صادقا، ولهذا اختلف فيمن لا يبالي بالحلف بالله، ولكنه لا يحلف بملته أو بما يعظمه إلا صادقا، فلزمته يمين; هل يحلف بالله أو يحلف بهذا؟
فقيل: يحلف بالله ولو كذب، ولا يعان على الشرك، وهو الصحيح.
وقيل: يحلف بغير الله; لأن المقصود الوصول إلى بيان الحقيقة،

ج / 1 ص -124- ومن لقيه يشرك به شيئا; دخل النار "1.


·فيه مسائل:

الأولى:
الخوف من الشرك.

وهو إذا كان كاذبا لا يمكن أن يحلف، لكن نقول: إن كان صادقا حلف ووقع في الشرك.

مسألة:
هل يلزم من دخول النار الخلود لمن أشرك؟
هذا بحسب الشرك، إن كان الشرك أصغر; فإنه لا يلزم من ذلك الخلود في النار، وإن كان أكبر; فإنه يلزم منه الخلود في النار، كما دلت على ذلك النصوص.
لكن لو حملنا الحديث على الشرك الأكبر في الموضعين في قوله: " من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة "2 وفي قوله: " ومن لقي الله يشرك به شيئا دخل النار "3 لقلنا: من لقي الله لا يشرك به شركا أكبر دخل الجنة، وإن عذب قبل الدخول في النار بما يستحق; فيكون مآله إلى الجنة، ومن لقيه يشرك به شركا أكبر دخل النار مخلدا فيها، ولم نحتج إلى هذا التفصيل.


فيه مسائل:
·الأولى: الخوف من الشرك؛ لقوله:{ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } 4 ولقوله:{ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} 5.



1(كتاب الإيمان, باب من مات وهو لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة, 1/94).
2 البخاري : الجنائز (1237) , ومسلم : الإيمان (94) , والترمذي : الإيمان (2644) , وأحمد (5/166).
3 مسلم : الإيمان (93) , وأحمد (3/374).
4 سورة النساء آية : 48.
5 سورة إبراهيم آية : 35.

ج / 1 ص -125- الثانية: أن الرياء من الشرك.
الثالثة: أنه من الشرك الأصغر.
الرابعة: أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين.
الخامسة: قرب الجنة والنار.


·الثانية: أن الرياء من الشرك؛ لحديث: " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فسئل عنه فقال: الرياء "1 وقد سبق بيان أحكامه بالنسبة إلى إبطال العبادة.

·الثالثة: أنه من الشرك الأصغر; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عنه قال:"الرياء"، فسماه شركا أصغر.
وهل يمكن أن يصل إلى الأكبر؟ ظاهر الحديث لا يمكن; لأنه قال: "الشرك الأصغر"، فسئل عنه; فقال: " الرياء ". لكن في عبارات ابن القيم رحمه الله أنه إذا ذكر الشرك الأصغر قال: كيسير الرياء; فهذا يدل على أن كثيره ليس من الأصغر، لكن إن أراد بالكمية; فنعم; لأنه لو كان يرائي في كل عمل؛ لكان مشركا شركا أكبر لعدم وجود الإخلاص في عمل يعمله، أما إذا أراد الكيفية; فظاهر الحديث أنه أصغر مطلقا.


·الرابعة: أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين؛ وتؤخذ من قوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ : " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر "؛ ولأنه قد يدخل في قلب الإنسان من غير شعور؛ لخفائه وتطلع النفس إليه، فإن كثيرا من النفوس تحب أن تمدح بالتعبد لله.
·الخامسة: قرب الجنة والنار؛ لقوله: " من لقي الله لا يشرك به شيئا; دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا; دخل النار ".



1 أحمد (5/429).

ج / 1 ص -126- السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد.
السابعة: أنه من لقيه يشرك به شيئا; دخل النار، ولو كان من أعبد الناس.
الثامنة: المسألة العظيمة سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام.
التاسعة: اعتبارة بحال الأكثر; لقوله:{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ } 1.


السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد: " من لقي الله لا يشرك به شيئا "2 الحديث.
السابعة: أن من لقيه يشرك به شيئا دخل النار، ولو كان من أعبد الناس: تؤخذ من العموم في قوله: " من لقي الله " ; لأن "من" للعموم، لكن إن كان شركه أكبر; لم يدخل الجنة وإن كان أعبد الناس; لقوله تعالى:{ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } 3، وإن كان أصغر; عذب بقدر ذنوبه ثم دخل الجنة.


·الثامنة: المسألة العظيمة سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام؛ تؤخذ من قوله تعالى: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} 4.
·التاسعة: اعتباره بحـال الأكثر; لقـوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ } 5.
وفيه إشكال; إذ المؤلف يقول: بحال الأكثر، والآية: { كَثِيراً مِنَ



1 سورة إبراهيم آية : 36.
2 مسلم : الإيمان (93) , وأحمد (3/325 ,3/344 ,3/374 ,3/391).
3 سورة المائدة آية : 72.
4 سورة إبراهيم آية : 35.
5 سورة إبراهيم آية : 36.

ج / 1 ص -127- النَّاسِ } العاشرة: فيه تفسير (لا إله إلا الله) كما ذكره البخاري.
الحادية عشرة: فضيلة من سلم من الشرك.


، وفرق بين كثير وأكثر، ولهذا قـال تعالى في بني آدم: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} 1 ; فلم يقل على أكثر الخلق، ولا على الخلق; فالآدميون فضلوا على كثير ممن خلق الله، وليسوا أكرم الخلق على الله، ولكنه تعالى كرمهم.


·العاشرة: فيه تفسير لا إله إلا الله كما ذكره البخاري: الظاهر أنها تؤخذ من جميع الباب; لأن لا إله إلا الله فيها نفي وإثبات.
·الحادية عشرة: فضيلة من سلم مـن الشرك: لقوله: { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } 2 وقوله: " من لقي الله لا يشرك به شيئا; دخل الجنة ".




1 سورة الإسراء آية : 70.
2 سورة النساء آية : 48.






المصدر :


كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979






ام عادل السلفية 28-01-2015 05:31PM

بسم الله الرحمن الرحيم






القول المفيد على كتاب التوحيد

باب الدعاء إلي شهادة أن لا إله إلا الله

ج / 1 ص -128- باب الدعاء إلي شهادة أن لا إله إلا الله

وقول الله تعالى:{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } 1 الآية.

هذا الترتيب الذي ذكره المؤلف من أحسن ما يكون; لأنه لما ذكر توحيد الإنسان بنفسه ذكر دعوة غيره إلى ذلك; لأنه لا يتم الإيمان إلا إذا دعا إلى التوحيد، قال تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} 2. فلا بد مع التوحيد من الدعوة إليه، وإلا كان ناقصا، ولا ريب أن هذا الذي سلك سبيل التوحيد لم يسلكه إلا وهو يرى أنه أفضل سبيل، وإذا كان صادقا في اعتقاده; فلا بد أن يكون داعيا إليه، والدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله من تمام التوحيد، ولا يتم التوحيد إلا به.


قوله: " قل هذه سبيلي ": المشار إليه ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الشرع عبادة ودعوة إلى الله. سبيلي: طريقي.
قوله: " أدعوا ": حال من الياء في قوله: " سبيلي "، ويحتمل أن تكون استئنافا لبيان تلك السبيل.
وقوله: " إلى الله " ; لأن الدعاة إلى الله ينقسمون إلى قسمين:
1- داع إلى الله.



1 سورة يوسف آية : 108.
2 سورة آية : 1-3.

ج / 1 ص -129-


2- داع إلى غيره.
فالداعي إلى الله تعالى هو المخلص الذي يريد أن يوصل الناس إلى الله تعالى. والداعي إلى غيره قد يكون داعيا إلى نفسه، يدعو إلى الحق لأجل أن يعظم بين الناس ويحترم، ولهذا تجده يغضب إذا لم يفعل الناس ما أمر به، ولا يغضب إذا ارتكبوا نهيا أعظم منه، لكن لم يدع إلى تركه. وقد يكون داعيا إلى رئيسه؛ كما يوجد في كثير من الدول من علماء الضلال من علماء الدول، لا علماء الملل، يدعون إلى رؤسائهم. من ذلك لما ظهرت الاشتراكية في البلاد العربية قام بعض علماء الضلالة بالاستدلال عليها بآيات وأحاديث بعيدة الدلالة، بل ليس فيها دلالة; فهؤلاء دعوا إلى غير الله.


ومن دعا إلى الله ثم رأى الناس فارين منه; فلا ييأس، ويترك الدعوة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعلي: " انفذ على رسلك; فوالله; لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم "1، يعني: أن اهتداء رجل واحد من قبائل اليهود خير لك من حمر النعم، فإذا دعا إلى الله ولم يجب; فليكن غضبه من أجل أن الحق لم يتبع، لا لأنه لم يجب، فإذا كان يغضب لهذا; فمعناه أنه يدعو إلى الله، فإذا استجاب واحد; كفى، وإذا لم يستجب أحد; فقد أبرأ ذمته أيضا، وفي الحديث: " والنبي وليس معه أحد "2.


ثم إنه يكفي من الدعوة إلى الحق، والتحذير من الباطل: أن يتبين للناس أن هذا حق وهذا باطل; لأن الناس إذا سكتوا عن بيان الحق، وأقر الباطل مع طول الزمن; ينقلب الحق باطلا، والباطل حقا.



1 يأتي (ص 138).
2 سبق تخريجه (ص 106).

ج / 1 ص -130-


قوله: " على بصيرة ": أي: علم; فتضمنت هذه الدعوة الإخلاص والعلم; لأن أكثر ما يفسد الدعوة عدم الإخلاص، أو عدم العلم، وليس المقصود بالعلم في قوله: " على بصيرة " العلم بالشرع فقط، بل يشمل: العلم بالشرع، والعلم بحال المدعو، والعلم بالسبيل الموصل إلى المقصود، وهو الحكمة. فيكون بصيرا بحكم الشرع، وبصيرا بحال المدعو، وبصيرا بالطريق الموصلة لتحقيق الدعوة، ولهذا قـال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: " إنك تأتي قوما أهل كتاب "1.


وهذه ليست كلها من العلم بالحكم الشرعي; لأن علمي أن هذا الرجل قابل للدعوة باللين، وهذا قابل للدعوة بالشدة، وهذا عنده علم يمكن أن يقابلني بالشبهات أمر زائد على العلم بالحكم الشرعي، وكذلك العلم بالطرق التي تجلب المدعوين كالترغيب بكذا والتشجيع; كقوله صلى الله عليه وسلم " من قتل قتيلا; فله سلبه "2 أو بالتأليف; فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم في غزوة حنين إلى مئة بعير3. فهذا كله من الحكمة; فالجاهل لا يصلح للدعوة، وليس محمودا، وليست طريقته طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الجاهل يفسد أكثر مما يصلح.




1 رواه: البخاري (كتاب المغازي, باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن 3/160), ومسلم (كتاب الإيمان, باب الدعاء إلى الشهادتين 1/50). ورواية: "فليوحدوا" رواها: البخاري (كتاب التوحيد, باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته, 4/378).


2 من حديث أبي قتادة; أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قتل قتيلا له عليه بينة; فله سلبه}, رواه: البخاري (كتاب المغازي, باب قول الله تعالى: {ويوم حنين إذ أعجبتكم...}, 3/ 154), ومسلم (كتاب الجهاد, باب استحقاق القاتل سلب القتيل, 3/1370).


3 من حديث أنس, رواه: البخاري (كتاب الخمس, باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة, رقم 3147), ومسلم (كتاب الزكاة, باب إعطاء المؤلفة, رقم 1059).

ج / 1 ص -131- وعن ابن عباس رضي الله عنهما; " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن

قوله: {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } 1


ذكروا فيها رأيين:

الأول: "أنا" مبتدأ، وخبرها " على بصيرة "، " ومن اتبعني " معطوفة على "أنا"; أي: أنا ومن اتبعني على بصيرة; أي: في عبادتي ودعوتي.
الثاني: "أنا" توكيد للضمير المستتر في قوله: " أدعو " ; أي: أدعو أنا إلى الله ومن اتبعني يدعو أيضا; أي: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله ويدعو من اتبعني، وكلانا على بصيرة.


قوله: " وسبحان الله ": أي: وسبحان الله أن أكون أدعو على غير بصيرة! وإعراب "سبحان": مفعول مطلق عامله محذوف تقديره أسبح. قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2 محلها مما قبلها في المعنى توكيد; لأن التوحيد معناه نفي الشرك.


قوله: (أي: قول ابن عباس): "بعث معاذا": أي: أرسله، وبعثه على صفة المعلم والحاكم والداعي، وبعثه في ربيع الأول سنة عشر من الهجرة، وهذا هو المشهور، وبعثه هو وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما، بعث معاذا إلى صنعاء وما حولها، وأبا موسى إلى عدن وما حولها، وأمرهما: {أن اجتمعا وتطاوعا ولا تفترقا، ويسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا}3.




1 سورة يوسف آية : 108.
2 سورة الأنعام آية : 79.
3 رواه: البخاري (كتاب المغازي, باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن, 3/160).

ج / 1 ص -132- قال له: إنك تأتي قوما من أهل الكتاب; فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة

قوله: "لما": إعرابها شرطية، وهي حرف وجود لوجود، و "لو": حرف امتناع لامتناع، و "لولا": حرف امتناع لوجود. قوله: " إنك تأتي قوما من أهل الكتاب ": قال ذلك مرشدا له، وهذا دليل على معرفته صلى الله عليه وسلم بأحوال الناس، وما يعلمه من أحوالهم;

فله طريقان:

1- الوحي.
2- العلم والتجربة.

قوله: "من": بيانية، والمراد بالكتاب: التوراة والإنجيل; فيكون المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وهم أكثر أهل اليمن في ذلك الوقت، وإن كان في اليمن مشركون; لكن الأكثر اليهود والنصارى، ولهذا اعتمد الأكثر وأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك;

لأمرين:

الأول: أن يكون بصيرا بأحوال من يدعو.
الثاني: أن يكون مستعدا لهم; لأنهم أهل كتاب، وعندهم علم.
قوله: "فليكن": الفاء للاستئناف أو عاطفة، واللام للأمر، و "أول": اسم يكن، وخبرها "شهادة"، وقيل العكس، يعني "أول" خبر مقدم و "شهادة" اسم يكن مؤخرا. والظاهر أنه يريد أن يبين أن أول ما يكون هي الشهادة، وإذا كان كذلك; يكون "أول" مرفوعا على أنه اسم يكن; أي: أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله.


قوله: " شهادة ": الشهادة هنا من العلم، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ

ج / 1 ص -133- بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن لا إله إلا الله (وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله)، فإن هم

1 ; فالشهادة هنا العلم والنطق باللسان; لأن الشاهد مخبر عن علم، وهذا المقام لا يكفي فيه مجرد الإخبار، بل لا بد من علم وإخبار وقبول وإقرار وإذعان; أي: انقياد.


فلو اعتقد بقلبه، ولم يقل بلسانه: أشهد أن لا إله إلا الله، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه ليس بمسلم بالإجماع حتى ينطق بها; لأن كلمة أشهد تدل على الإخبار، والإخبار متضمن للنطق، فلا بد من النطق; فالنية فقط لا تجزئ، ولا تنفعه عند الله حتى ينطق، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لعمه أبي طالب: "قل"2 ولم يقل: اعتقد أن لا إله إلا الله.
قوله: " لا إله ": أي: لا معبود; فإله بمعنى مألوه; فهو فعال بمعنى مفعول، وعند المتكلمين: إله بمعنى آله; فهو اسم فاعل، وعليه يكون معنى لا إله; أي: لا قادر على الاختراع، وهذا باطل3 ولو قيل بهذا المعنى; لكان المشركون الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم موحدين لأنهم يقرون به، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } 4، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } 5.


فإن قيل: كيف يقال: لا معبود إلا الله، والمشركون يعبدون أصنامهم؟!
أجيب: بأنهم يعبدونها بغير حق; فهم وإن سموها آلهة; فألوهيتها باطلة، وليست معبودات بحق، ولذلك إذا مسهم الضر; لجؤوا إلى الله



1 سورة الزخرف آية : 86.
2 يأتي (ص 353).
3 انظر: (ص 64).
4 سورة الزخرف آية : 87.
5 سورة لقمان آية : 25.

ج / 1 ص -134- أطاعوك لذلك; فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك; فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك; فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " أخرجاه1.


ولهما عن سهل بن سعد (رضي الله عنه): " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: لأعطين الراية......


تعالى، وأخلصوا له الدين، وعلى هذا لا تستحق أن تسمى آلهة. فهم يعبدونها ويعترفون بأنهم لا يعبدونها إلا لأجل أن تقربهم إلى الله فقط; فجعلوها وسيلة وذريعة، وبهذا التقدير لا يرد علينا إشكال في قول الرسل لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } 2; لأن هذه المعبودات لا تستحق أن تعبد، بل الإله المعبود حقا هو الله - سبحانه وتعالى -.
وفي قوله: " لا إله إلا الله " نفي الألوهية لغير الله، وإثباتها لله ولهذا جاءت بطريق الحصر.
قوله: " لأعطين ": هذه جملة مؤكدة بثلاث مؤكدات: القسم المقدر، واللام، والنون، والتقدير: والله لأعطين.
قوله: " الراية ": العلم، وسمي راية، لأنه يرى، وهو ما يتخذه أمير الجيش للعلامة على مكانه.




1 تقدم تخريجه (ص 130).
2 سورة الأعراف آية : 59.

ج / 1 ص -135- غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله; يفتح الله على يديه. فبات الناس يدوكون ليلتهم; أيهم يعطاها، فلما أصبحوا; غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها.


واللواء; قيل: إنه الراية، وقيل: ما لوي أعلاه، أو لوي كله; فيكون الفرق بينهما: أن الراية مفلولة لا تطوى، واللواء يطوى إما أعلاه أو كله، والمقصود منهما الدلالة، ولهذا يسمى علما.
قوله: "غدا": يراد به ما بعد اليوم، والأمس يراد به ما قبله. والأصل أنه يراد بالغد ما يلي يومك، ويراد بالأمس الذي يليه يومك، وقد يراد بالغد ما وراء ذلك، قال تعالى: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } 1; أي: يوم القيامة. وكذلك الأمس قد يراد به ما وراء ذلك; أي: ما وراء اليوم الذي يليه يومك.


قوله: " يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله ": أثبت المحبة لله من الجانبين، أي أن الله تعالى يحب ويحب، وقد أنكر هذا أهل التعطيل، وقالوا: المراد بمحبة الله للعبد إثابته أو إرادة إثابته، والمراد بمحبة العبد لله محبة ثوابه، وهذا تحريف للكلام عن ظاهره مخالف لإجماع السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى من بعدهم، ومحبة الله تعالى ثابتة له حقيقة، وهي من صفاته الفعلية، وكل شيء من صفات الله يكون له سبب; فهو من الصفات الفعلية، والمحبة لها سبب; فقد يبغض الله إنسانا في وقت، ويحبه في وقت لسبب من الأسباب.


قوله: "على يديه": أي: يفتح الله خيبر على يديه، وفي ذلك بشارة بالنصر.
قوله: "يدوكون": أي: يخوضون، وجملة يدوكون خبر بات.
قوله: "غدوا على رسول الله": أي: ذهبوا إليه في الغدوة مبكرين، كلهم يرجو أن يعطاها؛ لينال محبة الله ورسوله.



1 سورة الحشر آية : 18.

ج / 1 ص -136- فقال: أين علي بن أبي طالب ؟. فقيل هو يشتكي عينيه. فأرسلوا إليه، فأتي به، فبصق في عينيه، ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم........

قوله: " فقال: أين علي؟ ": القائل: الرسول صلى الله عليه وسلم
قوله: "يشتكي عينيه": أي: يتألم منهما، ولكنه يشتكي إلى الله; لأن عينيه مريضة.
وقوله: "فأرسلوا إليه": بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: " فأتي به ": كأنهرضي الله عنهقد عمم على عينيه; لأن قوله: " أتي به " ; أي: يقاد.
وقوله: " كأن لم يكن به وجع ": أي: ليس بهما أثر حمرة ولا غيرها.
قوله: "فبرأ": هذا من آيات الله الدالة على قدرته وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا من مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (، أنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله; لتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم له ذلك من بين سائر الصحابة.
قوله: " انفذ على رسلك ": أي مهلك، مأخوذ من رسل الناقة; أي: حليبها يحلب شيئا فشيئا، والمعنى: امش هوينا هوينا; لأن المقام خطير; لأنه يخشى من كمين، واليهود خبثاء أهل غدر.


قوله: " حتى تنزل بساحتهم ": أي: ما يقرب منهم وما حولهم،

ج / 1 ص -137- ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله، لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من


والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين "1 وهذا إذا كنا على الوصف الذي عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أما إذا كنا على وصف القومية، فإننا لو نزلنا في أحضانهم; فمن الممكن أن يقوموا ونكون في الأسفل. قوله: " ثم ادعهم ": أي: أهل خيبر، " إلى الإسلام "; أي: الاستسلام لله.
قوله: " وأخبرهم بما يجب عليهم ": أي: فلا تكفي الدعوة إلى الإسلام فقط، بل يخبرهم بما يجب عليهم فيه؛ حتى يقتنعوا به ويلتزموا. لكن على الترتيب الذي في حديث بعث معاذ. وهذه المسألة يتردد الإنسان فيها: هل يخبرهم بما يجب عليهم من حق الله في الإسلام قبل أن يسلموا أو بعده؟ فإذا نظرنا إلى ظاهر حديث معاذ وحديث سهل هذا; فإننا نقول: الأولى أن تدعوه للإسلام، وإذا أسلم تخبره. وإذا نظرنا إلى واقع الناس الآن، وأنهم لا يسلمون عن اقتناع; فقد يسلم، وإذا أخبرته ربما يرجع، قلنا: يخبرون أولا بما يجب عليهم من حق الله فيه; لئلا يرتدوا عن الإسلام بعد إخبارهم بما يجب عليهم، وحينئذ يجب قتلهم لأنهم مرتدون. ويحتمل أن يقال: تترك هذه المسألة للواقع، وما تقتضيه المصلحة من تقديم هذا أو هذا.


قوله: " لأن يهدي الله ": اللام واقعة في جواب القسم، وأن بفتح


1 من حديث أنس, رواه: البخاري (كتاب الصلاة, باب ما يذكر في الفخذ, 1/139), ومسلم (كتاب الجهاد, باب غزوة خيبر, 3/139).

ج / 1 ص -138- حمر النعم "1 (يدوكون); أي: يخوضون.


· فيه مسائل:

الأولى:
أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم

الهمزة مصدرية، ويهدي مؤول بالمصدر مبتدأ، و "خير": خبر، ونظيرها قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } 2.
قوله: " حمر النعم ": بتسكين الميم: جمع أحمر، وبالضم: جمع حمار، والمراد الأول. وحمر النعم: هي الإبل الحمراء، وذكرها لأنها مرغوبة عند العرب، وهي أحسن وأنفس ما يكون من الإبل عندهم.
وقوله: " لأن يهدي الله بك "، ولم يقل: لأن تهدي; لأن الذي يهدي هو الله. والمراد بالهداية هنا هداية التوفيق والدلالة.


وهل المراد الهداية من الكفر إلى الإسلام، أو يعم كل هداية؟ نقول: هو موجه إلى قوم يدعوهم إلى الإسلام، وهل نقول: إن القرينة الحالية تقتضي التخصيص، وأن من اهتدى على يديه رجل، في مسألة فرعية من مسائل الدين، لا يحصل له هذا الثواب بقرينة المقام; لأن عليا موجه إلى قوم كفار يدعوهم إلى الإسلام؟ الله أعلم.


فيه مسائل:
· الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم:


1 رواه: البخاري (كتاب المغازي, باب غزوة خيبر, 3/134), ومسلم (كتاب فضائل الصحابة, باب من فضائل علي, 4/1872).
2 سورة البقرة آية : 184.



ج / 1 ص -139- الثانية: التنبيه على الإخلاص; لأن كثيرا من الناس لو دعا إلى الحق، فهو يدعو إلى نفسه.
الثالثة: أن البصيرة من الفرائض.
الرابعة: من دلائل حسن التوحيد كونه تنزيها لله تعالى عن المسبة.

وتؤخذ من قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } 1 والأشمل من ذلك والأبلغ في مطابقة الآية أن يقال: إن الدعوة إلى الله طريق الرسل وأتباعهم.


·الثانية: التنبيه على الإخلاص: وتؤخذ من قوله: {أدعو إلى الله}، ولهذا قال: "لأن كثيرا من الناس لو دعا إلى الحق; فهو يدعو إلى نفسه"; فالذي يدعو إلى الله هو الذي لا يريد إلا أن يقوم دين الله، والذي يدعو إلى نفسه هو الذي يريد أن يكون قوله هو المقبول، حقا كان أم باطلا.


·الثالثة: أن البصيرة من الفرائض: وتؤخذ من قوله تعالى: { أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } 2 ووجه كون البصيرة من الفرائض; أنه لا بد للداعية من العلم بما يدعو إليه، والدعوة فريضة; فيكون العلم بذلك فريضة.

·الرابعة: من دلائل حسن التوحيد كونه تنزيها لله عن المسبة وتؤخذ من قوله تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3 فسبحان الله دليل على أنه واحد لكماله.


ومعنى عن المسبة، أي: وعن مماثلة الخالق للمخلوق; إذ تمثيل الكامل بالناقص يجعله ناقصا. قال الشاعر:

ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا


1 سورة يوسف آية : 108.
2 سورة يوسف آية : 108.
3 سورة آية : 108.

ج / 1 ص -140- الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله.
السادسة: وهي من أهمها: إبعاد المسلم عن المشركين; لئلا يصير منهم، ولو لم يشرك.
السابعة: كون التوحيد أول واجب
الثامنة: أنه يبدأ به قبل كل شيء، حتى الصلاة.
التاسعة: أن معنى: " أن يوحدوا الله " : معنى شهادة أن لا إله إلا الله.


· الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله : وتؤخذ من قوله تعالى: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1 بعد قوله: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ }
·السادسة: وهي من أهمها -: إبعاد المسلم عن المشركين; لئلا يصير منهم، ولو لم يشرك: لقوله تعالى: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2 ولم يقل: "وما أنا مشرك"; لأنه إذا كان بينهم، ولو لم يكن مشركا; فهو في ظاهره منهم، ولهذا لما قال الله للملائكة: { اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ } 3 توجه الخطاب له ولهم.


·السابعة: كون التوحيد أول واجب: تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم: " فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله ". وفي رواية: " أن يوحدوا الله ". وقال بعض العلماء: أول واجب النظر، لكن الصواب أن أول واجب هو التوحيد; لأن معرفة الخالق دلت عليها الفطرة.
·الثامنة: أن يبدأ به قبل كل شيء: تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم " ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه ".
·التاسعة: أن معنى أن يوحدوا الله؛ معنى شهادة أن لا إله إلا الله :



1 سورة الأنعام آية : 79.
2 سورة الأنعام آية : 79.
3 سورة البقرة آية : 34.

ج / 1 ص -141- العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها.
الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج.
الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم.
الثالثة عشرة: مصرف الزكاة.
الرابعة عشرة: كشف العالم الشبهة عن المتعلم.


تؤخذ من تعبير الصحابي حيث عبر في رواية بقوله: " شهادة أن لا إله إلا الله"، وفي رواية عبر بقوله: " أن يوحدوا الله ".
·العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها أو يعرفها ولا يعمل بها: ومراده بقوله: " لا يعرفها، أو يعرفها" شهادة أن لا إله إلا الله، وتؤخذ من قوله: " فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله " إذ لو كانوا يعرفون (لا إله إلا الله) ويعملون بها؛ ما احتاجوا إلى الدعوة إليها.
·الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج: تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: " ادعهم إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أطاعوك لذلك; فأعلمهم أن الله افترض عليهم... " إلخ الحديث.


·الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم: تؤخذ من أمره صلى الله عليه وسلم معاذا بالتوحيد ليدعو إليه أولا، ثم الصلاة، ثم الزكاة.
·الثالثة عشرة: مصرف الزكاة: تؤخذ من قوله: " فترد على فقرائهم".
·الرابعة عشرة: كشف العالم الشبهة عن المتعلم: المراد بالشبهة

ج / 1 ص -142- الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال.
السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم.
السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب.
الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء.


هنا: شبهة العلم; أي: يكون عنده جهل. تؤخذ من قوله: " إن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ".
فبين أن هذه الصدقة تؤخذ من الأغنياء، وأن مصرفها الفقراء.
·الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال: تؤخذ من قوله: " فإياك وكرائم أموالهم "; إذ إياك تفيد التحذير، والتحذير يستلزم النهي.
·السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم: تؤخذ من قوله: " واتق دعوة المظلوم ".
·السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب: تؤخذ من قوله: " فإنه ليس بينها وبين الله حجاب "; فقرن الترغيب أو الترهيب بالأحكام، مما يحث النفس إن كان ترغيبا، ويبعدها ويزجرها إن كان ترهيبا; لقوله: " اتق دعوة المظلوم "؛ فالنفس قد لا تتقي، لكن إذا قيل: ليس بينها وبين الله حجاب; خافت ونفرت من ذلك.


·الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء: والظاهر أن المؤلف رحمه الله يريد الإشارة إلى قصة خيبر; إذ وقع فيها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

ج / 1 ص -143- التاسعة عشرة: قوله: " لأعطين الراية..." إلخ: علم من أعلام النبوة.
العشرون: تفله في عينيه علم من أعلامها أيضا.
·الحادية والعشرون: فضيلة علي (.
الثانية والعشرون: فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح.


جوع عظيم، حتى إنهم أكلوا الحمير والثوم1، وأما الوباء; فهو ما وقع في عهد عليرضي الله عنهوأما المشقة; فظاهرة. ووجه كون ذلك من أدلة التوحيد: أن الصبر والتحمل في مثل هذه الأمور؛ يدل على إخلاص الإنسان في توحيده، وأن قصده الله، ولذلك صبر على البلاء.


·التاسعة عشرة:قوله: " لأعطين الراية " علم من أعلام النبوة: لأن هذا حصل; فعلي بن أبي طالب يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.
·العشرون: تفله في عينيه علم من أعلامها أيضا: لأنه بصق في عينيه; فبرأ كأن لم يكن به وجع.
·الحادية والعشرون: فضيلة علي بن أبي طالب (: وهذا ظاهر; لأنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.
·الثانية والعشرون: فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم



1 أكل لحوم الحمر من حديث سلمة بن الأكوع, رواه: البخاري (كتاب المغازي, باب غزوة خيبر, 3/135), ومسلم (كتاب الجهاد, باب غزوة خيبر, 3/1427). وأكل الثوم رواه: البخاري في (الكتاب والباب السابقين, 3/138) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ج / 1 ص -144- الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى.


الرابعة والعشرون: الأدب في قوله: " على رسلك ".
الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال.
السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا.
السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة; لقوله: " أخبرهم بما يجب عليهم ".


عن بشارة الفتح: لأنهم انشغلوا عن بشارة الفتح بالتماسهم معرفة من يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.
·الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع لها، ومنعها عمن سعى: لأن الصحابة غدوا على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ مبكرين، كلهم يرجو أن يعطاها ولم يعطوها، وعلي بن أبي طالب مريض ولم يسع لها ومع ذلك أعطي الراية.
·الرابعة والعشرون: الأدب في قوله: " على رسلك ": ووجهه: أنه أمره بالتمهل وعدم التسرع.


·الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال؛ لقوله: " انزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام ".
·السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا.
·السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة; لقوله: " أخبرهم بما يجب عليهم": لأن من الحكمة أن تتم الدعوة، وذلك بأن تأمره بالإسلام أولا،

ج / 1 ص -145- الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله في الإسلام.
التاسعة والعشرون: ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد.
الثلاثون: الحلف على الفتيا.


ثم تخبره بما يجب عليه من حق الله، ولا يكفي أن تأمره بالإسلام; لأنه قد يطبق هذا الإسلام الذي أمرته به وقد لا يطبقه، بل لا بد من تعاهده حتى لا يرجع إلى الكفر.
·الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله في الإسلام: تؤخذ من قوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: " وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه ".
·التاسعة والعشرون: ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد: لقوله: " لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " أي: خير لك من كل ما يستحسن في الدنيا، وليس المعنى كما قال بعضهم: خير لك من أن تتصدق بنعم حمر.


·الثلاثون: الحلف على الفتيا؛ لقوله: " فوالله لأن يهدي الله..." إلخ; فأقسم النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يستقسم، والفائدة هي حثه على أن يهدي الله به، والتوكيد عليه. ولكن لا ينبغي الحلف على الفتيا إلا لمصلحة وفائدة; لأنه قد يفهم السامع أن المفتي لم يحلف إلا لشك عنده. والإمام أحمد رحمه الله أحيانا يقول في إجابته: إي والله، وقد أمر الله رسوله بالحلف في ثلاثة مواضع من القرآن: في قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ } 1.



1 سورة يونس آية : 53.

ج / 1 ص -146- وفي قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } 1. وفي قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } 2 فإذا كان في القسم مصلحة ابتداء، أو جوابا لسؤال; جاز وربما يكون مطلوبا.

1 سورة التغابن آية : 7.
2 سورة سبأ آية : 3.





المصدر :


كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 28-01-2015 05:48PM

بسم الله الرحمن الرحيم






القول المفيد على كتاب التوحيد

باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

ج / 1 ص -147- باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

التفسير معناه: الكشف والإيضاح، مأخوذ من قولهم: فسرت الثمرة قشرها، ومن قول الإنسان: فسرت ثوبي; فاتضح ما وراءه، ومنه تفسير القرآن الكريم.
والتوحيد تقدم تعريفه1 والمراد به هنا اعتقاد أن الله واحد في ألوهيته. وقوله: " وشهادة أن لا إله إلا الله ": معطوف على التوحيد; أي: وتفسير شهادة أن لا إله إلا الله.
والعطف هنا من باب عطف المترادفين; لأن التوحيد حقيقة هو شهادة أن لا إله إلا الله.


وهذا الباب مهم;
لأنه لما سبق الكلام على التوحيد وفضله والدعوة إليه، كأن النفس الآن اشرأبت إلى بيان ما هو هذا التوحيد الذي بوب له هذه الأبواب (وجوبه، وفضله، والدعوة إليه).
فيجاب بهذا الباب، وهو تفسير التوحيد، وقد ذكر المؤلف خمس آيات:



1 انظر: (ص 10).

ج / 1 ص -148- وقول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } 1 الآية.

· الآية الأولى: قوله تعالى: " أولئك ". أولاء: مبتدأ. " الذين ": اسم موصول بدل منه.
" يدعون ": صلة الموصول. وجملة " يبتغون ": خبر المبتدأ; أي: هؤلاء الذين يدعوهم هؤلاء هم أنفسهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب; فكيف تدعونهم وهم محتاجون مفتقرون؟! فهذا سفه في الحقيقة، وهذا ينطبق على كل من دعي، وهو داع; كعيسى بن مريم، والملائكة، والأولياء، والصالحين. وأما الشجر والحجر; فلا يدخل في الآية.


فهؤلاء الذين زعمتم أنهم أولياء من دون الله لا يملكون كشف الضر ولا تحويله من مكان إلى مكان; لأنهم هم بأنفسهم يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، وقد قال تعالى مبينا حال هؤلاء المدعوين: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 2.


قوله: " يدعون " ; أي: دعاء مسألة; كمن يدعو عليا عند وقوعهم في الشدائد، وكمن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
وقد يكون دعاء عبادة; كمن يتذلل لهم بالتقرب، والنذر، والركوع، والسجود.


1 سورة الإسراء آية : 57.
2 سورة فاطر آية : 13-14.

ج / 1 ص -149- وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي } 1. الآية.


قوله: " يبتغون ": يطلبون.
قوله: " الوسيلة " ; أي: الشيء الذي يوصلهم إلى الله; يعني: يطلبون ما يكون وسيلة إلى الله - سبحانه وتعالى - أيهم أقرب إلى الله، وكذلك أيضا يرجون رحمته ويخافون عذابه.


وجه مناسبة الآية للباب،
باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.

أن التوحيد يتضمن البراءة من الشرك، بحيث لا يدعو مع الله أحدا; لا ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا، وهؤلاء الذين يدعون الأنبياء والملائكة لم يتبرءوا من الشرك، بل هم واقعون فيه، ومن العجب أنهم يدعون من هم في حاجة إلى ما يقربهم إلى الله تعالى; فهم غير مستغنين عن الله بأنفسهم; فكيف يغنون غيرهم؟!


·الآية الثانية والثالثة: قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ }الآيتين.
قوله: " براء ": على وزن فعال، وهي صفة مشبهة من التبرؤ، وهو التخلي; أي: إنني متخل غاية التخلي عما تعبدون إلا الذي فطرني، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام قوي في ذات الله، فقال ذلك معلنا به لأبيه وقومه، وأبوه هو آزر2.



1 سورة الزخرف آيتان: 26-27.
2 انظر: (ص 94).

ج / 1 ص -150-

قوله: " تعبدون ": العبادة هنا التذلل والخضوع; لأن في قومه من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الشمس والقمر والكواكب.
قوله: { إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي } جمع بين النفي والإثبات; فالنفي: { بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } والإثبات: { إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي } فدل على أن التوحيد لا يتم إلا بالكفر بما سوى الله والإيمان بالله وحده: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } وهؤلاء يعبدون الله ويعبدون غيره; لأنه قال: { إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي } والأصل في الاستثناء الاتصال إلا بدليل، ومع ذلك تبرأ منهم.


وكذا يوجد في بعض البلدان الإسلامية من يصلي ويزكي ويصوم ويحج، ومع ذلك يذهبون إلى القبور يسجدون لها ويركعون; فهم كفار غير موحدين، ولا يقبل منهم أي عمل، وهذا من أخطر ما يكون على الشعوب الإسلامية; لأن الكفر بما سوى الله عندهم ليس بشيء، وهذا جهل منهم، وتفريط من علمائهم; لأن العامي لا يأخذ إلا من عالمه، لكن بعض الناس - والعياذ بالله - عالم دولة لا عالم ملة.


وفي قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم:{ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي }ولم يقل إلا الله


فائدتان:

الأولى: الإشارة إلى علة إفراد الله بالعبادة; لأنه كما أنه منفرد بالخلق; فيجب أن يفرد بالعبادة.
الثانية: الإشارة إلى بطلان عبادة الأصنام; لأنها لم تفطركم حتى تعبدوها; ففيها تعليل للتوحيد الجامع بين النفي والإثبات، وهذه من البلاغة التامة في تعبير إبراهيم عليه السلام.

ج / 1 ص -151- وقوله: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } 1 الآية.



يستفاد من الآية أن التوحيد لا يحصل بعبادة الله مع غيره، بل لا بد من إخلاصه لله،

والناس في هذا المقام ثلاثة أقسام:
قسم يعبد الله وحده.
وقسم يعبد غيره فقط.
وقسم يعبد الله وغيره.

والأول فقط هو الموحد.
·الآية الرابعة: قوله تعالى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } الآية.
قوله: " أحبارهم ": والمعطوف عليها المفعول الأول ل " اتخذوا "، والثاني: " أربابا "; أي: هؤلاء اليهود والنصارى جعلوا أحبارهم ورهبانهم أربابا.
والأحبار: جمع حبر، وهو العالم، ويقال للعالم أيضا بحر لكثرة علمه.
والحبر; بفتح الحاء، وكسرها يقال: حبر، وحبر.
قوله تعالى: " ورهبانهم " ; أي: عبادهم.


وقوله: " أربابا ": جمع رب، أي يجعلونهم أربابا من دون الله;


1 سورة التوبة آية : 31.

ج / 1 ص -152-

فجعلوا الأحبار أربابا؛ لأنهم يأتمرون بأمرهم في مخالفة أمر الله، فيطيعونهم في معصية الله.
وجعلوا الرهبان أربابا باتخاذهم أولياء يعبدونهم من دون الله.
قوله: " من دون الله " ; أي: من غير الله.
قوله: { وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } 1 معطوف على أحبارهم; أي: اتخذوا المسيح ابن مريم أيضا ربا حيث قالوا: إنه ثالث ثلاثة.
قوله: " إلا ليعبدوا " ; أي: يتذللوا بالطاعة لله وحده، الذي خلق المسيح والأحبار والرهبان والسماوات والأرض. قوله: { لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } 2 أي: لا معبود حق إلا هو.
قوله: " سبحانه ": تنزيه لله عما يشركون. وجه كون هذه الآية تفسيرا للتوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله: أن الله أنكر عليهم اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله وهذه الآية سيأتي فيها ترجمة كاملة في كلام المؤلف رحمه الله; فهؤلاء جعلوا الأحبار شركاء في الطاعة، كلما أمروا بشيء أطاعوهم، سواء وافق أمر الله أم لا. إذا; فتفسير التوحيد أيضا بلا إله إلا الله يستلزم أن تكون طاعتك لله وحده، ولهذا على الرغم من تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم لطاعة ولاة الأمر; قال: " إنما الطاعة في المعروف "3.




1 سورة التوبة آية : 31.
2 سورة البقرة آية : 163.
3 من حديث علي, رواه: البخاري (كتاب المغازي, باب سرية عبد الله بن حذافة السهمي, 3/160), ومسلم (كتاب الإمارة, باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية, 3/1469).

ج / 1 ص -153- وقوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ }الآية. 1



الآية الخامسة: قوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } 2 الآية.
قوله: " ومن الناس ": من للتبعيض، وعلامتها أن يصح أن يحل محلها بعض، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم، و " من يتخذ " مبتدأ مؤخر. أي من يجعل لله أندادا ومفعولها الأول " أندادا " مؤخرا ومفعولها الثاني " من دون الله " مقدما.
وقوله: " يتخذ ": جاءت بالإفراد مراعاة للفظ "من". وقوله: " يحبونهم " أو بالجمع مراعاة للمعنى.
وقوله: " أندادا ": جمع ند، وهو الشبيه والنظير، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له ما شاء الله وشئت: "أجعلتني لله ندا؟! بل ما شاء الله وحده "3.


وقوله: { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ }هذا وجه المشابهة; أي: الندية في المحبة؛ يحبونهم كحب الله. واختلف المفسرون في قوله: { كَحُبِّ اللَّهِ }.
فقيل: يجعلون محبة الأصنام مساوية لمحبة الله، فيكون في قلوبهم محبة لله ومحبة للأصنام، ويجعلون محبة الأصنام كمحبة الله; فيكون المصدر مضافا إلى مفعوله. أي يحبون الأصنام كحبهم الله.



1 سورة البقرة آية : 165.
2 سورة البقرة آية : 165.
3 سبق (ص 58).

ج / 1 ص -154-

وقيل: يحبون هذه الأصنام محبة شديدة كمحبة المؤمنين لله.
وسياق هذه الآية يؤيد القول الأول.
وقوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ }على الرأي الأول يكون معناها: والذين آمنوا أشد حبا لله من هؤلاء لله; لأن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة هؤلاء فيها شرك بين الله وبين أصنامهم. وعلى الرأي الثاني معناها: والذين آمنوا أشد حبا لله من هؤلاء لأصنامهم; لأن محبة المؤمنين ثابتة في السراء والضراء على برهان صحيح، بخلاف المشركين; فإن محبتهم لأصنامهم تتضاءل إذا مسهم الضر.


فما بالك برجل يحب غير الله أكثر من محبته لله؟! وما بالك برجل يحب غير الله ولا يحب الله؟! فهذا أقبح وأعظم، وهذا موجود في كثير من المنتسبين للإسلام اليوم; فإنهم يحبون أولياءهم أكثر مما يحبون الله، ولهذا لو قيل له: احلف بالله; حلف صادقا أو كاذبا، أما الولي; فلا يحلف به إلا صادقا. وتجد كثيرا منهم يأتون إلى مكة والمدينة، ويرون أن زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم من زيارة البيت; لأنهم يجدون في نفوسهم حبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كحب الله أو أعظم، وهذا شرك; لأن الله يعلم أننا ما أحببنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لحب الله، ولأنه رسول الله، ما أحببناه لأنه محمد بن عبد الله، لكننا أحببناه لأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن نحبه بمحبة الله، لكن هؤلاء يجعلون محبة الله تابعة لمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم إن أحبوا الله.


فهذه الآية فيها محنة عظيمة، لكثير من قلوب المسلمين اليوم؛ الذين يجعلون غير الله مثل الله في المحبة، وفيه أناس أيضا أشركوا بالله في محبة غيره، لا على وجه العبادة الشرعية; لكن على وجه العبادة المذكورة

ج / 1 ص -155-


في الحديث1، وهي محبة الدرهم والدينار والخميصة والخميلة، يوجد أناس لو فتشت عن قلوبهم; لوجدت قلوبهم ملأى من محبة متاع الدنيا، وحتى هذا الذي جاء يصلي، هو في المسجد لكن قلبه مشغول بما يحبه من أمور الدنيا.
فهذا نوع من أنواع العبادة في الحقيقة، ولو حاسب الإنسان نفسه لماذا خلق؟ لعلم أنه خلق لعبادة الله، وأيضا خلق لدار أخرى ليست هذه الدار; فهذه الدار مجاز يجوز الإنسان منها إلى الدار الأخرى، الدار التي خلق لها والتي يجب أن يعنى بالعمل لها، يا ليت شعري متى يوما من الأيام فكر الإنسان ماذا عملت؟ وكم بقي لي في هذه الدنيا؟ وماذا كسبت؟ الأيام تمضي، ولا أدري هل ازددت قربا من الله أو بعدا من الله؟ هل نحاسب أنفسنا عن هذا الأمر؟ فلا بد لكل إنسان عاقل من غاية; فما هي غايته؟ نحن الآن نطلب العلم للتقرب إلى الله بطلبه، وإعلام أنفسنا، وإعلام غيرنا; فهل نحن كلما علمنا مسألة من المسائل طبقناها؟ نحن على كل حال نجد في أنفسنا قصورا كثيرا وتقصيرا، وهل نحن إذ علمنا مسألة ندعو عباد الله إليها؟ هذا أمر يحتاج إلى محاسبة، ولذلك; فإن على طالب العلم مسؤولية ليست هينة، عليه أكثر من زكاة المال; فيجب أن يعمل ويتحرك ويبث العلم والوعي في الأمة الإسلامية، وإلا انحرفت عن شرع الله. قال ابن القيم رحمه الله: كل الأمور تسير بالمحبة; فأنت مثلا لا تتحرك لشيء إلا وأنت تحبه، حتى اللقمة من الطعام لا تأكلها إلا لمحبتك لها.


ولهذا قيل: إن جميع الحركات مبناها على المحبة; فالمحبة أساس العمل، فالإشراك في المحبة إشراك بالله.



1 سبق (ص 35).

ج / 1 ص -156-


والمحبة أنواع:

الأول: المحبة لله وهذه لا تنافي التوحيد، بل هي من كماله، فأوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله. والمحبة لله هي أن تحب هذا الشيء; لأن الله يحبه، سواء كان شخصا أو عملا، وهذا من تمام التوحيد. قال مجنون ليلى:

أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ولكنْ حُبُّ مَن سكن الديارا


الثاني:
المحبة الطبيعية التي لا يؤثرها المرء على محبة الله; فهذه لا تنافي محبة الله; كمحبة الزوجة، والولد، والمال، ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم من أحب الناس إليك؟ قال: "عائشة". قيل: فمن الرجال؟ قال: "أبوها"1. ومن ذلك محبة الطعام والشراب واللباس.


الثالث:
المحبة مع الله التي تنافي محبة الله، وهي أن تكون محبة غير الله كمحبة الله أو أكثر من محبة الله، بحيث إذا تعارضت محبة الله ومحبة غيره قدم محبة غير الله، وذلك إذا جعل هذه المحبة ندا لمحبة الله يقدمها على محبة الله أو يساويها بها2.
الشاهد من هذه الآية: أن الله جعل هؤلاء الذين ساووا محبة الله بمحبة غيره مشركين جاعلين لله أندادا.



1 من حديث عمرو بن العاص, رواه البخاري (كتاب فضائل الصحابة, باب قول النبي صلى الله عليه وسلم ولو كنت متخذا خليلا , 3/9), ومسلم (كتاب الفضائل, باب فضائل أبي بكر, 4/1856).
2 انظر: باب قول الله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا}.

ج / 1 ص -157- وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله; حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عزوجل "1.


قوله: "وفي الصحيح": لم يفصح المؤلف رحمه الله بمراده بالصحيح; أهو "صحيح البخاري" أم "صحيح مسلم"، أم أن المراد به الحديث الصحيح; سواء كان في "الصحيحين" معا، أم في أحدهما، أم في غيرهما، وليس له اصطلاح في ذلك يحمل عليه عند الإطلاق، وعلى هذا يبحث عن الحديث في مظانه، وقد ورد هذا التعبير في سياق المؤلف للحديث في مواضع أخرى، والمراد به هنا "صحيح مسلم".


قوله: صلى الله عليه وسلم " من قال لا إله إلا الله ": أي لا معبود حق إلا الله; فلفظ الجلالة بدل من الضمير المستتر في الخبر، ومن يرى أن "لا" تعمل في المعرفة يقولون: هو الخبر.
قوله: " وكفر بما يعبد من دون الله ": أي: بعبادة من يعبد من دون الله، قلنا ذلك; لأن عيسى بن مريم كان يعبد من دون الله، ونحن نؤمن به، لكن لا نؤمن بعبادته ولا بأنه مستحق للعبادة; كما قال تعالى: { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } 2.


وفي قوله: " وكفر بما يعبد من دون الله ": دليل على أنه لا يكفي مجرد التلفظ بلا إله إلا الله، بل لا بد أن تكفر بعبادة من يعبد من



1 رواه: مسلم (كتاب الإيمان, باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله, 1/53).
2 سورة آية : 116-117.

ج / 1 ص -158- وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب.
·فيه مسائل: فيه أكبر المسائل وأهمها، وهي تفسير التوحيد......

دون الله، بل وتكفر أيضا بكل كفر، فمن يقول: لا إله إلا الله، ويرى أن النصارى واليهود اليوم على دين صحيح; فليس بمسلم، ومن يرى الأديان أفكارا يختار منها ما يريد; فليس بمسلم، بل الأديان عقائد مفروضة من قبل الله عزوجل يتمشى الناس عليها، ولهذا ينكر على بعض الناس في تعبيره بقوله: الفكر الإسلامي، بل الواجب أن يقال: الدين الإسلامي أو العقيدة الإسلامية، ولا بأس بقول المفكر الإسلامي; لأنه وصف للشخص نفسه لا للدين الذي هو عليه.


قوله: "وشرح هذه الترجمة": المراد بالشرح هنا: التفصيل، والترجمة: هي التعبير بلغة عن لغة أخرى، ولكنها تطلق باصطلاح المؤلفين على العناوين والأبواب، فيقال: ترجم على كذا; أي: بوب له.
قوله: "فيه أكبر المسائل وأهمها، وهي تفسير التوحيد":


فتفسير التوحيد أنه لا بد فيه من أمرين:
الأول: نفي الألوهية عن سوى الله عزوجل
الثاني: إثبات الألوهية لله وحده; فلا بد من النفي والإثبات لتحقيق التوحيد; لأن التوحيد جعل الشيء واحدا بالعقيدة والعمل، وهذا لا بد فيه من النفي والإثبات.
فإذا قلت: زيد قائم; أثبتَّ له القيام ولم توحده، لكن إذا قلت: لا قائم إلا زيد; أثبت له القيام ووحدته به.



ج / 1 ص -159- وتفسير الشهادة، وبينها بأمور واضحة.
منها آية الإسراء: بين فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين ; ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر.


وإذا قلت: الله إله أثبت له الألوهية، لكن لم تنفها عن غيره; فالتوحيد لم يتم.
وإذا قلت لا إله إلا الله أثبت الألوهية لله ونفيتها عما سواه.
قوله: "تفسير الشهادة": الشهادة: هي التعبير عما تيقنه الإنسان بقلبه; فقول: أشهد أن لا إله إلا الله; أي: أنطق بلساني معبرا عما يكنه قلبي من اليقين، وهو أنه لا إله إلا الله.
قوله: "منها آية الإسراء": وهي قـوله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ } 1 الآية; فبين فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، وبين أن هذا هو الشرك الأكبر; لأن الدعاء من العبادة، قال تعالى: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } 2 فدل على أن الدعاء عبادة، لأن آخر الكلام تعليل لأوله، فكل من دعا أحدا غير الله حيا أو ميتا; فهو مشرك شركا أكبر.


ودعاء المخلوق ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: جائز، وهو أن تدعو مخلوقا بأمر من الأمور التي يمكن أن يدركها بأشياء محسوسة معلومة; فهذا ليس من دعاء العبادة، بل هو من الأمور الجائزة، قال صلى الله عليه وسلم " وإذا دعاك فأجبه " 3.

الثاني:
أن تدعو مخلوقا مطلقا، سواء كان حيا أو ميتا فيما لا يقدر عليه إلا الله; فهذا شرك أكبر لأنك جعلته ندا لله فيما لا يقدر عليه إلا الله، مثل: يا فلان! اجعل ما في بطن امرأتي ذكرا.



1 سورة الإسراء آية : 57.
2 سورة غافر آية : 60.
3 من حديث أبي هريرة, رواه: مسلم (كتاب السلام, باب من حق المسلم للمسلم رد السلام, 4/1704).

ج / 1 ص -160- ومنها آية براءة: بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله. وبين أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلها واحدا، مع أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعة العلماء والعباد في المعصية، لا دعاؤهم إياهم.

ومنها قول الخليل عليه السلام للكفار: { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي } 1 فاستثنى من المعبودين ربه.


الثالث: أن تدعو مخلوقا ميتا لا يجيب بالوسائل الحسية المعلومة; فهذا شرك أكبر أيضا لأنه لا يدعو من كان هذه حاله حتى يعتقد أن له تصرفا خفيا في الكون.
قوله: "ومنها: آية براءة: بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله": وهذا شرك الطاعة، وهو بتوحيد الربوبية ألصق من توحيد الألوهية; لأن الحكم شرعيا كان أو كونيا إلى الله تعالى; فهو من تمام ربوبيته، قال تعالى: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } 2، وقال تعالى: { لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } 3.
والشيخ رحمه الله جعل شرك الطاعة من الأكبر، وهذا فيه تفصيل، وسيأتي إن شاء الله في باب من أطاع الأمراء والعلماء في تحليل ما حرم الله أو بالعكس.
قوله: "ومنها: قول الخليل عليه السلام للكفار: { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي }فاستثنى من المعبودين ربه" فدل هذا على أن



1 سورة الزّخرف آية : 26.
2 سورة الشورى آية : 10.
3 سورة القصص آية : 70.

ج / 1 ص -161- وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله، فقال: { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } 1، ومنها آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم: { وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } 2، ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حبا عظيما، ولم يدخلهم في الإسلام ;.....


التوحيد لا بد فيه من نفي وإثبات: البراءة مما سوى الله، وإخلاص العبادة لله وحده
وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله; فقال: { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } وهي لا إله إلا الله; فكان معنى قوله: { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي } 3 هو معنى قول: لا إله إلا الله.
قوله: "ومنها: آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم: { وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ }؛ فجعل الله المحبة شركا إذا أحب شيئا سوى الله كمحبته لله; فيكون مشركا مع الله في المحبة، ولهذا يجب أن تكون محبة الله خالصة لا يشاركه فيها أحد، حتى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلولا أنه رسول ما وجبت طاعته ولا محبته إلا كما نحب أي مؤمن، ولا يمنع الإنسان من محبة غير الله، بل له أن يحب كل شيء تباح محبته; كالولد، والزوجة، ولكن لا يجعل ذلك كمحبة الله.



1 سورة الزخرف آية : 28.
2 سورة البقرة آية : 167.
3 سورة آية : 26-27؟

ج / 1 ص -162- فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟! وكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله؟!
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: " من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله; حرم ماله ودمه، وحسابه على الله "1.


قال المؤلف: "فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟! وكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله؟!".

فالأقسام أربعة:
الأول: أن يحب الله حبا أشد من غيره; فهذا هو التوحيد.
الثاني: أن يحب غير الله كمحبة الله، وهذا شرك.
الثالث: أن يحب غير الله أشد حبا من الله، وهذا أعظم مما قبله.
الرابع: أن يحب غير الله وليس في قلبه محبة لله تعالى، وهذا أعظم وأطم. والمحبة لها أسباب ومتعلقات، وتختلف باختلاف متعلقها، كما أن الفرح يختلف باختلاف متعلقه وأسبابه، فعندما يفرح بالطرب; فليس هذا كفرحه بذكر الله ونحوه.


حتى نوع المحبة يختلف، يحب والده ويحب ولده وبينهما فرق، ويحب الله ويحب ولده، ولكن بين المحبتين فرق. فجميع الأمور الباطنة في المحبة والفرح والحزن، تختلف باختلاف متعلقها، وسيأتي إن شاء الله لهذا البحث مزيد تفصيل عند قول المؤلف:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً } 2.
قوله: "ومنها: قول النبي صلى الله عليه وسلم " من قال: لا إله إلا الله... " إلخ:" إذا; فلا بد من الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } 3.
قوله: " وكفر بما يعبد من دون الله ": أي: كفر بالأصنام، وأنكر أن




1 مسلم : الإيمان (23) , وأحمد (3/472).
2 سورة البقرة آية : 165.
3 سورة البقرة آية : 256.

ج / 1 ص -163- وهذا من أعظم ما يبين معنى (لا إله إلا الله); فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله. فإن شك أو توقف; لم يحرم ماله ولا دمه. فيا لها من مسألة ما أعظمها وأجلها! ويا له من بيان ما أوضحه! وحجة ما أقطعها للمنازع!


تكون عبادتها حقا; فلا يكفي أن يقول: لا إله إلا الله، ولا أعبد صنما، بل لا بد أن يقول: الأصنام التي تعبد من دون الله أكفر بها وبعبادتها. فمثلا لا يكفي أن يقول: لا إله إلا الله ولا أعبد اللات، ولكن لا بد أن يكفر بها، ويقول: إن عبادتها ليست بحق، وإلا; كان مقرا بالكفر.


فمن رضي دين النصارى دينا يدينون الله به; فهو كافر؛ لأنه إذا ساوى غير دين الإسلام مع الإسلام; فقد كذب قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } 1.
وبهذا يكون كافرا، وبهذا نعرف الخطر العظيم الذي أصاب المسلمين اليوم باختلاطهم مع النصارى، والنصارى يدعون إلى دينهم صباحا ومساء، والمسلمون لا يتحركون، بل بعض المسلمين الذين ما عرفوا الإسلام حقيقة يلينون لهؤلاء،:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} 2، وهذا من المحنة التي أصابت المسلمين الآن، وآلت بهم إلى هذا الذل الذي صاروا فيه.


ــ
1 سورة آل عمران آية : 85.
2 سورة القلم آية : 9.





المصدر :


كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 28-01-2015 06:03PM

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه

ج / 1 ص -164- باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه

قوله: "من الشرك": من هنا للتبعيض; أي: أن هذا بعض الشرك، وليس كل الشرك، والشرك: اسم جنس يشمل الأصغر والأكبر، ولبس هذه الأشياء قد يكون أصغر وقد يكون أكبر بحسب اعتقاد لابسها، وكان لبس هذه الأشياء من الشرك; لأن كل من أثبت سببا لم يجعله الله سببا شرعيا ولا قدريا; فقد جعل نفسه شريكا مع الله. فمثلا: قراءة الفاتحة سبب شرعي للشفاء. وأكل المسهل سبب حسي لانطلاق البطن، وهو قدري; لأنه يعلم بالتجارب.


والناس في الأسباب طرفان ووسط:
الأول: من ينكر الأسباب، وهم كل من قال بنفي حكمة الله; كالجبرية، والأشعرية.
الثاني: من يغلو في إثبات الأسباب حتى يجعلوا ما ليس بسبب سببا، وهؤلاء هم عامة الخرافيين من الصوفية ونحوهم.
الثالث: من يؤمن بالأسباب وتأثيراتها، ولكنهم لا يثبتون من الأسباب إلا ما أثبته الله سبحانه ورسوله، سواء كان سببا شرعيا أو كونيا.
ولا شك أن هؤلاء هم الذين آمنوا بالله إيمانا حقيقيا، وآمنوا

ج / 1 ص -165-


بحكمته; حيث ربطوا الأسباب بمسبباتها، والعلل بمعلولاتها، وهذا من تمام الحكمة.
ولبس الحلقة ونحوها: إن اعتقد لابسها أنها مؤثرة بنفسها دون الله; فهو مشرك شركا أكبر في توحيد الربوبية; لأنه اعتقد أن مع الله خالقا غيره.
وإن اعتقد أنها سبب، ولكنه ليس مؤثرا بنفسه; فهو مشرك شركا أصغر لأنه لما اعتقد أن ما ليس بسبب سببا; فقد شارك الله تعالى في الحكم لهذا الشيء بأنه سبب، والله تعالى لم يجعله سببا. وطريق العلم بأن الشيء سبب:
إما عن طريق الشرع، وذلك كالعسل: { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } 1، وكقراءة القرآن فيها شفاء للناس، قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } 2.


وإما عن طريق القدر، كما إذا جربنا هذا الشيء فوجدناه نافعا في هذا الألم أو المرض، ولكن لا بد أن يكون أثره ظاهرا مباشرا كما لو اكتوى بالنار فبرئ بذلك مثلا; فهذا سبب ظاهر بين، وإنما قلنا هذا لئلا يقول قائل: أنا جربت هذا وانتفعت به، وهو لم يكن مباشرا; كالحلقة، فقد يلبسها إنسان وهو يعتقد أنها نافعة، فينتفع لأن للانفعال النفسي للشيء أثرا بينا; فقد يقرأ إنسان على مريض فلا يرتاح له، ثم يأتي آخر يعتقد أن قراءته نافعة، فيقرأ عليه الآية نفسها فيرتاح له ويشعر بخفة الألم، كذلك الذين يلبسون الحلق ويربطون الخيوط، قد يحسون بخفة الألم، أو اندفاعه، أو ارتفاعه، بناء على اعتقادهم نفعها. وخفة الألم لمن اعتقد نفع تلك الحلقة مجرد شعور نفسي، والشعور النفسي ليس طريقا شرعيا لإثبات الأسباب، كما أن الإلهام ليس طريقا للتشريع.



1 سورة النحل آية : 69.
2 سورة الإسراء آية : 82.

ج / 1 ص -166- وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } 1 الآية.


قوله: " لبس الحلقة والخيط": الحلقة: من حديد أو ذهب أو فضة أو ما أشبه ذلك، والخيط معروف.
قوله: "ونحوهما": كالمرصعات، وكمن يصنع شكلا معينا من نحاس أو غيره لدفع البلاء، أو يعلق على نفسه شيئا من أجزاء الحيوانات. والناس كانوا يعلقون القرب البالية على السيارات ونحوها لدفع العين، حتى إذا رآها الشخص نفرت نفسه فلا يعين.


قوله: "لرفع البلاء، أو دفعه": الفرق بينهما: أن الرفع بعد نزول البلاء، والدفع قبل نزول البلاء.
وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب لا ينكر السبب الصحيح للرفع أو الدفع، وإنما ينكر السبب غير الصحيح.
وقوله الله تعالى: " أفرأيتم " ; أي: أخبروني، وهذا تفسير باللازم; لأن من رأى أخبر، وإلا; فهي استفهام عن رؤية، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} 2 ; أي: أخبرني ما حال من كذب بالدين؟ وهي تنصب مفعولين الأول مفرد، والثاني جملة استفهامية.
وقوله: "ما": المفعول الأول لرأيتم، والمفعول الثاني جملة: " إن أرادني الله بضر ".


وقوله: " تدعون ": المراد بالدعاء دعاء العبادة ودعاء المسألة; فهم



1 سورة الزمر آية : 38.
2 سورة الماعون آية : 1.

ج / 1 ص -167-

يدعون هذه الأصنام دعاء عبادة، فيتعبدون لها بالنذر والذبح والركوع والسجود، ويدعونها دعاء مسألة لدفع الضرر أو جلب النفع. فالله سبحانه إذا أراد بعبده ضرا لا تستطيع الأصنام أن تكشفه، وإن أراده برحمة لا تستطيع أن تمسك الرحمة عنه; فهي لا تكشف الضر ولا تمنع النفع; فلماذا تعبد؟!
وقوله: " كاشفات ": يشمل الدفع والرفع; فهي لا تكشف الضر بدفعه وإبعاده، ولا تكشفه برفعه وإزالته.


قوله: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ } 1 أي: كافيني، والحسب: الكفاية، ومنه قوله تعالى: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً} 2 من الحسب، وهو الكفاية، وحسبي: مبتدأ، ولفظ الجلالة: خبر، وهذا أبلغ. وقيل العكس، والراجح الأول;

لوجهين:
الأول: أن الأصل عدم التقديم والتأخير.

الثاني: أن قولك: حسبي الله فيه حصر الحسب في الله; أي حسبي الله لا غيره فهو كقولك: لا حسب لي إلا الله، بخلاف قولك: الله حسبي; فليس فيه الحصر المذكور; فلا يدل على حصر الحسب في الله.
قوله: {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}قدم الجار والمجرور لإفادة الحصر; لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر. والمعنى: أن المتوكل حقيقة هو المتوكل على الله، أما الذي يتوكل على الأصنام والأولياء والأضرحة; فليس بمتوكل على الله تعالى. وهذا لا ينافي أن يوكل الإنسان إنسانا في شيء ويعتمد عليه; لأن هناك فرقا بين التوكل على الإنسان الذي يفعل لك شيئا بأمرك، وبين توكلك على الله; لأن توكلك



1 سورة التوبة آية : 129.
2 سورة النبأ آية : 36.

ج / 1 ص -168- عن عمران بن حصينرضي الله عنه" أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة. فقال:انزعها; فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك; ما أفلحت أبدا "1.


على الله اعتقادك أن بيده النفع والضر، وأنك متذلل معتمد عليه، مفتقر إليه، مفوض أمرك إليه.
والشاهد من هذه الآية: أن هذه الأصنام لا تنفع أصحابها لا بجلب نفع ولا بدفع ضر; فليست أسبابا لذلك، فيقاس عليها كل ما ليس بسبب شرعي أو قدري; فيعتبر اتخاذه سببا إشراكا بالله. وهذا يدل على حذق المؤلف رحمه الله وقوة استنباطه، وإلا; فالآية بلا شك في الشرك الأكبر الذي تعبد فيه الأصنام، ولكن القياس واضح جدا; لأن هذه الأصنام ليست أسبابا تنفع، فيقاس عليها كل ما ليس بسبب، فيعتبر إشراكا بالله.


وهناك شاهد آخر في قوله: {حسبي الله} ; فإن فيه تفويض الكفاية إلى الله دون الأسباب الوهمية، وأما الأسباب الحقيقية; فلا ينافي تعاطيها توكل العبد على الله تعالى وتفويض الأمر إليه; لأنها من عنده.
قوله: في حديث عمران: " رأى رجلا ": لم يبين اسمه; لأن المهم بيان القضية وحكمها، لكن ورد ما يدل على أنه عمران نفسه، لكنه أبهم نفسه، والحلقة والصفر معروفان، وأما الواهنة; فوجع في الذراع أو العضد.
" ما أفلحت ": الفلاح هو النجاة من المرهوب، وحصول المطلوب.



1 ابن ماجه : الطب (3531) , وأحمد (4/445).

ج / 1 ص -169-

هذا الحديث مناسب للباب مناسبة تامة;
لأن هذا الرجل لبس حلقة من صفر; إما لدفع البلاء أو لرفعه، والظاهر أنه لرفعه، لقوله: " لا تزيدك إلا وهنا"، والزيادة تكون مبنية على أصل.


ففي هذا الحديث دليل على عدة فوائد:
1- أنه ينبغي لمن أراد إنكار المنكر أن يسأل أولا عن الحال; لأنه قد يظن ما ليس بمنكر منكرا، ودليله أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " ما هذه ". والاستفهام هنا للاستعلام فيما يظهر وليس للإنكار، وقوله الرجل: " من الواهنة ": من للسببية; أي: لبستها بسبب الواهنة، وهي مرض يوهن الإنسان ويضعفه، قد يكون في الجسم كله، وقد يكون في بعض الأعضاء كما سبق.


2- وجوب إزالة المنكر; لقوله: " انزعها "، فأمره بنزعها; لأن لبسها منكر، وأيد ذلك بقوله: " إنها لا تزيدك إلا وهنا "، أي: وهنا في النفس لا في الجسم، وربما تزيده وهنا في الجسم، أما وهن النفس; فلأن الإنسان إذا تعلقت نفسه بهذه الأمور ضعفت واعتمدت عليها، ونسيت الاعتماد على الله عزوجل والانفعال النفسي له أثر كبير في إضعاف الإنسان; فأحيانا يتوهم الصحيح أنه مريض فيمرض، وأحيانا يتناسى الإنسان المرض وهو مريض فيصبح صحيحا; فانفعال النفس بالشيء له أثر بالغ، ولهذا تجد بعض الذين يصابون بالأمراض النفسية يكون أصل إصابتهم ضعف النفس من أول الأمر، حتى يظن الإنسان أنه مريض بكذا أو بكذا; فيزداد عليه الوهم حتى يصبح الموهوم حقيقة. فهذا الذي لبس الحلقة من الواهنة لا تزيده إلا وهنا; لأنه سوف يعتقد أنها ما دامت عليه فهو سالم، فإذا نزعها عاد إليه الوهن، وهذا بلا شك ضعف في النفس.



ج / 1 ص -170- رواه أحمد بسند لا بأس به1.
وله عن عقبة بن عامر مرفوعا: " من تعلق تميمة; فلا أتم الله له،....

3- أن الأسباب التي لا أثر لها بمقتضى الشرع أو العادة أو التجربة لا ينتفع بها الإنسان.
4- أن لبس الحلقة وشبهها لدفع البلاء أو رفعه من الشرك; لقوله: " لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا "2 وانتفاء الفلاح دليل على الخيبة والخسران. ولكن هل هذا شرك أكبر أو أصغر؟ سبق لنا عند الترجمة أنه يختلف بحسب اعتقاد صاحبه.
5- أن الأعمال بالخواتيم; لقوله: " لو مت وهي عليك " ; فعرف أنه لو أقلع عنها قبل الموت لم تضره؛ لأن الإنسان إذا تاب قبل أن يموت صار كمن لا ذنب له.


قوله: " من تعلق تميمة ": أي: علق بها قلبه، واعتمد عليها في جلب النفع ودفع الضرر، والتميمة شيء يعلق على الأولاد من خرز أو غيره؛ يتقون به العين. وقوله: " فلا أتم الله له ": الجملة خبرية بمعنى الدعاء، ويحتمل أن


1 رواه: أحمد (4/445) -واللفظ له-, وابن ماجه (كتاب الطب, باب تعليق التمائم, 2/ 1167), وليس فيه: "فإنك لو مت..." إلخ. وفي "الزوائد": "إسناده حسن; لأن مبارك هذا هو ابن فضالة". ورواه: ابن حبان أيضا برقم (1410) بلفظ: "إنك إن تمت وهي عليك وكلت إليها". ومن طريق أبي عامر الخراز عن الحسن عن عمران بنحوه, رواه: ابن حبان برقم (1411), والحاكم (4/216). وصححه ووافقه الذهبي.
2 أحمد (4/445).



ج / 1 ص -171- ومن تعلق ودعة; فلا ودع الله له " 1.
وفي رواية: " من تعلق تميمة; فقد أشرك " 2.
ولابن أبي حاتم عن حذيفة: " أنه رأى رجلا في يده خيط

ـ
تكون خبرية محضة، وكلا الاحتمالين دال على أن التميمة محرمة سواء نفى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتم الله، له أو دعا بأن لا يتم الله له; فإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم أراد به الخبر; فإننا نخبر بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم،وإلا;فإننا ندعو بما دعا به الرسول صلى الله عليه وسلم ومثل ذلك قـوله صلى الله عليه وسلم " ومن تعلق ودعة; فلا ودع الله له " والودعة: واحدة الودع، وهي أحجار تؤخذ من البحر يعلقونها لدفع العين، ويزعمون أن الإنسان إذا علق هذه الودعة؛ لم تصبه العين، أو لا يصيبه الجن.


قوله: " لا ودع الله له ": أي: لا تركه الله في دعة وسكون، وضد الدعة والسكون القلق والألم. وقيل: لا ترك الله له خيرا; فعومل بنقيض قصده. وقوله: " فقد أشرك ": هذا الشرك يكون أكبر؛ إن اعتقد أنها ترفع أو تدفع بذاتها دون أمر الله، وإلا; فهو أصغر.



1 رواه: أحمد في "المسند" (4/154), والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/325), والحاكم (4/216). وصححه ووافقه الذهبي. وفيه: خالد بن عبيد المعافري, لم يوثقه غير ابن حبان; كما في "التعجيل" (ص 114), وقال المنذري في "الترغيب" (4/306): "إسناده جيد", وقال الهيثمي في "المجمع" (5/ 103): "رجاله ثقات", وقال الحافظ في "التعجيل" (ص 114): "ورجاله موثقون".


2 رواه: أحمد (4/156), والحاكم (4/219, كتاب الطب). وقال المنذري في "الترغيب" (4/037) والهيثمي في "المجمع" (5/103): "ورواة أحمد ثقات

ج / 1 ص -172- من الحمى، فقطعه، وتلا قـوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 1.


فيه مسائل:

الأولى: التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك.


قوله: " من الحمى ": "من" هنا للسببية; أي: في يده خيط لبسه من أجل الحمى لتبرد عليه أو يشفى منها.
قوله: " فقطعه": أي: قطع الخيط، وفعله هذا من تغيير المنكر باليد، وهذا يدل على غيرة السلف الصالح وقوتهم في تغيير المنكر باليد وغيرها.
وقوله: وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 2 أي وتلا حذيفة هذه الآية3 والمراد بها المشركون الذين يؤمنون بتوحيد الربوبية ويكفرون بتوحيد الألوهية.
وقوله: " وهم مشركون " في محل نصب على الحال من أكثر; أي: وهم متلبسون بالشرك، وكلام حذيفة في رجل مسلم لبس خيطا لتبريد الحمى أو الشفاء منها وفيه دليل على أن الإنسان قد يجتمع فيه إيمان وشرك، ولكن ليس الشرك الأكبر; لأن الشرك الأكبر لا يجتمع مع الإيمان، ولكن المراد هنا الشرك الأصغر، وهذا أمر معلوم.


قوله: "فيه مسائل": أي: في هذا الباب مسائل:
· الأولى: التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك:



1 سورة يوسف آية : 106.
2 سورة يوسف آية : 106.
3 وفي "النهج السديد" (ص 57): "ضعيف, رواه ابن أبي حاتم, وقد أورد سنده في "تيسير العزيز الحميد" من طريق عروة بن الزبير عن حذيفة, ولا يعرف لعروة سماع من حذيفة".



ج / 1 ص -173- الثانية: أن الصحابي لو مات وهي عليه; ما أفلح. فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر.
الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة.

ـ
لقوله صلى الله عليه وسلم: " انزعها - لا تزيدك إلا وهنا -، لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا "1 وهذا تغليظ عظيم في لبس هذه الأشياء والتعلق بها.
الثانية : أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح: هذا وهو صحابي; فكيف بمن دون الصحابي؟! فهو أبعد عن الفلاح.
قال المؤلف: " فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر".


قوله: "لكلام الصحابة"; أي: لقولهم، وهو كذلك; فالشرك الأصغر أكبر من الكبائر، قال ابن مسعودرضي الله عنه" لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا "2 وذلك لأن سيئة الشرك أعظم من سيئة الكبيرة; لأن الشرك لا يغفر ولو كان أصغر، بخلاف الكبائر; فإنها تحت المشيئة.
الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة: هذا فيه نظر; لأن قوله صلى الله عليه وسلم: " لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا "3 ليس بصريح أنه لو مات قبل العلم، بل ظاهره: " لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا "4 أي: بعد أن علمت وأمرت بنزعها. وهذه المسألة تحتاج إلى تفصيل; فنقول:

الجهل نوعان:
جهل يعذر فيه الإنسان، وجهل لا يعذر فيه. فما كان ناشئا عن



1 ابن ماجه : الطب (3531) , وأحمد (4/445).
2 رواه: عبد الرزاق في "المصنف" (8/469), والطبراني في "الكبير" برقم (8902). قال المنذري في "الترغيب" (3/607) والهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/177): "رواته رواة الصحيح".
3 أحمد (4/445).
4 أحمد (4/445).

ج / 1 ص -174- الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة; بل تضر، لقوله: " لا تزيدك إلا وهنا ".


تفريط وإهمال مع قيام المقتضي للتعلم; فإنه لا يعذر فيه، سواء في الكفر أو في المعاصي. وما كان ناشئا عن خلاف ذلك، أي أنه لم يهمل ولم يفرط ولم يقم المقتضي للتعلم بأن كان لم يطرأ على باله أن هذا الشيء حرام; فإنه يعذر فيه، فإن كان منتسبا إلى الإسلام; لم يضره، وإن كان منتسبا إلى الكفر; فهو كافر في الدنيا، لكن في الآخرة أمره إلى الله على القول الراجح، يمتحن; فإن أطاع دخل الجنة، وإن عصى دخل النار. فعلى هذا من نشأ ببادية بعيدة ليس عنده علماء ولم يخطر بباله أن هذا الشيء حرام، أو أن هذا الشيء واجب; فهذا يعذر،

وله أمثلة:
منها: رجل بلغ وهو صغير، وهو في بادية ليس عنده عالم، ولم يسمع عن العلم شيئا، ويظن أن الإنسان لا تجب عليه العبادات إلا إذا بلغ خمس عشرة سنة، فبقي بعد بلوغه حتى تم له خمس عشرة سنة وهو لا يصوم ولا يصلي ولا يتطهر من جنابة; فهذا لا نأمره بالقضاء؛ لأنه معذور بجهله الذي لم يفرط فيه بالتعلم ولم يطرأ له على بال، وكذلك لو كانت أنثى أتاها الحيض وهي صغيرة، وليس عندها من تسأل، ولم يطرأ على بالها أن هذا الشيء واجب إلا إذا تم لها خمس عشرة سنة; فإنها تعذر إذا كانت لا تصوم ولا تصلي.
وأما من كان بالعكس، كالساكن في المدن يستطيع أن يسأل، لكن عنده تهاون وغفلة; فهذا لا يعذر; لأن الغالب في المدن أن هذه الأحكام لا تخفى عليه، ويوجد فيها علماء يستطيع أن يسألهم بكل سهولة; فهو مفرط، فيلزمه القضاء ولا يعذر بالجهل.


الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة، بل تضر; لقوله: " لا تزيدك إلا وهنا ": والمؤلف استنبط المسألة وأتى بوجه استنباطها.

ج / 1 ص -175- الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك.
السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئا، وكل إليه.
السابعة: التصريح بأن من تعلق تميمة; فقد أشرك.
الثامنة: أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك.


الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك: أي: ينبغي أن ينكر إنكارا مغلظا على من فعل مثل هذا، ووجه ذلك سياق الحديث الذي أشار إليه المؤلف، وأيضا قوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: " من تعلق تميمة; فلا أتم الله له "1.
السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئا وكل إليه: تؤخذ مـن قـوله: " من تعلق تميمة; فلا أتم الله له "2 إذا جعلنا الجملة خبرية، وأن من تعلق تميمة; فإن الله لا يتم له، فيكون موكولا إلى هذه التميمة، ومن وكل إلى مخلوق; فقد خذل، ولكنها في الباب الذي بعده صريحة، " من تعلق شيئا وكل إليه"3.
السابعة: التصريح بأن من تعلق تميمة; فقد أشرك: وهو إحدى الروايتين في حديث عقبة بن عامر.


الثامنة: أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك: يؤخذ من فعل حذيفة أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه، وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}



1 أحمد (4/154).
2 أحمد (4/154).
3 سيأتي تخريجه ص (183).

ج / 1 ص -176- التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر; كما ذكر ابن عباس في آية البقرة.
العاشرة: أن تعليق الودع من العين من ذلك.
الحادية عشرة: الدعاء على من تعلق تميمة أن الله لا يتم له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له; أي: ترك الله له.


التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر كما ذكر ابن عباس في آية البقرة: أي أن قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 1 في الشرك الأكبر، لكنهم يستدلون بالآيات الواردة في الشرك الأكبر على الأصغر; لأن الأصغر شرك في الحقيقة وإن كان لا يخرج من الملة، ولهذا نقول: الشرك نوعان: أصغر وأكبر.


وقوله: "كما ذكر ابن عباس في آية البقرة": وهي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ } 2 الآية; فجعل المحبة التي تكون كمحبة الله من اتخاذ الند لله عزوجل
العاشرة: أن تعليق الودع من العين من ذلك: وقوله: "من ذلك"; أي: من تعليق التمائم الشركية لأنه لا أثر لها ثابت شرعا ولا قدرا.

الحادية عشرة: الدعاء على من تعلق تميمة أن الله لا يتم له، ومن تعلق ودعة; فلا ودع الله له; أي: ترك الله له: تؤخذ من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء الذين اتخذوا تمائم وودعا، وليس هذا بغريب أن



1 سورة يوسف آية : 106.
2 سورة البقرة آية : 165.

ج / 1 ص -177-

نؤمر بالدعاء على من خالف وعصى; فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا سمعتم من ينشد الضالة في المسجد; فقولوا: لا ردها الله عليك ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ "1 " وإذا سمعتم من يبيع أو يبتاع في المسجد; فقولوا: لا أربح الله تجارتك "2.
فهنا أيضا تقول له: لا أتم الله لك، ولكن الحديث إنما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل العموم; فلا نخاطب هذا بالتصريح، ونقول لشخص رأينا عليه تميمة: لا أتم الله لك، وذلك لأن مخاطبتنا الفاعل بالتصريح والتعيين؛ سوف يكون سببا لنفوره، ولكن نقول: دع التمائم أو الودع; فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " من تعلق تميمة، فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة; فلا ودع الله له ".



1 أخرجه: مسلم في (المساجد, باب النهي عن نشد الضالة في المسجد, 1/397).
2 أخرجه: الترمذي في (البيوع, باب النهي عن البيع في المسجد, 2/274), والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (176), والدارمي (1408), وابن حبان (313- موارد), والحاكم (2/56), والبيهقي (2/447). وحسنه الترمذي, وصححه الحاكم, ووافقه الذهبي.





المصدر :


كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979






ام عادل السلفية 28-01-2015 06:45PM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب ما جاء في الرقى والتمائم

ج / 1 ص -178- باب ما جاء في الرقى والتمائم

في الصحيح عن أبي بشير الأنصاريرضي الله عنهأنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره،....

قول المؤلف: باب ما جاء في الرقى والتمائم.
لم يذكر المؤلف أن هذا الباب من الشرك; لأن الحكم فيه يختلف عن حكم لبس الحلقة والخيط، ولهذا جزم المؤلف في الباب الأول أنها من الشرك بدون استثناء، أما هذا الباب; فلم يذكر أنها شرك لأن من الرقى ما ليس بشرك، ولهذا قال: "باب ما جاء في الرقى والتمائم ".
قوله: "الرقى": جمع رقية، وهي القراءة; فيقال: رقى عليه - بالألف - من القراءة، ورقي عليه - بالياء - من الصعود.
قوله: "التمائم": جمع تميمة، وسميت تميمة; لأنهم يرون أنه يتم بها دفع العين.


قوله: "أسفاره": السفر: مفارقة محل الإقامة، وسمي سفرا; لأمرين:
الأول: حسي، وهو أنه يسفر ويظهر عن بلده لخروجه من البنيان.
الثاني: معنوي، وهو أنه يسفر عن أخلاق الرجال; أي: يكشف عنها، وكثير من الناس لا تعرف أخلاقهم وعاداتهم وطبائعهم إلا بالأسفار.

ج / 1 ص -179- فأرسل رسولا: " أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت "1.


قوله: " قلادة من وتر، أو قلادة ": شك من الراوي، والأولى أرجح; لأن القلائد كانت تتخذ من الأوتار، ويعتقدون أن ذلك يدفع العين عن البعير، وهذا اعتقاد فاسد; لأنه تعلق بما ليس بسبب، وقد سبق أن التعلق بما ليس بسبب شرعي أو حسي شرك; لأنه بتعلقه أثبت للأشياء سببا لم يثبته الله لا بشرعه ولا بقدره، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع هذه القلائد. أما إذا كانت هذه القلادة من غير وتر، وإنما تستعمل للقيادة كالزمام; فهذا لا بأس به لعدم الاعتقاد الفاسد، وكان الناس يعملون ذلك كثيرا من الصوف أو غيره.
قوله: " في رقبة بعير ": ذكر البعير; لأن هذا هو الذي كان منتشرا حينذاك; فهذا القيد بناء على الواقع عندهم; فيكون كالتمثيل، وليس بمخصص.


يستفاد من الحديث:

1- أنه ينبغي لكبير القوم أن يكون مراعيا لأحوالهم; فيتفقدهم وينظر في أحوالهم.
2- أنه يجب عليه رعايتهم بما تقتضيه الشريعة; فإذا فعلوا محرما منعهم منه، وإن تهاونوا في واجب حثهم عليه.
3- أنه لا يجوز أن تعلق في أعناق الإبل أشياء؛ تجعل سببا في جلب منفعة أو دفع مضرة، وهي ليست كذلك لا شرعا ولا قدرا; لأنه شرك.



1 رواه: البخاري (كتاب الجهاد, باب ما قيل في الجرس ونحوه في أعناق الإبل, 2/359), ومسلم (كتاب اللباس, باب كراهة الكلب والجرس في السفر, 3/1672).

ج / 1 ص -180- وعن ابن مسعودرضي الله عنهقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الرقى والتمائم


ولا يلزم أن تكون القلادة في الرقبة، بل لو جعلت في اليد أو الرجل; فلها حكم الرقبة; لأن العلة هي هذه القلادة، وليس مكان وضعها; فالمكان لا يؤثر.
4- أنه يجب على من يستطيع تغيير المنكر باليد أن يغيره بيده.
قوله: " إن الرقى ": جمع رقية، وهذه ليست على عمومها، بل هي عام أريد به خاص، وهو الرقى بغير ما ورد به الشرع، أما ما ورد به الشرع; فليست من الشرك، قال صلى الله عليه وسلم في الفاتحة: " وما يدريك أنها رقية "1.
وهل المراد بالرقى في الحديث ما لم يرد به الشرع ولو كانت مباحة، أو المراد ما كان فيه شرك؟

الجواب: الثاني; لأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يناقض بعضه بعضا; فالرقى المشروعة التي ورد بها الشرع جائزة. وكذا الرقى المباحة التي يرقى بها الإنسان المريض بدعاء من عنده ليس فيه شرك جائزة أيضا.
قوله: " التمائم ": فسرها المؤلف بقوله: "شيء يعلق على الأولاد يتقون به العين"، وهي من الشرك، لأن الشارع لم يجعلها سببا تتقى به العين.
وإذا كان الإنسان يلبس أبناءه ملابس رثة وبالية خوفا من العين; فهل هذا جائز؟ الظاهر أنه لا بأس به; لأنه لم يفعل شيئا، وإنما ترك شيئا، وهو التحسين والتجميل، وقد ذكر ابن القيم في "زاد المعاد" أن عثمان رأى صبيا مليحا، فقال: دسموا نونته، والنونة: هي التي تخرج في الوجه عندما يضحك الصبي كالنقرة، ومعنى دسموا; أي: سودوا.



1 سبق (ص 99).

ج / 1 ص -181- والتولة......


وأما الخط: وهي أوراق من القرآن تجمع وتوضع في جلد ويخاط عليها، ويلبسها الطفل على يده أو رقبته; ففيها خلاف بين العلماء.
وظاهر الحديث: أنها ممنوعة، ولا تجوز. ومن ذلك أن بعضهم يكتب القرآن كله بحروف صغيرة في أوراق صغيرة، ويضعها في صندوق صغير، ويعلقها على الصبي، وهذا مع أنه محدث; فهو إهانة للقرآن الكريم; لأن هذا الصبي سوف يسيل عليه لعابه، وربما يتلوث بالنجاسة، ويدخل به الحمام والأماكن القذرة، وهذا كله إهانة للقرآن.


ومع الأسف؛ إن بعض الناس اتخذوا من العبادات نوعا من التبرك فقط; مثل ما يشاهد من أن بعض الناس يمسح الركن اليماني، ويمسح به وجه الطفل وصدره، وهذا معناه أنهم جعلوا مسح الركن اليماني من باب التبرك لا التعبد، وهذا جهل، وقد قال عمر في الحجر: " إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك "1.
قوله: " التولة ": شيء يعلقونه على الزوج، يزعمون أنه يحبب الزوجة إلى زوجها والزوج إلى امرأته، وهذا شرك; لأنه ليس بسبب شرعي ولا قدري للمحبة. ومثل ذلك الدبلة.


والدبلة: خاتم يشترى عند الزواج يوضع في يد الزوج، وإذا ألقاه الزوج; قالت المرأة: إنه لا يحبها; فهم يعتقدون فيه النفع والضر، ويقولون: إنه ما دام في يد الزوج; فإنه يعني أن العلاقة بينهما ثابتة،



1 رواه: البخاري في (كتاب الحج, باب تقبيل الحجر, 1/495), ومسلم في (كتاب الحج, باب استحباب تقبيل الحجم, 1/925).

ج / 1 ص -182- شرك " رواه أحمد وأبو داود1.
وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا:" من تعلق شيئا;.......

والعكس بالعكس، فإذا وجدت هذه النية; فإنه من الشرك الأصغر، وإن لم توجد هذه النية - وهي بعيدة ألا تصحبها -; ففيه تشبه بالنصارى، فإنها مأخوذة منهم.
وإن كانت من الذهب; فهي بالنسبة للرجل فيها محذور ثالث، وهو لبس الذهب; فهي إما من الشرك، أو مضاهاة النصارى، أو تحريم النوع إن كانت للرجال، فإن خلت من ذلك; فهي جائزة لأنها خاتم من الخواتم.
وقوله: " شرك ": هل هي شرك أصغر أو أكبر؟ نقول: بحسب ما يريد الإنسان منها: إن اتخذها معتقدا أن المسبب للمحبة هو الله; فهي شرك أصغر، وإن اعتقد أنها تفعل بنفسها; فهي شرك أكبر.


قوله: " من تعلق شيئا ": أي: اعتمد عليه وجعله همه ومبلغ علمه، وصار يعلق رجاءه به وزوال خوفه به. وشيئا: نكرة في سياق الشرط; فتعم جميع الأشياء، فمن تعلق بالله - سبحانه وتعالى -، وجعل رغبته ورجاءه فيه وخوفه منه; فإن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } 2 ; أي: كافية، ولهذا كان من دعاء الرسل وأتباعهم،



1 رواه: أحمد (1/381), وأبو داود (كتاب الطب, باب في تعليق التمائم, 5/212), وابن ماجه (كتاب الطب, باب تعليق التمائم, 2/1166), والحاكم في (الرقى والتمائم, 4/ 418) - وقال: "صحيح الإسناد على شرط الشيخين", وأقره الذهبي -, وابن حبان برقم (1412), والطبراني في "الكبير" برقم (10503).
2 سورة الطلاق آية : 3.

ج / 1 ص -183- وكل إليه ". رواه أحمد والترمذي1.
" التمائم " : شيء يعلق على الأولاد يتقون به العين.


عند المصائب والشدائد: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد وأصحابه حين قيل لهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } 2.
قوله: " وكل إليه ": أي: أسند إليه، وفوض.


أقسام التعلق بغير الله:

الأول:
ما ينافي التوحيد من أصله، وهو أن يتعلق بشيء لا يمكن أن يكون له تأثير، ويعتمد عليه اعتمادا معرضا عن الله، مثل تعلق عباد القبور بمن فيها عند حلول المصائب، ولهذا إذا مستهم الضراء الشديدة يقولون: يا فلان! أنقذنا; فهذا لا شك أنه شرك أكبر مخرج من الملة.

الثاني: ما ينافي كمال التوحيد، وهو أن يعتمد على سبب شرعي صحيح مع الغفلة عن المسبب، وهو الله عزوجل وعدم صرف قلبه إليه; فهذا نوع من الشرك، ولا نقول شرك أكبر; لأن هذا السبب جعله الله سببا.

الثالث: أن يتعلق بالسبب تعلقا مجردا لكونه سببا فقط، مع اعتماده الأصلي على الله; فيعتقد أن هذا السبب من الله، وأن الله لو شاء لأبطل



1 رواه: أحمد (4/310), والترمذي (أبواب الطب, باب ما جاء فى كراهة التعليق, 6/ 263)- قال: "حديث عبد الله بن عكيم إنما نعرفه من حديث ابن أبي ليلى"-, والحاكم في (كتاب الطب, 4/216). وسكت عنه هو والذهبي, وقال ابن البنا في "الفتح الرباني" (17/188): "قلت: هذا الحديث لا تقل درجته عن الحسن لاسيما وله شواهد تؤيده".


2 رواه: البخاري عن ابن عباس (كتاب التفسير, باب الدين قال لهم الناس , 3/ 211).

ج / 1 ص -184- لكن إذا كان المعلق من القرآن; فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه.


أثره، ولو شاء لأبقاه، وأنه لا أثر للسبب إلا بمشيئة الله عزوجل؛ فهذا لا ينافي التوحيد لا كمالا ولا أصلا، وعلى هذا لا إثم فيه.
ومع وجود الأسباب الشرعية الصحيحة، ينبغي للإنسان أن لا يعلق نفسه بالسبب، بل يعلقها بالله. فالموظف الذي يتعلق قلبه بمرتبه تعلقا كاملا، مع الغفلة عن المسبب، وهو الله، قد وقع في نوع من الشرك. أما إذا اعتقد أن المرتب سبب، والمسبب هو الله - سبحانه وتعالى -، وجعل الاعتماد على الله، وهو يشعر أن المرتب سبب; فهذا لا ينافي التوكل. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ بالأسباب مع اعتماده على المسبب، وهو الله عزوجل
وجاء في الحديث: " من تعلق "، ولم يقل: من علق; لأن المتعلق بالشيء يتعلق به بقلبه وبنفسه، بحيث ينزل خوفه ورجاءه وأمله به، وليس كذلك من علق.


قوله: "إذا كان المعلق من القرآن..." إلخ: إذا كان المعلق من القرآن أو الأدعية المباحة، والأذكار الواردة; فهذه المسألة اختلف فيها السلف رحمهم الله; فمنهم من رخص في ذلك لعموم قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } 1 ولم يذكر الوسيلة التي نتوصل بها إلى الاستشفاء بهذا القرآن; فدل على أن كل وسيلة يتوصل بها إلى ذلك فهي جائزة، كما لو كان القرآن دواء حسيا.



1 سورة الإسراء آية : 82.

ج / 1 ص -185-


ومنهم من منع ذلك وقال: لا يجوز تعليق القرآن للاستشفاء به; لأن الاستشفاء بالقرآن ورد على صفة معينة، وهي القراءة به، بمعنى أنك تقرأ على المريض به; فلا نتجاوزها، فلو جعلنا الاستشفاء بالقرآن على صفة لم ترد; فمعنى ذلك أننا فعلنا سببا ليس مشروعا، وقد نقله المؤلف رحمه الله عن ابن مسعود (. ولولا الشعور النفسي بأن تعليق القرآن سبب للشفاء; لكان انتفاء السببية على هذه الصورة أمرا ظاهرا; فإن التعليق ليس له علاقة بالمرض، بخلاف النفث على مكان الألم; فإنه يتأثر بذلك.


ولهذا نقول: الأقرب أن يقال: إنه لا ينبغي أن تعلق الآيات للاستشفاء بها، لا سيما وأن هذا المعلق قد يفعل أشياء تنافي قدسية القرآن; كالغيبة مثلا، ودخول بيت الخلاء، وأيضا إذا علق وشعر أن به شفاء استغنى به عن القراءة المشروعة; فمثلا: علق آية الكرسي على صدره، وقال: ما دام أن آية الكرسي على صدري فلن أقرأها، فيستغني بغير المشروع عن المشروع، وقد يشعر بالاستغناء عن القراءة المشروعة إذا كان القرآن على صدره. وإن كان صبيا، فربما بال ووصلت الرطوبة إلى هذا المعلق، وأيضا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء. فالأقرب أن يقال: إنه لا يفعل، أما أن يصل إلى درجة التحريم; فأنا أتوقف فيه، لكن إذا تضمن محظورا; فإنه يكون محرما بسبب ذلك المحظور.



ج / 1 ص -186- و" الرقى": هي التي تسمى العزائم، وخص منها الدليل ما خلا من الشرك; فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة1.


قوله: "التي تسمى العزائم": أي: في عرف الناس. وعزم عليه; أي: قرأ عليه، وهذه عزيمة; أي: قراءة.
قوله: "وخص منها الدليل ما خلا من الشرك": أي: الأشياء الخالية من الشرك; فهي جائزة، سواء كان مما ورد بلفظه مثل: " اللهم رب الناس! أذهب الباس، اشف أنت الشافي "2 أو لم يرد بلفظه مثل: "اللهم عافه، اللهم اشفه"، وإن كان فيها شرك; فإنها غير جائزة، مثل: "يا جني! أنقذه، ويا فلان الميت! اشفه"، ونحو ذلك.


قوله: " من العين والحمة ": سبق تعريفهما في باب من حقق التوحيد دخل الجنة. وظاهر كلام المؤلف: أن الدليل لم يرخص بجواز القراءة إلا في هذين الأمرين: " العين، والحمة "، لكن ورد بغيرهما; فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفخ على يديه عند منامه بالمعوذات، ويمسح بهما ما استطاع من جسده3، وهذا من الرقية، وليس عينا ولا حمة. ولهذا يرى بعض أهل العلم أن الترخيص في الرقية من القرآن للعين والحمة وغيرهما عام، ويقول: إن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا رقية إلا من عين أو حمة " أي: لا استرقاء إلا من عين أو حمة، والاسترقاء: طلب الرقية; فالمصيب بالعين



1 سبق (ص 98).
2 من حديث عائشة, رواه البخاري (كتاب المرضى, باب دعاء العائد للمريض, 4/31), ومسلم (كتاب السلام, باب استحباب رقية المريض, 4/1721). (3) رواه البخاري من حديث عائشة (كتاب فضائل القرآن, باب فضل المعوذات, 3/344) وأصله عند مسلم كتاب السلام (باب رقية المريض بالمعوذات والنفث, 4/1723).
3 الترمذي: الطب (2057) , وأبو داود: الطب (3884) , وأحمد (4/436 ,4/438 ,4/446).

ج / 1 ص -187- و " التولة": هي شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته.


وهو "العائن" - يطلب منه أن يقرأ على المعيون. وكذلك الحمة يطلب الإنسان من غيره أن يقرأ عليه; لأنه مفيد كما في حديث أبي سعيد في قصة السرية1.


شروط جواز الرقية:

الأول: أن لا يعتقد أنها تنفع بذاتها دون الله، فإن اعتقد أنها تنفع بذاتها من دون الله; فهو محرم، بل شرك، بل يعتقد أنها سبب لا تنفع إلا بإذن الله.
الثاني: أن لا تكون مما يخالف الشرع; كما إذا كانت متضمنة دعاء غير الله، أو استغاثة بالجن، وما أشبه ذلك; فإنها محرمة، بل شرك.
الثالث: أن تكون مفهومة معلومة، فإن كانت من جنس الطلاسم والشعوذة; فإنها لا تجوز.


أما بالنسبة للتمائم;
فإن كانت من أمر محرم، أو اعتقد أنها نافعة لذاتها، أو كانت بكتابة لا تفهم; فإنها لا تجوز بكل حال.
وإن تمت فيها الشروط الثلاثة السابقة في الرقية; فإن أهل العلم اختلفوا فيها كما سبق2.



1 سبق (ص 99).
2 انظر: (ص 184).

ج / 1 ص -188- وروى أحمد عن رويفع; قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا رويفع! لعل الحياة ستطول بك; فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وترا، أو استنجى برجيع دابة أو عظم ;.....

قوله: " من عقد لحيته ": اللحية عند العرب كانت لا تقص ولا تحلق، كما أن ذلك هو السنة،
لكنهم كانوا يعقدون لحاهم لأسباب:
منها: الأوّل: الافتخار والعظمة، فتجد أحدهم يعقد أطرافها، أو يعقدها من الوسط عقدة واحدة ليعلم أنه رجل عظيم، وأنه سيد في قومه.
الثاني: الخوف من العين; لأنها إذا كانت حسنة وجميلة ثم عقدت أصبحت قبيحة، فمن عقدها لذلك; فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بريء منه.
وبعض العامة إذا جاءهم طعام من السوق، أخذوا شيئا منه يرمونه في الأرض; دفعا للعين وهذا اعتقاد فاسد، ومخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا سقطت لقمة أحدكم; فليمط ما بها من الأذى، وليأكلها " 1.
قوله: " أو تقلد وترا ": الوتر: سلك من العصب يؤخذ من الشاة، وتتخذ للقوس وترا، ويستعملونها في أعناق إبلهم أو خيلهم، أو في أعناقهم، يزعمون أنه يمنع العين، وهذا من الشرك.


قوله: " أو استنجى برجيع دابة ": الاستنجاء: مأخوذ من النجو، وهو إزالة أثر الخارج من السبيلين; لأن الإنسان الذي يتمسح بعد الخلاء يزيل أثره. ورجيع الدابة: هو روثها.
قوله: " أو عظم ": العظم معروف، وإنما تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن



1 رواه: مسلم من حديث أنس (كتاب الأشربة, باب استحباب لعق الأيادي والقصعة, 3/ 1607).

ج / 1 ص -189- فإن محمدا بريء منه "1.
وعن سعيد بن جبير، قال: " من قطع تميمة من إنسان; كان كعدل رقبة " رواه وكيع.


استنجى بهما; لأن الروث علف بهائم الجن والعظم طعامهم، يجدونه أوفر ما يكون لحما. وكل ذنب قرن بالبراءة من فاعله; فهو من كبائر الذنوب، كما هو معروف عند أهل العلم.
الشاهد من هذا الحديث قوله: " من تقلد وترا ".


قوله: وعن سعيد بن جبير; قال: " من قطع تميمة..." الحديث.
قوله: " كعدل رقبة " بفتح العين لأنه من غير الجنس، والعادل من الجنس بكسر العين. وجه المشابهة بين قطع التميمة وعتق الرقبة أنه إذا قطع التميمة من إنسان; فكأنه أعتقه من الشرك، ففكه من النار، ولكن يقطعها بالتي هي أحسن; لأن العنف يؤدي إلى المشاحنة والشقاق، إلا إن كان ذا شأن; كالأمير، والقاضي، ونحوه ممن له سلطة; فله أن يقطعها مباشرة.



ــ
1 رواه: أحمد (4/ 108, 109), وأبو داود (كتاب الطهارة, باب ما ينهى عنه أن يستنجى به, 1/34) - وسكت عنه-, والنسائي (كتاب الزينة, باب عقد اللحية, 8/135), والطبراني في "الكبير" برقم (4491). وإسناده صحيح; كما في "النهج السديد" (ص 62).

ج / 1 ص -190- وله عن إبراهيم، قال: " كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن "


فيه مسائل:

الأولى:
تفسير الرقى والتمائم.
الثانية: تفسير التولة.


قوله: " كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن ": وقد سبق أن هذا رأي ابن مسعود (، فأصحابه يرون ما يراه.
قوله: " وله عن إبراهيم ": وهو إبراهيم النخعي.
قوله: " كانوا ": الضمير يعود إلى أصحاب ابن مسعود; لأنهم هم قرناء إبراهيم النخعي.
قوله: " التمائم ": هي ما يعلق على المريض أو الصحيح، سواء من القرآن أو غيره للاستشفاء أو لاتقاء العين، أو ما يعلق على الحيوانات. وفي هذا الوقت أصبح تعليق القرآن لا للاستشفاء، بل لمجرد التبرك والزينة; كالقلائد الذهبية، أو الحلي التي يكتب عليها لفظ الجلالة، أو آية الكرسي، أو القرآن كاملا، فهذا كله من البدع. فالقرآن ما نزل ليستشفى به على هذا الوجه، إنما يستشفى به على ما جاء به الشرع.


· قوله: الأولى: تفسير الرقى والتمائم: وقد سبق ذلك.
· الثانية: تفسير التولة: وقد سبق ذلك. وعندي أن منها ما يسمى بالدبلة إن اعتقدوا أنها صلة بين المرء وزوجته.

ج / 1 ص -191- الثالثة: أن هذه الثلاثة كلها من الشرك من غير استثناء.
الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين والحمة ليس من ذلك.
الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن; فقد اختلف العلماء; هل هي من ذلك أم لا؟.


· الثالثة: أن هذه الثلاثة كلها من الشرك من غير استثناء: ظاهر كلامه حتى الرقى، وهذا فيه نظر; لأن الرقى ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يرقي ويرقى1 ولكنه لا يسترقي; أي: لا يطلب الرقية; فإطلاقها بالنسبة للرقى فيه نظر، وقد سبق للمؤلف رحمه الله أن الدليل خص منها ما خلا من الشرك، وبالنسبة للتمائم; فعلى رأي الجمهور فيه نظر أيضا. وأما على رأي ابن مسعود; فصحيح، وبالنسبة للتولة; فهي شرك بدون استثناء.
· الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين أو الحمة ليس من ذلك. قوله: "الكلام الحق": ضده الباطل، وكذا المجهول الذي لا يعلم أنه حق أو باطل. والمؤلف رحمه الله تعالى خصص العين أو الحمة فقط استنادا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم " لا رقية إلا من عين أو حمة "2 ولكن الصحيح أنه يشمل غيرهما; كالسحر.

·الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن; فقد اختلف العلماء: هل هي من ذلك أم لا؟



1(ص 102).
2(ص 98).

ج / 1 ص -192- السادسة: أن تعليق الأوتار على الدواب عن العين من ذلك.
السابعة: الوعيد الشديد على من تعلق وترا.


قوله: "ذلك": المشار إليه: التمائم المحرمة. وقد سبق بيان هذا الخلاف1 والأحوط مذهب ابن مسعود; لأن الأصل عدم المشروعية حتى يتبين ذلك من السنة.
السادسة: أن تعليق الأوتار على الدواب عن العين من ذلك: أي: من الشرك.
(تنبيه):
ظهر في الأسواق في الآونة الأخيرة حلقة من النحاس، يقولون: إنها تنفع من الروماتيزم، يزعمون أن الإنسان إذا وضعها على عضده وفيه روماتيزم؛ نفعته من هذا الروماتيزم، ولا ندري هل هذا صحيح أم لا؟ لكن الأصل أنه ليس بصحيح; لأنه ليس عندنا دليل شرعي ولا حسي يدل على ذلك، وهي لا تؤثر على الجسم; فليس فيها مادة دهنية؛ حتى نقول: إن الجسم يشرب هذه المادة وينتفع بها; فالأصل أنها ممنوعة حتى يثبت لنا بدليل صحيح صريح واضح أن لها اتصالا مباشرا بهذا الروماتيزم حتى ينتفع بها.


السابعة: الوعيد الشديد على من تعلق وترا: وذلك لبراءة الرسول صلى الله عليه وسلم ممن تعلق وترا، بل ظاهره أنه كفر مخرج من الملة، قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } 2 لكن قال أهل العلم: إن البراءة هنا براءة من هذا الفعل; كقوله صلى الله عليه وسلم " من غشنا; فليس منا "3.



1 انظر: (ص 184).
2 سورة التوبة آية : 3.
3 أخرجه: مسلم (101) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ج / 1 ص -193- الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان.
التاسعة: أن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف; لأن مراده أصحاب عبد الله بن مسعود.


الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان : لقول سعيد بن جبير: "كان كعدل رقبة"، ولكن هل قوله حجة أم لا؟ إن قيل: ليس بحجة; فكيف يقول المؤلف: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان؟! فيقال: إنه إنما كان كذلك; لأنه إنقاذ له من رق الشرك; فهو كمن أعتقه، بل أبلغ. فهو من باب القياس، فمن أنقذ نفسا من الشرك; فهو كمن أنقذها من الرق لأنه أنقذه من رق الشيطان والهوى.


فائدة:

إذا قال التابعي: من السنة كذا; فهل يعتبر موقوفا متصلا ويكون المراد من السنة أي سنة الصحابة، أو يكون مرفوعا مرسلا؟ اختلف أهل العلم في هذا; فبعضهم قال: إنه يكون موقوفا. وبعضهم قال: يكون مرفوعا مرسلا.
وتقدم لنا أنه ينبغي أن يفصل في هذا، وأن التابعي إذا قاله محتجا به; فإنه يكون مرفوعا مرسلا، أما إذا قاله في سياق غير الاحتجاج; فهذا قديقال: إنه من باب الموقوف الذي ينسب إلى الصحابي . التاسعة: أن كلام إبراهيم النخعي لا يخالف ما تقدم من الاختلاف; لأن مراده أصحاب عبد الله بن مسعود: وليس مراده الصحابة، ولا التابعين عموما.





المصدر :


كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 28-01-2015 09:30PM

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما

ج / 1 ص -194- باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما

قوله: "تبرك": تفعل من البركة، والبركة: هي كثرة الخير وثبوته، وهي مأخوذة من البركة بالكسر، والبركة: مجمع الماء،

ومجمع الماء يتميز عن مجرى الماء بأمرين:
1- الكثرة.
2- الثبوت.

والتبرك: طلب البركة،

وطلب البركة لا يخلو من أمرين:
1. أن يكون التبرك بأمر شرعي معلوم; مثل القرآن، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ } 1. فمن بركته أن من أخذ به حصل له الفتح، فأنقذ الله بذلك أمما كثيرة من الشرك، ومن بركته أن الحرف الواحد بعشر حسنات، وهذا يوفر للإنسان الوقت والجهد....، إلى غير ذلك من بركاته الكثيرة.


2. أن يكون بأمر حسي معلوم; مثل: التعليم، والدعاء، ونحوه; فهذا الرجل يتبرك بعلمه ودعوته إلى الخير; فيكون هذا بركة لأننا نلنا منه خيرا كثيرا.
وقال أسيد بن حضير: "ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر"2؛



1 سورة ص آية : 29.
2 من حديث عائشة رواه البخاري (كتاب التيمم1/125), ومسلم (كتاب الحيض, باب التيمم1/289).

ج / 1 ص -195-

فإن الله يجري على بعض الناس من أمور الخير ما لا يجريه على يد الآخر.
وهناك بركات موهومة باطلة; مثل ما يزعمه الدجالون: أن فلانا الميت الذي يزعمون أنه ولي أنزل عليكم من بركته وما أشبه ذلك; فهذه بركة باطلة، لا أثر لها، وقد يكون للشيطان أثر في هذا الأمر، لكنها لا تعدو أن تكون آثارا حسية، بحيث إن الشيطان يخدم هذا الشيخ; فيكون في ذلك فتنة.


أما كيفية معرفة هل هذه من البركات الباطلة أو الصحيحة؟ فيعرف ذلك بحال الشخص، فإن كان من أولياء الله المتقين المتبعين للسنة المبتعدين عن البدعة; فإن الله قد يجعل على يديه من الخير والبركة ما لا يحصل لغيره.
ومن ذلك ما جعل الله على يد شيخ الإسلام ابن تيمية من البركة التي انتفع بها الناس في حياته وبعد موته. أما إن كان مخالفا للكتاب والسنة، أو يدعو إلى باطل; فإن بركته موهومة، وقد تضعها الشياطين له مساعدة على باطله، وذلك مثل ما يحصل لبعضهم أنه يقف مع الناس في عرفة ثم يأتي إلى بلده ويضحي مع أهل بلده.


قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الشياطين تحملهم لكي يغتر بهم الناس، وهؤلاء وقع منهم مخالفات، منها: عدم إتمام الحج، ومنها أنهم يمرون بالميقات ولا يحرمون منه1.
قوله: "شجر": اسم جنس; فيشمل أي شجرة تكون، ومن حسنات



1 "مجموع الفتاوى" (1/83).

ج / 1 ص -196- وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى} 1 الآيات.


أمير المؤمنين عمر بن الخطابرضي الله عنهأنه لما رأى الناس ينتابون الشجرة التي وقعت تحتها بيعة الرضوان أمر بقطعها.
قوله: "وحجر": اسم جنس يشمل أي حجر كان حتى الصخرة التي في بيت المقدس; فلا يتبرك بها، وكذا الحجر الأسود لا يتبرك به، وإنما يتعبد لله بمسحه وتقبيله; اتباعا للرسول صلى الله عليه وسلم وبذلك تحصل بركة الثواب. ولهذا قال عمررضي الله عنه" إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك; ما قبلتك "2. فتقبيله عبادة محضة خلافا للعامة، يظنون أن به بركة حسية، ولذلك إذا استلمه بعض هؤلاء مسح على جميع بدنه تبركا بذلك.


قوله: "ونحوهما": أي: من البيوت، والقباب، والحجر; حتى حجرة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتمسح بها تبركا، لكن لو مسح الحديد لينظر هل هو أملس أو لا; فلا بأس، إلا إن خشي أن يقتدى به; فلا يمسحه.
قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى}لما ذكر الله عزوجل المعراج بقـوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} 3 قال: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} 4 ; أي: رأى النبي صلى الله عليه وسلم من آيات الله الكبرى. وقد اختلف العلماء في قوله: (الكبرى): هل هي مفعول ل (رأى)، أو صفة لـ(آيات)؟.
وقوله: " الكبرى " قيل: إنها مفعول ل " رأى "، والتقدير: لقد رأى من آيات الله الكبرى.



1 سورة النجم آية : 19.
2 سبق (ص 181).
3 سورة آية : 1-2.
4 سورة النجم آية : 18.

ج / 1 ص -197-
فعلى الأول: يكون المعنى: أنه رأى الكبرى من الآيات.
وعلى الثاني: يكون المعنى: أنه رأى بعض الآيات الكبرى، وهذا هو الصحيح، أن الكبرى صفة ل " آيات "، وليست مفعولا ل " رأى " ; إذ إن ما رآه ليس أكبر آيات الله.


وبعد أن ذكر الله ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآيات; قال: { أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى } 1 أي: أخبروني ما شأنها، وما حالها بالنسبة إلى هذه الآيات العظيمة، إنها ليست بشيء. والاستفهام: للاستخفاف والاستهجان بهذه الأصنام.


قوله: " اللات ": تقرأ بتشديد التاء وتخفيفها، والتشديد قراءة ابن عباس; فعلى قراءة التشديد تكون اسم فاعل من اللّتِّ، وكان هذا الصنم أصله رجل يلت السويق للحجاج; أي: يجعل فيه السمن، ويطعمه الحجاج، فلما مات عكفوا على قبره وجعلوه صنما.


وأما على قراءة التخفيف; فإن اللات مشتقة من الله، أو من الإله; فهم اشتقوا من أسماء الله اسما لهذا الصنم، وسموه اللات، وهي لأهل الطائف ومن حولهم من العرب.
وقوله: " والعزى ": مؤنث أعز، وهو صنم يعبده قريش وبنو كنانة مشتق من اسم الله العزيز، كان بنخلة بين مكة والطائف.


قوله: " ومناة ": قيل: مشتقة من المنان، وقيل: من منى; لكثرة ما يمنى عنده من الدماء بمعنى يراق، ومنه سميت منى; لكثرة ما يراق فيها من الدماء.
وكان هذا الصنم بين مكة والمدينة لهذيل وخزاعة، وكان الأوس والخزرج يعظمونها ويهلون منها للحج.



1 سورة آية : 19-20.

ج / 1 ص -198-

قوله: " الثالثة الأخرى ": إشارة إلى أن التي تعظمونها، وتذبحون عندها، وتكثر إراقة الدماء حولها. أنها أخرى بمعنى متأخرة; أي: ذميمة حقيرة، مأخوذة من قولهم: فلان أخر; أي: ذميم، حقير، متأخر. فهذه الأصنام الثلاثة المعبودة عند العرب ما حالها بالنسبة لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا شيء، وإنما ذكر هذه الأصنام الثلاثة لأنها أشهر الأصنام وأعظمها عند العرب.
قوله: الآيات: أي: أكمل الآيات بعدها.


قوله: { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى } 1 هذا أيضا استفهام إنكاري على المشركين الذين يجعلون لله البنات ولهم البنين، فإذا ولد لهم الولد الذكر فرحوا واستبشروا به، وإذا ولدت الأنثى ظل وجه الإنسان منهم مسودا، وهو كظيم، ومع ذلك يقولون: الملائكة بنات الله; فيجعلون البنات لله - والعياذ بالله - ولهم ما يشتهون.


قوله: { تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى } 2 ضيزى: جائرة; لأنه على الأقل إذا أردتم القسمة; فاجعلوا لكم من البنات نصيبا، واجعلوا لله من البنين نصيبا، أما أن تجعلوا ما تختارونه لأنفسكم، وهم البنون، وتجعلون ما تكرهون لله; فهذه قسمة جائرة.


قوله: { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } 3 الضمير في " هي " يعود إلى الأصنام; أي: هذه الأصنام (اللات والعزى، ومناة) التي سميتموها آلهة واتخذتموها آلهة تعبدونها هي مجرد أسماء سميتموها، ولكن ما أنزل الله بها من سلطان; أي: من حجة ودليل.



1 سورة النجم آية : 21.
2 سورة النجم آية : 22.
3 سورة النجم آية : 23.

ج / 1 ص -199-


بل أبطلها الله - سبحانه -، قال تعالى:{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } 1.
وأصل السلطان في اللغة العربية: ما به سلطة، فإن كان في مقام العلم; فهو العلم، وإن كان في مقام القدرة; فهـو القدرة، وإن كان في مقام الأمر والنهي; فهو من له الأمر والنهي; فمثلا قـوله تعالى:{ لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } 2 ; أي: بقدرة وقوة، ومثل قوله تعالى:{ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } 3; أي: من حجة وبرهان.


وفي الحديث: " السلطان ولي من لا ولي له "4 أي: من له الأمر والنهي.
قوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ } 5 " إن " هنا بمعنى ما، وعلامة إن التي بمعنى ما أن تأتي بعدها إلا، قال تعالى: {إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} 6، يعني ما هذا إلا ملك كريم، وقال تعالى: {إِنْ هَذَا إِلاَِّ قَوْلُ الْبَشَرِ} 7 ; أي: ما هذا إلا قول البشر، وقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ } 8 ; أي: ما يتبعون إلا الظن. والظن الذي يتبعونه هو أنها آلهة، وأن لله البنات ولهم البنون، والظن لا يغني من الحق شيئا; كما قال تعالى في آية أخرى.



1 سورة الحج آية : 62.
2 سورة الرحمن آية : 33.
3 سورة يوسف آية : 40.
4 من حديث عائشة, رواه: أبو داود (كتاب النكاح, باب في الولي, 2/568)- وسكت عنه-, والترمذي (النكاح, باب لا نكاح إلا بولي, رقم 1102) - وقال: "حديث حسن" -, وابن ماجه (كتاب النكاح, باب لا نكاح إلا بولي, 1/605), وأحمد (1/47, 66, 166، 260.
5 سورة الأنعام آية : 116.
6 سورة يوسف آية : 31.
7 سورة المدثر آية : 25.
8 سورة الأنعام آية : 116.

ج / 1 ص -200- وعن أبي واقد الليثي; قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين،.......


قوله: {وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ } 1 كذلك أيضا يتبعون ما تهوى الأنفس، وهذا أضر شيء على الإنسان أن يتبع ما يهوى; فالإنسان الذي يعبد الله بالهوى; فإنه لا يعبد الله حقا، إنما يعبد عقله وهواه، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } 2، لكن الذي يعبد الله بالهدى لا بالهوى؛ هو الذي على الحق.


قوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} 3 أي: على يد النبي صلى الله عليه وسلم فكان الأجدر بهم أن يتبعوا الهدى دون الهوى.


مناسبة الآية للترجمة

أنهم يعتقدون أن هذه الأصنام تنفعهم وتضرهم، ولهذا يأتون إليها; يدعونها، ويذبحون لها، ويتقربون إليها، وقد يبتلي الله المرء فيحصل له ما يريد من اندفاع ضر أو جلب نفع بهذا الشرك; ابتلاء من الله وامتحانا، وهذا قد تقدم لنا له نظائر أن الله يبتلي المرء بتيسير أسباب المعصية له حتى يعلم سبحانه من يخافه بالغيب.


قوله: " خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ": أي: بعد غزوة الفتح; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة تجمعت له ثقيف وهوازن، بجمع عظيم كثير جدا. فقصدهم صلى الله عليه وسلم ومعه اثنا عشر ألفا: ألفان من أهل مكة، وعشرة آلاف جاء بهم من المدينة، فلما توجهوا بهذه الكثرة العظيمة; قالوا: لن نغلب اليوم من قلة. فأعجبوا بكثرتهم، ولكن بين الله أن النصر من عند الله وليس بالكثرة، قال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ



1 سورة النجم آية : 23.
2 سورة آية : 23.
3 سورة النجم آية : 23.

ج / 1 ص -201- ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر! إنها السنن!.........


أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } 1 الآيتين.
ثم لما انحدروا من وادي حنين وجدوا أن المشركين قد كمنوا لهم في الوادي، فحصل ما حصل، وتفرق المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق معه إلا نحو مئة رجل، وفي آخر الأمر كان النصر للنبي صلى الله عليه وسلم والحمد لله.
قوله: "حدثاء": جمع حديث، أي: أننا قريبو عهد بكفر، وإنما ذكر ذلكرضي الله عنهللاعتذار لطلبهم وسؤالهم، ولو وقر الإيمان في قلوبهم لم يسألوا هذا السؤال.


قوله: "يعكفون عندها": أي: يقيمون عليها، والعكوف: ملازمة الشيء، ومنه قوله تعالى: { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } 2.
قوله: "ينوطون": أي: يعلقون بها أسلحتهم تبركا.
قوله: "يقال: لها ذات أنواط": أي: أنها تلقب بهذا اللقب لأنه تناط فيها الأسلحة، وتعلق عليها رجاء بركتها، فالصحابة رضي الله عنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط"؟ أي: سدرة نعلق أسلحتنا عليها تبركا بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "الله أكبر"، كبَّر تعظيما لهذا الطلب، أي: استعظاما له، وتعجبا لا فرحا به، كيف يقولون هذا القول؟ وهم آمنوا بأنه لا إله إلا الله؟! لكن: "إنها السنن" أي: الطرق التي يسلكها العباد.




1 سورة التوبة آية : 25.
2 سورة البقرة آية : 187.

ج / 1 ص -202- قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى : {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 1. لتركبن سنن مـن كان قبلكم " رواه الترمذي وصححه2.



قوله: "قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ }، أي: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قاس ما قاله الصحابة رضي الله عنهم على ما قاله بنو إسرائيل لموسى حين قالوا: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، فأنتم طلبتم ذات أنواط كما أن لهؤلاء المشركين ذات أنواط.
وقوله عليه الصلاة والسلام: " والذي نفسي بيده " المراد أن نفسه بيد الله، لا من جهة إماتتها وإحيائها فحسب، بل من جهة تدبيرها وتصريفها أيضا، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها- سبحانه وتعالى-.


قوله: " لتركبن سنن من كان قبلكم "3 أي: لتفعلن مثل فعلهم، ولتقولن مثل قولهم، وهذه الجملة لا يراد بها الإقرار، وإنما يراد بها التحذير، لأنه من المعلوم أن سنن من كان قبلنا مما جرى تشبيهه سنن ضالة، حيث طلبوا آلهة مع الله، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يحذر أمته أن تركب سنن من كان قبلها من الضلال والغي.


والشاهد مـن هذا الحديث قولهم: " اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط " فأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم



1 سورة الأعراف آية : 138.
2 رواه: أحمد في "المسند"[ (5/218), والترمذي (أبواب الفتن, باب ما جاء: "لتركبن سنن من كان قبلكم", 6/343) - وقال: "حسن صحيح"-, وابن أبي عاصم في "السنة" برقم (76), وابن حبان برقم (1835), والطبراني في "الكبير" برقم (3290), والبيهقي في "المعرفة" (1/108).
3 الترمذي : الفتن (2180) , وأحمد (5/218).



ج / 1 ص -203- فيه مسائل:
الأولى:
تفسير آية النجم.
الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا.
الثالثة: كونهم لم يفعلوا.
الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك، لظنهم أنه يحبه.


فيه مسائل:
الأولى:
تفسير آية النجم: أي: قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } 1 الآية. وسبق تفسيرها، وأن الله تعالى أنكر على هؤلاء الذين يعبدون اللات والعزى، وأتى بصيغة الاستفهام الدالة على التحقير والتصغير لهذه الأصنام.


الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا: وهو أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم ذات أنواط كما أن للمشركين ذات أنواط، وهم إنما أرادوا أن يتبركوا بهذه الشجرة لا أن يعبدوها، فدل ذلك على أن التبرك بالأشجار ممنوع، وأن هذا من سنن الضالين السابقين من الأمم.


الثالثة: كونهم لم يفعلوا: أي: لم يعلقوا أنواطا على الشجرة، ويطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقرهم على هذا العمل، بل طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم ذلك.
الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك لظنهم أنه يحبه:



1 سورة آية : 19-24.

ج / 1 ص -204- الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا، فغيرهم أولى بالجهل.
السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم.
السابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم، بل رد عليهم بقوله: " الله أكبر! إنها السنن! لتتبعن سنن من كان قبلكم "1 فغلظ الأمر بهذه الثلاث.


"بذلك"؟ أي: بتعليق الأسلحة ونحوها على الشجرة التي يعينها الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا طلبوا ذلك من الرسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لتكتسب بهذا معنى العبادة.
الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا; فغيرهم أولى بالجهل: لأن الصحابة لا شك أعلم الناس بدين الله، فإذا كان الصحابة يجهلون أن التبرك بهذا؛ نوعٌ من اتخاذها إلها، فغيرهم من باب أولى، وقصد المؤلف رحمه الله بهذا أن لا نغتر بعمل الناس، لأن عمل الناس قد يكون عن جهل، فالعبرة بما دل عليه الشرع لا بعمل الناس.


السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم: وهذا معلوم من الآيات، مثل قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } 2 فالصحابة رضي الله عنهم لهم من الحسنات، والوعد بالمغفرة، وأسباب المغفرة، ما ليس لغيرهم، ومع ذلك لم يعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الطلب.


السابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم، بل رد عليهم بقوله: "الله أكبر! إنها السنن، لتتبعن سنن من كان قبلكم"؟ فغلظ الأمر بهذه الثلاث. وهي قوله: "الله أكبر"، وقوله: "إنها السنن"، وقوله: "لتركبن سنن من كان



1 البخاري : الاعتصام بالكتاب والسنة (7320) , ومسلم : العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89 ,3/94).
2 سورة الحديد آية : 10.

ج / 1 ص -205- الثامنة: الأمر الكبير- وهو المقصود- أنه أخبر أن طلبهم كطلب بني إسرائيل لما قالوا لموسى: اجعل لنا إلها.
التاسعة: أن نفي هذا من معنى لا إله إلا الله، مع دقته وخفائه على أولئك.
العاشرة: أنه حلف على الفتيا، وهو لا يحلف إلا لمصلحة.


قبلكم"؟ فغلظ الأمر بهذا لأن التكبير استعظاما للأمر الذي طلبوه، و "إنها السنن": تحذير، و "لتركبن سنن من كان قبلكم" كذلك أيضا تحذير.
الثامنة: الأمر الكبير وهو المقصود أنه أخبر أن طلبهم كطلب بني إسرائيل لما قالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } 1 فهؤلاء طلبوا سدرة يتبركون بها كما يتبرك المشركون بها، وأولئك طلبوا إلها كما لهم آلهة، فيكون في كلا الطلبين منافاة للتوحيد، لأن التبرك بالشجر نوع من الشرك، واتخاذه إلها شرك واضح.


التاسعة: أن نفي هذا من معنى: لا إله إلا الله، مع دقته وخفائه على أولئك: أي: أن نفي التبرك بالأشجار ونحوها من معنى لا إله إلا الله، فإن لا إله إلا الله تنفي كل إله سوى الله، وتنفي الألوهية عما سوى الله- عز وجل-، فكذلك البركة لا تكون من غير الله- سبحانه وتعالى-.


العاشرة: أنه حلف على الفتيا وهو لا يحلف إلا لمصلحة: أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف على الفتيا في قوله: "قلتم، والذي نفسي بيده"، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يحلف إلا لمصلحة، أو دفع مضرة ومفسدة، فليس ممن يحلف على أي سبب يكون، كما هي عادة بعض الناس.



1 سورة الأعراف آية : 138.

ج / 1 ص -206- الحادية عشرة: أن الشرك فيه أصغر وأكبر؛ لأنهم لم يرتدوا بهذا.


الحادية عشرة: أن الشرك فيه أصغر وأكبر، لأنهم لم يرتدوا بهذا: حيث لم يطلبوا جعل ذات الأنواط لعبادتها، بل للتبرك بها، والشرك فيها أصغر وأكبر، وفيه خفي وجلي. فالشرك الأكبر: ما يخرج الإنسان من الملة. والشرك الأصغر: ما دون ذلك.
لكن كلمة (ما دون ذلك) ليست ميزانا واضحا.


ولذلك اختلف العلماء في ضابط الشرك الأصغر على قولين:
القول الأول: أن الشرك الأصغر كل شيء أطلق الشارع عليه أنه شرك ودلت النصوص على أنه ليس من الأكبر، مثل: " من حلف بغير الله; فقد أشرك "1 فالشرك هنا أصغر، لأنه دلت النصوص على أن مجرد الحلف بغير الله لا يخرج من الملة.

القول الثاني: أن الشرك الأصغر: ما كان وسيلة للأكبر، وإن لم يطلق الشرع عليه اسم الشرك، مثل: أن يعتمد الإنسان على شيء كاعتماده على الله، لكنه لم يتخذه إلها، فهذا شرك أصغر؛ لأن هذا الاعتماد الذي يكون كاعتماده على الله يؤدي به في النهاية إلى الشرك الأكبر، وهذا التعريف أوسع من الأول، لأن الأول يمنع أن تطلق على شيء أنه؛ شرك إلا إذا كان لديك دليل، والثاني يجعل كل ما كان وسيلة للشرك فهو



1 من حديث ابن عمر: رواه: أبو داود (كتاب الأيمان, باب في كراهية الحلف بالآباء, 3/ 570) - وسكت عنه-, والترمذي (النذور, باب كراهية الحلف بغير الله تعالى, رقم 1535) - وحسنه -, والطيالسي (رقم 1896), وابن حبان (رقم 1177), والحاكم (1/18, 4/ 297) - وصححه على شرطهما, وأقره الذهبي-, وأحمد في "المسند" (2/34, 69).

ج / 1 ص -207-


شرك، وربما نقول على هذا التعريف: إن المعاصي كلها شرك أصغر، لأن الحامل عليها الهوى، وقد قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } 1 ولهذا أطلق النبي صلى الله عليه وسلم الشرك على تارك الصلاة، مع أنه لم يشرك، فقال: " بين الرجل وبين الشرك والكفر: ترك الصلاة " 2.


فالحاصل أن المؤلف رحمه الله يقول: إن الشرك فيه أكبر وأصغر، لأنهم لم يرتدوا بهذا، وسبق وجه ذلك.
الجلي والخفي، فبعضهم قال: إن الجلي والخفي هو الأكبر والأصغر. وبعضهم قال:
الجلي ما ظهر للناس من أصغر أو أكبر، كالحلف بغير الله، والسجود للصنم.
والخفي: ما لا يعلمه الناس من أصغر أو أكبر، كالرياء، واعتقاد أن مع الله إلها آخر. وقد يقال: إن الجلي ما انجلى أمره وظهر كونه شركا، ولو كان أصغر، والخفي: ما سوى ذلك. وأيهما الذي لا يغفر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، لعموم قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 3 و" أن يشرك به " مؤول بمصدر تقديره: شركا به، وهو نكرة في سياق النفي، فيفيد العموم4. وقال بعض العلماء: إن الشرك الأصغر داخل تحت المشيئة، وإن



1 سورة آية : 23.
2 رواه: الترمذي (أبواب الإيمان, باب ما جاء في ترك الصلاة, 9/2613) - وقال: "حسن, صحيح, غريب"-, والنسائي (كتاب الصلاة, باب الحكم في تارك الصلاة, 1/231), وابن ماجه (كتاب إقامة الصلاة, باب ما جاء فيمن ترك الصلاة, رقم 1079), وابن حبان; كما في الموارد (رقم 255), والحاكم (1/7)- وصححه وأقره الذهبي-, وأحمد (5/ 346).
3 سورة النساء آية : 48.


4 انظر: "الرد على البكري" (ص 146).

ج / 1 ص -208- الثانية عشرة: قولهم: "ونحن حدثاء عهد بكفر"، فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك.
الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب، خلافا لمن كرهه.


المراد بقوله: " أن يشرك به " الشرك الأكبر، وأما الشرك الأصغر، فإنه يغفر لأنه لا يخرج من الملة، وكل ذنب لا يخرج من الملة، فإنه تحت المشيئة، وعلى كل، فصاحب الشرك الأصغر على خطر، وهو أكبر من كبائر الذنوب، قال ابن مسعودرضي الله عنه" لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا " 1.
الثانية عشرة: قوله: "ونحن حدثاء عهد بكفر...": معناه: أنه يعتذر عما طلبوا، حيث طلبوا أن يجعل لهم ذات أنواط، فهم يعتذرون لجهلهم بكونهم حدثاء عهد بكفر، وأما غيرهم ممن سبق إسلامه، فلا يجهل ذلك. وعلى هذا، فنقول: إنه ينبغي للإنسان أن يقدم العذر عن قوله أو فعله؛ حتى لا يعرض نفسه إلى القول أو الظن بما ليس فيه، ويدل لذلك حديث " صفية حين شيعها الرسول صلى الله عليه وسلم وهو معتكف، فمر رجلان من الأنصار، فقال: إنها صفية بنت حيي "2.


الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب... إلخ: تؤخذ من قوله: "الله أكبر"، أي: الله أكبر وأعظم من أن يشرك به، وفي رواية الترمذي أنه قال: "سبحان الله"3 أي: تنزيها لله عما لا يليق به.



1 رواه: عبد الرزاق في "المصنف" (8/469), والطبراني في "الكبير" برقم (8902). قال المنذري في "الترغيب" (3/607), والهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/177): "رواته رواة الصحيح".
2 رواه: البخـاري (كتاب الاعتكاف, باب هـل يخرج المعتكف لحوائجه إلى بـاب المسجد, 2/67).
3 سبق (ص 202).

ج / 1 ص -209- الرابعة عشرة: سد الذرائع.
الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية.
السادسة عشرة: الغضب عند التعليم.
السابعة عشرة: القاعدة الكلية لقوله: " إنها السنن".


الرابعة عشرة: سد الذرائع: الذرائع، أي: الطرق الموصلة إلى الشيء، وذرائع الشيء، وسائله وطرقه. والذرائع نوعان:
أ- ذرائع إلى أمور مطلوبة: فهذه لا تسد، بل تفتح وتطلب.
ب- ذرائع إلى أمور مذمومة: فهذه تسد، وهو مراد المؤلف رحمه الله تعالى. وذات الأنواط وسيلة إلى الشرك الأكبر، فإذا وضعوا عليها أسلحتهم وتبركوا بها، يتدرج بهم الشيطان إلى عبادتها، وسؤالهم حوائجهم منها مباشرة، فلهذا سد النبي صلى الله عليه وسلم الذرائع.


الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية: تؤخذ من قوله: "قلتم كما قالت بنو إسرائيل"، فأنكر عليهم، وبهذا نعرف أن الجاهلية لا تختص بمن كان قبل زمن النبي صلى الله عليه وسلم بل كل من جهل الحق وعمل عمل الجاهلين، فهو من أهل الجاهلية.


السادسة عشرة: الغضب عند التعليم: والحديث ليس بصريح في ذلك، وربما يؤخذ من قرائن قوله: "الله أكبر! إنها السنن..."، لأن قوة هذا الكلام تفيد الغضب.
السابعة عشرة: القاعدة الكلية لقوله: فإنها السنن ": أي: الطرق: وأن هذه الأمة ستتبع طرق من كان قبلها، وهذا لا يعني الحل

ج / 1 ص -210- الثامنة عشرة: أن هذا علم من أعلام النبوة، لكونه وقع كما أخبر.


والإباحة، ولكنه للتحذير، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم " ستفترق هذه الأمه إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة "1 وقال: " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير... "2 الحديث، وقال: " إن الظعينة تذهب من كذا إلى كذا لا تخشى إلا الله "3 وما أشبه ذلك من الأمور التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن وقوعها مع تحريمها.


الثامنة عشرة: أن هذا علم من أعلام النبوة لكونه وقع كما أخبر: يعني اتباع سنن من كان قبلنا. فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد خطب الناس بعرفة، وقال: " إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب "4 فكيف تقع عبادته؟

فالجواب: أن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بيأسه لا يدل على عدم الوقوع، بل يجوز أن يقع، على خلاف ما توقعه الشيطان، لأن الشيطان لما حصلت الفتوحات، وقوي الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجا؛ يئس أن يعبد سوى الله في هذه الجزيرة، ولكن حكمة الله تأبى إلا أن يكون ذلك، وهذا نقوله ولا بد، لئلا يقال: إن جميع الأفعال التي تقع في الجزيرة العربية، لا يمكن أن تكون شركا، ومعلوم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب



1 سبق (ص 43).
2 رواه: البخاري معلقا بصيغة الجزم (كتاب الأشربة, باب فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه, 4/13).
3 من حديث عدي بن حاتم, رواه: البخاري (كتاب المناقب, باب علامات النبوة, 2/ 527).
4 من حديث جابر, رواه: مسلم (كتاب صفات المنافقين, باب تحريش الشيطان, 4/ 2166).

ج / 1 ص -211- التاسعة عشرة:أن كل ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن، أنه لنا.
العشرون: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر،


رحمه الله جدد التوحيد في الجزيرة العربية، وأن الناس كانوا في ذلك الوقت فيهم المشرك وغير المشرك.
فالحديث أخبر عما وقع في نفس الشيطان ذلك الوقت، ولكنه لا يدل على عدم الوقوع، وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " لتركبن سنن من كان قبلكم "1 وهو يخاطب الصحابة وهم في جزيرة العرب.


التاسعة عشرة: أن كل ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا: هذا ليس على إطلاقه وظاهره، بل يحمل قوله: "لنا"، أي: لبعضنا، ويكون المراد به المجموع لا الجميع، كما قال العلماء في قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } 2 والرسل كانوا من الإنس فقط فإذا وقع تشبه باليهود والنصارى، فإن الذم الذي يكون لهم يكون لنا، وما من أحد من الناس غالبا إلا وفيه شبه باليهود أو النصارى، فالذي يعصي الله على بصيرة فيه شبه من اليهود، والذي يعبد الله على ضلالة فيه شبه من النصارى، والذي يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله فيه شبه من اليهود، وهلم جرا.
وإن كان يقصد رحمه الله أنه لا بد أن يكون في الأمة خصلة، فهذا على إطلاقه وظاهره، لأنه قل من يسلم.

وإن أراد أن كل ما ذم به اليهود والنصارى، فهو لهذه الأمة على سبيل العموم، فلا.
العشرون: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر... إلخ: وهذا واضح، فالعبادات مبناها على الأمر، فما لم يثبت فيه أمر



1 الترمذي : الفتن (2180) , وأحمد (5/218).
2 سورة الأنعام آية : 130.

ج / 1 ص -212- فصار فيه التنبيه على مسائل القبر: أما (من ربك)، فواضح، وأما (من نبيك؟)، فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما (ما دينك؟) فمن قولهم: "اجعل لنا إلها..." إلى آخره.



الشارع، فهو بدعة، قال صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا، فهو رد "1 وقال: " إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة " 2.
فمن تعبد بعبادة طولب بالدليل، لأن الأصل في العبادات الحظر والمنع، إلا إذا قام الدليل على مشروعيتها. وأما الأكل والمعاملات والآداب واللباس وغيرها، فالأصل فيها الإباحة، إلا ما قام الدليل على تحريمه.


وقوله: "مسائل القبر التي يسأل فيها الإنسان في قبره من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟": ففي هذه القصة دليل على مسائل القبر الثلاث، وليس مراده أن فيها دليلا على أن الإنسان يسأل في قبره، بل فيها دليل على إثبات الربوبية والنبوة والعبادة.


أما "من ربك"؟ فواضح، يعني أنه لا رب إلا الله تعالى وأما "من نبيك"؟ فمن إخباره بالغيب، قال صلى الله عليه وسلم: " لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة "3 فوقع كما أخبر. أما "ما دينك"، فمن قولهم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً } 4 أي: مألوها معبودا، والعبادة هي الدين.



1 من حديث عائشة, رواه مسلم (كتاب الأقضية, باب نقض الأحكام الباطلة, 3/1343). وأخرجه البخاري معلقا (2697).
2 من حديث العرباض بن سارية, رواه أبو داود (كتاب السنة, باب لزوم السنة, 5/13), والترمذي (العلم, باب الأخذ بالسنة, رقم 2678)- وقال: "حسن صحيح"-, وابن ماجه في (المقدمة, باب اتباع سنة الخلفاء, رقم 42).
3 سبق (ص 202).
4 سورة الأعراف آية : 138.



ج / 1 ص -213- الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين
الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة، لقوله: " ونحن حدثاء عهد بكفر ".


والمؤلف رحمه الله محمد بن عبد الوهاب فهمه دقيق جدا لمعاني النصوص، فأحيانا يصعب على الإنسان بيان وجه استنباط المسألة من الدليل.
الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين تؤخذ من قوله: "كما قالت بنو إسرائيل لموسى".


الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة: وهذا صحيح، فالإنسان المنتقل من شيء، سواء كان باطلا أولا، لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية منه، وهذه البقية لا تزول إلا بعد مدة; لقوله: "ونحن حدثاء عهد بكفر"، فكأنه يقول: ما سألناه إلا لأن عندنا بقية من بقايا الجاهلية، ولهذا كان من الحكمة تغريب الزاني بعد جلده عن مكان الجريمة، لئلا يعود إليها.


فالإنسان ينبغي أن يبتعد عن مواطن الكفر، والشرك، والفسوق، حتى لا يقع في قلبه شيء منها.






المصدر :


كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979






ام عادل السلفية 29-01-2015 08:07AM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب ما جاء في الذبح لغير الله

ج / 1 ص -214- باب ما جاء في الذبح لغير الله

قوله: "في الذبح": أي: ذبح البهائم.
قوله: "لغير الله": اللام للتعليل، والقصد: أي قاصدا بذبحه غير الله،

والذبح لغير الله ينقسم إلى قسمين:
1. أن يذبح لغير الله تقربا وتعظيما، فهذا شرك أكبر مخرج عن الملة.
2. أن يذبح لغير الله فرحا وإكراما، فهذا لا يخرج من الملة، بل هو من الأمور العادية التي قد تكون مطلوبة أحيانا وغير مطلوبة أحيانا، فالأصل أنها مباحة.


ومراد المؤلف هنا القسم الأول. فلو قدم السلطان إلى بلد. فذبحنا له، فإن كان تقربا وتعظيما، فإنه شرك أكبر، وتحرم هذه الذبائح، وعلامة ذلك: أننا نذبحها في وجهه ثم ندعها.
أما لو ذبحناها له إكراما وضيافة، وطبخت، وأكلت، فهذا من باب الإكرام، وليس بشرك.
وقوله: "لغير الله" يشمل الأنبياء، والملائكة، والأولياء، وغيرهم، فكل من ذبح لغير الله تقربا وتعظيما، فإنه داخل في هذه الكلمة بأي شيء كان.


وقوله في الترجمة: "باب ما جاء في الذبح لغير الله": أشار إلى

ج / 1 ص -215- وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ } 1 الآية.


الدليل دون الحكم، ومثل هذه الترجمة يترجم بها العلماء للأمور التي لا يجزمون بحكمها، أو التي فيها تفصيل، وأما الأمور التي يجزمون بها، فإنهم يقولونها بالجزم، مثل باب وجوب الصلاة، وباب تحريم الغيبة، ونحو ذلك.
والمؤلف رحمه الله تعالى لا شك أنه يرى تحريم الذبح لغير الله على سبيل التقرب والتعظيم، وأنه شرك أكبر، لكنه أراد أن يمرن الطالب على أخذ الحكم من الدليل، وهذا نوع من التربية العلمية، فإن المعلم أو المؤلف يدع الحكم مفتوحا، ثم يأتي بالأدلة لأجل أن يكل الحكم إلى الطالب، فيحكم به على حسب ما سيق له من هذه الأدلة،


وقد ذكر المؤلف في هذا الباب ثلاث آيات:
الأولى: قوله: (قل): الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي قل لهؤلاء المشركين معلنا لهم قيامك بالتوحيد الخالص، لأن هذه السورة مكية.
قوله: " إن صلاتي ": الصلاة في اللغة: الدعاء، وفي الشرع: عبادة لله ذات أقوال وأفعال معلومة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم.
قوله: (ونسكي): النسك لغة: العبادة، وفي الشرع: ذبح القربان. فهل تحمل هذه الآية على المعنى اللغوي أو على المعني الشرعي؟ سبق أن ما جاء في لسان الشرع يحمل على الحقيقة الشرعية; كما أن ما



1 سورة آية : 162.

ج / 1 ص -216-
جاء في لسان العرف، فهو محمول على الحقيقة العرفية وفي لسان العرب على الحقيقة اللغوية.
فعندما أقول لشخص: عندك شاة؟ يفهم الأنثى من الضأن، لكن في اللغة العربية الشاة تطلق على الواحدة من الضأن والمعز، ذكرا كان أو أنثى، وعلى هذا، فيحمل النسك في الآية على المعنى الشرعي. وقيل: تحمل على المعنى اللغوي، لأنه أعم، فالنسك العبادة، كأنه يقول: أنا لا أدعو إلا الله، ولا أعبد إلا الله، وهذا عام للدعاء والتعبد.


وإذا حملت على المعنى الشرعي، صارت خاصة في نوع من العبادات، وهي: الصلاة، والنسك، ويكون هذا كمثال، فإن الصلاة أعلى العبادات البدنية، والذبح أعلى العبادات المالية، لأنه على سبيل التعظيم لا يقع إلا قربة، هكذا قرر شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة.
ويحتاج إلى مناقشة في مسألة أن القربان أعلى أنواع العبادات المالية، فإن الزكاة لا شك أنها أعظم، وهي عبادة مالية. وهناك رأي ثالث يقول: إن الصلاة هي الصلاة المعروفة شرعا، والنسك: العبادة مطلقا، ويكون ذلك من عطف العام على الخاص.


قوله: " ومحياى ومماتي ": أي: حياتي وموتي، أي: التصرف في وتدبير أمري حيا وميتا لله. وفي قوله: " صلاتي ونسكي " إثبات توحيد العبادة.
وفي قوله: " ومحياي ومماتي " إثبات توحيد الربوبية.
قوله: (لله): خبر إن، والله: علم على الذات الإلهية، وأصله: الإله، فحذفت الهمزة، لكثرة الاستعمال تخفيفا. وهو بمعنى مألوه، فهو فعال بمعنى مفعول، مثل غراس بمعنى مغروس، وفراش بمعنى مفروش، والمألوه: المحبوب المعظم.

ج / 1 ص -217-

قوله: " رب العالمين ": المراد ب (العالمين): ما سوى الله، وسمي بذلك، لأنه علم على خالقه. قال الشاعر:

فواعجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
وهي تطلق على العالمين بهذا المعنى، وتطلق على العالمين في وقت معين، مثل قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} 1، يعني: عالمي زمانهم. والرب هنا: المالك المتصرف، وهذه ربوبية مطلقة.


الآية الثانية: قوله: " لا شريك له ": الجملة حالية من قوله (لله) أي: حال كونه لا شريك له، والله -سبحانه- لا شريك له في عبادته، ولا في ربوبيته، ولا أسمائه وصفاته،ولهذا قال تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2.
وقد ضل من زعم أن لله شركاء، كمن عبد الأصنام، أو عيسى بن مريم عليه السلام وكذلك بعض غلاة الشعراء الذين جعلوا المخلوق بمنْزلة الخالق كقول بعضهم يخاطب ممدوحا له:

فكن كمن شئت يا من لا شبيه له وكيف شئت فما خَلْقٌ يدانيك
وكقول البوصيري في قصيدته في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذا يدي فضلا وإلا فقل يا زلة القدم


1 سورة البقرة آية : 47.
2 سورة الشورى آية : 11.

ج / 1 ص -218-

فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم وهذا من أعظم الشرك; لأنه جعل الدنيا والآخرة من جود الرسول، ومقتضاه أن الله جل ذكره ليس له فيهما شيء.
وقال: (ومن علومك علم اللوح والقلم"، يعني: وليس ذلك كل علومك، فما بقي لله علم ولا تدبير- والعياذ بالله-.
قوله: (بذلك): الجار والمجرور متعلق بـ (أمرت) فيكون دالا على الحصر والتخصيص، وإنما خص بذلك، لأنه أعظم المأمورات، وهو الإخلاص لله تعالى ونفي الشرك، فكأنه ما أمر إلا بهذا، ومعلوم أن من أخلص لله تعالى، فسيقوم بعبادة الله- سبحانه وتعالى- في جميع الأمور.
قوله: (أمرت): إبهام الفاعل هنا من باب التعظيم والتفخيم، وإلا، فمن المعلوم أن الآمر هو الله تعالى.


قوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} يحتمل أن المراد الأولية الزمنية، فيتعين أن تكون أولية إضافية، ويكون المراد أنا أول المسلمين من هذه الأمة، لأنه سبقه في الزمن من أسلموا.
ويحتمل أن المراد الأولية المعنوية، فإن أعظم الناس إسلاما وأتمهم انقيادا هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فتكون الأولية أولية مطلقا.
ومثل هذا التعبير يقع كثيرا، أن تقع الأولية أولية معنوية، مثل أن تقول: أنا أول من يصدق بهذا الشيء، وإن كان غيرك قد صدق قبلك، لكن تريد أنك أسبق الناس تصديقا بذلك، ولن يكون عندك إنكار أبدا، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم " نحن أولى بالشك من إبراهيم"1 حينما قال {رَبِّ أَرِنِي



1 من حديث أبي هريرة, رواه البخاري (كتاب تفسير القرآن, باب قول الله تعالى: {وقوموا لله قانتين} , 3/230), ومسلم (كتاب الإيمان, باب زيادة طمأنينة القلب, 1/ 133).

ج / 1 ص -219-

كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى } 1 فليس معناه أن إبراهيم شاك، لكن إن قدر أن يحصل شك، فنحن أولى بالشك منه، وإلا، فلسنا نحن شاكين، وكذلك إبراهيم ليس شاكا.
قوله: (المسلمين): الإسلام عند الإطلاق يشمل الإيمان، لأن المراد به الاستسلام لله ظاهرا وباطنا، ويدل لذلك قـوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } 2 وهذا إسلام الباطن.
وقوله: " وهو محسن " هذا إسلام الظاهر، وكذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } 3 يشمل الإسلام الباطن والظاهر، وإذا ذكر الإيمان دخل فيه الإسلام، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } 4 ومتى وجد الإيمان حقا لزم من وجوده الإسلام وأما إذا قرنا جميعا؛ صار الإسلام في الظاهر، والإيمان في الباطن، مثل حديث جبريل، وفيه: (أخبرني عن الإسلام)، فأخبره عن أعمال ظاهرة، وأخبرني عن الإيمان، فأخبره عن أعمال باطنة5.


وكذا قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } 6.
والشاهد من الآية التي ذكرها المؤلف: أن الذبح لا بد أن يكون خالصا لله.



1 سورة البقرة آية : 260.
2 سورة البقرة آية : 112.
3 سورة آل عمران آية : 85.
4 سورة التوبة آية : 72.
5 من حديث عمر, رواه: مسلم (كتاب الإيمان, باب الإيمان والإسلام والإحسان, 1/36).
6 سورة الحجرات آية : 14.

ج / 1 ص -220- وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 1.


الآية الثالثة: قوله: (فصل): الفاء للسببية عاطفة على قوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} 2 أي: بسبب إعطائنا لك ذلك صل لربك وانحر شكرا لله تعالى على هذه النعمة. والمراد بالصلاة هنا الصلاة المعروفة شرعا.
وقوله: وانحرف: المراد بالنحر: الذبح، أي اجعل نحرك لله كما أن صلاتك له فأفادت هذه الآية الكريمة أن النحر من العبادة، ولهذا أمر الله به وقرنه بالصلاة.


وقوله: (وانحر): مطلق، فيدخل فيه كل ما ثبت في الشرع مشروعيته، وهي ثلاثة أشياء: الأضاحي، والهدايا، والعقائق، فهذه الثلاثة يطلب من الإنسان أن يفعلها.
أما الهدايا، فمنها واجب، ومنها مستحب، فالواجب كما في التمتع: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } 3 وكما في المحصر: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } 4 وكما في حلق الرأس: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } 5 هذا إن صح أن نقول: إنها هدي، ولكن الأولى أن نسميها فدية كما سماها الله- عز وجل-، لأنها بمنزلة الكفارة.
وأما الأضاحي، فاختلف العلماء فيها، فمنهم من قال: إنها واجبة. ومنهم من قال: إنها مستحبة. وأكثر أهل العلم على أنها مستحبة، وأنه يكره للقادر تركها ومذهب أبي حنيفة رحمه الله أنها واجبة على القادر، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية. والأضحية ليست عن الأموات كما يفهمه العوام، بل هي للأحياء،




1 سورة الكوثر آية : 2.
2 سورة الكوثر آية : 1.
3 سورة البقرة آية : 196.
4 سورة البقرة آية : 196.
5 سورة البقرة آية : 196.

ج / 1 ص -221- عن علي رضي الله عنه قال: " حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: لعن الله .............


وأما الأموات، فليس من المشروع أن يضحى لهم استقلالا، إلا إن أوصوا به، فعلى ما أوصوا به؛ لأن ذلك لم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم
وأما العقيقة: وهي التي تذبح عن المولود في يوم سابعه إن كان ذكرا فاثنتان، وإن كان أنثى فواحدة، وتجزئ الواحدة مع الإعسار في الذكور وهي سنة عند أكثر أهل العلم، وقال بعض أهل العلم: إنها واجبة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل غلام مرتهن بعقيقته " 1.


قوله: "كلمات": جمع كلمة، والكلمة في اصطلاح النحويين: القول المفرد. أما في اللغة، فهي كل قول مفيد، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " أصدق كلمة قالها شاعر: ألا كل شيء ما خلا الله باطل "2. وقـال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } 3 وهي قوله: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ } 4.
قال شيخ الإسلام: لا تطلق الكلمة في اللغة العربية إلا على الجملة المفيدة.
قوله: "لعن الله": اللعن من الله: الطرد والإبعاد عن رحمة الله،



1 من حديث سمرة بن جندب, رواه: أحمد في "المسند" (5/ 7, 8, 12, 17, 22), وأبو داود (كتاب الأضاحي, باب في العقيقة, 3/259), والترمذي (الأضحية, باب في العقيقة, 5/237) - وقال: "حديث حسن صحيح"-, والنسائي (كتاب العقيقة, باب متى يعق, رقم 4225), وابن ماجه (كتاب الذبائح, باب في العقيقة, 2/1057), والدارمي (كتاب الأضاحي, باب السنة في العقيقة, 2/81).


2 من حديث أبي هريرة, رواه: البخاري (3841, 6147, 6489).
3 سورة المؤمنون آية : 100.
4 سورة آية : 99-100.

ج / 1 ص -222- من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه


فإذا قيل: لعنه الله، فالمعنى: طرده وأبعده عن رحمته، وإذا قيل: اللهم العن فلانا، فالمعنى أبعده عن رحمتك واطرده عنها.
قوله: من ذبح لغير الله : عام يشمل من ذبح بعيرا، أو بقرة، أو دجاجة، أو غيرها.
قوله: "لغير الله": يشمل كل من سوى الله حتى لو ذبح لنبي، أو ملك، أو جني، أو غيرهم.
وقوله: "لعن": يحتمل أن تكون الجملة خبرية، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر أن الله لعن من ذبح لغير الله، ويحتمل أن تكون إنشائية بلفظ الخبر، أي: اللهم العن من ذبح لغير الله، والخبر أبلغ، لأن الدعاء قد يستجاب، وقد لا يستجاب.
قوله: "والديه": يشمل الأب والأم، ومن فوقهما، لأن الجد أب، كما أن أولاد الابن والبنت أبناء، في وجوب الاحترام لأصولهم. والمسألة هنا ليست مالية، بل هي من الحقوق، ولعن الأدنى أشد من لعن الأعلى، لأنه أولى بالبر، ولعنه ينافي البر.


قوله: "من لعن والديه": أي: سبهما وشتمهما، فاللعن من الإنسان السب والشتم، فإذا سببت إنسانا أو شتمته، فهذا لعنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: " كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه "1 وأخذ الفقهاء من هذا الحديث قاعدة، وهي: أن السبب بمنزلة المباشرة في الإثم، وإن كان يخالفه في الضمان على تفصيل في ذلك عند أهل العلم.



1 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص, رواه: البخاري (كتاب الأدب, باب لا يسب الرجل والديه, 4/86), ومسلم (كتاب الإيمان, باب بيان الكبائر, 1/92).

ج / 1 ص -223- لعن الله من أوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض " رواه مسلم1.


قوله: "من آوى محدثا": أي: ضمه إليه وحماه، والإحداث: يشمل الإحداث في الدين، كالبدع التي أحدثها الجهمية والمعتزلة، وغيرهم.
والإحداث في الأمر: أي في شؤون الأمة، كالجرائم وشبهها، فمن آوى محدثا، فهو ملعون، وكذا من ناصرهم، لأن الإيواء أن تأويه لكف الأذى عنه، فمن ناصره، فهو أشد وأعظم. والمحدث أشد منه; لأنه إذا كان إيواؤه سببا للعنة، فإن نفس فعله جرم أعظم.


ففيه التحذير من البدع والإحداث في الدين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة "2، وظاهر الحديث: ولو كان أمرا يسيرا.
قوله: "منار الأرض": أي: علاماتها ومراسيمها التي تحدد بين الجيران، فمن غيرها ظلما، فهو ملعون، وما أكثر الذين يغيرون منار الأرض، لا سيما إذا زادت قيمتها، وما علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " من اقتطع شبرا من الأرض ظلما، طوقه من سبع أرضين "3، فالأمر عظيم، مع أن هذا الذي يقتطع من الأرض، ويغير المنار، ويأخذ ما لا يستحق لا يدري: قد يستفيد منها في دنياه، وقد يموت قبل ذلك، وقد يسلط عليه آفة تأخذ ما أخذ.


فالحاصل: أن هذا دليل على أن تغيير منار الأرض من كبائر الذنوب، ولهذا قرنه النبي صلى الله عليه وسلم بالشرك وبالعقوق وبالإحداث، مما يدل على أن أمره عظيم، وأنه يجب على المرء أن يحذر منه، وأن يخاف الله- سبحانه وتعالى- حتى لا يقع فيه.



1 في (كتاب الأضاحي, باب تحريم الذبح لغير الله, 3/1567).
2 سبق (ص 212).
3 سبق (ص 87).

ج / 1 ص -224- وعن طارق بن شهاب; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب. قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال:مر رجلان على قوم لهم صنم، لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا، فقالوا لأحدهما: قرب قال: ليس عندي شيء أقربه. قالوا له: قرب ولو ذبابا. فقرب ذبابا، فخلوا سبيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب. فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عزوجل فضربوا عنقه، فدخل الجنة " رواه أحمد1.


قوله: "عن طارق بن شهاب": في الحديث علتان:
الأولى: أن طارق بن شهاب اتفقوا على أنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم واختلفوا في صحبته، والأكثرون على أنه صحابي، لكن إذا قلنا: إنه صحابي، فلا يضر عدم سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن مرسل الصحابي حجة، وإن كان غير صحابي، فإنه مرسل غير صحابي، وهو من أقسام الضعيف.
الثانية: أن الحديث معنعن من قبل الأعمش، وهو من المدلسين، وهذه آفة في الحديث، فالحديث في النفس منه شيء من أجل هاتين العلتين.
ثم للحديث علة ثالثة، وهي أن الإمام أحمد رواه عن طارق عن سلمان موقوفا من قوله، وكذا أبو نعيم وابن أبي شيبة، فيحتمل أن سلمان أخذه عن بني إسرائيل.


قوله: "في ذباب": في: للسببية، وليست للظرفية، أي: بسبب ذباب، ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم " دخلت النار امرأة في هرة حبستها... "2 الحديث، أي: بسبب هرة.
قوله: "فدخل النار": مع أنه ذبح شيئا حقيرا لا يؤكل، لكن لما



1 رواه: الإمام أحمد في "الزهد" (ص 15, 16), وأبو نعيم في "الحلية" (1/203).
2 من حديث ابن عمر, رواه: البخاري (كتاب بدء الخلق, باب إذا وقع الذباب, 2/448), ومسلم (كتاب السلام, باب تحريم قتل الهرة, 4/1760).



ج / 1 ص -225- فيه مسائل:
الأولى: تفسير:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي}
الثانية: تفسي: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} الثالثة: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله.
الرابعة: لعن من لعن والديه، ومنه أن تلعن والدي الرجل فيلعن والديك.

نوى التقرب به إلى هذا الصنم، صار مشركا، فدخل النار.

فيه مسائل:

الأولى:
تفسير: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي } وقد سبق ذلك في أول الباب
الثانية: تفسير: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}وقد سبق ذلك في أول الباب
الثالثة: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله: بدأ به، لأنه من الشرك، والله إذا ذكر الحقوق يبدأ أولا بالتوحيد، لأن حق الله أعظم الحقوق، قـال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } 1 وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } 2 وينبغي أن يبدأ في المناهي والعقوبات بالشرك وعقوبته.


الرابعة: لعن من لعن والديه: ولعن الرجل للرجل له معنيان:
الأول: الدعاء عليه باللعن.



1 سورة النساء آية : 36.
2 سورة الإسراء آية : 23.

ج / 1 ص -226- الخامسة: لعن من آوى محدثا وهو الرجل يحدث شيئا يجب فيه حق الله، فيلتجئ إلى من يجيرة من ذلك.
السادسة: لعن من غير منار الأرض، وهي المراسيم التي تفرق بين حقك وحق جارك من الأرض، فتغيرها بتقديم أو تأخير.
السابعة: الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم.

الثاني: سبه وشتمه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فسره بقوله: " يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه " 1.
الخامسة: لعن من آوى محدثا: وقد سبق أنه يشمل الإحداث في الدين والجرائم، فمن آوى محدثا ببدعة، فهو داخل في ذلك، ومن آوى محدثا بجريمة، فهو داخل في ذلك.
السادسة: لعن من غير منار الأرض.... وسواء كانت بينك وبين جارك، أو بينك وبين السوق مثلا، لأن الحديث عام.
السابعة: الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم: فالأول ممنوع، والثاني جائز، فإذا رأيت من آوى محدثا، فلا تقل: لعنك الله، بل قل: لعن الله من آوى محدثا على سبيل العموم، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صار يلعن أناسا من المشركين من أهل الجاهلية بقوله: "اللهم! العن فلانا وفلانا وفلانا" نهي عن ذلك بقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ




1 سبق (ص 222).

ج / 1 ص -227- الثامنة: هذه القصة العظيمة، وهي قصة الذباب.
التاسعة: كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصا من شرهم.


فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}1، 2 فالمعين ليس لك أن تلعنه، وكم من إنسان صار على وصف يستحق به اللعنة ثم تاب فتاب الله عليه، إذن يؤخذ هذا من دليل منفصل، وكأن المؤلف رحمه الله قال: الأصل عدم جواز إطلاق اللعن، فجاء هذا الحديث لاعنا للعموم، فيبقى الخصوص على أصله؛ لأن المسلم ليس بالطعان، ولا باللعان، والرسول صلى الله عليه وسلم ليس طعانا ولا لعانا، ولعل هذا وجه أخذ الحكم من الحديث، وإلا، فالحديث لا تفريق فيه.


الثامنة: هذه القصة العظيمة وهي قصة الذباب: كأن المؤلف رحمه الله يصحح الحديث، ولهذا بنى عليه حكما، والحكم المأخوذ من دليل فرع عن صحته، والقصة معروفة.
التاسعة: كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصا من شرهم: هذه المسألة ليست مسلمة، فإن قوله: قرب ولو ذبابا؛ يقتضي أنه فعله قاصدا التقرب، أما لو فعله تخلصا من شرهم، فإنه لا يكفر؛ لعدم قصد التقرب، ولهذا قال الفقهاء: لو أكره على طلاق امرأته فطلق تبعا لقول المكره، لم يقع الطلاق، بخلاف ما لو نوى الطلاق، فإن الطلاق يقع، وإن طلق دفعا للإكراه، لم يقع، وهذا حـق لقوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات "3، وظاهر القصة أن الرجل ذبح بنية التقرب، لأن




1 سورة آل عمران آية : 128.
2 انظر: (ص 290).
3 من حديث عمر, رواه: البخاري (كتاب بدء الوحي, باب كيف كان بدء الوحي, 1/13), ومسلم (كتاب الإمارة, باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنية , 3/1515).

ج / 1 ص -228- العاشرة: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبهم مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر؟!


الأصل أن الفعل المبني على طلب يكون موافقا لهذا الطلب. ونحن نرى خلاف ما يرى المؤلف رحمه الله، أي أنه لو فعله بقصد التخلص ولم ينو التقرب لهذا الصنم لا يكفر، لعموم قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} 1 وهذا الذي فعل ما يوجب الكفر تخلصا مطمئن قلبه بالإيمان. والصواب أيضا: أنه لا فرق بين القول المكره عليه والفعل، وإن كان بعض العلماء يفرق ويقول: إذا أكره على القول لم يكفر، وإذا أكره على الفعل كفر، ويستدل بقصة الذباب، وقصة الذباب فيها نظر من حيث صحتها، وفيها نظر من حيث الدلالة; لما سبق أن الفعل المبني على طلب يكون موافقا لهذا الطلب. ولو فرض أن الرجل تقرب بالذباب تخلصا من شرهم، فإن لدينا نصا محكما في الموضوع، وهو قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ } 2 الآية، ولم يقل بالقول، فما دام عندنا نص قرآني صريح، فإنه لو وردت السنة صحيحة على وجه مشتبه، فإنها تحمل على النص المحكم. الخلاصة أن من أكره على الكفر، لم يكن كافرا ما دام قلبه مطمئنا بالإيمان ولم يشرح بالكفر صدرا.
العاشرة: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين... إلخ: وقد بينها المؤلف رحمه الله تعالى.



1 سورة النحل آية : 106.
2 سورة النحل آية : 106.

ج / 1 ص -229-


مسألة:
هل الأولى للإنسان إذا أكره على الكفر أن يصبر ولو قتل، أو يوافق ظاهرا ويتأول؟

هذه المسألة فيها تفصيل:
أولا: أن يوافق ظاهرا وباطنا، وهذا لا يجوز لأنه ردة.
ثانيا: أن يوافق ظاهرا لا باطنا، ولكن يقصد التخلص من الإكراه، فهذا جائز.
ثالثا: أن لا يوافق لا ظاهرا ولا باطنا ويقتل، وهذا جائز، وهو من الصبر لكن أيهما أولى أن يصبر ولو قتل، أو أن يوافق ظاهرا؟ فيه تفصيل: إذا كان موافقة الإكراه لا يترتب عليه ضرر في الدين للعامة، فإن الأولى أن يوافق ظاهرا لا باطنا، لا سيما إذا كان بقاؤه فيه مصلحة للناس، مثل: صاحب المال الباذل فيما ينفع أو العلم النافع وما أشبه ذلك، حتى وإن لم يكن فيه مصلحة، ففي بقائه على الإسلام زيادة عمل، وهو خير، وهو قد رخص له أن يكفر ظاهرا عند الإكراه، فالأولى أن يتأول، ويوافق ظاهرا لا باطنا.


أما إذا كان في موافقته وعدم صبره ضرر على الإسلام، فإنه يصبر، وقد يجب الصبر، لأنه من باب الصبر على الجهاد في سبيل الله، وليس من باب إبقاء النفس، ولهذا لما شكى الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم ما يجدونه من مضايقة المشركين، قص عليهم قصة الرجل فيمن كان قبلنا بأن الإنسان كان يمشط ما بين لحمه وجلده بأمشاط الحديد1 ويصبر، فكأنه يقول لهم: اصبروا على الأذى.



1 من حديث خباب بن الأرت, رواه: البخاري (كتاب المناقب, باب علامات النبوة في الإسلام, 2/520).

ج / 1 ص -230- الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم، لأنه لو كان كافرا، لم يقل: " دخل النار في ذباب".
الثانية عشرة: فيه شاهد للحديث الصحيح: " الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك " 1.


ولو حصل من الصحابة رضي الله عنهم في ذلك الوقت موافقة للمشركين وهم قلة، لحصل بذلك ضرر عظيم على الإسلام. والإمام أحمد رحمه الله في المحنة المشهورة لو وافقهم ظاهرا، لحصل في ذلك مضرة على الإسلام.
الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم، لأنه لو كان كافرا لم يقل: دخل النار في ذباب: وهذا صحيح، أي أنه كان مسلما ثم كفر بتقريبه للصنم، فكان تقريبه هو السبب في دخوله النار. ولو كان كافرا قبل أن يقرب الذباب، لكان دخوله النار لكفره أولى، لا بتقريبه الذباب.


الثانية عشرة: فيه شاهد للحديث الصحيح: " الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك "2، والغرض من هذا: الترغيب والترهيب: فإذا علم أن الجنة أقرب إليه من شراك النعل، فإنه ينشط على السعي، فيقول: ليست بعيدة، كقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عما يدخل الجنة ويباعد من النار، فقال: " لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه"3 والنار إذا قيل له: إنها أقرب من شراك النعل يخاف،



1 من حديث عبد الله بن مسعود, رواه: البخاري برقم (6488).
2 البخاري : الرقاق (6488) , وأحمد (1/387 ,1/413 ,1/442).
3 من حديث معاذ, أخرجه: الإمام أحمد (5/231) ورواه: الترمذي (الإيمان, باب ما جاء في حرمة الصلاة, 7/280) - وقال: "حسن صحيح" -, والنسائي في "الكبرى"; كما في "تحفة الأشراف" (8/399), وابن ماجه (كتات الفتن, باب كف اللسان في الفتنة, رقم 3973).



ج / 1 ص -231- الثالثة عشرة: معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم، حتى عند عبدة الأوثان.


ويتوقى في مشيه لئلا يزل فيهلك، ورب كلمة توصل الإنسان إلى أعلى عليين، وكلمة أخرى توصله إلى أسفل سافلين.
الثالثة عشرة: معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان: والحقيقة أن هذه المسألة مع التاسعة فيها شبه تناقض، لأنه في هذه المسألة أحال الحكم على عمل القلب، وفي التاسعة أحاله على الظاهر، فقال: بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده بل فعله تخلصا من شرهم، ومقتضى ذلك أن باطنه سليم، وهنا يقول: إن العمل بعمل القلب، ولا شك أن ما قاله المؤلف رحمه الله حق بالنسبة إلى أن المدار على القلب. والحقيقة أن العمل مركب على القلب، والناس يختلفون في أعمال القلوب أكثر من اختلافهم في أعمال الأبدان، والفرق بينهم قصدا وذلا أعظم من الفرق بين أعمالهم البدنية، لأن من الناس من يعبد الله لكن عنده من الاستكبار ما لا يذل معه ولا يذعن لكل حق، وبعضهم يكون عنده ذل للحق، لكن عنده نقص في القصد، فتجد عنده نوعا من الرياء مثلا. فأعمال القلب وأقواله لها أهمية عظيمة، فعلى الإنسان أن يخلصها لله. وأقوال القلب هي اعتقاداته، كالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. وأعماله هي تحركاته. كالحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والاستعانة، وما أشبه ذلك. والدواء لذلك: القرآن والسنة، والرجوع إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بمعرفة أحواله وأقواله وجهاده ودعوته، هذا مما يعين على جهاد القلب. ومن أسباب صلاح القلب أن لا تشغل قلبك بالدنيا.





المصدر :


كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979






ام عادل السلفية 29-01-2015 08:18AM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله

ج / 1 ص -232- باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله

وقول الله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } 1 الآية.

هذا الانتقال من المؤلف من أحسن ما يكون، ففي الباب السابق ذكر الذبح لغير الله، فنفس الفعل لغير الله. وفي هذا الباب ذكر الذبح لله، ولكنه في مكان يذبح فيه لغيره، كمن يريد أن يضحي لله في مكان يذبح فيه للأصنام، فلا يجوز أن تذبح فيه، لأنه موافقة للمشركين في ظاهر الحال، وربما أدخل الشيطان في قلبك نية سيئة، فتعتقد أن الذبح في هذا المكان أفضل، وما أشبه ذلك، وهذا خطر.


قوله: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً }: ضمير الغيبة يعود إلى مسجد الضرار، حيث بني على نية فاسدة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } 2 والمتخذون هم المنافقون،

وغرضهم من ذلك:
1. مضارة مسجد قباء، ولهذا يسمى مسجد الضرار.
2. الكفر بالله، لأنه يقرر فيه الكفر- والعياذ بالله-، لأن الذين اتخذوه هم المنافقون.
3. التفريق بين المؤمنين، فبدلا من أن يصلي في مسجد قباء صف



1 سورة التوبة آية : 108.
2 سورة التوبة آية : 107.
وقول الله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } 1 الآية.

ج / 1 ص -233-


أو صفان يصلي فيه نصف صف، والباقون في المسجد الآخر، والشرع له نظر في اجتماع المؤمنين.
4. الإرصاد لمن حارب الله ورسوله يقال: إن رجلا ذهب إلى الشام، وهو أبو عامر الفاسق، وكان بينه وبين المنافقين الذين اتخذوا المسجد مراسلات، فاتخذوا هذا المسجد بتوجيهات منه، فيجتمعون فيه لتقرير ما يريدونه من المكر والخديعة للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قـال الله تعالى: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى } 1 فهذه سنة المنافقين: الأيمان الكاذبة.
(إن): نافية، بدليل وقوع الاستثناء بعدها، أي: ما أردنا إلا الحسنى، والجواب عن هذا اليمين الكاذب: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 2 فشهد الله تعالى على كذبهم، لأن ما يسرونه في قلوبهم ولا يعلم ما في القلوب إلا علام الغيوب، فكأن هذا المضمر في قلوبهم بالنسبة إلى الله أمر مشهود يرى بالعين، كما قال الله تعالى في سورة المنافقين: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 3.
وقوله: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } 4 لا: ناهية، وتقم: مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه السكون، وحذفت الواو، لأنه سكن آخره، والواو ساكنة، فحذفت تخلصا من التقاء الساكنين.


قوله: (أبدا) إشارة إلى أن هذا المسجد سيبقى مسجد نفاق.
قوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } 5 اللام: للابتداء، ومسجد: مبتدأ، وخبره: {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} 6 وفي هذا التنكير تعظيم للمسجد، بدليل قوله: {أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} 7 أي: جعلت التقوى أساسا له، فقام عليه. وهذه الأحقية ليست على بابها، وهو أن اسم التفضيل يدل على مفضل ومفضل عليه اشتركا في أصل الوصف، لأنه هنا



1 سورة التوبة آية : 107.
2 سورة التوبة آية : 107.
3 سورة المنافقون آية : 1.
4 سورة التوبة آية : 108.
5 سورة التوبة آية : 108.
6 سورة التوبة آية : 108.
7 سورة التوبة آية : 108.

ج / 1 ص -234-

لا حق لمسجد الضرار أن يقام فيه، وهذا (أعني: كون الطرف المفضل عليه ليس فيه شيء من الأصل الذي وقع فيه التفضيل) موجود في القرآن كثيرا، كقوله تعـالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} 1.
قوله: (فيه): أي: في هذا المسجد المؤسس على التقوى.
قوله: {يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} 2 بخلاف من كان في مسجد الضرار، فإنهم رجس، كما قال الله تعالى في المنافقين: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ } 3.
قوله: " يتطهروا ": يشمل طهارة القلب من النفاق والحسد والغل وغير ذلك، وطهارة البدن من الأقذار والنجاسات والأحداث. قـوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} 4 هذه محبة حقيقية ثابتة لله- عزوجل - تليق بجلاله وعظمته، ولا تماثل محبة المخلوقين، وأهل التعطيل يقولون: المراد بالمحبة: الثواب أو إرادته، فيفسرونها إما بالفعل أو إرادته، وهذا خطأ.
وقوله: (المطهرين) أصله المتطهرين، وأدغمت التاء بالطاء لعلة تصريفية معروفة.


وجه المناسبة من الآية:
أنه لما كان مسجد الضرار مما اتخذ للمعاصي ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين، نهى الله رسوله أن يقوم فيه، مع أن صلاته فيه لله، فدل على أن كل مكان يعصى الله فيه أنه لا يقام فيه، فهذا المسجد متخذ للصلاة، لكنه محل معصية; فلا تقام فيه الصلاة.
وكذا لو أراد إنسان أن



1 سورة الفرقان آية : 24.
2 سورة التوبة آية : 108.
3 سورة التوبة آية : 95.
4 سورة التوبة آية : 108.

ج / 1 ص -235- وعن ثابت بن الضحاكرضي الله عنهقال: " نذر رجل أن ينحر إبلا ...


يذبح في مكان يذبح فيه لغير الله كان حراما، لأنه يشبه الصلاة في مسجد الضرار.
وقريب من ذلك النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، لأنهما وقتان يسجد فيهما الكفار للشمس، فهذا باعتبار الزمن والوقت، والحديث الذي ذكره المؤلف باعتبار المكان.


قوله: "نذر": النذر في اللغة: الإلزام والعهد. واصطلاحا: إلزام المكلف نفسه لله شيئا غير واجب. وقال بعضهم: لا نحتاج أن نقيد بغير واجب، وأنه إذا نذر الواجب صح النذر وصار المنذور واجبا من وجهين: من جهة النذر، ومن جهة الشرع، ويترتب على ذلك وجوب الكفارة إذا لم يحصل الوفاء.


والنذر في الأصل مكروه، بل إن بعض أهل العلم يميل إلى تحريمه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وقال: " لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل "1 ولأنه إلزام لنفس الإنسان بما جعله الله في حل منه، وفي ذلك زيادة تكليف على نفسه. ولأن الغالب أن الذي ينذر يندم، وتجده يسأل العلماء يمينا وشمالا يريد الخلاص مما نذر لثقله ومشقته عليه، ولا سيما ما يفعله بعض العامة إذا مرض، أو تأخر له حاجة يريدها، تجده ينذر كأنه يقول: إن الله لا ينعم عليه بجلب خير أو دفع الضرر إلا بهذا النذر.
قوله: "إبلا": اسم جمع لا واحد له من لفظه، لكن له واحد من معناه، وهو البعير.




1 رواه: البخاري (كتاب الأيمان, باب الوفاء بالنذر, 4/277), ومسلم (كتاب النذر, باب النهي عن النذر, 3/1260).

ج / 1 ص -236- ببوانة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟. قالوا: لا قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟. قالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك..........


قوله: "ببوانة": الباء بمعنى في، وهي للظرفية، والمعنى: بمكان يسمى بوانة.
قوله: "هل كان فيها وثن": الوثن: كل ما عبد من دون الله، من شجر، أو حجر، سواء نحت أو لم ينحت. والصنم يختص بما صنعه الآدمي. قوله: "الجاهلية": نسبة إلى ما كان قبل الرسالة، وسميت بذلك، لأنهم كانوا على جهل عظيم.
قوله: "يعبد": صفة لقوله: "وثن"، وهو بيان للواقع، لأن الأوثان هي التي تعبد من دون الله. قوله: "قالوا: لا": السائل واحد، لكنه لما كان عنده ناس أجابوا النبي صلى الله عليه وسلم ولا مانع أن يكون المجيب غير المسؤول.


قوله: "عيد" العيد: اسم لما يعود أو يتكرر، والعود بمعنى الرجوع، أي: هل اعتاد أهل الجاهلية أن يأتوا إلى هذا المكان ويتخذوا هذا اليوم عيدا وإن لم يكن فيه وثن؟ قالوا: لا. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمرين: عن الشرك، ووسائله.

فالشرك: هل كان فيها وثن؟ ووسائله: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قوله: "أوف بنذرك": فعل أمر مبني على حذف حرف العلة الياء، والكثرة دليل عليها. وهل المراد به المعنى الحقيقي أو المراد به الإباحة؟

ج / 1 ص -237- فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله..............

الجواب: يحتمل أن يراد به الإباحة، ويحتمل أن يراد به المعنى الحقيقي; فبالنسبة لنحر الإبل المراد به المعنى الحقيقي. وبالنسبة للمكان المراد به الإباحة؟ لأنه لا يتعين أن يذبحها في ذلك المكان، إذ إنه لا يتعين أي مكان في الأرض إلا ما تميز بفضل، والمتميز بفضل المساجد الثلاثة، فالأمر هنا بالنسبة لنحر الإبل من حيث هو نحر واجب. وبالنسبة للمكان، فالأمر للإباحة، بدليل أنه سأل هذين السؤالين، فلو أجيب بنعم، لقال: لا توف، فإذا كان المقام يحتمل النهي والترخيص، فالأمر للإباحة.


وقوله: "أوف بنذرك" علل صلى الله عليه وسلم ذلك بانتفاء المانع، فقال: "فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله".
قوله: "لا وفاء": لا: نافية للجنس، وفاء: اسمها، لنذر: خبرها. قوله: "في معصية الله": صفة لنذر، أي: لا يمكن أن توفي بنذر في معصية الله، لأنه لا يتقرب إلى الله بمعصيته، وليست المعصية مباحة، حتى يقال: افعلها.


أقسام النذر:

الأول: ما يجب الوفاء به، وهو نذر الطاعة، لقوله صلى الله عليه وسلم " من نذر أن يطيع الله، فليطعه ".
الثاني: ما يحرم الوفاء به، وهو نذر المعصية، لقوله صلى الله عليه وسلم " ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه "1 وقوله: " فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله "2.



1 البخاري : الأيمان والنذور (6696 ,6700) , والترمذي : النذور والأيمان (1526) , والنسائي : الأيمان والنذور (3806 ,3807 ,3808) , وأبو داود : الأيمان والنذور (3289) , وابن ماجه : الكفارات (2126) , وأحمد (6/36 ,6/41 ,6/208 ,6/224) , ومالك : النذور والأيمان (1031) , والدارمي : النذور والأيمان (2338).
2 مسلم : النذر (1641) , وأبو داود : الأيمان والنذور (3316) , وأحمد (4/430) , والدارمي : النذور والأيمان (2337) والسير (2505).

ج / 1 ص -238-

الثالث: ما يجري مجرى اليمين، وهو نذر المباح، فيخير بين فعله وكفارة اليمين، مثل لو نذر أن يلبس هذا الثوب، فإن شاء لبسه وإن شاء لم يلبسه، وكفر كفارة يمين.


الرابع: نذر اللجاج والغضب، وسمي بهذا الاسم، لأن اللجاج والغضب يحملان عليه غالبا، وليس بلازم أن يكون هناك لجاج وغضب، وهو الذي يقصد به معنى اليمين، الحث، أو المنع، أو التصديق، أو التكذيب.
مثل لو قال: حصل اليوم كذا وكذا، فقال الآخر: لم يحصل، فقال: إن كان حاصلا، فعلى لله نذر أن أصوم سنة، فالغرض من هذا النذر التكذيب، فإذا تبين أنه حاصل، فالناذر مخير بين أن يصوم سنة، وبين أن يكفر كفارة يمين، لأنه إن صام فقد وفى بنذره وإن لم يصم حنث، والحانث في اليمين يكفر كفارة يمين.
الخامس: نذر المكروه، فيكره الوفاء به، وعليه كفارة يمين.
السادس: النذر المطلق، وهو الذي ذكر فيه صيغة النذر، مثل أن يقول: لله علي نذر، فهذا كفارته كفارة يمين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين)1.


مسألة: هل ينعقد نذر المعصية؟ الجواب: نعم، ينعقد، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم " من نذر أن يعصي الله، فلا يعصه "2 ولو قال: من نذر أن يعصي الله فلا نذر له. لكان لا ينعقد، ففي
قوله: "فلا يعصه" دليل على أنه ينعقد لكن لا ينفذ.



1 رواه ابن ماجه (2127), والترمذي (1528) وصححه وأصله في مسلم (1645).
2 سبق (ص 237).

ج / 1 ص -239-

وإذا انعقد: هل تلزمه كفارة أو لا؟

اختلف في ذلك أهل العلم، وفيها روايتان عن الإمام أحمد:
القول الأوّل: فقال بعض العلماء: إنه لا تلزمه الكفارة، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا وفاء لنذر في معصية الله "1 وبقوله صلى الله عليه وسلم " ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه "2 ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم كفارة، ولو كانت واجبة، لذكرها.

القول الثاني: تجب الكفارة، وهو المشهور من المذهب، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في حديث آخر غير الحديثين أن كفارته كفارة يمين3 وكون الأمر لا يذكر في حديث لا يقتضي عدمه، فعدم الذكر ليس ذكرا للعدم، نعم، لو قال الرسول: لا كفارة، صار في الحديثين تعارض، وحينئذ نطلب الترجيح، لكن الرسول لم ينف الكفارة، بل سكت، والسكوت لا ينافي المنطوق، فالسكوت وعدم الذكر يكون اعتمادا على ما تقدم، فإن كان الرسول قاله قبل أن ينهى هذا الرجل، فاعتمادا عليه لم يقل؛ لأنه ليس بلازم أن كل مسألة فيها قيد أو تخصيص يذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم عند كل عموم، فلو كان يلزم هذا، لكانت تطول السنة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ذكر حديثا عاما وله ما يخصصه في مكان آخر حمل عليه، وإن لم يذكره حين تكلم بالعموم.


وأيضا من حيث القياس لو أن الإنسان أقسم ليفعلن محرما، وقال: والله، لأفعلن هذا الشيء وهو محرم، فلا يفعله، ويكفر كفارة يمين، مع أنه أقسم على فعل محرم، والنذر شبيه بالقسم، وعلى هذا، فكفارته كفارة يمين، وهذا القول أصح.



1 سيأتي (ص 240).
2 البخاري : الأيمان والنذور (6696 ,6700) , والترمذي : النذور والأيمان (1526) , والنسائي : الأيمان والنذور (3806 ,3807 ,3808) , وأبو داود : الأيمان والنذور (3289) , وابن ماجه : الكفارات (2126) , وأحمد (6/36 ,6/41 ,6/208 ,6/224) , ومالك : النذور والأيمان (1031) , والدارمي : النذور والأيمان (2338).


3 من حديث عائشة, رواه: أحمد (6/247), وأبو داود برقم (3290), والترمذي برقم (1524), والنسائي برقم (3834), وابن ماجه برقم (1225), والبيهقي (10/69). وصححه الطحاوي وابن السكن; كما في "التلخيص الحبير" (4/176).

ج / 1 ص -240- " ولا فيما لا يملك ابن آدم "1 رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما2.


وقوله: (ولا فيما لا يملك ابن آدم) الذي لا يملكه ابن آدم يحتمل معنيين الأول: ما لا يملك فعله شرعا، كما لو قال: لله علي أن أعتق عبد فلان، فلا يصح لأنه لا يملك إعتاقه. الثاني: ما لا يملك فعله قدرا، كما لو قال: لله علي نذر أن أطير بيدي، فهذا لا يصح لأنه لا يملكه. والفقهاء رحمهم الله يمثلون بمثل هذا للمستحيل.


ويستفاد من الحديث:
أنه لا يذبح بمكان يذبح فيه لغير الله، وهو ما ساقه المؤلف من أجله، والحكمة من ذلك ما يلي:
الأول: أنه يؤدي إلى التشبه بالكفار.
الثاني: أنه يؤدي إلى الاغترار بهذا الفعل، لأن من رآك تذبح بمكان يذبح فيه المشركون ظن أن فعل المشركين جائز.
الثالث: أن هؤلاء المشركين سوف يقوون على فعلهم إذا رأوا من يفعل مثلهم، ولا شك أن تقوية المشركين من الأمور المحظورة، وإغاظتهم من الأعمال الصالحة، قال الله تعالى: {وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} 3.



1 مسلم : النذر (1641) , والنسائي : الأيمان والنذور (3812) , وأبو داود : الأيمان والنذور (3316) , وابن ماجه : الكفارات (2124) , وأحمد (4/430 ,4/432) , والدارمي : النذور والأيمان (2337) والسير (2505).


2 رواه: أبو داود (كتاب الأيمان والنذور, باب ما بؤمن به من الوفاء بالنذر, 3/607)- وسكت عنه-, والبيهقي في "السنن" (10/83), والطبراني في "الكبير" برقم (1341). وصححه ابن حجر في "التلخيص" (4/180).
3 سورة التوبة آية : 120.



ج / 1 ص -241- فيه مسائل:
الأولى:
تفسير قوله: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } 1.
الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض، وكذلك الطاعة.
الثالثة: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البينة، ليزول الإشكال.


فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } 2 وقد سبق ذلك في أول الباب.
الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض، وكذلك الطاعة: أي: لما كانت هذه الأرض مكان شرك، حرم أن يعمل الإنسان ما يشبه الشرك فيها لمشابهة المشركين. أما بالنسبة للصلاة في الكنيسة، فإن الصلاة تخالف صلاة أهل الكنيسة، لا يكون الإنسان متشبها بهذا العمل، بخلاف الذبح في مكان يذبح فيه لغير الله، فإن الفعل واحد بنوعه وجنسه، ولهذا لو أراد إنسان أن يصلي في مكان يذبح فيه لغير الله لجاز ذلك، لأنه ليس من نوع العبادة التي يفعلها المشركون في هذا المكان. وكذا الطاعة تؤثر في الأرض، ولهذا، فإن المساجد أفضل من الأسواق، والقديم منها أفضل من الجديد.


الثالثة: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البينة ليزول الإشكال: فالمنع من الذبح في هذا المكان أمر مشكل، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بين ذلك بالاستفصال.



1 سورة التوبة آية : 108.
2 سورة التوبة آية : 108.

ج / 1 ص -242- الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك.
الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع.


الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك: لأن النبي صلى الله عليه وسلم استفصل، لكن هل يجب الاستفصال على كل حال،
أو إذا وجد الاحتمال؟

الجواب: لا يجب إلا إذا وجد الاحتمال، لأننا لو استفصلنا في كل مسألة، لطال الأمر.
فمثلا: لو سألنا سائل عن عقد بيع لم يلزم أن نستفصل عن الثمن: هل هو معلوم؟ وعن المثمن: هل هو معلوم؟ وهل وقع البيع معلقا أو غير معلق؟ وهل كان ملكا للبائع؟ وكيف ملكه؟ وهل انتفت موانعه أو لا؟
أما إذا وجد الاحتمال; فيجب الاستفصال، مثل: أن يسأل عن رجل مات عن بنت وأخ وعم شقيق، فيجب الاستفصال عن الأخ: هل هو شقيق أو لأم؟ فإن كان لأم، سقط، وأخذ الباقي العم، وإلا، سقط العم، وأخذ الباقي الأخ.


الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع. لقوله: "أوف بنذرك"، وسواء كانت هذه الموانع واقعة أو متوقعة. فالواقعة: أن يكون فيها وثن أو عيد من أعياد الجاهلية. والمتوقعة: أن يخشى من الذبح في هذا المكان تعظيمه، فإذا خشي، كان ممنوعا، مثل: لو أراد أن يذبح عند جبل، فالأصل أنه جائز، لكن لو خشي أن العوام يعتقدون أن في هذا المكان مزية، كان ممنوعا.



ج / 1 ص -243- السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله.
السابعة: المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم، ولو بعد زواله.
الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة، لأنه نذر معصية.
التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم، ولو لم يقصده.
العاشرة: لا نذر في معصية.


السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله: لقوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية؟، لأن "كان" فعل ماض، والمحظور بعد زوال الوثن باق، لأنه ربما يعاد.
السابعة: المنع منه إذا كان فيها عيد من أعيادهم، ولو بعد زواله: لقوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟".
الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة، لأنه نذر معصية: لقوله: فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله.


التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده: وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على أن حصول التشبه لا يشترط فيه القصد، فإنه يمنع منه ولو لم يقصده، لكن مع القصد يكون أشد إثما، ولهذا قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: ولو لم يقصده.
العاشرة: لا نذر في معصية الله: هكذا قال المؤلف، ولفظ

ج / 1 ص -244- الحادية عشرة. لا نذر لابن آدم فيما لا يملك.


الحديث المذكور: "لا وفاء لنذر"، وبينهما فرق. فإذا قيل: لا نذر في معصية، فالمعنى أن النذر لا ينعقد، وإذا قيل: لا وفاء، فالمعنى أن النذر ينعقد، لكن لا يوفى، وقد وردت السنة بهذا وبهذا. لكن: "لا نذر" يحمل على أن المراد لا وفاء لنذر، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه "1.


الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك يقال فيه ما قيل في: لا نذر في معصية. والمعنى: لا وفاء لنذر فيما لا يملك ابن آدم، ويشتمل ما لا يملكه شرعا، وما لا يملكه قدرا.



1 سبق (ص 237).





المصدر :


كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 29-01-2015 08:24AM

بسم الله الرحمن الرحيم






القول المفيد على كتاب التوحيد

باب من الشرك النذر لغير الله

ج / 1 ص -245- باب من الشرك النذر لغير الله

وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } 1.

النذر لغير الله مثل أن يقول: لفلان علي نذر، أو لهذا القبر علي نذر، أو لجبريل علي نذر، يريد بذلك التقرب إليهم، وما أشبه ذلك. والفرق بينه وبين نذر المعصية: أن النذر لغير الله ليس لله أصلا، ونذر المعصية لله، ولكنه على معصية من معاصيه، مثل أن يقول: لله علي نذر أن أفعل كذا وكذا من معاصي الله، فيكون النذر لله والمنذور معصية، ونظير هذا الحلف بالله على شيء محرم، والحلف بغير الله، فالحلف بغير الله مثل: والنبي، لأفعلن كذا وكذا، ونظيره النذر لغير الله، والحلف بالله على محرم، مثل: والله، لأسرقن، ونظيره نذر المعصية، وحكم النذر لغير الله شرك، لأنه عبادة للمنذور له، وإذا كان عبادة فقد صرفها لغير الله، فيكون مشركا وهذا النذر لغير الله لا ينعقد إطلاقا، ولا تجب فيه كفارة، بل هو شرك تجب التوبة منه، كالحلف بغير الله، فلا ينعقد، وليس فيه كفارة.


وأما نذر المعصية; فينعقد، لكن لا يجوز الوفاء به، وعليه كفارة يمين، كالحلف بالله على المحرم ينعقد، وفيه كفارة.
وقد ذكر المؤلف في هذا الباب آيتين:
· الأولى: قوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } 2 هذه الآية سيقت لمدح الأبرار،



1 سورة الإنسان آية : 7.
2 سورة الإنسان آية : 7.

ج / 1 ص -246- وقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } 1.


{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} 2 ومدحهم.
بهذا يقتضي أن يكون عبادة، لأن الإنسان لا يمدح ولا يستحق دخول الجنة إلا بفعل شيء يكون عبادة.
ولو أعقب المؤلف هذه الآية بقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } 3 لكان أوضح، لأن قوله : {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } 4 أمر، والأمر بوفائه يدل على أنه عبادة، لأن العبادة ما أمر به شرعا.


وجه استدلال المؤلف بالآية على أن النذر لغير الله من الشرك: أن الله تعالى أثنى عليهم بذلك، وجعله من الأسباب التي بها يدخلون الجنة، ولا يكون سببا يدخلون به الجنة إلا وهو عبادة، فيقتضي أن صرفه لغير الله شرك.
· الآية الثانية: قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ } (ما): شرطية، و (أنفقتم): فعل الشرط، وجوابه: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ }.
قوله: " من نفقة ": بيان ل (ما) في قوله: (ما أنفقتم)، والنفقة: بذل المال، وقد يكون في الخير، وقد يكون في غيره.
قوله: " أو نذرتم " معطوف على قوله: " وما أنفقتم ".


قوله: " {فإن الله يعلمه} ": تعليق الشيء بعلم الله دليل على أنه محل جزاء، إذ لا نعلم فائدة لهذا الإخبار بالعلم إلا لترتب الجزاء عليه، وترتب الجزاء عليه يدل على أنه من العبادة التي يجازي الإنسان عليها، وهذا وجه استدلال المؤلف بهذه الآية.



1 سورة البقرة آية : 270.
2 سورة الإنسان آية : 5.
3 سورة الحج آية : 29.
4 سورة الحج آية : 29.

ج / 1 ص -247- وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من نذر أن يطيع الله، فليطعه،

قوله: "وفي الصحيح" سبق الكلام على مثل هذا التعبير في باب تفسير التوحيد (ص 157).
قوله: "من نذر": جملة شرطية تفيد العموم، وهل تشمل الصغير؟ قال بعض العلماء: تشمله؟ فينعقد النذر منه.
وقيل: لا تشمله" لأن الصغير ليس أهلا للإلزام ولا للالتزام، وبناء على هذا يخرج الصغير من هذا العموم، لأنه ليس أهلا للإلزام ولا للالتزام.
قوله: "أن يطيع الله": الطاعة: هي موافقة الأمر، أي: أن توافق الله فيما يريد منك إن أمرك، فالطاعة فعل المأمور به، وإن نهاك، فالطاعة ترك المنهي عنه، هذا معنى الطاعة إذا جاءت مفردة.


أما إذا قيل: طاعة ومعصية، فالطاعة لفعل الأوامر، والمعصية لفعل النواهي. قوله: "فليطعه": الفاء واقعة في جواب الشرط، لأن الجملة إنشائية طلبية، واللام لام الأمر. وظاهر الحديث: يشمل ما إذا كانت الطاعة المنذورة جنسها واجب، كالصلاة والحج وغيرهما، أو غير واجب، كتعليم العلم وغيره.
وقال بعض أهل العلم: لا يجب الوفاء بالنذر إلا إذا كان جنس الطاعة واجبا، وعموم الحديث يرد عليهم. وظاهر الحديث أيضا يشمل من نذر طاعة- نذرا مطلقا ليس له سبب، مثل: "لله علي أن أصوم ثلاثة أيام".
ومن نذر نذرا معلقا، مثل: إن نجحت، فلله علي أن أصوم ثلاثة أيام. ومن فرق بينهما، فليس بجيد لأن الحديث عام.


واعلم أن النذر لا يأتي بخير ولو كان نذر طاعة، وإنما يستخرج به من البخيل، ولهذا نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وبعض العلماء يحرمه، وإليه يميل

ج / 1 ص -248- ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه " 1.


شيخ الإسلام ابن تيمية للنهي عنه، ولأنك تلزم نفسك بأمر أنت في عافية منه، وكم من إنسان نذر وأخيرا ندم، وربما لم يفعل. ويدل لقوة القول بتحريم النذر قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ } 2، فهذا التزام مؤكد بالقسم، فيشبه النذر.


قال الله تعالى: {قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ } 3 أي: عليكم طاعة معروفة بدون يمين، والإنسان الذي لا يفعل الطاعة إلا بنذر، أو حلف على نفسه يعني أن الطاعة ثقيلة عليه.
ومما يدل على قوة القول بالتحريم أيضا خصوصا النذر المعلق: أن الناذر كأنه غير واثق بالله- عز وجل-، فكأنه يعتقد أن الله لا يعطيه الشفاء إلا إذا أعطاه مقابله، ولهذا إذا أيسوا من البرء ذهبوا ينذرون، وفي هذا سوء ظن بالله- عز وجل- والقول بالتحريم قول وجيه.


فإن قيل: كيف تحرمون ما أثنى الله على من وفى به؟

فالجواب:

أننا لا نقول: إن الوفاء هو المحرم حتى يقال: إننا هدمنا النص، إنما نقول: المحرم أو المكروه كراهة شديدة هو عقد النذر، وفرق بين عقده ووفائه، فالعقد ابتدائي، والوفاء في ثاني الحال تنفيذ لما نذر.
قوله: " ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه "4 لا: ناهية، والنهي بحسب المعصية، فإن كانت المعصية حراما، فالوفاء بالنذر حرام، وإن كانت المعصية مكروهة، فالوفاء بالنذر مكروه، لأن المعصية الوقوع فيما نهي عنه، والمنهي عنه ينقسم عند أهل العلم إلى قسمين: منهي عنه نهي تحريم، ومنهي عنه نهي تنزيه.



1 سبق تخريجه (ص 237).
2 سورة النور آية : 53.
3 سورة النور آية : 53.
4 البخاري : الأيمان والنذور (6696 ,6700) , والترمذي : النذور والأيمان (1526) , والنسائي : الأيمان والنذور (3806 ,3807 ,3808) , وأبو داود : الأيمان والنذور (3289), وابن ماجه : الكفارات (2126) , وأحمد (6/36 ,6/41 ,6/208 ,6/224) , ومالك : النذور والأيمان (1031) , والدارمي : النذور والأيمان (2338).



ج / 1 ص -249- فيه مسائل:
الأولى: وجوب الوفاء بالنذر.
الثانية: إذا ثبت كونه عبادة لله، فصرفه إلى غير الله شرك.
الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به.


فيه مسائل:
الأولى:
وجوب الوفاء بالنذر: يعني: نذر الطاعة فقط، لقوله: " من نذر أن يطيع الله، فليطعه"1 ولقول المؤلف في المسألة الثالثة: إن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به.

الثانية: إذا ثبت كونه عبادة، فصرفه إلى غير الله شرك: وهذه قاعدة في توحيد العبادة، فأي فعل كان عبادة، فصرفه لغير الله شرك.
·الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به: لقوله صلى الله عليه وسلم " من نذر أن يعصي الله، فلا يعصه "2.



1 سبق (ص 237).
2 البخاري : الأيمان والنذور (6696 ,6700) , والترمذي : النذور والأيمان (1526) , والنسائي : الأيمان والنذور (3806 ,3807 ,3808) , وأبو داود : الأيمان والنذور (3289) , وابن ماجه : الكفارات (2126) , وأحمد (6/36 ,6/41 ,6/208 ,6/224) , ومالك : النذور والأيمان (1031) , والدارمي : النذور والأيمان (2338).





المصدر :


كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 29-01-2015 08:36AM

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب من الشرك الاستعاذة بغير الله

ج / 1 ص -250- باب من الشرك الاستعاذة بغير الله

وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 1.


قوله: "من الشرك": من: للتبعيض، وهذه الترجمة ليست على إطلاقها، لأنه إذا استعاذ بشخص مما يقدر عليه، فإنه جائز، كالاستعانة.
قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ } 2 الواو: حرف عطف، و(أن): فتحت همزتها بسبب عطفها على قوله: {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} 3.

قال ابن مالك:

وهمز إنّ افتح لسد مصدر مسدّها وفي سوى ذاك اكسر
فيؤول بمصدر، أي: قل أوحي إلي استماع نفر وكون رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن.
قوله: " من الإنس ": صفة لرجال، لأن (رجال) نكرة، وما بعد النكرة صفة لها.


قوله: (يعوذون): الجملة خبر كان، ويقال: عاذ به ولاذ به، فالعياذ مما يخاف، واللياذ فيما يؤمل، وعليه قول الشاعر يخاطب ممدوحه، ولا يصلح ما قاله إلا لله:



1 سورة الجن آية : 6.
2 سورة الجن آية : 6.
3 سورة الجن آية : 1.

ج / 1 ص -251-

يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره
ولا يهيضون عظما أنت جابره لا يجبر الناس عظما أنت كاسره
قوله:{ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ } 1 أي: يلتجئون إليهم مما يحاذرونه، يظنون أنهم يعيذونهم، ولكن زادوهم رهقا، أي: خوفا وذعرا، وكانت العرب في الجاهلية إذا نزلوا في واد نادوا بأعلى أصواتهم: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه.


قوله: (رهقا): أي: ذعرا وخوفا، بل الرهق أشد من مجرد الذعر والخوف، فكأنهم مع ذعرهم وخوفهم أرهقهم وأضعفهم شيء، فالذعر والخوف في القلوب، والرهق في الأبدان.
وهذه الآية تدل على أن الاستعاذة بالجن حرام، لأنها لا تفيد المستعيذ، بل تزيده رهقا، فعوقب بنقيض قصده، وهذا ظاهر، فتكون الواو ضمير الجن والهاء ضمير الإنس. وقيل: إن الإنس زادوا الجن رهقا، أي: استكبارا وعتوا، ولكن الصحيح الأول.


قوله:{ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ }يستفاد منه أن للجن رجالا، ولهم إناث، وربما يجامع الرجل من الجن الأنثى من بني آدم، وكذلك العكس الرجل من بني آدم قد يجامع الأنثى من الجن، وقد ذكر الفقهاء الخلاف في وجوب الغسل بهذا الجماع.
والفقهاء يقولون في باب الغسل: لو قالت: إن بها جنيا يجامعها كالرجل، وجب عليها الغسل، وأما أن الرجل يجامع الأنثى من الجن، فقد قيل ذلك، لكن لم أره في كلام أهل العلم، وإنما أساطير تقال، والله أعلم.



1 سورة الجن آية : 6.

ج / 1 ص -252- وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من نزل منزلا، فقال: أعوذ بكلمات الله.....


لكن علينا أن نصدق بوجودهم، وأنهم مكلفون، وبأن منهم الصالحين ومنهم دون ذلك، وبأن منهم المسلمين والقاسطين، وبأن منهم رجالا ونساء. وجه الاستشهاد بالآية: ذم المستعيذين بغير الله، والمستعيذ بالشيء لا شك أنه قد علق رجاءه به، واعتمد عليه، وهذا نوع من الشرك.
وقوله: "من نزل منزلا" يشمل من نزله على سبيل الإقامة الدائمة، أو الطارئة، بدليل أنه نكرة في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم. وقوله: "أعوذ" بمعنى: ألتجئ وأعتصم. قوله: "كلمات": من جموع القلة، لأنه جمع مؤنث سالم، وجموع القلة من ثلاثة إلى عشرة، والكثرة ما فوق ذلك.
وقيل: جموع الكثرة من ثلاثة إلى ما لا نهاية له، فيكون جمع القلة والكثرة يتفقان في الابتداء،

ويختلفان في الانتهاء.قال ابن مالك:

أفعلة أفعل ثم فعله ثمت أفعال جموع قلة
وبعض ذي بكثرة وضعا يفي كأرجل والعكس جاء كالصفي
والراجح: أن جموع القلة تدل على الكثرة بالدليل.
ج / 1 ص -253- التامات من شر ما خلق،...

فـ"كلمات": جمع قلة دال على الكثرة لوجود الدليل، قال تعالى:{ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} 1 وأبلغ من هذا قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } 2 والمراد بالكلمات هنا: الكلمات الكونية والشرعية.
قوله: "التامات":

تمام الكلام بأمرين:
1- الصدق في الأخبار.
2- العدل في الأحكام.

قال الله تعالى:{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } 3.
قوله: "من شر ما خلق": أي: من شر الذي خلق، لأن الله خلق كل شيء: الخير والشر، ولكن الشر لا ينسب إليه، لأنه خلق الشر لحكمة، فعاد بهذه الحكمة خيرا، فكان خيرا. وعلى هذا نقول: الشر ليس في فعل الله، بل في مفعولاته، أي: مخلوقاته. وعلى هذا تكون "ما" موصولة لا غير، أي: من شر الذي خلق، لأنك لو أولتها إلى المصدرية وقلت: من شر خلقك، لكان الخلق هنا مصدرا يجوز أن يراد به الفعل، ويجوز أيضا المفعول، لكن لو جعلتها اسما موصولا تعين أن يكون المراد بها المفعول، وهو المخلوق.


وليس كل ما خلق الله فيه شر، لكن تستعيذ من شره إن كان فيه شر،


لأن مخلوقات الله تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي:
1. شر محض، كالنار وإبليس باعتبار ذاتيهما، أما باعتبار الحكمة التي خلقهما الله من أجلها، فهي خير



1 سورة الكهف آية : 109.
2 سورة لقمان آية : 27.
3 سورة الأنعام آية : 115.

ج / 1 ص -254- لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك "1 رواه مسلم2.


2. خير محض كالجنة، والرسل، والملائكة.
3. فيه شر وخير، كالإنس، والجن، والحيوان.
وأنت إنما تستعيذ من شر ما فيه شر.
قوله: "لم يضره شيء": نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم من شر كل ذي شر من الجن والإنس وغيرهم والظاهر والخفي حتى يرتحل من منزله، لأن هذا خبر لا يمكن أن يتخلف مخبره، لأنه كلام الصادق المصدوق، لكن إن تخلف، فهو لوجود مانع لا لقصور السبب أو تخلف الخبر.


ونظير ذلك كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الأسباب الشرعية إذا فعلت ولم يحصل المسبب، فليس ذلك لخلل في السبب، ولكن لوجود مانع، مثل: قراءة الفاتحة على المرضى شفاء3 ويقرأها بعض الناس ولا يشفى المريض، وليس "ذلك قصورا في السبب، بل لوجود مانع بين السبب وأثره.
ومنه: التسمية عند الجماع، فإنها تمنع ضرر الشيطان للولد4 وقد توجد التسمية ويضر الشيطان الولد، لوجود مانع يمنع من حصول أثر هذا السبب، فعليك أن تفتش ما هو المانع حتى تزيله فيحصل لك أثر السبب.
قال القرطبي: وقد جربت ذلك، حتى إني نسيت ذات يوم، فدخلت منزلي ولم أقل ذلك، فلدغتني عقرب.



1 مسلم : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) , والترمذي : الدعوات (3437) , وابن ماجه : الطب (3547) , وأحمد (6/377 ,6/378 ,6/409) , والدارمي : الاستئذان (2680).
2 في (كتاب الذكر والدعاء, باب في التعوذ من سوء القضاء, 4/2080).
3 سبق (ص 99).


4 من حديث ابن عباس, رواه: البخاري (كتاب النكاح, باب ما يقول الرجل إذا أتى أهله, 5165), ومسلم (كتاب النكاح, باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع, 2/1058).

ج / 1 ص -255-


والشاهد من الحديث: قوله: أعود بكلمات الله. والمؤلف يقول في الترجمة: الاستعاذة بغير الله، وهنا استعاذة بالكلمات، ولم يستعذ بالله، فلماذا؟ أجيب: أن كلمات الله صفة من صفاته، ولهذا استدل العلماء بهذا الحديث على أن كلام الله من صفاته غير مخلوق، لأن الاستعاذة بالمخلوق لا تجوز في مثل هذا الأمر، ولو كانت الكلمات مخلوقة ما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاستعاذة بها. ولهذا كان المراد من كلام المؤلف: الاستعاذة بغير الله، أي: أو صفة من صفاته.


وفي الحديث: " أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر "1 وهنا استعاذ بعزة الله وقدرته، ولم يستعذ بالله، والعزة والقدرة من صفات الله، وهي ليست مخلوقة. ولهذا يجوز القسم بالله وبصفاته، لأنها غير مخلوقة.
أما القسم بالآيات، فإن أراد الآيات الشرعية، فجائز، وإن أراد الآيات الكونية، فغير جائز. أما الاستعاذة بالمخلوق، ففيها تفصيل، فإن كان المخلوق لا يقدر عليه، فهي من الشرك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا يجوز الاستعاذة بالمخلوق عند أحد من الأئمة"، وهذا ليس على إطلاقه، بل مرادهم مما لا يقدر عليه إلا الله، لأنه لا يعصمك من الشر الذي لا يقدر عليه إلا الله، سوى الله.
ومن ذلك أيضا الاستعاذة بأصحاب القبور، فإنهم لا



1 من حديث عثمان بن أبي العاص, رواه: مسلم (كتاب السلام, باب استحباب وضع يده على موضع الألم, 4/1728).

ج / 1 ص -256-

ينفعون ولا يضرون، فالاستعاذة بهم شرك أكبر، سواء كان عند قبورهم أم بعيدا عنهم.
أما الاستعاذة بمخلوق فيما يقدر عليه، فهي جائزة، وقد أشار إلى ذلك الشارح الشيخ سليمان في "تيسير العزيز الحميد"، وهو مقتضى الأحاديث الواردة في "صحيح مسلم" لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفتن، قال: " فمن وجد من ذلك ملجأ، فليعذ به "1.


وكذلك قصة المرأة التي عاذت بأم سلمة2 والغلام الذي عاذ بالنبي صلى الله عليه وسلم3 وكذلك في قصة الذين يستعيذون بالحرم والكعبة4 وما أشبه ذلك.
وهذا هو مقتضى النظر، فإذا اعترضني قطاع طريق، فعذت بإنسان يستطيع أن يخلصني منهم، فلا شيء فيه. لكن تعليق القلب بالمخلوق لا شك أنه من الشرك، فإذا علقت قلبك ورجاءك وخوفك وجميع أمورك بشخص معين، وجعلته ملجأ فهذا شرك، لأن هذا لا يكون إلا لله.
وعلى هذا، فكلام الشيخ رحمه الله في قوله: "إن الأئمة لا يجوزون الاستعاذة بمخلوق" مقيد بما لا يقدر عليه إلا الله، ولولا أن النصوص وردت بالتفصيل لأخذنا الكلام على إطلاقه، وقلنا: لا يجوز الاستعاذة بغير الله مطلقا.



1 من حديث أبي هريرة, رواه: البخاري (كتاب المناقب, باب علامات النبوة, 2/520), ومسلم (كتاب الفتن, باب نزول الفتن, 4/2212).
2 من حديث جابر, رواه: مسلم (كتاب الحدود, باب حد السرقة, 3/1689).
3 رواه مسلم في بعض ألفاظه (3/1281).
4 من حديث أم سلمة, رواه: مسلم (كتاب الفتن, باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت, 4/2208).



ج / 1 ص -257- فيه مسائل:
الأولى.
تفسير آية الجن.
الثانية. كونه من الشرك.
الثالثة. الاستدلال على ذلك بالحديث، لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة، قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك.
الرابعة. فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره.
الخامسة. أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية، من كف شر، أو جلب نفع، لا يدل على أنه ليس من الشرك.



فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الجن: وقد سبق ذلك في أول الباب.
الثانية: كونه من الشرك: أي: الاستعاذة بغير الله وقد سبق التفصيل في ذلك.
الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث، لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة، لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك: وجه الاستشهاد: أن الاستعاذة بكلمات الله لا تخرج عن كونها استعاذة بالله، لأنها صفة من صفاته.
الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره: أي: فائدته، وهي أنه لا يضرك شيء ما دمت في هذا المنزل.
الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر أو

ج / 1 ص -258-

جلب نفع لا يدل على أنه ليس من الشرك: ومعنى كلامه: أنه قد يكون الشيء من الشرك، ولو حصل لك فيه منفعة، فلا يلزم من حصول النفع أن ينتفي الشرك، فالإنسان قد ينتفع بما هو شرك. مثال ذلك: الجن، فقد يعيذونك، وهذا شرك مع أن فيه منفعة.


مثال آخر: قد يسجد إنسان لملك، فيهبه أموالا وقصورا، وهذا شرك مع أن فيه منفعة، ومن ذلك ما يحصل لغلاة المداحين لملوكهم لأجل العطاء، فلا يخرجهم ذلك عن كونهم مشركين. قال بعضهم:

وكيف شئت فما خلق يدانيك فكن كما شئت يا من لا نظير له
وفي الحديث فائدة، وهي: أن الشرع لا يبطل أمرا من أمور الجاهلية إلا ذكر ما هو خير منه، ففي الجاهلية كانوا يستعيذون بالجن، فأبدل بهذه الكلمات، وهي: أن يستعيذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.


وهذه الطريقة هي الطريقة السليمة التي ينبغي أن يكون عليها الداعية، أنه إذا سد عن الناس باب الشر، وجب عليه أن يفتح لهم باب الخير، ولا يقول: حرام، ويسكت، بل يقول: هذا حرام، وافعل كذا وكذا من المباح بدلا عنه، وهذا له أمثلة في القرآن والسنة. فمن القرآن قوله تعالى،{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا } 1 فلما نهاهم عن قول (راعنا) ذكر لهم ما يقوم مقامه وهو (انظرنا) ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم لمن نهاه عن بيع الصاع من التمر الطيب بالصاعين، والصاعين بالثلاثة: " بع الجمع بالدراهم،


1 سورة البقرة آية : 104.

ج / 1 ص -259-


واشتر بالدراهم جنيبا "1 فلما منعه من المحذور، فتح له الباب السليم الذي لا محذور فيه.


1 من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة, رواه: البخاري (كتاب البيوع, باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه, 2/113), ومسلم (كتاب المساقاة, باب بيع الطعام مثلا بمثل, 3/ 1215).





المصدر :


كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 29-01-2015 08:49AM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره

ج / 1 ص -260- باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره

قوله: ومن الشرك: من: للتبعيض، فيدل على أن الشرك ليس مختصا بهذا الأمر. والاستغاثة: طلب الغوث، وهو إزالة الشدة.
وكلام المؤلف رحمه الله ليس على إطلاقه، بل يقيد بما لا يقدر عليه المستغاث به، إما لكونه ميتا، أو غائبا، أو يكون الشيء مما لا يقدر على إزالته إلا الله تعالى، فلو استغاث بميت ليدافع عنه أو بغائب أو بحي حاضر لينزل المطر، فهذا كله من الشرك، ولو استغاث بحي حاضر فيما يقدر عليه كان جائزا، قال الله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } 1 وإذا طلبت ومن أحد الغوث وهو قادر عليه، فإنه يجب عليك تصحيحا لتوحيدك أن تعتقد أنه مجرد سبب، وأنه لا تأثير له بذاته في إزالة الشدة، لأنك ربما تعتمد عليه وتنسى خالق السبب، وهذا قادح في كمال التوحيد.
قوله: "أو يدعو غيره": معطوف على قوله: "أن يستغيث"؟ فيكون المعنى: من الشرك أن يدعو غير الله، وذلك لأن الدعاء من العبادة، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 2 عبادتي أي: دعائي، فسمى الله الدعاء عبادة.. وقال صلى الله عليه وسلم " إن الدعاء هو العبادة "3.



1 سورة القصص آية : 15.
2 سورة غافر آية : 60.
3 رواه: أحمد في "المسند" (4/267), والترمذي (الدعوات, باب الدعاء مخ العبادة, 9/92)- وقال: "حديث حسن صحيح"-, وأبو داود (كتاب الصلاة, باب الدعاء, 2/ 161), وابن ماجه (كتاب الدعاء, باب فضل الدعاء, 2/1258), والحاكم (1/490)- وصححه ووافقه الذهبي-, والطبراني في "الصغير" (2/97). وقال ابن حجر في "الفتح" (1/49): "إسناده جيد".

ج / 1 ص -261-


والدعاء ينقسم إلى قسمين:
1. ما يقع عبادة، وهذا صرفه لغير الله شرك، وهو المقرون بالرهبة والرغبة، والحب، والتضرع.
2. ما لا يقع عبادة، فهذا يجوز أن يوجه إلى المخلوق، قال النبي صلى الله عليه وسلم " من دعاكم فأجيبوه "1 وقال: " إذا دعاك فأجبه "2 وعلى هذا، فمراد المؤلف بقوله: " أو يدعو غيره " دعاء العبادة أو دعاء المسألة فيما لا يمكن للمسؤول إجابته.
قوله: "أن يستغيث": أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مبتدأ مؤخر، وخبرها مقدم، وهو قوله: من الشرك، والتقدير: من الشرك الاستغاثة بغير الله، والمبتدأ يكون صريحا ومؤولا.


فالمبتدأ الصريح مثل: زيد قائم، والمؤول مثل: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } 3 أي: وصومكم خير لكم. وقوله: "أو يدعو" هذا من باب عطف العام على الخاص، لأن الاستغاثة دعاء بإزالة الشدة فقط، والدعاء عام لكونه لجلب منفعة، أو لدفع مضرة.
وقد ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب عدة آيات:



1سبق (ص 121).
2 سبق (ص 159).
3 سورة البقرة آية : 184.

ج / 1 ص -262- وقول الله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 1.

ـ
الآية الأولى: قوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 2 ظاهر سياق الآية أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وسواء كان خاصا به أو عاما له ولغيره، فإن بعض العلماء قال: لا يصح أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يستحيل أن يقع منه ذلك، والآية على تقدير قل، وهذا ضعيف جدا، وإخراج للآيات عن سياقها.


والصواب: أنه إما خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم والحكم له ولغيره، وإما عام لكل من يصح خطابه ويدخل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم
وكونه يوجه إليه مثل هذا الخطاب، لا يقتضي أن يكون ممكنا منه، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3 فالخطاب له ولجميع الرسل، ولا يمكن أن يقع منه باعتبار حاله لا باعتبار كونه إنسانا وبشرا.


إذا، فالحكمة من النهي أن يكون غيره متأسيا به، فإذا كان النهي موجها إلى من لا يمكن منه باعتبار حاله، فهو إلى من يمكن منه من باب أولى.
وقوله: { وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ } الدعاء: طلب ما ينفع، أو طلب دفع ما يضر، وهو نوعان كما قال أهل العلم:
الأول. دعاء عبادة، وهو أن يكون قائما بأمر الله، لأن القائم بأمر الله- كالمصلي، والصائم، والمزكي- يريد بذلك الثواب والنجاة من العقاب، ففعله متضمن للدعاء بلسان الحال، وقد يصحب فعله هذا دعاء بلسان المقال.



1 سورة يونس آية : 106.
2 سورة يونس آية : 106.
3 سورة الزمر آية : 65.

ج / 1 ص -263-


الثاني: دعاء مسألة، وهو طلب ما ينفع، أو طلب دفع ما يضره فالأول لا يجوز صرفه لغير الله، والثاني فيه تفصيل. سبق.
قوله: { مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي سوى الله. قوله: { مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ } 1 " ما لا ينفعك " أي: ما لا يجلب لك النفع لو عبدته. " ولا يضرك ": قيل: لا يدفع عنك الضر، وقيل: لو تركت عبادته لا يضرك، لأنه لا يستطيع الانتقام، وهو الظاهر من اللفظ. وقوله: { وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ } 2 أي: لأنه لا ينفعك ولا يضرك، وهذا القيد ليس شرطا بحيث يكون له مفهوم، فيكون لك أن تدعو من ينفعك ويضرك، بل هو لبيان الواقع، لأن المدعو من دون الله لا يحصل منه نفع ولا ضرر، قال الله تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } 3 ومن القيد الذي ليس بشرط، بل هو لبيان الواقع قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } 4 فإن قوله: { الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } 5 لبيان الواقع، إذ ليس هناك رب ثان لم يخلقنا والذين من قبلنا. ومنه قوله تعالى: { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ } 6 فهذا بيان للواقع الأغلب. ومنه قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } 7 فهذا بيان للواقع، إذ دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم إيانا كله لما يحيينا.



1 سورة يونس آية : 106.
2 سورة يونس آية : 106.
3 سورة آية : 5-6.
4 سورة البقرة آية : 21.
5 سورة البقرة آية : 21.
6 سورة النساء آية : 23.
7 سورة الأنفال آية : 24.

ج / 1 ص -264-


وكل قيد يراد به بيان الواقع، فإنه كالتعليل للحكم، فمثلا قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ } 1 أي: اعبدوه لأنه خلقكم.
وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } 2 أي: لأنه لا يدعوكم إلا لما يحييكم.
وكذلك قوله تعالى: { وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ } 3 أي: لأنه لا ينفعك ولا يضرك، فعلى هذا لا يكون هذا القيد شرطا، وهذه يسميها بعض الناس صفة كاشفة.


قوله: { فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ } 4 أي: إن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم و (إن): شرطية، وجواب الشرط جملة: (فإنك إذن) و (إذن) أي: حال فعلك من الظالمين، وهو قيد، لأن (إذ) للظرف الحاضر، أي: فإنك حال فعله من الظالمين.
لكن قد تتوب منه فيزول عنك وصف الظلم، فالإنسان قبل الفعل ليس بظالم، وبعد التوبة ليس بظالم، لكن حين فعل المعصية يكون ظالما كما قال صلى الله عليه وسلم " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "5 فنفى الإيمان عنه حال الفعل ونوع الظلم هنا ظلم شرك، قال الله تعالى: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } 6.


وعبر الله بقوله: " من الظالمين "، ولم يقل: من المشركين، لأجل أن يبين أن الشرك ظلم، لأن كون الداعي لغير الله مشركا أمر بين، لكن كونه ظالما قد لا يكون بينا من الآية.



1 سورة البقرة آية : 21.
2 سورة الأنفال آية : 24.
3 سورة يونس آية : 106.
4 سورة يونس آية : 106.
5 سبق (ص 78).
6 سورة لقمان آية : 13.

ج / 1 ص -265- { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ } 1 الآية.


الآية الثانية: قوله: (وإن يمسسك): أي: يصبك بضر، كالمرض، والفقر، ونحوه. قوله: { فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ } 2 (لا) نافية للجنس، واسمها: (كاشف)، وخبرها: (له)، و (إلا هو) بدل، وإن قلنا بجواز كون، خبرها معرفة صار (هو) الخبر: أي: ما أحد يكشفه أبدا إذا مسك الله بضر إلا الله، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم " واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك "3.
قوله: { وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ } 4 هنا قال: (يردك)، وفي الضر قال: (يمسسك) فهل هذا من باب تنويع العبارة، أو هناك فرق معنوي؟ الجواب: هناك فرق معنوي، وهو أن الأشياء المكروهة لا تنسب إلى إرادة الله، بل تنسب إلى فعله، أي: مفعوله.


فالمس من فعل الله، والضر من مفعولاته، فالله لا يريد الضر لذاته، بل يريده لغيره، لما يترتب عليه من الخير، ولما وراء ذلك من الحكم البالغة، وفي الحديث القدسي: " إن من عبادي من لو أغنيته أفسده الغنى "5.
أما الخير، فهو مراد لله لذاته، ومفعول له، ويقرب من هذا ما في سورة الجن: { وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } 6.
فإذا أصيب الإنسان بمرض، فالله لم يرد به الضرر لذاته، بل أراد



1 سورة الأنعام آية : 17.
2 سورة الأنعام آية : 17.
3 من حديث ابن عباس, رواه: أحمد في "المسند" (1/ 293, 307), والترمذي (أبواب صفة القيامة, باب "ولكن يا حنظلة ساعة وساعة, 7/203)- وقال: "حديث حسن صحيح".
4 سورة يونس آية : 107.
5 من حديث أنس, رواه: الطبراني.
6 سورة الجن آية : 10.

ج / 1 ص -266-


المرض، وهو يضره، لكن لم يرد ضرره، بل أراد خيرا من وراء ذلك، وقد تكون الحكمة ظاهرة في نفس المصاب، وقد تكون ظاهرة في غيره، كما قال تعالى: { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } 1 فالمهم أنه ليس لنا أن نتحجر حكمة الله، لأنها أوسع من عقولنا، لكننا نعلم علم اليقين أن الله لا يريد الضرر لأنه ضرر، فالضرر عند الله ليس مرادا لذاته، بل لغيره، ولا يترتب عليه إلا الخير، أما الخير; فهو مراد لذاته، ومفعول له، والله أعلم بما أراد بكلامه، لكن هذا الذي يتبين لي.


قوله: { فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ }، أي: لا يستطيع أحد أن يرد فضل الله أبدا، ولو اجتمعت الأمة على ذلك، وفي الحديث: " اللهم! لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت "2. وعليه، فنعتمد على الله في جلب المنافع، ودفع المضار، وبقاء ما أنعم علينا به، ونعلم أن الأمة مهما بلغت من المكر والكيد والحيل لتمنع فضل الله، فإنها لا تستطيع.


قوله: { يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ }، الضمير إما أن يعود إلى الفضل، لأنه أقرب، أو إلى الخير، لأنه هو الذي يتحدث عنه، ولا يختلف المعنى بذلك.
قوله: (من يشاء): كل فعل مقيد بالمشيئة، فإنه مقيد بالحكمة، لأن مشيئة الله ليست مجردة يفعل ما يشاء لمجرد أنه يفعله فقط، لأن من



1 سورة الأنفال آية : 25.
2 من حديث المغيرة بن شعبة رواه البخاري (كتاب الأذان, باب الذكر بعد الصلاة, 1/ 270), ومسلم (كتاب المساجد, باب استحباب الذكر بعد الصلاة, 1/414).

ج / 1 ص -267- وقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ } 1.


صفات الله الحكمة، ومن أسمائه الحكيم، قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} 2.
قوله: (من عباده): العبودية هنا عامة، لأن قوله: (بخير) يشمل خير الدنيا والآخرة، وخير الدنيا يصيب الكفار.
قوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، أي: ذو المغفرة، والمغفر: ستر الذنب والتجاوز عنه، مأخوذة من المغفر، وهو ما يتقى به السهام، والمغفر فيه ستر ووقاية. والرحيم، أي: ذو الرحمة، وهي صفة تليق بالله عزوجل تقتضي الإحسان والإنعام.


الشاهد قوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ } 3 في الآية الأولى، فقد نبه الله نبيه أن من يدعو أحدا من دون الله (أي: من سواه) لا ينفعه ولا يضره، وقوله في الآية الثانية: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ } 4 الآية.


الآية الثالثة: قوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ }لو أتى المؤلف بأول الآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً } 5 لكان أولى، فهم يعبدون هذه الأوثان من شجر وحجر وغيرها، وهي لا تملك لهم رزقا أبدا، لو دعوها إلى يوم القيامة ما أحضرت لهم ولا حبة بر، ولا دفعت عنهم أدنى مرض أو فقر، فإذا كانت لا تملك الرزق، فالذي يملكه هو الله، ولهذا قال: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ } 6 أي: اطلبوا عند الله



1 سورة العنكبوت آية : 17.
2 سورة الإنسان آية : 30.
3 سورة يونس آية : 106.
4 سورة الأنعام آية : 17.
5 سورة العنكبوت آية : 17.
6 سورة العنكبوت آية : 17.

ج / 1 ص -268-

الرزق، لأنه سبحانه هو الذي لا ينقضي ما عنده،:{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } 1 والرزق هو العطاء كما قال تعالى: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ }.
وقوله: " عند الله ": عند الله: حال من الرزق، وقدم الحال مع أن موضعها التأخير عن صاحبها لإفادة الحصر، إذ إن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، أي: فابتغوا الرزق حال كونه عند الله لا عند غيره.


قوله: " واعبدوه ": أي: تذللوا له بالطاعة، لأن العبادة مأخوذة من التعبيد، وهو التذليل، ومنه قولهم: طريق معبد، أي: مذلل للسالكين، قد أزيل عنه الأحجار والأشجار المؤذية، لأنكم إذا تذللتم له بالطاعة، فهو من أسباب الرزق، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } 2 فأمر أن نطلب الرزق عنده، ثم أعقبه بقوله: (واعبدوه) إشارة إلى أن تحقيق العبادة من طلب الرزق، لأن العابد ما دام يؤمن أن من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب، فعبادته تتضمن طلب الرزق بلسان الحال.


قوله: (واشكروا له): إذا أضاف الله الشكر له متعديا باللام، فهو إشارة إلى الإخلاص، أي: واشكروا نعمة الله لله، فاللام هنا لإفادة الإخلاص، لأن الشاكر قد يشكر الله لبقاء النعمة، وهذا لا بأس به، ولكن كونه يشكر لله وتأتي إرادة بقاء النعمة تبعا، هذا هو الأكمل والأفضل. والشكر فسروه بأنه: القيام بطاعة المنعم، وقالوا: إنه يكون في ثلاثة مواضع:
1. في القلب، وهو أن يعترف بقلبه أن هذه النعمة من الله، فيرى لله فضلا عليه بها، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } 3.



1 سورة النحل آية : 96.
2 سورة آية : 2-3.
3 سورة النحل آية : 53.

ج / 1 ص -269-


وأعظم نعمة هي نعمة الإسلام، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ } 1 وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } 2 الآية.
2. اللسان، وهو أن يتحدث بها على وجه الثناء على الله والاعتراف وعدم الجحود، لا على سبيل الفخر والخيلاء والترفع على عباد الله، فيتحدث بالغنى لا ليكسر خاطر الفقير، بل لأجل الثناء على الله، وهذا جائز كما في قصة الأعمى من بني إسرائيل لما ذكره الملك بنعمة الله، قال: " نعم، كنت أعمى فرد الله علي بصري، وكنت فقيرا فأعطاني الله المال "3 فهذا من باب التحدث بنعمة الله. والنبي صلى الله عليه وسلم تحدث بنعمة الله عليه بالزيادة المطلقة; فقال: " أنا سيد الناس يوم القيامة "4.


3. الجوارح، وهو أن يستعملها بطاعة المنعم، وعلى حسب ما يختص بهذه النعمة. فمثلا: شكر الله على نعمة العلم: أن تعمل به، وتعلمه الناس. وشكر الله على نعمة المال أن تصرفه بطاعة الله، وتنفع الناس به.
وشكر الله على نعمة الطعام أن تستعمله فيما خلق له، وهو تغذية البدن فلا تبني من العجين قصرا مثلا، فهو لم يخلق لهذا الشيء.
قوله: (إليه ترجعون): الجار والمجرور متعلق بـ (ترجعون)،



1 سورة الحجرات آية : 17.
2 سورة آل عمران آية : 164.
3 يأتي في باب ما جاء في قول الله تعالى: ولئن أذقناه رحمة منا.
4 من حديث أبي هريرة, رواه البخاري (3340, 4712), ومسلم (194).

ج / 1 ص -270- وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } 1 الآية.


وتقديمه دل على الحصر، أي أن رجوعنا إلى الله- سبحانه-، وهو الذي سيحاسبنا على ما حملنا إياه من الأمر بالعبادة، والأمر بالشكر، وطلب الرزق منه.
والشاهد من هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ } 2 فالفقير يستغيث بالله لكي ينجيه من الفقر، والله هو الذي يستحق الشكر، وإذا كانت هذه الأصنام لا تملك الرزق، فكيف تستغيث بها؟!


الآية الرابعة: قوله تعالى: " ومن أضل": (من): اسم استفهام مبتدأ، و (أضل): خبره، والاستفهام يراد به هنا النفي، أي لا أحد أضل.
و (أضل): اسم تفضيل، أي: لا أحد أضل من هذا. والضلال: أن يتيه الإنسان عن الطريق الصحيح. وإذا كان الاستفهام مرادا به النفي كان أبلغ من النفي المجرد، لأنه يحوله من نفي إلى تحد، أي: بين لي عن أحد أضل ممن يدعو من دون الله؟ فهو متضمن للتحدي، وهو أبلغ من قوله: "لا أضل ممن يدعو"؟ لأن هذا نفي مجرد، وذاك نفي مشرب معنى التحدي.


قوله: (ممن يدعوا): متعلق بأضل، ويراد بالدعاء هنا دعاء المسألة ودعاء العبادة، قوله: (من دون الله): أي سواه.
قوله: {مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } 3 (من): مفعول يدعو،




1 سورة الأحقاف آية : 5.
2 سورة العنكبوت آية : 17.
3 سورة الأحقاف آية : 5.

ج / 1 ص -271-


أي: لو بقي كل عمر الدنيا يدعو ما استجاب له، قال الله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } 1 والخبر هنا عن الله تعالى، قال تعالى: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}يعني: نفسه سبحانه وتعالى.


وقوله: " من لا يستجيب " أتى ب (من)، وهي للعاقل، مع أنهم يعبدون الأصنام والأحجار والأشجار، وهي غير عاقلة، لأنهم لما عبدوها نزلوها منزلة العاقل، فخوطبوا بمقتضى ما يدعون، لأنه أبلغ في إقامة الحجة عليهم في أنهم يدعون من يرونهم عقلاء، ومع ذلك لا يستجيبون لهم، وهذا من بلاغة القرآن، لأنه خاطبهم بما تقتضيه حالهم ليقيم الحجة عليهم، إذ لو قيل: ما لا يستجيب له، لقالوا: هناك عذر في عدم الاستجابة لأنهم غير عقلاء.


قوله: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ } 2 الضمير في قوله: (هم) يعود على (من) باعتبار المعنى، لأنهم جماعة، وضمير يستجيب يعود على (من) باعتبار اللفظ، لأنه مفرد، فأفرد الضمير باعتبار لفظ (من)، وجمعه باعتبار المعنى، لأن (من) تعود على الأصنام، وهي جماعة، و (من) قد يراعى لفظها ومعناها في كلام واحد.
ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} 3 فهنا راعى اللفظ، ثم المعنى، ثم اللفظ.


قوله: (عن دعائهم): الضمير في دعائهم يعود إلى المدعوين، وهل المعنى: (وهم)، أي: الأصنام، (عن دعائهم) أي: دعاء الداعين إياهم، فيكون من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، أو المعنى: و (هم)



1 سورة فاطر آية : 14.
2 سورة الأحقاف آية : 5.
3 سورة الطلاق آية : 11.

ج / 1 ص -272-


عن دعاء العابدين لهم، فيكون "دعاء" مضافا إلى فاعله، والمفعول محذوف الأول أبلغ، أي عن دعاء العابدين إياهم أبلغ من دعاء العابدين على سبيل الإطلاق، فإذا قلت: (عن دعائهم) أي: عن دعاء العابدين إياهم، وجعلت الضمير هنا يعود على المدعوين، صار المعنى أن هذه الأصنام غافلة عن دعوة هؤلاء إياهم، ويكون هذا أبلغ في أن هذه الأصنام لا تفيدهم شيئا في الدنيا ولا في الآخرة.


قوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ } 1 أي: يوم القيامة. {كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً } 2 هل المعنى: كان العابدون للمعبودين أعداء، أو كان المعبودون للعابدين أعداء؟
الجواب: يشمل المعنيين، وهذا من بلاغة القرآن.


الشاهد: قوله: {مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } 3 فإذا كان من سوى الله لا يستجيب إلى يوم القيامة، فكيف يليق بك أن تستغيث به دون الله؟! فبطل تعلق هؤلاء العابدين بمعبوداتهم. فالذي يأتي للبدوي أو للدسوقي في مصر، فيقول: المدد المدد! أو: أغثني، لا يغني عنه شيئا، ولكن قد يبتلى فيأتيه المدد عند حصول هذا الشيء لا بهذا الشيء، وفرق بين ما يأتي بالشيء وما يأتي عند الشيء.


مثال ذلك: امرأة دعت البدوي أن تحمل، فلما جامعها زوجها حملت وكانت سابقا لا تحمل، فنقول هنا: إن الحمل لم يحصل بدعاء البدوي، وإنما حصل عنده لقوله تعالى: {مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } 4.



1 سورة الأحقاف آية : 6.
2 سورة الأحقاف آية : 6.
3 سورة الأحقاف آية : 5.
4 سورة الأحقاف آية : 5.

ج / 1 ص -273- وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } 1.


أو يأتي للجيلاني في العراق، أو ابن عربي في سوريا، فيستغيث به، فإنه لا ينتفع، ولو بقي الواحد منهم إلى يوم القيامة يدعو ما أجابه أحد.
والعجب أنهم في العراق يقولون: عندنا الحسين، فيطوفون بقبره ويسألونه، وفي مصر كذلك، وفي سوريا كذلك، وهذا سفه في العقول، وضلال في الدين، والعامة قد لا يلامون في الواقع، لكن الذي يلام من عنده علم من العلماء ومن غير العلماء.
الآية الخامسة: قوله تعالى: (أمن): أم: منقطعة،

والفرق بين المنقطعة والمتصلة ما يلي:
1- المنقطعة بمعنى بل، والمتصلة بمعنى أو.
2- المتصلة لابد فيها من ذكر المعادل، والمنقطعة لا يشترط فيها ذكر المعادل.
مثال ذلك: أعندك زيد أم عمرو؟ فهذه متصلة، وقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} 2 متصلة، وقوله تعالى{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } 3 منقطعة ; لأنه لم يذكر لها معادل فهي بمعنى بل والهمزة.
قوله: (المضطر): أصلها: المضتر، أي: الذي أصابه الضرر، قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ



1 سورة النمل آية : 62.
2 سورة الطور آية : 35.
3 سورة النمل آية : 62.

ج / 1 ص -274-

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ}
1. فلا يجيب المضطر إلا الله، لكن قيده بقوله: (إذا دعاه)، أما إذا لم يدعه، فقد يكشف الله ضره، وقد لا يكشفه.
قوله: (ويكشف السوء): أي: يزيل السوء، والسوء: ما يسوء المرء، وهو دون الضرورة، لأن الإنسان قد يساء بما لا يضره، لكن كل ضرورة سوء.
وقوله: " ويكشف السوء " هل هي متعلقة بما قبلها في المعنى، وأنه إذا أجابه كشف سوءه، أو هي مستقلة يجيب المضطر إذا دعاه ثم أمر آخر يكشف السوء؟ الجواب: المعنى الأخير أعم، لأنها تشمل كشف سوء المضطر وغيره، ومن دعا الله ومن لم يدعه، وعلى التقدير الأولى تكون خاصة بكشف سوء المضطر، ومعلوم أنه كلما كان المعنى أعم كان أولى، ويؤيد العموم قوله: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ } 2.


قوله: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ } الذين يجعلهم الله خلفاء الأرض هم عباد الله الصالحون، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} 3 وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } 4.


قوله: { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} الاستفهام للإنكار، أو بمعنى النفي، وهما متقاربان، أي: هل أحد مع الله يفعل ذلك ؟!



1 سورة آية : 83-84.
2 سورة النمل آية : 62.
3 سورة الأنبياء آية : 105.
4 سورة النور آية : 55.

ج / 1 ص -275- روى الطبراني بإسناده1:..

الجواب: لا، وإذا كان كذلك، فيجب أن تصرف العبادة لله وحده، وكذلك الدعاء، فالواجب على العبد أن يوجه السؤال إلى الله تعالى، ولا يطلب من أحد أن يزيل ضرورته ويكشف سوءه وهو لا يستطيع.
إشكال وجوابه:
وهو أن الإنسان المضطر يسأل غير الله ويستجاب له، كمن اضطر إلى طعام وطلب من صاحب الطعام أن يعطيه فأعطاه، فهل يجوز أم لا؟
الجواب: إن هذا جائز، لكن يجب أن نعتقد أن هذا مجرد سبب لا أنه مستقل، فالله جعل لكل شيء سببا، فيمكن أن يصرف الله قلبه فلا يعطيك، ويمكن أن تأكل ولا تشبع فلا تزول ضرورتك، ويمكن أن يسخره الله ويعطيك.
قوله: "بإسناده": يشير إلى أن هذا الإسناد ليس على شرط الصحيح، أو المتفق عليه بين الناس، بل هو إسناده الخاص، وعليه، فيجب أن يراجع هذا الإسناد، فليس كل إسناد محدث قد تمت فيه شروط القبول.
وذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد": "أن رجاله رجال الصحيح،" غير



1 رواه: الطبراني; كما في "مجمع الزوائد" (10/159) عن عبادة بن الصامت. وقال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح; غير ابن لهيعة, وهو حسن الحديث". ورواه: أحمد في "المسند" (5/317), وابن سعد في "الطبقات" (1/387); عن عبادة بلفظ: "إنه لا يقام لي بل يقام لله تبارك وتعالى". وفيه ابن لهيعة, ورجل لم يسم. انظر: "المجمع" (8/40).

ج / 1 ص -276- " أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله ".



ابن لهيعة، وهو حسن الحديث، وابن لهيعة خلط في آخر عمره لاحتراق كتبه ولم يذكر المؤلف الصحابي، وفي الشرح هو عبادة بن الصامت (.
قوله: "في زمن النبي": أي: عهده، وكان الكافر أولا يعلن كفره ولا يبالي، ولما قوي المسلمون بعد غزوة بدر خاف الكفار، فصاروا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر.


قوله: "منافق": المنافق: هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وهؤلاء ظهروا بعد غزوة بدر. ولم يسم المنافق في هذا الحديث، فيحتمل أنه عبد الله بن أبي، لأنه مشهور بإيذاء المسلمين، ويحتمل غيره.


واعلم أن أذية المنافقين للمسلمين ليست بالضرب أو القتل، لأنهم يتظاهرون بمحبة المسلمين، ولكن بالقول والتعريض كما صنعوا في قصة الإفك. قوله: "فقال بعضهم": أي: الصحابة. قوله: "نستغيث": أي: نطلب الغوث وهو إزالة الشدة.


قوله: "من هذا المنافق": إما بزجره، أو تعزيره، أو بما يناسب المقام. وفي الحديث إيجاز حذف دل عليه السياق، أي: فقاموا إلى رسول الله، فقالوا: يا رسول الله! إنا نستغيث بك من هذا المنافق. قوله: (إنه لا يستغاث بي) ظاهر هذه الجملة النفي مطلقا، ويحتمل أن المراد: لا يستغاث به في هذه القضية المعينة. فعلى الأول: يكون نفي الاستغاثة من باب سد الذرائع والتأدب في اللفظ، وليس من



ج / 1 ص -277- فيه مسائل:
الأولى:
أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص.
الثانية: تفسير قوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ } 1.


باب الحكم بالعموم، لأن نفي الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم ليس على إطلاقه، بل تجوز الاستغاثة به فيما يقدر عليه.
أما إذا قلنا: إن النفي عائد إلى القضية المعينة التي استغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم منها، فإنه يكون على الحقيقة، أي: على النفي الحقيقي، أي: لا يستغاث بي في مثل هذه القضية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعامل المنافقين معاملة المسلمين، ولا يمكنه حسب الحكم الظاهر للمنافقين أن ينتقم من هذا المنافق انتقاما ظاهرا، إذ إن المنافقين يستترون، وعلى هذا، فلا يستغاث للتخلص من المنافق إلا بالله.


فيه مسائل:

الأولى:
أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص: يعني: حيث قال في الترجمة باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره، ووجه ذلك أن الاستغاثة طلب إزالة الشدة والدعاء طلب ذلك وغيره، إذا الاستغاثة نوع من الدعاء، والدعاء أعم، فهو من باب عطف العام على الخاص، وهذا سائغ في اللغة العربية، فهو كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ } 2.
الثانية: تفسير قوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا



1 سورة يونس آية : 106.
2 سورة الحج آية : 77.

ج / 1 ص -278-
الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر.
الرابعة: أن أصلح الناس لو فعله إرضاء لغيره، صار من الظالمين.
الخامسة: تفسير الآية التي بعدها.


َضُرُّكَ }1:الخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، بدليل الآيات التي قبلها، قال تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2 فإن قيل: كيف ينهاه الله عن أمر لا يمكن أن يقع منه شرعا؟ أجيب: إن الغرض هو التنديد بمن فعل ذلك، كأنه يقول: لا تسلك هذا الطريق التي سلكها أهل الضلال، وإن كان الرسول لا يمكن أن يقع منه ذلك شرعا.


الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر: يؤخذ من قوله تعالى: {فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 3 مضافا إلى قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 4.
الرابعة: أن أصلح الناس لو فعله إرضاء لغيره، صار من الظالمين: تؤخذ من كون الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وهو أصلح الناس، فلو فعله ذلك إرضاء لغيره، صار من الظالمين، حتى ولو فعله مجاملة لإنسان مشرك، فدعا صاحب قبر إرضاء لذلك المشرك، فإنه يكون مشركا، إذ لا تجوز المحاباة في دين الله.
الخامسة: تفسير الآية التي بعدها: وهي قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ } 5 الآية، فإذا



1 سورة يونس آية : 106.
2 سورة يونس آية : 105.
3 سورة يونس آية : 106.
4 سورة لقمان آية : 13.
5 سورة الأنعام آية : 17.

ج / 1 ص -279- السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفرا.
السابعة: تفسير الآية الثالثة:
الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله كما أن الجنة لا تطلب إلا منه.
التاسعة: تفسير الآية الرابعة:
العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله.


كان لا يكشف الضر إلا الله، وجب أن تكون العبادة له وحده والاستغاثة به وحده.
السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفرا: تؤخذ من قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ } 1 فلم ينتفع من دعائه هذا، فخسر الدنيا بذلك، والآخرة بكفره.
السابعة: تفسير الآية الثالثة: وهي قوله تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ } 2 وقوله: " عند الله " حال من الرزق، وعليه يكون ابتغاء الرزق عند الله وحده.
الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله، كما أن الجنة لا تطلب إلا منه: تؤخذ من قوله تعالى: {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3 لأن العبادة سبب لدخول الجنة، وقد أشار الله إلى ذلك بقوله: " إليه ترجعون ".
التاسعة: تفسير الآية الرابعة: وهي قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } 4.
العاشرة: أن لا أضل ممن دعا غير الله: تؤخذ من قوله تعالى:



1 سورة الأنعام آية : 17.
2 سورة العنكبوت آية : 17.
3 سورة العنكبوت آية : 17.
4 سورة الأحقاف آية : 5.

ج / 1 ص -280- الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه.
الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له.
الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو.
الرابعة عشرة: كفر المدعو بتلك العبادة.


{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } 1 لأن الاستفهام هنا بمعنى النفي.
الحادية عشرة. أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه: لقوله تعالى: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (وهم) أي: المدعوون، (عن دعائهم) أي: دعاء الداعين، أو عن دعاء الداعين إياهم، فالاحتمال في الضمير الثاني وهو قوله: " عن دعائهم " أما الضمير الأول، فإنه يعود إلى المدعوين لا ريب، وقد سبق بيانه بالتفصيل.


الثانية عشرة. أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له: تؤخذ من قوله تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 2.
الثالثة عشرة. تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو: تؤخذ من قوله تعالى: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} الرابعة عشرة. كفر المدعو بتلك العبادة: معنى كفر المدعو: رده وإنكاره، فإذا كان يوم القيامة تبرأ منه وأنكره تؤخذ من قوله: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}.


1 سورة الأحقاف آية : 5.
2 سورة الأحقاف آية : 6.

ج / 1 ص -281- الخامسة عشرة: هي سبب كونه أضل الناس.
السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة.
السابعة عشرة: الأمر العجيب، وهو إقرار. عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله، ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين.


الخامسة عشرة: هي سبب كونه أضل الناس: وذلك لأمور هي:
1. أنه يدعو من دون الله من لا يستجيب له.
2. أن المدعوين غافلون عن دعائهم.
3. أنه إذا حشر الناس كانوا له أعداء.
4. أنه كافر بعبادتهم.


السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة: وهي قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } 1 وقد سبق ذلك.
السابعة عشرة: الأمر العجيب، وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله... إلخ: وهو كما قال رحمه الله: وهذا موجود الآن، فمن الناس من يسجد للأصنام التي صنعوها بأنفسهم تعظيما، فإذا وقعوا في الشدة دعوا الله مخلصين له الدين، وكان عليهم أن يلجؤوا للأصنام لو كانت عبادتها حقا، إلا أن من المشركين اليوم من هو أشد شركا من المشركين السابقين، فإذا وقعوا في الشدة دعوا أولياءهم، كعلي والحسين، وإذا كان الأمر سهلا دعوا الله، وإذا حلفوا حلفا هم فيه صادقون حلفوا بعلي أو غيره من أوليائهم، وإذا حلفوا حلفا هم فيه كاذبون حلفوا بالله ولم يبالوا.



1 سورة النمل آية : 62.

ج / 1 ص -282- الثامنة عشرة: حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد والتأدب مع الله.


الثامنة عشرة:حماية المصطفى حمى التوحيد، والتأدب مع الله اختار المؤلف أن قوله: "لا يستغاث بي" من باب التأدب بالألفاظ، والبعد عن التعلق بغير الله، وأن يكون تعلق الإنسان دائما بالله وحده، فهو يعلم الأمة أن تلجأ إلى الله وحده إذا وقعت في الشدائد، ولا تستغيث إلا به وحده.





المصدر :


كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 29-01-2015 09:01AM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب قول الله تعالي:{ أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً }الآية.

ج / 1 ص -283- باب قول الله تعالي:{ أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً }الآية.


مناسبة الباب لما قبله.لما ذكر رحمه الله الاستعاذة والاستغاثة بغير الله- عز وجل-، ذكر البراهين الدالة على بطلان عبادة ما سوى الله، ولهذا جعل الترجمة لهذا الباب نفس الدليل، وذكر رحمه الله ثلاث آيات:
الآية الأولى والثانية: قوله: (أيشركون): الاستفهام للإنكار والتوبيخ، أي: يشركونه مع الله.


قوله: " ما لا يخلق ": هنا عبر ب (ما)، دون "من"، وفي قوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ } 1 عبر ب (من).
والمناسبة ظاهرة، لأن الداعين هناك نزلوهم منزلة العاقل، أما هنا، فالمدعو جماد، لأن الذي لا يخلق شيئا ولا يصنعه جماد لا يفيد. قوله: (شيئا): نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم.
قوله: (وهم يخلقون): وصف هذه الأصنام بالعجز والنقص. والرب



1 سورة الأحقاف آية : 5.

ج / 1 ص -284-

المعبود لا يمكن أن يكون مخلوقا، بل هو الخالق، فلا يجوز عليه الحدوث ولا الفناء. والمخلوق: حادث، والحادث يجوز عليه العدم، لأن ما جاز انعدامه أولا، جاز عقلا انعدامه آخرا.

فكيف يعبد هؤلاء من دون الله، إذ المخلوق هو بنفسه مفتقر إلى خالقه وهو حادث بعد أن لم يكن، فهو ناقص في إيجاده وبقائه؟!
إشكال وجوابه: قوله: " ما لا يخلق " الضمير بالإفراد، وقوله: " وهم يخلقون " الضمير بالجمع، فما الجواب؟ أجيب: بأن قوله: " ما لا يخلق " عاد الضمير على (ما) باعتبار اللفظ، لأن (ما) اسم موصول، لفظها مفرد، لكن معناها الجمع، فهي صالحة بلفظها للمفرد، وبمعناها للجمع، كقوله: " من لا يستجيب له ".


وقوله: " وهم يخلقون " عاد الضمير على (ما) باعتبار المعنى، كقوله:{ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 1 قوله:{ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً } 2 أي: لا يقدرون على نصرهم لو هاجمهم عدو، لأن هؤلاء المعبودين قاصرون.
والنصر: الدفع عن المخذول بحيث ينتصر على عدوه. قوله: {وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} 3 بنصب أنفسهم على الله مفعول مقدم، وليس من باب الاشتغال، لأن العامل لم يشتغل بضمير السابق.


أي: زيادة على ذلك هم عاجزون عن الانتصار لأنفسهم، فكيف ينصرون غيرهم؟! فبين الله عجز هذه الأصنام، وأنها لا تصلح أن تكون معبودة من أربعة وجوه، هي:



1 سورة الأحقاف آية : 5.
2 سورة الأعراف آية : 192.
3 سورة الأعراف آية : 192.

ج / 1 ص -285- وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 1 الآية.


1. أنها لا تخلق، ومن لا يخلق لا يستحق أن يعبد.
2. أنهم مخلوقون من العدم، فهم مفتقرون إلى غيرهم ابتداء ودواما.
3. أنهم لا يستطيعون نصر الداعين لهم، وقوله: " ولا يستطيعون " أبلغ من قوله: " لا ينصرونهم " لأنه لو قال: " لا ينصرونهم " فقد يقول قائل: لكنهم يستطيعون، لكن لما قال: {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً } 2 كان أبلغ لظهور عجزهم.
4. أنهم لا يستطيعون نصر أنفسهم.


الآية الثالثة: قوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } 3 يشمل دعاء المسألة، ودعاء العبادة، و " من دونه " أي: سوى الله.
قوله: { مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 4 (ما): نافية، (من): حرف جر زائد لفظا، وقيل: لا ينبغي أن يقال: حرف جر زائد في القرآن، بل يقال: من: حرف صلة، وهذا فيه نظر، لأن الحروف الزائدة لها معنى، وهو التوكيد، وإنما يقال: زائد من حيث الإعراب، وجملة " ما يملكون " خبر المبتدأ الذي هو (الذين).
وقوله: (من قطمير): القطمير: سلب نواة التمرة.


وفي النواة ثلاثة أشياء ذكرها الله في القرآن لبيان حقارة الشيء:
القطمير: وهو اللفافة الرقيقة التي على النواة.



1 سورة فاطر آية : 13.
2 سورة الأعراف آية : 192.
3 سورة الأعراف آية : 197.
4 سورة فاطر آية : 13.

ج / 1 ص -286-


الفتيل: وهو سلك يكون في الشق الذي في النواة.
النقير: وهي النقرة التي تكون على ظهر النواة.
فهؤلاء لا يملكون من قطمير، فإن قيل: أليس الإنسان يملك النخل كله كاملا؟ أجيب: إنه يملكه، ولكنه ملك ناقص ليس حقيقيا; فلا يتصرف فيه إلا على حسب ما جاء به الشرع، فلا يملك مثلا إحراقه للنهي عن إضاعة المال. قوله: " إن تدعوهم ": جملة شرطية، تدعو: فعل الشرط مجزوم بحذف النون، والواو فاعل، وأصلها: تدعونهم. قوله: {لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ } 1 جواب الشرط مجزوم بحذف النون، والواو فاعل.


قوله: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ } 2 أي: إن هذه الأصنام لو دعوتموها ما سمعت، ولو فرض أنها سمعت ما استجابت، لأنها لا تقدر على ذلك، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} 3 فإذا كانت كذلك، فأي شيء يدعو إلى أن تدعى من دون الله؟! بل هذا سفه، قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ }(4.


قوله: { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } 5 وهو كقوله تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 6 فهؤلاء المعبودون إن كانوا يبعثون ويحشرون، فكفرهم بشركهم ظاهر كمن يعبد عزيرا والمسيح. وإن كانوا أحجارا وأشجارا ونحوها، فيحتمل أن يشملها



1 سورة فاطر آية : 14.
2 سورة فاطر آية : 14.
3 سورة مريم آية : 42.
4 سورة البقرة آية : 130.
5 سورة فاطر آية : 14.
6 سورة الأحقاف آية : 6.

ج / 1 ص -287-

ظاهر الآية، وهو أن الله يأتي بهذه الأحجار ونحوها، فتكفر بشرك من يشرك بها، ويؤيده قوله تعالى: { ِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} 1 وما ثبت في "الصحيحين" عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه عند بعث الناس يقال لكل أمة: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد من دون الله "2 فالحجر يكون أمامهم يوم القيامة، ويكون له كلام ينطق به، ويكفر بشركهم، فإذا كانت المعبودات تحضر وتحصب في النار إهانة لعابديها وتحضر لتتبع إلى النار، فلا غرو أن تكفر بعابديها إذا أحضرت. قوله: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 3 هذا مثال يضرب لمن أخبر بخبر ورأى شكا عند من خاطبه به، فيقول: ولا ينبئك مثل خبير.


ومعناه: إنه لا يخبرك بالخبر مثل خبير به، وهو الله، لأنه لا يعلم أحد ما يكون في يوم القيامة إلا الله، وخبره خبر صدق، لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} 4 والخبير: العالم ببواطن الأمور.
مسألة: هل يسمع الأموات السلام ويردونه على من سلم عليهم؟


اختلف في ذلك على قولين:

القول الأول: أن الأموات لا يسمعون السلام، وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم حين زيارة القبور: "والسلام عليكم" دعاء لا يقصد به المخاطبة، ثم على فرض أنهم يسمعون كما جاء في الحديث الذي صححه ابن عبد البر وأقره



1 سورة الأنبياء آية : 98.
2 من حديث أبي هريرة, رواه: البخاري (كتاب الأذان, باب فضل السجود, 1/260), ومسلم (كتاب الإيمان, باب معرفة طربق الرؤية, 1/167).
3 سورة فاطر آية : 14.
4 سورة النساء آية : 122.

ج / 1 ص -288-

ابن القيم: بأن الإنسان إذا سلم على شخص يعرفه في الدنيا رد الله عليه روحه فرد السلام1 وعلى تقدير صحة هذا الحديث إذا كانوا يسمعون السلام ويردونه، فلا يلزم أن يسمعوا كل شيء، ثم لو فرض أنهم يسمعون غير السلام، فإن الله صرح بأن المدعوين من دون الله لا يسمعون دعاء من يدعوهم، فلا يمكن أن نقول: إنهم يسمعون دعاء من يدعوهم، لأن هذا كفر بالقرآن، فتبين بهذا أنه لا تعارض بين قوله صلى الله عليه وسلم " السلام عليكم دار قوم مؤمنين "2 وبين هذه الآية.


وأما قول: " ولو سمعوا " فمعناه: لو سمعوا فرضا ما استجابوا لكم، لأنهم لا يستطيعون.
القول الثاني: أن الأموات يسمعون. واستدلوا على ذلك بالخطاب الواقع في سلام الزائر لهم بالمقبرة. وبما ثبت في "الصحيح" من أن المشيعين إذا انصرفوا سمع المشيع قرع نعالهم3.


والجواب عن هذين الدليلين: أما الأول، فإنه لا يلزم من السلام عليهم أن يسمعوا، ولهذا كان المسلمون يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم في حياته في التشهد4 وهو لا يسمعهم قطعا.



1 "الاستذكار" لابن عبد البر (الجزء الأول, باب جامع الوضوء).
2 من حديث عائثة, رواه: مسلم (كتاب الجنائز, باب ما يقال عند دخول القبور, 2/ 669).
3 من حديث أنس, رواه: البخاري (كتاب الجنائز, باب الميت يسمع خفق النعال, 1/ 410).


4 من حديث ابن مسعود, رواه: البخاري (كتاب الاستئذان, باب السلام اسم من أسماء الله تعالى, 4/136), ومسلم (كتاب الصلاة, باب التشهد في الصلاة, 1/301).

ج / 1 ص -289- وفي الصحيح عن أنس، قال: " شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكسرت رباعيته.


أما الثاني، فهو وارد في وقت خاص، وهو انصراف، المشيعين بعد الدفن. وعلى كل، فالقولان متكافئان، والله أعلم بالحال.
قوله: "وفي الصحيح": سبق الكلام على مثل هذا التعبير في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.


قوله: "أحد": جبل معروف شمالي المدينة، ولا يقال: المنورة، لأن كل بلد دخله الإسلام فهو منور بالإسلام، ولأن ذلك لم يكن معروفا عند السلف، وكذلك جاء اسمها في القرآن بالمدينة فقط، لكن لو قيل: المدينة النبوية لحاجة تمييزها; فلا بأس، وهذا الجبل حصلت فيه وقعة في السنة الثالثة من الهجرة في شوال هزم فيها المسلمون بسبب ما حصل منهم من مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم كما أشار الله إلى ذلك بقوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ } 1 وجواب الشرط محذوف تقديره: حصل لكم ما تكرهون.


وقد حصلت هزيمة المسلمين لمعصية واحدة، ونحن الآن نريد الانتصار والمعاصي كثيرة عندنا، ولهذا لا يمكن أن نفرح بنصر ما دمنا على هذه الحال، إلا أن يرفق الله بنا ويصلحنا جميعا.
قوله: "شج": الشجة: الجرح في الرأس والوجه خاصة.


قوله: "وكسرت رباعيته": السنان المتوسطان يسميان ثنايا، وما يليهما يسميان رباعيتين.



1 سورة آل عمران آية : 152.

ج / 1 ص -290- فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ؟ فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } 1 "2.


قوله: " فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ "3 الاستفهام يراد به الاستبعاد، أي: بعيد أن يفلح قوم شجوا نبيهم صلى الله عليه وسلم قوله: "يفلح" من الفلاح، وهو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب.
قوله: " فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } 4 أي: نزلت هذه الآية، والخطاب فيها للرسول صلى الله عليه وسلم و (شيء): نكرة في سياق النفي، فتعم.


قوله: (الأمر) أي: الشأن، والمراد: شأن الخلق، فشأن الخلق إلى خالقهم، حتى النبي صلى الله عليه وسلم ليس له فيهم شيء. ففي الآية خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وقد شج وجهه، وكسرت رباعيته، ومع ذلك ما عذره الله- سبحانه- في كلمة واحدة: " كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ "5 فإذا كان الأمر كذلك؟ فما بالك بمن سواه؟ فليس لهم من الأمر شيء" كالأصنام، والأوثان، والأولياء، والأنبياء، فالأمر كله لله وحده، كما أنه الخالق وحده، والحمد لله الذي لم يجعل أمرنا إلى أحد سواه، لأن المخلوق لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فكيف يملك لغيره؟ ! ونستفيد من هذا الحديث أنه يجب الحذر من إطلاق اللسان فيما إذا رأى الإنسان مبتلى بالمعاصي، فلا نستبعد رحمة الله منه، فإن الله تعالى قد يتوب عليه. فهؤلاء الذين شجوا نبيهم لما استبعد النبي صلى الله عليه وسلم فلاحهم، قيل له: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } 6.





1 سورة آل عمران آية : 128.
2 رواه: البخاري معلقا بصيغة الجزم (كتاب المغازي, باب ليس لك من الأمر شيء , 3/108), ومسلم موصولا (كتاب الجهاد, باب غزوة أحد, 3/1417).
3 مسلم : الجهاد والسير (1791) , والترمذي : تفسير القرآن (3002) , وابن ماجه : الفتن (4027) , وأحمد (3/253).
4 سورة آل عمران آية : 128.


5 مسلم : الجهاد والسير (1791) , والترمذي : تفسير القرآن (3002) , وابن ماجه : الفتن (4027) , وأحمد (3/253).
6 سورة آل عمران آية : 128.

ج / 1 ص -291- وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما: " أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر:....


والرجل المطيع الذي يمر بالعاصي من بني إسرائيل ويقول: " والله، لا يغفر الله لفلان. قال الله له: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ قد غفرت له وأحبطت عملك "1 فيجب على الإنسان أن يمسك اللسان لأن زلته عظيمة، ثم إننا نشاهد أو نسمع قوما كانوا من أكفر عباد الله وأشدهم عداوة انقلبوا أولياء لله، فإذا كان كذلك، فلماذا نستبعد رحمة الله من قوم كانوا عتاة؟! وما دام الإنسان لم يمت، فكل شيء ممكن، كما أن المسلم- نسأل الله الحماية- قد يزيغ قلبه لما كان فيه من سريرة فاسدة.


فالمهم أن هذا الحديث يجب أن يتخذ عبرة للمعتبر في أنك لا تستبعد رحمة الله من أي إنسان كان عاصيا.
قوله: "فنزلت": الفاء للسببية، وعليه، فيكون سبب نزول هذه الآية هذا الكلام: " كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم؟ "2.
قوله: "وفيه": أي: الصحيح. قوله: " إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر "3 قيد مكان الدعاء من الصلوات بالفجر، ومكانه من الركعات بالأخيرة، ومكانه من الركعة بما بعد الرفع من الركوع.



1 من حديث جندب, رواه: مسلم (كتاب البر والصلة, باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله, 4/2023).
2 مسلم : الجهاد والسير (1791) , والترمذي : تفسير القرآن (3002) , وابن ماجه : الفتن (4027) , وأحمد (3/253).
3 البخاري : المغازي (4070) , وأحمد (2/147).



ج / 1 ص -292- اللهم العن فلانا وفلانا، بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، فأنزل الله: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ }"1.
وفي رواية: " يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام، فنزلت: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ }"2.


قوله: "يقول: اللهم العن فلانا وفلانا": اللعن: الطرد والإبعاد عن رحمة الله، أي: أبعدهم عن رحمتك، واطردهم منها.
و "فلانا وفلانا": بينه في الرواية الثانية أنهم: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام.
قوله: "بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد": أي: يقول ذلك إذا رفع رأسه وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد.


قوله: "فأنزل الله: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } هنا قال: "فأنزل"، وفي الحديث السابق قال: "فنزلت"، وكلها بالفاء، وعلى هذا يكون سبب نزول الآية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء، وقوله: " كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ " ولا مانع أن يكون لنزول الآية سببان.


وقد أسلم هؤلاء الثلاثة وحسن إسلامهم رضي الله عنهم، فتأمل الآن أن العداوة قد تنقلب ولاية; لأن القلوب بيد الله- سبحانه وتعالى-، ولو أن الأمر كان على ظن النبي صلى الله عليه وسلم لبقي هؤلاء على الكفر حتى



1 رواه: البخاري (كتاب المغازي, باب ليس لك من الأمر شيء, 3/108).
2 رواها: البخاري (كتاب المغازي, باب ليس لك من الأمر شيء, 3/108) - وهي مرسلة عن سالم بن عبد الله, وقد وصلها أحمد; كما في "المسند" (2/93)-, والترمذي (رقم 3004), وابن جرير في "تفسيره" (4/58); من طريق عمر بن حمزة, عن سالم, عن ابن عمر. وعمر ضعيف; كما في "التقريب" (2/53).



ج / 1 ص -293- وفيه عن أبي هريرةرضي الله عنهقال: " قام

الموت، إذ لو قبلت الدعوة عليهم، وطردوا عن الرحمة، لم يبق إلا العذاب.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء، فالأمر كله لله، ولهذا هدى الله هؤلاء القوم، وصاروا من أولياء الله الذابين عن دينه، بعد أن كانوا من أعداء الله القائمين ضده، والله- سبحانه- يمن على من يشاء من عباده.


وليس بعيدا من ذلك قصة أصيرم بن عبد الأشهل1 الأنصاري، حيث كان معروفا بالعداوة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فلما جاءت وقعة أحد ألقى الله الإسلام في قلبه دون أن يعلم به النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من قومه، وخرج للجهاد وقتل شهيدا، فلما انتهت المعركة جعل الناس يتفقدون قتلاهم، فإذا هو في آخر رمق، فقالوا: ما جاء بك يا فلان؟ أحدب على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فأخبروا عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال: " هو من أهل الجنة " فهذا الرجل لم يصل لله ركعة واحدة، ومع هذا جعله الله من أهل الجنة، فالله حكيم يهدي من يشاء لحكمة، ويضل من يشاء لحكمة، فالمهم أننا لا نستبعد رحمة الله- عز وجل- من أي إنسان.
قوله: "قام": أي: خطيبا.



1 رواه: ابن هشام (2/90), وأحمد في "المسند" (5/428, 429). وفي "حاشية زاد المعاد" (3/201): "وسنده قوي".

ج / 1 ص -294- رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } 1 فقال : يا معشر قريش (أو كلمة نحوها) اشتروا أنفسكم،.

قوله: "أنزل عليه": أي: أنزل عليه بواسطة جبريل: (وأنذر عشيرتك. قوله: (وأنذر): أي: حذر وخوف، والإنذار: الإعلام المقرون بتخويف. قوله: (عشيرتك): العشيرة: قبيلة الرجل من الجد الرابع فما دون.


قوله: (الأقربين): أي: الأقرب فالأقرب، فأول من يدخل في عشيرة الرجل أولاده، ثم آباؤه، ثم إخوانه، ثم أعمامه، وهكذا. ويؤخذ من هذا أن الأقرب فالأقرب أولى بالإنذار، لأن الحكم المعلق على وصف يقوى بقوة هذا الوصف، وذلك أن الوصف الموجب للحكم كلما كان أظهر وأبين، كان الحكم فيه أظهر وأبين
وقوله: "حين أنزل عليه" يفيد أنه لم يتأخر صلى الله عليه وسلم بل قام، فقال: "يا معشر قريش!" أي: يا جماعة قريش. وقريش: هو فهر بن النضر بن مالك، أحد أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم
قوله: "أو كلمة نحوها": أي: أو قال كلمة نحوها، أي شبهها، وهذا من احتراز الرواة أنهم إذا شكوا أدنى شك قالوا: أو كما قال، أو كلمة نحوها، وما أشبه ذلك! وعليه ف "أو": للشك والتردد.


قوله: "اشتروا أنفسكم": أي: أنقذوها، لأن المشتري نفسه كأنه أنقذها من هلاك، والمشتري راغب، ولهذا عبر بالاشتراء كأنه يقول: اشتروا أنفسكم راغبين.



1 سورة الشعراء آية : 214.

ج / 1 ص -295- لا أغني عنكم من الله شيئا.
يا عباس بن عبد المطلب!.....


وفي قوله: "اشتروا أنفسكم" من الحض على هذا الأمر ما هو ظاهر، لأن المشتري يكون راغبا. قوله: لا أغني عنكم من الله شيئا: هذا هو الشاهد، أي: لا أدفع أو لا أنفع، أي: لا أنفعكم بدفع شيء عنكم دون الله، ولا أمنعكم من شيء أراده الله لكم، لأن الأمر بيد الله، ولهذا أمر الله نبيه بذلك، فقال: { قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً } 1 قوله: "شيئا": نكرة في سياق النفي، فتعم أي شيء.


قوله: "يا عباس بن عبد المطلب": هو عم النبي صلى الله عليه وسلم وعبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم وعباس، بالضم، لأن المنادى إذا كان معرفة يبنى على الضم، ونعته إذا كان مضافا ينصب، وهنا ابن عبد المطلب مضاف، ولهذا نصب.


فإن قيل: كيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم عبد المطلب مع أنه لا يجوز أن يضاف عبد إلا إلى الله- عز وجل-؟ فالجواب: إن هذا ليس إنشاء، بل هو خبر، فاسمه عبد المطلب، ولم يسمه النبي صلى الله عليه وسلم لكن اشتهر بعبد المطلب، ولهذا انتمى إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب 2،3


1 سورة آية : 21-22.
2 البخاري : الجهاد والسير (2864) , ومسلم : الجهاد والسير (1776) , والترمذي : الجهاد (1688) , وأحمد (4/280 ,4/281 ,4/289 ,4/304).
3 من حديث البراء بن عازب, رواه: البخاري (كتاب الجهاد, باب من صف أصحابه عند الهزيمة, 2/340), ومسلم (كتاب الجهاد, باب غزوة حنين, 3/1400).

ج / 1 ص -296- لا أغني عنك من الله شيئا. يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئا. ويا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا "1.


فلو فرض أن لك أبا يسمى عبد المطلب، أو عبد العزى; فإنك تنتسب إليه، ولا يعد هذا إقرارا، ولكنه خبر عن أمر واقع; كما لو قلت: كفر فلان، ونافق فلان، وما أشبه ذلك، ولكن إذا كان موجودا غيرنا اسمه إذا كان لا يجوز.
قوله: لا أغني عنك من الله شيئا: أي: لا أنفعك بشيء دون الله، ولا أمنعك من شيء أراده الله لك; فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يغني عن أحد شيئا حتى عن أبيه وأمه.


قوله: يا صفية عمة رسول الله!: يقال في إعرابها كما قيل في عباس بن عبد المطلب. قوله: يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت: أي: اطلبيني من مالي ما شئت; فلن أمنعك لأنه صلى الله عليه وسلم مالك لماله، ولكن بالنسبة لحق الله قال: لا أغني عنك من الله شيئا.


فهذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم لأقاربه الأقربين: عمه، وعمته، وابنته; فما بالك بمن هم أبعد؟! فعدم إغنائه عنهم شيئا من باب أولى; فهؤلاء الذين يتعلقون بالرسول صلى الله عليه وسلم ويلوذون به ويستجيرون به الموجودون في هذا الزمن وقبله قد غرهم الشيطان واجتالهم عن طريق الحق، لأنهم تعلقوا بما ليس بمتعلق، إذ الذي ينفع بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم هو الإيمان به واتباعه.



1 رواه: البخاري (كتاب التفسير, باب وأنذر عشيرتك الأقربين , 3/272), ومسلم (كتاب الإيمان, باب وأنذر عشيرتك الأقربين , 1/192).
ج / 1 ص -297- فيه مسائل:
الأولى:
تفسير الآيتين.
الثانية: قصة أحد.


أما دعاؤه والتعلق به ورجاؤه فيما يؤمل، وخشيته فيما يخاف منه، فهذا شرك بالله، وهو مما يبعد عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن النجاة من عذاب الله.
ففي الحديث امتثال النبي صلى الله عليه وسلم لأمر ربه في قوله تعالى: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } 1 فإنه قام بهذا الأمر أتم القيام، فدعا وعم وخصص، وبين أنه لا ينجي أحدا من عذاب الله بأي وسيلة، بل الذي ينجي هو الإيمان به واتباع ما جاء به.


وإذا كان القرب من النبي صلى الله عليه وسلم لا يغني عن القريب شيئا، دل ذلك على منع التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم لأن جاه النبي صلى الله عليه وسلم لا ينتفع به إلا النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كان أصح قولي أهل العلم تحريم التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم


فيه مسائل:

الأولى:
تفسير الآيتين: وهما آيتا الأعراف، وسبق ذلك في أول الباب، والاستفهام فيهما للتوبيخ والإنكار، وكذلك سبق تفسير الآية الثالثة آية فاطر.
الثانية: قصة أحد: يعني: حيث شج النبي صلى الله عليه وسلم.. الحديث.



1 سورة الشعراء آية : 214.

ج / 1 ص -298- الثالثة: قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء يؤمنون في الصلاة.
الرابعة: أن المدعو عليهم كفار.


الثالثة: قنوت سيد المرسلين... إلخ: أراد المؤلف بهذه المسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين، وأصحابه سادات الأولياء، ومع هذا ما أنقذوا أنفسهم، فكيف ينقذون غيرهم؟! وليس مراده رحمه الله مجرد إثبات القنوت والتأمين عليه، ولهذا جاءت العبارات بسيد وسادات؟ فلا أحد من هذه الأمة أقرب إلى الله من الرسول وأصحابه، ومع ذلك يلجؤون إلى الله- سبحانه- في كشف الكربات، ومن كانت هذه حاله، فكيف يمكن أن يلجأ إليه في كشف الكربات؟! فليس مراد المؤلف إثبات مسألة فقهية.


الرابعة: أن المدعو عليهم كفار: تؤخذ من قوله تعالى: { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ }، فهذا دليل على أنهم الآن ليسوا على حال مرضية، ومن المعلوم أن صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام وقت الدعاء عليهم كانوا كفارا.
وهذه المسألة- أي أن المدعو عليهم كفار- ترمي إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان يرى أنه دعا عليهم بحق، فقد قطع الله- سبحانه وتعالى- أن يكون له من الأمر شيء لأنه قد يقول قائل: إذا كانوا كفارا، أليس يملك الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم؟


نقول: حتى في هذه الحال لا يملك من أمرهم شيئا، هذا وجه قول المؤلف أن المدعو عليهم كفار، وليس مراده الإعلام بكفرهم، لأن هذا معلوم لا يستحق أن يعنون له، بل المراد في هذه الحال الذتي كان فيها هؤلاء كفارا لم يملك النبي شيئا بالنسبة إليهم.



ج / 1 ص -299- الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار، منها: شجهم نبيهم، وحرصهم على قتله، ومنها التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم.
السادسة: أنزل الله عليه في ذلك: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } السابعة: قوله: { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ }، فتاب عليهم فآمنوا.


الخامسة:
أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار...: أي: إنهم مع كفرهم كانوا معتدين، ومع ذلك قيل له في حقهم: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } وإلا، فهم شجوا النبي صلى الله عليه وسلم ومثلوا بالقتلى مثل حمزة بن عبد المطلب، وكذلك أيضا حرصوا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم مع أن كل هؤلاء فيهم من بني عمهم، وفيهم من الأنصار.


السادسة: أنزل الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } 1 أي: مع ما تقدم من الأمور التي تقتضي أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم حق بأن يدعو عليهم أنزل الله: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } 2 فالأمر لله وحده، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قطع عنه هذا الشيء، فغيره من باب أولى.


السابعة: قوله: { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } 3 فتاب عليهم، فآمنوا: وهذا دليل على كمال سلطان الله وقدرته، فهؤلاء الذين جرى منهم ما جرى تاب الله عليهم وآمنوا، لأن الأمر كله بيده سبحانه، وهو الذي يذل من يشاء ويعز من يشاء، ومن ذلك ما جرى من عمررضي الله عنهقبل إسلامه من العداوة الظاهرة للإسلام، وما جرى منه بعد إسلامه من الولاية والنصرة لدين الله تعالى، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن دونه لا يستطيعون أن يغيروا شيئا من أمر الله.



1 سورة آل عمران آية : 128.
2 سورة آل عمران آية : 128.
3 سورة آل عمران آية : 128.

ج / 1 ص -300- الثامنة: القنوت في النوازل


الثامنة: القنوت في النوازل: وهذه هي المسألة الفقهية، فإذا نزل بالمسلمين نازلة، فإنه ينبغي أن يُدعى لهم حتى تنكشف. وهذا القنوت مشروع في كل الصلوات، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه أحمد وغيره1؛ إلا أن الفقهاء رحمهم الله استثنوا الطاعون، وقالوا: لا يقنت له لعدم ورود ذلك، وقد وقع في عهد عمر 2رضي الله عنه ولم يقنت، ولأنه شهادة، فلا ينبغي الدعاء برفع سبب الشهادة.


وظاهر السنة أن القنوت إنما يشرع في النوازل التي تكون من غير الله، مثل: إيذاء المسلمين والتضييق عليهم، أما ما كان من فعل الله؛ فإنه يشرع له ما جاءت به السنة، مثل الكسوف؛ فيشرع له صلاة الكسوف، والزلازل شرع لها صلاة الكسوف كما فعل ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: هذه صلاة الآيات، والجدب يشرع له الاستسقاء، وهكذا. وما علمت لساعتي هذه أن القنوت شرع لأمر نزل من الله، بل يدعى له بالأدعية الواردة الخاصة، لكن إذا ضيق على المسلمين وأوذوا وما أشبه ذلك؛ فإنه يقنت اتباعا للسنة في هذا الأمر.


ثم من الذي يقنت: الإمام الأعظم، أو إمام كل مسجد، أو كل مصل؟
المذهب: أن الذي يقنت هو الإمام الأعظم فقط الذي هو الرئيس الأعلى للدولة. وقيل: يقنت كل إمام مسجد. وقيل: يقنت كل مصل،



(1) رواه: أحمد في "المسند" (1/ 301)، وأبو داود (كتاب الصلاة، باب القنوت في الصلاة، رقم 1443)- وسكت عنه-، والحاكم (1/ 255). وصححه ووافقه الذهبي.
(2( رواه: البخاري (كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، 4/ 41)، ومسلم (كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة، رقم 2218).

ج / 1 ص -301- التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم.


وهو الصحيح؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" 1، وهذا يتناول قنوته صلى الله عليه وسلم عند النوازل.
·التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم: وهم: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام; فسماهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، لكن هل هذا مشروع أو جائز؟.


الجواب: هذا جائز، وعليه، فإذا كان في تسمية المدعو عليهم مصلحة; كانت التسمية أولى، ولو دعا إنسان لأناس معينين في الصلاة جاز; لأنه لا يعد من كلام الناس، بل هو دعاء، والدعاء مخاطبة الله تعالى، ولا يدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس "2.
مسألة: هل الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء أو لعن المعينين؟
الجواب: المنهي عنه هو لعن الكفار في الدعاء على وجه التعيين، أما لعنهم عموما; فلا بأس به، وقد ثبت عن أبي هريرة أنه كان يقنت ويلعن الكفرة3 عموما، ولا بأس بدعائنا على الكافر بقولنا: اللهم! أرح المسلمين منه، واكفهم شره، واجعل شره في نحره، ونحو ذلك.



(1) من حديث مالك بن الحويرث، رواه: البخاري (كتاب الأذان، باب الأذان للمسافرين، 1/212).
2 من حديث معاوية بن الحكم السلمي, رواه: مسلم (كتاب المساجد, باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته, 1/381, 382).
3 ولفظ ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه; أنه قال: "لأقربن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم, فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخرى من صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح بعدما يقول: سمع الله لمن حمده; فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار". أخرجه: البخاري في (الأذان, باب فضل اللهم ربنا ولك الحمد, 797), ومسلم في (المساجد, باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة, 676),.

ج / 1 ص -302-


أما الدعاء بالهلاك لعموم الكفار; فإنه محل نظر، ولهذا لم يدع النبي صلى الله عليه وسلم على قريش بالهلاك، بل قال: " اللهم ! عليك بهم، اللهم! اجعلها عليهم سنين كسني يوسف "1 وهذا دعاء عليهم بالتضييق، والتضييق قد يكون من مصلحة الظالم بحيث يرجع إلى الله عن ظلمه.


فالمهم أن الدعاء بالهلاك لجميع الكفار عندي تردد فيه. وقد يستدل بدعاء خبيب حيث قال: "اللهم أحصهم عددا، ولا تبق منهم أحدا"2 على جواز ذلك; لأنه وقع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولأن الأمر وقع كما دعا; فإنه ما بقي منهم أحد على رأس الحول، ولم ينكر الله تعالى ذلك، ولا أنكره النبي صلى الله عليه وسلم بل إن إجابة الله دعاءه يدل على رضاه به وإقراره عليه.


فهذا قد يستدل به على جواز الدعاء على الكفار بالهلاك، لكن يحتاج أن ينظر في القصة; فقد يكون لها أسباب خاصة، لا تتأتى في كل شيء. ثم إن خبيبا دعا بالهلاك لفئة محصورة من الكفار لا لجميع الكفار.


وفيه أيضا إن صح الحديث: دعاؤه على عتبة بن أبي لهب: "اللهم! سلط عليه كلبا من كلابك"3 فيه دليل على الدعاء بالهلاك، لكن هذا على شخص معين لا على جميع الكفار.



1 من حديث ابن مسعود, رواه: البخاري (كتاب التفسير, باب سورة الدخان, 3/289), ومسلم (كتاب صفات المنافقين, باب الدخان, 4/2155).
2 من حديث أبي هريرة, رواه: البخاري (كتاب المغازي, 3/89).
3 رواه; ابن عساكر في ترجمة عتبة بن أبي لهب. وفيه عنعنة ابن إسحاق. ورواه: الحاكم في "المستدرك" من طريق أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه (كتاب التفسير, تفسير سورة أبي لهب, 2/539), وقال: "صحيح الإسناد,. ولم يخرجاه", ووافقه الذهبي, وحسنه ابن حجر في "فتح الباري" (4/39).

ج / 1 ص -303- العاشرة: لعن المعين في القنوت.


الحادية عشرة: قصته صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } 1.
الثانية عشرة: جده صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر; بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن.


العاشرة: لعن المعين في القنوت هذا غريب، فإن أراد المؤلف رحمه الله أن هذا أمر وقع، ثم نهي عنه; فلا إشكال، وإن أراد أنه يستفاد من هذا جواز لعن المعين في القنوت أبدا; فهذا فيه نظر لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.


الحادية عشرة: قصته صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } وهي أنه لما نزلت عليه الآية نادى قريشا; فعم، ثم خص، فامتثل أمر الله في هذه الآية.
الثانية عشرة: جده صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون: أي: اجتهاده صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، بحيث قالوا: إن محمدا جن، كيف يجمعنا وينادينا هذا النداء؟ !


وقوله: "وكذلك لو يفعله مسلم الآن": أي: لو أن إنسانا جمع الناس، ثم قام يحذرهم كتحذير النبي صلى الله عليه وسلم لقالوا: مجنون. إلا إذا كان معتادا عند الناس، قال تعالى: { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } 2، وقال تعالى: { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } 3 فهذا يختلف باختلاف البلاد والزمان، ثم إنه يجب على الإنسان أن يبذل جهده واجتهاده في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والنبي صلى الله عليه وسلم قام بهذا الأمر ولم يبال بما رمي به من الجنون.



1 سورة الشعراء آية : 214.
2 سورة آل عمران آية : 140.
3 سورة النور آية : 44.

ج / 1 ص -304- الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: " لا أغني عنك من الله شيئا " حتى قال: " يا فاطمة بنت محمد! لا أغني عنك من الله شيئا "1 فإذا صرح وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئا عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان بأنه لا يقول إلا الحق. ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم; تبين له ترك التوحيد وغربة الدين.


الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: "لا أغني عنك من الله شيئا"...: صدق رحمه الله فيما قال; فإنه إذا كان هذا القائل سيد المرسلين، وقاله لسيدة نساء العالمين، ثم نحن نؤمن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، وأنه لا يغني عن ابنته شيئا; تبين لنا الآن أن ما يفعله خواص الناس ترك للتوحيد; لأنه يوجد أناس خواص يرون أنفسهم علماء، ويراهم من حولهم علماء وأهلا للتقليد، يدعون الرسول صلى الله عليه وسلم لكشف الضر وجلب النفع دعوة صريحة، ويرددون:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
وغير ذلك من الشرك، وإذا أنكر عليهم ذلك ردوا على المنكر بأنه لا يعرف حق الرسول صلى الله عليه وسلم ومقامه عند الله، وأنه سيد الكون، وما خلقت الجن والإنس إلا من أجله، وأنه خلق من نور العرش، ويلبسون بذلك على العامة، فيصدقهم البعض لجهلهم، ولو جاءهم من يدعوهم إلى التوحيد لم يستجيبوا له; لأن سيدهم وعالمهم على خلاف التوحيد،{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ }2 ثم إن المؤمن عاطفته وميله للرسول صلى الله عليه وسلم أمر لا ينكر، لكن الإنسان لا ينبغي له أن يحكم العاطفة، بل يجب عليه أن يتبع ما


1 البخاري : الوصايا (2753) , ومسلم : الإيمان (204 ,206) , والنسائي : الوصايا (3646 ,3647) , وأحمد (2/448) , والدارمي : الرقاق (2732).
2 سورة البقرة آية : 145.

ج / 1 ص -305-


دل عليه الكتاب والسنة وأيده العقل الصريح السالم من الشبهات والشهوات.
ولهذا نعى الله - سبحانه - على الكفار الذين اتبعوا ما ألفوا عليه آباءهم بأنهم لا يعقلون، وكلام المؤلف حق; فإن من تأمل ما عليه الناس اليوم في كثير من البلدان الإسلامية تبين له ترك التوحيد وغربة الدين.





المصدر :


كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 29-01-2015 10:05AM

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب قول الله تعالى :{ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }1.

ج / 1 ص -306- باب قول الله تعالى :{ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }1.


مناسبة الترجمة أن هذا من البراهين الدالة على أنه لا يستحق أحد أن يكون شريكا مع الله; لأن الملائكة وهم أقرب ما يكون من الخلق لله عزوجل ما عدا خواص بني آدم يحصل منهم عند كلام الله - سبحانه - الفزع.
قوله تعالى:{ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ }، قال ذلك ولم يقل: "فزعت قلوبهم"; إذ عن تفيد المجاوزة، والمعنى: جاوز الفزع قلوبهم; أي: أزيل الفزع عن قلوبهم. والفزع: الخوف المفاجئ; لأن الخوف المستمر لا يسمى فزعا. وأصله: النهوض من الخوف.


وقوله: "عن قلوبهم"; أي: قلوب الملائكة; لأن الضمير يعود عليهم بدليل ما سيأتي من حديث أبي هريرة، ولا أحد من الخلق أعلم بتفسير القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم
قوله تعالى: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ }، جواب الشرط: والمعنى: قال بعضهم لبعض: وإنما قلنا ذلك لأن في الكلام قائلا ومقولا له، فلو جعلنا




1 سورة سبأ آية : 23.




ج / 1 ص -307-


الضمير في قالوا عائدا على الجميع; فأين المقول له؟ والمعنى: أي شيء قال ربكم؟
وإعراب ماذا على أوجه:
1. ما: اسم استفهام مبتدأ، وذا: اسم موصول خبر; أي: ما الذي.
2. ماذا: اسم استفهام مركب من ما وذا.
3. ما: اسم استفهام، وذا زائدة. قال ابن مالك:

ومثل ماذا بعدما استفهام أو من إذا لم تلغ في الكلام


وقوله: {قَالُوا الْحَقَّ }أي: قال المسئولون. والحق: صفة لمصدر محذوف مع عامله، والتقدير قال القول الحق.
والمعنى: أن الله - سبحانه - قال القول الحق لأنه سبحانه هو الحق، ولا يصدر عنه إلا الحق ولا يقول ولا يفعل إلا الحق. والحق في الكلام هو الصدق في الأخبار، والعدل في الأحكام; كما قال الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } 1. ولا يفهم من قوله: { قَالُوا الْحَقَّ } أنه قد يكون قوله باطلا، بل هو بيان للواقع، فإن قيل: ما دام بيانا للواقع ومعروفا عند الملائكة أنه لا يقول إلا الحق; فلماذا الاستفهام؟ !
أجيب: أن هذا من باب الثناء على الله بما قال، وأنه سبحانه لا يقول إلا الحق.


قوله تعالى: { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }، أي: العلي في ذاته وصفاته، والكبير: ذو الكبرياء، وهي العظمة التي لا يدانيها شيء، أي العظيم الذي لا أعظم منه.




1 سورة الأنعام آية : 115.




ج / 1 ص -308-


مناسبة الآية للتوحيد:
أنه إذا كان منفردا في العظمة والكبرياء; فيجب أن يكون منفردا في العبادة.

والعلو قسمان:
الأول: علو الصفات، وقد أجمع عليه كل من ينتسب للإسلام حتى الجهمية ونحوهم.
الثاني: علو الذات، وقد أنكره كثير من المنتسبين للإسلام مثل الجهمية وبعض الأشاعرة غير المحققين منهم; فإن المحققين منهم أثبتوا علو الذات. وعلوه لا ينافي كونه مع الخلق يعلمهم ويسمعهم ويراهم; لأنه ليس كمثله شيء في جميع صفاته.


وفي الآية فوائد:
1. أن الملائكة يخافون الله; كما قال تعالى: { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } 1.
2. إثبات القلوب للملائكة; لقوله: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } 2.
3. إثبات أنهم أجسام وليسوا أرواحا مجردة من الجسمية، وهو أمر معلوم بالضرورة، قال تعالى: { جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ } 3، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل له ست مئة جناح قد سد الأفق4 فالقول بأنهم أرواح فقط إنكار لهم في الواقع، وهو قول باطل. لكنهم لا يأكلون ولا يشربون، وإنما أكلهم وشربهم التسبيح بدليل قوله تعالى: { يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ } 5، ففي هذا




1 سورة النحل آية : 50.
2 سورة سبأ آية : 23.
3 سورة فاطر آية : 1.
4 رواه: البخاري من حديث عائشة (كتاب بدء الخلق, باب إذا قال أحدكم آمين, 2/427), مسالم (كتاب الإيمان, باب معنى قول الله -عز وجل-: ولقد رآه نزلة أخرى , 1/ 158).
5 سورة الأنبياء آية : 20.




ج / 1 ص -309-


دليل على أن ليلهم ونهارهم مملوءان بذلك، ولهذا جاء: { يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ } ولم يقل: يسبحون في الليل; أي: أن تسبيحهم دائم، والتسبيح تنزيه الله عما لا يليق به.
4. أن لهم عقولا; إذ إن القلوب هي محل العقول خلافا لمن قال: إنهم لا يعقلون، ولأنهم يسبحون الله، ويطوفون بالبيت المعمور.


5. إثبات القول لله - سبحانه وتعالى -، وأنه متعلق بمشيئته; لأنه جاء بالشرط: إذا فزع، وإذا الشرطية تدل على حدوث الشرط والمشروط، خلافا للأشاعرة الذين يقولون: إن الله لا يتكلم بمشيئة، وإنما كلامه هو المعنى القائم بنفسه; فهو قائم بالله أزلي أبدي; كقيام العلم والقدرة والسمع والبصر. ولا ريب أن هذا باطل، وأن حقيقته إنكار كلام الله، ولهذا يقولون: إن الله يتكلم بكلام نفسي أزلي أبدي، كما يقولون: هذا الكلام الذي سمعه موسى، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم ونزل به جبريل على الرسول صلى الله عليه وسلم شيء مخلوق للتعبير عن كلام الله القائم بنفسه. وهذا في الحقيقة قول الجهمية; كما قال بعض المحققين من الأشاعرة: ليس بيننا وبين الجهمية فرق، فإننا اتفقنا على أن هذا الذي بين دفتي المصحف مخلوق، لكن نحن قلنا عبارة عن كلام الله، وهم قالوا: هو كلام الله. فالجهمية خير منهم في أنهم يقولون: هذا كلام الله، لكنهم شر منهم في كونهم يصرحون أن كلام الله مخلوق.


6. إثبات أن قول الله حق، وهذا جاء في القرآن: { وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } 1، وقال: { فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ } 2 ; فالله تعالى لا يقول إلا حقا; لأنه هو الحق، ولا يصدر عن الحق إلا الحق.




1 سورة الأحزاب آية : 4.
2 سورة ص آية : 84.




ج / 1 ص -310- وفي الصحيح عن أبي هريرةرضي الله عنهعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قضى الله الأمر في السماء; ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، ينفذهم ذلك "1...


قوله: "وفي الصحيح": سبق الكلام عليها.
قوله: "قضى الله الأمر في السماء": المراد بالأمر الشأن، ويكون القضاء بالقول; لقوله تعالى: { وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } 2.
قوله: "خضعانا": أي: خضوعا; لقوله: "كأنه"; أي: صوت القول في وقعه على قلوبهم.
قوله: "صفوان": هو الحجر الأملس الصلب، والسلسلة عليه يكون لها صوت عظيم.
وليس المراد تشبيه صوت الله تعالى بهذا; لأن الله{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } 3، بل المراد تشبيه ما يحصل لهم من الفزع عندما يسمعون كلامه بفزع من يسمع سلسلة على صفوان.


قوله: "ينفذهم ذلك": النفوذ: هو الدخول في الشيء، ومنه: نفذ السهم في الرمية; أي: دخل فيها، والمعنى: إن هذا الصوت يبلغ منهم كل مبلغ.
قوله: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } 4 أي: أزيل عنها الفزع.
قوله: "فقالوا": أي: قال بعضهم لبعض.
قوله: { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ } 5 أي: قالوا: قال الحق; أي: قال القول الحق; فالحق صفة لمصدر محذوف مع عامله، تقديره: قال القول




1 البخاري : تفسير القرآن (4800) , والترمذي : تفسير القرآن (3223) , وابن ماجه : المقدمة (194).
2 سورة البقرة آية : 117.
3 سورة الشورى آية : 11.
4 سورة سبأ آية : 23.
5 سورة سبأ آية : 23.




ج / 1 ص -311- { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } 1


الحق، وهذا الجواب الذي يقولونه هل هم يقولونه لأنهم سمعوا ما قال وعلموا أنه حق، أو أنهم كانوا يعلمون أنه لا يقول إلا الحق؟ يحتمل أن يكونوا قد علموا ما قال، وقالوا: إنه الحق; فيكون هذا عائدا إلى الوحي الذي تكلم الله به. ويحتمل أنهم قالوا ذلك لعلمهم أن الله - سبحانه - لا يقول إلا الحق; فلذلك قالوا هذا لأن ذلك صفته سبحانه وتعالى.


وهذا الحديث مطابق للآية تماما، وعلى هذا يجب أن يكون هذا تفسير الآية، ولا يقبل لأي قائل أن يفسرها بغيره; لأن تفسير القرآن إذا كان بالقرآن أو السنة; فإنه نص لا يمكن لأحد أن يتجاوزه.

وأما تفسير الصحابي; فإنه حجة عند أكثر المفسرين، وأما التابعين; فإن أكثر العلماء يقول: إنه ليس بحجة إلا من اختص منهم بشيء; كمجاهد; فإنه عرض المصحف على ابن عباس عشرين مرة أو أكثر، يقف عند كل آية ويسأله عن معناها، وأما من بعد التابعين; فليس تفسيره حجة على غيره، لكن إن أيده سياق القرآن كان العمدة سياق القرآن.


فلا يقبل أن يقال: إذا فزع عن قلوب الناس يوم القيامة، بل نقول: الرسول صلى الله عليه وسلم فسر الآية بتفسير غيبي لا مجال للاجتهاد فيه، وما كان غيبيا وجاء به النص; فالواجب علينا قبوله، ولهذا نقول في مسألة ما يعذر فيه بالاجتهاد وما لا يعذر: إنه ليس عائدا على أن هذا من الأصول وهذا من الفروع; كما قال بعض العلماء: الأصول لا مجال للاجتهاد فيها، ويخطئ المخالف مطلقا، بخلاف الفروع.




1 سورة سبأ آية : 23.




ج / 1 ص -312- فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض،....


لكن شيخ الإسلام ابن تيمية أنكر تقسيم الدين إلى أصول وفروع، ويدل على بطلان هذا التقسيم: أن الصلاة عند الذين يقسمون من الفروع مع أنها من أجل الأصول.
والصواب: أن مدار الإنكار على ما للاجتهاد فيه مجال وما لا مجال فيه، فالأمور الغيبية ينكر على المخالف فيها ولا يعذر، سواء كانت تتعلق بصفات الله أو اليوم الآخر أو غير ذلك، لأنه لا مجال للاجتهاد فيها.


أما الأمور العملية التي للاجتهاد فيها مجال; فلا ينكر على المخالف فيها إلا إذا خالف نصا صريحا، وإن كان يصح تضليله بهذه المخالفة; كقول ابن مسعود في بنت وبنت ابن وأخت: للبنت النصف، ولابنة الابن السدس، تكملة الثلثين، وما بقي; فللأخت وذكر له قسمة أبي موسى: للابنة النصف، وللأخت النصف وقوله:ائت ابن مسعود; فسيتابعني فأخبر ابن مسعود بذلك، فقال: قد ضللت إذا، وما أنا من المهتدين1.


قوله: "فيسمعها مسترق السمع": أي: هذه الكلمة التي تكلمت بها الملائكة. و "مسترق": مفرد مضاف; فيعم جميع المسترقين. وتأمل كلمة "مسترق"; ففيها دليل على أنه يبادر، فكأنه يختلسها اختلاسا بسرعة، ويؤيده قوله: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} 2.
قوله: "ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض": يحتمل أن يكون




1 رواه: البخاري (كتاب الفرائض, باب ميراث ابنة ابن مع ابنة, 4/238).
2 سورة الصافات آية : 10.




ج / 1 ص -313- وصفه سفيان بكفه، فحرفها وبدد بين أصابعه، فيسمع الكلمة، فيلقيها إلى من تحته.
ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن،.....


هذا من كلامه صلى الله عليه وسلم أو من كلام أبي هريرة، أو من كلام سفيان. قوله: "وصفه سفيان بكفه": أي: أنها واحد فوق الثاني، أي الأصابع; فالجن يتراكبون واحدا فوق الآخر، إلى أن يصلوا إلى السماء، فيقعدون لكل واحد مقعد خاص، قال تعالى: { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً } 1.


قوله: "فيسمع الكلمة، فيلقيها إلى من تحته": أي: يسمع أعلى المسترقين الكلمة، فيلقيها إلى من تحته; أي: يخبره بها، و"من": اسم موصول، وقوله: "تحته" شبه جملة صلة الموصول لأنه ظرف.
قوله: "ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها": أي: يلقي الكلمة آخرهم الذي في الأرض على لسان الساحر أو الكاهن. و السحر عزائم ورقى وتعوذات تؤثر في بدن المسحور وقلبه وعقله وتفكيره. والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. وقد التبس على بعض طلبة العلم; فظنوا أنه كل من يخبر عن الغيب ولو فيما مضى; فهو كاهن، لكن ما مضى مما يقع في الأرض ليس غيبا مطلقا، بل هو غيب نسبي، مثل ما يقع في المسجد يعد غيبا بالنسبة لمن في الشارع، وليس غيبا بالنسبة لمن في المسجد. وقد يتصل الإنسان بجني، فيخبره عما حدث في الأرض ولو كان بعيدا; فيستخدم الجن، لكن ليس على وجه.




1 سورة الجن آية : 9.




ج / 1 ص -314- فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها،.....


محرم; فلا يسمى كاهنا; لأن الكاهن من يخبر عن المغيبات في المستقبل.
وقيل: الذي يخبر عما في الضمير، وهو نوع من الكهانة في الواقع، إذا لم يستند إلى فراسة ثاقبة، أما إذا كان يخبر عما في الضمير استنادا إلى فراسة; فإنه ليس من الكهانة في شيء; لأن بعض الناس قد يفهم ما في الإنسان اعتمادا على أسارير وجهه ولمحاته، وإن كان لا يعلمه على وجه التفصيل، لكن يعلمه على سبيل الإجمال.


فمن يخبر عما وقع في الأرض ليس من الكهان، ولكن ينظر في حاله، فإذا كان غير موثوق في دينه; فإننا لا نصدقه; لأن الله تعالى يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } 1. وإن كان موثوقا في دينه، ونعلم أنه لا يتوصل إلى ذلك بمحرم من شرك أو غيره; فإننا لا ندخله في الكهان الذين يحرم الرجوع إلى قولهم، ومن يخبر بأشياء وقعت في مكان ولم يطلع عليها أحد دون أن يكون موجودا فيه; فلا يسمى كاهنا; لأنه لم يخبر عن مغيب مستقبل يمكن أن يكون عنده جني يخبره، والجني قد يخدم بني آدم بغير المحرم; إما محبة لله عزوجل أو لعلم يحصله منه، أو لغير ذلك من الأغراض المباحة.


والسحرة قد يكون لهم من الجن من يسترق لهم السمع. ولا يصل هؤلاء المسترقون إلا إلى السماء الدنيا; لقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً } 2; فلا يمكن نفوذه إلى ما فوق.


قوله: "فربما أدركه الشهاب..." إلخ: الشهاب: جزء منفصل من النجوم، ثاقب، قوي، ينفذ فيما يصطدم به.
قال العلماء في تفسير قوله تعالى: { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ




1 سورة الحجرات آية : 6.
2 سورة الأنبياء آية : 32.




ج / 1 ص -315- وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مئة كذبة.
فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء "1.


وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ } 2أي: جعلنا شهابها الذي ينطلق منها; فهذا من باب عود الضمير إلى الجزء لا إلى الكل. فالشهب: نيازك تنطلق من النجوم. وهي كما قال أهل الفلك: تنزل إلى الأرض، وقد تحدث تصدعا فيها. أما النجم، فلو وصل إلى الأرض; لأحرقها.
واختلف العلماء: هل المسترقون انقطعوا عن الاستراق بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأبد أو انقطعوا في وقته فقط؟ والثاني هو الأقرب: أنهم انقطعوا في وقت البعثة فقط، حتى لا يلتبس كلام الكهان بالوحي، ثم بعد ذلك زال السبب الذي من أجله انقطعوا.


قوله: "فيكذب معها مئة كذبة": هل هذا على سبيل التحديد، أو المراد المبالغة، أي أنه يكذب معها كذبات كثيرة؟ الثاني هو الأقرب، وقد تزيد عن ذلك وقد تنقص; فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ والناس في هذه الأمور الغريبة على حسب ما أخبر به المخبر يأخذون كل ما يقوله صدقا، فإذا أخبر بشيء فوقع، ثم أخبر بشيء ثان; قالوا: إذن لا بد أن يصدق.


فوائد الحديث:
1. إثبات القول لله عزوجل
2. عظمة الله - سبحانه وتعالى -.




1 سورة الملك آية : 5.
2 رواه: البخاري (كتاب التفسير, باب "إلا من استرق السمع" , 3/247).




ج / 1 ص -316-


3. إثبات الأجنحة للملائكة.
4. خوف الملائكة من الله عزوجل وخضوعهم له.
5. أن الملائكة يتكلمون ويعقلون.
6. أنه لا يصدر عن الله إلا الحق.
7. أن الله - سبحانه - يمكن هؤلاء الجن من الوصول إلى السماء فتنة للناس، وهي ما يلقونه على الكهان، فيحصل بذلك فتنة، والله عزوجل حكيم.
وقد يوجد الله أشياء تكون ضلالا لبعض الناس، لكنها لبعضهم هدى امتحانا وابتلاء.


8. كثرة الجن; لأنهم يترادفون إلى السماء، ومعنى ذلك أنهم كثيرون جدا، وأجسامهم خفيفة يطيرون طيرانا.
وذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في السحرة الذين يستخدمون الجن وتطير بهم: أنهم يصبحون يوم عرفة في بلادهم ويقفون مع الناس في عرفة، وهذا ممكن الآن في الطائرات، لكن في ذلك الوقت ليس هناك طائرات; فتحملهم الشياطين، ويجعلون للناس المكانس التي تكنس بها البيوت، ويقول: أنا أركب المكنسة وأطير بها إلى مكة، فيفعلون هذا، وشيخ الإسلام يقول: إن هؤلاء كذبة ومستخدمون للشياطين، ويسيئون حتى من الناحية العملية; لأنهم يمرون الميقات ولا يحرمون منه.


9. أن الكهان من أكذب الناس، ولهذا يضيفون إلى ما سمعوا كذبات كثيرة يضللون بها الناس، ويتوصلون بها إلى باطلهم تارة بالترهيب




ج / 1 ص -317- وعن النواس بن سمعان (); قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر; تكلم بالوحي;
ـ

وتارة بالترغيب، كأن يقولوا: ستقوم القيامة يوم كذا وكذا، وسيجري عليك كذا من موت أو سرقة مال ونحو ذلك.
10. أن الساحر يصور للمسحور غير الواقع، وفي هذا تحذير من أهل التمويه والتلبيس، وأنهم إن صدقوا في شيء; فيجب الحذر منهم بكل حال.


قوله: "وعن النواس...": هذا الحديث لم يخرجه المؤلف، لكن قد ذكره ابن كثير من رواية ابن أبي حاتم، وذكر فيه علة، وهي أن في سنده الوليد بن مسلم، وهو مدلس وقد رواه عن شيخه بالعنعنة; فيكون في الحديث ضعف، إلا أنه قد روى مسلم1 وأحمد من حديث ابن عباس حديثا قد يكون شاهدا له، حيث أخبر أن الله إذا تكلم بالوحي سمعه حملة العرش، فسبحوا، ثم سمعه أهل كل سماء، فيسبحون كما سبح أهل السماء السابعة، حتى يصل إلى السماء الدنيا، فتخطفه الجن أو الشياطين. وهذا وإن لم يكن فيه ذكر رجفة السماء أو السجود; لكن يدل على أن له أصلا.


قوله: "إذا أراد أن يوحي بالأمر": أي: بالشأن.
قوله: "تكلم بالوحي": جملة شرطية تقتضي تأخر المشروط عن




1 في (كتاب السلام, باب تحريم الكهانة, 4/1750).




ج / 1 ص -318- أخذت السماوات منه رجفة (أو قال: رعدة شديدة) خوفا من الله عزوجل.
فإذا سمع ذلك أهل السماوات; صعقوا وخروا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد،


الشرط; فالإرادة سابقة، والكلام لاحق; فيكون فيه رد على الأشاعرة الذين يقولون: إن الله لا يتكلم بإرادة، وإن كلامه أزلي; كالسمع والبصر; ففيه إثبات الكلام الحادث، ولا ينقص كمال الله إذا قلنا: إنه يتكلم بما شاء، كيف شاء، متى شاء، بل هذا صفة كمال، لكن النقص أن يقال: إنه لا يتكلم بحرف وصوت، إنما الكلام معنى قائم بنفسه.
قوله: "أخذت السماوات منه رجفة": السماوات: مفعول به جمع مؤنث سالم، أو ملحق به; فيكون منصوبا بالكسرة. ورجفة: فاعل.


قوله: "أو قال: رعدة شديدة": شك من الراوي، وإنما تأخذ السماوات الرجفة أو الرعدة; لأنه سبحانه عظيم يخافه كل شيء، حتى السماوات التي ليس فيها روح.
قوله: "فإذا سمع ذلك أهل السماوات; صعقوا وخروا لله سجدا": فإن قيل: كيف يمكن أن يصعقوا ويخروا سجدا؟
فالجواب: أن الصعق هنا - والله أعلم - يكون قبل السجود، فإذا أفاقوا سجدوا.


قوله:"فيكون أول من يرفع رأسه جبريل": أول: بالنصب على أنها خبر مقدم، وجبريل بالرفع على أنها اسم يكون مؤخرا.
قوله: "بما أراد": أي: بما شاء; لأن الله تعالى يتكلم بمشيئة.




ج / 1 ص -319- ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء، سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟
فيقول: قال الحق، وهو العلي الكبير، فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عزوجل "1.


قوله: "ثم يمر جبريل على الملائكة": لأنه يريد النزول من عند الله إلى حيث أمره الله أن ينتهي إليه بالوحي.
قوله: "قال الحق وهو العلي الكبير": سبق في تفسير ذلك أنه يحتمل، قال الحق في هذه القضية المعينة، أو قال الحق; لأن من عادته سبحانه ألا يقول إلا الحق، وأيا كان; فإن جبريل لا يخبر الملائكة بما أوحى الله إليه، بل يقول: قال الحق مبهما، ولهذا سمي عليه السلام بالأمين، والأمين: هو الذي لا يبوح بالسر.


قوله:"وهو العلي الكبير": تقدم الكلام عليه.
قوله: "فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل": أي: قال الحق. وهو العلي الكبير.
قوله: "فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله - عزوجل -": أي: يصل بالوحي إلى حيث أمره الله من الأنبياء والرسل.




1 رواه: ابن أبي عاصم في "السنة برقم (515), والطبري في "تفسيره" (22/63), وابن أبي حاتم; كما في "تفسير ابن كثير" (3/537), وابن خزيمة في "التوحيد" (ص 144), والبيهقي في "الأسماء والصفات" (ص 202), والبغوي في "تفسيره" (5/290). والحديث في إسناده نعيم بن حماد, ضعيف. "تهذيب التهذيب" (10/458). والوليد بن مسلم وهو مدلس, وقد عنعنه. انظر: "تقريب التهذيب" (2/336).




ج / 1 ص -320-


من فوائد الحديث:
1. إثبات الإرادة؛ لقوله: "إذا أراد الله"، وهي قسمان: شرعية، وكونية.
والفرق بينهما.
أولا: من حيث المتعلق; فالإرادة الشرعية تتعلق بما يحبه الله عزوجل سواء وقع أو لم يقع، وأما الكونية; فتتعلق بما يقع، سواء كان مما يحبه الله أو مما لا يحبه.
ثانيا: الفرق بينهما من حيث الحكم، أي حصول المراد; فالشرعية لا يلزم منها وقوع المراد، أما الكونية; فيلزم منها وقوع المراد. فقوله تعالى: { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } 1 هذه إرادة شرعية; لأنها لو كانت كونية لتاب على كل الناس، وأيضا متعلقها فيما يحبه الله وهو التوبة.
وقوله تعالى: { إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } 2 هذه كونية; لأن الله لا يريد الإغواء شرعا، أما كونا وقدرا فقد يريده.
وقوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } 3 هذه كونية، لكنها في الأصل شرعية; لأنه قال: { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } وقوله تعالى{ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } 4 هذه شرعية; لأن قوله: { وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }، لا يمكن أن تكون كونية; إذ إن العسر يقع، ولو كان الله لا يريده قدرا وكونا; لم يقع.
2. أن المخلوقات وإن كانت جمادا تحس بعظمة الخالق، قال تعالى: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } 5.




1 سورة النساء آية : 27.
2 سورة هود آية : 34.
3 سورة النساء آية : 26.
4 سورة البقرة آية : 185.
5 سورة الإسراء آية : 44.




ج / 1 ص -321-


3. إثبات أن الملائكة يتكلمون، ويفهمون، ويعقلون؛ لأنهم يسألون: { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } 1 ؟ ويجابون: قال: "الحق"، خلافا لمن قال: إنهم لا يوصفون بذلك; فيلزم من قولهم هذا أننا تلقينا الشريعة ممن لا عقول لهم، وهذا قدح في الشريعة بلا ريب.
4. إثبات تعدد السماوات; لقوله: "كلما مر بسماء".
5. أن لكل سماء ملائكة مخصصين; لقوله: "سأله ملائكتها".
6. فضيلة جبريل عليه السلام حيث إنه المعروف بأمانة الوحي، ولهذا قال ورقة بن نوفل: "هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى"2، والناموس بالعبرية بمعنى صاحب السر.
7. أمانة جبريل عليه السلام، حيث ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله عزوجل، فيكون فيه رد على الرافضة الكفرة الذين يقولون: بأن جبريل أمر أن يوحي إلى علي فأوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ويقولون: خان الأمين فصدها عن حيدرة، وحيدرة لقب لعلي بن أبي طالب; لأنه كان يقول في غزوة خيبر: أنا الذي سمتني أمي حيدرة3. وفي هذا تناقض منهم; لأن وصفه بالأمانة يقتضي عدم الخيانة.
8. إثبات العزة والجلال لله عزوجل لقوله: "عز وجل"، والعزة بمعنى الغلبة والقوة، وللعزيز ثلاثة معان:
1. عزيز: بمعنى ممتنع أن يناله أحد بسوء.




1 سورة سبأ آية : 23.
2 من حديث عائشة, رواه: البخاري (كتاب بدء الوحي, باب حدثنا يحيى بن بكير, 1/ 14), ومسلم (كتاب الإيمان, باب بدء الوحي, 1/139).
3 رواه: مسلم (كتاب الجهاد, باب غزوة ذي قرد, 3/1441).





ج / 1 ص -322- فيه مسائل:
الأولى:
تفسير الآية.
الثانية: ما فيها من الحجة على إبطال الشرك خصوصا من تعلق على الصالحين، وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب.


2. عزيز: بمعنى ذي قدر لا يشاركه فيه أحد.
3. عزيز: بمعنى غالب قاهر.
قال ابن القيم في النونية:

وهو العزيز فلن يرام جنابه أنى يرام جناب ذي السلطان

وهو العزيز القاهر الغلاب لم يغلبه شيء هذه صفتان

وهو العزيز بقوة هي وصفه فالعز حينئذ ثلاث معان


وأما "جل": فالجلال بمعنى العظمة التي ليس فوقها عظمة.

فيه مسائل:

الأولى: تفسير الآية: أي: قوله تعالى: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ }، الآية، وقد سبق تفسيرها.
الثانية: ما فيها من الحجة على إبطال الشرك: وذلك أن الملائكة وهم من هم في القوة والعظمة يصعقون ويفزعون من تعظيم الله; فكيف بالأصنام التي تعبد من دون الله وهي أقل منهم بكثير; فكيف يتعلق الإنسان بها؟ !




ج / 1 ص -323- الثالثة. تفسير قوله: { قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }.
الرابعة. سبب سؤالهم عن ذلك.
الخامسة. أن جبريل يجيبهم بعد ذلك بقوله: " قال كذا وكذا".
السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل.
السابعة: أنه يقول لأهل السماوات كلهم لأنهم يسألونه.


ولذلك قيل: إن هذه الآية هي التي تقطع عروق الشرك من القلب; لأن الإنسان إذا عرف عظمة الرب سبحانه؛ حيث ترتجف السماوات ويصعق أهلها بمجرد تكلمه بالوحي; فكيف يمكن للإنسان أن يشرك بالله شيئا مخلوقا ربما يصنعه بيده حتى كان جهال العرب يصنعون آلهة من التمر إذا جاع أحدهم أكلها؟ ! وينزل أحدهم بالوادي فيأخذ أربعة أحجار: ثلاثة يجعلها تحت القدر، والرابع - وهو أحسنها - يجعله إلها له.


الثالثة: تفسير قوله: { قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } وسبق تفسيرها.
الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك: فالسؤال: ماذا قال ربكم؟ وسببه شدة خوفهم منه وفزعهم خوفا من أن يكون قد قال فيهم ما لا يطيقونه من التعذيب.
الخامسة: أن جبريل يجيبهم بعد ذلك بقوله: قال كذا وكذا; أي: يقول: قال الحق.


السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل: لحديث النواس بن سمعان، وفيه فضيلة جبريل.
السابعة: أنه يقول لأهل السماوات كلهم لأنهم يسألونه: وفي هذا دليل على عظمته بينهم.




ج / 1 ص -324- الثامنة:أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم.
التاسعة: ارتجاف السماوات لكلام الله.
العاشرة: أن جبريل هو الذي يتتهي بالوحي إلى حيث أمره الله.
الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين.
الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضا.
الثالثة عشرة: إرسال الشهب.


الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم: تؤخذ من قوله: "فإذا سمع ذلك أهل السماوات; صعقوا وخروا لله سجدا".
لتاسعة: ارتجاف السماوات لكلام الله: لقوله: "أخذت السماوات منه رجفة"; أي: لأجله تعظيما لله.
العاشرة: أن جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره: أي: لا أحد يتولى إيصال الوحي غير جبريل حتى يوصله إلى حيث أمره به; لأنه الأمين على الوحي.
الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين: أي: الذين يسترقون ما يسمع في السماوات، فيلقونه على الكهان، فيزيد فيه الكهان وينقصون.
الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضا: وصفها سفيان رحمه الله بأن حرف يده وبدد بين أصابعه.
الثالثة عشرة: إرسال الشهب: يعني: التي تحرق مسترقي السمع، قال تعالى: { إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ } 1.



ــ
1 سورة الحجر آية : 18.




ج / 1 ص -325- الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه.
الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدق بعض الأحيان.
السادسة عشرة: كونه يكذب معها مئة كذبة.
السابعة عشرة: أنه لم يصدق كذبه إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء.


الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه.
الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدق بعض الأحيان: لأنه يأتي بما سمع من السماء ويزيد عليه، وإذا وقع ما في السماء; صار صادقا. اعتراض وجوابه: كيف يسمع المسترقون الكلمة وعندما يسأل الملائكة جبريل يجابون بقال الحق فقط؟


والجواب: إن الوحي لا يعلمه أهل السماء، بل هو من الله إلى جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أما الأمور القدرية التي يتكلم الله بها; فليست خاصة بجبريل. بل ربما يعلمها أهل السماء مفصلة، ثم يسمعها مسترقو السمع.
السادسة عشرة: كونه يكذب معها مئة كذبة: أي: يكذب مع الكلمة التي تلقاها من المسترق. وقوله:"مئة كذبة": هذا على سبيل المبالغة كما سبق وليس على سبيل التحديد.
السابعة عشرة: أنه لم يصدق إلا بتلك الكلمة التي سمعت من




ج / 1 ص -326- الثامنة عشرة. قبول النفوس للباطل! كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمئة؟ !
التاسعة عشرة. كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة ويحفظونها ويستدلون بها.
العشرون: إثبات الصفات خلافا للأشعرية المعطلة.


السماء: وأما ما قاله من عنده; فهو تخرص; فالكلمة التي سمعها تصدق، والذي يضيفه كله كذب يموه به على الناس.
الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمئة؟ !: وهذا صحيح، وليس صفة عامة لعامة الناس، بل لأهل الجهل والسفه; فهم يتعلقون بالكاهن من أجل صدقه مرة واحدة، وأما مئة كذبة، فلا يعتبرون بها، ولا شك أن بعض السفهاء يغترون بالصالح المغمور بالمفاسد، ولكن لا يغتر به أهل العقل والإيمان، ولهذا لما نزل قوله تعالى: { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } 1 تركهما كثير من الصحابة اعتبارا بالموازنة، والعاقل لا يمكن إذا وازن بين الأشياء أن يرجح جانب المفسدة; فهو وإن لم يأت الشرع بالتعيين يعرف ويميز بين المضار والمنافع.


التاسعة عشرة: كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة ويحفظونها... إلخ: الكلمة: هي الصدق; لأنها هي التي تروج بضاعتهم، ولو كانت بضاعتهم كلها كذبا ما راجت بين الناس.
العشرون: إثبات الصفات خلافا للأشعرية المعطلة: الأشعرية: هم الذين ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري وسموا معطلة لأنهم يعطلون




1 سورة البقرة آية : 219.




ج / 1 ص -327-


النصوص عن المعنى المراد بها ويعطلون ما وصف الله به نفسه. والمراد تعطيل أكثر ذلك فإنهم يعطلون أكثر الصفات ولا يعطلون جميعها، بخلاف المعتزلة; فالمعتزلة ينكرون الصفات ويؤمنون بالأسماء، هؤلاء عامتهم، وإلا; فغلاتهم ينكرون حتى الأسماء، وأما الأشاعرة; فهم معطلة اعتبارا بالأكثر; لأنهم لا يثبتون من الصفات إلا سبعا.

وصفاته تعالى لا تحصى، وإثباتهم لهذه السبع ليس كإثبات السلف; فمثلا: الكلام عند أهل السنة: أن الله يتكلم بمشيئته بصوت وحرف. والأشاعرة قالوا: الكلام لازم لذاته كلزوم الحياة والعلم، ولا يتكلم بمشيئة، وهذا الذي يسمع عبارة عن كلام الله وليس كلام الله، بل هو مخلوق; فحقيقة الأمر أنهم لم يثبتوا الكلام، ولهذا قال بعضهم: إنه لا فرق بيننا وبين المعتزلة في كلام الله; لأننا أجمعنا على أن ما بين دفتي المصحف مخلوق، وحجتهم في إثبات الصفات السبع: أن العقل دل عليها. وشبهتهم في إنكار البقية: زعموا أن العقل لا يدل عليها.


والرد عليهم بما يلي:
1- أن كون العقل يدل على الصفات السبع لا يدل على انتفاء ما سواها; فإن انتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول; فهب أن العقل لا يدل على بقية الصفات، لكن السمع دل عليها; فنثبتها بالدليل السمعي.
2- أنها ثابتة بالدليل العقلي بنظير ما أثبتم به هذه السبع; فمثلا: الإرادة ثابتة لله عندهم بدليل التخصيص، حيث إن الله جعل الشمس شمسا، والقمر قمرا، والسماء سماء والأرض أرضا، وكونه يميز بين ذلك؛ معناه: أنه سبحانه وتعالى يريد; إذ لولا الإرادة; لكانت الدنيا كلها سواء، فأثبتوها؛ لأن العقل دل عليها. فنقول لهم: الرحمة لا تمضي لحظة على




ج / 1 ص -328- الحادية والعشرون: التصريح بأن تلك الرجفة والغشي خوفا من الله عزوجل
الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجدا.


الخلق إلا وهم في نعمة من الله; فهذه النعم العظيمة من الله تدل على رحمته لخلقه أدل من التخصيص على الإرادة. والانتقام من العصاة يدل على بغضه لهم، وإثابة الطائعين ورفع درجاتهم في الدنيا والآخرة يدل على محبته لهم أدل على التخصيص من الإرادة، وعلى هذا فقس; فالمؤلف رحمه الله لما كان الأشعرية لا يثبتون إلا سبع صفات على خلاف في إثباتها مع أهل السنة جعلهم معطلة على سبيل الإطلاق، وإلا; فالحقيقة أنهم ليسوا معطلة على سبيل الإطلاق.


الحادية والعشرون: التصريح بأن تلك الرجفة والغشي خوفا من الله عزوجل فيدل على عظمة الخالق جل وعلا، حيث بلغ خوف الملائكة منه هذا المبلغ.
الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجدا: أي: تعظيما لله واتقاء لما يخشونه; فتفيد تعظيم الله عزوجل كالتي قبلها.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979






ام عادل السلفية 29-01-2015 10:17AM

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب الشفاعة.

ج / 1 ص -329- باب الشفاعة.

ذكر المؤلف رحمه الله الشفاعة في كتاب التوحيد; لأن المشركين الذين يعبدون الأصنام يقولون: إنها شفعاء لهم عند الله، وهم يشركون بالله - سبحانه وتعالى - فيها بالدعاء والاستغاثة وما أشبه ذلك. وهم بذلك يظنون أنهم معظمون لله، ولكنهم منتقصون له; لأنه عليم بكل شيء، وله الحكم التام المطلق والقدرة التامة; فلا يحتاج إلى شفعاء. ويقولون: إننا نعبدهم ليكونوا شفعاء لنا عند الله، فيقربونا إلى الله، وهم ضالون في ذلك; فهو سبحانه عليم وقدير وذو سلطان، ومن كان كذلك; فإنه لا يحتاج إلى شفعاء.
والملوك في الدنيا يحتاجون إلى شفعاء; إما لقصور علمهم، أو لنقص قدرتهم; فيساعدهم الشفعاء في ذلك، أو لقصور سلطانهم; فيتجرأ عليهم الشفعاء، فيشفعون بدون استئذان، ولكن الله عزوجل كامل العلم والقدرة والسلطان، فلا يحتاج لأحد أن يشفع عنده، ولهذا لا تكون الشفاعة عنده سبحانه إلا بإذنه لكمال سلطانه وعظمته.


ثم الشفاعة لا يراد بها معونة الله - سبحانه - في شيء مما شفع فيه; فهذا ممتنع كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله1 ولكن يقصد بها أمران، هما:


1 يأتي (ص 340).

ج / 1 ص -330- وقول الله عزوجل:{ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ } 1.


1. إكرام الشافع.
2. نفع المشفوع له.
والشفاعة لغة: اسم من شفع يشفع، إذا جعل الشيء اثنين، والشفع ضد الوتر، قال تعالى:{ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } 2. واصطلاحا: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة.


مثال جلب المنفعة: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة بدخولها3.
مثال دفع المضرة: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لمن استحق النار أن لا يدخلها.
وذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب عدة آيات:
الآية الأولى: قوله تعالى: { وَأَنْذِرْ بِهِ } 4 الإنذار: هو الإعلام المتضمن للتخويف، أما مجرد الخبر; فليست بإنذار، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم
والضمير في "به" يعود للقرآن; كما قال تعالى:{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا }
5، وقال تعالى:{ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } 6.


وقوله:{ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا }
7 أي: يخافون مما يقع لهم من سوء


1 سورة الأنعام آية : 51.
2 سورة الفجر آية : 3.
3 يأتي, (ص 333).
4 سورة الأنعام آية : 51.
5 سورة الشورى آية : 7.
6 سورة الأعراف آية : 2.
7 سورة الأنعام آية : 51.

ج / 1 ص -331- وقوله:{ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً } 1.


العذاب في ذلك الحشر. والحشر: الجمع، وقد ضمن هنا معنى الضم والانتهاء; فمعنى يحشرون; أي: يجمعون حتى ينتهوا إلى الله.
قوله:{ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ } 2 "ولي"; أي: ناصر ينصرهم. :{ وَلا شَفِيعٌ } أي: شافع يتوسط لهم، وهذا محل الشاهد. ففي هذه الآية نفي الشفاعة من دون الله أي من دون إذنه، ومفهومها: أنها ثابتة بإذنه، وهذا هو المقصود; الشفاعة من دونه مستحيلة، وبإذنه جائزة وممكنة. أما عند الملوك; فجائزة بإذنهم وبغير إذنهم، فيمكن لمن كان قريبا من السلطان أن يشفع بدون أن يستأذن. ويفيد قوله: {مِن دُونِهِ} أن لهم بإذنه وليا وشفيعا; كما قال تعالى:{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } 3.


· الآية الثانية: قوله تعالى: {لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ } 4 مبتدأ وخبر، وقدم الخبر للحصر، والمعنى: لله وحده الشفاعة كلها، لا يوجد شيء منها خارج عن إذن الله وإرادته; فأفادت الآية في قوله: "جميعا" أن هناك أنواعا للشفاعة.
وقد قسم أهل العلم رحمهم الله الشفاعة إلى قسمين رئيسيين، هما:
القسم الأول: الشفاعة الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم وهي أنواع:
النوع الأول: الشفاعة العظمى، وهي من المقام المحمود الذي وعده الله; فإن الناس يلحقهم يوم القيامة في ذلك الموقف العظيم من الغم والكرب ما لا يطيقونه، فيقول بعضهم لبعض: اطلبوا من يشفع لنا عند الله، فيذهبون إلى آدم أبي البشر، فيذكرون من أوصافه التي ميزه الله


1 سورة الزمر آية : 44.
2 سورة الأنعام آية : 51.
3 سورة المائدة آية : 55.
4 سورة الزمر آية : 44.

ج / 1 ص -332-

بها: أن الله خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، فيقولون: اشفع لنا عند ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! فيعتذر؛ لأنه عصى الله بأكله من الشجرة، ومعلوم أن الشافع إذا كان عنده شيء يخدش كرامته عند المشفوع إليه; فإنه لا يشفع لخجله من ذلك، مع أن آدم عليه السلام قد تاب الله عليه واجتباه وهداه، قال تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}
1، لكن لقوة حيائه من الله اعتذر. ثم يذهبون إلى نوح، ويذكرون من أوصافه التي امتاز بها بأنه أول رسول أرسله الله إلى الأرض، فيعتذر بأنه سأل الله ما ليس له به علم حين قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} 2.


ثم يذهبون إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فيذكرون من صفاته، ثم يعتذر بأنه كذب ثلاث كذبات لكنها حق حسب مراده. ثم يذهبون إلى موسى صلى الله عليه وسلم فيذكرون من أوصافه ما يقتضي أن يشفع، لكنه يعتذر بقتل نفس لم يؤمر بقتلها، وهي نفس القبطي حين استغاثة الإسرائيلي فوكز موسى القبطي فقتله فقضى عليه. ثم يذهبون إلى عيسى عليه الصلاة والسلام، فيذكرون من أوصافه ما يقتضي أن يشفع; فلا يعتذر بشيء، لكن يحيل إلى من هو أعلى مقاما، فيقول: اذهبوا إلى محمد، عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيحيلهم إلى محمد صلى الله عليه وسلم دون أن يذكر عذرا يحول بينه وبين الشفاعة3 فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيشفع إلى الله ليريح أهل الموقف.


1 سورة آية : 121-122.
2 سورة هود آية : 45.
3 حديث الشفاعة من حديث أبي هريرة, رواه: البخاري (كتاب التفسير, باب "ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبذا شكورا" , 3/250), ومسلم (كتاب الإيمان, باب أدنى أهل الجنة منزلة, 1/184).

ج / 1 ص -333-


الثاني: شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوها1 لأنهم إذا عبروا الصراط ووصلوا إليها وجدوها مغلقة، فيطلبون من يشفع لهم، فيشفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله في فتح أبواب الجنة لأهلها، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا }
2 ; فقال: "وفتحت"; فهناك شيء محذوف، أي: وحصل ما حصل من الشفاعة، وفتحت الأبواب، أما النار; فقال فيها: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } 3 الآية.


الثالث: شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب أن يخفف عنه العذاب4 وهذه مستثناة من قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}
5، وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 6 وذلك لما كان لأبي طالب من نصرة للنبي صلى الله عليه وسلم ودفاع عنه، وهو لم يخرج من النار، لكن خفف عنه حتى صار - والعياذ بالله - في ضحضاح من نار، وعليه نعلان منها يغلي منهما دماغه، وهذه الشفاعة خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم لا أحد يشفع في كافر أبدا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم تقبل الشفاعة كاملة، وإنما هي تخفيف فقط.
القسم الثاني: الشفاعة العامة له صلى الله عليه وسلم ولجميع المؤمنين

وهي أنواع:
النوع الأول: الشفاعة فيمن استحق النار أن لا يدخلها، وهذه قد

1 ورد التصريح بهذه الشفاعة في حديث الصور, رواه: الطبراني في "المطولات" (25/66/ رقم 36), وابن جرير في "الجامع" (2/330). وأورده السيوطي في "الدر المنثور" (5/339), ونسبه إلى أبي يعلى وابن المنذر وغيرهم وضعفه ابن كثير في "تفسيره" (2/146) وفي "صحيح مسلم" من حديث أنس: "أنا أول شفيع في الجنة" (رقم 196).
2 سورة الزمر آية : 73.
3 سورة الزمر آية : 71.


4 من حديث العباس بن عبد المطلب, رواه: البخاري (كتاب الفضائل, باب قصة أبي طالب, 3/62), ومسلم (كتاب الإيمان, باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب, 1/194).
5 سورة المدثر آية : 48.
6 سورة طه آية : 109.

ج / 1 ص -334-


يستدل لها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم " ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا; إلا شفعهم الله فيه "1 فإن هذه شفاعة قبل أن يدخل النار، فيشفعهم الله في ذلك.


النوع الثاني: الشفاعة فيمن دخل النار أن يخرج منها، وقد تواترت بها الأحاديث وأجمعت عليها الصحابة، واتفق عليها أهل الملة ما عدا طائفتين، وهما: المعتزلة والخوارج; فإنهم ينكرون الشفاعة في أهل المعاصي مطلقا لأنهم يرون أن فاعل الكبيرة مخلد في النار، ومن استحق الخلود; فلا تنفع فيه الشفاعة، فهم ينكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم و غيره يشفع في أهل الكبائر أن لا يدخلوا النار، أو إذا دخلوها أن يخرجوا منها، لكن قولهم هذا باطل بالنص والإجماع.


النوع الثالث: الشفاعة في رفع درجات المؤمنين، وهذه تؤخذ من دعاء المؤمنين بعضهم لبعض كما قال صلى الله عليه وسلم في أبي سلمة: " اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، وأفسح له في قبره، ونور له فيه، واخلفه في عقبه
"2 والدعاء شفاعة; كما قال صلى الله عليه وسلم " ما من مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا; إلا شفعهم الله فيه ".


إشكال وجوابه:
فإن قيل: إن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه سبحانه; فكيف يسمى دعاء الإنسان لأخيه شفاعة وهو لم يستأذن من ربه؟


1 من حديث ابن عباس, رواه مسلم (كتاب الجنائز, باب من صلى عليه أربعون, 2/ 655).
2 من حديث أم سلمة, رواه مسلم (كتاب الجنائز, باب في إغماض الميت, 2/634).

ج / 1 ص -335- وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } 1.


والجواب: إن الله أمر بأن يدعو الإنسان لأخيه الميت، وأمره بالدعاء إذن وزيادة وأما الشفاعة الموهومة التي يظنها عباد الأصنام من معبوديهم; فهي شفاعة باطلة لأن الله لا يأذن لأحد بالشفاعة إلا من ارتضاه من الشفعاء والمشفوع لهم.


إذا قوله: { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً } 2 تفيد أن الشفاعة متعددة كما سبق3.
الآية الثالثة: قوله تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي } 4 "من": اسم استفهام بمعنى النفي; أي: لا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه "ذا": هل تجعل ذا اسما موصولا كما قال ابن مالك في "الألفية" أو لا تصح أن تكون اسما موصولا هنا لوجود الاسم الموصول "الذي" الثاني هو الأقرب، وإن كان بعض المعربين قال: يجوز أن تكون "الذي" توكيدا لها.


والصحيح أن "ذا" هنا إما مركبة مع "من"، أو زائدة للتوكيد، وأيا كان الإعراب; فالمعنى: إنه لا أحد يشفع عند الله إلا بإذن الله.
وسبق أن النفي إذا جاء في سياق الاستفهام; فإنه يكون مضمنا معنى التحدي، أي إذا كان أحد يشفع بغير إذن الله فأت به.
قوله: "عنده": ظرف مكان، وهو سبحانه في العلو; فلا يشفع


1 سورة البقرة آية : 255.
2 سورة الزمر آية : 44.
3 سبق (ص 331).
4 سورة البقرة آية : 245.

ج / 1 ص -336- وقوله: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } 1.


أحد عنده ولو كان مقربا; كالملائكة المقربين; إلا بإذنه الكوني، والإذن لا يكون إلا بعد الرضا.
وأفادت الآية: أنه يشترط للشفاعة إذن الله فيها لكمال سلطانه جل وعلا، فإنه كلما كمل سلطان الملك; فإنه لا أحد يتكلم عنده ولو كان بخير إلا بعد إذنه، ولذلك يعتبر اللغط في مجلس الكبير إهانة له ودليلا على أنه ليس كبيرا في نفوس من عنده، كان الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم كأنما على رءوسهم الطير من الوقار وعدم الكلام إلا إذا فتح الكلام; فإنهم يتكلمون.
الآية الرابعة: قوله تعالى: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ }كم: خبرية للتكثير، والمعنى: ما أكثر الملائكة الذين في السماء، ومع ذلك لا تغني شفاعتهم شيئا إلا بعد إذن الله ورضاه.
قوله: { إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى }


2 فللشفاعة شرطان، هما:
1. الإذن من الله; لقوله:
{ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ }.
2. رضاه عن الشافع والمشفوع له; لقوله: "ويرضى"، وكما قال تعالى: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى } 3 ; فلا بد من إذنه تعالى ورضاه عن الشافع والمشفوع له إلا في التخفيف عن أبي طالب، وقد سبق ذلك4.
وهذه الآية في سياق بيان بطلان ألوهية اللات والعزى، قال تعالى


1 سورة النجم آية : 26.
2 سورة النجم آية : 26.
3 سورة الأنبياء آية : 28.
4 (ص 333).

ج / 1 ص -337- وقوله: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ }الآيتين1.


بعد ذكر المعراج وما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم فيه: { لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } 2 أي: العلامات الدالة عليه عزوجل فكيف به سبحانه؟ ! فهو أكبر وأعظم.
ثم قال: { أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى }
3، وهذا استفهام للتحقير; فبعد أن ذكر الله هذه العظمة قال: أخبروني عن هذه اللات والعزى ما عظمتها؟ وهذا غاية في التحقير، ثم قال: { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ } 4 الآية.
فإذا كانت الملائكة وهي في السماوات في العلو لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذنه تعالى ورضاه; فكيف باللات والعزى وهي في الأرض؟ ! ولهذا قال: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ } مع أن الملائكة تكون في السماوات وفي الأرض، ولكن أراد الملائكة التي في السماوات العلى، وهي عند الله - سبحانه -; فحتى الملائكة المقربون حملة العرش لا تغني شفاعتهم إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى.


الآية الخامسة: قوله تعالى: { قُلِ ادْعُوا }الأمر في قوله: "ادعو" للتحدي والتعجيز، وقوله: "ادعوا" يحتمل معنيين، هما:


1 سورة سبأ آية : 22.
2 سورة النجم آية : 18.
3 سورة النّجم آية : 19-20.
4 سورة النّجم آية : 21-26.

ج / 1 ص -338-


1. أحضروهم.
2. ادعوهم دعاء مسألة. فلو دعوهم دعاء مسألة لا يستجيبون لهم; كما قال تعالى: { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } 1.
يكفرون: يتبرءون، ومع هذه الآيات العظيمة يذهب بعض الناس يشرك بالله ويستنجد بغير الله، وكذلك لو دعوهم دعاء حضور لم يحضروا، ولو حضروا ما انتفعوا بحضورهم.


قوله: { لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } 2 واحدة الذر: وهي صغار النمل، ويضرب بها المثل في القلة.
قوله: { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ }وكذلك ما دون الذرة لا يملكونه، والمقصود بذكر الذرة المبالغة، وإذا قصد المبالغة بالشيء قلة أو كثرة; فلا مفهوم له; فالمراد الحكم العام; فمثلا قوله تعالى: { إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } 3 ; أي: مهما بالغت في الاستغفار.


ولا يرد على هذا أن الله أثبت ملكا للإنسان; لأن ملك الإنسان قاصر وغير شامل ومتجدد وزائل، وليس كملك الله.
قوله: { وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ } 4 أي: ما لهؤلاء الذين تدعون من دون الله.
"فيهما" أي: في السماوات والأرض.
: { مِنْ شِرْكٍ } أي: مشاركة، أي لا يملكونه انفرادا ولا مشاركة.


1 سورة فاطر آية : 14.
2 سورة سبأ آية : 22.
3 سورة التوبة آية : 80.
4 سورة الأحقاف سبأ آية : 22.

ج / 1 ص -339-


وقوله: { مِنْ شِرْكٍ }: مبتدأ مؤخر دخلت عليه "من" الزائدة لفظا، لكنها للتوكيد معنى وكل زيادة لفظية في القرآن; فهي زيادة في المعنى وأتت "من" للمبالغة في النفي، وأنه ليس هناك شرك لا قليل ولا كثير.
قوله: { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ }
1 الضمير في: { وَمَا لَهُ }يعود إلى الله تعالى، وفي "منهم" يعود إلى الأصنام; أي: ما لله تعالى من هذه الأصنام ظهير و "من": حرف جر زائد، و "ظهير": مبتدأ مؤخر بمعنى معين; كما قال تعالى: { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } 2 ; أي: معينا، وقال تعالى: { وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } 3; أي: معين أي: ليس لله معين يعينه في أفعاله، وبذلك ينتفي عن هذه الأصنام كل ما يتعلق به العابدون; فهي لا تملك شيئا على سبيل الانفراد ولا المشاركة ولا الإعانة، لأن من يعينك وإن كان غير شريك لك يكون له منة عليك; فربما تحابيه في إعطائه ما يريد.


فإذا انتفت هذه الأمور الثلاثة; لم يبق إلا الشفاعة، وقد أبطلها الله بقوله: { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ }
4 ; فلا تنفع عند الله الشفاعة لهؤلاء; لأن هذه الأصنام لا يأذن الله لها، فانقطعت كل الوسائل والأسباب للمشركين، وهذا من أكبر الآيات الدالة على بطلان عبادة الأصنام; لأنها لا تنفع عابديها لا استقلالا ولا مشاركة ولا مساعدة ولا شفاعة; فتكون عبادتها باطلة، قال تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } 5، حتى ولو كان المدعو عاقلا; لقوله: "من"، ولم يقل: "ما"، ثم قال تعالى: { وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } 6، وكل



1 سورة سبأ آية : 22.
2 سورة الإسراء آية : 88.
3 سورة التحريم آية : 4.
4 سورة سبأ آية : 23.
5 سورة الأحقاف آية : 5.
6 سورة آية : 5-6.

ج / 1 ص -340- قال أبو العباس: " نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عونا لله،.....


هذه الآيات تدل على أنه يجب على الإنسان قطع جميع تعلقاته إلا بالله عبادة وخوفا ورجاء واستعانة ومحبة وتعظيما; حتى يكون عبدا لله حقيقة، يكون هواه وإرادته وحبه وبغضه وولاؤه ومعاداته لله وفي الله; لأنه مخلوق للعبادة فقط، قال تعالى: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ } 1، أي: لا نأمركم ولا ننهاكم، إذ لو خلقناكم فقط للأكل والشرب والنكاح; لكان ذلك عين العبث، ولكن هناك شيء وراء ذلك، وهو عبادة الله سبحانه في هذه الدنيا.


وقوله: { إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ } أي: وحسبتم أنكم إلينا لا ترجعون، فنجازيكم إذا كان هذا هو حسبانكم; فهو حسبان باطل.
قوله: "قال أبو العباس ": هو شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله يكنى بذلك، ولم يتزوج; لأنه كان مشغولا بالعلم والجهاد، وليس زاهدا في السنة، مات سنة 728 هـ، وله 67 سنة و 10 أشهر.


قوله: "لغيره ملك": أي: لغير الله في قوله: { لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ }.
قوله: "أو قسط منه": في قوله: "وما لهم فيهما من شرك".
قوله: "أو يكون عونا لله" في قوله تعالى: { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}
2 بدون استثناء.


1 سورة المؤمنون آية : 115.
2 سورة سبأ آية : 22.

ج / 1 ص -341- ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب; كما قال: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى } 1.
فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة;


قوله: "ولم يبق إلا الشفاعة": فبين أنها لا تنفع إلا من أذن له الرب; كما قال تعالى: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى }
2 وَقَالَ: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } 3، ومعلوم أنه لا يرضى هذه الأصنام لأنها باطلة وحينئذ فتكون شفاعتها منتفية.


واعلم أن شرك المشركين في السابق كان في عبادة الأصنام، أما الآن، فهو في طاعة المخلوق في المعصية فإن هؤلاء يقدسون زعماءهم أكثر من تقديس الله إن أقروا به، فيقال لهم: إنهم بشر مثلكم، خرجوا من مخرج البول والحيض، وليس لهم شرك في السماوات ولا في الأرض، ولا يملكون الشفاعة لكم عند الله، إذن; فكيف تتعلقون بهم؟ ! حتى إن الواحد منهم يركع لرئيسه أو يسجد له كما يسجد لرب العالمين والواجب علينا نحو ولاة الأمور طاعتهم، وطاعتهم من طاعة الله، وليست استقلالا، أما عبادتهم كعبادة الله; فهذه جاهلية وكفر.


فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن; فالله - سبحانه وتعالى - نفى أن تنفعهم أصنامهم، بل قال: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ }
4، حتى الأصنام لا تنفع نفسها ولا يشفع لها; فكيف تكون شافعة؟ ! بل هي في النار وعابدوها.


1 سورة الأنبياء آية : 28.
2 سورة الأنبياء آية : 28.
3 سورة البقرة آية : 255.
4 سورة آية : 98-99.

ج / 1 ص -342- كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم " أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده - لا يبدأ بالشفاعة أولا - ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع "1.
وقال أبو هريرة له صلى الله عليه وسلم " من أسعد الناس بشفاعتك؟


قوله: "وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه": أي: وكما أخبر; فالواو عاطفة، ويجوز أن تكون استئنافية، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أعظم الناس جاها عند الله لا يشفع إلا بعد أن يحمد الله ويثني عليه، فيحمد الله بمحامد عظيمة يفتحها الله عليه لم يكن يعلمها من قبل، ويطول سجوده; فكيف بهذه الأصنام; هل يمكن أن تشفع لأصحابها؟
قوله: "ارفع رأسك": أي: من السجود.


قوله: "وقل يسمع" السامع هو الله، و "يسمع": جواب الأمر مجزوم.
قوله: "وسل تعط": أي: سل ما بدا لك تعط إياه، وتعط: مجزوم بحذف حرف العلة جوابا لسل.
قوله: "واشفع تشفع": وحينئذ يشفع النبي صلى الله عليه وسلم في الخلائق أن يقضى بينهم.


قوله: "وقال أبو هريرة له صلى الله عليه وسلم من أسعد الناس بشفاعتك؟":
هذا السؤال من أبي هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " لقد كنت أظن أن لا يسألني أحد غيرك عنه لما أرى من حرصك على العلم
"2 وفي هذا دليل على أن من وسائل تحصيل العلم السؤال.


1 سبق ص 332.
2 البخاري : العلم (99) , وأحمد (2/373).

ج / 1 ص -343- قال: " من قال: لا إله إلا الله; خالصا من قلبه "1.


قوله: " من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه " وعليه; فالمشركون ليس لهم حظ من الشفاعة لأنهم لا يقولون: لا إله إلا الله، قال تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ }
2، وقال تعالى حكاية عنهم: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } 3 والحقيقة أن صنيعهم هو العجاب، قال تعالى: { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } 4، وقال تعالى: { وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } 5..
وقوله: "خالصا من قلبه" خرج بذلك من قالها نفاقا; فإنه لا حظ له في الشفاعة، فإن المنافق يقول: لا إله إلا الله، ويقول: أشهد أن محمدا رسول الله، لكن الله عزوجل قابل شهادتهم هذه بشهادته على كذبهم، قال تعالى: { وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } 6 ; أي: في شهادتهم، في قولهم: إنك لرسول الله، فهم كاذبون في شهادتهم وفي قولهم: لا إله إلا الله; لأنهم لو شهدوا بذلك حقا ما نافقوا ولا أبطنوا الكفر.
قوله: "خالصا": أي: سالما من كل شوب; فلا يشوبها رياء ولا سمعة، بل هي شهادة يقين.


قوله: "من قلبه": لأن المدار على القلب، وهو ليس معنى من المعاني، بل هو مضغة في صدور الناس، قال الله تعالى: { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }
7 وقال تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } 8، وقال صلى الله عليه وسلم " ألا وإن في



1 من حديث أبي هريرة, رواه: البخاري (كتاب العلم, باب الحرص على الحديث, 1/52).
2 سورة آية : 35-36.
3 سورة ص آية : 5.
4 سورة الصافات آية : 12.
5 سورة الرعد آية : 5.
6 سورة المنافقون آية : 1.
7 سورة الحج آية : 46.
8 سورة الحج آية : 46.

ج / 1 ص -344- فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله. وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع;


الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله "1. وبهذا يبطل قول من قال: إن العقل في الدماغ، ولا ينكر أن للدماغ تأثيرا في الفهم والعقل، لكن العقل في القلب، ولهذا قال الإمام أحمد: "العقل في القلب، وله اتصال في الدماغ" ومن قال كلمة الإخلاص خالصا من قلبه; فلا بد أن يطلب هذا المعبود بسلوك الطرق الموصلة إليه; فيقوم بأمر الله ويدع نهيه.


قوله: "فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص": لأن من أشرك بالله قال الله فيه: { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } 2.
قوله: "وحقيقته أن الله - سبحانه - هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع": وحقيقته; أي: حقيقة أمر الشفاعة، أي الفائدة منها: أن الله عزوجل أراد أن يغفر للمشفوع له، ولكن بواسطة هذه الشفاعة.


والحكمة من هذه الواسطة بينها بقوله: "ليكرمه وينال المقام المحمود"، ولو شاء الله لغفر لهم بلا شفاعة، ولكنه أراد بيان فضل هذا الشافع وإكرامه أمام الناس، ومن المعلوم أن من قبل الله شفاعته; فهو عنده بمنزلة عالية;


فيكون في هذا إكرام للشافع من وجهين:
الأول: إكرام الشافع بقبول شفاعته.
الثاني: ظهور جاهه وشرفه عند الله تعالى.


1 من حديث النعمان بن بشير, رواه: البخاري (كتاب الإيمان, باب فضل من استبرأ لدينه, 1/34), ومسلم (كتاب المساقاة, باب أخذ الحلال وترك الشبهات, 3/1219).
2 سورة المدثر آية : 48.

ج / 1 ص -345- ليكرمه، وينال المقام المحمود.
فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل الإخلاص والتوحيد" انتهى كلامه.


قوله: "المقام المحمود": أي: المقام الذي يحمد عليه وأعظم الناس في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله وعده أن يبعثه مقاما محمودا، ومن المقام المحمود: أن الله يقبل شفاعته بعد أن يتراجع الأنبياء أولو العزم عنها ومن يشفع من المؤمنين يوم القيامة; فله مقام يحمد عليه على قدر شفاعته.
قوله: "فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك": هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "ما": اسم موصول; أي: التي كان فيها شرك.
قوله: "وقد أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع ": ومن ذلك قوله تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }
1، وقوله: { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } 2، وقوله: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } 3.


قوله: "وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل الإخلاص والتوحيد": أما أهل الشرك; فإن الشفاعة لا تكون لهم; لأن شفعاءهم هي الأصنام، وهي باطلة.
وجه إدخال باب الشفاعة في كتاب التوحيد: أن الشفاعة الشركية تنافي التوحيد والبراءة منها هو حقيقة التوحيد.


1 سورة البقرة آية : 255.
2 سورة سبأ آية : 23.
3 سورة النجم آية : 26.


ج / 1 ص -346- فيه مسائل:
الأولى:
تفسير الآيات.
الثانية: صفة الشفاعة المنفية.
الثالثة : صفة الشفاعة المثبتة.
الرابعة : ذكر الشفاعة الكبرى وهي المقام المحمود.
الخامسة : صفة ما يفعله صلى الله عليه وسلم أنه لا يبدأ بالشفاعة، بل يسجد، فإذا أذن له; شفع.


فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيات: وهي خمس، وسبق تفسيرها في محالها.
الثانية: صفة الشفاعة المنفية: وهي ما كان فيها شرك، فكل شفاعة فيها شرك; فإنها منفية.
الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة: وهي شفاعة أهل التوحيد بشرط إذن الله تعالى ورضاه عن الشافع والمشفوع له.
الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى وهي المقام المحمود: وهي الشفاعة في أهل الموقف أن يقضى بينهم، وقول الشيخ: "وهي المقام المحمود"; أي: منه1.
الخامسة: صفة ما يفعله صلى الله عليه وسلم وأنه لا يبدأ بالشفاعة، بل يسجد، فإذا أذن له; شفع: كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، وهو ظاهر، وهذا يدل على عظمة الرب وكمال أدب النبي صلى الله عليه وسلم


1انظر: (ص 344).

ج / 1 ص -347- السادسة : من أسعد الناس بها.
السابعة : أنها لا تكون لمن أشرك بالله.
الثامنة : بيان حقيقتها.


السادسة: من أسعد الناس بها: هم أهل التوحيد والإخلاص من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه ولا إله إلا الله معناه: لا معبود حق إلا الله، وليس المعنى: لا معبود إلا الله; لأنه لو كان كذلك; لكان الواقع يكذب هذا، إذ إن هناك معبودات من دون الله تعبد وتسمى آلهة، ولكنها باطلة، وحينئذ يتعين أن يكون المراد لا إله حق إلا الله ولا إله إلا الله تتضمن نفيا وإثباتا، هذا هو التوحيد; لان الإثبات المجرد لا يمنع المشاركة، والنفي المجرد تعطيل محض، فلو قلت: لا إله معناه عطلت كل إله، ولو قلت: الله إله ما وحدت; لأن مثل هذه الصيغة لا تمنع المشاركة، ولهذا قال الله تعالى: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } 1، لما جاء الإثبات فقط أكده بقوله: واحد.


السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله: لقوله تعالى: { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ }
2، وغير ذلك مما نفى الله فيه الشفاعة للمشركين، ولقوله صلى الله عليه وسلم " خالصا من قلبه "3.

الثامنة: بيان حقيقتها: وحقيقتها: أن الله تعالى يتفضل على أهل الإخلاص; فيغفر لهم بواسطة من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود.


1 سورة البقرة آية : 163.
2 سورة المدثر آية : 48.
3 البخاري : العلم (99) , وأحمد (2/373).



المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979






ام عادل السلفية 29-01-2015 10:28AM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب قول الله تعال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } 1 الآية.

ج / 1 ص -348- باب قول الله تعال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } 1 الآية.


مناسبة هذا الباب لما قبلهمناسبته أنه نوع من الباب الذي قبله، فإذا كان لا أحد يستطيع أن ينفع أحدا بالشفاعة والخلاص من العذاب، كذلك لا يستطيع أحد أن يهدي أحدا; فيقوم بما أمر الله به.
قوله تعالى:{ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ }الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وكان يحب هداية عمه أبي طالب أو من هو أعم فأنت يا محمد المخاطب بكاف الخطاب، وله المنزلة الرفيعة عند الله لا تستطيع أن تهدي من أحببت هدايته، ومعلوم أنه إذا أحب هدايته; فسوف يحرص عليه، ومع ذلك لا يتمكن من هذا الأمر، لأن الأمر كله بيد الله، قال تعالى:{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ } 2، وقال تعالى: { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ } 3 ; فأتى ب "أل" الدالة على الاستغراق; لأن "أل" في قوله: "الأمر" للاستغراق; فهي نائبة مناب كل; أي: وإليه يرجع كل الأمر، ثم جاءت مؤكدة بكل، وذلك توكيدان.


والهداية التي نفاها الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم هداية التوفيق، والتي أثبتها له هداية الدلالة والإرشاد ولهذا أتت مطلقة لبيان أن الذي بيده هو هداية الدلالة فقط، لا أن يجعله مهتديا، قال تعالى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ


ـ
1 سورة القصص آية : 56.
2 سورة آل عمران آية : 128.
3 سورة هود آية : 123.

ج / 1 ص -349- وفي " الصحيح " عن ابن المسيب، عن أبيه; قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة;.......


مُسْتَقِيمٍ } 1 ، فلم يخصص سبحانه فلانا وفلانا ليبين أن المراد أنك تهدي هداية دلالة، فأنت تفتح الطريق أمام الناس فقط وتبين لهم وترشدهم، أما إدخال الناس في الهداية فهذا أمر ليس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما هو مما تفرد الله به سبحانه؛ فنحن علينا أن نبين وندعو، وأما هداية التوفيق (أي أن الإنسان يهدي) فهذا إلى الله –سبحانه وتعالى- وهذا هو الجمع بين الآيتين.


وقوله: { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } 2 ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب أبا طالب; فكيف يئول ذلك؟

والجواب: إما أن يقال: إنه على تقدير أن المفعول محذوف، والتقدير من أحببت هدايته لا من أحببته هو أو يقال: إنه أحب عمه محبة طبيعية كمحبة الابن أباه ولو كان كافرا أو يقال: إن ذلك قبل النهي عن محبة المشركين والأول أقرب; أي: من أحببت هدايته لا عينه، وهذا عام لأبي طالب وغيره ويجوز أن يحبه محبة قرابة، ولا ينافي هذا المحبة الشرعية، وقد أحب أن يهتدي هذا الإنسان، وإن كنت أبغضه شخصيا لكفره، ولكن لأني أحب أن الناس يسلكون دين الله.


قوله: "في الصحيح": سبق الكلام على مثل هذه العبارة في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.
قوله: "أبا": بالألف: مفعول به منصوب بالألف; لأنه من الأسماء الخمسة، و "الوفاة" يعني: الموت، فاعل حضرت.



1 سورة الشورى آية : 52.
2 سورة القصص آية : 56.

ج / 1 ص -350- جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له: " يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله".........


قوله: "فقال: يا عم ! قل لا إله إلا الله": أتى صلى الله عليه وسلم بهذه الكنية الدالة على العطف; لأن العم صنو الأب; أي: كالغصن معه والصنو: الغصن الذي أصله واحد; فكأنه معه كالغصن.


قوله: "يا عم" فيها وجهان: يا عم; بكسر الميم: على تقدير أنها مضافة إلى الياء ويا عم; بضم الميم: على تقدير قطعها عن الإضافة.
قوله: "قل: لا إله إلا الله" يجوز أنه قاله على سبيل الأمر والإلزام; لأنه يجب أن يأمر كل أحد أن يقول: لا إله إلا الله ويجوز أنه قاله على سبيل الإرشاد والتوجيه ويجوز أنه قاله على سبيل الترجي والتلطف معه، وأبو طالب والذين عنده يعرفون هذه الكلمة ويعرفون معناها، ولهذا بادر بالإنكار.


قوله: "كلمة": منصوبة; لأنها بدل لا إله إلا الله، ويجوز إذا لم تكن الرواية بالنصب أن تكون بالرفع; أي: هي كلمة، ولكن النصب أوضح.
قوله: "أحاج": بضم الجيم وفتحها: فعلى ضم الجيم فهي صفة لكلمة، وإذا كانت بالفتح فهي مجزومة جوابا للأمر: "قل"; أي: قل أحاج وقال بعض المعربين: إنها جواب لشرط مقدر; أي: إن تقل أحاج، والأول أسهل; لأن الأصل عدم التقدير والمعنى: أذكرها حجة لك عند الله، وليس أخاصم وأجادل لك بها عند الله، وإن كان بعض أهل العلم قال: إن معناها أجادل الله بها، ولكن الذي يظهر لي أن المعنى: أحاج لك بها عند الله; أي: أذكرها حجة لك كما جاء في بعض

ج / 1 ص -351- فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله.


فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك "1.


الروايات: "أشهد لك بها عند الله2.
" قوله: "فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟": القائلان هما: عبد الله بن أبي أمية، وأبو جهل، والاستفهام للإنكار عليه; لأنهما عرفا أنه إذا قالها - أي كلمة الإخلاج / 1 ص - وحد، وملة عبد المطلب الشرك، وذكرا له ما تهيج به نعرته، وهي ملة عبد المطلب حتى لا يخرج عن ملة آبائه وقد مات أبو جهل على ملة عبد المطلب، أما عبد الله بن أبي أمية والمسيب الذي روى الحديث، فأسلما; فأسلم من هؤلاء الثلاثة رجلان، رضي الله عنهما.
قوله: "ملة عبد المطلب": أي: دين عبد المطلب.


قوله: "فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم": أي: قوله قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله.
قوله: "فأعادا عليه": أي قولهما: أترغب عن ملة عبد المطلب.
قوله: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأستغفرن لك" إلخ: جملة "لأستغفرن لك" مؤكدة بثلاث مؤكدات: القسم، واللام، ونون التوكيد الثقيلة والاستغفار: طلب المغفرة، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه شيء من القلق، حيث قال: "ما لم أنه عنك"; فوقع الأمر كما توقع ونهي عنه.



1 البخاري الجنائز (1360) , ومسلم الإيمان (24) , والنسائي : الجنائز (2035) , وأحمد (5/433).
2 رواه مسلم (كتاب الإيمان, باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت, 1/54).

ج / 1 ص -352- فأنزل الله عزوجل:{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى } 1.


قوله: "ما لم أنه عنك": فعل مضارع مبني للمجهول، والناهي عنه هو الله.
قوله: "ما كان": ما: نافية، وكان: فعل ماض ناقص قوله: "أن يستغفروا": أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر اسم كان مؤخر.
قوله: "للنبي": خبر مقدم; أي: ما كان استغفاره.


واعلم أن ما كان أو ما ينبغي أو لا ينبغي ونحوها إذا جاءت في القرآن والحديث; فالمراد أن ذلك ممتنع غاية الامتناع; كقوله تعالى: { مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ } 2، وقوله: { وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً } 3، وقوله: { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ } 4، وقوله صلى الله عليه وسلم " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام "5.


وقوله: "أن يستغفروا"; أي: يطلبوا المغفرة للمشركين قوله: { وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى } 6 أي: حتى ولو كانوا أقارب لهم، ولهذا لما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم ومر بقبر أمه استأذن الله أن يستغفر لها فما أذن الله له، فاستأذنه أن يزور قبرها فأذن له; فزاره للاعتبار وبكى وأبكى من حوله من الصحابة7 فالله منعه من طلب المغفرة للمشركين; لأن



1 سورة التوبة آية : 113.
2 سورة مريم آية : 35.
3 سورة مريم آية : 92.
4 سورة يس آية : 40.
5 من حديث أبي موسى, رواه مسلم (كتاب الإيمان, باب في قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا ينام" 1/160).
6 سورة التوبة آية : 113.
7 من حديث أبي هريرة, رواه مسلم (كتاب الجنائز, باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل زيارة أمه, 2/671).

ج / 1 ص -353- وأنزل الله في أبي طالب: { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }1 ،2.


هؤلاء المشركين ليسوا أهلا للمغفرة إذا دعوت الله أن يفعل ما لا يليق; فهو اعتداء في الدعاء.
قوله: "وأنزل الله في أبي طالب" أي: في شأنه قوله: { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } 3 الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أي لا توفق من أحببت للهداية قوله: { يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } 4 أي يهدي هداية التوفيق من يشاء واعلم أن كل فعل يضاف إلى مشيئة الله تعالى; فهو مقرون بالحكمة; أي: من اقتضت حكمته أن يهديه فإنه يهتدي، ومن اقتضت حكمته أن يضله أضله وهذا الحديث يقطع وسائل الشرك بالرسول صلى الله عليه وسلم وغيره; فالذين يلجئون إليه صلى الله عليه وسلم ويستنجدون به مشركون; فلا ينفعهم ذلك لأنه لم يؤذن له أن يستغفر لعمه، مع أنه قد قام معه قياما عظيما، ناصره وآزره في دعوته; فكيف بغيره ممن يشركون بالله؟ !


الإشكالات الواردة في الحديث:

الإشكال الأول:
الإثبات والنفي في الهداية، وقد سبق بيان ذلك5.
الإشكال الثاني: قوله لما حضرت أبا طالب الوفاة يشكل مع قوله تعالى: { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ


ــ
1 سورة القصص آية : 56.
2 رواه: البخاري (كتاب التفسير, باب إنك لا تهدي من أحببت , 3/273), ومسلم (كتاب الإيمان, باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت, 1/54).
3 سورة القصص آية : 56.
4 سورة القصص آية : 56.
5 (ص 348).

ج / 1 ص -354-


الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ }1 ،

وظاهر الحديث قبول توبته والجواب عن ذلك من أحد وجهين:
الأول: أن يقال لما حضرت أبا طالب الوفاة، أي ظهر عليه علامات الموت ولم ينزل به، ولكن عرف موته لا محالة، وعلى هذا; فالوصف لا ينافي الآية.
الثاني: أن هذا خاص بأبي طالب مع النبي صلى الله عليه وسلم

ويستدل لذلك بوجهين:
أ- أنه قال: "كلمة أحاج لك بها عند الله"، ولم يجزم بنفعها له، ولم يقل: كلمة تخرجك من النار.
ب- أنه سبحانه أذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة لعمه مع كفره، وهذا لا يستقيم إلا له، والشفاعة له ليخفف عنه العذاب ويضعف الوجه الأول أن المعنى ظهرت عليه علامات الموت: بأن قوله: "لما حضرت أبا طالب الوفاة" مطابقا تماما لقوله تعالى: { حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ } 2 وعلى هذا يكون الأوضح في الجواب أن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم مع أبي طالب نفسه.


الإشكال الثالث: أن قوله تعالى: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } 3 في سورة التوبة، وهي متأخرة مدنية، وقصة أبي طالب مكية، وهذا يدل على تأخر النهي على تأخر النهي عن الاستغفار للمشركين، ولهذا استأذن النبي صلى الله عليه وسلم للاستغفار لأمه4 وهو ذاهب للعمرة ولا يمكن أن يستأذن بعد نزول النهي; فدل على تأخر الآية، وأن المراد بيان دخولها في



1 سورة النساء آية : 18.
2 سورة النساء آية : 18.
3 سورة التوبة آية : 113.
4 سبق (ص 352).



ج / 1 ص -355- فيه مسائل:
الأولى:
تفسير قوله: { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } الآية.
الثانية: تفسير قوله: { ما كان للنبي} الآية.


قوله تعالى: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } 1 وليس المعنى أنها نزلت في ذلك الوقت وقيل: إن سبب نزول الآية هو استئذانه ربه في الاستغفار لأمه، ولا مانع من أن يكون للآية سببان.
الإشكال الرابع: أن أهل العلم قالوا: يسن تلقين المحتضر لا إله إلا الله، لكن بدون قول قل; لأنه ربما مع الضجر يقول: لا; لضيق صدره مع نزول الموت، أو يكره هذه الكلمة أو معناها، وفي هذا الحديث قال: "قل".

والجواب: أن أبا طالب كان كافرا، فإذا قيل له: "قل" وأبى; فهو باق على كفره، لم يضره التلقين بهذا; فإما أن يبقى على كفره ولا ضرر عليه بهذا التلقين وإما أن يهديه الله، بخلاف المسلم; فهو على خطر لأنه ربما يضره التلقين على هذا الوجه.


فيه مسائل:
الأولى:
تفسير قوله تعالى: { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ }، أي: من أحببت هدايته، وسبق تفسيرها، وبينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان لا يستطيع أن يهدي أحدا وهو حي; فكيف يستطيع أن يهدي أحدا وهو ميت؟ ! وأنه كما قال الله تعالى في حقه: { قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً } 2.
الثانية: تفسير قوله: "ما كان للنبي" الآية: وقد سبق تفسيرها وبيان تحريم استغفار المسلمين للمشركين ولو كانوا أولي قربى.



1 سورة التوبة آية : 113.
2 سورة الجن آية : 21.

ج / 1 ص -356- الثالثة : وهي المسألة الكبيرة، تفسير قوله: " قل لا إله إلا الله"; بخلاف ما عليه من يدعي العلم.
الرابعة : أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال



والخطر من قول بعض الناس لبعض زعماء الكفر إذا مات: المرحوم; فإنه حرام لأن هذا مضادة لله - سبحانه وتعالى -، وكذلك يحرم إظهار الجزع والحزن على موتهم بالإحداد أو غيره; لأن المؤمنين يفرحون بموتهم، بل لو كان عندهم القدرة والقوة لقاتلوهم حتى يكون الدين كله لله.
الثالثة: وهي المسألة الكبيرة: أي: الكبيرة من هذا الباب، وقوله (أي قول النبي صلى الله عليه وسلم) لعمه: " قل: لا إله إلا الله "1 وعمه عرف المعنى أنه التبرؤ من كل إله سوى الله ولهذا أبى أن يقولها لأنه يعرف معناها ومقتضاها وملزوماتها.


وقوله: "بخلاف ما عليه من يدعي العلم" كأنه يشير إلى تفسير المتكلمين لمعنى لا إله إلا الله، حيث يقولون: إن الإله هو القادر على الاختراع، وإنه لا قادر على الاختراع والإيجاد والإبداع إلا الله، وهذا تفسير باطل.
نعم، هو حق لا قادر على الاختراع إلا الله، لكن ليس هذا معنى لا إله إلا الله، ولكن المعنى: لا معبود حق إلا الله; لأننا لو قلنا: إن معنى لا إله إلا الله: لا قادر على الاختراع إلا الله; صار المشركون الذين قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم واستباح نساءهم وذريتهم وأموالهم مسلمين; فالظاهر من كلامه رحمه الله أنه أراد أهل الكلام الذين يفسرون لا إله إلا الله بتوحيد الربوبية، وكذلك الذين يعبدون الرسول والأولياء ويقولون: نحن نقول لا إله إلا الله.
الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم أبو جهل



1 البخاري : الجنائز (1360) , ومسلم : الإيمان (24) , والنسائي : الجنائز (2035) , وأحمد (5/433).

ج / 1 ص -357- للرجل: قل: " لا إله إلا الله"; فقبح الله من أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام.
الخامسة : جده صلى الله عليه وسلم ومبالغته في إسلام عمه.


ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقول: لا إله إلا الله، ولذا ثاروا وقالوا له: "أترغب عن ملة عبد المطلب؟"، وهو أيضا أبى أن يقولها لأنه يعرف مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة، قال تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ } 1 فالحاصل أن الذين يدعون أن معنى لا إله إلا الله; أي: لا قادر على الاختراع إلا هو، أو يقولونها وهم يعبدون غيره كالأولياء هم أجهل من أبي جهل واحترز المؤلف في عدم ذكر من مع أبي جهل لأنهم أسلموا، وبذلك صاروا أعلم ممن بعدهم، خاصة من هم في العصور المتأخرة في زمن المؤلف رحمه الله.


الخامسة: جده ومبالغته في إسلام عمه: حرصه صلى الله عليه وسلم وكونه يتحمل أن يحاج بالكلمة عند الله واضح من نص الحديث; لسببين هما:
1- القرابة.

2- لما أسدى للرسول والإسلام من المعروف; فهو على هذا مشكور، وإن كان على كفره مأزورا وفي النار، ومن مناصرة أبي طالب أنه هجر قومه من أجل معاضدة النبي صلى الله عليه وسلم ومناصرته، وكان يعلن على الملأ صدقه ويقول قصائد في ذلك ويمدحه، ويصبر على الأذى من أجله، وهذا جدير بأن يحرص على هدايته، لكن الأمر بيد مقلب القلوب كما في الحديث: " إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب




1 سورة الصّافات آية : 35-36.

ج / 1 ص -358- السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه.
السابعة: كونه صلى الله عليه وسلم استغفر له فلم يغفر له، بل نهي عن ذلك.
الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان.



واحد، يصرفه حيث يشاء "1 ثم قال صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث: " اللهم ! مصرف القلوب ! صرف قلوبنا على طاعتك "2.
السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب: بدليل قولهما: "أترغب عن ملة عبد المطلب؟" حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لا إله إلا الله، فدل على أن ملة عبد المطلب الكفر والشرك وفي الحديث رد على من قال بإسلام أبي طالب أو نبوته كما تزعمه الرافضة، قبحهم الله، لأن آخر ما قال: هو على مله عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله.


السابعة: كونه صلى الله عليه وسلم استغفر له فلم يغفر له: الرسول صلى الله عليه وسلم أقرب الناس أن يجيب الله دعاءه، ومع ذلك اقتضت حكمة الله أن لا يجيب دعاءه لعمه أبي طالب; لأن الأمر بيد الله لا بيد الرسول ولا غيره، قال تعالى: { قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } 3، وقال تعالى: { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ } 4، ليس لأحد تصرف في هذا الكون إلا رب الكون وكذا أمه صلى الله عليه وسلم لم يؤذن له في الاستغفار لها; فدل على أن أهل الكفر ليسوا أهلا للمغفرة بأي حال، ولا يجاب لنا فيهم، ولا يحل الدعاء لهم بالمغفرة والرحمة، وإنما يدعى لهم بالهداية وهم أحياء.


الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان: المعنى أنه لولا

ــ
1 مسلم القدر (2654) , وأحمد (2/168 ,2/173).
2 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص, رواه مسلم (كتاب القدر, باب تصريف الله تعالى للقلوب كيف يشاء, 4/2045).
3 سورة آل عمران آية : 154.
4 سورة هود آية : 123.

ج / 1 ص -359- التاسعة : مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر.


هذان الرجلان; لربما وفق أبو طالب إلى قبول ما عرضه النبي صلى الله عليه وسلم لكن هؤلاء - والعياذ بالله - ذكراه نعرة الجاهلية ومضرة رفقاء السوء، ليس خاصا بالشرك، ولكن في جميع سلوك الإنسان، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم جليس السوء بنافخ الكير; إما أن يحرق ثيابك، أو تجد منه رائحة كريهة1 وقال صلى الله عليه وسلم " فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه "2 وذلك لما بينهما من الصحبة والاختلاط، وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند لا بأس به: " المرء على دين خليله; فلينظر أحدكم من يخالل "3 فالمهم أنه يجب على الإنسان العاقل أن يفكر في أصحابه: هل هم أصحاب سوء؟ فليبعد عنهم لأنهم أشد عداء من الجرب، أو هم أصحاب خير: يأمرونه بالمعروف، وينهونه عن المنكر، ويفتحون له أبواب الخير; فعليه بهم.


التاسعة: مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر: لأن أبا طالب اختار أن يكون على ملة عبد المطلب حين ذكروه بأسلافه مع مخالفته لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا ليس على إطلاقه; فتعظيمهم إن كانوا أهلا لذلك فلا يضر، بل هو خير; فأسلافنا من صدر هذه الأمة لا شك أن تعظيمهم وإنزالهم منازلهم خير لا ضرر فيه.

وإن كان تعظيم الأكابر لما هم عليه من العلم والسن، فليس فيه مضرة، وإن كان تعظيمهم لما هم عليه من الباطل; فهو ضرر عظيم على دين المرء، فمثلا: من يعظم أبا جهل لأنه سيد أهل الوادي، وكذلك




1 من حديث أبي موسى, رواه: البخاري (كتاب الذبائح, باب المسك, 3/463), ومسلم (كتاب البر, باب استحباب مجالسة الصالحين, 4/2526).
2 سبق (ص 63).
3 من حديث أبي هريرة, أخرجه: أحمد (2/303, 334). ورواه أبو داود (كتاب الأدب, باب من يؤمر أن يجالس, 5/168), والترمذي (الزهد, باب الرجل على دين خليله, رقم 2379) - وقال: "حسن غريب" -.

ج / 1 ص -360- العاشرة: الشبهة للمبطلين في ذلك; لاستدلال أبي جهل بذلك.



عبد المطلب وغيره; فهو ضرر عليه، ولا يجوز أن يرى الإنسان في نفسه لهؤلاء أي قدر; لأنهم أعداء الله عزوجل وكذلك لا يعظم الرؤساء من الكفار في زمانه; فإن فيه مضرة لأنه قد يورث ما يضاد الإسلام، فيجب أن يكون التعظيم حسب ما تقتضيه الأدلة من الكتاب والسنة.


العاشرة: الشبهة للمبطلين في ذلك لاستدلال أبي جهل بذلك: شبه المبطلين في تعظيم الأسلاف هي استدلال أبي جهل بذلك في قوله: "أترغب عن ملة عبد المطلب؟"، وهذه الشبهة ذكرها الله في القرآن في قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } 1 فالمبطلون يقولون في شبهتهم: إن أسلافهم على الحق وسيقتدون بهم، ويقولون: كيف نسفه أحلامهم، ونضلل ما هم عليه؟ وهذا يوجد في المتعصبين لمشايخهم وكبرائهم ومذاهبهم، حيث لا يقبلون قرآنا ولا سنة في معارضة الشيخ أو الإمام، حتى إن بعضهم يجعلهم معصومين; كالرافضة، والتيجانية، والقاديانية، وغيرهم; فهم يرون أن إمامهم لا يخطئ، والكتاب والسنة يمكن أن يخطئا.


والواجب على المرء أن يكون تابعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وأما من خالفه من الكبراء والأئمة; فإنهم لا يحتج بهم على الكتاب والسنة، لكن يعتذر لهم عن مخالفة الكتاب والسنة إن كانوا أهلا للاعتذار، بحيث لم يعرف عنهم معارضة للنصوص، فيعتذر لهم بما ذكره أهل العلم، ومن أحسن ما ألف كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام"، أما من يعرف بمعارضة الكتاب والسنة; فلا يعتذر له.



1 سورة الزخرف آية : 23.

ج / 1 ص -361- الحادية عشرة : الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم لأنه لو قالها لنفعته.
الثانية عشرة: التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين، لأن في القصة أنهم لم يجادلوه إلا بها، مع مبالغته صلى الله عليه وسلم وتكريره; فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم اقتصروا عليها.


الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم: وهذا مبني على، القول بأن معنى حضرته الوفاة; أي: ظهرت عليه علاماتها ولم ينزل به كما سبق.
الثانية عشرة: التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين إلخ: وهذه الشبهة هي تعظيم الأسلاف والأكابر.




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 29-01-2015 10:48AM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين.

ج / 1 ص -362- باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين.


قوله: "سبب كفر بني آدم": السبب في اللغة: ما يتوصل به إلى غيره، ومنه قوله تعالى: { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ } 1 ; أي: بشيء يوصله إلى السماء ومنه أيضا سمي الحبل سببا; لأنه يتوصل به إلى استسقاء الماء من البئر وأما في الاصطلاح عند أهل الأصول; فهو الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم أي: إذا وجد السبب وجد المسبب، وإذا عدم السبب عدم المسبب; إلا أن يكون هناك سبب آخر يثبت به المسبب.
قوله: "بني آدم": يشمل الرجال والنساء; لأنه إذا قيل: بنو فلان، وهم قبيلة، شمل ذكورهم وإناثهم، أما إذا قيل: بنو فلان، أي رجل معين; فالمراد بهم الذكور.
قوله: "وتركهم": يعني: وسبب تركهم.


قوله: "دينهم" مفعول ترك; لأن ترك مصدر مضاف إلى فاعله، و"دينهم" يكون مفعولا به.
قوله: "هو الغلو": هذا الضمير يسمى ضمير الفصل، وهو من أدوات التوكيد، والغلو: خبر لأن ضمير الفصل على القول الراجح ليس له محل من الإعراب والغلو: هو مجاوزة الحد في الثناء مدحا أو قدحا.



1 سورة الحج آية : 15.

ج / 1 ص -363- وقول الله عزوجل:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } 1.


والقدح: يسمى ثناء، ومنه الجنازة التي مرت فأثنوا عليها شرا2 والغلو هنا: مجاوزة الحد في الثناء مدحا.
قوله: "الصالحين": الصالح: هو الذي قام بحق الله وحق العباد، وفي هذه الترجمة إضافة الشيء إلى سببه بدون أن ينسب إلى الله بقوله: "أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين"، وهذا جائز إذا كان السبب حقيقة وصحيحا، وذلك إذا كان السبب قد ثبت من قبل الشرع أو الحس أو الواقع.
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم " لولا أنا، لكان في الدرك الأسفل من النار "3 يعني: عمه أبا طالب.
قوله: "وقول الله - عزوجل -": يعني: وباب قول الله عزوجل
قوله: {يا أهل الكتاب}: نداء، وهم اليهود والنصارى: والكتاب: التوراة لليهود، والإنجيل للنصارى.
قوله: {لا تغلوا في دينكم}: أي: لا تتجاوزوا الحد مدحا أو قدحا، والأمر واقع كذلك بالنسبة لأهل الكتاب عموما; فإنهم غلوا في




1 سورة النساء آية : 171.
2 من حديث أنس, رواه البخاري (كتاب الجنائز, باب ثناء الناس على الميت1/420), ومسلم (كتاب الجنائز, باب فيمن يثنى عليه خير أو شر, 2/654).
3 من حديث العباس بن عبد المطلب, رواه البخاري (كتاب مناقب الأنصار, باب منقبة أبي طالب, 3/62), ومسلم (كتاب الإيمان, باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب, 1/194).

ج / 1 ص -364-


عيسى بن مريم عليه السلام مدحا وقدحا، حيث قال النصارى، إنه ابن الله، وجعلوه ثالث ثلاثة واليهود غلوا فيه قدحا، وقالوا: إن أمه زانية، وإنه ولد زنا، قاتلهم الله; فكل من الطرفين غلا في دينه وتجاوز الحد بين إفراط أو تفريط.
قوله: {وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ }وهو ما قاله سبحانه وتعالى عن نفسه بأنه: إله واحد، أحد، صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا.


قوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ }هذه صيغة حصر، وطريقه "إنما"; فيكون المعنى: ما المسيح عيسى ابن مريم إلا رسول الله، وأضافه إلى أمه ليقطع قول النصارى الذين يضيفونه إلى الله وفي قوله: "رسول الله" إبطال لقول اليهود: إنه كذاب، ولقول النصارى: إنه إله وفي قوله: "وكلمته" إبطال لقول اليهود: إنه ابن زنا.


وكلمته التي: {أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ } أن قال له كن فكان.
قوله: "وروح منه": أي: إنه عزوجل جعل عيسى عليه الصلاة والسلام كغيره من بني آدم من جسد وروح، وأضاف روحه إليه تشريفا وتكريما; كما في قوله تعالى في آدم: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } 1 ; فهذا للتشريف والتكريم.
قوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } 2 الخطاب لأهل الكتاب، ومن رسله محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو آخرهم وخاتمهم وأفضلهم.


قوله: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ } 3 أي: إن الله ثالث ثلاثة قوله: {انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ } 4 "خيرا": خبر ليكن المحذوفة; أي: انتهوا يكن خيرا لكم.



1 سورة الحجر آية : 29.
2 سورة الأعراف آية : 158.
3 سورة النساء آية : 171.
4 سورة النساء آية : 171.

ج / 1 ص -365-


قوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ }، أي: تنزيها له أن يكون له ولد; لأنه مالك لما في السماوات وما في الأرض، ومن جملتهم عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، فهو من جملة المملوكين المربوبين; فكيف يكون إلها مع الله أو ولدا لله؟

(تنبيه):

لم يشر المؤلف رحمه الله تعالى إلى إكمال الآية، ونرجو أن يكون في إكمالنا لها فائدة.
قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} أي: كفى الله تعالى أن يكون حفيظا على عباده، مدبرا لأحوالهم، عالما بأعمالهم والشاهد من هذه الآية.
قوله: { لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } فنهى عن الغلو في الدين لأنه يتضمن مفاسد كثيرة، منها:
1. أنه تنزيل للمغلو فيه فوق منزلته إن كان مدحا، وتحتها إن كان قدحا.
2. أنه يؤدي إلى عبادة هذا المغلو فيه كما هو الواقع من أهل الغلو.
3. أنه يصد عن تعظيم الله - سبحانه وتعالى -; لأن النفس إما أن تنشغل بالباطل أو بالحق; فإذا انشغلت بالغلو بهذا المخلوق وإطرائه وتعظيمه; تعلقت به ونسيت ما يجب لله تعالى من حقوق.


4. أن المغلو فيه إن كان موجودا; فإنه يزهو بنفسه، ويتعاظم ويعجب بها، وهذه مفسدة تفسد المغلو فيه إن كانت مدحا، وتوجب العداوة والبغضاء وقيام الحروب والبلاء بين هذا وهذا إن كانت قدحا.

ج / 1 ص -366- وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ )(النساء: من الآية171):{ وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 1.


قوله: "في دينكم": الدين يطلق على العمل والجزاء، والمراد به هنا: العمل والمعنى: لا تجعلوا عبادتكم غلوا في المخلوقين وغيرهم وهل يدخل في هذا الغلو في العبادات؟


الجواب: نعم، يدخل الغلو في العبادات، مثل أن يرهق الإنسان نفسه بالعبادة ويتعبها; فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك2 ومثل أن يزيد عن المشروع، كأن يرمي بجمرات كبيرة، أو يأتي بأذكار زائدة عن المشروع أدبار الصلوات تكميلا للوارد أو غير هذا; فالنهي عن الغلو في الدين يعم الغلو من كل وجه.


قوله: "وفي الصحيح": أي: في "صحيح البخاري"، وهذا الأثر اختصره المصنف، وقد سبق الكلام على مثل هذه العبارة في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.
قوله: "وقالوا": أي: قال بعضهم لبعض.


قوله: "لا تذرن": أي: لا تدعن وتتركن، وهذا نهي مؤكد بالنون.
قوله: "آلهتكم": هل المراد: لا تذروا عبادتها أو تمكنوا أحدا من إهانتها؟



1 سورة نوح آية : 23.
2 كما في حديث عائشة, رواه: البخاري (كتاب التهجد, باب ما يكره من التشديد في العبادة, 1/357), ومسلم (كتاب صلاة المسافرين, باب أمر من نعس في صلاته..., 1/542).

ج / 1 ص -367-

الجواب: المعنيان; أي: انتصروا لآلهتكم، ولا تمكنوا أحدا من إهانتها، ولا تدعوها للناس، ولا تدعوا عبادتها أيضا، بل احرصوا عليها، وهذا من التواصي بالباطل عكس الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتواصون بالحق.
قوله: "ولا سواعا": لا: زائدة للتوكيد، مثلها في قوله تعالى: "ولا الضالين"، وفائدتها أنهم جعلوا مدخولها كالمستقل، بخلاف يعوق ونسر; فهما دون مرتبة من سبقهما.


قوله تعالى: { وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 1 هذه الخمسة كأن لها مزية على غيرها; لأن قوله: "آلهتكم" عام يشمل كل ما يعبدون، وكأنها كبار آلهتهم; فخصوها بالذكر والآلهة: جمع إله، وهو كل ما عبد، سواء بحق أو بباطل، لكن إذا كان المعبود هو الله; فهو حق، وإن كان غير الله; فهو باطل قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح.


وفي هذا التفسير إشكال، حيث قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، وظاهر القرآن أنها قبل نوح، قال تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ } 2; ظاهر الآية الكريمة: أن قوم نوح كانوا يعبدونها، ثم نهاهم نوح عن عبادتها، وأمرهم بعبادة الله وحده، ولكنهم أبوا وقالوا: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ } وهذا (أعني: القول بأنهم قبل نوح) قول محمد بن كعب ومحمد بن قيس، وهو الراجح لموافقته ظاهر القرآن ويحتمل - وهو بعيد - أن هذا في أول رسالة نوح، وأنه استجاب له هؤلاء الرجال وآمنوا به، ثم بعد ذلك ماتوا قبل نوح ثم عبدوهم، لكن هذا بعيد حتى



1 سورة نوح آية : 23.
2 سورة نوح آية : 21-22-23.

ج / 1 ص -368- قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا; أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسي العلم; عبدت1.


من سياق الأثر عن ابن عباس فالمهم أن تفسير الآية أن يقال: هذه أصنام في قوم نوح كانوا رجالا صالحين، فطال على قومهم الأمد، فعبدوهم.
قوله: "أوحى الشيطان": أي: وحي وسوسة، وليس وحي إلهام.
قوله: "أن انصبوا إلى مجالسهم": الأنصاب: جمع نصب، وهو كل ما ينصب من عصا أو حجر أو غيره.


قوله: "وسموهم بأسمائهم": أي: ضعوا أنصابا في مجالسهم، وقولوا: هذا ود، وهذا سواع، وهذا يغوث، وهذا يعوق، وهذا نسر; لأجل إذا رأيتموهم تتذكروا عبادتهم فتنشطوا عليها، هكذا زين لهم الشيطان، وهذا غرور ووسوسة من الشيطان كما قال لآدم: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} 2 وإذا كان العبد لا يتذكر عبادة الله إلا برؤية أشباح هؤلاء; فهذه عبادة قاصرة أو معدومة.


قوله: "ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم; عبدت من دون الله": ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، والقرن مئة سنة، حتى إذا طال عليهم الأمد حصل النزاع والتفرق، فبعث الله النبيين; كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } 3 الآية.



1 رواه البخاري (كتاب التفسير, باب ودا ولا سواعا ولا يغوث , 3/316).
2 سورة طه آية : 120.
3 سورة البقرة آية : 213.

ج / 1 ص -369- قال ابن القيم: " قال غير واحد من السلف: لما ماتوا; عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم".


هذا هو تفسير ابن عباس رضي الله عنهما للآية، وهل تفسيره حجة؟
الجواب: يرجع في التفسير أولا إلى القرآن; فالقرآن يفسر بعضه بعضا، مثل قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} 1 تفسيرها: {نَارٌ حَامِيَةٌ} 2 فإن لم نجد في القرآن; فإلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن لم نجد; فإلى تفسير الصحابة، وتفسير الصحابي حجة بلا شك; لأنهم أدرى بالقرآن حيث نزل بعصرهم وبلغتهم، ويعرفون عنه أكثر من غيرهم، حتى قال بعض العلماء: إن تفسير الصحابي في حكم المرفوع، وهذا ليس بصحيح، لكنه لا شك أنه حجة على من بعدهم، فإن اختلف الصحابة في التفسير أخذنا بما يرجحه سياق الآية، والآية تدل على ما ذكره ابن عباس; إلا أن ظاهر السياق أن هؤلاء القوم الصالحين كانوا قبل نوح صلى الله عليه وسلم وقد عرفت القول الراجح.
قوله: "الأمد": الزمن وهذا كتفسير ابن عباس; إلا أن ابن عباس يقول: " إنهم جعلوا الأنصاب في مجالسهم " وهنا يقول: "عكفوا على قبورهم"، ولا يبعد أنهم فعلوا هذا وهذا، أو أنهم قبروا في مجالسهم; فتكون هي محل القبور والشاهد قوله: "ثم طال عليهم الأمد; فعبدوهم"; فسبب العبادة إذا الغلو في هؤلاء الصالحين حتى عبدوهم.



1 سورة القارعة آية : 10.
2 سورة القارعة آية : 11.

ج / 1 ص -370- وعن عمر; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله " أخرجاه1.


قوله: "لا تطروني": الإطراء: المبالغة في المدح.
وهذا النهي يحتمل أنه منصت على هذا التشبيه، وهو قوله: "كما أطرت النصارى ابن مريم"، حيث جعلوه إلها أو ابنا لله، وبهذا يوحي قول البوصيري:

دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
أي: دع ما قاله النصارى أن عيسى عليه الصلاة والسلام ابن الله أو ثالث ثلاثة، والباقي املأ فمك في مدحه ولو بما لا يرضيه ويحتمل أن النهي عام; فيشمل ما يشابه غلو النصارى في عيسى ابن مريم وما دونه ويكون قوله: "كما أطرت" لمطلق التشبيه لا للتشبيه المطلق; لأن إطراء النصارى عيسى بن مريم سببه الغلو في هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حيث جعلوه ابنا لله وثالث ثلاثة، والدليل على أن المراد هذا.
قوله: "إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله".


قوله: "إنما أنا عبد": أي: ليس لي حق من الربوبية، ولا مما يختص به الله عزوجل أبدا.
قوله: "فقولوا عبد الله ورسوله": هذان الوصفان أصدق وصف وأشرفه في الرسول صلى الله عليه وسلم فأشرف وصف للإنسان أن يكون من عباد الله، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً } 2، وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} 3 ; فوصفهم الله بالعبودية قبل الرسالة مع أن الرسالة شرف عظيم، لكن كونهم



1 أخرجه البخارى (3445, 6830), وأحمد (1/23 ,1/24)، ولم أجده عند مسلم.
2 سورة الفرقان آية : 63.
3 سورة الصافات آية : 171.

ج / 1 ص -371-


عبادا لله عزوجل أشرف وأعظم، وأشرف وصف له وأحق وصف به، ولهذا يقول الشاعر في محبوبته:

فإنه أشرف أسمائي لا تدعني إلا بيا عبدها
أي: أنت إذا أردت أن تكلمني قل: يا عبد فلانة; لأنه أشرف أسمائي وأبلغ في الذل فمحمد صلى الله عليه وسلم عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب، ولهذا نقوله في صلاتنا عندما نسلم عليه ونشهد له بالرسالة: "وأشهد أن محمدا عبده ورسوله1 "; فهذا أفضل وصف اختاره النبي عليه الصلاة والسلام لنفسه.


واعلم أن الحقوق ثلاثة أقسام،
وهي:
الأول: حق لله لا يشرك فيه غيره: لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وهو ما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
الثاني: حق خاص للرسل، وهو إعانتهم وتوقيرهم وتبجيلهم بما يستحقون.
الثالث. حق مشترك، وهو الإيمان بالله ورسله، وهذه الحقوق موجودة في الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ }فهذا حق مشترك،:{ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ }هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم:{ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} هذا خاص بالله - سبحانه وتعالى - والذين يغلون في الرسول صلى الله عليه وسلم يجعلون حق الله له; فيقولون:



1 من حديث ابن مسعود, رواه: البخاري (كتاب الاستئذان, باب السلام اسم من أسماء الله تعالى, 4/136), ومسلم (كتاب الصلاة, باب التشهد في الصلاة, 1/301).

ج / 1 ص -372- وقال: قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم " إياكم والغلو..........


"وتسبحوه}; أي: الرسول، فيسبحون الرسول كما يسبحون الله، ولا شك أنه شرك; لأن التسبيح من حقوق الله الخاصة به، بخلاف الإيمان; فهو من الحقوق المشتركة بين الله ورسوله ونهى عن الإطراء في قوله عليه الصلاة والسلام: " كما أطرت النصارى عيسى بن مريم " لأن الإطراء والغلو يؤدي إلى عبادته كما هو الواقع الآن; فيوجد عند قبره في المدينة من يسأله، فيقول: يا رسول الله ! المدد، المدد، يا رسول الله ! أغثنا، يا رسول الله ! بلادنا يابسة، وهكذا. ورأيت بعيني رجلا يدعو الله تحت ميزاب الكعبة موليا ظهره البيت مستقبلا المدينة; لأن استقبال القبر عنده أشرف من استقبال الكعبة والعياذ بالله.


ويقول بعض المغالين: الكعبة أفضل من الحجرة، فأما والنبي صلى الله عليه وسلم فيها; فلا والله، لا الكعبة، ولا العرش وحملته، ولا الجنة فهو يريد أن يفضل الحجرة على الكعبة وعلى العرش وحملته وعلى الجنة، وهذه مبالغة لا يرضاها النبي صلى الله عليه وسلم لنا ولا لنفسه وصحيح أن جسده صلى الله عليه وسلم أفضل، ولكن كونه يقول: إن الحجرة أفضل من الكعبة والعرش والجنة; لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فيها هذا خطأ عظيم، نسأل الله السلامة من ذلك.
قوله: "إياكم": للتحذير.


قوله: "والغلو": معطوف على إياكم، وقد اضطرب فيه المعربون اضطرابا كثيرا، وأقرب ما قيل للصواب وأقله تكلفا: أن إيا منصوبة بفعل أمر مقدر تقديره إياك أُحَذِّر; أي: احذر نفسك أن تغرك، والغلو معطوف على إياك; أي: واحذر الغلو.
والغلو كما سبق: هو مجاوزة الحد مدحا أو ذما، وقد يشمل ما هو

ج / 1 ص -373- فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو "1.


أكثر من ذلك أيضا; فيقال: مجاوزة الحد في الثناء وفي التعبد وفي العمل; لأن هذا الحديث ورد في رمي الجمرات، حيث روى ابن عباس; قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته: " القط لي حصى فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف; فجعل ينفضهن في كفه، ويقول: أمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين; فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين "2 هذا لفظ ابن ماجه والغلو: فاعل أهلك.
قوله: "من كان قبلكم": مفعول مقدم.


قوله: "وإنما": أداة حصر، والحصر: إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه.
قوله: "أهلك": يحتمل معنيين:
الأول: أن المراد هلاك الدين، وعليه يكون الهلاك واقعا مباشرة من الغلو; لأن مجرد الغلو هلاك.
الثاني: أنه هلاك الأجسام، وعليه يكون الغلو سببا للهلاك; أي: إذا غلوا خرجوا عن طاعة الله فأهلكهم الله.
وهل الحصر في قوله: "فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" حقيقي أو إضافي؟



1 من حديث ابن عباس, رواه: أحمد في "المسند" (1/215, 347), والنسائي في "الصغرى" (كتاب مناسك الحج, باب التقاط الحصى, 5/268), وابن ماجه (كتاب المناسك, باب, قدر الحصى, 2/1008), وابن أبي عاصم في "السنة" برقم (98), وابن حبان برقم (1011), والطبراني في "الكبير" برقم (12747), والحاكم (1/466)- وصححه على شرط الشيخين, ووافقه الذهبي-, والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/127). وقال النووي في "المجموع" (8/137): "إسناده صحيح على شرط مسلم", وكذا قال شيخ الإسلام في "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص 106).
2 النسائي : مناسك الحج (3057).

ج / 1 ص -374-


الجواب: إن قيل: إنه حقيقي; حصل إشكال، وهو أن هناك أحاديث أضاف النبي صلى الله عليه وسلم الهلاك فيها إلى أعمال غير الغلو، مثل قوله صلى الله عليه وسلم " إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد "1 فهنا حصران متقابلان; فإذا قلنا: إنه حقيقي بمعنى أنه لا هلاك إلا بهذا حقيقة; صار بين الحديثين تناقض.


وإن قيل: إن الحصر إضافي; أي: باعتبار عمل معين; فإنه لا يحصل تناقض بحيث يحمل كل منهما على جهة لا تعارض الحديث الآخر لئلا يكون في حديثه صلى الله عليه وسلم تناقض، وحينئذ يكون الحصر إضافيا، فيقال: أهلك من كان قبلكم الغلو هذا الحصر باعتبار الغلو في التعبد في الحديث الأول، وفي الآخر يقال: أهلك من كان قبلكم باعتبار الحكم، فيهلك الناس إذا أقاموا الحد على الضعيف دون الشريف.
وفي هذا الحديث يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من الغلو، ويبرهن على أن الغلو سبب للهلاك لأنه مخالف للشرع ولإهلاكه للأمم السابقة;


فيستفاد منه تحريم الغلو من وجهين:

الوجه الأول: تحذيره صلى الله عليه وسلم والتحذير نهي وزيادة.
الوجه الثاني: أنه سبب لإهلاك الأمم كما أهلك من قبلنا، وما كان سبب للهلاك كان محرما.

أقسام الناس في العبادة:
والناس في العبادة طرفان ووسط; فمنهم المفرط، ومنهم المفرط، ومنهم المتوسط فدين الله بين الغالي فيه


ـ
1 أخرجه: البخاري في (أحاديث الأنبياء, 6/513), ومسلم في (الحدود, 3/1315).

ج / 1 ص -375-


والجافي عنه، وكون الإنسان معتدلا لا يميل إلى هذا ولا إلى هذا، هذا هو الواجب; فلا يجوز التشدد في الدين والمبالغة، ولا التهاون وعدم المبالاة، بل كن وسطا بين هذا وهذا.
والغلو له أقسام كثيرة; منها: الغلو في العقيدة ومنها: الغلو في العبادة، ومنها، الغلو في المعاملة، ومنها: الغلو في العادات والأمثلة عليها كما يلي:
أما الغلو في العقيدة; فمثل ما تشدق فيه أهل الكلام بالنسبة لإثبات الصفات، فإن أهل الكلام تشدقوا وتعمقوا حتى وصلوا إلى الهلاك قطعا، حتى أدى بهم هذا التعمق إلى واحد من أمرين: إما التمثيل، أو التعطيل إما أنهم مثلوا الله بخلقه، فقالوا: هذا معنى إثبات الصفات، فغلوا في الإثبات حتى أثبتوا ما نفى الله عن نفسه، أو عطلوه وقالوا: هذا معنى تنزيهه عن مشابهة المخلوقات، وزعموا أن إثبات الصفات تشبيه; فنفوا ما أثبته الله لنفسه.


لكن الأمة الوسط اقتصدت في ذلك; فلم تتعمق في الإثبات ولا في النفي والتنزيه; فأخذوا بظواهر اللفظ، وقالوا: ليس لنا أن نزيد على ذلك; فلم يهلكوا، بل كانوا على الصراط المستقيم، ولما دخل هؤلاء الفرس والروم وغيرهم في الدين; صاروا يتعمقون في هذه الأمور ويجادلون مجادلات ومناظرات لا تنتهي أبدا; حتى ضاعوا، نسأل الله السلامة وكل الإيرادات التي أوردها المتأخرون من هذه الأمة على النصوص، لم يوردها الصحابة الذين هم الأمة الوسط.


أما الغلو في العبادات; فهو التشدد فيها، بحيث يرى أن الإخلال بشيء منها كفر وخروج عن الإسلام، كغلو الخوارج والمعتزلة، حيث قالوا إن من فعل كبيرة من الكبائر; فهو خارج عن الإسلام وحل دمه.

ج / 1 ص -376-


وماله، وأباحوا الخروج على الأئمة وسفك الدماء، وكذا المعتزلة، حيث قالوا: من فعل كبيرة; فهو بمنزلة بين المنزلتين: الإيمان والكفر; فهذا تشدد أدى إلى الهلاك، وهذا التشدد قابله تساهل المرجئة، فقالوا: إن القتل والزنا والسرقة وشرب الخمر ونحوها من الكبائر، لا تخرج من الإيمان، ولا تنقص من الإيمان شيئا، وإنه يكفي في الإيمان الإقرار، وإن إيمان فاعل الكبيرة كإيمان جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يختلف الناس في الإيمان حتى إنهم ليقولون: إن إبليس مؤمن لأنه مقر، وإذا قيل: إن الله كفره; قالوا: إذن إقراره ليس بصادق، بل هو كاذب وهؤلاء في الحقيقة يصلحون لكثير من الناس في هذا الزمان، ولا شك أن هذا تطرف بالتساهل، والأول تطرف بالتشدد، ومذهب أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص، وفاعل المعصية ناقص الإيمان بقدر معصيته، ولا يخرج من الإيمان إلا بما برهنت النصوص على أنه كفر.


وأما الغلو في المعاملات; فهو التشدد في الأمور بتحريم كل شيء حتى ولو كان وسيلة، وأنه لا يجوز للإنسان أن يزيد عن واجبات حياته الضرورية، وهذا مسلك سلكه الصوفية، حيث قالوا: من اشتغل بالدنيا; فهو غير مريد للآخرة، وقالوا: لا يجوز أن تشتري ما زاد على حاجتك الضرورية، وما أشبه ذلك.
وقابل هذا التشدد تساهل من قال: بحل كل شيء ينمي المال ويقوي الاقتصاد; حتى الربا والغش وغير ذلك فهؤلاء - والعياذ بالله - متطرفون بالتساهل; فتجده يكذب في ثمنها وفي وصفها وفي كل شيء لأجل أن يكسب فلسا أو فلسين، وهذا لا شك أنه تطرف.


والتوسط أن يقال: تحل المعاملات وفق ما جاءت به النصوص،

ج / 1 ص -377- ولمسلم عن ابن مسعود; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " هلك المتنطعون "1 قالها ثلاثا2.


;{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا }3 فليس كل شيء حراما; فالنبي صلى الله عليه وسلم باع واشترى، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يبيعون ويشترون، والنبي صلى الله عليه وسلم يقرهم.


وأما الغلو في العادات; فإذا كانت هذه العادة يخشى أن الإنسان إذا تحول عنها انتقل من التحول في العادة إلى التحول في العبادة; فهذا لا حرج أن الإنسان يتمسك بها، ولا يتحول إلى عادة جديدة، أما إذا كان الغلو في العادة يمنعك من التحول إلى عادة جديدة مفيدة أفيد من الأولى; فهذا من الغلو المنهي عنه، فلو أن أحدا تمسك بعادته في أمر حدث أحسن من عادته التي هو عليها نقول: هذا في الحقيقة غال ومفرط في هذه العادة وأما إن كانت العادات متساوية المصالح، لكنه يخشى أن ينتقل الناس من هذه العادة إلى التوسع في العادات التي قد تخل بالشرف أو الدين; فلا يتحول إلى العادة الجديدة.


قوله: "المتنطعون": المتنطع: هو المتعمق المتقعر المتشدق، سواء كان في الكلام أو في الأفعال; فهو هالك، حتى ولو كان ذلك في الأقوال المعتادة; فبعض الناس يكون بهذه الحال، حتى إنه ربما يقترن بتعمقه وتنطعه الإعجاب بالنفس في الغالب، وربما يقترن به فتجده إذا تكلم يتكلم بأنفه، فتسلم عليه فتسمع الرد من الأنف إلى غير ذلك من الأقوال والتنطع بالأفعال كذلك أيضا قد يؤدي إلى الإعجاب أو إلى الكبر، ولهذا



1 مسلم : العلم (2670) , وأبو داود : السنة (4608) , وأحمد (1/386).
2 في (كتاب العلم, باب هلك المتنطعون, 4/2055).
3 سورة البقرة آية : 275.



ج / 1 ص -378- فيه مسائل:
الأولى: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده; تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب.


قال: "هلك المتنطعون" والتنطع أيضا في المسائل الدينية يشبه الغلو فيها، فهو أيضا من أسباب الهلاك، ومن ذلك ما يفعله بعض الناس من التنطع في صفات الله تعالى والتقعر فيها، حيث يسألون عما لم يسأل عنه الصحابة رضي الله عنهم، وهم يعلمون أن الصحابة خير منهم وأشد حرصا على العلم، وفيهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ الذي عنده من الإجابة على الأسئلة ما ليس عند غيره من الناس مهما بلغ علمهم.


فهذه الأحاديث الثلاثة كلها تدل على تحريم الغلو، وأنه سبب للهلاك وأن الواجب أن يسير العبد إلى الله بين طرفي نقيض بالدين الوسط، فكما أن هذه الأمة هي الوسط ودينها هو الوسط; فينبغي أن يكون سيرها في دينها على الطريق الوسط.


فيه مسائل:

الأولى: أن من فهم هذا الباب - أي: بما مر من تفسير الآية الكريمة: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ }1 - وبابين بعده; تبين له غربة الإسلام وهذا حق; فإن الإسلام المبني على التوحيد الخالص غريب، فكثير من البلدان الإسلامية تجد فيها الغلو في الصالحين في قبورهم فلا تجد بلدا مسلما إلا وفيه غلو في قبور الصالحين، وقد يكون ليس قبر رجل صالح، قد يكون وهما، مثل قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما; فأهل



1 سورة نوح آية : 23.

ج / 1 ص -379- الثانية: معرفة أول شرك حدث في الأرض; كان بشبهة الصالحين.
الثالثة: معرفة أول شيء غير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك، مع معرفة أن الله أرسلهم.


العراق يقولون: هو عندنا، وأهل الشام يقولون: عندنا، وأهل مصر يقولون: عندنا، وبعضهم يقول: هو في المغرب; فصار الحسين إما أنه أربعة رجال، أو مقطع أوصالا، وهذا كله ليس بصحيح; فالمهم أنه كما قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: تبين لك غربة الإسلام أي في المسلمين. وكذلك الجزيرة العربية قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيها قبور وقباب تعبد من دون الله ويحج إليها وتقصد، ولكن بتوفيق الله - سبحانه وتعالى - أنه أعان هذا الرجل مع الإمام محمد بن سعود حتى قضى عليها وهدمها، وصارت البلاد ولله الحمد على التوحيد الخالص.


الثانية: معرفة أول شرك حدث في الأرض: وجه ذلك: أن هذه الأصنام التي عبدها قوم نوح كانوا أقواما صالحين، فحدث الغلو فيهم، ثم عبدوا من دون الله; ففيه الحذر من الغلو في الصالحين.
الثالثة: معرفة أول شيء غير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك، مع معرفة أن الله أرسلهم: أول شيء غير به دين الأنبياء هو الشرك، وسببه هو الغلو في الصالحين، وقوله: "مع معرفة أن الله أرسلهم"، قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } 1 ; أي: كانوا أمة واحدة على التوحيد، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه; فهذا أول ما حدث من الشرك في بني آدم.



1 سورة البقرة آية : 213.

ج / 1 ص -380- الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها.
الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل: فالأول محبة الصالحين، والثاني فعل أناس من أهل العلم والدين شيئا أرادوا به خيرا فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره.


الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها. قوله: "قبول البدع": أي: أن النفوس تقبلها لا لأنها مشروعة، بل إن الشرائع تردها، وكذلك الفطر السليمة تردها; لأن الفطر السليمة جبلت على عبادة الله وحده لا شريك له; كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } 1 ; فالفطر السليمة لا تقبل تشريعا إلا ممن يملك ذلك.


الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل: أراد المؤلف رحمه الله أن يبين أن مزج الحق بالباطل حصل بأمرين:
الأول: محبة الصالحين، ولهذا صوروا تماثيلهم محبة لهم، ورغبة في مشاهدة أشباحهم.


الثاني: أن أهل العلم والدين أرادوا بذلك خيرا، وهو أن ينشطوا على العبادة، ولكن من بعدهم أرادوا غير الخير الذي أراده أولئك، ويؤخذ منه: أن من أراد تقوية دينه ببدعة; فإن ضررها أكثر من نفعها. مثال ذلك: أولئك الذين يغلون في الرسول صلى الله عليه وسلم ويجعلون له الموالد هم يريدون بذلك خيرا، لكن أرادوا خيرا بهذه البدعة فصار ضررها أكثر من نفعها; لأنها تعطي الإنسان نشاطا غير مشروع في وقت معين، ثم يعقبه فتور غير مشروع في بقية العام. ولهذا تجد هؤلاء الذين يغالون في هذه البدع فاترين في الأمور المشروعة الواضحة ليسوا كنشاط غيرهم،



1 سورة الروم آية : 30.

ج / 1 ص -381-


وهذا مما يدل على تأثير البدع في القلوب وأنها مهما زينها أصحابها; فلا تزيد الإنسان إلا ضلالا; لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " كل بدعة ضلالة "1 فإن قيل: إن للاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم أصلا من السنة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين; فقال: " ذاك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، أو أنزل علي فيه "2 وكان صلى الله عليه وسلم يصومه مع الخميس ويقول: " إنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله; فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم "3

فالجواب على ذلك من وجوه:
الأول: أن الصوم ليس احتفالا بمولده كاحتفال هؤلاء، وإنما هو صوم وإمساك، أما هؤلاء الذين يجعلون له الموالد; فاحتفالهم على العكس من ذلك. فالمعنى: أن هذا اليوم إذا صامه الإنسان; فهو يوم مبارك حصل فيه هذا الشيء، وليس المعنى أننا نحتفل بهذا اليوم.
الثاني: أنه على فرض أن يكون هذا أصلا; فإنه يجب أن يقتصر فيه




1 من حديث جابر, رواه: مسلم (كتاب الجمعة, باب تخفيف الصلاة والخطبة, 2/592).
2 من حديث أبي قتادة, رواه: مسلم (كتاب الصيام, باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر, 2/819).
3 من حديث أبي هريرة, رواه الترمذي (كتاب الصوم, باب ما جاء في صوم الاثنين والخميس, 3/94), وقال: "حديث حسن غريب". ورواه مسلم (4/1987) دون ذكر الصيام, ولفظه: "تعرض الأعمال في كل خميس واثنين; فيغفر الله -عز وجل- لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا..." الحديث. وأخرج أيضا أبو داود برقم (2436), والنسائي برقم (2360), وابن ماجه برقم (1738); من حديث أسامة بن زيد نحوه. وحسنه المنذري. "مختصر المنذري".

ج / 1 ص -382-


على ما ورد; لأن العبادات توقيفية، ولو كان الاحتفال المعهود عند الناس اليوم مشروعا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم إما بقوله، أو فعله، أو إقراره.
الثالث: أن هؤلاء الذين يحتفلون بمولد النبي صلى الله عليه وسلم لا يقيدونه بيوم الاثنين، بل في اليوم الذي زعموا مولده فيه، وهو اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، مع أن ذلك لم يثبت من الناحية التاريخية، وقد حقق بعض الفلكيين المتأخرين ذلك; فكان في اليوم التاسع لا في اليوم الثاني عشر.
الرابع: أن الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم على الوجه المعروف بدعة ظاهرة; لأنه لم يكن معروفا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه.
مسألة حكم الاحتفال بعيد ميلاد الأطفال.


فائدة:
كل شيء يتخذ عيدا يتكرر كل أسبوع، أو كل عام وليس مشروعا، فهو من البدع، والدليل على ذلك: أن الشارع جعل للمولود العقيقة، ولم يجعل شيئا بعد ذلك، واتخاذهم هذه الأعياد تتكرر كل أسبوع أو كل عام معناه أنهم شبهوها بالأعياد الإسلامية، وهذا حرام لا يجوز، وليس في الإسلام شيء من الأعياد إلا الأعياد الشرعية الثلاثة: عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع، وهو يوم الجمعة. وليس هذا من باب العادات لأنه يتكرر، ولهذا لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم فوجد للأنصار عيدين يحتفلون بهما; قال: " إن الله أبدلكما بخير منهما: عيد الأضحى، وعيد الفطر "1 مع أن هذا من الأمور العادية عندهم.



1 من حديث أنس, أخرجه: أحمد في "المسند" (3/103). ورواه: أبو داود (كتاب الصلاة, باب صلاة العيدين, 1134), والنسائي في (العيدين, 3/ 179), والحاكم (1/294), والبيهقي (3/277). وإسناده صحيح; كما في "تخريج أحاديث العيدين" (ص 52).

ج / 1 ص -383- السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح.
السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد.


السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح: وقد سبق ذلك وبيان أنهم يتواصون بالباطل، وهذا خلاف طريق المؤمنين الذين يتواصون بالحق والصبر والمرحمة، ويشبههم أهل الباطل والضلال الذين يتواصون بما هم عليه، سواء كانوا رؤساء سياسيين أو رؤساء دينيين ينتسبون إلى الدين، فتجد الواحد منهم لا يموت إلا وقد وضع له ركيزة من بعده ينمي هذا الأمر الذي هو عليه.


السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد: هذه العبارة تقيد من حيث كونه آدميا بقطع النظر عمن يمن الله عليه بتزكيه النفس; فإن الله يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 1 قوله: "جبلة": على وزن فعلة، وهو ما يجبل المرء عليه; أي: يخلق عليه ويطبع ويبدع، بمعنى الطبيعة التي عليها الإنسان من حيث هو إنسان بقطع النظر عن كونه زكى نفسه أو دساها.


فالإنسان من حيث هو إنسان وصفه الله بوصفين; فقال تعالى: { إِنَّ الأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} 2، وقال تعالى: {وَحَمَلَهَا الأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} 3 أما من حيث ما يمن الله به عليه من الإيمان والعمل الصالح; فإنه يرتقي عن هذا، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} 4 ; فالإنسان الذي يمن الله عليه بالهدى; فإن الباطل الذي في قلبه يتناقص وربما يزول بالكلية; كعمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وغيرهم.



1 سورة آية : 9-10.
2 سورة إبراهيم آية : 34.
3 سورة الأحزاب آية : 72.
4 سورة آية : 4-5-6.

ج / 1 ص -384- الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر.


وكذلك أهل العلم; كأبي الحسن الأشعري، كان معتزليا، ثم كلابيا، ثم سنيا، وابن القيم كان صوفيا، ثم من الله عليه بصحبة شيخ الإسلام ابن تيمية; فهداه الله على يده حتى كان ربانيا.
الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر: قال أهل العلم: إن الكفر له أسباب متعددة، ولا مانع أن يكون للشيء الواحد أسباب متعددة، ومن ذلك الكفر، ذكروا من أسبابه البدعة، وقالوا: إن البدعة لا تزال في القلب، يظلم منها شيئا فشيئا; حتى يصل إلى الكفر، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم " كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار "1.


وقالوا أيضا: "إن المعاصي بريد الكفر" وبريد الشيء ما يوصل إلى الغاية. والمعاصي كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم تتراكم على القلب; فتنكت فيه نكتة سوداء، فإن تاب; صقل قلبه وابيض2 وإلا; فلا تزال هذه النكتة السوداء تتزايد حتى يصبح مظلما.
وكذلك حذر من محقرات الذنوب، وضرب لها مثلا بقوم نزلوا أرضا، فأرادوا أن يطبخوا، فذهب كل واحد منهم وأتى بعود، فأتى هذا بعود وهذا بعود، فجمعوها، فأضرموا نارا كبيرة3 وهكذا المعاصي; فالمعاصي لها تأثير قوي على القلب، وأشدها تأثيرا الشهوة فهي أشد من



1 أخرجه: النسائي (3/188).
2 من حديث أبي هريرة, أخرجه: أحمد (2/297). ورواه: الترمذي (كتاب التفسير, باب ويل للمطففين , 9/69)- وقال: "حسن صحيح"-, وابن ماجه (كتاب الزهد, باب ذكر الذنوب, 2/1418).
3 من حديث سهل بن سعد, رواه: أحمد في "المسند" (5/331). انظر "مجمع الزوائد" للهيثمي (10/190).

ج / 1 ص -385- التاسعة: معرفة الشيطان بما تئول إليه البدعة، ولو حسن قصد الفاعل.


الشبهة; لأن الشبهة أيسر زوالا على من يسرها الله عليه; إذ إن مصدرها الجهل، وهو يزول بالتعلم.
أما الشهوة، وهي إرادة الإنسان الباطل; فهي البلاء الذي يقتل به العالم والجاهل، ولذا كانت معصية اليهود أكبر من معصية النصارى; لأن معصية اليهود سببها الشهوة وإرادة السوء والباطل، والنصارى سببها الشبهة، ولهذا كانت البدع غالبها شبهة، ولكن كثيرا منها سببه الشهوة، ولهذا يبين الحق لأهل الشهوة من أهل البدع، فيصرون عليها، وغالبهم يقصد بذلك بقاء جاهه ورئاسته بين الناس دون صلاح الخلق، ويظن في نفسه ويملي عليه الشيطان أنه لو رجع عن بدعته لنقصت منزلته بين الناس، وقالوا: هذا رجل متقلب وليس عنده علم، لكن الأمر ليس كذلك; فأبو الحسن الأشعري مضرب المثل في هذا الباب; فإنه لما كان من المعتزلة لم يكن إماما، ولما رجع إلى مذهب أهل السنة صار إماما; فكل من رجع إلى الحق ازدادت منزلته عند الله - سبحانه -، ثم عند خلقه. والخلاصة: أن البدعة سبب للكفر ولا يرد على هذا قول بعض أهل العلم: إن المعاصي بريد الكفر; لأنه لا مانع من تعدد الأسباب.


التاسعة: معرفة الشيطان بما تئول إليه البدعة ولو حسن قصد الفاعل: لأن الشيطان هو الذي سول لهؤلاء المشركين أن يصوروا هذه التماثيل والتصاوير; لأنه يعرف أن هذه البدعة تئول إلى الشرك.
وقوله: "ولو حسن قصد الفاعل": أي: إن البدعة شر ولو حسن قصد فاعلها، ويأثم إن كان عالما أنها بدعة ولو حسن قصده; لأنه أقدم على المعصية كمن يجيز الكذب والغش ويدعي أنه مصلحة، أما لو كان

ج / 1 ص -386-


جاهلا فإنه لا يأثم; لأن جميع المعاصي لا يأثم بها إلا مع العلم، وقد يثاب على حسن قصده، وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم"; فيثاب على نيته دون عمله، فعمله هذا غير صالح ولا مقبول عند الله ولا مرضي، لكن لحسن نيته مع الجهل يكون له أجر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي صلى وأعاد الوضوء بعدما وجد الماء وصلى ثانية: " لك الأجر مرتين "1 لحسن قصده، ولأن عمله عمل صالح في الأصل، لكن لو أراد أحد أن يعمل العمل مرتين مع علمه أنه غير مشروع; لم يكن له أجر لأن عمله غير مشروع لكونه خلاف السنة; فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي لم يعد: " أصبت السنة "2.


فإن قال: إني أريد بهذه البدعة إحياء الهمم والتنشيط وما أشبه ذلك.
أجيب: بأن هذه الإرادة طعن في رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه اتهام له بالتقصير أو القصور، أي مقصر في الإخبار عن ذلك أو قاصر في العلم، وهذا أمر عظيم وخطر جسيم، ولأن هذا لم يكن عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون، أما إذا كان حسن القصد، ولم يعلم أن هذا بدعة; فإنه يثاب على نيته ولا يثاب على عمله; لأن عمله شر حابط كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا; فهو رد "3.



1 من حديث أبي سعيد الخدري, رواه: أبو داود برقم (338), والنسائي برقم (433), والدارمي (كتاب الطهارة, باب التيمم, 1/55), والدارقطني (1/188), والحاكم (1/ 179). وصححه على شرط الشيخين, ووافقه الذهبي. وانظر: "التلخيص الحبير" (1/155).
2 انظر التّخريج السابق.


3 أخرجه: البخاري معلقا بصيغة الجزم في (البيوع, 1/100), ومسلم في (الأقضية, 3/ 1343).

ج / 1 ص -387- العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو، ومعرفة ما يئول إليه.
الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح.
الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها.


وأما العامة الذين لا يعلمون، وقد لبس عليهم هذه البدعة، وغيرها; نقول: ما داموا قاصدين للحق ولا علموا به; فإثمهم على من أفتاهم ومن أضلهم. ولهذا يوجد في مجاهل أفريقيا وغيرها من لا يعرفون عن الإسلام شيئا، فلو ماتوا لا نقول: إنهم مسلمون ونصلي عليهم ونترحم عليهم مع أنهم لم تقم عليهم الحجة، لكننا نعاملهم في الدنيا بالظاهر، أما في الآخرة; فأمرهم إلى الله.
العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يئول إليه: هذا ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم لأن الغلو مجاوزة الحد، وهو كما يكون في العبادات يكون في غيرها، قال تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا } 1، وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا } 2، وقد سبق بيان ذلك.
الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح: المضرة الحاصلة: هي أنها توصل إلى عبادتهم. ومثل ذلك: ما لو قرئ القرآن عند قبر رجل صالح، أو تصدق عند هذا القبر يعتقد أن لذلك مزية على غيره; فإن هذا من البدع، وهذه البدعة قد تؤدي بصاحبها إلى عبادة هذا القبر.
الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها.



1 سورة الأعراف آية : 31.
2 سورة الفرقان آية : 67.

ج / 1 ص -388- الثالثة عشرة: معرفة عظم شأن هذه القصة وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.
الرابعة عشرة: وهي أعجب العجب: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح هو أفضل العبادات، واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال.


التماثيل: هي الصور على مثال رجل، أو حيوان، أو حجر، والغالب أنها تطلق على ما صنع ليعبد من دون الله. والحكمة في إزالتها سد ذرائع الشرك.
الثالثة عشرة: معرفة عظم شأن هذه القصة: أي: قصة هؤلاء الذين غلوا في الصالحين وغير الصالحين، لكن اعتقدوا فيهم الصلاح، حتى تدرج بهم الأمر إلى عبادتهم من دون الله; فتجب معرفة هذه القصة، وأن أمر الغلو عظيم، ونتائجه وخيمة; فالحاجة شديدة إلى ذلك، والغفلة عنها كثيرة، والناس لو تدبرت أحوالهم وسبرت قلوبهم وجدت أنهم في غفلة عن هذا الأمر، وهذا موجود في البلاد الإسلامية.
الرابعة عشرة: وهي أعجب العجب -: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث.
قوله: "وأعجب": أي: أكثر عجبا وأشد، والعجب نوعان: الأول: بمعنى الاستحسان، وهو ما إذا تعلق بمحمود; كقول عائشة في الحديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، وفي شأنه كله "1.




1 رواه: البخاري (كتاب الوضوء, باب التيمن, 1/75), ومسلم (كتاب الطهارة, باب التيمن في الطهور وغيره, 1/226).

ج / 1 ص -389- الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة.
السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك.


الثاني: بمعنى الإنكار، وذلك فيما إذا تعلق بمذموم، قال تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أ} 1. وكلام المؤلف هنا من باب الإنكار. وكلام المؤلف هنا عما كان في زمنه، حيث غفلوا عن هذه القصة مع قراءتهم لها في كتب التفسير والحديث، واعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات، وهذا من أضر ما يكون على المرء أن يعتقد السيئ حسنا، قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } 2، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 3.
قوله: "واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال": أي: من اعتقد أن الشرك والكفر من أفضل العبادات، وأنه مقرب إلى الله; فهذا كفر مبيح لدمه وماله، هذا ما أراد المؤلف، وإن كان لا يسعفه ظاهر كلامه ثم بدا لي ما لعله المراد أن هؤلاء الغالين اعتقدوا أن المنهي عنه هو الكفر المبيح للدم والمال، وأما ما دونه من الغلو; فلا نهي فيه، والله أعلم؛ فهذا ظن فاسد كما سبق.


الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة: أي: ما أرادوا إلا الشفاعة، ومع ذلك وقعوا في الشرك.
السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك: أي أرادوا أن تشفع لهم، بل ظنوا أنها تنشطهم على العبادة، وهذا



1 سورة الرعد آية : 5.
2 سورة فاطر آية : 8.
3 سورة آية : 103-104.

ج / 1 ص -390- السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم "1 فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين.
الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين.
التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم; ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده.
العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء.


ظن فاسد كما سبق2.
السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله صلى الله عليه وسلم "لا تطروني" الحديث: معنى الإطراء: الغلو في المدح، والمبالغة فيه. وهذا الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم وقع فيه بعض هذه الأمة، بل أشد; حتى جعلوا النبي صلى الله عليه وسلم المرجع في كل شيء، وهذا أعظم من قول النصارى: المسيح ابن الله، وثالث ثلاثة. ومعنى: "بلغ"; أي: أوصل وبين.


الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين: وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم "هلك المتنطعون"; فلم يرد مجرد الخبر، ولكن التحذير من التنطع.
التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم: أي: لم تعبد هذه التماثيل إلا بعد أن نسي العلم واضمحل; ففيه دليل على معرفة قدر وجوده أي العلم، وأن وجوده أمر ضروري للأمة; لأنه إذا فقد العلم; حل الجهل محله، وإذا حل الجهل; فلا تسأل عن حال الناس; فسوف لا يعرفون كيف يعبدون الله، ولا كيف يتقربون إليه.
العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء فهذا من أكبر



1 البخاري : أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24).
2 انظر: (ص 380).

ج / 1 ص -391-


الأسباب لفقد العلم، فإذا مات العلماء; لم يبق إلا جهال الخلق يفتون بغير علم. ومن أسباب فقده أيضا: الغفلة والإعراض عنه، والتشاغل بأمور الدنيا، وعدم المبالاة به. ثم إن العلم قد يكون موجودا وهو معدوم، وذلك فيما إذا كثر القراء الذين يقرءون العلم ولا يعملون به، وقل الفقهاء الذين يعملون به; فبهذا يصبح العلم عديم الفائدة ووجوده كعدمه، بل إن في وجوده ضررا على الأمة; لأن العامة إذا رأوا من ينتسب إليه ساكتا غير عامل بما علم; ظنوا أن ما عليه الناس حق. فضرر العلم الذي لا ينفع أشد من ضرر الجهل، وإذا وجد الجهل; فإن الناس قد يطلبون العلم ويتلمسونه.


الخلاصة للباب:

بيان أن الغلو في الصالحين من أسباب الكفر وليس هو السبب الوحيد للكفر. وأن خطر الغلو عظيم ونتائجه وخيمة; فالواجب تنزيل الصالحين منازلهم; فلا يستوي الصالح والفاسد، بل ينزل كل منزلته، ولكن لا نتجاوز به المنزلة فنغلو فيه; فدين الله وسط لا يعطي الإنسان أكثر مما يستحق، ولا يسلبه ما يستحق، وهذا هو العدل.
س1: ما الفرق بين التنطع، والغلو، والاجتهاد ؟
الجواب:
الغلو مجاوزة الحد. والتنطع معناه: التشدق بالشيء والتعمق فيه، وهو من أنواع الغلو.


أما الاجتهاد; فإنه بذل الجهد لإدراك الحق، وليس فيه غلو إلا إذا كان المقصود بالاجتهاد كثرة التّقرب غير المشروع; فقد تؤدي إلى الغلو، فلو أن الإنسان مثلا أراد أن يقوم الليل ولا ينام، وأن يصوم النهار ولا

ج / 1 ص -392-


يفطر، وأن يعتزل ملاذ الدنيا كلها; فلا يتزوج ولا يأكل اللحم ولا الفاكهة وما أشبه ذلك، فإن هذا من الغلو، وإن كان الحامل على ذلك الاجتهاد والبر، ولكن هذا خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم
س2: ما حكم الذهاب إلى قبور الصالحين لقراءة الفاتحة؟
الجواب:
هذا من البدع، وسواء قلنا يصل الثواب أو لا يصل; فكونك تتخذ القراءة عند القبر خاصة هذا من البدع. وإنما اختلف السلف فيما إذا قرئت الفاتحة عند الميت بعد دفنه مباشرة أو غيرها من القرآن. والصحيح أيضا أنه ليس بسنة، والسنة أن تستغفر له وتسأل له التثبيت.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 29-01-2015 02:34PM

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح; فكيف إذا عبده؟!

ج / 1 ص -393- باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح; فكيف إذا عبده؟!

في الصحيح عن عائشة; أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، فقال:


قوله: "التغليظ": التشديد.
قوله: "من عبد الله عند قبر رجل صالح": أي: عمل عملا تعبد لله به من قراءة أو صلاة أو صدقة أو غير ذلك.
قوله: "فكيف إذا عبده؟": أي: يكون أشد وأعظم، وذلك لأن المقابر والقبور للصالحين أو من دونهم من المسلمين أهلها بحاجة إلى الدعاء; فهم يزارون لينفعوا لا لينتفع بهم إلا باتباع السنة في زيارة المقابر، والثواب الحاصل بذلك، لكن هذا ليس انتفاعا بأشخاصهم، بل انتفاع بعمل الإنسان نفسه بما أتى به من السنة. فالزيارة التي يقصد منها الانتفاع بالأموات زيارة بدعية. والزيارة التي يقصد بها نفع الأموات والاعتبار بحالهم زيارة شرعية.


قوله: "في الصحيح": أي: "الصحيحين"، وقد سبق الكلام على مثل هذه العبارة في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله (ص 157).
قوله: " أم سلمة ": كانت ممن هاجر مع زوجها إلى أرض الحبشة، ولما توفي زوجها أبو سلمة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته وهو في مرض موته بما رأت ; كما في "الصحيح".


قولها: "من الصور" الظاهر أن هذه الصور صور مجسمة وتماثيل منصوبة.

ج / 1 ص -394- " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح; بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور،.......


قوله: "أولئك": المشار إليهم نصارى الحبشة، ويحتمل أن يراد من فعلوا هذه الأفعال أيا كانوا.
وقوله: "أولئك" يجوز في الكاف الكسر إذا كان الخطاب لأم سلمة، والفتح إذا كان الخطاب باعتبار الجنس. وقد ذكر العلماء أن في كاف الخطاب المتصل باسم الإشارة ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن يكون مطابقا للمخاطب المفرد للمفرد والمثنى للمثنى والجمع للجمع، مذكرا كان أم مؤنثا.
الوجه الثاني: الفتح مطلقا.


الوجه الثالث: الكسر للمؤثث مطلقا، والفتح للمذكر مطلقا. وأشهرها: أن يكون مطابقا للمخاطب، ثم الفتح مطلقا، ثم الفتح للمذكر، والكسر للمؤنث.
قوله: "الرجل الصالح أو العبد الصالح": أو: شك من الراوي.
قوله: "بنوا على قبره": أي: قبر ذلك الرجل الصالح.
قوله: "صوروا فيه تلك الصور": أي: التي رأت، والأقرب أنها صورة ذلك الرجل الصالح، وربما أنهم يضيفون إلى صورته صورة بعض الصالحين، وربما تكون الصور على أحجام مختلفة، فتجتمع منها صور كثيرة.

ج / 1 ص -395- أولئك شرار الخلق عند الله "1.
فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين2 فتنة القبور، وفتنة التماثيل.


ولهما عنها;
قوله: "أولئك شرار الخلق عند الله": لأن عملهم هذا وسيلة إلى الكفر والشرك، وهذا أعظم الظلم وأشده، فما كان وسيلة إليه; فإن صاحبه جدير بأن يكون من شرار الخلق عند الله - سبحانه وتعالى -.
قوله: "فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل": هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
قوله: "فتنة القبور"; لأنهم بنوا المساجد عليها.


قوله: "فتنة التماثيل"; لأنهم صوروا فجمعوا بين فتنتين، وإنما سمي ذلك فتنة; لأنها سبب لصد الناس عن دينهم، وكل ما كان كذلك، فإنه من الفتنة، قال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} 3، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } 4، أي: صدوهم، أو فعلوا ما يصدونهم به عن دين الله.


قوله: "ولهما عنها": الضمير يعود على البخاري ومسلم، وإن لم يسبق لهما ذكر، لكنه لما كان ذلك مصطلحا معروفا; صح أن يعود الضمير عليهما، وهما لم يذكرا اعتمادا على المعروف المعهود.


1 رواه: البخاري (كتاب الصلاة, باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية, 1/155), ومسلم (كتاب المساجد, باب النهي عن بناء المساجد على القبور, 1/375).
2 وفي نسخة: "فتنتين".
3 سورة آية : 1-2.
4 سورة البروج آية : 10.

ج / 1 ص -396- قالت: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها; كشفها، فقال وهو كذلك: " لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "1.


وقوله: "عنها"; أي: عن عائشة.
قالت: "لما نزل برسول الله": أي: نزل به ملك الموت لقبض روحه.
قوله: "طفق": من أفعال الشروع، واسمها مستتر، وجملة "يطرح" خبرها.
قوله: "خميصة": هي كساء مربع له أعلام كان يطرحه النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه.
قوله: "فإذا اغتم بها": أي: أصابه الغم بسببها، وقد احتضر صلى الله عليه وسلم


قوله: "وهو كذلك": أي: وهو في هذه الحال عند الاحتضار.
قوله: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد": يقول هذا في سياق الموت، و"لعنة الله"; أي: طرده وإبعاده، وهذه الجملة يحتمل أنه يراد بها ظاهر اللفظ; أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بأن الله لعنهم. ويحتمل أن يراد بها الدعاء; فتكون خبرية لفظا إنشائية معنى، والمعنى على هذا الاحتمال أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم وهو في سياق الموت بسبب هذا الفعل.



قوله: "اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد": الجملة هذه تعليل لقوله: "لعنة الله على اليهود والنصارى"، كأن قائلا يقول: لماذا لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم فكان الجواب: أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد; أي: أمكنة للسجود، سواء بنوا مساجد أم لا، يصلون ويعبدون الله تعالى فيها مع أنها مبنية على القبور.



1 البخاري : الصلاة (436) , ومسلم : المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي : المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/146 ,6/252 ,6/255) , والدارمي : الصلاة (1403).

ج / 1 ص -397- يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك; أبرز قبره; غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا. أخرجاه1.


قوله: "يحذر ما صنعوا": أي: إنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك في سياق الموت تحذيرا لأمته مما صنع هؤلاء; لأنه علم أنه سيموت وأنه ربما يحصل هذا ولو في المستقبل البعيد.
قوله: "ولولا ذلك أبرز قبره": أبرز; أي: أخرج من بيته; لأن البروز معناه الظهور، أي لولا التحذير وخوف أن يتخذ قبره مسجدا; لأخرج ودفن في البقيع مثلا، لكنه في بيته أصون له، وأبعد عن اتخاذه مسجدا; فلهذا لم يبرز قبره، وهذا أحد الأسباب التي أوجبت أن لا يبرز مكان قبره صلى الله عليه وسلم ومن أسباب ذلك: إخباره صلى الله عليه وسلم أنه ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض2 ولا مانع أن يكون للحكم الواحد سببان فأكثر، كما أن السبب الواحد قد يترتب عليه حكمان أو أكثر; كغروب الشمس يترتب عليه جواز إفطار الصائم، وصلاة المغرب.


قوله: "غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا": خشي فيها روايتان: خشي، وخشي3. فعلى رواية خشي يكون الذي وقعت منهم الخشية الصحابة رضي الله عنهم. وعلى رواية خشي يكون الذي وقعت منه الخشية النبي صلى الله عليه وسلم والحقيقة أن الأمر كله حاصل; فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه


1 رواه: البخاري (كتاب الجنائز, باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور, 1/408), ومسلم (كتاب المساجد, باب النهي عن بناء المساجد على القبور, 1/376).
2 من حديث أبي بكر الصديق, أخرجه: أحمد في "المسند" (1/7). ورواه: الترمذي (كتاب الجنائز, باب حدثنا أبو كريب, 3/394) وفي "الشمائل" برقم (390), وابن ماجه نحوه (كتاب الجنائز, باب ما ذكر في وفاته ودفنه صلى الله عليه وسلم, 1/521). وقال الحافظ في "الفتح" (1/529): "إسناده صحيح لكته موقوف".
3 "صحيح البخاري" (كتاب الجنائز, باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم, 1/427).

ج / 1 ص -398-


ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض، ولعن اليهود والنصارى لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد خوفا من اتخاذ قبره مسجدا، والصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على أن يدفن صلى الله عليه وسلم في بيته بعد تشاورهم لأنهم خشوا ذلك. ويجوز أن يكون بعضهم أشار بأن يدفن في بيته، وليس في ذهنه إلا هذه الخشية، وبعضهم أشار أن يدفن في بيته وعنده علم بأنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض"، وخوفا من اتخاذه مسجدا.


في هذا الحديث والحديث السابق: التحذير من اتخاذ قبور الأنبياء مساجد وهم أفضل الصالحين; لأن مرتبة النبيين هي المرتبة الأولى من المراتب الأربع التي قال الله تعالى عنها: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} 1.
اعتراض وجوابه: إذا قال قائل: نحن الآن واقعون في مشكلة بالنسبة لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم الآن، فإنه في وسط المسجد; فما هو الجواب؟

قلنا: الجواب على ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن المسجد لم يبن على القبر، بل بني المسجد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفن في المسجد حتى يقال: إن هذا من دفن الصالحين في المسجد، بل دفن في بيته.
الوجه الثالث: أن إدخال بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم ومنها بيت عائشة مع المسجد ليس باتفاق من الصحابة، بل بعد أن انقرض أكثرهم ولم يبق



1 سورة النساء آية : 69.

ج / 1 ص -399- ولمسلم عن " جندب بن عبد الله; قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول : إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل،

منهم إلا القليل، وذلك عام 94 هـ تقريبا; فليس مما أجازه الصحابة أو أجمعوا عليه، مع أن بعضهم خالف في ذلك، وممن خالف أيضا سعيد بن المسيب من التابعين; فلم يرض بهذا العمل.
الوجه الرابع: أن القبر ليس في المسجد، حتى بعد إدخاله; لأنه في حجرة مستقلة عن المسجد; فليس المسجد مبنيا عليه، ولهذا جعل هذا المكان محفوظا ومحوطا بثلاثة جدران، وجعل الجدار في زاوية منحرفة عن القبلة، أي مثلث، والركن في الزاوية الشمالية، بحيث لا يستقبله الإنسان إذا صلى لأنه منحرف. فبهذا كله يزول الإشكال الذي يحتج به أهل القبور، ويقولون هذا منذ عهد التابعين إلى اليوم، والمسلمون قد أقروه ولم ينكروه; فنقول: إن الإنكار قد وجد حتى في زمن التابعين، وليس محل إجماع، وعلى فرض أنه إجماع; فقد تبين الفرق من الوجوه الأربعة التي ذكرناها.


قوله: "بخمس": أي: خمس ليال، لكن العرب تطلقها على الأيام والليالي.
قوله: "أبرأ": البراءة: هي التخلي; أي: أتخلى أن يكون لي منكم خليل.
قوله: "خليل": هو الذي يبلغ في الحب غايته; لأن حبه يكون قد تخلل الجسم كله، قال الشاعر يخاطب محبوبته:

ج / 1 ص -400- فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا; لاتخذت أبا بكر خليلا "1.........


قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلا والخلة أعظم أنواع المحبة وأعلاها، ولم يثبتها الله عزوجل فيما نعلم إلا لاثنين من خلقه، وهما: إبراهيم في قوله تعالى: { َاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} 2، ومحمد لقوله صلى الله عليه وسلم "إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا".


وبهذا تعرف الجهل العظيم الذي يقوله العامة: إن إبراهيم خليل الله، ومحمدا حبيب الله، وهذا تنقص في حق الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم بهذه المقالة جعلوا مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم دون مرتبة إبراهيم، ولأنهم إذا جعلوه حبيب الله لم يفرقوا بينه وبين غيره من الناس; فإن الله يحب المحسنين والصابرين، وغيرهم ممن علق الله بفعلهم المحبة; فعلى رأيهم لا فرق بين الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره، لكن الخلة ما ذكرها الله إلا لإبراهيم، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الله اتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا.


فالمهم: أن العامة مشكل أمرهم، دائما يصفون الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه حبيب الله، فنقول: أخطأتم وتنقصتم نبيكم; فالرسول خليل الله; لأنكم إذا وصفتموه بالمحبة أنزلتموه عن بلوغ غايتها.
قوله: "فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا": هذا تعليل لقوله: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل"; فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس في قلبه خلّة لأحد إلا لله عزوجل
قوله: "ولو كنت متخذا من أمتي خليلا; لاتخذت أبا بكر خليلا". وهذا نص صريح على أن أبا بكر أفضل من علي، رضي الله عنهما، وفي هذا رد على الرافضة الذين يزعمون أن عليا أفضل من أبي بكر.



1 مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (532).
2 سورة النساء آية : 125.

ج / 1 ص -401- " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد; فإني أنهاكم عن ذلك "1.


وقوله: "لو": حرف امتناع لامتناع; فيمتنع الجواب لامتناع الشرط، وعلى هذا امتنع صلى الله عليه وسلم من اتخاذ أبي بكر خليلا لأنه يمتنع أن يتخذ من أمته خليلا.
قوله: "ألا وإن من كان قبلكم": "ألا" للتنبيه، وهذه الجملة في أثناء الحديث لكنه ابتدأها بالتنبيه لأهمية المقام.
قوله: "ألا فلا تتخذوا": هذا تنبيه آخر للنهي عن اتخاذ القبور مساجد وهذا عام يشمل قبره وقبر غيره.
قوله: "فإني أنهاكم عن ذلك": هذا نهي باللفظ دون الأداة تأكيدا لهذا النهي لأهمية المقام.


من فوائد الحديث:
1. أن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ من أن يتخذ أحدا خليلا; لأن قلبه مملوء بمحبة الله تعالى.
2. أن الله تعالى اتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا; ففيه فضيلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
3. فضيلة إبراهيم صلى الله عليه وسلم باتخاذه خليلا.
4. فضيلة أبي بكر، وأنه أفضل الصحابة لأن الحديث يدل على أنه أحب الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم



1 رواه: مسلم (كتاب المساجد, باب النهي عن بناء المساجد على القبور, 1/377).

ج / 1 ص -402- فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنه لعن- وهو في السياق- من فعله.
والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يبن مسجد.



5. التحذير من اتخاذ القبور مساجد في قوله: " ألا فلا تتخذوا القبور مساجد " وقوله: " فإني أنهاكم عن ذلك "1.
6. أن من دفن شخصا في مسجد؛ وجب عليه نبشه وإخراجه من المسجد.
7. حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في إبعادهم عن الشرك وأسبابه; لأن اتخاذ القبور مساجد من وسائل الشرك وذرائعه، ولهذا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تحذير أمته منه، وهذا من كمال رأفته ورحمته بالأمة.
8. أن من بنى مسجدا على قبر وجب عليه هدمه.


قوله: "فقد نهى عنه في آخر حياته... " هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية. وقوله: "فقد نهى عنه في آخر حياته" الضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمنهي عنه هو اتخاذ القبور مساجد. قوله: "ثم إنه لعن وهو في السياق من فعله"; فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو عند فراق الدنيا لعن من اتخذ القبور مساجد. قوله: "والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يبن مسجد": "عندها"; أي: القبور، وقوله: "من ذلك"; أي: من اتخاذها مساجد، وعلى هذا; فلا تجوز الصلاة عند القبور، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم كما في "صحيح مسلم" من حديث أبي مرثد الغنوي أن يُصلَّى إلى القبور; فقال صلى الله عليه وسلم: " لا تصلُّوا إلى القبور "2.




1 مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (532).
2 رواه: مسلم (كتاب الجنائز, باب النهي عن الجلوس على القبر, 2/668).

ج / 1 ص -403- وهو معنى قولها: خشي أن يتخذ مسجدا فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا، وكل موضع قصدت الصلاة فيه; فقد اتخذ مسجدا....


قوله: "وهو معنى قولها: خشي أن يتخذ مسجدا" الضمير في "قولها" يرجع إلى عائشة رضي الله عنها: قوله: "فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا" هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
قد يقال: "خشي أن يتخذ مسجدا" معناه: خشي أن يبنى عليه مسجد، لكن يبعده أن الصحابة لا يمكن أن يبنوا حول قبره مسجدا; لأن مسجده مجاور لبيته; فكيف يبنون مسجدا آخر؟! هذا شيء مستحيل بحسب العادة; فيكون معنى قولها: "خشي أن يتخذ مسجدا"; أي: مكانا يصلى فيه، وإن لم يبن المسجد. ولا ريب أن أصل تحريم بناء المساجد على القبور أن المساجد مكان الصلاة، والناس يأتون إليها للصلاة فيها، فإذا صلى الناس في مسجد بني على قبر; فكأنهم صلوا عند القبر، والمحذور الذي يوجد في بناء المساجد على القبور يوجد فيما إذا اتخذ هذا المكان للصلاة; وإن لم يبن مسجد.


فتبين بهذا أن اتخاذ القبور مساجد له معنيان:
الأول: أن تبنى عليها مساجد.
الثاني: أن تتخذ مكانا للصلاة عندها وإن لم يبن المسجد، فإذا كان هؤلاء القوم مثلا يذهبون إلى هذا القبر ويصلون عنده ويتخذونه مصلى; فإن هذا بمعنى بناء المساجد عليها، وهو أيضا من اتخاذها مساجد.
قوله: "وكل موضع قصدت الصلاة فيه; فقد اتخذ مسجدا": وهذا

ج / 1 ص -404- بل كل موضع يصلىيسمى مسجدا؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا "1


يشهد له العرف; فإن الناس الذين لهم مساجد في مكان أعمالهم; كالوزارات والإدارات لو سألت واحدا منهم أين المسجد؟ لأشار إلى المكان الذي اتخذوه مصلى يصلون فيه، مع أنه لم يبن، لكن لما كانت الصلاة تقصد فيه; صار يسمى مسجدا. قوله: "بل كل موضع يصلى... ". فقوله: "مسجدا" ; أي: مكانا للسجود، وهذا معنى ثالث زائد على المعنيين الأولين، وهو أن يقال: كل شيء تصلي فيه، فإنه مسجد ما دمت تصلي فيه، كما يقال للسجادة التي تصلي عليها مسجد أو مصلى وإن كان الغالب عليها اسم مصلى. الخلاصة: أنه لا يجوز بناء المساجد على القبور; لأنها وسيلة إلى الشرك، وهو عبادة صاحب القبر. ولا يجوز أيضا أن تقصد القبور للصلاة عندها، وهذا من اتخاذها مساجد; لأن العلة من اتخاذها مساجد موجودة في الصلاة عندها، فلو فرض أن رجلا يذهب إلى المقبرة ويصلي عند قبر ولي من الأولياء على زعمه; قلنا: إنك اتخذت هذا القبر مسجدا، وإنك مستحق لما استحقه اليهود والنصارى من اللعنة، وفي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية دليل على صحة تسمية كل شيء يصلى فيه مسجدا بالمعنى العام.




1 من حديث جابر بن عبد الله، رواه البخاري (كتاب التيمم، باب حدثنا عبد الله بن يوسف، 1/126)، ومسلم (كتاب المساجد، 1/370).

ج / 1 ص -405- ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود (رضي الله عنه) مرفوعا: " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء،


قوله: "مرفوعا": المرفوع: ما أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: "إن من شرار الناس": من: للتبعيض، وشرار: جمع شر، مثل صحاب جمع صحب، والمعنى: أصحاب الشر، وفي هذا دليل على أن الناس يتفاوتون في الشر، وأن بعضهم أشد من بعض.
قوله: "من تدركهم الساعة": من: اسم موصول اسم إن، والساعة; أي: يوم القيامة، وسميت بذلك لأنها داهية، وكل شيء داهية عظيمة يسمى ساعة، كما يقال: هذه ساعتك في الأمور الداهية التي تصيب الإنسان.


قوله: "وهم أحياء": الجملة حال من الهاء في "تدركهم". وفي قوله: "تدركهم الساعة وهم أحياء" إشكال، وهو أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله "1 وفي رواية: "حتى تقوم الساعة2 " ; فكيف نوفق بين الحديثين; لأن ظاهر الحديث الذي ساقه المؤلف أن كل من تدركهم الساعة وهم أحياء; فهم من شرار الخلق؟!


والجمع بينهما أن يقال: إن المراد بقوله: "حتى تقوم الساعة" ; أي: إلى قرب قيام الساعة، وليس إلى قيامها بالفعل; لأنها لا تقوم إلا على شرار الخلق; فالله يرسل ريحا تقبض نفس كل مؤمن ولا يبقى إلا شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة.



1 من حديث المغيرة بن شعبة, رواه: البخاري بنحوه (كتاب المناقب, باب حدثنا محمد بن المثنى, 2/538), ومسلم (كتاب الإمارة, باب قوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي , 3/ 1523).
2 "صحيح مسلم" في الكتاب والباب السابقين (3/ 1524, 1525).

ج / 1 ص -406- والذين يتخذون القبور مساجد " ورواه أبو حاتم في " صحيحه1 ".


قوله: " الذين يتخذون القبور مساجد ": فهم من شرار الخلق، وإن لم يشركوا; لأنهم فعلوا وسيلة من وسائل الشرك، والوسائل لها أحكام المقاصد، وإن كانت دون مرتبتها، لكنها تعطى حكمها بالمعنى العام، فإن كانت وسيلة لواجب صارت واجبة، وإن كانت وسيلة لمحرم; فهي محرمة. فشر الناس في


هذا الحديث ينقسمون إلى صنفين:

الأول: الذين تدركهم الساعة وهم أحياء.
الثاني: الذين يتخذون القبور مساجد.


وفي قوله صلى الله عليه وسلم "إن من شرار الناس" دليل على أن الناس يتفاوتون في الشر; لأن بعضهم أشد من بعض فيه، كما أنهم يتفاوتون في الخير أيضا; لقوله تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} 2 وذلك من حيث الكمية فمن صلى ركعتين; فليس كمن صلى أربعا. ومن حيث الكيفية، فمن صلى وهو قانت خاشع حاضر القلب; ليس كمن صلى وهو غافل. ومن حيث النوعية، فالفرض أفضل من النفل، وجنس الصلاة أفضل من جنس الصدقة; لأن الصلاة أفضل الأعمال البدنية.
وهذا الذي تدل عليه الأدلة هو مذهب أهل السنة والجماعة، وهو



1 رواه: الإمام أحمد في "المسند" (1/435), وابن أبي شيبة في "المصنف" (3/345), وابن خزيمة برقم (789), وابن حبان برقم (340), والطبراني في "الكبير" برقم (10413). وقال شيخ الإسلام في "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص 330): "إسناده جيد", وقال الهيثمي في "المجمع" بعد عزوه للطبراني (2/27): "إسناده حسن".
2 سورة آل عمران آية : 163.



ج / 1 ص -407- فيه مسائل:
الأولى: ما ذكر الرسول فيمن بنى مسجدا يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل.


التفاضل في الأعمال، حتى في الإيمان الذي هو في القلب يتفاضل الناس فيه، بل إن الإنسان يحس في نفسه أنه في بعض الأحيان يجد في قلبه من الإيمان ما لا يجده في بعض الأحيان; فكيف بين شخص وشخص؟ فهو يتفاضل أكثر.
وخلاصة الباب: أنه يجب البعد عن الشرك ووسائله، ويغلظ على من عبد الله عند قبر رجل صالح. وكلام المؤلف رحمه الله في قوله: "فيمن عبد الله" يشمل الصلاة وغيرها والأحاديث التي ساقها في الصلاة، لكنه رحمه الله كأنه قاس غيرها عليها، فمن زعم أن الصدقة عند هذا القبر أفضل من غيره; فهو شبيه بمن اتخذه مسجدا لأنه يرى أن لهذه البقعة أو لمن فيها شأنا يفضل به على غيره; فالشيخ عمم، والدليل خاص.
فإن قيل: لا يستدل بالدليل الخاص على العام؟


أجيب: إن الشيخ أراد بذلك أن العلة هي تعظيم هذا المكان; لكونه قبرا، وهذا كما يوجد في الصلاة يوجد في غيرها من العبادات; فيكون التعميم من باب القياس لا من باب شمول النص له لفظا.


فيه مسائل:

الأولى: ما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن بنى مسجدا يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح ولو صحت نية الفاعل: تؤخذ من لعن النبي صلى الله عليه وسلم الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.

ج / 1 ص -408- الثانية: النهي عن التماثيل وغلظ الأمر في ذلك.
الثالثة: العبرة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في ذلك; كيف بين لهم هذا


قوله: "ولو صحت نية الفاعل"; لأن الحكم علق على مجرد صورته; فهذا العمل لا يحتاج إلى نية لأنه معلق بمجرد الفعل.
فالنية تؤثر في الأعمال الصالحة وتصحيحها، وتؤثر في الأعمال التي لا يقدر عليها فيعطى أجرها، وما أشبه ذلك، بخلاف ما علق على فعل مجرد; فلا حاجة فيه إلى النية.


أي: ولو كان يعبد الله، ولو كان يريد التقرب إلى الله ببناء هذا المسجد اعتبارا بما يؤول إليه الأمر، وبالنتيجة السيئة التي تترتب على ذلك، وهذه النقطة نتدرج منها إلى نقطة أخرى، وهي التحذير من مشابهة المشركين وإن لم يقصد الإنسان المشابهة، وهذه قد تخفى على بعض الناس، حيث يظن أن التشبه إنما يحرم إذا قصدت المشابهة، والشرع إنما علق الحكم بالتشبه; أي: بأن يفعل ما يشبه فعلهم،


سواء قصد أو لم يقصد، ولهذا قال العلماء في مسألة التشبه: وإن لم ينو ذلك، فإن التشبه يحصل بمطلق الصورة.
فإن قيل: قاعدة "إنما الأعمال بالنيات" هل تعارض ما ذكرنا؟
الجواب: لا تعارضه; لأن ما علق بالعمل ثبت له حكمه وإن لم ينو الفعل; كالأشياء المحرمة; كالظهار، والزنا، وما أشبهها.
الثانية: النهي عن التماثيل وغلظ الأمر في ذلك: تؤخذ من قوله: "وصوروا فيه تلك الصور"، ولا سيما إذا كانت هذه الصور معظمة عادة; كالرؤساء، والزعماء، والأب، والأخ، والعم. أو شرعا، مثل: الأولياء، والصالحين، والأنبياء، وما أشبه ذلك.
الثالثة: العبرة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في ذلك، كيف بين لهم هذا

ج / 1 ص -409- أولا، ثم قبل موته بخمس قال ما قال، ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم.


أولا، ثم قبل موته بخمس قال ما قال؟! ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم: وهذا مما يدل على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حماية جانب التوحيد; لأنه خلاصة دعوة الرسل، ولأن التوحيد أعظم الطاعات; فالمعاصي ولو كبرت أهون من الشرك، حتى قال ابن مسعود: " لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا "1 لأن الحلف بغيره نوع من الشرك، والحلف بالله كاذبا معصية، وهي أهون من الشرك.


فالشرك أمره عظيم جدا، ونحن نحذر إخواننا المسلمين مما هم عليه الآن من الانكباب العظيم على الدنيا حتى غفلوا عما خلقوا له، واشتغلوا بما خلق لهم; فعامة الناس الآن تجدهم مشتغلين بالدنيا، ليس في أفكارهم إلا الدنيا قائمين وقاعدين ونائمين ومستيقظين، وهذا في الحقيقة نوع من الشرك; لأنه يوجب الغفلة عن الله عزوجل ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك عبدا لما تعبد له، فقال: " تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة "2 ولو أقبل العبد على الله بقلبه وجوارحه لحصل ما قدر له من الدنيا; فالدنيا وسيلة وليست غاية، وتعس من جعلها غاية، كيف تجعلها غاية وأنت لا تدري مقامك فيها؟! وكيف تجعلها غاية وسرورها مصحوب بالأحزان; كما قال الشاعر:

فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر
فالحاصل: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لتحقيق عبادة الله، ولهذا كان حريصا


1 (ص 208).
2 تقدم (ص 35).

ج / 1 ص -410- الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر.
الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم.
السادسة: لعنه إياهم على ذلك.
السابعة: أن مراده صلى الله عليه وسلم تحذيره إيانا عن قبره.
الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره.


على سد كل الأبواب التي تؤدي إلى الشرك; فالرسول صلى الله عليه وسلم حذر من اتخاذ القبور مساجد ثلاث مرات:
الأولى: في سائر حياته.
الثانية: قبل موته بخمس.
الثالثة: وهو في السياق.
الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر: تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم : " ألا فلا تتخذوا القبور مساجد "، فإن قبره داخل في ذلك بلا شك، بل أول ما يدخل فيه.


الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم: تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم " اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "، وبئس رجلا جعل إمامه اليهود والنصارى وتشبه بهم في قبيح أعمالهم.
السادسة: لعنه إياهم على ذلك: تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم: " لعنة الله على اليهود والنصارى "1.
السابعة: أن مراده تحذيره إيانا عن قبره.
تؤخذ من قول عائشة: "يحذر ما صنعوا"; أي: ما صنعه اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم.
الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره: تؤخذ من قول عائشة: " ولولا



1 البخاري : الصلاة (436) , ومسلم : المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي : المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/146 ,6/252 ,6/255) , والدارمي : الصلاة (1403).

ج / 1 ص -411- التاسعة: في معنى اتخاذها مسجدا.
العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها مسجدا وبين من تقوم عليهم الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته.
الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس الرد على الطائفتين اللتين هما أشر أهل البدع، …


ذلك أبرز قبره; غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا " هناك علة أخرى، وهي: إخباره بأنه ما من نبي يموت إلا دفن حيث يموت1 ولا يمتنع أن يكون للحكم علتان، كما لا يمتنع أن يكون للعلة حكمان.
التاسعة: في معنى اتخاذها مسجدا: سبق أن ذكرنا أن لها معنيين:
1- بناء المساجد عليها.
2- اتخاذها مكانا للصلاة تقصد فيصلى عندها، بل إن من صلى عندها ولم يتخذها للصلاة; فقد اتخذها مسجدا بالمعنى العام.
العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها مسجدا وبين من تقوم عليه الساعة; فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته: ومعنى هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر التحذير من الشرك قبل أن يموت.


وقوله: "مع خاتمته"، وهي: أن من تقوم عليهم شرار الخلق والذين تقوم عليهم الساعة وهم أحياء هؤلاء الكفار، والذين يتخذون القبور مساجد هؤلاء فعلوا أسباب الشرك والكفر.
الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس الرد على الطائفتين اللتين هما أشر أهل البدع.



1 سبق (ص 397).

ج / 1 ص -412-


قوله: "قبل موته بخمس": أي: خمس ليال، والعرب يعبرون عن الأيام بالليالي وبالعكس.
قوله: "أشر أهل البدع": يقال: أشر، ويقال: شر; بحذف الهمزة، وهو الأكثر استعمالا. وإنما تكلم المؤلف رحمه الله عن حال الرافضة والجهمية وحكمهما قبل ذكر اسمهما من أجل تهييج النفس على معرفتهما والاطلاع عليهما; لأن الإنسان إذا ذكر له الحكم والوصف قبل ذكر الموصوف والمحكوم عليه; صارت نفسه تتطلع وتتشوق إلى هذا، فلو قال من أول الكلام: الرد على الرافضة والجهمية; فلا يكون للإنسان التشوق مثل ما لو تكلم عن حالهما وحكمهما أولا: وحالهما: أنهما أشر أهل البدع. وحكمهم: أن بعض أهل العلم أخرجهم من الثنتين والسبعين فرقة.


والرافضة: اسم فاعل من رفض الشيء إذا استبعده، وسموا بذلك لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب حين سألوه: " ما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما، وقال: هما وزيرا جدي ".
فرفضوه وتركوه، وكانوا في السابق معه، لكن لما قال الحق المخالف لأهوائهم; نفروا منه والعياذ بالله، فسموا رافضة. وأصل مذهبهم من عبد الله بن سبأ، وهو يهودي تلبس بالإسلام، فأظهر التشيع لآل البيت والغلو فيهم ليشغل الناس عن دين الإسلام ويفسده كما أفسد بولص دين النصارى عندما تلبس بالنصرانية. وأول ما أظهر ابن سبأ بدعته في عهد علي بن أبي طالب، حتى إنه جاءه وقال: أنت الله حقا - والعياذ بالله -.


فأمر علي بالأخدود فحفرت، وأمر بالحطب فجمع، وبالنار فأوقدت، ثم أحرقهم بها; إلا أنه يقال: إن عبد الله بن سبأ هرب وذهب إلى مصر ونشر بدعته; فالله أعلم.

ج / 1 ص -413-


فالمهم أن عليارضي الله عنهرأى أمرا لم يحتمله، حيث ادعوا فيه الألوهية فأحرقهم بالنار إحراقا، ثم بدأت هذه الفرقة الخبيثة تتكاثر; لأن شعارها في الحقيقة النفاق الذي يسمونه التقية، ولهذا كانت هذه الفرقة أخطر ما يكون على الإسلام; لأنها تتظاهر بالإسلام والدعوة إليه، وتقيم شعائره الظاهرة; كتحريم الخمور وما أشبه ذلك، لكنها تناقضه في الباطن; فهم يرون أئمتهم آلهة تدير الكون، وأنهم أفضل من الأنبياء والملائكة والأولياء، وأنهم في مرتبة لا ينالها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهؤلاء كيف يصح أن تقبل منهم دعوى الإسلام، ولذلك يقول عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كثير من كتبه قولا إذا اطلع عليه الإنسان عرف حالهم: "إنهم أشد الناس ضررا على الإسلام، وإنهم هجروا المساجد وعمروا المشاهد"; فهم يقولون: لا نصلي جماعة إلا خلف إمام معصوم ولا معصوم الآن، وهم أول من بنى المشاهد على القبور كما قال الشيخ هنا، ورموا أفضل أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم على الإطلاق - وهما أبو بكر وعمر - بالنفاق، وأنهما ماتا على ذلك; كعبد الله بن أبي بن سلول وأشباهه والعياذ بالله; فانظر بماذا تحكم على هؤلاء بعد معرفة معتقدهم ومنهجهم؟!


وأما الجهمية; فهم أتباع الجهم بن صفوان، وأول بدعته أنه أنكر صفات الله، وقال: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما; فأنكر المحبة والكلام، ثم بدأت هذه البدعة تنتشر وتتسع، فاعتنقها طوائف غير الجهمية; كالمعتزلة ومتأخري الرافضة; لأن الرافضة كانوا بالأول مشبهة، ولهذا قال أهل العلم: أول من عرف بالتشبيه هشام بن الحكم الرافضي، ثم تحولوا من التشبيه إلى التعطيل، وصاروا ينكرون الصفات.
والجهم بن صفوان أخذ بدعته عن الجعد بن درهم،

ج / 1 ص -414-


والجعد أخذ بدعته عن أبان بن سمعان، وأبان أخذها عن طالوت الذي أخذها عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم فتكون بدعة التعطيل أصلها من اليهود، ثم إن الجهم بن صفوان نشأ في بلاد خراسان، وفيها كثير من الصابئة وعباد الكواكب والفلاسفة، فأخذ منهم أيضا ما أخذ، فصارت هذه البدعة مركبة من اليهودية والصابئة والمشركين.
وانتشرت هذه البدعة في الأمة الإسلامية، وهؤلاء الجهمية معطلة في الصفات ينكرون الصفات، ومنهم من أنكر الأسماء مع الصفات، وهذه الأسماء التي يضيفها الله - سبحانه - إلى نفسه جعلوها إضافات وليست حقيقة، أو أنها أسماء لبعض مخلوقاته; فالسميع عندهم بمعنى من خلق السمع في غيره والبصير كذلك، وهكذا.


ومنهم من أنكر أن يكون الله متصفا بالإثبات أو العدم، فقالوا: لا يجوز أن نثبت لله صفة أو ننفي عنه صفة; حتى قالوا: لا يجوز أن نقول عنه: إنه موجود ولا إنه معدوم; لأننا إن قلنا بأنه موجود شبهناه بالموجودات، وإن قلنا بأنه معدوم شبهناه بالمعدومات; فنقول: لا موجود ولا معدوم; فكابروا المعقول، وكذبوا المنقول، وهذا لا يمكن; لأن تقابل الوجود والعدم من تقابل النقيضين اللذين لا يمكن ارتفاعهما ولا اجتماعهما، بل لا بد أن يوجد أحدهما، فوصف الله بذلك تشبيه له بالممتنعات على قاعدتهم.


ومذهبهم في القضاء والقدر: الجبر، فيقولون: إن الإنسان مجبر على عمله يعمل بدون اختياره إن صلى; فهو مجبر، وإن قتل; فهو مجبر، وهكذا; فعطلوا بذلك حكمة الله لأنه إذا كان كل عامل مجبرا على عمله لم يكن هناك حكمة في الثواب والعقاب، بل بمجرد المشيئة يعاقب

ج / 1 ص -415-


هذا ويثيب هذا، وبذلك عطلوا عن الفاعلين أوصاف المدح والذم، فلا يمكن أن تمدح إنسانا أو تذمه; لأن العاصي مجبر والمطيع مجبر.
ويقال لهم: إنكم إذا قلتم ذلك أثبتم أن الله أظلم الظالمين; لأنه كيف يعاقب العاصي وهو مجبر على المعصية؟ ويثيب الطائع وهو مجبر على طاعته؟ فيكون أعطى من لا يستحق، وعاقب من لا يستحق، وهذا ظلم.
فقالوا: هذا ليس بظلم; لأن الظلم تصرف المالك في غير ملكه، وهذا تصرف من المالك في ملكه يفعل به ما يشاء.


وأجيب: بأنه باطل; لأن المالك إذا كان متصفا بصفات الكمال لن يخلف وعده، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} 1 [طه: 112]، فلو أخلف هذا الوعد; لكان نقصا في حقه وظلما لخلقه، حيث وعدهم فأخلفهم.
ومذهبهم في أسماء الإيمان والدين الإرجاء، فيقولون: إن الإيمان مجرد اعتراف الإنسان بالخالق على الوصف المعطل عن الصفات حسب طريقتهم، وأن الأقوال والأعمال لا مدخل لها في الإيمان، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص. ومن هذه الأمور الثلاثة قالوا: إن أفسق وأعدل عباد الله في الإيمان سواء، بل قالوا: إن فرعون مؤمن كامل الإيمان، وجبريل مؤمن كامل الإيمان، لكن فرعون كفر; لأنه ادعى الربوبية لنفسه فقط، فصار بذلك كافرا.


قال ابن القيم عنهم:

والناس في الإيمان شيء واحد كالمشط عند تماثل الأسنان
فمذهبهم من أخبث المذاهب؛ إن لم نقل: هو أخبثها، لكن أخبث منه


1 سورة طه آية : 112.

ج / 1 ص -416- بل أخرجهم بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة، وهم الرافضة والجهمية وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد.
الثانية عشرة: ما بلي به صلى الله عليه وسلم من شدة النزع.


مذهب الرافضة، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن جميع البدع أصلها من الرافضة"; فهم أصل البلية في الإسلام، ولهذا قال المؤلف: "أخرجهم بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة"، ولعل الصواب من الثلاث والسبعين فرقة، أو أن الصواب أخرجهم إلى الثنتين والسبعين; أي: أخرجهم من الثالثة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه; لأن المعروف أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي من كانت على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.


وصدق رحمه الله في قوله عن هاتين الطائفتين الرافضة والجهمية: "شر أهل البدع".
وقد قتل الجهم بن صفوان سلمة بن أحوز صاحب شرطة نصر بن سيار لأنه أظهر هذا المذهب ونشره.
وقول المؤلف: "وبسبب الرافضة حدث الشرك، وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد"، ولهذا يجب الحذر من بدعتهم وبدعة الجهمية وغيرها، ولا شك أن البدع دركات بعضها أسفل من بعض; فعلى المرء الحذر من البدع، وأن يكون متبعا لمنهج السلف الصالح في هذا الباب وفي غيره.
الثانية عشرة: ما بلي به صلى الله عليه وسلم من شدة النزع: تؤخذ من قولها: " طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها "1 وفي هذا دليل على شدة نزعه، وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمرض ويوعك كما يوعك



1 البخاري : الصلاة (436) , ومسلم : المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي : المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34) , والدارمي : الصلاة (1403).

ج / 1 ص -417- الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلة.
الرابعة عشرة: التصريح بأنها أعلى من المحبة.


الرجلان1 من الناس، وهذا من حكمة الله عزوجل فهو صلى الله عليه وسلم شدد عليه البلاء في مقابلة دعوته وأوذي إيذاء عظيما، وكذلك أيضا فيما يصيبه من الأمراض يضاعف عليه، والحكمة من ذلك لأجل أن ينال أعلى درجات الصبر، لأن الإنسان إذا ابتلي بالشر وصبر كان ذلك أرفع لدرجته.
والصبر درجة عالية لا تنال إلا بوجود أسبابها، ومنها الابتلاء; فيصبر ويحتسب حتى ينال درجة الصابرين.
الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلة: ويدل عليها قوله صلى الله عليه وسلم " إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا " ولا شك أن هذه الكرامة عظيمة; لأننا لا نعلم أحدا نال هذه المرتبة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبراهيم صلى الله عليه وسلم


الرابعة عشرة: التصريح بأنها أعلى من المحبة: ودليل ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب أبا بكر، وكان أحب الناس إليه; فأثبت له المحبة، ونفى عنه الخلة; فدل هذا على أنها أعلى من المحبة، والتصريح ليس من هذا الحديث فقط، بل بضمه إلى غيره; فقد ورد من حديث آخر أنه صرح: "بأن أبا بكر أحب الرجال إليه2 "، ثم قال هنا: " لو كنت متخذا من أمتي خليلا; لاتخذت أبا بكر خليلا " فدل على أن الخلة أعلى من المحبة.




1 أخرجه: البخاري في (المرضى, باب أشد الناس بلاء الأنبياء, 5648), ومسلم في (البر والصلة, باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن, 2571); عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
2 من حديث عمرو بن العاص, رواه: البخاري (كتاب الفضائل, باب فضائل أبي بكر, رقم (3662) ومسلم (كتاب الفضائل, باب فضائل أبي بكر, 4/1856).

ج / 1 ص -418- الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة.
السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته.



الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة: تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم " ولو كنت متخذا من أمتي خليلا; لاتخذت أبا بكر خليلا "1 فلو كان غيره أفضل منه عند النبي صلى الله عليه وسلم لكان أحق بذلك.
ومن المسائل الهامة أيضا: أن الأفضلية في الإيمان والعمل الصالح فوق الأفضلية بالنسب; لأننا لو راعينا الأفضلية بالنسب; لكان حمزة بن عبد المطلب والعباس رضي الله عنهما أحق من أبي بكر في ذلك، ومن ثم قدم أبو بكررضي الله عنهعلى علي بن أبي طالب وغيره من آل النبي صلى الله عليه وسلم


السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته: لم يقل التصريح، وإنما قال: الإشارة; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: إن أبا بكر هو الخليفة من بعده، لكن لما قال صلى الله عليه وسلم: " لو كنت متخذا من أمتي خليلا، لاتخذت أبا بكر خليلا "2 علم أنهرضي الله عنهأولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون أحق الناس بخلافته.



1 مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (532).
2 مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (532).




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 29-01-2015 03:18PM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله

ج / 1 ص -419- باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله


هذا الباب له صلة بما قبله، وهو أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله. أي: يؤول الأمر بالغالين إلى أن يعبدوا هذه القبور أو أصحابها. والغلو: مجاوزة الحد مدحا أو ذما، والمراد هنا مدحا.


والقبور لها حق علينا من وجهين:
1. أن لا نفرط فيما يجب لها من الاحترام; فلا تجوز إهانتها ولا الجلوس عليها، وما أشبه ذلك.
2. أن لا نغلو فيها فنتجاوز الحد.
وفي "صحيح مسلم" قال علي بن أبي طالب لأبي الهياج الأسدي: " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته "1 وفي رواية: "ولا صورة إلا طمستها".
والقبر المشرف: هو الذي يتميز عن سائر القبور; فلا بد أن يسوى ليساويها لئلا يظن أن لصاحب هذا القبر خصوصية ولو بعد زمن; إذ هو وسيلة إلى الغلو فيه.
قوله: "الصالحين": يشمل الأنبياء والأولياء، بل ومن دونهم.




1 في (كتاب الجنائز, باب الأمر بتسوية القبر, 2/666).

ج / 1 ص -420- روى مالك في " الموطإ"; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم


قوله: "أوثانا": جمع وثن، وهو كل ما نصب للعبادة، وقد يقال له: صنم، والصنم: تمثال ممثل; فيكون الوثن أعم. ولكن ظاهر كلام المؤلف أن كل ما يعبد من دون الله يسمى وثنا، وإن لم يكن على تمثال نصب; لان القبور قد لا يكون لها تمثال ينصب على القبر فيعبد.
قوله: "تعبد من دون الله" أي: من غيره، وهو شامل لما إذا عبدت وحدها أو عبدت مع الله; لأن الواجب في عبادة الله إفراده فيها، فإذا قرن بها غيره صارت عبادة لغير الله، وقد ثبت في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه "1.


قوله: "في الموطأ": كتاب مشهور، من أصح الكتب; لأنه رحمه الله تحرى فيه صحة السند، وسنده أعلى من سند البخاري لقربه من الرسول صلى الله عليه وسلم وكلما كان السند أعلى كان إلى الصحة أقرب، وفيه مع الأحاديث آثار عن الصحابة، وفيه أيضا كلام وبحث للإمام مالك نفسه.


وقد شرحه كثير من أهل العلم2 ومن أوسع شروحه وأحسنها في الرواية والدراية: "التمهيد" لابن عبد البر، وهذا- أعني: "التمهيد" - فيه علم كثير.
قوله: "اللهم ": أصلها: يا الله! فحذفت يا النداء لأجل البداءة



1 من حديث أبي هريرة, رواه: مسلم (كتاب الزهد, باب من أشرك في عمله غير الله, 4/ 2289).
2 ومنها: "المنتقى" لأبي الوليد الباجي, و "شرح موطأ مالك" للزرقاني, و "أوجز المسالك إلى موطأ مالك" للكاندهلوي, و "تنوير الحوالك" للسيوطي.

ج / 1 ص -421- لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم.......


باسم الله، وعوض عنها الميم الدالة على الجمع; فكأن الداعي جمع قلبه على الله، وكانت الميم في الآخر لأجل البداءة باسم الله.
قوله: " لا تجعل قبري وثنا يعبد "1 لا: للدعاء; لأنها طلب من الله، وتجعل: تصير، والمفعول الأول لها: "قبري"، والثاني: "وثنا".
وقوله: "يعبد": صفة لوثن، وهي صفة كاشفة; لأن الوثن هو الذي يعبد من دون الله.


وإنما سأل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأن من كان قبلنا جعلوا قبور أنبيائهم مساجد وعبدوا صالحيهم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد; لأن دعوته كلها بالتوحيد ومحاربة الشرك.
قوله: "اشتد ": أي: عظم.


قوله: "غضب الله": صفة حقيقية ثابتة لله عزوجل لا تماثل غضب المخلوقين لا في الحقيقة ولا في الأثر. وقال أهل التأويل: غضب الله هو الانتقام ممن عصاه، وبعضهم يقول: إرادة الانتقام ممن عصاه.
وهذا تحريف للكلام عن مواضعه; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: انتقم الله، وإنما قال: اشتد غضب الله، وهو صلى الله عليه وسلم يعرف كيف يعبر، ويعرف الفرق بين غضب الله وبين الانتقام، وهو أنصح الخلق وأعلم الخلق بربه، فلا يمكن أن يأتي بكلام وهو يريد خلافه; لأنه لو أتى بذلك لكان ملبسا، وحاشاه أن يكون كذلك; فالغضب غير الانتقام وغير إرادة الانتقام; فالغضب صفة حقيقية ثابتة لله تليق بجلاله لا تماثل غضب المخلوق، لا في الحقيقة ولا في الأثر.



1 مالك : النداء للصلاة (416).

ج / 1 ص -422-

وهناك فروق بين غضب المخلوق وغضب الخالق،
منها:

1. غضب المخلوق حقيقته: غليان دم القلب، وجمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم حتى يفور، أما غضب الخالق; فإنه صفة لا تماثل هذا، قال تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1.
2. أن غضب الآدمي يؤثر آثارا غير محمودة; فالآدمي إذا غضب قد يحصل منه ما لا يحمد، فيقتل المغضوب عليه، وربما يطلق زوجته، أو يكسر الإناء، ونحو ذلك، أما غضب الله; فلا يترتب عليه إلا آثار حميدة لأنه حكيم; فلا يمكن أن يترتب على غضبه إلا تمام الفعل المناسب الواقع في محله. فغضب الله ليس كغضب المخلوقين، لا في الحقيقة ولا في الآثار، وإذا قلنا ذلك; فلا نكون وصفنا الله بما يماثل صفات المخلوقين، بل وصفناه بصفة تدل على القوة وتمام السلطان; لأن الغضب يدل على قدرة الغاضب على الانتقام وتمام سلطانه; فهو بالنسبة للخالق صفة كمال، وبالنسبة للمخلوق صفة نقص.


ويدل على بطلان تأويل الغضب بالانتقام قوله تعالى:{ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} 2 فإن معنى "آسفونا": أغضبونا; فجعل الانتقام غير الغضب، بل أثرا مترتبا عليه; فدل هذا على بطلان تفسير الغضب بالانتقام.


واعلم أن كل من حرف نصوص الصفات عن حقيقتها وعما أراد الله بها ورسوله; فلا بد أن يقع في زلة ومهلكة; فالواجب علينا أن نسلم لما جاء به الكتاب والسنة من صفات الله تعالى على ما ورد إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل.



1 سورة الشورى آية : 11.
2 سورة الزخرف آية : 55.

ج / 1 ص -424- ولابن جرير بسنده..........


قوله: "ولابن جرير": هو محمد بن جرير بن يزيد الطبري، الإمام المشهور في التفسير توفي سنة 310 هـ. وتفسيره: هو أصل التفسير بالأثر، ومرجع لجميع المفسرين بالأثر، ولا يخلو من بعض الآثار الضعيفة، وكأنه يريد أن يجمع ما روي عن السلف من الآثار في تفسير القرآن، ويدع للقارئ الحكم عليها بالصحة أو الضعف بحسب تتبع رجال السند، وهي طريقة جيدة من وجه، وليست جيدة من وجه آخر. فجيدة من جهة أنها تجمع الآثار الواردة حتى لا تضيع، وربما تكون طرقها ضعيفة ويشهد بعضها لبعض. وليست جيدة من جهة أن القاصر بالعلم ربما يخلط الغث بالسمين ويأخذ بهذا وهذا، لكن من عرف طريقة السند، وراجع رجال السند، ونظر إلى أحوالهم وكلام العلماء فيهم; علم ذلك.


وقد أضاف إلى تفسيره بالأثر: التفسير بالنظر، ولا سيما ما يعود إلى اللغة العربية، ولهذا دائما يرجح الرأي ويستدل له بالشواهد الواردة في القرآن وعن العرب.
ومن الناحية الفقهية; فالطبري مجتهد، لكنه سلك طريقة خالف غيره فيها بالنسبة للإجماع; فلا يعتبر خلاف الرجل والرجلين، وينقل الإجماع ولو خالف في ذلك رجل أو رجلان، وهذه الطريقة تؤخذ عليه; لأن الإجماع لا بد أن يكون من جميع أهل العلم المعتبرين في الإجماع، وقد يكون الحق مع هذا الواحد المخالف.


والعجيب أني رأيت بعض المتأخرين يحذرون الطلبة من تفسيره; لأنه مملوء على زعمهم بالإسرائيليات، ويقولون: عليكم ب "تفسير الكشاف" للزمخشري وما أشبه ذلك، وهؤلاء مخطئون; لأنهم لجهلهم بفضل التفسير بالآثار عن السلف واعتزازهم بأنفسهم وإعجابهم بآرائهم صاروا يقولون هذا.

ج / 1 ص -425- عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد:{ أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى} 1.


قوله: "عن سفيان": إما سفيان الثوري، أو ابن عيينة، وهذا مبهم، والمبهم يمكن معرفته بمعرفة شيوخه وتلاميذه، وفي الشرح - أعني "تيسير العزيز الحميد" - يقول: الظاهر أنه الثوري.
قوله: "عن مجاهد": هو مجاهد بن جبر المكي، إمام المفسرين من التابعين، ذكر عنه أنه قال: " عرضت المصحف على عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من فاتحته إلى خاتمته; فما تجاوزت آية إلا وقفت عندها أسأله عن تفسيرها ".


قوله: "أفرأيتم": الهمزة: للاستفهام، والمراد به التحقير، والخطاب لعابدي هذه الأصنام اللات والعزى... إلخ.
لما ذكر الله تعالى قصة المعراج وما حصل فيه من الآيات العظيمة التي قال عنها:{ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} 2 قال:{ أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى} 3 أي: ما نسبة هذه الأصنام للآيات الكبيرة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج.


قوله: "اللات"، "كان يلت لهم... " إلخ: على قراءة التشديد: من لت يلت; فهو لاتٌ. أما على قراءة التخفيف; فوجهها أنها خففت لتسهيل الكلام; أي: حذف منها التضعيف تخفيفا. وقد سبق أنهم قالوا: إن اللات من الإله. وأصله: رجل كان يلت السويق للحجاج، فلما مات; عظموه، وعكفوا على قبره، ثم جعلوه إلها، وجعلوا التسمية الأولى مقترنة بالتسمية الأخيرة; فيكون أصله من لت السويق، ثم جعلوه من الإله، وهذه على قراءة التخفيف أظهر من التشديد; فالتخفيف يرجح أنه



1 سورة النجم آية : 19.
2 سورة النجم آية : 18.
3 سورة النجم آية : 19.

ج / 1 ص -426- قال: " كان يلت لهم السويق، فمات، فعكفوا على قبره ".
وكذا قال أبو الجوزاء، عن ابن عباس: " كان يلت السويق للحاج "1.


من الإله، والتشديد يرجح أن أصله رجل يلت السويق. وغلوا في قبره، وقالوا: هذا الرجل المحسن الذي يلت السويق للحجاج ويطعمهم إياه، ثم بعد ذلك عبدوه; فصار الغلو في القبور يصيرها أوثانا تعبد من دون الله.
وفي هذا التحذير من الغلو في القبور ولهذا نهي عن تجصيصها والبناء عليها والكتابة عليها خوفا من هذا المحظور العظيم الذي يجعلها تعبد من دون الله، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر إذا بعث بعثا: بأن لا يدعوا قبرا مشرفا إلا سووه2 لعلمه أنه مع طول الزمان سيقال: لولا أن له مزية ما اختلف عن القبور; فالذي ينبغي أن تكون القبور متساوية لا ميزة لواحد منها عن البقية.
قوله: "السويق": هو عبارة عن الشعير يحمص، ثم يطحن، ثم يخلط بتمر أو شبهه، ثم يؤكل.


وقوله: "كان يلت لهم السويق، فمات، فعكفوا على قبره" يعني: ثم عبدوه وجعلوه إلها مع الله.
قوله: "وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: " كان يلت السويق للحاج " والغريب أن الناس في جاهليتهم يكرمون حجاج بيت الله، ويلتون لهم السويق، وكان العباس أيضا يسقي لهم من زمزم، وربما يجعل في زمزم نبيذا يحليه زبيبا أو نحوه، وفي الوقت الحاضر صار الناس



1 رواه: البخاري (كتاب التفسير, باب أفرأيتم اللات والعزى , 3/399).
2 أخرجه: مسلم في (اللباس, 3/1664).

ج / 1 ص -427- وعن ابن عباس رضي الله عنهما; قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد...........


بالعكس يستغلون الحجاج غاية الاستغلال - والعياذ بالله -; حتى يبيعوا عليهم ما يساوي ريالا بريالين وأكثر حسب ما يتيسر لهم، وهذا في الحقيقة خطأ عظيم; لأن الله تعالى يقول:{ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} 1 ; فكيف بمن يفعل الإلحاد؟!
قوله: "لعن": اللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، ومعنى "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أي: دعا عليهم باللعنة.
قوله:"زائرات القبور": زائرات: جمع زائرة، والزيارة هنا معناها: الخروج إلى المقابر وهي أنواع: منها ما هو سنة، وهي زيارة الرجال للاتعاظ والدعاء للموتى.


ومنها ما هو بدعة، وهي زيارتهم للدعاء عندهم وقراءة القرآن ونحو ذلك.
ومنها ما هو شرك، وهي زيارتهم لدعاء الأموات والاستنجاد بهم والاستغاثة ونحو ذلك، وزائر: اسم فاعل يصدق بالمرة الواحدة، وفي حديث أبي هريرة: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور "2 بتشديد الواو، وهي صيغة مبالغة تدل على الكثرة أي كثرة الزيارة.
قوله: "والمتخذين عليها المساجد": هذا الشاهد من الحديث; أي: الذين يضعون عليها المساجد، وقد سبق أن اتخاذ القبور مساجد له صورتان:



1 سورة الحج آية : 25.
2 رواه: الإمام أحمد (2/337, 356), والترمذي (الجنائز, باب ما جاء في كراهة زيارة القبور للنساء, 4/12)- وقال: "حسن صحيح"-, وابن ماجه في الكتاب والباب السابقين (رقم 1576), وابن حبان (رقم 789), والبيهقي (4/78).

ج / 1 ص -428- والسرج " رواه أهل السنن1.


1. أن يتخذها مصلى يصلى عندها.
2. بناء المساجد عليها.
قوله: "والسرج": جمع سراج، توقد عليها السرج ليلا ونهارا تعظيما وغلوا فيها.
وهذا الحديث يدل على تحريم زيارة النساء للقبور، بل على أنه من كبائر الذنوب; لأن اللعن لا يكون إلا على كبيرة، ويدل على تحريم اتخاذ المساجد والسرج عليها، وهو كبيرة من كبائر الذنوب للعن فاعله.
المناسبة للبابإن اتخاذ المساجد عليها وإسراجها غلو فيها; فيؤدي بعد ذلك إلى عبادتها.


مسألة: ما هي الصلة بين الجملة الأولى: "زائرات القبور"، والجملة الثانية "المتخذين عليها المساجد والسرج"؟ الصلة بينهما ظاهرة: هي أن المرأة لرقة عاطفتها وقلة تمييزها وضعف صبرها ربما تعبد أصحاب القبور تعطفا على صاحب القبر; فلهذا قرنها بالمتخذين عليها المساجد والسرج.



1 رواه: الطيالسي برقم (2733), وأحمد (1/229, 287, 324, 337), وابن أبي شيبة (3/344), وأبو داود (كتاب الجنائز, باب في زيارة النساء القبور, 3/558), والنسائي (كتاب الجنائز, باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور, 4/95), والترمذي (الصلاة, باب كراهة أن يتخذ على القبر مسجدا, رقم 320)- وقال: "حديث حسن"-, وابن ماجه مختصرا (كتاب الجنائز, باب النهي عن زيارة القبور, رقم 1575), وابن حبان (رقم 788), والطبراني في "الكبير" (12725), والحاكم (1/374), والبيهقي (4/278).

ج / 1 ص -429-


وهل يدخل في اتخاذ السرج على المقابر ما لو وضع فيها مصابيح كهرباء لإنارتها ؟
الجواب: أما في المواطن التي لا يحتاج الناس إليها، كما لو كانت المقبرة واسعة وفيها موضع قد انتهى الناس من الدفن فيه; فلا حاجة إلى إسراجه، فلا يسرج، أما الموضع الذي يقبر فيه فيسرج ما حوله; فقد يقال بجوازه; لأنها لا تسرج إلا بالليل; فليس في ذلك ما يدل على تعظيم القبر، بل اتخذ الإسراج للحاجة.


ولكن الذي نرى أنه ينبغي المنع مطلقا للأسباب الآتية:
1. أنه ليس هناك ضرورة.
2. أن الناس إذا وجدوا ضرورة لذلك; فعندهم سيارات يمكن أن يوقدوا الأنوار التي فيها ويتبين لهم الأمر، ويمكنهم أن يحملوا سراجا معهم.
3. أنه إذا فتح هذا الباب; فإن الشر سيتسع في قلوب الناس ولا يمكن ضبطه فيما بعد، فلو فرضنا أنهم جعلوا الإضاءة بعد صلاة الفجر ودفنوا الميت; فمن الذي يتولى قفل هذه الإضاءة؟ الجواب: قد تترك، ثم يبقى كأنه متخذ عليها السرج; فالذي نرى أنه يمنع نهائيا. أما إذا كان في المقبرة حجرة يوضع فيها اللبن ونحوه; فلا بأس بإضاءتها لأنها بعيدة عن القبور، والإضاءة داخلة لا تشاهد; فهذا نرجو أن لا يكون به بأس.
والمهم أن وسائل الشرك يجب على الإنسان أن يبتعد عنها ابتعادا عظيما، ولا يقدر للزمن الذي هو فيه الآن، بل يقدر للأزمان البعيدة; فالمسألة ليست هينة.

ج / 1 ص -430-


وفي الحديث ما يدل على تحريم زيارة النساء للقبور وأنها من كبائر الذنوب،

والعلماء اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: تحريم زيارة النساء للقبور، بل إنها من كبائر الذنوب; لهذا الحديث.
القول الثاني: كراهة زيارة النساء للقبور كراهة لا تصل إلى التحريم، وهذا هو المشهور من مذهب أحمد عن أصحابه; لحديث أم عطية: " نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا "1.
القول الثالث: أنها تجوز زيارة النساء للقبور; لحديث المرأة التي مر النبي صلى الله عليه وسلم بها وهي تبكي عند قبر، فقال لها: " اتقي الله واصبري فقالت له: إليك عني; فإنك لم تصب بمثل مصيبتي فانصرف الرسول صلى الله عليه وسلم عنها، فقيل لها: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت إليه تعتذر; فلم يقبل عذرها، وقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى "2 فالنبي صلى الله عليه وسلم شاهدها عند القبر ولم ينهها عن الزيارة، وإنما أمرها أن تتقي الله وتصبر. ولما ثبت في "صحيح مسلم3 " من حديث عائشة الطويل، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أهل البقيع في الليل، واستغفر لهم ودعا لهم، وأن جبريل أتاه في الليل وأمره، فخرج صلى الله عليه وسلم مختفيا عن عائشة، وزار ودعا ورجع، ثم أخبرها الخبر; فقالت: ما أقول لهم يا رسول الله؟ قال: " قولي: السلام



1 رواه: البخاري (كتاب الجنائز, باب اتباع النساء للجنائز, 1/394), ومسلم (كتاب الجنائز, باب نهي النساء عن اتباع الجنائز, 2/646).
2 من حديث أنس, رواه: البخاري (كتاب الجنائز, باب زيارة القبور, 1/395), ومسلم (كتاب الجنائز, باب في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى, 2/637).
3 في (كتاب الجنائز, باب ما يقال عند دخول القبور, 2/669).

ج / 1 ص -431-


عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين... " إلخ. قالوا: فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم دعاء زيارة القبور، وتعليمه هذا دليل على الجواز. ورأيت قولا رابعا: أن زيارة النساء للقبور سنة كالرجال; لقوله صلى الله عليه وسلم " كنت نهيتكم عن زيارة القبور; فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة "1 وهذا عام للرجال والنساء. ولأن عائشة رضي الله عنها زارت قبر أخيها، فقال لها عبد الله بن أبي مليكة: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن زيارة القبور؟ قالت: إنه أمر بها بعد ذلك2. وهذا دليل على أنه منسوخ.


والصحيح القول الأول، ويجاب عن أدلة الأقوال الأخرى: بأن الصريح منها غير صحيح، والصحيح غير صريح; فمن ذلك:
أولا: دعوى النسخ غير صحيحة; لأنها لا تقبل إلا بشرطين:
1. تعذر الجمع بين النصين، والجمع هنا سهل وليس بمتعذر; لأنه يمكن أن يقال: إن الخطاب في قوله: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور; فزوروها " للرجال، والعلماء اختلفوا فيما إذا خوطب الرجال بحكم: هل يدخل فيه النساء أو لا؟ وإذا قلنا بالدخول - وهو الصحيح -; فإن دخولهن في هذا الخطاب من باب دخول أفراد العام في العموم، وعلى هذا يجوز أن يخصص بعض أفراد العام بحكم يخالف العام، وهنا نقول: قد خص النبي صلى الله عليه وسلم النساء من هذا الحكم، فأمره بالزيارة للرجل فقط; لأن



1 من حديث بريدة, رواه: مسلم (كتاب الجنائز, باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه -عز وجل- في زيارة قبر أمه, 2/672).
2 رواه: الحاكم (1/376), والبيهقي (4/78). وصححه الذهبي, وقال العراقي في "تخريج الإحياء" (4/418): "رواه ابن أبي الدنيا في القبور والحاكم بإسناد جيد":.

ج / 1 ص -432-


النساء أخرجن بالتخصيص من هذا العموم بلعن الزائرات، وأيضا مما يبطل النسخ قوله: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج "1 ومن المعلوم أن قوله:"والمتخذين عليها المساجد والسرج" لا أحد يدعي أنه منسوخ; والحديث واحد; فادعاء النسخ في جانب منه دون آخر غير مستقيم، وعلى هذا يكون الحديث محكما غير منسوخ.
2. العلم بالتأريخ، وهنا لم نعلم التأريخ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: كنت لعنت من زار القبور، بل قال: "كنت نهيتكم"، والنهي دون اللعن.
وأيضا; فإن قوله: "كنت نهيتكم" خطاب للرجال، ولعن زائرات القبور خطاب للنساء فلا يمكن حمل خطاب الرجال على خطاب النساء، إذا; فالحديث لا يصح فيه دعوى النسخ.


وثانيا: الجواب عن حديث المرأة وحديث عائشة; أن المرأة لم تخرج للزيارة قطعا، لكنها أصيبت، ومن عظم المصيبة عليها لم تتمالك نفسها لتبقى في بيتها، ولذلك خرجت وجعلت تبكي عند القبر مما يدل على أن في قلبها شيئا عظيما لم تتحمله حتى ذهبت إلى ابنها وجعلت تبكي عند قبره، ولهذا أمرها صلى الله عليه وسلم أن تصبر; لأنه علم أنها لم تخرج للزيارة، بل خرجت لما في قلبها من عدم تحمل هذه الصدمة الكبيرة; فالحديث ليس صريحا بأنها خرجت للزيارة، وإذا لم يكن صريحا; فلا يمكن أن يعارض الشيء الصريح بشيء غير صريح.


وأما حديث عائشة; فإنها قالت للرسول صلى الله عليه وسلم " ماذا أقول؟ فقال: قولي: السلام عليكم "2 فهل المراد أنها تقول ذلك إذا مرت، أو إذا



1 سبق (ص 428).
2 البخاري : أحاديث الأنبياء (3326) , ومسلم : الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) , وأحمد (2/315).

ج / 1 ص -433-


خرجت زائرة؟ فهو محتمل; فليس فيه تصريح بأنها إذا خرجت زائرة; إذ من الممكن أن يراد به إذا مرت بها من غير خروج للزيارة، وإذا كان ليس صريحا; فلا يعارض الصريح. وأما فعلها مع أخيها رضي الله عنهما; فإن فعلها مع أخيها لم يستدل عليها عبد الله بن أبي مليكة بلعن زائرات القبور، وإنما استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور مطلقا; لأنه لو استدل عليها بالنهي عن زيارة النساء للقبور أو بلعن زائرات القبور; لكنا ننظر بماذا ستجيبه. فهو استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور، ومعلوم أن النهي عن زيارة القبور كان عاما، ولهذا أجابته بالنسخ العام، وقالت: إنه قد أمر بذلك، ونحن وإن كنا نقول: إن عائشة رضي الله عنها استدلت بلفظ العموم; فهي كغيرها من العلماء لا يعارض بقولها قول الرسول صلى الله عليه وسلم على أنه روي عنها; أنها قالت: "لو شهدتك ما زرتك1 "، وهذا دليل على أنها رضي الله عنها خرجت لتدعو له; لأنها لم تشهد جنازته، لكن هذه الرواية طعن فيها بعض العلماء، وقال: إنها لا تصح عن عائشة رضي الله عنها، لكننا نبقى على الرواية الأولى الصحيحة; إذ ليس فيها دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم نسخه، وإذا فهمت هي; فلا يعارض بقولها قول الرسول صلى الله عليه وسلم


إشكال وجوابه:

في قوله: "زوارات القبور" ألا يمكن أن يحمل النهي على تكرار الزيارة لأن "زوارات" صيغة مبالغة؟



1 رواه: ابن أبي شيبة (3/343), والترمذي (الجنائز, باب زيارة النساء القبور, 4/11). وفيه عنعنة ابن جريج, وهو مدلس; كما في "الجنائز" للألباني (ص 182), وذكر ابن القيم في "تهذيب السنن" (4/350): "أنه هو المحفوظ".

ج / 1 ص -434- فيه مسائل:
الأولى: تفسير الأوثان.
الثانية: تفسير العبادة.
الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه.


الجواب: هذا ممكن، لكننا إذا حملناه على ذلك; فإننا أضعنا دلالة المطلق "زائرات".
والتضعيف قد يحمل على كثرة الفاعلين لا على كثرة الفعل; ف "زوارات" يعني: النساء إذا كن مئة كان فعلهن كثيرا، والتضعيف باعتبار الفاعل موجود في اللغة العربية، قال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ} 1، فلما كانت الأبواب كثيرة كان فيها التضعيف; إذ الباب لا يفتح إلا مرة واحدة، وأيضا قراءة: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ } 2 ; فهي مثلها.
فالراجح تحريم زيارة النساء للمقابر وأنها من كبائر الذنوب.
وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (24/343).


فيه مسائل:

الأولى:
تفسير الأوثان: وهي: كل ما عبد من دون الله، سواء كان صنما أو قبرا أو غيره.
الثانية: تفسير العبادة: وهي: التذلل والخضوع للمعبود خوفا ورجاء ومحبة وتعظيما; لقوله: " لا تجعل قبري وثنا يعبد "3.
الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف من وقوعه: وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد "4.



1 سورة ص آية : 50.
2 سورة الزمر آية : 73.
3 مالك : النداء للصلاة (416).
4 مالك : النداء للصلاة (416).

ج / 1 ص -435- الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد.
الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله.
السادسة: وهي من أهمها: معرفة صفة عبادة اللات التي هي من أكبر الأوثان.
السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح.
الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية.


الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد: وذلك في قوله: " اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "1.
الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله: تؤخذ من قوله: "اشتد غضب الله". وفيه: إثبات الغضب من الله حقيقة، لكنه كغيره من صفات الأفعال التي نعرف معناها ولا نعرف كيفيتها. وفيه أنه يتفاوت كما ثبت في الحديث الصحيح حديث الشفاعة: " إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب مثله قبله ولا بعده "2.
السادسة: وهي من أهمها -: معرفة صفة عبادة اللات التي هي من أكبر الأوثان: وذلك في قوله: "فمات، فعكفوا على قبره".
السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح: تؤخذ من قوله: "كان يلت لهم السويق"; أي: للحجاج; لأنه معطم عندهم; والغالب لا يكون معظما إلا صاحب دين.
الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية: وهو أنه كان يلت السويق.



1 مالك : النداء للصلاة (416).
2 مر سابفا (ص 332).

ج / 1 ص -436- التاسعة: لعنه زوارات القبور.
العاشرة: لعنه من أسرجها.


التاسعة: لعنه زوارات القبور: أي: النبي صلى الله عليه وسلم وذكر رحمه الله لفظ: "زوارات القبور" مراعاة للفظ الآخر.
العاشرة: لعنه من أسرجها: وذلك في قوله: "والمتخذين عليها المساجد والسرج". وهنا مسألة مهمة لم تذكر، وهي: أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا كما في قبر اللات، وهذه من أهم الوسائل، ولم يذكرها المؤلف رحمه الله، ولعله اكتفى بالترجمة عن هذه المسألة بما حصل للات، فإذا قيل بذلك; فله وجه.


مسألة: المرأة إذا ذهبت للروضة في المسجد النبوي لتصلي فيها، فالقبر قريب منها، فتقف وتسلم، ولا مانع فيه. والأحسن البعد عن الزحام ومخالطة الرجال، ولئلا يظن من يشاهدها أن المرأة يجوز لها قصد الزيارة; فيقع الإنسان في محذور، وتسليم المرء على النبي صلى الله عليه وسلم يبلغه حيث كان.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




ام عادل السلفية 29-01-2015 06:50PM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك

ج / 1 ص -437- باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك


قوله: "المصطفى": أصلها: المصتفى، من الصفوة، وهو خيار الشيء; فالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل المصطفين لأنه أفضل أولي العزم من الرسل، والرسل هم المصطفون، والمراد به: محمد صلى الله عليه وسلم والاصطفاء على درجات أعلاها اصطفاء أولي العزم من الرسل، ثم اصطفاء الرسل، ثم اصطفاء الأنبياء، ثم اصطفاء الصديقين، ثم اصطفاء الشهداء، ثم اصطفاء الصالحين.


قوله: "حماية": من حمى الشيء، إذا جعل له مانعا يمنع من يقرب حوله، ومنه حماية الأرض عن الرعي فيها، ونحو ذلك.
قوله: "جناب": بمعنى جانب، والتوحيد: تفعيل من الوحدة، وهو إفراد الله تعالى بما يجب له من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.


قوله: "وسده كل طريق": أي: مع الحماية لم يدع الأبواب مفتوحة يلج إليها من شاء، ولكنه سد كل طريق يوصل إلى الشرك; لأن الشرك أعظم الذنوب، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } 1.


قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الشرك الأصغر لا يغفره الله; لعموم قوله: "أن يشرك به"، وعلى هذا; فجميع الذنوب دونه لقوله: { وَيَغْفِرُ مَا



1 سورة النساء آية : 48.

ج / 1 ص -438- وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } 1 الآية.


دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } ؛ فيشمل كبائر الذنوب وصغائرها; فالشرك ليس بالأمر الهين الذي يتهاون به، فالشرك يفسد القلب والقصد، وإذا فسد القصد فسد العمل; إذ العمل مبناه على القصد، قال تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } 2، وقال صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات "3.


إذا; فالرسول صلى الله عليه وسلم حمى جانب التوحيد حماية محكمة، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك ولو من بعيد; لأن من سار على الدرب وصل، والشيطان يزين للإنسان أعمال السوء شيئا فشيئا حتى يصل إلى الغاية.
قوله: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ }


الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم، واللام، وقد، وهي مؤكدة لجميع مدخولها بأنه رسول، وأنه من أنفسهم، وأنه عزيز عليه ما يشق علينا، وأنه بالمؤمنين رءوف رحيم; فالقسم منصب على كل هذه الأوصاف الأربعة.


والخطاب في قوله: "جاءكم" قيل: للعرب; لقوله: "من أنفسكم" ; فالرسول صلى الله عليه وسلم من العرب، قال تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ } 4 ويحتمل أن يكون عاما للأمة كلها، ويكون المراد بالنفس هنا الجنس; أي: ليس من الجن ولا الملائكة، بل


ــــ
1 سورة التوبة آية : 128.
2 سورة آية : 15-16.
3 أخرجه: البخاري في (بدء الوحي, برقم 1), ومسلم في (الإمارة, 3/1515).
4 سورة الجمعة آية : 2.

ج / 1 ص -439-


هو من جنسكم; كما قال تعالى: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة} 1.
وعلى الاحتمال الأول فيه إشكال; لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى جميع الناس من العرب والعجم. ولكن يقال في الجواب: إنه خوطب العرب بهذا; لأن منة الله عليهم به أعظم من غيرهم، حيث كان منهم، وفي هذا تشريف لهم بلا ريب.


والاحتمال الثاني أولى; للعموم، ولقوله: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ } 2 ولما كان المراد العرب، قال: "منهم" لا "من أنفسهم"، قال الله تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ } 3 وقال تعالى عن إبراهيم وإسماعيل:{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ } 4 وعلى هذا، فإذا جاءت "من أنفسهم"; فالمراد: عموم الأمة، وإذا جاءت "منهم"; فالمراد: العرب; فعلى الاحتمال الثاني لا إشكال في الآية.


قوله: "رسول": أي: من الله كما قال تعالى: { رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً } 5 وفعول هنا بمعنى مفعل; أي: مرسل.
و "من أنفسكم": سبق الكلام فيها.


قوله: "عزيز": أي: صعب; لأن هذه المادة العين والزاي في اللغة العربية تدل على الصلابة، ومنه: "أرض عزاز"; أي: صلبة قوية، والمعنى: أنه يصعب عليه ما يشق عليكم، ولهذا بعث بالحنيفية السمحة، وما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، وهذا من التيسير الذي بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم




1 سورة الأعراف آية : 189.
2 سورة آل عمران آية : 164.
3 سورة الجمعة آية : 2.
4 سورة البقرة آية : 129.
5 سورة البينة آية : 2.

ج / 1 ص -440-


قوله: "ما عنتم": "ما": مصدرية، وليست موصولة; أي: عنتكم; أي: مشقتكم; لأن العنت بمعنى المشقة، قال تعالى: { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ } 1 أي: المشقة.
والفعل بعد "ما" يؤول إلى مصدر مرفوع، لكن بماذا هو مرفوع؟ يختلف باختلاف "عزيز" إذا قلنا: بأن "عزيز" صفة لرسول; صار المصدر المؤول فاعلا به; أي: عزيز عليه عنتكم، وإن قلنا: عزيز خبر مقدم; صار عنتكم مبتدأ، والجملة حينئذ تكون كلها صفة لرسول، أو يقال: عزيز مبتدأ، وعنتكم فاعل سد مسد الخبر على رأي الكوفيين الذي أشار إليه ابن مالك في قوله:

..وقد يجوز نحو فائز أولو الرشد.


قوله: "حريص عليكم": الحرص: بذل الجهد لإدراك أمر مقصود، والمعنى: باذل غاية جهده في مصلحتكم; فهو جامع بين أمرين: دفع المكروه الذي أفاده قوله: {} وحصول المحبوب الذي أفاده قوله: "حريص عليكم" ; فكان النبي صلى الله عليه وسلم جامعا بين هذين الوصفين، وهذا من نعمة الله علينا وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون على هذا الخلق العظيم الممثل بقوله تعالى: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } 2.


قوله: { بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ }"بالمؤمنين": جار ومجرور خبر مقدم، و "رءوف": مبتدأ مؤخر، و "رحيم": مبتدأ ثان، وتقديم الخبر يفيد الحصر. والرأفة: أشد الرحمة وأرقها. والرحمة: رقة بالقلب تتضمن الحنو على المرحوم والعطف عليه بجلب الخير له ودفع الضرر عنه.


وقولنا: رقة في القلب هذا باعتبار المخلوق، أما بالنسبة لله تعالى; فلا نفسرها بهذا التفسير; لأن الله تعالى ليس كمثله شيء، ورحمة الله



1 سورة النساء آية : 25.
2 سورة القلم آية : 4.

ج / 1 ص -441-


أعظم من رحمة المخلوق لا تدانيها رحمة المخلوق ولا تماثلها; فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن لله مئة رحمة وضع منها رحمة واحدة يتراحم بها الخلق منذ خلقوا إلى يوم القيامة، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه "1. فمن يحصي هذه الرحمة التي في الخلائق منذ خلقوا إلى يوم القيامة كمية؟ ومن يستطيع أن يقدرها كيفية؟ لا أحد يستطيع إلا الله عزوجل الذي خلقها؟ فهذه رحمة واحدة، فإذا كان يوم القيامة رحم الخلق بتسع وتسعين رحمة بالإضافة إلى الرحمة الأولى، وهل هذه الرحمة تدانيها رحمة المخلوق؟ الجواب: أبدا، لا تدانيها، والقدر المشترك بين رحمة الخالق ورحمة المخلوق أنها صفة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، ورحمة الخالق غير مخلوقة; لأنها من صفاته، ورحمة المخلوق مخلوقة; لأنها من صفاته; فصفات الخالق لا يمكن أن تنفصل عنه إلى مخلوق لأننا لو قلنا بذلك لقلنا بحلول صفات الخالق بالمخلوق، وهذا أمر لا يمكن; لأن صفات الخالق يتصف بها وحده، وصفات المخلوق يتصف بها وحده، لكن صفات الخالق لها آثار تظهر في المخلوق، وهذه الآثار هي الرحمة التي نتراحم بها.


قوله: { بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ }،أي: إن النبي صلى الله عليه وسلم في غير المؤمنين ليس رءوفا ولا رحيما، بل هو شديد عليهم كما وصفه الله هو وأصحابه بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } 2.
قوله: "فإن تولوا": أي: أعرضوا مع هذا البيان الواضح بوصف



1 من حديث أبي هريرة. رواه: "البخاري" (كتاب الأدب, باب جعل الله الرحمة في مئة جزء, 4/91), و "مسلم" (كتاب التوبة, باب في سعة رحمة الله, رقم 2752, 2753, 4/2108).
2 سورة الفتح آية : 29.

ج / 1 ص -442-


الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا التفات من الخطاب إلى الغيبة; لأن التولي مع هذا البيان مكروه، ولهذا لم يخاطبوا به; فلم يقل: فإن توليتم. والبلاغيون يسمونه التفاتا، ولو قيل: إنه انتقال; لكان أحسن!
قوله: { فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي: قل ذلك معتمدا على الله، متوكلا عليه، معتصما به: حسبي الله، وارتباط الجواب بالشرط واضح، أي: فإن أعرضوا; فلا يهمنك إعراضهم، بل قل بلسانك وقلبك: حسبي الله، و "" خبر مقدم، ولفظ الجلالة مبتدأ مؤخر ويجوز العكس بأن نجعل: " مبتدأ ولفظ الجلالة خبراً، لكن لما كانت حسب نكرة لا تتعرف بالإضافة; كان الأولى أن نجعلها هي الخبر.


قوله: { لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } 1 أي: لا معبود حق حقيق بالعبادة سوى الله عزوجل
قوله: "عليه توكلت": عليه: جار ومجرور متعلق بتوكلت، وقدم للحصر. والتوكل: هو الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة به وفعل الأسباب النافعة.


وقوله: "عليه توكلت" مع قوله: { لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } 2 فيها جمع بين توحيدي الربوبية والعبودية، والله تعالى يجمع بين هذين الأمرين كثيرا كقوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } 3 [الفاتحة: 5]، وقوله: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } 4.


قوله: { وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } 5 الضمير يعود على الله - سبحانه -.
و "رب العرش" ; أي: خالقه، وإضافة الربوبية إلى العرش وإن كانت ربوبية الله عامة، تشريف للعرش وتعظيم له. ومناسبة التوكل لقوله:



1 سورة البقرة آية : 163.
2 سورة البقرة آية : 163.
3 سورة الفاتحة آية : 5.
4 سورة هود آية : 123.
5 سورة التوبة آية : 129.

ج / 1 ص -443-


{ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ }1 لأن من كان فوق كل شيء ولا شيء فوقه; فإنه لا أحد يغلبه، فهو جدير بأن يتوكل عليه وحده.
وقوله: "العرش" فسره بعض الناس بالكرسي، ثم فسروا الكرسي بالعلم، وحينئذ لا يكون هناك كرسي ولا عرش، وهذا التفسير باطل، والصحيح أن العرش غير الكرسي، وأن الكرسي غير العلم، ولا يصح تفسيره بالعلم، بل الكرسي من مخلوقات الله العظيمة الذي وسع السماوات والأرض، والعرش أعظم وأعظم، ولهذا وصفه بأنه عظيم بقوله تعالى: { وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } 2 وبأنه مجيد بقوله: { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ } 3 على قراءة كسر الدال، وبأنه كريم في قوله: { لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } 4 لأنه أعظم المخلوقات التي بلغنا علمها وأعلاها لأن الله استوى عليه. وفيه دليل على أن كلمة العظيم يوصف بها المخلوق; لأن العرش مخلوق، وكذلك الرحيم، والرءوف، والحكيم.


ولا يلزم من اتفاق الاسمين اتفاق المسميين، فإذا كان الإنسان رءوفا; فلا يلزم أن يكون مثل الخالق، فلا تقل: إذا كان الإنسان سميعا بصيرا عليما لزم أن يكون مثل الخالق; لأن الله سميع بصير عليم، كما أن وجود الباري سبحانه لا يستلزم أن تكون ذاته كذوات الخلق; فإن أسماءه كذلك لا يستلزم أن تكون كأسماء الخلق، وهناك فرق عظيم بين هذا وهذا.


وقوله: { فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ }أي: كافيني، وهكذا يجب أن يعلن المؤمن اعتماده على ربه، ولا سيما في مثل هذا المقام الذي يتخلى الناس عنه; لأنه قال: "فإن تولوا". وهذه الكلمة - كلمة الحسب - تقال في



1 سورة التوبة آية : 129.
2 سورة التوبة آية : 129.
3 سورة البروج آية : 15.
4 سورة المؤمنون آية : 116.

ج / 1 ص -444- عن أبي هريرةرضي الله عنهقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تجعلوا بيوتكم قبورا،..


الشدائد، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قيل لهم: { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } 1.
(تنبيه): في سياقنا للآية الثانية فوائد نسأل الله أن ينفع بها.
قوله: "لا تجعلوا": الجملة هنا نهي; فلا ناهية، والفعل مجزوم وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعل.


قوله: "بيوتكم": جمع بيت، وهو مقر الإنسان وسكنه، سواء كان من طين أو حجارة أو خيمة أو غير ذلك، وغالب ما يراد به الطين والحجارة.
قوله: "قبورا": مفعول ثان لتجعلوا، وهذه الجملة اختلف في معناها; فمنهم من قال: لا تجعلوها قبورا; أي: لا تدفنوا فيها، وهذا لا شك أنه ظاهر اللفظ، ولكن أورد على ذلك دفن النبي صلى الله عليه وسلم في بيته.
وأجيب عنه بأنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم فالنبي صلى الله عليه وسلم

دفن في بيته لسببين:
1- ما روي عن أبي بكر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من نبي يموت إلا دفن حيث قبض "2 وهذا ضعفه بعض العلماء.
2- ما روته عائشة رضي الله عنها: " أنه خشي أن يتخذ مسجدا "3.




1 سورة آل عمران آية : 173.
2 سبق (ص 397).
3 سبق (ص 397).

ج / 1 ص -445-


وقال بعض العلماء: المراد ب "لا تجعلوا بيوتكم قبورا"; أي: لا تجعلوها مثل القبور، أي: المقبرة لا تصلون فيها، وذلك لأنه من المتقرر عندهم أن المقابر لا يصلى فيها، وأيدوا هذا التفسير بأنه سبقها جملة في بعض الطرق: " اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تجعلوها قبورا "1 وهذا يدل على أن المراد: لا تدعوا الصلاة فيها.


وكلا المعنيين صحيح; فلا يجوز أن يدفن الإنسان في بيته، بل يدفن مع المسلمين; لأن هذه هي العادة المتبعة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، ولأنه إذا دفن في بيته; فإنه ربما يكون وسيلة إلى الشرك، فربما يعظم هذا المكان، ولأنه يحرم من دعوات المسلمين الذين يدعون بالمغفرة لأموات المسلمين عند زيارتهم للمقابر، ولأنه يضيق على الورثة من بعده فيسأمون منه، وربما يستوحشون منه، وإذا باعوه لا يساوي إلا شيئا قليلا، ولأنه قد يحدث عنده من الصخب واللعب واللغو والأفعال المحرمة ما يتنافى مع مقصود الشارع; فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " زوروا القبور; فإنها تذكركم الآخرة "2.


وأما أن المعنى: لا تجعلوها قبورا; أي: مثل القبور في عدم الصلاة فيها; فهو دليل على أنه ينبغي إن لم نقل: يجب أن يجعل الإنسان من صلاته في بيته ولا يخليه من الصلاة. وفيه أيضا: أنه من المتقرر عندهم أن المقبرة لا يصلى فيها.
إذن; فيكون هذا النهي عن ترك الصلاة في البيوت لئلا تشبه المقابر; فيكون فيه دليل واضح على أن المقابر ليست محلا للصلاة، وهذا هو




1 البخاري : الشهادات (2679) والمناقب (3836) والأدب (6108) والأيمان والنذور (6646) والتوحيد (7401) , ومسلم : الأيمان (1646) , والترمذي : النذور والأيمان (1534) , والنسائي : الأيمان والنذور (3764) , وأبو داود : الأيمان والنذور (3249) , وأحمد (2/11 ,2/17 ,2/20 ,2/76 ,2/98 ,2/142) , ومالك : النذور والأيمان (1037) , والدارمي : النذور والأيمان (2341).
2 سبق (ص 431).

ج / 1 ص -446- ولا تجعلوا قبري عيدا،.......


الشاهد من الحديث للباب;
لأن اتخاذ المقابر مساجد سبب قريب جدا للشرك.
واتخاذها مساجد سبق أن له مرتبتين:
الأولى: أن يبني عليها مسجدا.
الثانية: أن يتخذها مصلى يقصدها ليصلي عندها.


والحديث يدل على أن الأفضل: أن المرء يجعل من صلاته في بيته وذلك جميع النوافل; لقوله صلى الله عليه وسلم " أفضل صلاة المرء في بيته; إلا المكتوبة "1 إلا ما ورد الشرع أن يفعل في المسجد، مثل: صلاة الكسوف، وقيام الليل في رمضان، حتى ولو كنت في المدينة النبوية; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك وهو في المدينة، وتكون المضاعفة بالنسبة للفرائض أو النوافل التي تسن لها الجماعة.


قوله: "عيدا": العيد: اسم لما يعتاد فعله، أو التردد إليه، فإذا اعتاد الإنسان أن يعمل عملا كما لو كان كلما حال عليه الحول صنع طعاما ودعا الناس; فهذا يسمى عيدا لأنه جعله يعود ويتكرر.


وكذلك من العيد: أن تعتاد شيئا فتتردد إليه، مثل: ما يفعل بعض الجهلة في شهر رجب وهو ما يسمى بالزيارة الرجبية، حيث يذهبون من مكة إلى المدينة، ويزورون كما زعموا قبر النبي صلى الله عليه وسلم وإذا أقبلوا على المدينة تسمع لهم صياحا، وكانوا سابقا يذهبون من مكة إلى المدينة على الحمير خاصة، ولما جاءت السيارات صاروا يذهبون على السيارات.
وأيهما المراد من كلام النبي صلى الله عليه وسلم الأول; أي العمل الذي يتكرر




1 من حديث زيد بن ثابت, رواه: البخاري (كتاب الأذان, باب صلاة الليل, 1/239), ومسلم (كتاب صلاة المسافرين, باب استحباب صلاة النافلة في بيته, 1/539).

ج / 1 ص -447- وصلوا علي;....


بتكرر العام، أو التردد إلى المكان؟ الظاهر الثاني، أي: لا تترددوا على قبري وتعتادوا ذلك، سواء قيدوه بالسنة أو بالشهر أو بالأسبوع; فإنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وإنما يزار لسبب، كما لو قدم الإنسان من سفر، فذهب إلى قبره فزاره، أو زاره ليتذكر الآخرة كغيره من القبور.
وما يفعله بعض الناس في المدينة كلما صلى الفجر ذهب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم من أجل السلام عليه، فيعتاد هذا كل فجر، يظنون أن هذا مثل زيارته في حياته; فهذا من الجهل، وما علموا أنهم إذا سلموا عليه في أي مكان; فإن تسليمهم يبلغه.


قوله: "وصلوا علي": هذا أمر، أي: قولوا: اللهم صل على محمد، وقد أمر الله بذلك في قوله: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } 1.


وفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم معروف، ومنه أن من صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه بها عشرا2. والصلاة من الله على رسوله ليس معناها كما قال بعض أهل العلم: إن الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الآدميين الدعاء. فهذا ليس بصحيح، بل إن صلاة الله على المرء ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، كما قال أبو العالية وتبعه على ذلك المحققون من أهل العلم. ويدل على بطلان القول الأول قوله تعالى: { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } 3 فعطف الرحمة على الصلوات، والأصل في العطف المغايرة، ولأن الرحمة تكون لكل أحد، ولهذا أجمع العلماء على أنه يجوز أن تقول: فلان رحمه الله،



1 سورة الأحزاب آية : 56.
2 أخرجه: مسلم في (الصلاة, باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه, 1/288) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
3 سورة البقرة آية : 157.

ج / 1 ص -448- فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم ".
رواه أبو داود بإسناد حسن ورواته ثقات1.



واختلفوا: هل يجوز أن تقول: فلان صلى الله عليه؟ فمن صلى على محمد صلى الله عليه وسلم مرة أثنى الله عليه في الملأ الأعلى عشر مرات، وهذه نعمة كبيرة.
قوله: "فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم": حيث: ظرف مبني على الضم في محل نصب، ويقال فيها: حيث، وحوث، وحاث، لكنها قليلة.
كيف تبلغه الصلاة عليه؟


الجواب: نقول: إذا جاء مثل هذا النص وهو من أمور الغيب; فالواجب أن يقال: الكيف مجهول لا نعلم بأي وسيلة تبلغه، لكن ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام "2 فإن صح; فهذه هي الكيفية.


قوله: "رواه أبو داود بإسناد حسن، ورواته ثقات": هذا التعبير من الناحية الاصطلاحية، ظاهره أن بينهما اختلافا، ولكننا نعرف أن الحسن: هو أن يكون الراوي خفيف الضبط; فمعناه أن فيه نوعا من الثقة، فيجمع بين كلام المؤلف رحمه الله وبين ما ذكره عن رواية أبي داود بإسناد حسن:



1 رواه: أحمد (2/367), وأبو داود (كتاب المناسك, باب زيارة القبور, 2/534) وسكت عنه. وصححه النووي في "الأذكار" (ص 93), وقال شيخ الإسلام في "الاقتضاء" (ص 321): "إسناده حسن, ورواته ثقات مشاهير, لكن عبد الله بن نافع الصائغ الفقيه صاحب مالك فيه لين, لا يقدح في حديثه". وحسنه ابن حجر في "تخريج الأذكار"; كما في الفتوحات الربانية" (3/313).


2 رواه: أحمد في "المسند" (1/387), والنسائي (كتاب السهو, باب السلام على النبي صلى الله عليه وسلم, 3/43) وغيرهما من حديث ابن مسعود. وقال ابن القيم في "جلاء الأفهام" (ص 23): "وهذا إسناد صحيح".

ج / 1 ص -449- وعن علي بن الحسينرضي الله عنهأنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم...............


أن المراد بالثقة ليست غاية الثقة; لأنه لو بلغ إلى حد الثقة الغاية لكان صحيحا; لأن ثقة الراوي تعود على تحقق الوصفين فيه، وهما: العدالة والضبط، فإذا خف الضبط خفت الثقة، كما إذا خفت العدالة أيضا تخف الثقة فيه. فيجمع بينهما على أن المراد: مطلق الثقة، ولكنه لا شك فيما أرى أنه إذا أعقب قوله: "حسن" بقوله: "رواته ثقات" أنه أعلى مما لو اقتصر على لفظ: "حسن". ومثل هذا ما يعبر به ابن حجر في "تقريب التهذيب" بقوله: "صدوق يهم"، وأحيانا يقول: "صدوق"، وصدوق أقوى; فيكون توثيق الرجل الموصوف بأنّه صدوق أشد من توثيق الرجل الذي يوصف بأنه يهم. لا يقول قائل: إن كلمة يهم لا تزيده ضعفا; لأنه ما من إنسان إلا ويهم. فنقول: هذا لا يصح; لأن قولهم: (يهم) لا يعنون به الوهم الذي لا يخلو منه أحد، ولولا أن هناك غلبة في أوهامه ما وصفوه بها.


قوله: "وعن علي بن الحسين": هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، يسمى بزين العابدين، من أفضل أهل البيت علما وزهدا وفقها. والحسين معروف: ابن فاطمة رضي الله عنها، وأبوه: علي (.


قوله: "يجيء إلى فرجة": هذا الرجل لا شك أنه لم يتكرر مجيئه إلى هذه الفرجة إلا لاعتقاده أن فيها فضلا ومزية، وكونه يظن أن الدعاء عند القبر له مزية فتح باب ووسيلة إلى الشرك، بل جميع العبادات إذا كانت عند القبر; فلا يجوز أن يعتقد أن لها مزية، سواء كانت صلاة أو

ج / 1 ص -450- فيدخل فيها، فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي; فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم "........


دعاء أو قراءة، ولهذا نقول: تكره القراءة عند القبر إذا كان الإنسان يعتقد أن القراءة عند القبر أفضل.
قوله: "فنهاه": أي: طلب منه الكف.
قوله: "ألا أحدثكم حديثا": قال: أحدثكم والرجل واحد; لأن الظاهر أنه كان عند أصحابه يحدثهم، فجاء هذا الرجل إلى الفرجة. و"ألا": أداة عرض; أي: أعرض عليكم أن أحدثكم. وفائدتها: تنبيه المخاطب إلى ما يريد أن يحدثه به.
قوله: "عن أبي عن جدي": أبوه: الحسين، وجده: علي بن أبي طالب.
قوله: "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم": السند متصل، وفيه عنعنة لكنها لا تضر; لأنها من غير مدلس، فتحمل على السماع.


قوله: "لا تتخذوا قبري عيدا": يقال فيه كما في الحديث السابق: أنه نهى أن يتخذ قبره عيدا يعتاد ويتكرر إليه; لأنه وسيلة إلى الشرك.
قوله: "ولا بيوتكم قبورا": سبق معناه.
قوله: "وصلوا علي; فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم": اللفظ هكذا، وأشك في صحته; لأن قوله: "صلوا علي" يقتضي أن يقال: فإن صلاتكم تبلغني; إلا أن يقال هذا من باب الطي والنشر. والمعنى: صلوا علي وسلموا; فإن تسليمكم وصلاتكم تبلغني، وكأنه ذكر الفعلين والعلتين،

ج / 1 ص -451- رواه في " المختارة1 ".



لكن حذف من الأولى ما دلت عليه الثانية، ومن الثانية ما دلت عليه الأولى.
وقوله: "وصلوا علي": سبق معناها، والمراد: صلوا علي في أي مكان كنتم، ولا حاجة إلى أن تأتوا إلى القبر وتسلموا علي وتصلوا علي عنده.
قوله: "يبلغني": تقدم كيف يبلغه صلى الله عليه وسلم
قوله: "رواه في المختارة": الفاعل مؤلف المختارة، والمختارة: اسم للكتاب; أي: الأحاديث المختارة.


والمؤلف هو عبد الغني المقدسي، من الحنابلة. وما أقل الحديث في الحنابلة، يعني المحدثين، وهذا من أغرب ما يكون، يعني أصحاب الإمام أحمد أقل الناس تحديثا بالنسبة للشافعية. فالحنابلة غلب عليهم رحمهم الله الفقه مع الحديث; فصاروا محدثين وفقهاء، ولكنهم رحمهم الله بشر، فإذا أخذ من هذا العلم صار ذلك زحاما للعلم الآخر، أما الأحناف; فإنهم أخذوا بالفقه، لكن قلت بضاعتهم في الحديث، ولهذا يسمون أصحاب الرأي (يعني: العقل والقياس); لقلة الحديث عندهم، والشافعية أكثر الناس عناية بالحديث والتفسير، والمالكية كذلك، ثم الحنابلة وسط، وأقلهم في ذلك الأحناف مع أن لهم كتبا في الحديث.



1 رواه: البخاري في "التاريخ الكبير, 2/186), وأبو يعلى; كما في "مجمع الزوائد" (4/3). وقال الهيثمي: "وفيه جعفر بن إبراهيم الجعفري, ذكره أبو حاتم ولم يذكر فيه جرحا, وبقية رجاله ثقات". وفيه أيضا علي بن عمر بن الحسين, مستور; كما في "التقريب" (2/41). ورواه أيضا: الضياء في "المختارة"; كما في "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص 322).



ج / 1 ص -452- فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية "براءة".
الثانية: إبعاده أمته عن هذا الحمى غاية البعد.
الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته.
الرابعة: نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص مع أن زيارته من أفضل الأعمال.
الخامسة: نهيه عن الإكثار من الزيارة.


فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية براءة. وسبق ذلك في أول الباب.
الثانية: إبعاده صلى الله عليه وسلم أمته عن هذا الحمى غاية البعد: تؤخذ من قوله: " لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا ".
الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته: وهذا مذكور في آية براءة.
الرابعة: نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص: تؤخذ من قوله:"ولا تجعلوا قبري عيدا" ; فقوله: "عيدا" هذا هو الوجه المخصوص.
وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم من أفضل الأعمال من جنسها; فزيارته فيها سلام عليه، وحقه صلى الله عليه وسلم أعظم من غيره.
وأما من حيث التذكير بالآخرة; فلا فرق بين قبره وقبر غيره.


· الخامسة: نهيه عن الإكثار من الزيارة: تؤخذ من قوله: "لا تجعلوا قبري عيدا"، لكنه لا يلزم منه الإكثار; لأنه قد لا يأتي إلا بعد سنة، ويكون قد اتخذه عيدا; فإن فيه نوعا من الإكثار.

ج / 1 ص -453- السادسة: حثه على النافلة في البيت.
السابعة: أنه مقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة.
الثامنة: تعليل ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد; فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب.
التاسعة: كونه صلى الله عليه وسلم في البرزخ تعرض أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه.


السادسة: حثه على النافلة في البيت: تؤخذ من قوله: "ولا تجعلوا بيوتكم قبورا"، وسبق أن فيها معنيين:
المعنى الأول: أن لا يقبر في البيت، وهذا ظاهر الجملة.
والثاني: الذي هو من لازم المعنى أن لا تترك الصلاة فيها.


السابعة: أنه متقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة: تؤخذ من قوله: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا" ; لأن معنى: لا تجعلوها قبورا، أي: لا تتركوا الصلاة فيها على أحد الوجهين; فكأنه من المتقرر عندهم أن المقابر لا يصلى فيها.
الثامنة: تعليل ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد; فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب: أي: كونه نهى صلى الله عليه وسلم أن يجعل قبره عيدا، العلة في ذلك: أن الصلاة تبلغه حيث كان الإنسان; فلا حاجة إلى أن يأتي إلى قبره، ولهذا نسلم ونصلي عليه في أي مكان; فيبلغه السلام والصلاة.


ولهذا قال علي بن الحسين: " ما أنت ومن في الأندلس إلا سواء ".
التاسعة: كونه صلى الله عليه وسلم في البرزخ تعرض أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه: أي: فقط فكل من صلى عليه أو سلم عرضت عليه صلاته، وتسليمه، ويؤخذ من قوله: " فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم ".





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




ام عادل السلفية 29-01-2015 07:08PM

بسم الله الرحمن الرحيم






القول المفيد على كتاب التوحيد

باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان

ج / 1 ص -454- باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان


سبب مجيء المؤلف بهذا الباب لدحض حجة من يقول: إن الشرك لا يمكن أن يقع في هذه الأمة، وأنكروا أن تكون عبادة القبور والأولياء من الشرك; لأن هذه الأمة معصومة منه; لقوله صلى الله عليه وسلم " إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم "1.
والجواب عن هذا سبق عند الكلام على المسألة الثامنة عشرة من مسائل باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما.


قوله: "أن بعض هذه الأمة": أي: لا كلها; لأن في هذه الأمة طائفة لا تزال منصورة على الحق إلى قيام الساعة، لكنه سيأتي في آخر الزمان ريح تقبض روح كل مسلم; فلا يبقى إلا شرار الناس.
وقوله: "تعبد"; بفتح التاء، وفي بعض النسخ: "يعبد"; بفتح الياء المثناة من تحت: فعلى قراءة "يعبد" لا إشكال فيها; لأن "بعض" مذكر.
وعلى قراءة "تعبد"; فإنه داخل في قول ابن مالك:
وربما أكسب ثان أولا تأنيثا أن كان لحذف موهلا
ومثلوا لذلك بقولهم: قُطِعَت بعض أصابعه; فالتأنيث هنا من أجل أصابعه لا من أجل بعض. فإذا صحت النسخة "تعبد"; فهذا التأنيث اكتسبه المضاف من المضاف إليه.



1 مسلم : صفة القيامة والجنة والنار (2812) , والترمذي : البر والصلة (1937) , وأحمد (3/313 ,3/354 ,3/366 ,3/384).

ج / 1 ص -455- وقوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } 1.


قوله: "الأوثان": جمع وثن، وهو: كل ما عبد من دون الله.


ذكر المؤلف في هذا الباب عدة آيات:
الآية الأولى: قوله تعالى: "ألم تر": الاستفهام هنا للتقرير والتعجيب، والرؤية بصرية بدليل أنها عديت بإلى، وإذا عديت بإلى صارت بمعنى النظر. والخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصح توجيه الخطاب إليه; أي: ألم تر أيها المخاطب؟
قوله:{ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا } أي: أعطوا، ولم يعطوا كل الكتاب; لأنهم حرموا بسبب معصيتهم; فليس عندهم العلم الكامل بما في الكتاب.


قوله:{ نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ }المنَزل: والمراد بالكتاب: التوراة والإنجيل.
وقد ذكروا لذلك مثلا، وهو كعب بن الأشرف حين جاء إلى مكة، فاجتمع إليه المشركون، وقالوا: ما تقول في هذا الرجل (أي: النبي صلى الله عليه وسلم) الذي سفه أحلامنا ورأى أنه خير منا؟ فقال لهم: أنتم خير من محمد، ولهذا جاء في آخر الآية:{ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً }.


قوله:{ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } أي: يصدقون بهما، ويقرونهما لا ينكرونهما، فإذا أقر الإنسان هذه الأوثان; فقد آمن بها. والجبت:



1 سورة النساء آية : 51.

ج / 1 ص -456- وقوله تعالى:{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } 1.


قيل: السحر، وقيل: هو الصنم، والأصح: أنه عام لكل صنم أو سحر أو كهانة أو ما أشبه ذلك.
والطاغوت: ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع. فالمعبود كالأصنام، والمتبوع كعلماء الضلال، والمطاع كالأمراء; فطاعتهم في تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله تعد من عبادتهم.


والمراد من كان راضيا بعبادتهم إياه، أو يقال: هو طاغوت باعتبار عابديه; لأنهم تجاوزوا به حده، حيث نزلوه فوق منزلته التي جعلها الله له، فتكون عبادتهم لهذا المعبود طغيانا; لمجاوزتهم الحد بذلك.
والطاغوت: مأخوذ من الطغيان; فكل شيء يتعدى به الإنسان حده يعتبر طاغوتا.


وجه المناسبة في الآية للباب لا يتبين إلا بالحديث، وهو: " لتركبن سنن من كان قبلكم "، فإذا كان الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، وأن من هذه الأمة من يرتكب سنن من كان قبله يلزم من هذا أن في هذه الأمة من يؤمن بالجبت والطاغوت فتكون الآية مطابقة للترجمة تماما.
الآية الثانية: قوله تعالى:{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ }الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ردا على هؤلاء اليهود الذين اتخذوا دين الإسلام هزوا ولعبا.



1 سورة المائدة آية : 60.

ج / 1 ص -457-


وقوله: " أنبئكم ": أي: أخبركم، والاستفهام هنا للتقرير والتشويق، أي: سأقرر عليكم هذا الخبر.
قوله:{ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ } 1 شر: هنا اسم تفضيل، وأصلها أشر لكن حذفت الهمزة تخفيفا لكثرة الاستعمال، ومثلها كلمة خير مخففة من أخير، والناس مخففة من الأناس، وكذا كلمة الله مخففة من الإله.


وقوله: "ذلك" المشار إليه ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه; فإن اليهود يزعمون أنهم هم الذين على الحق، وأنهم خير من الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليسوا على الحق; فقال الله تعالى:{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ }
قوله:{ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ } مثوبة: تمييز لشر; لأن شر اسم تفضيل، وما جاء بعد أفعل التفضيل مبينا له يكون منصوبا على التمييز.


قال ابن مالك:
اسم بمعنى من مبين نكره ينصب تمييزا بما قد فسره
إلى أن قال:
والفاعل المعنى انصبَنْ بأفعلا مفضلا كأنت أعلى منزلا
والمثوبة: من ثاب يثوب إذا رجع، ويطلق على الجزاء; أي: بشر من ذلك جزاء عند الله.


قوله: "عند الله": أي: في علمه وجزائه عقوبة أو ثوابا.
قوله:{ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ }من: اسم موصول خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو من لعنه الله; لأن الاستفهام انتهى عند قوله:{ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ } 2 وجواب الاستفهام:{ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ } 3 ولعنه; أي: طرده وأبعده عن رحمته.



1 سورة المائدة آية : 60.
2 سورة المائدة آية : 60.
3 سورة المائدة آية : 60.

ج / 1 ص -458-


قوله: "وغضب عليه": أي: أحل عليه غضبه، والغضب: صفة من صفات الله الحقيقية تقتضي الانتقام من المغضوب عليه، ولا يصح تحريفه إلى معنى الانتقام، وقد سبق الكلام عليه (ص 421).
والقاعدة العامة عند أهل السنة: أن آيات الصفات وأحاديثها تجرى على ظاهرها اللائق بالله عزوجل فلا تجعل من جنس صفات المخلوقين، ولا تحرف فتنفى عن الله; فلا نغلو في الإثبات ولا في النفي.


قوله:{ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ }القردة: جمع قرد، وهو حيوان معروف أقرب ما يكون شبها بالإنسان، والخنازير: جمع خنزير، وهو ذلك الحيوان الخبيث المعروف الذي وصفه الله بأنه رجس. والإشارة هنا إلى اليهود; فإنهم لعنوا كما قال تعالى:{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } 1 الآية.


وجعلوا قردة بقوله تعالى:{ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } 2، وغضب الله عليهم بقوله:{ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } 3.
قوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } 4 فيها قراءتان في "عبده" وفي "الطاغوت":
الأولى: بضم الباء "عبد"، وعليها تكسر التاء في "الطاغوت" ; لأنه مجرور بالإضافة.


الثانية: بفتح الباء "عبده" على أنه فعل ماض معطوف على قوله: "لعنه الله" صلة الموصول، أي: ومن عبد الطاغوت، ولم يُعِدْ "مَن" مع طول الفصل; لأن هذا ينطبق على موصوف واحد، فلو أعيدت "مَن"



1 سورة المائدة آية : 78.
2 سورة البقرة آية : 65.
3 سورة البقرة آية : 90.
4 سورة المائدة آية : 60.

ج / 1 ص -459- وقوله تعالى: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } 1.


لأوهم أنهم جماعة آخرون وهم جماعة واحدة; فعلى هذه القراءة يكون "عبد" فعلا ماضيا، والفاعل ضمير مستتر جوازا تقديره هو يعود على "مَن" في قوله:{ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ } 2 و"الطاغوت" بفتح التاء مفعولا به. وبهذا نعرف اختلاف الفاعل في صلة الموصول وما عطف عليه; لأن الفاعل في صلة الموصول هو "الله"، والفاعل في عبد يعود على "من".


وعلى كل حال; فالمراد بها عابَد الطاغوت. فالفرق بين القراءتين بالباء فقط; فعلى قراءة الفعل مفتوحة، وعلى قراءة الاسم مضمومة. والطاغوت على قراءة الفعل في "عبد" تكون مفتوحة "عبد الطاغوت"، وعلى قراءة الاسم تكون مكسورة بالإضافة "عبد الطاغوت". وذُكِرَ في تركيب "عبد" مع "الطاغوت" أربع وعشرون قراءة، ولكنها قراءات شاذة غير القراءتين السبعيتين "عَبَدَ" و"عَبُدَ".


الآية الثالثة: قوله تعالى:{ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } 3 هذه الآية في سياق قصة أصحاب الكهف، وقصتهم عجيبة; كما قال تعالى:{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً }، وهم فتية آمنوا بالله وكانوا في بلاد شرك، فخرجوا منها إلى الله عزوجل فيسر الله لهم غارا، فدخلوا فيه، وناموا فيه نومة طويلة بلغت:{ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً } 4 وهم نائمون لا يحتاجون إلى أكل وشرب، ومن حكمة الله أن الله يقلبهم ذات



1 سورة الكهف آية : 21.
2 سورة المائدة آية : 60.
3 سورة الكهف آية : 21.
4 سورة الكهف آية : 25.

ج / 1 ص -460-


اليمين وذات الشمال حتى لا يترسب الدم في أحد الجانبين، ولما خرجوا بعثوا بأحدهم إلى المدينة ليشتري لهم طعاما، وآخر الأمر أن أهل المدينة اطلعوا على أمرهم، وقالوا: لا بد أن نبني على قبورهم مسجدا.


وقوله:{ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ } المراد بهم: الحكام في ذلك الوقت قالوا مقسمين مؤكدين:{ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } وبناء المساجد على القبور من وسائل الشرك كما سبق.


فوائد الآيات السابقة:

من فوائد الآية الأولى ما يلي:
1- أن من العجب أن يعطى الإنسان نصيبا من الكتاب ثم يؤمن بالجبت والطاغوت.
2- أن العلم قد لا يعصم صاحبه من المعصية; لأن الذين أوتوا الكتاب آمنوا بالكفر، والذي يؤمن بالكفر يؤمن بما دونه من المعاصي.
3- وجوب إنكار الجبت والطاغوت; لأن الله تعالى ساق الإيمان بهما مساق العجب والذم; فلا يجوز إقرار الجبت والطاغوت.
4- ما ساقها المؤلف من أجله أن من هذه الأمة من يؤمن بالجبت والطاغوت لقوله صلى الله عليه وسلم " لتركبن سنن من كان قبلكم "1 فإذا وجد في بني إسرائيل من يؤمن بالجبت والطاغوت; فإنه سيوجد في هذه الأمة أيضا من يؤمن بالجبت والطاغوت.


ومن فوائد الآية الثانية ما يلي:

1- تقرير الخصم والاحتجاج عليه بما لا يستطيع إنكاره، بمعنى


1 الترمذي : الفتن (2180) , وأحمد (5/218).

ج / 1 ص -461-


أنك تحتج على خصمك بأمر لا يستطيع إنكاره; فإن اليهود يعرفون بأن فيهم قوما غضب الله عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير، فإذا كانوا يقرون بذلك وهم يستهزئون بالمسلمين; فنقول لهم: أين محل الاستهزاء الذين حلت عليهم هذه العقوبات أم الذين سلموا منها؟ والجواب: الذين حلت بهم العقوبة أحق بالاستهزاء.


2- اختلاف الناس بالمنزلة عند الله; لقوله:{ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ } ولا شك أن الناس يختلفون بزيادة الإيمان ونقصه وما يترتب عليه من الجزاء.
3- سوء حال اليهود الذين حلت بهم هذه العقوبات من اللعن والغضب والمسخ، وعبادة الطاغوت.


4- إثبات أفعال الله الاختيارية، وأنه سبحانه يفعل ما يشاء; لقوله تعالى: "لعنه الله" ; فإن اللعن من صفات الأفعال.
5- إثبات الغضب لله; لقوله تعالى: "وغضب عليه".
6- إثبات القدرة لله; لقوله:{ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ } وهل المراد بالقردة والخنازير هذه الموجودة؟


الجواب: لا، لما ثبت في "صحيح مسلم" عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن كل أمة مسخت لا يبقى لها نسل "1 ولأن القردة والخنازير كانت قبل ذلك، وعلى هذا; فليس هذا الموجود من القردة والخنازير هو بقية أولئك الممسوخين.




1 من حديث ابن مسعود, رواه: مسلم (كتاب القدر, باب بيان أن الأرزاق والآجال... لا تزيد ولا تنقص عما سبق به القدر, 4/2051).

ج / 1 ص -462-


7- أن العقوبات من جنس العمل، لأن هؤلاء الذين مسخوا قردة، والقرد أشبه ما يكون شبها بالإنسان، فعلوا فعلا ظاهره الإباحة والحل وهو محرم، وذلك أنه حرم عليهم الصيد يوم السبت ابتلاء من الله، فإذا جاء يوم السبت امتلأ البحر بالحيتان، وظهرت على سطح الماء، وفي غيره من الأيام تختفي ولا يأتي منها شيء، فلما طال عليهم الأمد صنعوا شباكا; فصاروا ينصبونها في يوم الجمعة ويدعون الحيتان تدخل فيها يوم السبت، فإذا أتى يوم الأحد أخذوها، وهذه حيلة ظاهرها الحل، ولكن حقيقتها ومعناها الوقوع في الإثم تماما، ولهذا مسخوا إلى حيوان يشبه الإنسان وليس بإنسان، وهو القرد، قال تعالى:{ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } 1، وهو يفيد أن الجزاء من جنس العمل، ويدل عليه صراحة قوله تعالى:{ فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ } 2.


8- أن هؤلاء اليهود صاروا يعبدون الطاغوت; لقوله:{ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } 3 ولا شك أنهم حتى الآن يعبدونه; لأنهم عبدوا الشيطان وأطاعوه وعصوا الله ورسوله. وفي الآية نكتة نحوية في قوله: "عليه" و "منهم" في قوله تعالى:{ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ } 4 فالضمير في "لعنه" الهاء، و "وغضب عليه" مفرد، و "منهم" جمع، مع أن المرجع واحد، وهو: "من". والجواب: أنه روعي في الإفراد اللفظ، وفي الجمع المعنى، وذلك أن "من" اسم موصول صالحة للمفرد وغيره، قال ابن مالك:

... ومن وما وأل تساوي ما ذكر



1 سورة البقرة آية : 65.
2 سورة العنكبوت آية : 40.
3 سورة المائدة آية : 60.
4 سورة المائدة آية : 60.

ج / 1 ص -463- عن أبي سعيد (رضي الله عنه); أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم.......


لما ذكر الأسماء الموصولة من المفرد والمثنى والجمع من مذكر ومؤنث قال: ومن وما... إلخ. وقال:{ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ } ولم يقل: وجعلهم قردة; لأن اللعن والغضب عام لهم جميعا، والعقوبة بمسخهم إلى قردة وخنازير خاص ببعضهم، وليس شاملا لبني إسرائيل.


ومن فوائد الآية الثالثة ما يلي:
1- ما تضمن سياق هذه الآية من القصة العجيبة في أصحاب الكهف وما تضمنته من الآيات الدالة على كمال قدرة الله وحكمته.
2- أن من أسباب بناء المساجد على القبور الغلو في أصحاب القبور; لأن الذين غلبوا على أمرهم بنوا عليهم المساجد; لأنهم صاروا عندهم محل الاحترام والإكرام فغلوا فيهم.


3- أن الغلو في القبور وإن قل قد يؤدي إلى ما هو أكبر منه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي حين بعثه: " ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته "1.
قوله في الحديث: "لتتبعن": اللام موطئة للقسم، والنون للتوكيد; فالكلام مؤكد بثلاثة مؤكدات: القسم المقدر، واللام، والنون، والتقدير: والله لتتبعن.
قوله: "سنن من كان قبلكم": فيها روايتان: "سَنَنَ" و "سُنَنَ". أما



1 مسلم : الجمعة (867) , والنسائي : صلاة العيدين (1578) , وابن ماجه : المقدمة (45) , وأحمد (3/371).

ج / 1 ص -464-


"سنن" ; بضم السين: جمع سنة، وهي الطريقة. وأما "سنن"، بالفتح: فهي مفرد بمعنى الطريق. وفعل تأتي مفردة مثل: فن جمعها أفنان، وسبب جمعها أسباب.
وقوله: "من كان قبلكم": أي: من الأمم.


قوله: "لتتبعن سنن من كان قبلكم" ليس على ظاهره، بل هو عام مخصوص; لأننا لو أخذنا بظاهره كانت جميع هذه الأمة تتبع سنن من كان قبلها، لكننا نقول: إنه عام مخصوص; لأن في هذه الأمة من لا يتبع تلك السنن كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق، وقد يقال: إن الحديث على عمومه وأنه لا يلزم أن تتبع هذه الأمة الأمم السابقة في جميع سننها، بل بعض الأمة يتبعها في شيء وبعض الأمة يتبعها في شيء آخر، وحينئذ لا يقتضي خروج هذه الأمة من الإسلام، وهذا أولى لبقاء الحديث على عمومه، ومن المعلوم أن من طرق من كان قبلنا ما لا يخرج من الملة، مثل: أكل الربا، والحسد، والبغي، والكذب. ومنه ما يخرج من الملة: كعبادة الأوثان.


السنن: هي الطرائق، وهي متنوعة، منها ما هو اعتداء على حق الخالق، ومنها ما هو اعتداء على حق المخلوق، ولنستعرض شيئا من هذه السنن: فمن هذه السنن: عبادة القبور والصالحين; فإنها موجودة في الأمم السابقة وقد وجدت في هذه الأمة، قال تعالى عن قوم نوح:{ وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } 1. ومن ذلك: الغلو في الصالحين كما وجد في الأمم السابقة وجد في هذه الأمة. ومنها: دعاء غير الله، وقد وجد في هذه الأمة.


ومنها: بناء المساجد على القبور موجود في السابقين، وقد وجد في هذه الأمة.



1 سورة نوح آية : 23.

ج / 1 ص -465-


ومنها: وصف الله بالنقائص والعيوب; فقد قالت اليهود:{ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } 1، وقالوا :{ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } 2، وقالوا: إن الله تعب من خلق السماوات والأرض، وقد وجد في هذه الأمة من قال بذلك أو أشد منه; فقد وجد من قال: ليس له يد، ومنهم من قال: لا يستطيع أن يفعل ما يريد فلم يستو على العرش، ولا ينزل إلى السماء الدنيا ولا يتكلم، بل وجد في هذه الأمة من يقول: بأنه ليس داخلا في العالم، وليس خارجا عنه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه; فوصفوه بما لا يمكن وجوده، ومنهم من قال: لا تجوز الإشارة الحسية إليه، ولا يفعل، ولا يغضب، ولا يرضى، ولا يحب، وهذا مذهب الأشاعرة.


ومنها: أكل السحت; فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة. ومنها: أكل الربا; فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة. ومنها: التحيل على محارم الله; فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة. ومنها: إقامة الحدود على الضعفاء ورفعها عن الشرفاء; فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.


ومنها: تحريف كلام الله عن مواضعه لفظا ومعنى; كاليهود حين قيل لهم:{ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ } 3، فدخلوا على قفاهم، وقالوا: حنطة ولم يقولوا حطة، ووجد في هذه الأمة من فعل كذلك; فحرف لفظ الاستواء إلى الاستيلاء، قال تعالى:{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } 4 وقالوا هم: الرحمن على العرش استولى.


قال ابن القيم: إن اللام في استولى مزيدة زادها أهل التحريف كما زاد اليهود النون في (حطة) فقالوا: (حنطة).


1 سورة المائدة آية : 64.
2 سورة آل عمران آية : 181.
3 سورة البقرة: 58.
4 سورة طه آية : 5.

ج / 1 ص -466-

نون اليهود ولام جهمي هما في وحي رب العرش زائدتان
أمر اليهودُ بأن يقولوا حطةً فأبوا وقالوا حنطةً لهوان
وكذلك الجهمي قيل له استوى فأبى وزاد الحرف للنقصان


ووجد في الأمم السابقة من اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، ووجد في هذه الأمة من يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم بقول شيخه.
فإذا تأملت كلام النبي صلى الله عليه وسلم وجدته مطابقا للواقع: "لتتبعن سنن من كان قبلكم"، ولكن يبقى النظر: هل هذا الحديث للتحذير أو للإقرار؟
الجواب: لا شك أنه للتحذير وليس للإقرار; فلا يقول أحد: سأحسد وسآكل الربا، وسأعتدي على الخلق; لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك، فمن قال ذلك; فإننا نقول له: أخطأت; لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنه للتحذير، ولهذا قال الصحابة: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ ثم نقول لهم أيضا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأشياء ستقع، ومع ذلك أخبر بأنها حرام بنص القرآن. فمن ذلك أنه أخبر أن الرجل يكرم زوجته ويعق أمه، وأخبر أن الإنسان يعصي أباه ويدني صديقه1 وهذا ليس بجائز بنص القرآن، لكن قصد التحذير من هذا العمل.


ووجد في الأمم السابقة من يقول للمؤمنين: إن هؤلاء لضالون، ووجد في هذه الأمة من يقول للمؤمنين: إن هؤلاء لرجعيون. فالمعاصي لها أصل في الأمم على حسب ما سبق، ولكن من وفقه الله للهداية اهتدى.
والحاصل أنك لا تكاد تجد معصية في هذه الأمة إلا وجدت لها



1 من حديث أبي هريرة, رواه: الترمذي في (الفتن, باب ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف, 6/364), وقال: "وهذا حديث غريب, لا نعرفه إلا من هذا الوجه".

ج / 1 ص -467- حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟........


أصلا في الأمم السابقة. ولا تجد معصية في الأمم السابقة إلا وجدت لها وارثا في هذه الأمة.


أما مناسبة الحديث للباب

فلأنه لما عبدت الأمم السابقة الأصنام والأوثان، فسيكون في هذه الأمة من يعبد الأصنام والأوثان.
قوله: "حذو القذة بالقذة": حذو بمعنى: محاذيا، وهي منصوبة على الحال من فاعل تتبعن; أي: حال كونكم محاذين لهم حذو القذة بالقذة. والقذة: هي ريشة السهم، والسهم له ريش لا بد أن تكون متساوية تماما، وإلا; صار الرمي به مختلا.


قوله: "حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه": هذه الجملة تأكيد منه صلى الله عليه وسلم للمتابعة. وجحر الضب من أصغر الجحور، ولو دخلوا جحر أسد من باب أولى أن ندخله; فالنبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك على سبيل المبالغة; كقوله صلى الله عليه وسلم " من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين "12 ومن اقتطع ذراعا; فمن باب أولى.


قوله: "قالوا: اليهود والنصارى" يجوز فيها وجهان:
الأول: نصب اليهود والنصارى على أنه مفعول لفعل محذوف تقديره: أتعني اليهود والنصارى؟



1 البخاري : المظالم والغصب (2452) وبدء الخلق (3198) , ومسلم : المساقاة (1610) , والترمذي : الديات (1418) , وأحمد (1/187 ,1/188 ,1/190) , والدارمي : البيوع (2606).
2 سبق (ص 87).

ج / 1 ص -468- قال: فمن؟ " أخرجاه1.


الثاني: الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أهم اليهود والنصارى؟ وعلى كل تقدير; فالجملة إنشائية لأنهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم فهي استفهامية، والاستفهام من باب الإنشاء. واليهود: أتباع موسى عليه الصلاة والسلام، وسموا يهودا نسبة إلى يهوذا من أحفاد إسحاق، أو لأنهم هادوا إلى الله; أي: رجعوا إليه بالتوبة من عبادة العجل. والنصارى: هم أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام، وسموا بذلك نسبة إلى بلدة تسمى الناصرة، وقيل: من النصرة; كما قال تعالى:{ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ } 2.


قوله: "قال: فمن": من هنا: اسم استفهام، والمراد به التقرير; أي: فمن أعني غير هؤلاء، أو فمن هم غير هؤلاء؟ فالصحابة رضي الله عنهم لما حدثهم صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث كأنه حصل في نفوسهم بعض الغرابة، فلما سألوا قرر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم اليهود والنصارى.


من فوائد الحديث:

1- ما أراده المؤلف بسياقه، وهو أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان; لأنه من سنن من قبلنا، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أننا سنتبعهم.
2- ويستفاد أيضا من فحوى الكلام التحذير من متابعة من قبلنا في معصية الله.
3- أنه ينبغي معرفة ما كان عليه من كان قبلنا مما يجب الحذر منه لنحذره، وغالب ذلك - ولله الحمد - موجود في القرآن والسنة.



1 رواه: البخاري (كتاب الاعتصام, باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لتتبعن سنن من كان قبلكم , 3/ 367), ومسلم (كتاب العلم, باب اتباع سنن اليهود والنصارى, 4/2054).
2 سورة الصّف آية : 14.

ج / 1 ص -469-


4- استعظام هذا الأمر عند الصحابة; لقولهم اليهود والنصارى، فإن الاستفهام للاستعظام; أي: استعظام الأمر أن نتبع سنن من كان قبلنا بعد أن جاءنا الهدى مع النبي صلى الله عليه وسلم
5- أنه كلما طال العهد بين الإنسان وبين الرسالة; فإنه يكون أبعد من الحق; لأنه أخبر عن مستقبل ولم يخبر عن الحاضر، ولأن من سنن من قبلنا أنه لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، قال تعالى:{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } 1.


فإذا كان طول الأمد سببا لقسوة القلب فيمن قبلنا; فسيكون فينا، ويشهد لذلك ما جاء في "البخاري" من حديث أنسرضي الله عنهأنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يأتي عليكم زمان إلا وما بعده أشر منه، حتى تلقوا ربكم "23 ومن تتبع أحوال هذه الأمة وجد الأمر كذلك، لكن يجب أن نعرف الفرق بين الجملة والأفراد; فحديث أنسرضي الله عنهحديث صحيح سندا ومتنا; فالمتن ليس فيه شذوذ، والسند في "البخاري"، والمراد به من حيث الجملة، ولذلك يوجد في أتباع التابعين من هو خير من كثير من التابعين; فلا تيأسوا، فتقولوا: إذا لا يمكن أن يوجد في زماننا هذا مثل من سبق; لأننا نقول: إن مثل هذا الحديث يراد به الجملة، وإذا شئتم أن يتضح الأمر; فانظروا إلى جنس الرجال وجنس النساء; أيهما خير؟




1 سورة الحديد آية : 16.
2 البخاري الفتن (7068), والترمذي الفتن(2206),وأحمد(3/132 ,3/177 ,3/179).
3 في (كتاب الفتن, باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه, 4/315).

ج / 1 ص -470-

الجواب: جنس الرجال خير، قال تعالى:{ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } 1 لكن يوجد في النساء من هي خير من كثير من الرجال; فيجب أن نعرف الفرق بين الجملة والأفراد.


فإذا نظرنا إلى مجموع القرن كله نجد أن ما بعد القرن شر منه، لا باعتبار الأفراد ولا باعتبار مكان دون مكان; فقد تكون أمة في بعض الجهات يرتفع الناس فيها من حسن إلى أحسن، كما لو نشأ فيها علماء نفع الله بهم; فإنهم يكونون أحسن ممن سبقهم.


أما الصحابة; فلا أحد يساويهم في فضل الصحبة، حتى أفرادهم لا يمكن لأحد من التابعين أن يساويهم فيها مهما بلغ من الفضل; لأنه لم يدرك الصحبة.
مسألة: ما هي الحكمة من ابتلاء الأمة بهذا الأمر: "لتتبعن سنن... " إلخ، وأن يكون فيها من كل مسيء من سبقها؟
الجواب: الحكمة ليتبين بذلك كمال الدين; فإن الدين يعارض كل هذه الأخلاق، فإذا كان يعارضها دل هذا على أن كل نقص في الأمم السابقة، فإن هذه الشريعة جاءت بتكميله; لأن الأشياء لا تتبين إلا بضدها; كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء.


(تنبيه):
قوله: "حذو القذة بالقذة"2 لم أجده في مظانه في "الصحيحين"; فليحرر.


1 سورة البقرة آية : 228.
2 جملة: "حذو القذة بالقذة" ليست في "الصحيحين", وهي في "المسند" (4/125) من حديث شداد بن أوس بلفظ: "ليحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين خلوا من قبلكم أهل الكتاب حذو القذة بالقذة". الناشر.

ج / 1 ص -471- ولمسلم1 عن ثوبان (رضي الله عنه); أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها،......


قوله: "زوى لي": بمعنى جمع وضم; أي; جمع له الأرض وضمها.
قوله: "فرأيت": أي: بعيني; فهي رؤية عينية، ويحتمل أن تكون رؤية منامية.
قوله: "مشارقها ومغاربها": وهذا ليس على الله بعزيز; لأنه على كل شيء قدير، فمن قدرته أن يجمع الأرض حتى يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم ما سيبلغ ملك أمته منها.


وهل المراد بالزوي هنا أن الأرض جمعت، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قوي نظره حتى رأى البعيد؟ الأقرب إلى ظاهر اللفظ: أن الأرض جمعت، لا أن بصره قوي حتى رأى البعيد.


وقال بعض العلماء: المراد قوة بصر النبي صلى الله عليه وسلم أي أن الله أعطاه قوة بصر حتى أبصر مشارق الأرض ومغاربها، لكن الأقرب الأول، ونحن إذا أردنا تقريب هذا الأمر نجد أن صورة الكرة الأرضية الآن مجموعة يشاهد الإنسان فيها مشارق الأرض ومغاربها; فالله على كل شيء قدير; فهو قادر على أن يجمع له صلى الله عليه وسلم الأرض حتى تكون صغيرة فيدركها من مشارقها إلى مغاربها.


اعتراض وجوابه:

فإن قيل: هذا إن حمل على الواقع; فليس بموافق للواقع، لأنه لو


1 في (كتاب الفتن, باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض, 4/2215).

ج / 1 ص -472- وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض،

حصرت الأرض بحيث يدركها بصر النبي صلى الله عليه وسلم المجرد; فأين يذهب الناس والبحار والجبال والصحاري؟
الجواب: بأن هذا من الأمور الغيبية التي لا يجوز أن تورد عليها كيف ولم، بل نقول: إن الله على كل شيء قدير; إذ قوة الله - سبحانه - أعظم من قوتنا وأعظم من أن نحيط بها، ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم1 فلا يجوز أن نقول: كيف يجري مجرى الدم؟ فالله أعلم بذلك.


وهذه المسائل التي لا ندركها يجب التسليم المحض لها، ولهذا نقول في باب الأسماء والصفات: تجرى على ظاهرها مع التنزيه عن التكييف والتمثيل، وهذا ما اتفق عليه أهل السنة والجماعة.


وقوله: "فرأيت مشارقها ومغاربها": أي: أماكن الشرق والغرب منها.
قوله: "وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها": والمراد: أمة الإجابة التي آمنت بالرسول صلى الله عليه وسلم سيبلغ ملكها ما زوي للرسول صلى الله عليه وسلم منها، وهذا هو الواقع; فإن ملك هذه الأمة اتسع من المشرق ومن المغرب اتساعا بالغا، لكنه من الشمال والجنوب أقل بكثير، والأمة الإسلامية وصلت من المشرق إلى السند والهند وما وراء ذلك، ومن المغرب إلى ما وراء المحيط، وهذا يحقق ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: "وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض": الذي أعطاه هو الله.


1 من حديث صفية, رواه: البخاري (كتاب الاعتكاف, باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه, 2/268), ومسلم (كتاب السلام, باب يستحب لمن رؤي خاليا بامرأة..., رقم 2175).

ج / 1 ص -473- وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم... ".


والكنزان: هما الذهب والفضة كنوز كسرى وقيصر; فالذهب عند قيصر، والفضة عند كسرى، وكل منهما عنده ذهب وفضة، لكن الأغلب على كنوز قيصر الذهب، وعلى كنوز كسرى الفضة.
وقوله: "أعطيت": هل النبي صلى الله عليه وسلم أعطيها في حياته، أم بعد موته؟ الجواب: بعد موته أعطيت أمته ذلك، لكن ما أعطيت أمته; فهو كالمعطى له; لأن امتداد ملك الأمة لا لأنها أمة عربية كما يقوله الجهال، بل لأنها أمة إسلامية أخذت بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم
قوله: "وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة": هكذا في الأصل: "بعامة"، والمعنى بمهلكة عامة، وفي رواية في بعض النسخ: "بسنة عامة".
السنة: الجدب والقحط، وهو يهلك ويدمر، قال صلى الله عليه وسلم " اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف "1.


وقال تعالى:{ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ } 2 ويحتمل أن يكون المعنى بعام واحد; فتكون الباء للظرفية. وعامة; أي: عموما تعمهم، هذه دعوة.
قوله: "وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم": أي: لا يسلط عليهم عدوا، والعدو: ضد الولي، وهو: المعادي المبغض الحاقد، وأعداء المسلمين هنا: هم الكفار، ولهذا قال: "من سوى أنفسهم". ومعنى: "يستبيح": يستحل، والبيضة: ما يجعل على الرأس وقاية من السهام. والمراد: يظهر عليهم ويغلبهم.



1 البخاري : الجمعة (1006) , ومسلم : المساجد ومواضع الصلاة (675) , والنسائي : التطبيق (1074) , وأبو داود : الصلاة (1442) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1244) , وأحمد (2/239 ,2/255 ,2/418 ,2/470 ,2/502 ,2/521) , والدارمي : الصلاة (1595).
2 سورة الأعراف آية : 130.

ج / 1 ص -474- " وإن ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاء; فإنه لا يرد،......


قوله: "إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد": اعلم أن قضاء الله نوعان.
1- قضاء شرعي قد يرد; فقد يريده الله ولا يقبلونه.
2- قضاء كوني لا يرد، ولا بد أن ينفذ.
وكلا القضاءين قضاء بالحق، وقد جمعهما قوله تعالى:{ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ } 1.
ومثال القضاء الشرعي: قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ } 2 ; لأنه لو كان كونيا; لكان كل الناس لا يعبدون إلا الله. ومثال القضاء الكوني: قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} 3 ; لأن الله تعالى لا يقضي شرعا بالفساد، لكنه يقضي به كونا وإن كان يكرهه سبحانه; فإن الله لا يحب الفساد ولا المفسدين، لكنه يقضي بذلك لحكمة بالغة، كما قسم خلقه إلى مؤمن وكافر; لما يترتب على ذلك من المصالح العظيمة.


والمراد بالقضاء في هذا الحديث: القضاء الكوني; فلا أحد يستطيع رده مهما كان من الكفر والفسوق; فقضاء الله نافذ على أكبر الناس عتوا واستكبارا، فقد نفذ على فرعون وأغرق بالماء الذي كان يفتخر به، وعلى طواغيت بني آدم فأهلكهم الله ودمرهم.


وفي قوله: "إذا قضيت قضاء; فإنه لا يرد" من كمال سلطان الله وقدرته وربوبيته ما هو ظاهر; لأنه ما من ملك سوى الله إلا يمكن أن يرد ما قضى به. أما قضاء الله فلا يمكن رده.


واعلم أن قضاء الله الكوني (كمشيئته) لا يكون إلا لحكمة (كقضائه الشرعي) فهو لا يقضي قضاء إلا والحكمة تقتضيه، كما لا يشاء شيئا إلا



1 سورة غافر آية : 20.
2 سورة الإسراء آية : 23.
3 سورة الإسراء آية : 4.

ج / 1 ص -475-


والحكمة تقتضيه، ويدل عليه قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً 1 ; فيتبين أنه لا يشاء شيئا إلا عن علم وحكمة، وليس لمجرد المشيئة.
خلافا لمن أنكر حكمة الله من الجهمية وغيرهم، فقالوا: إنه لا يفعل الأشياء إلا لمجرد المشيئة، فجعلوا على زعمهم المخلوقين أكمل تصرفا من الله; لأن كل عاقل من المخلوقين لا يتصرف إلا لحكمة، ولهذا كان الذي يتصرف بسفه يحجر عليه، قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً } 2.


فنحن نقول: إن الله - جل وعلا - لا يفعل شيئا ولا يحكم بشيء إلا لحكمة، ولكن هل يلزم من الحكمة أن نحيط بها علما؟ الجواب: لا يلزم، لأننا أقصر من أن نحيط علما بحكم الله كلها، صحيح أن بعض الأشياء نعرف حكمتها، لكن بعض الأشياء تعجز العقول عن إدراكها.


والمقصود من قوله: "إذا قضيت قضاء; فإنه لا يرد" بيان أن من الأشياء التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يعطها; لأن الله قضى بعلمه وحكمته ذلك، ولا يمكن أن يرد ما قضاه الله عزوجل والقضاء قد يتوقف على الدعاء، بل إن كل القضاء أو أكثر القضاء له أسباب; إما معلومة أو مجهولة فدخول الجنة لا يمكن إلا بسبب يترتب دخول الجنة عليه، وهو الإيمان والعمل الصالح.


كذلك حصول المطلوب، قد يكون الله عزوجل منعه حتى نسأل، لكن من الأشياء ما لا تقتضي الحكمة وجوده، وحينئذ يجازى الداعي بما هو أكمل، أو يؤخر له ويدخر له عند الله عزوجل أو



1 سورة الإنسان آية : 30.
2 سورة النساء آية : 5.

ج / 1 ص -476- وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا "1.


يصرف عنه من السوء ما هو أعظم، والدعاء إذا تمت فيه شروط القبول ولم يجب; فإننا نجزم بأنه ادخر له.
قوله: " وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة "2 هذه واحدة.
والثانية: قوله: " أن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا "3 وهذه الإجابة قيدت بقوله: "حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا" إذا وقع ذلك منهم; فقد يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم; فكأن إجابة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في الجملة الأولى بدون استثناء، وفي الجملة الثانية باستثناء "حتى يكون بعضهم...". وهذه هي الحكمة من تقديم قوله: "إذا قضيت قضاء; فإنه لا يرد "، فصارت إجابة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم مقيدة.


ومن نعمة الله أن هذه الأمة لن تهلك بسنة بعامة أبدا; فكل من يدين بدين الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لن يهلك، وإن هلك قوم في جهة بسنة; فإنه لا يهلك الآخرون. فإذا صار بعضهم يقتل بعضا ويسبي بعضهم بعضا; فإنه يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، وهذا هو الواقع; فالأمة الإسلامية حين كانت أمة واحدة عونا في الحق ضد الباطل كانت أمة مهيبة، ولما تفرقت وصار بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا; سلط الله عليهم


ـــ
1 مسلم : الفتن وأشراط الساعة (2889) , والترمذي : الفتن (2176) , وأبو داود : الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه : الفتن (3952).
2 مسلم : الفتن وأشراط الساعة (2889) , والترمذي : الفتن (2176) , وأبو داود : الفتن والملاحم (4252) , وأحمد (5/284).
3 مسلم : الفتن وأشراط الساعة (2889) , والترمذي : الفتن (2176) , وأبو داود : الفتن والملاحم (4252).

ج / 1 ص -477- ورواه البرقاني في "صحيحه"، وزاد: " وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين،..........


عدوا من سوى أنفسهم، وأعظم من سلط عليهم فيما أعلم التتار، فقد سلطوا على المسلمين تسليطا لا نظير له; فيقال: إنهم قتلوا في بغداد وحدها أكثر من خمسمائة عالم في يوم واحد، وهذا شيء عظيم، وقتلوا الخليفة، وجعلوا الكتب الإسلامية جسرا على نهر دجلة يطؤونها بأقدامهم ويفسدونها، وكانوا يأتون إلى الحوامل ويبقرون بطونهن ويخرجون أولادهن يتحركون أمامهم فيقتلونهم، وهي حية تشاهد ثم تموت.


قال ابن الأثير في "الكامل": "لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها كارها لذكرها فأنا أقدم رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه نعي الإسلام والمسلمين؟! ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟! فيا ليت أمي لم تلدني! ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا! إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ذلك لا يجدي... "، وذكر كلاما طويلا ووقائع مفجعة، ومن أراد مزيدا من ذلك; فليرجع إلى حوادث سنة 617 هـ من الكتاب المذكور.


وفي الحديث دليل على تحريم القتال بين المسلمين، وإهلاك بعضهم بعضا، وسبي بعضهم بعضا، وأنه يجب أن يكونوا أمة واحدة حتى تبقى هيبتهم بين الناس وتخشاهم الأمم.
قوله: "إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين": بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يخاف على الأمة إلا الأئمة المضلين والأئمة: جمع إمام، والإمام قد يكون إماما في الخير أو الشر، قال تعالى في أئمة الخير:{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} 1.



1 سورة السجدة آية : 24.

ج / 1 ص -478- وإذا وقع عليهم السيف; لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين.......


وقال تعالى عن آل فرعون أئمة:}{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} 1.
والذي في حديث الباب: "الأئمة المضلين"، أئمة الشر، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إن أعظم ما يخاف على الأمة الأئمة المضلون; كرؤساء الجهمية والمعتزلة وغيرهم الذين تفرقت الأمة بسببهم. والمراد بقوله: "الأئمة المضلين": الذين يقودون الناس باسم الشرع، والذين يأخذون الناس بالقهر والسلطان; فيشمل الحكام الفاسدين، والعلماء المضلين، الذين يدعون أن ما هم عليه شرع الله، وهم أشد الناس عداوة له.


قال الإمام أحمد رحمه الله: لو كان لي دعوة مستجابة; لصرفتها للسلطان; فإن بصلاحه صلاح الأمة.
قوله: "وإذا وقع عليهم السيف... " إلخ: هذا من آيات النبي صلى الله عليه وسلم وهذا حق واقع; فإنه لما وقع السيف في هذه الأمة لم يرفع، فما زال بينهم القتال منذ قتل الخليفة الثالث عثمانرضي الله عنهوصارت الأمة يقتل بعضهم بعضا ويسبي بعضها بعضا.


قوله: "ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين": الحي: بمعنى القبيلة. وهل المراد باللحوق هنا اللحوق البدني، بمعنى أنه يذهب هذا الحي إلى المشركين ويدخلون فيهم، أو اللحوق الحكمي، بمعنى أن يعملوا بعمل المشركين، أو الأمران معا؟ الظاهر أن المراد جميع ذلك.
وأما الحي; فالظاهر أن المراد به الجنس، وليس واحد الأحياء،



1 سورة القصص آية : 41.

ج / 1 ص -479- وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين،.......


وإن قيل: إن المراد واحد الأحياء; فلا بد أن يكون لهذا الحي أثره وقيمته في الأمة الإسلامية، بحيث يتبين ويظهر، وربما يكون لهذا الحي إمام يزيغ - والعياذ بالله - ويفسد; فيتبعه كل الحي، ويتبين ويظهر أمره.
قوله: "وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان": الفئام; أي: الجماعات، وهذا وقع; ففي كل جهة من جهات المسلمين من يعبدون القبور ويعظمون أصحابها ويسألونهم الحاجات والرغبات ويلتجئون إليهم، وفئام; أي: ليسوا أحياء; فقد يكون بعضهم من قبيلة، والبعض الآخر من قبيلة; فيجتمعون.


قوله: "وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون": حصرهم النبي صلى الله عليه وسلم بعدد، وكلهم يزعم أنه نبي أوحي إليه، وهم كذابون; لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا نبي بعده، فمن زعم أنه نبي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كاذب كافر حلال الدم والمال، ومن صدقه في ذلك; فهو كافر حلال الدم والمال، وليس من المسلمين ولا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومن زعم أنه أفضل من محمد، وأنه يتلقى من الله مباشرة ومحمد صلى الله عليه وسلم يتلقى منه بواسطة الملك; فهو كاذب كافر حلال الدم والمال.


وقوله: "كذابون ثلاثون" هل ظهروا أم لا؟ الجواب: ظهر بعضهم، وبعضهم ينتظر; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحصرهم في زمن معين، وما دامت الساعة لم تقم; فهم ينتظرون.
قوله: "كلهم يزعم": أي: يدعي.


قوله: "وأنا خاتم النبيين" أي: آخرهم، وأكد ذلك بقوله: "لا نبي

ج / 1 ص -480- لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم


بعدي "، فإن قيل: ما الجواب عما ثبت في نزول عيسى بن مريم في آخر الزمان، مع أنه نبي ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام; فالجواب: إن نبوته سابقة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأما كونه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام; فليس تشريعا جديدا ينسخ قبول الجزية، بل هو تشريع من محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر به مقررا له.


قوله: "ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة": المعنى: أنهم يبقون إلى آخر وجودهم منصورين. هذا من نعمة الله، فلما ذكر أن حيا من الأحياء يلتحقون بالمشركين، وأن فئاما يعبدون الأصنام، وأن أناسا يدعون النبوة; فيكون هنا الإخلال بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله بالشرك، وأن محمدا رسول الله بادعاء النبوة، وذلك أصل التوحيد، بل أصل الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فلما بين ذلك لم يجعل الناس ييأسون، فقال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة". والطائفة: الجماعة.
وقوله: "على الحق": جار ومجرور خبر تزال.
قوله: "منصورة": خبر ثان، ويجوز أن يكون حالا، والمعنى: لا تزال على الحق، وهي كذلك أيضا منصورة.


قوله: "لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم": خذلهم; أي: لم ينصرهم ويوافقهم على ما ذهبوا إليه، وفي هذا دليل على أنه سيوجد من يخذلهم، لكنه لا يضرهم; لأن الأمور بيد الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم " واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله

ج / 1 ص -481- حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى "1، 2


عليك "3، وكذلك لا يضرهم من خالفهم; لأنهم منصورون بنصر الله; فالله عزوجل إذا نصر أحدا فلن يستطيع أحد أن يذله.
قوله: "حتى يأتي أمر الله": أي: الكوني، وذلك عند قيام الساعة عندما يأتي أمره سبحانه وتعالى بأن تقبض نفس كل مؤمن، حتى لا يبقى إلا شرار الخلق; فعليهم تقوم الساعة.
الشاهد من هذا الحديث: قوله في رواية البرقاني: "حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ويعبد فئام من أمتي الأوثان".


وقوله: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة" هذه لم يحدد مكانها; فتشمل جميع بقاع الأرض في الحرمين والعراق وغيرهما. فالمهم أن هذه الطائفة مهما نأت بهم الديار; فهي طائفة واحدة منصورة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله.


مسألة: قال بعض السلف: إن الطائفة المنصورة هم أهل الحديث; فما مدى صحة هذا القول؟
الجواب: هذا ليس بصحيح على إطلاقه، بل لا بد من التفصيل، فإن أريد بذلك أهل الحديث المصطلح عليه، الذين يأخذون الحديث



1 أبو داود : الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه : الفتن (3952).
2 هذه الزيادة رواها: أبو داود في (كتاب الفتن, باب ذكر الفتن, 4/452) -وسكت عنها-, وابن ماجه (كتاب الفتن, باب ما يكون من الفتن, رقم 3952), والحاكم في "المستدرك" (4/449) -وصححه على شرط الشيخين-, وأبو نعيم في "الحلية" (2/289), وفي "الدلائل" (ص 469), وأحمد في "المسند" (5/278, 284). وفي "النهج السديد" (ص 129): "صحيح على شرط مسلم".


3من حديث ابن عباس, رواه: الترمذي (صفة القيامة, باب "ولكن يا حنظلة ساعة وساعة", 7/203) - وقال: "حسن صحيح"-, وأحمد في "المسند" (1/293, 307), وعبد بن حميد في "المنتخب" (رقم 635).

ج / 1 ص -482- فيه مسائل:
الأولى:
تفسير آية النساء.



رواية ودراية وأخرج منهم الفقهاء وعلماء التفسير وما أشبه ذلك; فهذا ليس بصحيح; لأن علماء التفسير والفقهاء الذين يتحرون البناء على الدليل هم في الحقيقة من أهل الحديث، ولا يختص بأهل الحديث صناعة; لأن العلوم الشرعية: تفسير، وحديث، وفقه... إلخ.


فالمقصود: إن كل من تحاكم إلى الكتاب والسنة; فهو من أهل الحديث بالمعنى العام. وأهل الحديث هم: كل من يتحرى العمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشمل الفقهاء الذين يتحرون العمل بالسنة، وإن لم يكونوا من أهل الحديث اصطلاحا. فشيخ الإسلام ابن تيمية مثلا لا يعتبر اصطلاحا من المحدثين، ومع ذلك; فهو رافع لراية الحديث. والإمام أحمد رحمه الله تنازعه طائفتان: أهل الفقه قالوا: إنه فقيه، وأهل الحديث قالوا: إنه محدث. وهو إمام في الفقه والحديث والتفسير، ولا شك أن أقرب الناس تمسكا بالحديث هم الذين يعتنون به. ويخشى من التعبير بأن الطائفة المنصورة هم أهل الحديث أن يظن أنهم أهل الحديث الذين يعتنون به اصطلاحا، فيخرج غيرهم. فإذا قيل: أهل الحديث بالمعنى الأعم الذين يأخذون بالحديث، سواء انتسبوا إليه اصطلاحا واعتنوا به أو لم يعتنوا، لكنهم أخذوا به; فحينئذ يكون صحيحا.


فيه مسائل:

الأولى: تفسير آية النساء: وهي قوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } 1 وقد سبق ذلك.



1 سورة النساء آية : 51.

ج / 1 ص -483- الثانية: تفسير آية المائدة.
الثالثة: تفسير آية الكهف.
الرابعة: وهي أهمها: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت؟ هل هو اعتقاد قلب؟ أو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟
الخامسة: قولهم: إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلا من المؤمنين.


الثانية: تفسير آية المائدة: وهي قوله تعالى:{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } 1 وقد سبق تفسيرها. والشاهد منها هنا قوله: "وعبد الطاغوت".
الثالثة: تفسير آية الكهف: يعني: قوله تعالى:{ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} 2 وقد سبق بيان معناها.
الرابعة: - وهي أهمها -: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت؟ هل هو اعتقاد القلب، أو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟ أما إيمان القلب واعتقاده; فهذا لا شك في دخوله في الآية. وأما موافقة أصحابها في العمل مع بغضها ومعرفة بطلانها; فهذا يحتاج إلى تفصيل، فإن كان وافق أصحابه بناء على أنها صحيحة; فهذا كفر، وإن كان وافق أصحابها ولا يعتقد أنها صحيحة; فإنه لا يكفر، لكنه لا شك على خطر عظيم يخشى أن يؤدي به الحال إلى الكفر والعياذ بالله.
الخامسة: قولهم: إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلا من المؤمنين: يعني: أنّ هذا القول كفر وردة; لأن من زعم أن الكفار



1 سورة المائدة آية : 60.
2 سورة الكهف آية : 21.

ج / 1 ص -484- السادسة: وهي المقصود بالترجمة: أن هذا لا بد أن يوجد في هذه الأمة كما تقرر في حديث أبي سعيد.
السابعة: تصريحه بوقوعها - أعني: عبادة الأوثان -.
الثامنة: العجب العجاب: خروج من يدعي النبوة مثل المختار، مع تكلمه بالشهادتين، وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق، وفيه أن محمدا خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله، مع التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عهد الصحابة، وتبعه فئام كثيرة.


الذين يعرف كفرهم أهدى سبيلا من المؤمنين; فإنه كافر لتقديمه الكفر على الإيمان.
السادسة: - وهي المقصودة بالترجمة -: أن هذا لا بد أن يوجد في هذه الأمة كما تقرر في حديث أبي سعيد.
السابعة: تصريحه بوقوعها; أعني: عبادة الأوثان: والترجمة التي أشار إليها رحمه الله هي قوله: "باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان"، وحديث أبي سعيد هو قوله صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ "1 أخرجاه. وهذا يتضمن التحذير من أن تقع هذه الأمة في مثل ما وقع فيه من سبقها.


الثامنة: العجب العجاب: خروج من يدعي النبوة، مثل المختار مع تكلمه بالشهادتين، وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق، وفيه أن محمدا خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله، مع التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عهد الصحابة، وتبعه.



1 البخاري : أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم : العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89 ,3/94).

ج / 1 ص -485- التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة.
العاشرة: الآية العظمى: أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم.
الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة.


فئام كثيرة: والمختار هو ابن أبي عبيد الثقفي، خرج وغلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبيررضي الله عنهوأظهر محبة آل البيت، ودعا الناس إلى الثأر من قتلة الحسين; فتتبعهم، وقتل كثيرا ممن باشر ذلك أو أعان عليه، فانخدع به العامة، ثم ادعى النبوة وزعم أن جبريل يأتيه. ولا شك أن هذه المسألة من العجب العجاب أن يدعي النبوة وهو يؤمن أن القرآن حق، وفي القرآن أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين; فكيف يكون صادقا، وكيف يصدق مع هذا التناقض؟! ولكن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور.


التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة: يعني: من هذه الأمة منصورة إلى يوم القيامة. يؤخذ هذا من آخر الحديث: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى "1.
العاشرة: الآية العظمى أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم: وهذه آية عظمى: أن الكثرة الكاثرة من بني آدم على خلاف ذلك، ومع ذلك لا يضرونهم،{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} 2.
الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة: وقد سبق.



1 مسلم : الإمارة (1920) , والترمذي : الفتن (2229) , وابن ماجه : المقدمة (10) , وأحمد (5/279).
2 سورة البقرة آية : 249.

ج / 1 ص -486- الثانية عشرة: ما فيه من الآيات العظيمة: منها إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب وأخبر بمعنى ذلك فوقع كما أخبر; بخلاف الجنوب والشمال. وإخباره بأنه أعطي الكنزين. وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين. وإخباره بأنه منع الثالثة: وإخباره بوقوع السيف، وأنه لا يرفع إذا وقع. وإخباره بإهلاك بعضهم بعضا، وسبي بعضهم بعضا. وخوفه على أمته من الأئمة المضلين. وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة. وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة. وكل هذا وقع كما أخبر، مع أن كل واحدة منها أبعد ما يكون في العقول.


الثانية عشرة: ما فيه من الآيات العظيمة: أي: ما في هذا الحديث من الآيات العظيمة، والآيات: جمع آية، وهي العلامة، والآيات التي يؤيد الله بها رسله عليهم الصلاة والسلام هي العلامات الدالة على صدقهم.
فمما في هذا الحديث: إخباره بأن الله - سبحانه وتعالى - زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك; فوقع كما أخبر بخلاف الجنوب والشمال، فإن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم امتدت نحو الشرق والغرب أكثر من امتدادها نحو الجنوب والشمال، وهذا من علم الغيب الذي أطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم عليه. ومنها: إخباره أنه صلى الله عليه وسلم أعطي الكنزين، وهما كنزا كسرى وقيصر.


ومنها: إخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين، وهما ألا يهلكها بسنة بعامة، وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم حتى يكون بعضهم يهلك بعضا... إلخ، ومنع الثالثة، وهي ألا يجعل بأس

ج / 1 ص -487-


هذه الأمة بينها; فإن هذا سوف يكون كما صرح به حديث عامر بن سعد عن أبيه: " إن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية; دخل، فركع فيه ركعتين وصلينا معه، ودعا دعاء طويلا، وانصرف إلينا; فقال: سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسنة; فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق; فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها "12 أي: منعني إياها.
ومن الآيات التي تضمنها هذا الحديث: إخباره بوقوع السيف في أمته، وأنه إذا وقع; فإنه لا يرفع حتى تقوم الساعة، وقد كان الأمر كذلك; فإنه منذ سلت السيوف على المسلمين من بعضهم على بعض بقي هذا إلى يومنا هذا. ومنها: إخباره بإهلاك بعضهم بعضا وسبي بعضهم بعضا، هذا أيضا واقع. ومنها: خوفه على أمته من الأئمة المضلين، والأئمة: جمع إمام، والإمام: هو من يقتدى به; إما لعلمه، وإما لسلطته، وإما لعبادته. ومنها: إخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة، وأنهم ثلاثون، قال ابن حجر3 "هذا الحصر بالثلاثين لا يعني انحصار المتنبئين بذلك; لأنهم أكثر من ذلك".


قلت: فيكون ذكر الثلاثين لبيان الحد الأدنى; أي أنهم لا ينقصون عن ذلك العدد، وإنما عدلنا عن ظاهر اللفظ للأمر الواقع، وهذا - والله أعلم - هو السر في ترك المؤلف رحمه الله العدد في مسائل الباب مع أنه



1 مسلم : الفتن وأشراط الساعة (2890) , وأحمد (1/175 ,1/181).
2 أخرجه: مسلم في (الفتن وأشراط الساعة, باب هلاك هذه الأمة بعضهم بعضا, 2890) عن سعد رضي الله عنه.
3 (2) "فتح الباري" (6/617).

ج / 1 ص -488- الثالثة عشرة: حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين.
الرابعة عشرة: التنبيه على معنى عبادة الأوثان.


صريح في الحديث. ومنها: إخباره ببقاء الطائفة المنصورة، وهذا كله وقع كما أخبر.
قال الشيخ رحمه الله: "مع أن كل واحدة منها أبعد ما يكون في العقول".
الثالثة عشرة: حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين: ووجه هذا الحصر أن الأئمة ثلاثة أقسام: أمراء وعلماء وعباد; فهم الذين يخشى من إضلالهم لأنهم متبوعون; فالأمراء لهم السلطة والتنفيذ، والعلماء لهم التوجيه والإرشاد، والعباد لهم تغرير الناس وخداعهم بأحوالهم; فهؤلاء يطاعون ويقتدى بهم، فيخاف على الأمة منهم; لأنهم إذا كانوا مضلين ضل بهم كثير من الناس، وإذا كانوا هادين اهتدى بهم كثير من الناس.


الرابعة عشرة: التنبيه على معنى عبادة الأوثان : يعني أن عبادة الأوثان لا تختص بالركوع والسجود لها، بل تشمل اتباع المضلين الذين يحلون ما حرم الله فيحله الناس، ويحرمون ما أحله الله فيحرمه الناس.




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 30-01-2015 12:05PM

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب ما جاء في السحر

ج / 1 ص -489- باب ما جاء في السحر

السحر لغة: ما خفي ولطف سببه، ومنه سمي البحر لآخر الليل; لأن الأفعال التي تقع فيه تكون خفية، وكذلك سمي السحور; لما يؤكل في آخر الليل; لأنه يكون خفيا; فكل شيء خفي سببه يسمى سحرا.
وأما في الشرع;

فإنه ينقسم إلى قسمين:
الأول: عقد ورقى; أي: قراءات وطلاسم يتوصل بها الساحر إلى استخدام الشياطين فيما يريد به ضرر المسحور، لكن قد قال الله تعالى:{ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ } 1.

الثاني: أدوية وعقاقير تؤثر على بدن المسحور وعقله وإرادته وميله; فتجده ينصرف ويميل، وهو ما يسمى عندهم بالصرف والعطف فيجعلون الإنسان ينعطف على زوجته أو امرأة أخرى، حتى يكون كالبهيمة تقوده كما تشاء، والصرف بالعكس من ذلك فيؤثر في بدن المسحور بإضعافه شيئا فشيئا حتى يهلك، وفي تصوره بأن يتخيل الأشياء على خلاف ما هي عليه وفي عقله; فربما يصل إلى الجنون والعياذ بالله.

فالسحر قسمان:

أ: شرك وهو الأول الذي يكون بواسطة الشياطين; يعبدهم ويتقرب إليهم ليسلطهم على المسحور.
ب: عدوان وفسق، وهو الثاني الذي يكون بواسطة الأدوية والعقاقير ونحوها.



1 سورة البقرة آية : 102.

ج / 1 ص -490-


وبهذا التقسيم الذي ذكرناه نتوصل به إلى مسألة مهمة، وهي: هل يكفر الساحر أو لا يكفر؟ اختلف في هذا أهل العلم: فمنهم من قال: إنه يكفر ومنهم من قال: إنه لا يكفر.
ولكن التقسيم السابق الذي ذكرناه يتبين به حكم هذه المسألة، فمن كان سحره بواسطة الشياطين; فإنه يكفر لأنه لا يتأتى ذلك إلا بالشرك غالبا; لقوله تعالى:{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } 1 إلى قوله:{ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } 2 ومن كان سحره بالأدوية والعقاقير ونحوها; فلا يكفر، ولكن يعتبر عاصيا معتديا.
وأما قتل الساحر، فإن كان سحره كفرا; قتل قتل ردة، إلا أن يتوب على القول بقبول توبته، وهو الصحيح، وإن كان سحره دون الكفر; قتل قتل الصائل; أي: قتل لدفع أذاه وفساده في الأرض، وعلى هذا يرجع في قتله إلى اجتهاد الإمام، وظاهر النصوص التي ذكرها المؤلف أنه يقتل بكل حال; فالمهم أن السحر يؤثر بلا شك، لكنه لا يؤثر بقلب الأعيان إلى أعيان أخرى; لأنه لا يقدر على ذلك إلا الله عزوجل وإنما يخيل إلى المسحور أن هذا الشيء انقلب وهذا الشيء تحرك أو مشى وما أشبه ذلك، كما جرى لموسى عليه الصلاة والسلام أمام سحرة آل فرعون، حيث كان يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى.



1 سورة البقرة آية : 102.
2 سورة البقرة آية : 102.

ج / 1 ص -491- وقول الله تعالى:{ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } 1.
وقوله:{ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } 2.


إذا قال قائل: ما وجه إدخال باب السحر في كتاب التوحيد؟ نقول: مناسبة الباب لكتاب التوحيد: لأن من أقسام السحر ما لا يتأتي غالبا إلا بالشرك; فالشياطين لا تخدم الإنسان غالبا إلا لمصلحة، ومعلوم أن مصلحة الشيطان أن يغوي بني آدم فيدخلهم في الشرك والمعاصي.


وقد ذكر المؤلف في الباب آيتين:
الآية الأولى: قوله تعالى: "ولقد علموا": ضمير الفاعل يعود على متعلمي السحر والجملة مؤكدة بالقسم المقدر واللام وقد. ومعنى "اشتراه" ; أي: تعلمه. قوله:{ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } 3 أي: ما له من نصيب، وكل من ليس له في الآخرة من خلاق; فمقتضاه أن عمله حابط باطل، لكن إما أن ينتفي النصيب انتفاء كليا فيكون العمل كفرا، أو ينتفي كمال النصيب فيكون فسقا.
الآية الثانية: قوله تعالى: "يؤمنون ": أي: اليهود. "بالجبت" ; أي: السحر كما فسرها عمر بن الخطاب. واليهود كانوا من أكثر الناس


1 سورة البقرة آية : 102.
2 سورة النساء آية : 51.
3 سورة البقرة آية : 102.

ج / 1 ص -492- قال عمر: " الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان "1.


تعلما للسحر وممارسة له، ويدعون أن سليمان عليه السلام علمهم إياه، وقد اعتدوا، فسحروا النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: "الطاغوت": أجمع ما قيل فيه: هو ما تجاوز به العبد حده; من معبود، أو متبوع، أو مطاع. ومعنى "من معبود"; أي: بعلمه ورضاه، هكذا قال ابن القيم رحمه الله، وقد سبق في أول الكتاب2 التعليق على هذا القول عند قوله:{ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } 3.


الشاهد: قوله: "بالجبت"، حيث فسرها أمير المؤمنين عمررضي الله عنهبأنها السحر. وأما تفسيره الطاغوت بالشيطان; فإنه من باب التفسير بالمثال.
والسلف رحمهم الله يفسرون الآية أحيانا بمثال يحتذى عليه، مثل قوله تعالى:{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } 4.


قال بعض المفسرين: الظالم لنفسه: الذي لا يصلي إلا بعد خروج الوقت، والمقتصد: الذي يصلي في آخر الوقت، والسابق بالخيرات: الذي يصلي في أول الوقت. وهذا مثال من الأمثلة، وليس ما تدل عليه الآية على وجه الشمول، ولهذا فسرها بعضهم بأن الظالم لنفسه الذي لا



1 علقه البخاري بصيغة الجزم في (كتاب التفسير, باب إن كنتم مرضى أو على سفر , ووصله ابن جرير في "تفسيره" (3/13, 5/83). وقال ابن حجر في "الفتح" (8/252): "وصله عبد بن حميد في "تفسيره" ومسدد في "مسنده" وعبد الرحمن بن رستة في "كتاب الإيمان"; كلهم من طريق أبي إسحاق, عن حسان بن فائد, عن عمر مثله, وإسناده قوي...". ووصله أيضا ابن أبي حاتم وأبو القاسم البغوي; كما في "تفسير ابن كثير" (1/311).
2سبق (ص 28).

3 سورة النحل آية : 36.
4 سورة فاطر آية : 32.

ج / 1 ص -493- وقال جابر: " الطواغيت كهان كان ينزل عليهم الشيطان، في كل حي واحد "1.



يخرج الزكاة، والمقتصد من يخرج الزكاة ولا يتصدق، والسابق بالخيرات من يخرج الزكاة ويتصدق.
فتفسير عمررضي الله عنهللطاغوت بالشيطان تفسير بالمثال; لأن الطاغوت أعم من الشيطان; فالأصنام تعتبر من الطواغيت; كما قال تعالى:{ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } 2 والعلماء والأمراء الذين يضلون الناس يعتبرون طواغيت; لأنهم طغوا وزادوا وفعلوا ما ليس لهم به حق.


قوله: " الطواغيت كهان كان ينزل عليهم الشيطان، في كل حي واحد " هذا أيضا من باب التفسير بالمثال، حيث إنه جعل من جملة الطواغيت الكهان. والكاهن; قيل: هو الذي يخبر عما في الضمير. وقيل: الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
وكان هؤلاء الكهان تنزل عليهم الشياطين بما استرقوا من السمع من السماء، وكان كل حي من أحياء العرب لهم كاهن يستخدم الشياطين، فتسترق له السمع، فتأتي بخبر السماء إليه. وكانوا يتحاكمون إليهم في الجاهلية.
والطواغيت ليسوا محصورين في هؤلاء; فتفسير جابررضي الله عنهتفسير بالمثال كتفسير عمر (.



1 علقه البخاري بصيغة الجزم في الموضع السابق. وقال ابن حجر في "الفتح" (8/252): "ووصله ابن أبي حاتم من طريق وهب بن منبه", ووصله أيضا ابن جرير في "تفسيره" (3/13).
2 سورة المائدة آية : 60.

ج / 1 ص -494- وعن أبي هريرةرضي الله عنهأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اجتنبوا السبع الموبقات..


قوله: " اجتنبوا السبع الموبقات " النبي صلى الله عليه وسلم أنصح الخلق للخلق; فكل شيء يضر الناس في دينهم ودنياهم يحذرهم منه، ولهذا قال: "اجتنبوا"، وهي أبلغ من قوله: اتركوا; لأن الاجتناب معناه أن تكون في جانب وهي في جانب آخر، وهذا يستلزم البعد عنها.
و "اجتنبوا"، أي: اتركوا، بل أشد من مجرد الترك; لأن الإنسان قد يترك الشيء وهو قريب منه، فإذا قيل: اجتنبه; يعني: اتركه مع البعد.
وقوله: السبع الموبقات هذا لا يقتضي الحصر; فإن هناك موبقات أخرى، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يحصر أحيانا بعض الأنواع والأجناس، ولا يعني بذلك عدم وجود غيرها.


ومن ذلك حديث: " السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله "1 فهناك غيرهم، ومثله: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة "2 وأمثلة هذا كثيرة، وإن قلنا


ــ
1 حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم; أنه قال: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل, وشاب نشأ في عبادة الله -عز وجل-, ورجل قلبه معلق بالمساجد, ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه, ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال, فقال: إني أخاف الله, ورجل تصدق بصدقة فأخفاها; حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه, ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه". أخرجه: البخاري في (الأذان, باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة, 1/219), ومسلم في (الزكاة, باب فضل إخفاء الصدقة, 2/715).


2حديث أبي ذر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة, ولا ينظر إليهم, ولا يزكيهم, ولهم عذاب أليم. قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات. قال أبو ذر: خابوا وخسروا, من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل, والمنان, والمنفق سلعته بالحلف الكاذب. أخرجه: مسلم في (الإيمان, باب غلظ تحريم إسبال الإزار, 1/102).

ج / 1 ص -495- قالوا: يا رسول الله! وما هن؟....


بدلالة حديث أبي هريرة في الباب على الحصر لكونه وقع ب "أل" المعرفة; فإنه حصرها لأن هذه أعظم الكبائر.
قوله: "قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ ": كان الصحابة رضي الله عنهم أحرص الناس على العلم، والنبي صلى الله عليه وسلم إذا ألقى إليهم الشيء مبهما طلبوا تفسيره وتبيينه، فلما حذرهم النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات قالوا ذلك لأجل أن يجتنبوهن، فأخبرهم، وعلى هذه القاعدة أن الصحابة رضي الله عنهم أحرص الناس على العلم، لكن ما كانت الحكمة في إخفائه; فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخبرهم; كقوله صلى الله عليه وسلم " إن لله تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة "12 ولم يرد تبيينها عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح.


وقد حاول بعض الناس أن يصحح حديث سرد الأسماء التسعة والتسعين3 ولم يصب، بل نقل شيخ الإسلام اتفاق أهل المعرفة في

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الشروط (2736) , ومسلم : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2677) , والترمذي : الدعوات (3508) , وابن ماجه : الدعاء (3860) , وأحمد (2/427 ,2/499 ,2/503 ,2/516).
2 أخرجه: البخاري (2736), ومسلم (2677) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
3أخرجه: الترمذي في (الدعوات, باب أسماء الله, 9/173)- وقال: "غريب"-, وابن حبان (2384), والحاكم (1/16), والبيهقي في "السنن" (10/27), وفي "الأسماء والصفات" (ص 5), والبغوي في "شرح السنة" (5/32, 33). قال البيهقي في "الأسماء والصفات" (ص 8): "ويحتمل أن يكون التفسير - أي: تفسير الأسماء - وقع من بعض الرواة, وكذلك في الحديث الوليد بن مسلم, ولهذا الاحتمال ترك البخاري ومسلم إخراج حديث الوليد في الصحيح". وقال شيخ الإسلام (22/382): "وحفاظ أهل الحديث يقولون: هذه الزيادة مما جمعه الوليد بن مسلم عن شيوخه من أهل الحديث, وفيها حديث أضعف من هذا رواه ابن ماجه". وقال ابن حزم في "المحلي" (8/31): "وقد جاءت أحاديث في إحصاء التسعة والتسعين اسما مضطربة لا يصح منها شيء أصلا; فإنما تؤخذ من نص القرآن, ومما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم". وانظر: "تفسير ابن كثير" (2/ 269), و "فتح الباري" (11/215). وأخرجه أيضا: ابن ماجه بزيادة ونقصان في "الأسماء والصفات" في (الدعاء, باب أسماء الله -عز وجل-, 2/1269). وقال البوصيري في "الزوائد": "إسناد طريق ابن ماجه ضعيف; لضعف عبد الملك الصنعاني". وأخرجه أيضا: الحاكم (1/17), والبيهقي في "الأسماء والصفات" (ص 7). وضعفه الذهبي, وكذا البيهقي بعبد العزيز بن الحصين بن الترجمان, وكذا ابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/172).



ج / 1 ص -496-


الحديث على أن عدها وسردها لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وصدق رحمه الله بدليل الاختلاف الكبير فيها. فمن حاول تصحيح هذا الحديث; قال: إن الثواب عظيم، "من أحصاها دخل الجنة" ; فلا يمكن للصحابة أن يفوتوه، فلا يسألوا عن تعيينها فدل هذا على أنها قد عينت من قبل النبي صلى الله عليه وسلم
لكن يجاب عن ذلك بأنه ليس بلازم، ولو عينها النبي صلى الله عليه وسلم لكانت هذه الأسماء التسع والتسعين معلومة للعالم أشد من علم الشمس، ولنقلت في "الصحيحين" وغيرهما; لأن هذا مما تدعو الحاجة إليه، وتلح بحفظه والعناية به; فكيف لا يأتي إلا عن طرق واهية وعلى صور مختلفة؟! فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يبينها لحكمة بالغة، وهي أن يطلبها الناس ويتحروها في كتاب الله وسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم حتى يعلم الحريص من غير الحريص. كما لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم ساعة الإجابة يوم الجمعة، والعلماء اختلفوا في حديث أبي موسى الذي في مسلم; حيث قال فيه: " هي ما بين أن يخرج الإمام إلى أن تقضى الصلاة " 1 فإن بعضهم صححه وبعضهم ضعفه،



1 حديث أبي بردة بن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه; قال: قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أسمعت أباك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن ساعة الجمعة؟ قال: قلت: نعم, سمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة". أخرجه: مسلم في (الجمعة, باب في الساعة التي في يوم الجمعة, 2/684). وانظر: "فتح الباري" (2/417- 422, 11/199).

ج / 1 ص -497- قال: الشرك بالله 1.......



لكن هو عندي صحيح; لأن علة التضعيف فيه واهية، والحال تؤيد صحته; لأن الناس مجتمعون أكبر اجتماع في البلد على صلاة مفروضة; فيكون هذا الوقت في هذه الحال حريا بإجابة الدعاء، وكذلك ليلة القدر لم يبينها النبي صلى الله عليه وسلم مع أنها من أهم ما يكون.
وقوله: "الموبقات": أي: المهلكات، قال تعالى:{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً} 2 ; أي: مكان هلاك.
وقوله: "قالوا: يا رسول الله! وما هن؟": سألوا عن تبيينها، وبه تتبين الفائدة من الإجمال، وهي أن يتطلع المخاطب لبيان هذا المجمل; لأنه إذا جاء مبينا من أول وهلة; لم يكن له التلقي والقبول كما إذا أجمل ثم بين.


وقوله: "وما هن": "ما": اسم استفهام مبتدأ، و "هن": خبر المبتدأ. وقيل: بالعكس، "ما": خبر مقدم وجوبا; لأن الاستفهام له الصدارة، و "هن": مبتدأ مؤخر. لأن "هن" ضمير معرفة، و "ما" نكرة، والقاعدة المتبعة أنه يخبر بالنكرة عن المعرفة ولا عكس.
قوله: "قال: الشرك بالله": قدمه لأنه أعظم الموبقات; فإن أعظم الذنوب أن تجعل لله ندا وهو خلقك. والشرك بالله يتناول الشرك بربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه أو صفاته.


فمن اعتقد أن مع الله خالقا أو معينا; فهو مشرك، أو أن أحدا سوى الله يستحق أن يعبد; فهو مشرك وإن لم يعبده، فإن عبده; فهو أعظم، أو أن لله مثيلا في أسمائه; فهو مشرك، أو أن الله استوى على العرش كاستواء الملك على عرش مملكته; فهو مشرك، أو أن الله ينزل إلى السماء الدنيا كنزول الإنسان إلى أسفل بيته من أعلى; فهو مشرك.



1 البخاري : الوصايا (2767) , ومسلم : الإيمان (89) , والنسائي : الوصايا (3671) , وأبو داود : الوصايا (2874).
2 سورة الكهف آية : 52.

ج / 1 ص -498- والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق......


قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } 1 وقال تعالى:{ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 2.
وبين صلى الله عليه وسلم أن الشرك أعظم ما يكون من الجناية والجرم بقوله حين سئل: أي الذنب أعظم: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك "34 فالذي خلقك وأوجدك وأمدك وأعدك ورزقك كيف تجعل له ندا؟ فلو أن أحدا من الناس أحسن إليك بما دون ذلك، فجعلت له نظيرا; لكان هذا الأمر بالنسبة إليه كفرا وجحودا.


قوله: والسحر: أي من الموبقات، وظاهر كلام النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا فرق بين أن يكون ذلك بواسطة الشياطين أو بواسطة الأدوية والعقاقير. لأنه إن كان بواسطة الشياطين; فالذي لا يأتي إلا بالإشراك بهم; فهو داخل في الشرك بالله.
وإن كان دون ذلك; فهو أيضا جرم عظيم; لأن السحر من أعظم ما يكون في الجناية على بني آدم; فهو يفسد على المسحور أمر دينه ودنياه، ويقلقه فيصبح كالبهائم، بل أسوأ من ذلك; لأن البهيمة خلقت هكذا على طبيعتها، أما الآدمي; فإنه إذا صرف عن طبيعته وفطرته لحقه من الضيق والقلق ما لا يعلمه إلا رب العباد، ولهذا كان السحر يلي الشرك بالله عزوجل
قوله: "وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق": القتل: إزهاق



1 سورة النساء آية : 48.
2 سورة المائدة آية : 72.
3 البخاري : تفسير القرآن (4477) , ومسلم : الإيمان (86) , والترمذي : تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي : تحريم الدم (4013 ,4014) , وأبو داود : الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464).


4 حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه; قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: "أن تجعل لله نذا وهو خلقك..." الحديث. أخرجه: البخاري في (التفسير, باب قوله تعالى: فلا تجعلوا لله أندادا , 3/190), ومسلم في (الإيمان, باب كون الشرك أقبح الذنوب, 1/90).

ج / 1 ص -499-

الروح، والمراد بالنفس: البدن الذي فيه الروح، والمراد بالنفس هنا: نفس الآدمي وليس نفس البعير والحمار وما أشبهها.
وقوله: "التي حرم الله": مفعول "حرم" محذوف تقديره: حرم قتلها; فالعائد على الموصول محذوف.
وقوله: "إلا بالحق" أي: بالعدل; لأن هذا حكم، والحق إذا ذكر بإزاء الأحكام; فالمراد به العدل، وإن ذكر بإزاء الأخبار; فالمراد به الصدق، والعدل: هو ما أمر الله به ورسوله، قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } 1.
والنفس المحرمة أربعة أنفس، هي: نفس المؤمن، والذمي، والمعاهد، والمستأمن; بكسر الميم: طالب الأمان. فالمؤمن لإيمانه، والذمي لذمته، والمعاهد لعهده، والمستأمن لتأمينه. والفرق بين الثلاثة - الذمي، والمعاهد، والمستأمن -: أن الذمي هو الذي بيننا وبينه ذمة; أي: عهد على أن يقيم في بلادنا معصوما مع بذل الجزية. وأما المعاهد; فيقيم في بلاده، لكن بيننا وبينه عهد أن لا يحاربنا ولا نحاربه.


وأما المستأمن; فهو الذي ليس بيننا وبينه ذمة ولا عهد، لكننا أمناه في وقت محدد; كرجل حربي دخل إلينا بأمان للتجارة ونحوها، أو ليفهم الإسلام، قال تعالى:{ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } 2 وهناك فرق آخر، وهو أن العهد يجوز من جميع الكفار، والذمة لا تجوز إلا من اليهود والنصارى والمجوس دون بقية الكفار، وهذا هو المشهور من المذهب، والصحيح: أنها تجوز من جميع الكفار.



1 سورة النحل آية : 90.
2 سورة التوبة آية : 6.

ج / 1 ص -500- وأكل الربا1،..


فهذه الأنفس الأربع قتلها حرام، لكنها ليست على حد سواء في التحريم; فنفس المؤمن أعظم، ثم الذمي، ثم المعاهد، ثم المستأمن.
وهل المستأمن مثل المعاهد أو أعلى؟ أشك في ذلك; لأن المستأمن من له عهد خاص، بخلاف المعاهدين; فالمعاهدون يتولى العهد أهل الحل والعقد منهم; فليس بيننا وبينهم عقود تأمينات خاصة، وأيا كان; فالحديث عام، وكل منهم معصوم الدم والمال.


وقوله: "إلا بالحق": أي: مما يوجب القتل، مثل: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة.
قوله: (وأكل الربا): الربا في اللغة: الزيادة، ومنه قوله تعالى:{ فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} 2 ; يعني: زادت. وفي الشرع: تفاضل في عقد بين أشياء يجب فيها التساوي، ونسأ في عقد بين أشياء يجب فيها التقابض.
والربا: ربا فضل; أي: زيادة، وربا نسيئة; أي: تأخير، وهو يجري في ستة أموال بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح "3 فهذه هي الأموال الربوية بنص الحديث وإجماع المسلمين، وهذه الأصناف الستة إن بعت منها جنسا بمثله جرى فيه ربا الفضل وربا النسيئة، فلو زدت واحدا على آخر; فهو ربا فضل، أو سويته لكن أخرت القبض; فهو ربا نسيئة، وربما يجتمع النوعان كما لو بعت ذهبا بذهب متفاضلا



1 البخاري : الوصايا (2767) , ومسلم : الإيمان (89) , والنسائي : الوصايا (3671) , وأبو داود : الوصايا (2874).
2 سورة الحج آية : 5.
3 مسلم : المساقاة (1587) , والترمذي : البيوع (1240) , والنسائي : البيوع (4561) , وابن ماجه : التجارات (2254) , وأحمد (5/314 ,5/320) , والدارمي : البيوع (2579).

ج / 1 ص -501-


والقبض متأخر; فقد اجتمع في هذا العقد ربا الفضل وربا النسيئة، وعلى هذا، فإذا بعت جنسا بجنسه; فلا بد من أمرين: التساوي، والتقابض في مجلس العقد.
وإذا اختلفت الأجناس واتفقت العلة; أي: اتفق المقصود في العوضين; فإنه يجري ربا النسيئة دون ربا الفضل; فذهب بفضة متفاضلا مع القبض جائز، وذهب بفضة متساويا مع التأخير ربا لتأخر القبض.
قال صلى الله عليه وسلم " فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد "12.
وقولنا: اتفقا في الغرض والمقصود احترازا مما إذا اختلف الغرض منها. فالذهب مثلا ثمن للأشياء، والفضة ثمن للأشياء، والبر قوت. وعلى هذا يجوز بيع صاع ثمن البر بدينار من الذهب مع التفرق وعدم التساوي لاختلاف القصد; لأن هذا يقصد به النقد والثمنية، وهذا يقصد به القوت.


فإن قيل: الحديث يدل على أنه لا يصح إلا بالقبض; فما هو الجواب؟
نقول: حقيقة إن هذا مقتضى الحديث أنك إذا بعت ذهبا ببر وجب التقابض; لقوله صلى الله عليه وسلم " فإذا اختلفت هذه الأصناف; فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد "34.
والجواب عن هذا أن نقول: قد دلت السنة من وجه آخر على أن



1 مسلم : المساقاة (1587) , وأحمد (5/320).
2 سبق من حديث عبادة بن الصامت.
3 مسلم : المساقاة (1587) , وأحمد (5/320).
4 سبق من حديث عبادة بن الصامت.

ج / 1 ص -502-


القبض ليس بشرط فيما إذا كان أحدهما ثمنا، قال ابن عباس: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين; فقال: " من أسلف في شيء; فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم " 1.
وعلى هذا; فحديث: " فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد "2 لا عموم لمفهومه; فلا يشترط القبض في كل صورة من صور المخالفة، وإنما يشترط القبض فيما إذا اتفقا في الغرض; كذهب بفضة، أو بر بشعير، وأما ذهب أو فضة بشعير ونحوه; فلا يشترط القبض.
واختلف العلماء فيما عدا هذه الأصناف الستة; فالظاهرية قالوا: لا يجري الربا إلا في هذه الأصناف الستة; لأنهم لا يرون القياس، فيقتصر على ما جاء به النص، فيجوز عندهم مبادلة أرز بذرة متفاضلا مع تأخر القبض; لأنهما لا يدخلان في المنصوص عليه.


وأما أهل القياس من المذاهب الأربعة; فإنهم عدوا الحكم إلى غيرها، إلا أن بعضا منهم لم يعد الحكم إلى غيرها، وهو من أهل القياس، مثل ابن عقيل رحمه الله; فإنه قال: لا يجري الربا إلا في هذه الأصناف الستة، لا لأنه لا قياس، ولكن لأن العلماء اختلفوا واضطربوا في العلة التي من أجلها كان الربا، فلما اضطربوا في العلة ألغينا جميع هذه العلل، وأبقينا النص على ما هو عليه من الحصر في المنصوص عليه.


والصحيح أن الربا يجري في غير الأصناف الستة، وأن العلة هي



1 اخرجه: البخاري في (السلم, باب السلم في وزن معلوم, 2/124), ومسلم في (المساقاة, باب السلم, 3/1227); من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
2 مسلم : المساقاة (1587) , وأحمد (5/320).

ج / 1 ص -503- وأكل مال اليتيم....


الكيل والادخار مع الطعم، وهو أن يكون قوتا مدخرا، وهذا بالنسبة للبر والتمر والشعير.
وبالنسبة للذهب والفضة: العلة هي الجنس والثمنية، فقولنا: "الجنس" لأجل أن يشمل الحلي إذا بيع بعضه ببعض، فيجري فيه الربا، مع أنه ليس بثمن، والثمنية مثل الدراهم والدنانير والأوراق النقدية المعروفة; فإنها بمنزلة الذهب والفضة، أو يقال: العلة الثمنية فقط والحلي خارج عن الثمنية خروجا طارئا; لأن التحلي طارئ، والأصل في الذهب والفضة الثمنية; لأنهما ثمن الأشياء.
وأما الملح; فقال شيخ الإسلام: إنه يصلح به القوت; أي: فهو تابع له; فالعلة ليس أنه قوت، لكنه من ضرورياته، ولهذا لو طحنت برا ولم يكن فيه ملح; لم يبق إلا أياما يسيرة، فيفسد، فإذا كان فيه الملح منعه من الفساد; فيقول: لما كان يصلح به القوت جعل له حكمه.


وقوله: "وأكل الربا": ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأكل; لأنه أعم وجوه الانتفاع، هكذا قال أهل العلم، ولهذا قال تعالى في بني إسرائيل:{ وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ } 1 ولم يقل أكلهم، والأخذ أعم من الأكل; فأكل الربا معناه أخذه، سواء استعمله في الأكل أو الفرش أو البناء أو المسكن أو غير ذلك.
قوله: " "وأكل مال اليتيم "2 ": اليتيم: هو الذي مات أبوه قبل بلوغه، سواء كان ذكرا أم أنثى، أما من ماتت أمه قبل بلوغه; فليس يتيما لا شرعا ولا لغة. لأن اليتيم مأخوذ من اليتم، وهو الانفراد; أي: انفرد عن الكاسب له; لأن أباه هو الذي يكسب له.


وخص اليتيم; لأنه لا أحد يدافع عنه; ولأنه أولى أن يرحم، ولهذا



1 سورة النساء آية : 161.
2 البخاري : الوصايا (2767) , ومسلم : الإيمان (89) , والنسائي : الوصايا (3671) , وأبو داود : الوصايا (2874).

ج / 1 ص -504- والتولي يوم الزحف 1....


جعل الله له حقا في الفيء، وإذا كان أحق أن يرحم; فكيف يسطو هذا الرجل الظالم على ماله فيأكله;!
ويقال في أكل مال اليتيم ما قيل في أكل الربا; فليس خاصا بالأكل، بل حتى لو استعمله في السكن أو الفرش أو الكتب أو غيرها; فهو داخل في ذلك.
وأكل مال غير اليتيم ليس من الكبائر; لأن اليتيم له شأن خاص، ولهذا توعد الله من يأكل أموال اليتامي، قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} 2.
قوله: " والتولي يوم الزحف " التولي: بمعنى الإدبار والإعراض، ويوم الزحف; أي: يوم تلاحم الصفين في القتال مع الكفار، وسمي يوم الزحف; لأن الجموع إذا تقابلت تجد أن بعضها يزحف إلى بعض، كالذي يمشي زحفا كل واحد منهم يهاب الآخر، فيمشي رويدا رويدا.


والتولي يوم الزحف من كبائر الذنوب; لأنه يتضمن الإعراض عن الجهاد في سبيل الله، وكسر قلوب المسلمين، وتقوية أعداء الله، وهذا يؤدي إلى هزيمة المسلمين. لكن هذا الحديث خصصته الآية، وهي قوله تعالى:{ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } 3.


فالله سبحانه استثنى حالين:

الأولى: أن يكون متحرفا لقتال; أي: متهيئا له، كمن ينصرف ليصلح من شأنه أو يهيئ الأسلحة ويعدها، ومنه الانحراف إلى مكان آخر يأتي العدو من جهته، فهذا لا يعد متوليا، إنما يعد متهيئا.



1 البخاري : الوصايا (2767) , ومسلم : الإيمان (89) , والنسائي : الوصايا (3671) , وأبو داود : الوصايا (2874).
2 سورة النساء آية : 10.
3 سورة الأنفال آية : 16.

ج / 1 ص -505- وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات "1.


الثانية: المتحيز إلى فئة كما إذا حصرت سرية للمسلمين يمكن أن يقضي عليها العدو، فانصرف من هؤلاء لينقذها; فهذا لا بأس به لدعاء الضرورة إليه، بشرط ألا يكون على الجيش ضرر، فإن كان على الجيش ضرر وذهبت طائفة كبيرة إلى هذه السرية بحيث توهن قوة الجيش وتكسره أمام العدو; فإنه لا يجوز; لأن الضرر هنا متحقق، وإنقاذ السرية غير متحقق; فلا يجوز لأن المقصود إظهار دين الله، وفي هذا إذلال لدين الله، إلا إذا كان الكفار أكثر من مثلي المسلمين، فيجوز الفرار حينئذ، لقوله تعالى:{ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ } 2 أو كان عندهم عدة لا يمكن للمسلمين مقاومتها، كالطائرات إذا لم يكن عند المسلمين من الصواريخ ما يدفعها، فإذا علم أن الصمود يستلزم الهلاك والقضاء على المسلمين; فلا يجوز لهم أن يبقوا; لأن مقتضى ذلك أنهم يغررون بأنفسهم.


وفي هاتين الآيتين تخصيص السنة بالكتاب، وهو قليل، ومن تخصيص السنة بالكتاب أن من الشروط التي بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين في الحديبية أن من جاء من المشركين مسلما يرد إليهم3، وهذا الشرط عام يشمل الذكر والأنثى; فأنزل الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ } 4.


قوله: " وقذف المحصنات "5 القذف: بمعنى الرمي، والمراد به هنا



1 البخاري : الوصايا (2767) , ومسلم : الإيمان (89) , والنسائي : الوصايا (3671) , وأبو داود : الوصايا (2874).
2 سورة الأنفال آية : 66.
3 (2) أخرجه: البخاري في (المغازي, باب غزوة الحديبية, 3/131).
4 سورة الممتحنة آية : 10.
5 البخاري : الوصايا (2767) , ومسلم : الإيمان (89) , والنسائي : الوصايا (3671) , وأبو داود : الوصايا (2874).

ج / 1 ص -506-


الرمي بالزنا، والمحصنات هنا الحرائر، وهو الصحيح، وقيل: العفيفات عن الزنا. والغافلات: وهن: العفيفات عن الزنا البعيدات عنه، اللاتي لا يخطر على بالهن هذا الأمر.
والمؤمنات احترازا من الكافرات، فمن قذف امرأة هذه صفاتها; فإن ذلك من الموبقات، ومع ذلك يقام عليه الحد - ثمانون جلدة -، ولا تقبل شهادته ويكون فاسقا; فجعل الله عليه ثلاثة أمور، قال تعالى:{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 1 ثم قال:{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا } 2.


وهذا الاستثناء لا يشمل أول الجمل بالاتفاق، ويشمل آخر الجمل بالاتفاق، واختلف العلماء في الجملة الثانية، وهي قوله:{ وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } 3 فقيل: إنه يعود إليها، وقيل: لا يعود.
وبناء على ذلك إذا تاب القاذف: هل تقبل شهادته أم لا.
الجواب: اختلف في ذلك أهل العلم:
فمنهم من قال: لا تقبل شهادته أبدا ولو تاب، وأيدوا قولهم بأن الله أبد ذلك بقوله:{ وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } 4 وفائدة هذا التأبيد أن الحكم لا يرتفع عنهم مطلقا.


وقال آخرون: بل تقبل; لأن مبنى قبول الشهادة وردها على الفسق، فإذا زال وهو المانع من قبول الشهادة; زال ما يترتب عليه.
وينبغي في مثل هذا أن يقال: إنه يرجع إلى نظر الحاكم، فإذا رأى من المصلحة عدم قبول الشهادة لردع الناس عن التهاون بأعراض




1 سورة النور آية : 4.
2 سورة آل عمران آية : 89.
3 سورة النور آية : 4.
4 سورة النور آية : 4.

ج / 1 ص -507- وعن جندب مرفوعا: " حد الساحر ضربة بالسيف "1 رواه


المسلمين; فليفعل. وإلا، فالأصل أنه إذا زال الفسق وجب قبول الشهادة، وهل قذف المحصنين الغافلين المؤمنين كقذف المحصنات من كبائر الذنوب؟
الجواب: الذي عليه جمهور أهل العلم أن قذف الرجل كقذف المرأة، وإنما خص بذلك المرأة; لأن الغالب أن القذف يكون للنساء أكثر; إذ البغايا كثيرات قبل الإسلام، وقذف المرأة أشد; لأنه يستلزم الشك في نسب أولادها من زوجها، فيلحق بهن القذف ضررا أكثر; فتخصيصه من باب التخصيص بالغالب، والقيد الأغلبي لا مفهوم له; لأنه لبيان الواقع. والشاهد من هذا الحديث قوله السحر.


قوله: "وعن جندب": ليس هو جندب بن عبد الله البجلي، بل جندب الخير المعروف بقاتل الساحر.
قوله: "مرفوعا": أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيكون من قول النبي عليه الصلاة والسلام، لكن نقل المؤلف عن الترمذي قوله: والصحيح أنه موقوف، أي: من قوله جندب.
قوله: " حد الساحر ضربة بالسيف": حده يعني: عقوبته المحددة شرعا.
وظاهره أنه لا يكفر; لأن الحدود تطهر المحدود من الإثم. والكافر إذا قتل على ردته; فالقتل لا يطهره. وهذا محمول على ما سبق: أن من أقسام السحر ما لا يخرج الإنسان عن الإسلام، وهو ما كان بالأدوية والعقاقير التي توجب الصرف والعطف وما أشبه ذلك.



1 الترمذي : الحدود (1460).

ج / 1 ص -508- الترمذي، وقال: " الصحيح أنه موقوف"1.
وفي " صحيح البخاري" عن بجالة بن عبدة" قال: " كتب


قوله: "ضربة بالسيف": روي بالتاء بعد الباء، وروي بالهاء، وكلاهما صحيح، لكن الأولى أبلغ; لأن التنكير وصيغة الوحدة يدلان على أنها ضربة قوية قاضية. هذا كناية عن القتل، وليس معناه أن يضرب بالسيف مع ظهره مصفحا.
قوله: وفي "صحيح البخاري": ذكر في الشرح أعني "تيسير العزيز الحميد": أن هذا اللفظ ليس في "البخاري"، والذي في "البخاري" أنه: " "أمر بأن يفرق بين كل ذي محرم من المجوس" "2 لأنهم يجوزون نكاح المحارم - والعياذ بالله - فأمر عمر أن يفرق بين ذوي الرحم ورحمه، لكن ذكر الشارح صاحب "تيسير العزيز الحميد" أن القطيعي رواه في الجزء الثاني من "فوائده"، وفيه "ثم اقتلوا كل كاهن وساحر"، وقال (أي: الشارح): إسناده حسن. قال وعلى هذا فعزو المصنف إلى البخاري يحتمل أنه أراد أصله لا لفظه اهـ.



1 أخرجه: الترمذي في (الحدود, باب ما جاء في الساحر, 5/156), وقال: "هذا حديث لا نعرفه مرفوعا; إلا من هذا الوجه, وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث, وإسماعيل بن مسلم العدوي البصري قال وكيع: هو ثقة, ويروي عن الحسن أيضا, والصحيح عن جندب موقوف". والحديث أخرجه أيضا: الطبراني في "الكبير" (رقم 1665), والدارقطني (3/114), والحاكم (4/360). (وصححه ووافقه الذهبي), والبيهقي (8/136). وأخرجه من طريق إسماعيل عن الحسن مرسلا: عبد الرزاق (10/184), وابن حزم في "المحلى" (11/396). والحديث ضعفه ابن حجر في "الفتح" (10/236), ورجح الذهبي في "الكبائر" وقفه (ص 42).
(2) صحيح البخاري" (كتاب الجزية, باب الجزية والموادعة, 2/406).

ج / 1 ص -509- عمر بن الخطابرضي الله عنهأن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سواحر "1.


وصح عن " حفصة رضي اللة عنها;أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقتلت "2. وكذلك صح عن جندب3.


وهذا القتل هل هو حد أم قتله لكفره؟ يحتمل هذا وهذا بناء على التفصيل السابق4 في كفر الساحر، ولكن بناء على ما سبق من التفصيل نقول: من خرج به السحر إلى الكفر فقتله قتل ردة، ومن لم يخرج به السحر إلى الكفر فقتله من باب دفع الصائل يجب تنفيذه حيث رآه الإمام.

والحاصل: أنه يجب أن نقتل السحرة، سواء قلنا بكفرهم أم لم نقل; لأنهم يمرضون ويقتلون، ويفرقون بين المرء وزوجه، وكذلك بالعكس; فقد يعطفون فيؤلفون بين الأعداء، ويتوصلون إلى أغراضهم; فإن بعضهم قد يسحر أحدا ليعطفه إليه وينال مأربه منه، كما لو سحر امرأة ليبغي بها، ولأنهم كانوا يسعون في الأرض فسادا; فكان واجبا على ولي الأمر قتلهم بدون استتابة ما دام أنه لدفع ضررهم وفظاعة أمرهم، فإن الحد لا يستتاب صاحبه، متى قبض عليه وجب أن ينفذ فيه الحد.



1 أخرجه: الشافعي; كما في "بدائع المنن" (1532), وعبد الرزاق (10/179, 180), وأحمد في "المسند" (1/190, 191), وأبو داود في (الخراج, باب أخذ الجزية من المجوس, 3/431), والبيهقي (8/136), وابن حزم (11/397) وصححه.
2 (2) أخرجه: مالك في "الموطأ" (كتاب العقول, باب ما جاء في الغيلة والسحر, 2/871) عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بلاغا. ووصله عبد الله بن الإمام في "مسائل أبيه" (ص 427), والبيهقي (8/136) بسند صحيح, كما صححه الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بقوله: وصح عن حفصة...".


3 أخرجه: البخاري في "التاريخ الكبير" (2/222), والبيهقي (8/136). وسنده صحيح; كما صححه الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
4 ص 490).

ج / 1 ص -510- قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم


فيه مسائل:

الأولى:
تفسير آية البقرة.
الثانية: تفسير آية النساء.


قوله: "قال أحمد عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم": وهم: عمر، وحفصة، وجندب الخير1 أي: صح قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والقول بقتلهم موافق للقواعد الشرعية; لأنهم يسعون في الأرض فسادا، وفسادهم من أعظم الفساد; فقتلهم واجب على الإمام، ولا يجوز للإمام أن يتخلف عن قتلهم; لأن مثل هؤلاء إذا تركوا وشأنهم انتشر فسادهم في أرضهم وفي أرض غيرهم، وإذا قتلوا سلم الناس من شرهم، وارتدع الناس عن تعاطي السحر.


فيه مسائل:
· الأولى: تفسير آية البقرة: وهي قوله تعالى:{ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } 2 أي: نصيب، ومن لا خلاق له في الآخرة; فإنه كافر; إذ كل من له نصيب في الآخرة فإن مآله إلى الجنة.
· الثانية: تفسير آية النساء: وهي قوله تعالى:{ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ } 3



1 سبق (ص 509).
2 سورة البقرة آية : 102.
3 سورة النساء آية : 51.

ج / 1 ص -511- الثالثة: تفسير الجبت والطاغوت والفرق بينهما.
الرابعة: أن الطاغوت قد يكون من الجن وقد يكون من الإنس.
الخامسة: معرفة السبع الموبقات المخصوصات بالنهي.
السادسة: أن الساحر يكفر.
السابعة: أنه يقتل ولا يستتاب.


والطاغوت}، وفسر عمر الجبت بالسحر والطاغوت بالشيطان، وفسر بأن الجبت: كل ما لا خير فيه من السحر وغيره. وأما الطاغوت; فهو: كل ما تجاوز به الإنسان حده من معبود أو متبوع أو مطاع.
الثالثة: تفسير الجبت والطاغوت والفرق بينهما: وهذا بناء على تفسير عمر (.
الرابعة: أن الطاغوت قد يكون من الجن، وقد يكون من الإنس: تؤخذ من قول جابر: الطواغيت كهان، وكذلك قول عمر: الطاغوت الشيطان، فإن الطاغوت إذا أطلق; فالمراد به شيطان الجن، والكهان شياطين الإنس.
الخامسة: معرفة السبع الموبقات المخصوصات بالنهي: وقد سبق بيانها.
السادسة: أن الساحر يكفر: تؤخذ من قوله تعالى:{ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} 1 الآية.
السابعة: أنه يقتل ولا يستتاب: يؤخذ من قوله: " حد الساحر



1 سورة البقرة آية : 102.

ج / 1 ص -512- الثامنة: وجود هذا في المسلمين على عهد عمر; فكيف فيما بعده؟!


ضربة بالسيف "12، والحد إذا بلغ الإمام لا يستتاب صاحبه، بل يقتل بكل حال، أما الكفر; فإنه يستتاب صاحبه، وهذا هو الفرق بين الحد وبين عقوبة الكفر، وبهذا نعرف خطأ من أدخل حكم المرتد في الحدود، وذكروا من الحدود قتل الردة. فقتل المرتد ليس من الحدود; لأنه يستتاب، فإذا تاب ارتفع عنه القتل، وأما الحدود; فلا ترتفع بالتوبة إلا أن يتوب قبل القدرة عليه، ثم إن الحدود كفارة لصاحبها وليس بكافر، والقتل بالردة ليس كفارة وصاحبها كافر; لا يصلى عليه، ولا يغسل، ولا يدفن في مقابر المسلمين.


الثامنة: وجود هذا في المسلمين في عهد عمر; فكيف فيما بعده؟!: تؤخذ من قوله: " كتب عمر: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة; " فهذا إذا كان في زمن الخليفة الثاني في القرون المفضلة، بل أفضلها; فكيف بعده من العصور التي بعدت عن وقت النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه وأصحابه؟! فهو أكثر انتشارا بين المسلمين، وكلما بعد الناس عن زمن الرسالة استولت عليهم الضلالة والجهالة; فالضلالة: ارتكاب الخطأ عن جهل، والجهالة: ارتكاب الخطأ عن عمد، ولهذا نقول: من عمل سوءا بجهالة; فهو آثم، ومن عمل سوءا بجهل; فليس بآثم، قال تعالى:{ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ } 3 الآية، والمراد بالجهالة هنا ليست ضد العلم، بل ضد الرشد، وهي السفه.



1 الترمذي : الحدود (1460).
2 سبق (ص 508).
3 سورة النساء آية : 17.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 31-01-2015 10:16AM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب بيان شيء من أنواع السحر

ج / 1 ص -513- باب بيان شيء من أنواع السحر

قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف، عن


قوله: "باب بيان شيء من أنواع السحر": أي: بيان حقائق هذه الأشياء مع حكمها.
وقد سبق أن السحر ينقسم إلى قسمين: كفر، وفسق1 فإن كان باستخدام الشياطين وما أشبه ذلك; فهو كفر. وكذلك ما ذكره هنا من أنواع السحر منها ما هو كفر، ومنها ما هو فسق حسب ما تقتضيه الأدلة الشرعية.
والأنواع: جمع نوع، والنوع أخص من الجنس; لأن الجنس اسم يدخل تحته أنواع، والنوع يدخل تحته أفراد، وقد يكون الجنس نوعا باعتبار ما فوقه، والنوع جنسا باعتبار ما تحته.


فالإنسان نوع باعتبار الحيوان، والحيوان باعتبار الإنسان جنس; لأنه يدخل فيه الإنسان والإبل والبقر والغنم، والحيوان باعتبار الجسم نوع; لأن الجسم يشمل الحيوان والجماد.
و"أنواع" هنا باعتبار الجنس العام.
وسبق أن السحر في اللغة: كل ما كان خفي السبب دقيقا في إدراكه حتى عد الفخر الرازي من جملة أنواع السحر الساعات، وهي في القديم عبارة عن آلات مركبة; فكيف بالساعات الإلكترونية اليوم؟!




1 انظر: (ص 489-490).

ج / 1 ص -514- حيان بن العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة، عن أبيه; أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن العيافة والطرق.....


قوله: "العيافة": مصدر عاف يعيف عيافة، وهي: زجر الطير للتشاؤم أو التفاؤل; فعند العرب قواعد في هذا الأمر; لأن زجر الطير له أقسام: فتارة يزجرها للصيد، كما قال أهل العلم في باب الصيد: إن تعليم الطير بأن ينزجر إذا زجر; فهذا ليس من هذا الباب. وتارة يزجر الطير للتشاؤم أو التفاؤل، فإذا زجر الطائر وذهب شمالا تشاءم، وإذا ذهب يمينا تفاءل، وإن ذهب أماما; فلا أدري أيتوقفون أم يعيدون الزجر؟ فهذا من الجبت.


قوله: "الطرق": فسره عوف: بأنه الخط يخط في الأرض، وكأنه من الطريق، من طرق الأرض يطرقها إذا سار عليها، وتخطيطها مثل المشي عليها يكون له أثر في الأرض كأثر السير عليها. ومعنى الخط بالأرض معروف عندهم، يضربون به على الرمل على سبيل السحر والكهانة، ويفعله النساء غالبا، ولا أدري كيف يتوصلون إلى مقصودهم وما يزعمونه من علم الغيب، وأنه سيحصل كذا على ما هو معروف عندهم؟! وهذا نوع من السحر. أما خط الأرض ليكون سترة في الصلاة، أو لبيان حدودها ونحو ذلك; فليس داخلا في الحديث.
فإن قيل: قد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن نبيا من الأنبياء يخط; وقال: " من وافق خطه; فذاك " 1 قلنا:

يجاب عنه بجوابين:
الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم علقه بأمر لا يتحقق الوصول إليه; لأنه قال: فمن وافق خطه فذاك، وما يدرينا هل وافق خطه أم لا؟



1 أخرجه: مسلم في (المساجد ومواضع الصلاة, باب تحريم الكلام في الصلاة, 1/381- , 182 وفي السلام, باب تحريم الكهانة, 4/1748); من حديث معاوية بن الحكم - رضي الله عنه-.

ج / 1 ص -515- والطيرة....


الثاني: أنه إذا كان الخط بالوحي من الله تعالى كما في حال هذا النبي; فلا بأس به; لأن الله يجعل له علامة ينزل الوحي بها بخطوط يعلمه إياها. أما هذه الخطوط السحرية; فهي من الوحي الشيطاني، فإن قيل: طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يسد الأبواب جميعا خاصة في موضوع الشرك;

فلماذا لم يقطع ويسد هذا الباب؟
فالجواب: كأن هذا والله أعلم أمر معلوم، وهو أن فيه نبيا من الأنبياء يخط; فلا بد أن يجيب عنه الرسول صلى الله عليه وسلم
قوله: "الطيرة": أي: من الجبت، على وزن فعلة، وهي اسم مصدر تطير، والمصدر منه تطير، وهي التشاؤم بمرئي أو مسموع، وقيل: التشاؤم بمعلوم مرئيا كان أو مسموعا، زمانا كان أو مكانا، وهذا أشمل; فيشمل ما لا يرى ولا يسمع; كالتطير بالزمان. وأصل التطير: التشاؤم، لكن أضيفت إلى الطير; لأن غالب التشاؤم عند العرب بالطير، فعلقت به، وإلا; فإن تعريفها العام: التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم.


وكان العرب يتشاءمون بالطير وبالزمان وبالمكان وبالأشخاص وهذا من الشرك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم1.
والإنسان إذا فتح على نفسه باب التشاؤم; ضاقت عليه الدنيا، وصار يتخيل كل شيء أنه شؤم، حتى إنه يوجد أناس إذا أصبح وخرج من بيته ثم قابله رجل ليس له إلا عين واحدة تشاءم، وقال: اليوم يوم سوء، وأغلق دكانه، ولم يبع ولم يشتر - والعياذ بالله -، وكان بعضهم يتشاءم بيوم الأربعاء، ويقول: إنه يوم نحس وشؤم، ومنهم من يتشاءم بشهر



1 سيأتي (ص 582).

ج / 1 ص -516- " من الجبت "1 قال عوف: " العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط بالأرض والجبت "2 قال الحسن: رنة الشيطان.


شوال، ولا سيما في النكاح، وقد نقضت عائشة رضي الله عنها هذا التشاؤم، بأنه صلى الله عليه وسلم عقد عليها في شوال، وبنى بها في شوال; فكانت تقول: " أيكن كان أحظى عنده مني " ؟3 والجواب: لا أحد.
فالمهم أن التشاؤم ينبغي للإنسان أن لا يطرأ له على بال; لأنه ينكد عليه عيشه; فالواجب الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يعجبه الفأل4 فينبغي للإنسان أن يتفاءل بالخير ولا يتشاءم، وكذلك بعض الناس إذا حاول الأمر مرة بعد أخرى تشاءم بأنه لن ينجح فيه فيتركه، وهذا خطأ; فكل شيء ترى فيه المصلحة; فلا تتقاعس عنه في أول محاولة، وحاول مرة بعد أخرى حتى يفتح الله عليك.


قوله: "من الجبت": سبق في الباب قبله عن عمررضي الله عنهأن الجبت السحر وعلى هذا تكون "من" للتبعيض على الصحيح وليست للبيان; فالمعنى أن هذه الثلاثة (العيافة والطرق والطيرة) من الجبت.
وأما قول الحسن: " الجبت: رنة الشيطان " فقال صاحب "تيسير



1 أخرجه: عبد الرزاق (10/403), وأحمد في "مسنده" (3/477, 5/60), وابن سعد في "الطبقات" (7/35), وأبو داود في (الطب, باب في الخط وزجر الطير, 4/228)- وسكت عنه-, والنسائي في "الكبرى"; كما في "تحفة الأشراف" (8/275), وابن حبان (1426), والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/312), والبيهقي (8/139), والبغوي في "شرح السنة" (12/177). وقال النووي في "رياض الصالحين"; "رواه أبو داود بإسناد حسن" , وفي "دليل الفالحين" (ص 802): "وهو حديث حسن".
2سنن أبي داود" الموضع السابق.


3 أخرجه: مسلم في (النكاح, باب التزوج في شوال, 2/1039).
4 سيأتي (ص 570).

ج / 1 ص -517- إسناده جيد. ولأبي داود والنسائي وابن حبان في " صحيحه " لهم المسند منه.



العزيز الحميد"1 لم أجد فيه كلاما. والظاهر أن رنة الشيطان، أي: وحي الشيطان; فهذه من وحي الشيطان وإملائه، ولا شك أن الذي يتلقى أمره من وحي الشيطان أنه أتى نوعا من الكفر، وقول الحسن جاء في "تفسير ابن كثير" باللفظ الذي ذكره المؤلف، وجاء في "المسند" (5/ 60) بلفظ: إنه الشيطان.
ووجه كون العيافة من السحر أن العيافة يستند فيها الإنسان إلى أمر لا حقيقة له; فماذا يعني كون الطائر يذهب يمينا أو شمالا أو أماما أو خلفا; فهذا لا أصل له، وليس بسبب شرعي ولا حسي، فإذا اعتمد الإنسان على ذلك; فقد اعتمد على أمر خفي لا حقيقة له، وهذا سحر كما سبق تعريف السحر في اللغة2.


وكذلك الطرق من السحر; لأنهم يستعملونه في السحر، ويتوصلون به إليه.
والطيرة كذلك; لأنها مثل العيافة تماما تستند إلى أمر خفي لا يصح الاعتماد عليه، وسيأتي في باب الطيرة ما يستثنى منه3.
قوله: "إسناده جيد...": قال الشيخ: إسناده جيد، وعندي أنه أقل من الجيد في الواقع; إلا أن يكون هناك متابعات، وكان بعض العلماء يذهب إلى أن الحديث إذا صح متنه، وكان موافقا للأصول; فإنه يتساهل في سنده، والعكس بالعكس، إذا كان مخالفا للأصول; فإنه لا يبالي



1 انظر: "تيسير العزيز الحميد" (ص 398).
2سبق (ص 489).
3 سيأتي (ص 571).

ج / 1 ص -518- وعن ابن عباس رضي الله عنهما; قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من اقتبس شعبة من النجوم.......


بالسند، وهذا مسلك جيد بالنسبة لأخذ الحكم من الحديث. لكن بالنسبة للحكم على السند بأنه جيد بمجرد شهادة الأصول لهذا الحديث بالصحة; فهذا مشكل لأنه يلزم أنه لو جاءنا هذا السند في حديث آخر حكمنا بأنه جيد; فالأولى أن يقال: إن السند فيه ضعف، ولكن المتن صحيح، فأنا أرى أن مثل هذا لا يحكم له بالجودة إذ جيد أرقى من حسن، ثم الحكم بالحسن في مثل هذا السند في نفسي منه شيء; لأنه ينبغي لنا أن نتحرى في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن الذي يخفف الأمر هو صحة المتن. وأيهما أهم: السند أم المتن؟
الجواب: كلاهما مهمان، لكن المتن إذا كان صحيحا تشهد له الأصول قد تستغنى عنه بما تشهد به الأصول، أما السند; فلا بد منه، يقول ابن المبارك: " لولا السند لقال كل من شاء ما شاء "1.


قوله: "من": شرطية، وفعل الشرط: "اقتبس"، وجوابه: "فقد اقتبس".
قوله: "اقتبس": أي: تعلم; لأن التعلم وهو أخذ الطالب من العالم شيئا من علمه بمنزلة الرجل يقتبس من صاحب النار شعلة.
قوله: "شعبة": أي: طائفة، ومنه قوله تعالى:{ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ } 2 أي: طوائف وقبائل.


قوله: "من النجوم": المراد: علم النجوم، وليس المراد النجوم أنفسها; لأن النجوم لا يمكن أن تقتبس وتتعلم، والمراد به هنا علم



1 مقدمة "صحيح مسلم" (1/15).
2 سورة الحجرات آية : 13.

ج / 1 ص -519-


النجوم الذي يستدل به على الحوادث الأرضية; فيستدل مثلا باقتران النجم الفلاني بالنجم الفلاني على أنه سيحدث كذا وكذا.
ويستدل بولادة إنسان في هذا النجم على أنه سيكون سعيدا، وفي النجم الآخر على أنه سيكون شقيا; فيستدلون باختلاف أحوال النجوم على اختلاف الحوادث الأرضية، والحوادث الأرضية من عند الله، قد تكون أسبابها معلومة لنا، وقد تكون مجهولة، لكن ليس للنجوم بها علاقة، ولهذا جاء في حديث زيد بن خالد الجهني في غزوة الحديبية; قال: " صلى بنا رسول الله ذات ليلة على إثر سماء من الليل; فقال: قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا "1 - بنوء يعني: بنجم، والباء للسببية; يعني: هذا المطر من النجم -; " فإنه كافر بي مؤمن بالكوكب، ومن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته; فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب "2.


فالنجوم لا تأتي بالمطر ولا تأتي بالرياح أيضا، ومنه نأخذ خطأ العوام الذين يقولون: إذا هبت الريح طلع النجم الفلاني; لأن النجوم لا تأثير لها بالرياح، صحيح أن بعض الأوقات والفصول يكون فيها ريح ومطر; فهي ظرف لهما، وليست سببا للريح أو المطر.


وعلم النجوم ينقسم إلى قسمين:

الأول: علم التأثير، وهو أن يستدل بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية; فهذا محرم باطل لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من اقتبس شعبة من النجوم; فقد اقتبس شعبة من السحر "34 وقوله في حديث زيد بن خالد: " من



1 البخاري : الأذان (846) , ومسلم : الإيمان (71) , والنسائي : الاستسقاء (1525) , وأبو داود : الطب (3906) , وأحمد (4/117) , ومالك : النداء للصلاة (451).
2 سيأتي (2/30).
3 أبو داود : الطب (3905) , وابن ماجه : الأدب (3726) , وأحمد (1/227 ,1/311).
4سيأتي (ص 521).

ج / 1 ص -520- فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد "..


قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب " 1 ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في الشمس والقمر: " إنهما آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته "23 فالأحوال الفلكية لا علاقة بينها وبين الحوادث الأرضية.


الثاني: علم التسيير، وهو ما يستدل به على الجهات والأوقات; فهذا جائز، وقد يكون واجبا أحيانا، كما قال الفقهاء: إذا دخل وقت الصلاة يجب على الإنسان أن يتعلم علامات القبلة من النجوم والشمس والقمر، قال تعالى : { وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 4. فلما ذكر الله العلامات الأرضية انتقل إلى العلامات السماوية; فقال تعالى:{ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 5 فالاستدلال بهذه النجوم على الأزمان لا بأس به، مثل أن يقال: إذا طلع النجم الفلاني دخل وقت السيل ودخل وقت الربيع، وكذلك على الأماكن; كالقبلة، والشمال، والجنوب.


قوله: " فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد "6 المراد بالسحر هنا: ما هو أعم من السحر المعروف; لأن هذا من الاستدلال بالأمور الخفية التي لا حقيقة لها، كما أن السحر لا حقيقة له; ولا يقلب الأشياء، لكنه يموه، فهكذا اختلاف النجوم لا تتغير بها الأحوال.


وقوله: " زاد ما زاد "7 أي: كلما زاد شعبة من تعلم النجوم ازداد شعبة من السحر. ووجه ذلك: أن الشيء إذا كان من الشيء; فإنه يزداد بزيادته.



1 سيأتي (2/30).
2 البخاري : الجمعة (1048) , والنسائي : الكسوف (1459 ,1463) , وأحمد (5/37).
3رواه: البخاري (2/438), ومسلم (901 و 903).
4 سورة النحل آية : 15.
5 سورة النحل آية : 16.
6 أبو داود : الطب (3905) , وابن ماجه : الأدب (3726) , وأحمد (1/227 ,1/311).
7 أبو داود : الطب (3905) , وابن ماجه : الأدب (3726) , وأحمد (1/227 ,1/311).

ج / 1 ص -521- رواه أبو داود، وإسناده صحيح1.
وللنسائي من حديث أبي هريرة: " من عقد عقدة، ثم نفث فيها


وجه مناسبة الحديث لترجمة المؤلف.
أن من أنواع السحر: تعلم النجوم ليستدل بها على الحوادث الأرضية، وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند; لكن من حيث المعنى صحيح تشهد له النصوص الأخرى.
قوله: "من عقد عقدة": "من" شرطية، والعقد معروف.
قوله: "ثم نفث فيها": النفث: النفخ بريق خفيف، والمراد هنا النفث من أجل السحر.


أما لو عقد عقدة، ثم نفث فيها من أجل أن تحتكم بالرطوبة; فليس بداخل في الحديث، والنفث من أجل السحر يفعلونه بعض الأحيان للصرف; فيصرفون به الرجل عن زوجته، ولا سيما عند عقد النكاح; فيبعد الرجل عن زوجته، فلا يقوى على جماعها، فمن عقد هذه العقدة; فقد وقع في السحر كما قال تعالى:{ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} 2.



1 أخرجه: أحمد في "المسند" (1/227, 311) وأبو داود في (الطب, باب في النجوم, 4/ 226) -وسكت عنه-, وابن ماجه في (الأدب, باب تعلم النجوم, 2/ 1228), والطبراني في "الكبير" (11278), والبيهقي (8/138); من حديث ابن عباس. والحديث صححه النووي في "الرياض", والعراقي في "تخريج الإحياء" (4/117), والذهبي; كما في "فيض القدير" (6/80).
2 سورة الفلق آية : 4.

ج / 1 ص -522- فقد سحر، ومن سحر ، فقد أشرك، ومن تعلق شيئا; وكل إليه " 1.


قوله: " ومن سحر فقد أشرك "2 "من" هذه شرطية، وفعل الشرط: "سحر"، وجوابه:
"فقد أشرك". وقوله: "فقد أشرك": هذا لا يتناول جميع السحر، إنما المراد من سحر بالطرق الشيطانية.
أما من سحر بالأدوية والعقاقير وما أشبهها; فقد سبق أنه لا يكون مشركا3 لكن الذي يسحر بواسطة طاعة الشياطين واستخدامهم فيما يريد; فهذا لا شك أنه مشرك.
قوله: " ومن تعلق شيئا وكل إليه "4 "تعلق شيئا"; أي: استمسك به، واعتمد عليه.


"وكل إليه"; أي: جعل هذا الشيء الذي تعلق به عمادا له، ووكله الله إليه، وتخلى عنه.
ومناسبة هذه الجملة للتي قبلها: أن النافخ في العقد يريد أن يتوصل



1 أخرجه: النسائي في (كتاب تحريم الدم, باب الحكم في السحرة, 7/112), والمزي في "تهذيب الكمال" (2/654). وقال المنذري في "الترغيب" (4/32): "رواه النسائي من رواية الحسن عن أبي هريرة, ولم بسمع منه عند الجمهور". وقال الذهبي في "الميزان" (2/378): "هذا الحديث لا يصلح للين عباد وانقطاعه". وحسنه ابن مفلح في "الآداب (3/78), ورواه عبد الرزاق عن الحسن مرسلا في "المصنف" (11/17). "قال في "النهج السديد" (ص 135): "فثبت أن أصل الحديث مرسل, لكن عبادا أخطأ فوصله".
2 النسائي : تحريم الدم (4079).
3ص 490).
4 النسائي : تحريم الدم (4079).

ج / 1 ص -523-

بهذا الشيء إلى حاجته ومآربه، فيوكل إلى هذا الشيء المحرم.
ووجه آخر: وهو أن من الناس من إذا سحر عن طريق النفخ بالعقد ذهب إلى السحرة وتعلق بهم، ولا يذهب إلى القراء والأدوية المباحة والأدعية المشروعة، ومن توكل على الله كفاه، قال تعالى:{ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } 1 وإذا كان الله حسبك; فلا بد أن تصل إلى ما تريد. لكن من تعلق شيئا من المخلوقين وكل إليه، ومن وكل إلى شيء من المخلوقين وكل إلى ضعف وعجز وعورة، وقد يشمل الحديث من اعتمد على نفسه وصار معجبا بما يقول ويفعل; فإنه يوكل إلى نفسه، ويوكل إلى ضعف وعجز وعورة، ولهذا ينبغي أن تكون دائما متعلقا بالله في كل أفعالك وأحوالك حتى في أهون الأمور.


ونقول للإنسان: اعتمد على نفسك بالنسبة للناس، فلا تسألهم ولا تستذل أمامهم، واستغن عنهم ما استطعت، أما بالنسبة لله; فلا تستغن عنه، بل كن دائما معتمدا على ربك حتى تتيسر لك الأمور، ومن هذا النوع من يتعلقون ببعض الأحراز يعلقونها; فإنهم يوكلون إلى هذا، ولا يحصل لهم مقصودهم، لكنهم لو اعتمدوا على الله، وسلكوا السبل الشرعية; حصل لهم ما يريدون، ومن هذا النوع أيضا من تعلق شيئا من القبور، وجعلها ملجأه ومغيثه عند طلب الأمور; فإنه يوكل إليه، والإنسان قد يفتن ويحصل له المطلوب بدعاء هؤلاء، ولكن هذا المطلوب الذي حصل حصل عند دعائهم لا بدعائهم، والآية صريحة في ذلك، قال الله تعالى:{ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } 2 لكن الله تعالى قد يفتن من شاء من عباده.



1 سورة الطلاق آية : 3.
2 سورة الأحقاف آية : 5.

ج / 1 ص -524- وعن ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " " ألا هل أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة


مناسبة الحديث.
أن هؤلاء الذين يتعلقون بالسحر، ويجعلونه صناعة يصلون بها إلى مآربهم يوكلون إلى ذلك، وآخر أمرهم الخسارة والندم.
قوله: "ألا": أداة استفتاح، والغرض تنبيه المخاطب والاعتناء بما يلقى إليه لأهميته.
قوله: " هل أنبئكم ما العضه "1 الاستفهام للتشويق; كقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} 2.
لأن الإنسان مشتاق إلى العلوم يحب أن يعلم، وقد يكون المراد به التنبيه; لأن الموجه إليه الخطاب ينبغي أن ينتبه ليعلم، وهي تصلح للجميع.
ومعنى أنبئكم: أخبركم، وهي مرادفة للخبر في اصطلاح المحدثين، وقال بعض العلماء من ناحية اللغة لا الاصطلاح: إن الإنباء لغة يكون في الأمور الهامة، والإخبار أعم منه يكون في الهامة وغير الهامة.
قوله: "العضه" على وزن الحبل والصمت والوعد، بمعنى القطع، وأما رواية العضة على وزن عدة; فإنها بمعنى التفريق، وأيا كان; فإنها تتضمن قطعا وتفريقا.


قوله: "هي النميمة": فعيلة بمعنى مفعولة، وهي من نم الحديث



1 أحمد (1/437) , والدارمي : الرقاق (2715).
2 سورة الصف آية : 10.

ج / 1 ص -525- القالة بين الناس" "1.


إلى غيره; أي: نقله، والنميمة فسرها بقوله: " القالة بين الناس " أي: نقل القول بين الناس، فينقل من هذا إلى هذا، فيأتي لفلان ويقول: فلان يسبك; فهو نم إليه الحديث ونقله، وسواء كان صادقا أو كاذبا، فإن كان كاذبا; فهو بهت ونميمة، وإن كان صادقا; فهو نميمة.

والنميمة كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم تقطع الصلة، وتفرق بين الناس2 فتجد هذين الرجلين صديقين، فيأتي هذا النمام، فيقول لأحدهما: صاحبك يسبك، فتنقلب هذه المودة إلى عداوة، فيحصل التفرق، وهذا يشبه السحر بالتفريق; لأن السحر فيه تفريق، قال تعالى:{ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } 3.


والنميمة من كبائر الذنوب، وهي سبب لعذاب القبر، ومن أسباب حرمان دخول الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل الجنة قتات " 4 أي: نمام، وفي حديث ابن عباس المتفق عليه: أنه صلى الله عليه وسلم " مر بقبرين يعذبان، أحدهما كان يمشي بالنميمة "5.
والنميمة كما هي من كبائر الذنوب; فهي في الحقيقة خلق ذميم، ولا ينبغي للإنسان أن يطيع النمام مهما كانت حاله، قال تعالى:{ وَلا تُطِعْ


1 أخرجه: مسلم في (البر والصلة, باب تحريم النميمة, 4/2012).
2 (2) أخرجه: الإمام أحمد (4/227, 6/459), والبيهقي في "شعب الإيمان (7/494). وأورده الهيثمي في "المجمع" (8/93) وقال: "رواه أحمد, وفيه شهر بن حوشب, وقد وثقه غير واحد, وبقية رجال أحمد أسانيده رجال الصحيح".
3 سورة البقرة آية : 102.
4 أخرجه: البخاري في (الأدب, باب ما يكره من النميمة, 4/101), ومسلم في (الإيمان, باب غلظ تحريم النميمة, 1/101), ولفظه: "لا يدخل الجنة نمام" من حديث حذيفة رضي الله عنه.
5 البخاري : الجنائز (1361) , ومسلم : الطهارة (292) , والترمذي : الطهارة (70) , والنسائي : الطهارة (31) والجنائز (2068) , وأبو داود : الطهارة (20) , وابن ماجه : الطهارة وسننها (347) , وأحمد (1/225) , والدارمي : الطهارة (739).

ج / 1 ص -526-


كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} 1 واعلم أن من نم إليك نم فيك أو منك; فاحذره.
وهي أيضا سبب من أسباب فساد المجتمع; لأن هذا النمام إذا أراد أن يعتدي على كل صديقين متحابين، ويفرق بينهما بنميمته فسد المجتمع; لأن المجتمع مكون من أفراد، فإذا تفرقت صار كما قال الله عزوجل:{وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } 2 وإذا لم يكن المجتمع كإنسان واحد; فإنه لا يمكن أن يكون مجتمعا; فهو أفراد متناثرة، والأفراد المتناثرة ليس لها قوة،

ولهذا قال الشاعر.

لا تخاصم بواحد أهل بيت فضعيفان يغلبان قويا
وقال الآخر:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا فإذا افترقن تكسرت أفرادا

ونحن لو تأملنا النصوص الشرعية; لوجدناها تحرم كل ما يكون سببا للتفرق والقطيعة، قال صلى الله عليه وسلم " لا يبيع بعضكم على بيع أخيه "3. وقال: " لا يخطب الرجل على خطبة أخيه "4 وكل هذا لدفع ما يوجب العداوة والبغضاء بين الناس.


1 سورة آية : 10-11.
2 سورة الأنفال آية : 46.
3 البخاري : البيوع (2139) , ومسلم : النكاح (1412) , والترمذي : البيوع (1292) , والنسائي : البيوع (4504) , وأبو داود : النكاح (2081) والبيوع (3436) , وابن ماجه : التجارات (2171) , وأحمد (2/21) , ومالك : البيوع (1390) , والدارمي : النكاح (2176) والبيوع (2567.
4 البخاري : البيوع (2140) , ومسلم : النكاح (1413) , والترمذي : النكاح (1134) , والنسائي : النكاح (3240) , وأبو داود : النكاح (2080) , وابن ماجه : النكاح (1867) , وأحمد (2/318 ,2/489 ,2/516) , ومالك : النكاح (1111) , والدارمي : النكاح (2175).

ج / 1 ص -527- ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن من البيان لسحرا "1.


قوله: "إن من البيان": "إن": حرف توكيد، ينصب الاسم ويرفع الخبر، و "من": يحتمل أن تكون للتبعيض، ويحتمل أن تكون لبيان الجنس; فعلى الأول يكون المعنى: إن بعض البيان سحر وبعضه ليس بسحر، وعلى الثاني يكون المعنى: إن جنس البيان كله سحر.
قوله: "لسحرا": اللام للتوكيد، و "سحرا": اسم إن.
والبيان: هو الفصاحة والبلاغة، وهو من نعمة الله على الإنسان، قال تعالى:{ خَلَقَ الأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} 2.


والبيان نوعان:

الأول: بيان لا بد منه، وهذا يشترك فيه جميع الناس فكل إنسان إذا جاع قال: إني جعت، وإذا عطش قال: إني عطشت، وهكذا.
الثاني: بيان بمعنى الفصاحة التامة التي تسبي العقول وتغير الأفكار، وهي التي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم " إن من البيان لسحرا "3.
وعلى هذا التقسيم تكون "من" للتبعيض; أي: بعض البيان - وهو البيان الكامل الذي هو الفصاحة - سحر. أما إذا جعلنا البيان بمعنى الفصاحة فقط; صارت "من" لبيان الجنس.

ووجه كون البيان سحرا: أنه يأخذ بلب السامع، فيصرفه أو يعطفه، فيظن السامع أن الباطل حق لقوة تأثير المتكلم، فينصرف إليه، ولهذا إذا




1 أخرجه: البخاري في (النكاح, باب الخطبة, 3/374) من حديث ابن عمر, ومسلم في (الجمعة, باب تخفيف الصلاة والخطبة, 2/594) من حديث عمار بن ياسر.
2 سورة آية : 3-4.
3 البخاري : النكاح (5146) , والترمذي : البر والصلة (2028) , وأبو داود : الأدب (5007) , وأحمد (2/16 ,2/59 ,2/62 ,2/94) , ومالك : الجامع (1850).

ج / 1 ص -528-


أتى إنسان يتكلم بكلام معناه باطل، لكن لقوة فصاحته وبيانه يسحر السامع حقا، فينصرف إليه، وإذا تكلم إنسان بليغ يحذر من حق، ولفصاحته وبيانه يظن السامع أن هذا الحق باطل، فينصرف عنه، وهذا من جنس السحر الذي يسمونه العطف والصرف، والبيان يحصل به عطف وصرف; فالبيان في الحقيقة بمعنى الفصاحة، ولا شك أنها تفعل فعل السحر، وابن القيم يقول عن الحور: حديثها السحر الحلال.


وقوله: " إن من البيان لسحرا "1 هل هذا على سبيل الذم، أو على سبيل المدح، أو لبيان الواقع ثم ينظر إلى أثره؟ الجواب: الأخير هو المراد; فالبيان من حيث هو بيان لا يمدح عليه ولا يذم، ولكن ينظر إلى أثره، والمقصود منه، فإن كان المقصود منه رد الحق وإثبات الباطل; فهو مذموم; لأنه استعمال لنعمة الله في معصيته، وإن كان المقصود منه إثبات الحق وإبطال الباطل; فهو ممدوح، وإذا كان البيان يستعمل في طاعة الله وفي الدعوة إلى الله; فهو خير من العي، لكن إذا ابتلي الإنسان ببيان ليصد الناس عن دين الله; فهذا لا خير فيه، والعي خير منه، والبيان من حيث هو لا شك أنه نعمة، ولهذا امتن الله به على الإنسان; فقال تعالى:{ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} 2.


وجه مناسبة الحديث للباب المؤلف كان حكيما في تعبيره بالترجمة، حيث قال: باب بيان شيء من أنواع السحر، ولم يحكم عليها بشيء; لأن منها ما هو شرك، ومنها ما هو من كبائر الذنوب، ومنها دون ذلك، ومنها ما هو جائز على حسب ما يقصد به وعلى حسب تأثيره وآثاره.



1 البخاري : النكاح (5146) , والترمذي : البر والصلة (2028) , وأبو داود : الأدب (5007) , وأحمد (2/16 ,2/59 ,2/62 ,2/94) , ومالك : الجامع (1850).
2 سورة الرحمن آية : 4.



ج / 1 ص -529- فيه مسائل:
الأولى: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت.
الثانية: تفسير العيافة والطرق.
الثالثة: أن علم النجوم نوع من السحر.
الرابعة: العقد مع النفث من ذلك.
الخامسة: أن النميمة من ذلك.


قال: "فيه مسائل": أي:

في هذا الباب وما تضمنه من الأحاديث والآثار مسائل:
المسألة الأولى: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت : وقد سبق تفسير هذه الثلاثة وتفسير الجبت.
الثانية: تفسير العيافة والطرق: وقد بينت في الباب أيضا وشرحت.
الثالثة: أن علم النجوم نوع من السحر: لقوله: " من اقتبس شعبة من النجوم; فقد اقتبس شعبة من السحر "1 وسبق الكلام عليها أيضا.
الرابعة: العقد مع النفث من ذلك: لحديث أبي هريرة: " من عقد عقدة ثم نفث فيها; فقد سحر، "2 وقد تقدم الكلام على ذلك.
الخامسة: أن النميمة من ذلك: لحديث ابن مسعود: " ألا هل أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة "3 وهي من السحر، لأنها تفعل ما يفعل الساحر من التفريق بين الناس والتحريش بينهم، وقد سبق بيان ذلك.



1 أبو داود : الطب (3905) , وابن ماجه : الأدب (3726) , وأحمد (1/227 ,1/311).
2 النسائي : تحريم الدم (4079).
3 مسلم : البر والصلة والآداب (2606) , وأحمد (1/437).

ج / 1 ص -530- السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة.


السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة: أي: من السحر بعض الفصاحة; لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إن من البيان لسحرا "1 والمؤلف رحمه الله قال: بعض الفصاحة استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم "إن من البيان" ; لأن "من" هنا عند المؤلف للتبعيض، ووجه كون ذلك من السحر أن لسان البليغ ذي البيان قد يصرف الهمم وقد يلهب الهمم بما عنده من الفصاحة.



1 البخاري : النكاح (5146) , والترمذي : البر والصلة (2028) , وأبو داود : الأدب (5007) , وأحمد (2/16 ,2/59 ,2/62 ,2/94) , ومالك : الجامع (1850).





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




ام عادل السلفية 31-01-2015 10:28AM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب ما جاء في الكهان ونحوهم.

ج / 1 ص -531- باب ما جاء في الكهان ونحوهم.

روى مسلم في " صحيحه " عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:....


الكهان: جمع كاهن، والكهنة أيضا جمع كاهن، وهم قوم يكونون في أحياء العرب يتحاكم الناس إليهم، وتتصل بهم الشياطين، وتخبرهم عما كان في السماء، تسترق السمع من السماء، وتخبر الكاهن به، ثم الكاهن يضيف إلى هذا الخبر ما يضيف من الأخبار الكاذبة، ويخبر الناس، فإذا وقع مما أخبر به شيء; اعتقده الناس عالما بالغيب، فصاروا يتحاكمون إليهم; فهم مرجع للناس في الحكم، ولهذا يسمون الكهنة; إذ هم يخبرون عن الأمور في المستقبل، يقولون: سيقع كذا وسيقع كذا، وليس من الكهانة في شيء من يخبر عن أمور تدرك بالحساب; فإن الأمور التي تدرك بالحساب ليست من الكهانة في شيء، كما لو أخبر عن كسوف الشمس أو خسوف القمر; فهذا ليس من الكهانة; لأنه يدرك بالحساب، وكما لو أخبر أن الشمس تغرب في 20 من برج الميزان مثلا في الساعة كذا وكذا; فهذا ليس من علم الغيب، وكما يقولون: إنه سيخرج في أول العام أو العام الذي بعده مذنب (هالي)، وهو نجم له ذنب طويل; فهذا ليس من الكهانة في شيء; لأنه من الأمور التي تدرك بالحساب; فكل شيء يدرك بالحساب، فإن الإخبار عنه ولو كان مستقبلا لا يعتبر من علم الغيب، ولا من الكهانة. وهل من الكهانة ما يخبر به الآن من أحوال الطقس في خلال أربع وعشرين ساعة أو ما أشبه ذلك؟

ج / 1 ص -532- " من أتى عرافا،..


الجواب: لا; لأنه أيضا يستند إلى أمور حسية، وهي تكيف الجو; لأن الجو يتكيف على صفة معينة تعرف بالموازين الدقيقة عندهم; فيكون صالحا لأن يمطر، أو لا يمطر، ونظير ذلك في العلم البدائي إذا رأينا تجمع الغيوم والرعد والبرق وثقل السحاب، نقول: يوشك أن ينزل المطر. فالمهم أن ما استند إلى شيء محسوس; فليس من علم الغيب، وإن كان بعض العامة يظنون أن هذه الأمور من علم الغيب، ويقولون: إن التصديق بها تصديق بالكهانة.


والشيء الذي يدرك بالحس إنكاره قبيح; كما قال السفاريني:

فكل معلوم بحس أو حجا فنكره جهل قبيح بالهجا
فالذي يعلم بالحس لا يمكن إنكاره ولو أن أحدا أنكره مستندا بذلك إلى الشرع; لكان ذلك طعنا بالشرع.
قوله: "من": شرطية; فهي للعموم.
والعراف: صيغة مبالغة من العارف، أو نسبة; أي: من ينتسب إلى العرافة.
والعراف قيل: هو الكاهن، وهو الذي يخبر عن المستقبل. وقيل: هو اسم عام للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يستدل على معرفة الغيب. بمقدمات يستعملها، وهذا المعنى أعم، ويدل عليه الاشتقاق; إذ هو مشتق من المعرفة، فيشمل كل من تعاطى هذه الأمور وادعى بها المعرفة.



ج / 1 ص -533- فسأله عن شيء، فصدقه بما يقول; لم تقبل له صلاة أربعين يوما "1.


قوله: " فسأله; عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوما "2 ظاهر الحديث أن مجرد سؤاله يوجب عدم قبول صلاته أربعين يوما، ولكنه ليس على إطلاقه;

فسؤال العراف ونحوه ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: أن يسأله سؤالا مجردا; فهذا حرام لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أتى عرافا "؛ فإثبات العقوبة على سؤاله يدل على تحريمه; إذ لا عقوبة إلا على فعل محرم.
القسم الثاني: أن يسأله فيصدقه، ويعتبر قوله; فهذا كفر لأن تصديقه في علم الغيب تكذيب للقرآن، حيث قال تعالى:{ قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ } 3.

القسم الثالث: أن يسأله ليختبره: هل هو صادق أو كاذب، لا لأجل أن يأخذ بقوله; فهذا لا بأس به، ولا يدخل في الحديث. وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ابن صياد; فقال: " ماذا خبأت لك؟ قال: الدخ. فقال: اخسأ; فلن تعدو قدرك "4 فالنبي صلى الله عليه وسلم سأله عن شيء أضمره له; لأجل أن يختبره، فأخبره به.


ــ
1 أخرجه: مسلم في (السلام, باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان, 4/1751) دون قوله: "فصدقه". وقد أخرج هذه الزيادة الإمام أحمد في "مسنده" (4/68, 5/380).
2 أحمد (4/68 ,5/380).
3 سورة النمل آية : 65.

4 أخرجه: البخاري في (الجهاد, باب كيف يعرض الإسلام على الصبي, 2/374), ومسلم في (الفتن, باب ذكر ابن صياد, 4/2244); من حديث ابن عمر.

ج / 1 ص -534-

القسم الرابع: أن يسأله ليظهر عجزه وكذبه، فيمتحنه في أمور يتبين بها كذبه وعجزه، وهذا مطلوب، وقد يكون واجبا. وإبطال قول الكهنة لا شك أنه أمر مطلوب، وقد يكود واجبا، فصار السؤال هنا ليس على إطلاقه، بل يفصل فيه هذا التفصيل على حسب ما دلت عليه الأدلة الشرعية الأخرى.
وقد ذكر شيخ الإسلام أن الجن يخدمون الإنس في أمور، والكهان يستخدمون الجن ليأتوهم بخبر السماء، فيضيفون إليه من الكذب ما يضيفون، وخدمة الجن للإنس ليست محرمة على كل حال، بل هي على حسب الحال.
فالجني يخدم الإنس في أمور لمصلحة الإنس وقد يكون للجن فيها مصلحة، وقد لا يكون له فيها مصلحة، بل لأنه يحبه في الله ولله، ولا شك أن من الجن مؤمنين يحبون المؤمنين من الإنس; لأنه يجمعهم الإيمان بالله.


وقد يخدمونهم لطاعة الإنس لهم فيما لا يرضي الله عزوجل إما في الذبح لهم، أو في عبادتهم، أو ما أشبه ذلك.
والأغرب من ذلك أنهم ربما يخدمون الإنس لأمر محرم من زنا أو لواط; لأن الجنية قد تستمتع بالإنسي بالعشق والتلذذ بالاتصال به، أو بالعكس، وهذا أمر معلوم مشهود، حتى ربما كان الجني الذي في الإنسان ينطق بذلك، كما يعلم من الذين يقرؤون على المصابين بالجن.


والنبي صلى الله عليه وسلم حضر إليه الجن وخاطبهم، وأرشدهم، ووعدهم بعطاء لا نظير له; فقال لهم: " كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون

ج / 1 ص -535-


لحما، وكل بعرة، فهي علف لدوابكم "1، وذكر أن " في عهد عمررضي الله عنهامرأة لها رئي من الجن، وكانت توصيه بأشياء، حتى إنه تأخر عمر ذات يوم، فأتوا إليها، فقالوا: ابحثي لنا عنه. فذهب هذا الجني الذي فيها، وبحث وأخبرهم أنه في مكان كذا، وأنه يسم إبل الصدقة "2.
وقوله: "فصدقه": ليست في "صحيح مسلم"، بل الذي في "مسلم": " فسأله، عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة "3 وزيادتها في نقل المؤلف; إما لأن النسخة التي نقل منها بهذا اللفظ "فصدقه" أو أن المؤلف عزاه إلى "مسلم" باعتبار أصله، فأخذ من "مسلم": "فسأله"، وأخذ من أحمد: "فصدقه".


وقوله: " لم تقبل له صلاة أربعين ليلة " نفي القبول هنا هل يلزم منه نفي الصحة أو لا; نقول: نفي القبول إما أن يكون لفوات شرط، أو لوجود مانع; ففي هاتين الحالين يكون نفي القبول نفيا للصحة، كما لو قلت: من صلى بغير وضوء لم يقبل الله صلاته، ومن صلى في مكان مغصوب لم يقبل الله صلاته عند من يرى ذلك.


وإن كان نفي القبول لا يتعلق بفوات شرط ولا وجود مانع; فلا يلزم من نفي القبول نفي الصحة، وإنما يكون المراد بالقبول المنفي: إما نفي القبول التام; أي: لم تقبل على وجه التمام الذي يحصل به تمام الرضا وتمام المثوبة.



1 أخرجه: مسلم في (الصلاة, باب الجهر بالقراءة في الصبح, 1/332) من حديث ابن مسعود.
2 (2) "آكام المرجان في أحكام الجان" (ص 38).
3 مسلم : السلام (2230).

ج / 1 ص -536-

وإما أن يراد به أن هذه السيئة التي فعلها تقابل تلك الحسنة في الميزان، فتسقطها، ويكون وزرها موازيا لأجر تلك الحسنة، وإذا لم يكن له أجر صارت كأنها غير مقبولة، وإن كانت مجزئة ومبرئة للذمة، لكن الثواب الذي حصل بها قوبل بالسيئة فأسقطته.
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم " من شرب الخمر، لم تقبل له صلاة أربعين يوما "1.


وقوله: "أربعين يوما": تخصيص هذا العدد لا يمكننا أن نعلله; لأن الشيء المقدر بعدد لا يستطيع الإنسان غالبا أن يعرف حكمته، فكون الصلاة خمس صلوات أو خمسين لا نعلم لماذا خصصت بذلك; فهذا من الأمور التي يقصد بها التعبد لله، والتعبد لله بما لا تعرف حكمته أبلغ من التعبد له بما تعرف حكمته; لأنه أبلغ في التذلل، صحيح أن الإنسان إذا عرف الحكمة اطمأنت نفسه أكثر، لكن كون الإنسان ينقاد لما لا يعرف، حكمته دليل على كمال الانقياد والتعبد لله عزوجل فهو من حيث العبودية أبلغ وأكمل، أما ذاك; فهو من حيث الطمأنينة إلى الحكم يكون أبلغ; لأن النفس إذا علمت بالحكمة في شيء اطمأنت إليه بلا شك، وازدادت أخذا له وقبولا; فهناك أشياء مما عينه الشرع بعدد أو كيفية لا نعلم ما الحكمة فيه، ولكن سبيلنا أن نكون كما قال الله تعالى عن المؤمنين:{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ ـــ

1 أخرجه: أحمد (2/35), والترمذي في (كتاب الأشربة, باب ما جاء في شارب الخمر, 6/139) - وقال: "حديث حسن"-; من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وأخرج الإمام أحمد في "مسنده" (3/176, 189, 197), وابن ماجه في (كتاب الأشربة, بأب من شرب الخمر لم تقبل له صلاة, (2/1120) نحوه من حديث عبد الله بن عمرو وكذا أخرج أبو داود في (الأشربة, باب النهي عن المسكر, 4/76) نحوه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ج / 1 ص -537- وعن أبي هريرة (رضي الله عنه)، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أتى كاهنا، فصدقه بما يقول; فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم "2.


الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } 1. فعلينا التسليم والانقياد وتفويض الأمر إلى الله تعالى.
ويؤخذ من الحديث: تحريم إتيان العراف وسؤاله ; إلا ما استثني; كالقسم الثالث والرابع; لما في إتيانهم وسؤالهم من المفاسد العظيمة، التي ترتب على تشجيعهم وإغراء الناس بهم، وهم في الغالب يأتون بأشياء كلها باطلة.
قوله: " من أتى كاهنا " تقدم معنى الكهان، وأنهم كانوا رجالا في أحياء العرب تنزلق عليهم الشياطين، وتخبرهم بما سمعت من أخبار السماء.
قوله: "فصدقه": أي: نسبه إلى الصدق، وقال: إنه صادق، وتصديق الخبر يعني: تثبيته وتحقيقه، فقال: هذا حق وصحيح وثابت.
قوله: "بما يقول": "ما" عامة في كل ما يقول، حتى ما يحتمل أنه صدق; فإنه لا يجوز أن يصدقه; لأن الأصل فيهم الكذب.


قوله: " فقد كفر بما أنزل على محمد "3 أي: بالذي أنزل، والذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم القرآن أنزل إليه بواسطة جبريل، قال تعالى:{ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} 4 وقال تعالى:{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ } 5 وبهذا نعرف أن القول الراجح في الحديث القدسي أنه من كلام الله تعالى معنى، وأما لفظه; فمن الرسول صلى الله عليه وسلم لكنه حكاه عن الله; لأننا لو لم نقل بذلك لكان




1 سورة الأحزاب آية : 36.
2 الترمذي : الطهارة (135) , وأبو داود : الطب (3904) , وابن ماجه : الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/408 ,2/429 ,2/476) , والدارمي : الطهارة (1136).
3 أحمد (2/429).
4 سورة آية : 192-193.
5 سورة النحل آية : 102.

ج / 1 ص -538-


الحديث القدسي أرفع سندا من القرآن، حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه مباشرة والقرآن بواسطة جبريل.
ولأنه لو كان من كلام الله لفظا، لوجب أن تثبت له أحكام القرآن، لأن الشرع لا يفرق بين المتماثلين، وقد علم أن أحكام القرآن لا تنطبق على الحديث القدسي; فهو لا يتعبد بتلاوته، ولا يقرأ في الصلاة، ولا يعجز لفظه، ولو كان من كلام الله; لكان معجزا; لأن كلام الله لا يماثله كلام البشر، وأيضا باتفاق أهل العلم فيما أعلم أنه لو جاء مشرك يستجير ليسمع كلام الله وأسمعناه الأحاديث القدسية; فلا يصح أن يقال: إنه سمع كلام الله.
فدل هذا على أنه ليس من كلام الله، وهذا هو الصحيح، وللعلماء في ذلك قولان: هذا أحدهما، والثاني: أنه من قول الله لفظا.


فإن قال قائل: كيف تصححون هذا والنبي صلى الله عليه وسلم ينسب القول إلى الله، ويقول: قال الله تعالى، ومقول القول هو هذا الحديث المسوق؟ قلنا: هذا كما قال الله تعالى عن موسى وفرعون وإبراهيم: قال موسى، قال فرعون، قال إبراهيم... مع أننا نعلم أن هذا اللفظ ليس من كلامهم ولا قولهم; لأن لغتهم ليست اللغة العربية، وإنما نقل نقلا عنهم، ويدل لهذا أن القصص في القرآن تختلف بالطول والقصر والألفاظ، مما يدل على أن الله سبحانه ينقلها بالمعنى، ومع ذلك ينسبها إليهم، كما قال تعالى:{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي } 1 وقال عن موسى:{ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ } 2 وقال عن فرعون:{ قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} 3.



1 سورة آية : 26-27.
2 سورة الأعراف آية : 128.
3 سورة الشعراء آية : 34.

ج / 1 ص -539- رواه أبو داود1.
وللأربعة والحاكم - وقال: " صحيح على شرطهما"......


وقوله: " بما أنزل على محمد " ذكر أهل السنة أن كل كلمة وصف فيها القرآن بأنه منزل أو أنزل من الله; فهي دالة على علو الله - سبحانه وتعالى - بذاته، وعلى أن القرآن كلام الله; لأن النزول يكون من أعلى، والكلام لا يكون إلا من متكلم به.
وقوله: كفر بما أنزل على محمد : وجه ذلك: أن ما أنزل على محمد قال الله تعالى فيه:{ قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ } 2 وهذا من أقوى طرق الحصر; لأن فيه النفي والإثبات; فالذي يصدق الكاهن في علم الغيب وهو يعلم أنه لا يعلم الغيب إلا الله; فهو كافر كفرا أكبر مخرجا عن الملة، وإن كان جاهلا ولا يعتقد أن القرآن فيه كذب; فكفره كفر دون كفر.


قوله: "وللأربعة والحاكم": الأربعة هم: أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم ليس من أهل "السنن"، لكن له كتاب سمي "صحيح الحاكم".
قوله: "صحيح على شرطهما": أي: شرط البخاري ومسلم، لكن



1 أخرجه: أحمد (2/408, 476), والبخاري في "التاريخ الكبير" (3/16, 17), وأبو داود في (الطب, باب في الكاهن, 4/225), والترمذي في (الطهارة, باب في كراهية إتيان الحائض, 1/164), وقال: "لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم, عن أبي تميمة الهجيمي, عن أبي هريرة... وضعف محمد هذا الحديث من قبل إسناده". وأخرجه: ابن ماجه في (الطهارة, باب النهي عن إتيان الحائض, 1/209), والدارمي (1/ 259), وابن الجارود (207), والعقيلي (1/318), والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/44), والبيهقي في "السنن" (7/198), والحاكم (1/8) وصححه على شرط الشيخين. والحديث صححه الألباني في "الإرواء" (7/68).
2 سورة النمل آية : 65.

ج / 1 ص -540-


قوله "على شرطهما" هذا على ما يعتقد، وإلا; فقد يكون الأمر على خلاف ذلك.
ومعنى قوله: "على شرطهما"، أي: أن رجاله رجال "الصحيحين"، وأن ما اشترطه البخاري ومسلم موجود فيه. ونحن لا ننكر أن هناك أحاديث صحيحة لم يذكرها البخاري ومسلم; لأنهما لم يستوعبا الصحيح كله، وهذا أمر واقع، ولكن ينظر في قول من قال: إن هذا الحديث على شرطهما; فقد تكون فيه علة خفية خفيت على هذا القائل، ويكون البخاري ومسلم علماها وتركا الحديث من أجلها.


وقوله: "صحيح": يقولون: الحاكم ممن يتساهل بالتصحيح، ولهذا قالوا: لا عبرة بتصحيح الحاكم، ولا بتوثيق ابن حبان، ولا بوضع ابن الجوزي، ولا بإجماع ابن المنذر.
وهذا القول فيه مجازفة في الحقيقة; لأن كلمة (لا عبرة); أي: لا يلتفت إليه، والصواب أنه لا يؤخذ مقبولا في كل حال، مع أني تدبرت كلام ابن المنذر رحمه الله، ووجدت أنه دائما إذا نقل الإجماع يقول: إجماع من نحفظ قوله من أهل العلم، وهو بهذا قد احتفظ لنفسه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. ولكننا مع ذلك نقول: إذا كان الرجل ذا اطلاع واسع; فقد يكون هذا القول إجماعا، أما إذا كان هذا الرجل لا يعرف إلا ما حوله; فإن قوله هذا لا يكون إجماعا ولا يوثق به، ولا نحكم بأنه إجماع.
مثاله: فلو قال رجل: لم يدرس إلا المذهب الحنبلي في مسألة، وقال هذا إجماع من نحفظ قوله من أهل العلم; فإن قوله هذا لا يعتبر; لأنه لم يحفظ إلا قولا قليلا من أقوال أهل العلم.



ج / 1 ص -541- عن أبي هريرة: " من أتى عرافا أو كاهنا، فصدقه بما يقول; فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم "1.
ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفا2.


قوله: " من أتى عرافا أو كاهنا " "أو" يحتمل أن تكون للشك، ويحتمل أن تكون للتنويع; فالحديث الأول بلفظ عراف، والثاني بلفظ كاهن، والثالث جمع بينهما; فتكون "أو" للتنويع.
وجاء المؤلف بهذا الحديث مع أن الأول والثاني مغنيان عنه; لأن كثرة الأدلة مما يقوي المدلول، أرأيت لو أن رجلا أخبرك بخبر فوثقت به، ثم جاء آخر وأخبرك به ازددت توثقا وقوة، ولهذا فرق الشارع بين أن يأتي الإنسان بشاهد واحد أو شاهدين.


وظاهر صنيع المؤلف: أن حديث أبي هريرة: "من أتى عرافا أو كاهنا" أنه موقوف; لأنه قال عن أبي هريرة، لكنه لما قال في الذي بعده: "موقوفا" ترجح عندنا أن الحديث الذي قبله مرفوع.



1 أخرجه: الإمام (2/429)، والحاكم في "المستدرك" (1/8) – وصححه على شرطهما، والبيهقي (8/135).
وقال الشارح الشيخ سليمان في "تيسير العزيز الحميد" (ص409): "قال العراقي في "أماليه": حديث صحيح، وقال الذهبي: إسناده قوي، وعلى هذا فعزو المصنف إلى الأربعة ليس كذلك؛ فإنه لم يروه أحد منهم، وأظنه تبع في ذلك الحافظ، فإنه عزاه في "الفتح" إلى أصحاب السنن والحاكم؛ فوهم، ولعله أراد الذي قبله.


وانظر: "فتح الباري" (10/217)، "فيض القدير" (6/23).
2أخرجه الطبراني في "الكبير" (10005). والبزار; كما في "كشف الأستار عن زوائد البزار" (2/443).
قال المنذري في "الترغيب" (4/36): "رواه البزار وأبو يعلى بإسناد جيد موقوفا", وقال الهيثمي في "المجمع" (5/118): "ورجال "الكبير، والبزار ثقات", وقال الحافظ في "الفتح" (10/217): "إسناده جيد".

ج / 1 ص -542- وعن عمران بن حصين مرفوعا: " ليس منا من تطير أو تطير له،


قوله: "مرفوعا": أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: "ليس منا": تقدم الكلام على هذه الكلمة، وأنها لا تدل على خروج الفاعل من الإسلام، بل على حسب الحال.
قوله: "تطير": التطير: هو التشاؤم بالمرئي أو المسموع أو المعلوم أو غير ذلك، وأصله من الطير; لأن العرب كانوا يتشاءمون أو يتفاءلون بها، وقد سبق ذلك1.


ومنه ما يحصل لبعض الناس إذا شرع في عمل، ثم حصل له في أوله تعثر تركه وتشاءم; فهذا غير جائز، بل يعتمد على الله ويتوكل عليه، وما دمت أنك تعلم أن في هذا الأمر خيرا; فغامر فيه، ولا تشاءم; لأنك لم توفق فيه لأول مرة; فكم من إنسان لم يوفق في العمل أول مرة، ثم وفق في ثاني مرة أو ثالث مرة؟!
ويقال: إن الكسائي - إمام النحو - طلب النحو عدة مرات، ولكنه لم يوفق، فرأى نملة تحمل نواة تمر، فتصعد بها إلى الجدار، فتسقط، حتى كررت ذلك عدة مرات، ثم صعدت بها إلى الجدار وتجاوزته; فقال: سبحان الله! هذه النملة تكابد هذه النواة حتى نجحت، إذن أنا سأكابد علم النحو حتى أنجح. فكابد; فصار إمام أهل الكوفة في النحو.


قوله: "أو تطير له": بالبناء للمفعول; أي: أمر من يتطير له، مثل أن يأتي شخص، ويقول: سأسافر إلى المكان الفلاني، وأنت صاحب طير، وأريد أن تزجر طيرك لأنظر: هل هذه الوجهة مباركة أم لا، فمن فعل ذلك; فقد تبرأ منه الرسول صلى الله عليه وسلم
وقوله: "من تطير" يشمل من تطير لنفسه، أو تطير لغيره.



1ص 515).


ج / 1 ص -543- أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهنا،


قوله: " أو تكهن أو تكهن له " سبق أن الكهانة ادعاء علم الغيب في المستقبل1 يقول: سيكون كذا وكذا، وربما يقع; فهذا متكهن، ومن الغريب أنه شاع الآن في أسلوب الناس قولهم: تكهن بأن فلانا سيأتي، ويطلقون هذا اللفظ الدال على عمل محرم على أمر مباح، وهذا لا ينبغي; لأن العامي الذي لا يفرق بين الأمور يظن أن الكهانة كلها مباحة، بدليل إطلاق هذا اللفظ على شيء مباح معلوم إباحته.
قوله: " أو تكهن له " أي: طلب من الكاهن أن يتكهن له، كأن يقول للكاهن: ماذا يصيبني غدا، أو في الشهر الفلاني، أو في السنة الفلانية، وهذا تبرأ منه الرسول صلى الله عليه وسلم
قوله: " أو سحر أو سحر له " تقدم تعريف السحر، وتقدم بيان أقسامه2.
قوله: " أو سحر له ": أي: طلب من الساحر أن يسحر له، ومنه النشرة عن طريق السحر; فهي داخلة فيه، وكانوا يستعملونها على وجوه متنوعة، منها أنهم يأتون بطست فيه ماء، ويصبون فيه رصاصا، فيتكون هذا الرصاص بوجه الساحر; أي: تكون صورة الساحر في هذا الرصاص، ويسمونها العامة عندنا "صب الرصاص"، وهذا من أنواع السحر المحرم، وقد تبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من فاعله3.

الشاهد من هذا الحديث: قوله: " ومن أتى كاهنا "4 إلخ.




1(ص 531).
2(ص 489).
3سبق (ص 542).
4 أحمد (2/429).

ج / 1 ص -544- فصدقه بما يقول; فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " رواه البزار بإسناد جيد1.
ورواه الطبراني في " الأوسط " بإسناد حسن من حديث ابن عباس; دون قوله: " ومن أتى..." إلى آخره2.
قال البغوي: " العراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات



وقوله: "ورواه الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن من حديث ابن عباس..." إلخ; فيكون هذا مقويا للأول.
· قوله: "قال البغوي: العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات...": العراف: صيغة مبالغة فإما أن يراد بها الصيغة، وإما أن يراد بها النسبة. وهو الذي يدعي معرفة الأشياء، وليس كل من يدعي معرفة يكون عرافا، لكن من يدعي معرفة تتعلق بعلم الغيب، فيدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على مكان المسروق والضالة ونحوها.
وظاهر كلام البغوي رحمه الله: أنه شامل لمن ادعى معرفة المستقبل والماضي; لأن مكان المسروق يعلم بعد السرقة، وكذلك الضالة قد حصل الضياع، ولكن المسألة ليست اتفاقية بين أهل العلم، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وقيل: هو"; أي: العراف الكاهن. والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.




1 أخرجه البزار; كما في "الترغيب" (4/33), و "مجمع الزوائد" للهيثمي (5/117). وقال المنذري: "إسناده جيد", وقال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح; خلا إسحاق بن الربيع, وهو ثقة".
2قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/117): "رواه البزار والطبراني في "الأوسط", وفيه زمعة بن صالح, وهو ضعيف". وقال المنذري في "الترغيب" (4/33): "إسناده حسن".

ج / 1 ص -545- يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك". وقيل: هو الكاهن. والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.
وقال أبو العباس ابن تيمية: العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق".



قوله: "وقيل: هو الذي يخبر عما في الضمير": أي: أن تضمر شيئا فتقول: ما أضمرت؟ فيقول: أضمرت كذا وكذا. أو المغيبات في المستقبل، تقول: ماذا سيحدث في الشهر الفلاني في اليوم الفلاني؟ ماذا ستلد امرأتي; متى يقدم ولدي؟ وهو لا يدري.
والخلاصة: أن العلماء اختلفوا في تعريف العراف، فقيل:
هو الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على مكان المسروق والضالة ونحوها; فيكون شاملا لمن يخبر عن أمور وقعت. وقيل: الذي يخبر عما في الضمير. وقيل: هو الكاهن، والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.


قوله: "وقال أبو العباس ابن تيمية": هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، يكنى بأبي العباس، ولم يتزوج، ولم يتركه من باب الرهبانية، ولكنه والله أعلم كان مشغولا بالجهاد العلمي مع قلة الشهوة، وإلا لو كان قوي الشهوة لتزوج، وليس كما يدعي المزورون أن له ولدا مدفونا إلى جانبه في دمشق; فإنه غير صحيح قطعا.

ج / 1 ص -546-


وظاهر كلام الشيخ: أن شيخ الإسلام جزم بهذا، ولكن شيخ الإسلام قال: وقيل العراف، وذكره بقيل، ومعلوم أن ما في ذكر بقيل ليس مما يجزم بأن الناقل يقول به، صحيح أنه إذا نقله ولم ينقضه; فهذا دليل على أنه ارتضاه.
وعلى كل حال; فشيخ الإسلام ساق هذا القول وارتضاه، ثم قال: ولو قيل: إنه اسم خاص لبعض هؤلاء الرمال والمنجم ونحوهم; فإنهم يدخلون فيه بالعموم المعنوي; لأن عندنا عموما معنويا، وهو ما ثبت عن طريق القياس، وعموما لفظيا، وهو ما دل عليه اللفظ، بحيث يكون اللفظ شاملا له. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن استخدام الإنس للجن له ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن يستخدمهم في طاعة الله، كأن يكون له نائبا في تبليغ الشرع; فمثلا: إذا كان له صاحب من الجن مؤمن يأخذ عنه العلم، ويتلقى منه، وهذا شيء ثبت أن الجن قد يتعلمون من الإنس، فيستخدمه في تبليغ الشرع لنظرائه من الجن، أو في المعونة على أمور مطلوبة شرعا; فهذا لا بأس به، بل إنه قد يكون أمرا محمودا أو مطلوبا، وهو من الدعوة إلى الله عزوجل والجن حضروا النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن، وولوا إلى قومهم منذرين1 والجن فيهم الصلحاء والعباد والزهاد والعلماء; لأن المنذر لا بد أن يكون عالما بما ينذر، عابدا مطيعا لله- سبحانه - في الإنذار.


الحال الثانية: أن يستخدمهم في أمور مباحة، مثل أن يطلب منهم العون على أمر من الأمور المباحة، قال: فهذا جائز بشرط أن تكون



1 كما في قوله تعالى: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن [الأحقاف: 29].

ج / 1 ص -547- وقال ابن عباس في قوم يكتبون (أبا جاد) وينظرون في النجوم:....

الوسيلة مباحة، فإن كانت محرمة; صار حراما، كما لو كان الجني لا يساعده في أموره إلا إذا ذبح له أو سجد له أو ما أشبه ذلك. ثم ذكر ما ورد " أن عمر تأخر ذات مرة في سفره، فاشتغل فكر أبي موسى، فقالوا له: إن امرأة من أهل المدينة لها صاحب من الجن، فلو أمرتها أن ترسل صاحبها للبحث عن عمر، ففعل، فذهب الجني، ثم رجع، فقال: إن أمير المؤمنين ليس به بأس، وهو يسم إبل الصدقة في المكان الفلاني "1 فهذا استخدام في أمر مباح.


الحال الثالثة: أن يستخدمهم في أمور محرمة; كنهب أموال الناس وترويعهم، وما أشبه ذلك، فهذا محرم، ثم إن كانت الوسيلة شركا صار شركا، وإن كانت وسيلته غير شرك صار معصية، كما لو كان هذا الجني الفاسق يألف هذا الإنسي الفاسق ويتعاون معه على الإثم والعدوان; فهذا يكون إثما وعدوانا، ولا يصل إلى حد الشرك.


ثم قال: إن من يسأل الجن، أو يسأل من يسأل الجن، ويصدقهم في كل ما يقولون ; فهذا معصية وكفر، والطريق للحفظ من الجن هو قراءة آية الكرسي، فمن قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم2 وهي:{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } 3 الآية.
قوله: "يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم": الواو هنا ليست



1 سبق (ص 535).
2 أخرجه: البخاري معلقا بصيغة الجزم في (الوكالة, باب إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئا فأجازه الموكل, 4/149).
3 سورة البقرة آية : 255.

ج / 1 ص -548- " ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق "1.


عطفا، ولكنها للحال، يعني: والحال أنهم ينظرون، فيربطون ما يكتبون بسير النجوم وحركتها.
قوله: "ما أرى من فعل ذلك": ويجوز بفتح الهمزة بمعنى: أعلم، وبالضم بمعنى: ما أظن.
وقوله: "أبا جاد": هي: أَبَجَدْ هَوَزْ حِطِّيْ كَلَمَنء سَعَفَصْ قَرَشَتْ ثَخِذْ ضَظِغٌ...

وتعلم أباجاد ينقسم إلى قسمين:
الأول: تعلم مباح بأن نتعلمها لحساب الجمل، وما أشبه ذلك; فهذا لا بأس به، وما زال أناس يستعملونها، حتى العلماء يؤرخون بها، قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تاريخ بناء المسجد الجامع القديم:

جد بالرضا أَعْطِ المنى من ساعدوا في ذا البنا
تاريخه حين انتهى قول المنيب اغفر لنا
والشهر في شوال يا رب تقبل سعينا
فقوله: "اغفر لنا" لو عددناها حسب الجمل صارت 1362 هـ.
وقد اعتنى بها العلماء في العصور الوسطى، حتى في القصائد الفقهية والنحوية وغيرها. ويؤرخون بها مواليد العلماء ووفياتهم، ولم يرد ابن عباس هذا القسم.
الثاني: محرم، وهو كتابة "أبا جاد" كتابة مربوطة بسير النجوم



1 أخرجه: عبد الرزاق في "المصنف" (11/26), والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/139).

ج / 1 ص -549-


وحركتها وطلوعها وغروبها، وينظرون في النجوم ليستدلوا بالموافقة أو المخالفة على ما سيحدث في الأرض، إما على سبيل العموم; كالجذب والمرض والحرب وما أشبه ذلك، أو على سبيل الخصوص; كأن يقول لشخص: سيحدث لك مرض أو فقر أو سعادة أو نحس في هذا وما أشبه ذلك; فهم يربطون هذه بهذه، وليس هناك علاقة بين حركات النجوم واختلاف الوقائع في الأرض.
وقوله: " ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق ".
قوله: "خلاق": أي: نصيب.
ظاهر كلام ابن عباس أنه يرى كفرهم; لأن الذي ليس له نصيب عند الله هو الكافر; إذ لا ينفى النصيب مطلقا عن أحد من المؤمنين، وإن كان له ذنوب عذب بقدر ذنوبه، أو تجاوز الله عنها، ثم صار آخر آمره إلى نصيبه الذي يجده عند الله.


ولم يبين المؤلف رحمه الله حكم الكاهن والمنجم والرمال من حيث العقوبة في الدنيا، وذلك أننا إن حكمنا بكفرهم، فحكمهم في الدنيا أنهم يستتابون، فإن تابوا، وإلا; قتلوا كفارا.
وإن حكمنا بعدم كفرهم; إما لكون السحر لا يصل إلى الكفر، أو قلنا: إنهم لا يكفرون; لأن المسألة فيها خلاف; فإنه يجب قتلهم لدفع مفسدتهم ومضرتهم، حتى وإن قلنا بعدم كفرهم; لأن أسباب القتل ليست مختصة بالكفر فقط، بل للقتل أسباب متعددة ومتنوعة، قال تعالى:{ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ } 1 ;



1 سورة المائدة آية : 33.

ج / 1 ص -550-

فكل من أفسد على الناس أمور دينهم أو دنياهم; فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا; قتل، ولا سيما إذا كانت هذه الأمور تصل إلى الإخراج من الإسلام.


والنظر في النجوم ينقسم إلى أقسام:
الأول: أن يستدل بحركاتها وسيرها على الحوادث الأرضية، سواء كانت عامة أو خاصة; فهو شرك إن اعتقد أن هذه النجوم هي المدبرة الأمور، أو أن لها شركا; فهو كفر مخرج عن الملة، وإن اعتقد أنها سبب فقط; فكفره غير مخرج عن الملة، ولكن يسمى كفرا; لقول النبي صلى الله عليه وسلم على إثر سماء كانت من الليل: " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، أما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته; فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا; فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ".
وقد سبق لنا أن هذا الكفر ينقسم إلى قسمين بحسب اعتقاد قائله1.

الثاني: أن يتعلم علم النجوم ليستدل بحركاتها وسيرها على الفصول وأوقات البذر والحصاد والغرس وما أشبهه; فهذا من الأمور المباحة; لأنه يستعان بذلك على أمور دنيوية.

القسم الثالث: أن يتعلمها لمعرفة أوقات الصلوات وجهات القبلة، وما أشبه ذلك من الأمور المشروعة; فالتعلم هنا مشروع، وقد يكون فرض كفاية أو فرض عين.



1ص 519).



ج / 1 ص -551- فيه مسائل:
الأولى:
لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن.
الثانية: التصريح بأنه كفر.
الثالثة: ذكر من تكهن له.
الرابعة: ذكر من تطير له.
الخامسة: ذكر من سحر له.


فيه مسائل:
الأولى: لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن: يؤخذ من قوله: صلى الله عليه وسلم " من أتى كاهنا، فصدقه بما يقول; فقد كفر بما أنزل على محمد "1 ووجهه:أنه كذب بالقرآن، وهذا من أعظم الكفر.
الثانية: التصريح بأنه كفر: تؤخذ من قوله: " فقد كفر بما أنزل على محمد ".
الثالثة: ذكر من تكهن له: تؤخذ من حديث عمران بن حصين; حيث قال: "ليس منا"; أي: إنه كالكاهن في براءة النبي صلى الله عليه وسلم منه.
الرابعة: ذكر من تطير له: تؤخذ من قوله: "أو تطير له".
الخامسة: ذكر من سحر له: تؤخذ من قوله: "أو سحر له".
وأتى المؤلف بذكر من تكهن له، أو سحر له، أو تطير له; لأنه قد يعارض فيه معارض، فيقول هذا في الكهان، وهذا في المتطيرين، وهذا في السحرة; فقال: إن من طلب أن يفعل له ذلك; فهو مثلهم في العقوبة.



1 الترمذي : الطهارة (135) , وأبو داود : الطب (3904) , وابن ماجه : الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/408 ,2/429 ,2/476) , والدارمي : الطهارة (1136).

ج / 1 ص -552- السادسة: ذكر من تعلم أباجاد.
السابعة: ذكر الفرق بين الكاهن والعراف.


السادسة: ذكر من تعلم أبا جاد: وتعلم ذلك فيه تفصيل لا يحمد ولا يذم; إلا على حسب الحال التي تنزل عليها، وقد سبق ذلك1.
السابعة: ذكر الفرق بين الكاهن والعراف :

وفي هذه المسألة خلاف بين أهل العلم:
القول الأول: أن العراف هو الكاهن والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل; فهما مترادفان; فلا فرق بينهما.
القول الثاني: أن العراف هو الذي يستدل على معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحوها; فهو أعم من الكاهن، لأنه يشمل الكاهن وغيره، فهما من باب العام والخاص.
القول الثالث: أن العراف هو الذي يخبر عما في الضمير، والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.

فالعراف هو الكاهن أو أنه أعم منه، أو أن العراف يختص بالماضي، والكاهن بالمستقبل; فهما متباينان، والظاهر أنهما متباينان; فالكاهن من يخبر عن المغيبات في المستقبل [والعراف من يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك] غير واضح لأنهما لو كانا متباينين لقلنا: والعراف هو الذي يخبر عما في الضمير أو أن يكونا من باب العام والخاص فيقال في العراف ما هو مطبوع هنا بين القوسين.


1ص 548).




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 31-01-2015 10:41AM

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب ما جاء في النشرة

ج / 1 ص -553- باب ما جاء في النشرة

عن جابر; " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة; فقال: هي


تعريف النشرة:
في اللغة; بضم النون: فعلة من النشر، وهو التفريق.
وفي الاصطلاح: حل السحر عن المسحور.


لأن هذا الذي يحل السحر عن المسحور: يرفعه، ويزيله، ويفرقه.
أما حكمها; فهو يتبين مما قاله المؤلف رحمه الله، وهو من أحسن البيانات.
ولا ريب أن حل السحر عن المسحور من باب الدواء والمعالجة، وفيه فضل كبير لمن ابتغى به وجه الله، لكن في القسم المباح منها. لأن السحر له تأثير على بدن المسحور وعقله ونفسه وضيق الصدر، حيث لا يأنس إلا بمن استعطف عليه. وأحيانا يكون أمراضا نفسية بالعكس، تنفر هذا المسحور عمن تنفره عنه من الناس، وأحيانا يكون أمراضا عقلية; فالسحر له تأثير إما على البدن، أو العقل، أو النفس.


قوله: "عن النشرة": أل للعهد الذهني; أي: المعروفة في الجاهلية التي كانوا يستعملونها في الجاهلية، وذلك طريق من طرق حل السحر، وهي على نوعين:

ج / 1 ص -554- من عمل الشيطان " رواه أحمد بسند جيد، وأبو داود1 وقال:


الأول: أن تكون باستخدام الشياطين، فإن كان لا يصل إلى حاجته منهم إلا بالشرك; كانت شركا، وإن كان يتوصل لذلك بمعصية دون الشرك; كان لها حكم تلك المعصية.
الثاني: أن تكون بالسحر; كالأدوية والرقى والعقد والنقث وما أشبه ذلك; فهذا له حكم السحر على ما سبق.
ومن ذلك ما يفعله بعض الناس، أنهم يضعون فوق رأس المسحور طستا فيه ماء ويصبون عليه رصاصا ويزعمون أن الساحر يظهر وجهه في هذا الرصاص; فيستدل بذلك على من سحره، وقد سئل الإمام أحمد عن النشرة، فقال: إن بعض الناس أجازها، فقيل له: إنهم يجعلون ماء في طست، وإنه يغوص فيه، وإنه يبدو وجهه، فنفض يده وقال: ما أدري ما هذا؟ ما أدري ما هذا؟ فكأنه رحمه الله توقف في الأمر وكره الخوض فيه.


قوله: "من عمل الشيطان": أي: من العمل الذي يأمر به الشيطان ويوحي به; لأن الشيطان يأمر بالفحشاء ويوحي إلى أوليائه بالمنكر، وهذا يغني عن قوله: إنها حرام، بل هو أشد; لأن نسبتها للشيطان أبلغ في تقبيحها والتنفير منها، ودلالة النصوص على التحريم لا تنحصر في لفظ التحريم أو نفي الجواز، بل إذا رتبت العقوبات على الفعل كان دليلا على تحريمه.
قوله: "رواه أحمد بسند جيد وأبو داود": سند أبي داود إلى أحمد متصل; لأنه قد حدثه وأدركه.



1 أخرجه: الإمام أحمد (3/294), وأبو داود في (الطب, باب في النشرة, 4/201)- وسكت عنه-. وحسنه الحافظ في "الفتح" (10/233). وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/102): "رواه البزار والطبراني في "الأوسط "; إلا أنه قال: "ذكروا أنهما من عمل الشيطان", ورجال البزار رجال الصحيح".

ج / 1 ص -555- " سئل أحمد عنها; فقال: ابن مسعود يكره هذا كله".
وفي " البخاري " عن " قتادة: قلت لابن المسيب: رجل به طب.......


قوله: "فقال: ابن مسعود يكره هذا كله": أجاب رحمه الله بقول الصحابي، وكأنه ليس عنده أثر صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وإلا لاستدل به.
والمشار إليه في قوله: "يكره هذا كله" كل أنواع النشرة، وظاهره: ولو كانت على الوجه المباح على ما يأتي، لكنه غير مراد; لأن النشرة بالقرآن والتعوذات المشروعة لم يقل أحد بكراهته، وسبق أن ابن مسعودرضي الله عنهكان يكره تعليق التمائم من القرآن وغير القرآن.
وعلى هذا; فالكلية في قول أحمد: "يكره هذا كله" يراد بها النشرة التي من عمل الشيطان، وهي النشرة بالسحر والنشرة التي من التمائم.


وقوله: "يكره": الكراهة عند المتقدمين يراد بها التحريم غالبا، ولا تخرج عنه إلا بقرينة، وعند المتأخرين خلاف الأولى; فلا تظن أن لفظ المكروه في عرف المتقدمين أو كلامهم مثله في كلام المتأخرين، بل هو يختلف، انظر إلى قوله تعالى:{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } 1 إلى أن قال بعد أن ذكر أشياء محرمة:{ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} 2 ولا شك أن المراد بالكراهة هنا التحريم.
قوله: "رجل به طب": أي: سحر، ومن المعلوم أن الطب هو



1 سورة الإسراء آية : 23.
2 سورة الإسراء آية : 38.

ج / 1 ص -556- أو يؤخذ عن امرأته; أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به; إنما يريدون به الإصلاح،.......


علاج المرض، لكن سمي السحر طبا من باب التفاؤل، كما سمي اللديغ سليما والكسير جبيرا.
قوله: "أو يؤخذ عن امرأته": أي: يحبس عن زوجته; فلا يتمكن من جماعها، وهو ليس به بأس، وهذا نوع من السحر.
والعجيب أنه مشتهر عند الناس أنه إذا كان عند العقد، وعقد أحد عقدة عند العقد; فإنه يحصل حبسه عن امرأته، وبالغ بعضهم; فقال: إذا شبك أحدهم بين أصابعه عند العقد حبس الزوج عن أهله، وهذا لا أعرف له أصلا. ولكن كثيرا ما يقع حبس الزوج عن زوجه ويطلبون العلاج.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن من العلاج أن يطلقها، ثم يراجعها; فينفك السحر. لكن لا أدري هل هذا يصح أم لا؟ فإذا صح; فالطلاق هنا جائز; لأنه طلاق للاستبقاء، فيطلق كعلاج، ونحن لا نفتي بشيء من هذا، بل نقول: لا نعرف عنه شيئا.


و "أو" في قوله: "أو يؤخذ" يحتمل أنها للشك من الراوي: هل قال قتادة "به طب" أو قال: "يؤخذ عن امرأته"; أي: أو قلت: يؤخذ، ويحتمل أن تكون للتنويع، أي أنه سأله عن أمرين: عن المسحور، وعن الذي يؤخذ عن امرأته.
قوله: "أيحل عنه أو ينشر": لا شك أن "أو" هنا للشك; لأن الحل هو النشرة.
قوله: "لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح": كأن ابن المسيب رحمه الله قسم السحر إلى قسمين: ضار، ونافع.



ج / 1 ص -557- فأما ما ينفع; فلم ينه عنه "1.
وروي عن الحسن، أنه قال: " لا يحل السحر إلا ساحر ".
قال ابن القيم: " النشرة: حل السحر عن المسحور، وهي نوعان:
أحدهما: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان،


فالضار محرم، قال تعالى:{ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ } 2 والنافع لا بأس به، وهذا ظاهر ما روي عنه، وبهذا أخذ أصحابنا الفقهاء، فقالوا: يجوز حل السحر بالسحر للضرورة، وقال بعض أهل العلم: إنه لا يجوز حل السحر بالسحر، وحملوا ما روي عن ابن المسيب بأن المراد به ما لا يعلم عن حاله: هل هو سحر، أم غير سحر؟ أما إذا علم أنه سحر; فلا يحل، والله أعلم. ولكن على كل حال حتى ولو كان ابن المسيب ومن فوق ابن المسيب ممن ليس قوله حجة يرى أنه جائز; فلا يلزم من ذلك أن يكون جائزا في حكم الله حتى يعرض على الكتاب والسنة، وقد " سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن النشرة؟ فقال: هي من عمل الشيطان "34.
قوله: "وروي عن الحسن: " لا يحل السحر إلا ساحر ".


هذا الأثر إن صح; فمراد الحسن الحل المعروف غالبا، وأنه لا يقع إلا من السحرة.
قوله: "قال ابن القيم: النشرة حل السحر عن المسحور... " إلخ. هذا الكلام جيد ولا مزيد عليه.



1 أخرجه: البخاري معلقا بصيغة الجزم في (الطب, باب هل يستخرج السحر, 4/48). وانظر: "فتح الباري" (10/232).
2 سورة البقرة آية : 102.
3 أبو داود : الطب (3868) , وأحمد (3/294).
4 سبق (554).

ج / 1 ص -558- وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب فيبطل عمله عن المسحور.
والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة; فهذا جائز".


فيه مسائل:

الأولى:
النهي عن النشرة.
الثانية: الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه مما يزيل الإشكال.



فيه مسائل:
الأولى:
النهي عن النشرة: تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم " هي من عمل الشيطان "1 وهنا ليس فيه صيغة نهي، لكن فيه ما يدل على النهي; لأن طرق إثبات النهي ليست الصيغة فقط، بل ذم فاعله ونحوه، وتقبيح الشيء وما أشبه ذلك يدل على النهي.

الثانية: الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه: تؤخذ من كلام ابن القيم رحمه الله وتفصيله.
إشكال وجوابه: ما الجمع بين قول الفقهاء رحمهم الله يجوز حل السحر بالسحر وبين قولهم يجب قتل الساحر؟ الجمع أن مرادهم بقتل الساحر من يضر بسحره دون من ينفع; فلا يقتل، أو أن مرادهم بيان حكم حل السحر بالسحر للضرورة، وأما الإبقاء على الساحر; فله نظر آخر، والله أعلم.



1 أبو داود : الطب (3868) , وأحمد (3/294).




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




ام عادل السلفية 31-01-2015 10:52AM

بسم الله الرحمن الرحيم



القول المفيد على كتاب التوحيد

باب ما جاء في التطير

ج / 1 ص -559- باب ما جاء في التطير


تعريف التطير:
في اللغة:
مصدر تطير، وأصله مأخوذ من الطير; لأن العرب يتشاءمون أو يتفاءلون بالطيور على الطريقة المعروفة عندهم بزجر الطير، ثم ينظر: هل يذهب يمينا أو شمالا أو ما أشبه ذلك، فإن ذهب إلى الجهة التي فيها التيامن; أقدم، أو فيها التشاؤم; أحجم.
أما في الاصطلاح; فهي التشاؤم بمرئي أو مسموع، وهذا من الأمور النادرة; لأن الغالب أن اللغة أوسع من الاصطلاح; لأن الاصطلاح يدخل على الألفاظ قيودا تخصها، مثل الصلاة لغة: الدعاء، وفي الاصطلاح أخص من الدعاء، وكذلك الزكاة وغيرها.

وإن شئت; فقل: التطير: هو التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم.
بمرئي مثل: لو رأى طيرا فتشاءم لكونه موحشا.
أو مسموع مثل: من هم بأمر فسمع أحدا يقول لآخر: يا خسران، أو يا خائب; فيتشاءم.
أو معلوم; كالتشاؤم ببعض الأيام أو بعض الشهور أو بعض السنوات; فهذه لا ترى ولا تسمع.
واعلم أن التطير ينافي التوحيد، ووجه منافاته له من وجهين:

ج / 1 ص -560- وقول الله تعالى:{ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1.


الأول: أن المتطير قطع توكله على الله واعتمد على غير الله.
الثاني: أنه تعلق بأمر لا حقيقة له، بل هو وهم وتخييل; فأي رابطة بين هذا الأمر، وبين ما يحصل له، وهذا لا شك أنه يخل بالتوحيد; لأن التوحيد عبادة واستعانة، قال تعالى:{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 2 وقال تعالى:{ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } 3.
فالطيرة محرمة، وهي منافية للتوحيد كما سبق، والمتطير لا يخلو من حالين:
الأول: أن يحجم ويستجيب لهذه الطيرة ويدع العمل، وهذا من أعظم التطير والتشاؤم.


الثاني: أن يمضي لكن في قلق وهم وغم يخشى من تأثير هذا المتطير به، وهذا أهون.
وكلا الأمرين نقص في التوحيد وضرر على العبيد، بل انطلق إلى ما تريد بانشراح صدر وتيسير واعتماد على الله عزوجل ولا تسئ الظن بالله عزوجل
وقد ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب آيتين:
الآية الأولى قوله تعالى:{ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ } 4 هذه الآية نزلت في قوم موسى كما حكى الله عنهم في قوله:{ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ }قال الله تعالى:{ أَلا إِنَّمَا




1 سورة الأعراف آية : 131.
2 سورة الفاتحة آية : 5.
3 سورة هود آية : 123.
4 سورة الأعراف آية : 131.

ج / 1 ص -561- وقوله:{ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } 1.


طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } ، ومعنى:{ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ }، أنه إذا جاءهم البلاء والجدب والقحط قالوا: هذا من موسى وأصحابه; فأبطل الله هذه العقيدة بقوله:{ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ }
قوله:{ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ }، (ألا): أداة استفتاح تفيد التنبيه والتوكيد، و (إنما): أداة حصر.


وقوله:{ طَائِرُهُمْ } مبتدأ، و{ عِنْدَ اللَّهِ } خبر، والمعنى: أنما يصيبهم من الجدب والقحط ليس من موسى وقومه، ولكنه من الله; فهو الذي قدره ولا علاقة لموسى وقومه به، بل إن الأمر يقتضي أن موسى وقومه سبب للبركة والخير، ولكن هؤلاء - والعياذ بالله - يلبسون على العوام ويوهمون الناس خلاف الواقع.


قوله:{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 2 فهم في جهل; فلا يعلمون أن هناك إلها مدبرا، وأن ما أصابهم من الله وليس من موسى وقومه.
الآية الثانية قوله تعالى: :{ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } 3 أي: قال الذين أرسلوا إلى القرية في قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ } 4 الآيات.
فقالوا ذلك ردا على قول أهل القرية:{ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } 5 ; أي: تشاءمنا بكم، وإننا لا نرى أنكم تدلوننا على الخير، بل على الشر وما فيه هلاكنا; فأجابهم الرسل بقولهم:{ طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } 6 أي: مصاحب لكم، فما يحصل لكم; فإنه منكم ومن أعمالكم، فأنتم السبب في ذلك.



1 سورة يس آية : 19.
2 سورة الأنعام آية : 37.
3 سورة يس آية : 19.
4 سورة يس آية : 13.
5 سورة يس آية : 18.
6 سورة يس آية : 19.

ج / 1 ص -562- عن أبي هريرةرضي الله عنه" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا عدوى.......


ولا منافاة بين هذه الآية والتي ذكرها المؤلف قبلها; لأن الأولى تدل على أن المقدر لهذا الشيء هو الله، والثانية تبين سببه، وهو أنه منهم، فهم في الحقيقة طائرهم معهم (أي الشؤم) الحاصل عليهم معهم ملازم لهم; لأن أعمالهم تستلزمه; كما قال تعالى:{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } 1 وقال تعالى:{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 2.
ويستفاد من الآيتين المذكورتين في الباب: أن التطير كان معروفا من قبل العرب وفي غير العرب; لأن الأولى في فرعون وقومه، والثانية في أصحاب القرية.


وقوله:{ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} 3 ينبغي أن تقف على قوله: (ذكرتم) لأنها جملة شرطية، وجواب الشرط محذوف تقديره: أإن ذكرتم تطيرتم، وعلى هذا; فلا تصلها بما بعدها.
وقوله:{ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} 4 (بل) هنا للإضراب الإبطالي; أي: ما أصابكم ليس منهم، بل هو من إسرافكم.
وقوله: أي: متجاوزون للحد الذي يجب أن تكونوا عليه.


قوله: صلى الله عليه وسلم " لا عدوى "5 لا نافية للجنس، ونفي الجنس أعم من نفي الواحد والاثنين والثلاثة; لأنه نفي للجنس كله، فنفى الرسول صلى الله عليه وسلم العدوى كلها.



1 سورة الروم آية : 41.
2 سورة الأعراف آية : 96.
3 سورة آية : 19.
4 سورة يس آية : 19.
5 البخاري : الطب (5757) , ومسلم : السلام (2220) , وأبو داود : الطب (3911) , وأحمد (2/267 ,2/397 ,2/434).

ج / 1 ص -563- ولا طيرة، ولا هامة،.....


والعدوى: انتقال المرض من المريض إلى الصحيح، وكما يكون في الأمراض الحسية يكون أيضا في الأمراض المعنوية الخلقية، ولهذا أخبر صلى الله عليه وسلم أن جليس السوء كنافخ الكير; إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة كريهة1.
فقوله: " لا عدوى "2 يشمل الحسية والمعنوية، وإن كانت في الحسية أظهر.
قوله: " ولا طيرة " اسم مصدر تطير; لأن المصدر منه تطير، مثل الخيرة اسم مصدر اختار، قال تعالى:{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } 3 أي: الاختيار، أي أن يختاروا خلاف ما قضى الله ورسوله من الأمر.


واسم المصدر يوافق المصدر في المعنى، ولذلك تقول كلمته كلاما بمعنى كلمته تكليما، وسلمت عليه سلاما بمعنى سلمت عليه تسليما. لكن لما كان يخالف المصدر في البناء سموه اسم مصدر، والطيرة تقدم أنها هي التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم4.


قوله: "ولا هامة": الهامة; بتخفيف الميم فسرت بتفسيرين:
الأول: أنها طير معروف يشبه البومة، أو هي البومة، تزعم العرب أنه إذا قتل القتيل; صارت عظامه هامة تطير وتصرخ حتى يؤخذ بثأره، وربما اعتقد بعضهم أنها روحه.



1 أخرجه: البخاري في (الذبائح, باب المسك, 5534), ومسلم في (البر والصلة, باب استحباب مجالسة الصالحين, 2628); عن أبي موسى رضي الله عنه.
2 البخاري : الطب (5757) , ومسلم : السلام (2220) , وأبو داود : الطب (3911) , وأحمد (2/267 ,2/397 ,2/434).
3 سورة الأحزاب آية : 36.
4 ص 559).

ج / 1 ص -564- ولا صفر "1 أخرجاه2 وزاد مسلم:.....


التفسير الثاني: أن بعض العرب يقولون: الهامة هي الطير المعروف، لكنهم يتشاءمون بها، فإذا وقعت على بيت أحدهم ونعقت; قالوا: إنها تنعق به ليموت، ويعتقدون أن هذا دليل قرب أجله، وهذا كله - بلا شك - عقيدة باطلة.
قوله: " ولا صفر " قيل: إنه شهر صفر، كانت العرب يتشاءمون به ولا سيما في النكاح.


وقيل: إنه داء في البطن يصيب الإبل وينتقل من بعير إلى آخر، وعلى هذا; فيكون عطفه على العدوى من باب عطف الخاص على العام.
وقيل: إنه نهي عن النسيئة، وكانوا في الجاهلية ينسئون، فإذا أرادوا القتال في شهر المحرم استحلوه، وأخروا الحرمة إلى شهر صفر، وهذه النسيئة التي ذكرها الله بقوله تعالى:{ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ } 3 وهذا القول ضعيف، ويضعفه أن الحديث في سياق التطير، وليس في سياق التغيير، والأقرب أن صفر يعني الشهر، وأن المراد نفي كونه مشؤوما; أي: لا شؤم فيه، وهو كغيره من الأزمان يقدر فيه الخير ويقدر فيه الشر.


وهذا النفي في هذه الأمور الأربعة ليس نفيا للوجود; لأنها موجودة ولكنه نفي للتأثير; فالمؤثر هو الله، فما كان منها سببا معلوما; فهو سبب صحيح، وما كان منها سببا موهوما; فهو سبب باطل، ويكون نفيا لتأثيره بنفسه إن كان صحيحا، ولكونه سببا إن كان باطلا.


فقوله: " لا عدوى "4 العدوى موجودة، ويدل لوجودها قوله صلى الله عليه وسلم:

ـ

1 البخاري : الطب (5757) , ومسلم : السلام (2220) , وأبو داود : الطب (3911) , وأحمد (2/267 ,2/397 ,2/434).
2 أخرجه: البخاري في (الطب, باب لا هامة, 4/47), ومسلم في (السلام, باب لا عدوى ولا طيرة, 4/1743).
3 سورة التوبة آية : 37.


4 البخاري : الطب (5757) , ومسلم : السلام (2220) , وأبو داود : الطب (3911) , وأحمد (2/267 ,2/397 ,2/434).

ج / 1 ص -565-


" لا يورد ممرض على مصح "12 أي: لا يورد صاحب الإبل المريضة على صاحب الإبل الصحيحة; لئلا تنتقل العدوى. وقوله صلى الله عليه وسلم " فر من المجذوم فرارك من الأسد "34 والجذام مرض خبيث معد بسرعة ويتلف صاحبه; حتى قيل: إنه الطاعون; فالأمر بالفرار من المجذوم لكي لا تقع العدوى منه إليك، وفيه إثبات لتأثير العدوى، لكن تأثيرها ليس أمرا حتميا، بحيث تكون علة فاعلة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفرار، وأن لا يورد ممرض على مصح من باب تجنب الأسباب لا من باب تأثير الأسباب بنفسها; فالأسباب لا تؤثر بنفسها، لكن ينبغي لنا أن نتجنب الأسباب التي تكون سببا للبلاء; لقوله تعالى:{ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } 5 ولا يمكن أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ينكر تأثير العدوى; لأن هذا أمر يبطله الواقع والأحاديث الأخرى.


فإن قيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: " لا عدوى. قال رجل: يا رسول الله! الإبل تكون صحيحة مثل الظباء، فيدخلها الجمل الأجرب فتجرب ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم فمن أعدى الأول; "67 يعني أن المرض نزل على الأول بدون عدوى، بل نزل من عند الله عزوجل فكذلك إذا انتقل بالعدوى; فقد انتقل بأمر الله، والشيء قد يكون له سبب معلوم وقد لا يكون له سبب معلوم، فجرب الأول ليس سببه معلوما; إلا أنه



1 مسلم : السلام (2221).
2 أخرجه: مسلم في (كتاب السلام, باب لا عدوى ولا طيرة, 4/1743).
3 أحمد (2/443).
4 أخرجه: البخاري معلقا بصيغة الجزم في (الطب, باب الجذام, 4/37). وانظر: "فتح الباري" (10/158).
5 سورة البقرة آية : 195.
6 البخاري : الطب (5775) , ومسلم : السلام (2220) , وأبو داود : الطب (3911) , وأحمد (2/267 ,2/327).
7 أخرجه: البخاري في (الطب, باب لا صفر, 4/39), ومسلم في (السلام, باب لا عدوى ولا طيرة, 4/1742); من حديث أبي هريرة.

ج / 1 ص -566-


بتقدير الله تعالى، وجرب الذي بعده له سبب معلوم، لكن لو شاء الله تعالى لم يجرب، ولهذا أحيانا تصاب الإبل بالجرب، ثم يرتفع ولا تموت، وكذلك الطاعون والكوليرا أمراض معدية، وقد تدخل البيت فتصيب البعض فيموتون ويسلم آخرون ولا يصابون.
فعلى الإنسان أن يعتمد على الله، ويتوكل عليه، وقد روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل مجذوم; فأخذ بيده وقال له: "كل" يعني من الطعام الذي كان يأكل منه الرسول صلى الله عليه وسلم "1 لقوة توكله صلى الله عليه وسلم فهذا التوكل مقاوم لهذا السبب المعدي.


وهذا الجمع الذي أشرنا إليه هو أحسن ما قيل في الجمع بين الأحاديث، وادعى بعضهم النسخ; فمنهم من قال: إن الناسخ قوله: " لا عدوى " والمنسوخ قوله: " فر من المجذوم "23 " ولا يورد ممرض على مصح "45 وبعضهم عكس، والصحيح أنه لا نسخ; لأن من شروط النسخ تعذر الجمع، وإذا أمكن الجمع وجب الرجوع إليه; لأن في الجمع إعمال الدليلين، وفي النسخ إبطال أحدهما، وإعمالهما أولى من إبطال أحدهما; لأننا اعتبرناهما وجعلناهما حجة، وأيضا الواقع يشهد أنه لا نسخ.
وقوله: " ولا صفر " فيه ثلاثة أقوال سبقت، وبيان الراجح منها6.



1 أخرجه: أبو داود في (الطب, باب في الطيرة, 4/239)- وسكت عنه, والترمذي في (الأطعمة, باب في الأكل مع المجذوم, 6/111)- وقال: "غريب"-, وابن ماجه في (الطب, باب الجذام, 2/1172), وابن جرير في (تهذيب الآثار (85), والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/309), وابن حبان (1433), وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (465), والحاكم (4/136), وصححه ووافقه الذهبي من حديث جابر.
2 البخاري : الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم : الحج (1337) , والنسائي : مناسك الحج (2619) , وابن ماجه : المقدمة (1 ,2) , وأحمد (2/247 ,2/258 ,2/313 ,2/355 ,2/428 ,2/447 ,2/456 ,2/467 ,2/482 ,2/495 ,2/508).
3 سبق (ص 565).
4 مسلم : السلام (2221) , وابن ماجه : الطب (3541) , وأحمد (2/434).
5 سبق (ص 565).
6 ص 564).

ج / 1 ص -567-


والأزمنة لا دخل لها في التأثير وفي تقدير الله عزوجل فصفر كغيره من الأزمنة يقدر فيه الخير والشر، وبعض الناس إذا انتهى من شيء في صفر أرخ ذلك وقال: انتهى في صفر الخير، وهذا من باب مداواة البدعة ببدعة، والجهل بالجهل; فهو ليس شهر خير ولا شهر شر.
أما شهر رمضان، وقولنا: إنه شهر خير; فالمراد بالخير العبادة، ولا شك أنه شهر خير، وقولهم: رجب المعظم; بناء على أنه من الأشهر الحرم. ولهذا أنكر بعض السلف على من إذا سمع البومة تنعق قال: خيرا إن شاء الله; فلا يقال: خير ولا شر، بل هي تنعق كبقية الطيور.


فهذه الأربعة التي نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم تبين وجوب التوكل على الله وصدق العزيمة، ولا يضعف المسلم أمام هذه الأشياء; لأن الإنسان لا يخلو من حالين:
إما أن يستجيب لها بأن يقدم أو يحجم أو ما أشبه ذلك; فيكون حينئذ قد علق أفعاله بما لا حقيقة له ولا أصل له، وهو نوع من الشرك.
وإما أن لا يستجيب بأن يكون عنده نوع من التوكل ويقدم ولا يبالي، لكن يبقى في نفسه نوع من الهم أو الغم، وهذا وإن كان أهون من الأول، لكن يجب ألا يستجيب لداعي هذه الأشياء التي نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقا، وأن يكون معتمدا على الله عزوجل
وبعض الناس قد يفتح المصحف لطلب التفاؤل، فإذا نظر ذكر النار تشاءم، وإذا نظر ذكر الجنة قال: هذا فأل طيب; فهذا مثل عمل الجاهلية الذين يستقسمون بالأزلام.


فالحاصل أننا نقول: لا تجعل على بالك مثل هذه الأمور إطلاقا; فالأسباب المعلومة الظاهرة تقي أسباب الشر، وأما الأسباب الموهومة التي

ج / 1 ص -568- " ولا نوء،.....


لم يجعلها الشرع سببا بل نفاها، فلا يجوز لك أن تتعلق بها، بل احمد الله على العافية، وقل: ربنا عليك توكلنا.
قوله: ( لا نوء ( واحد الأنواء، والأنواء: هي منازل القمر، وهي ثمان وعشرون منزلة، كل منزلة لها نجم تدور بمدار السنة. وهذه النجوم بعضها يسمى النجوم الشمالية، وهي لأيام الصيف، وبعضها يسمى النجوم الجنوبية، وهي لأيام الشتاء، وأجرى الله العادة أن المطر في وسط الجزيرة العربية يكون أيام الشتاء، أما أيام الصيف; فلا مطر.


فالعرب كانوا يتشاءمون بالأنواء، ويتفاءلون بها; فبعض النجوم يقولون: هذا نجم نحس لا خير فيه، وبعضها بالعكس يتفاءلون به فيقولون: هذا نجم سعود وخير، ولهذا إذا أمطروا قالوا: مطرنا بنوء كذا، ولا يقولون: مطرنا بفضل الله ورحمته، ولا شك أن هذا غاية الجهل.
ألسنا أدركنا هذا النوء بعينه في سنة يكون فيه مطر وفي سنة أخرى لا يكون فيه مطر؟ ونجد السنوات تمر بدون مطر مع وجود النجوم الموسمية التي كانت كثيرا ما يكون في زمنها الأمطار.


فالنوء لا تأثير له; فقولنا: طلع هذا النجم، كقولنا: طلعت الشمس; فليس له إلا طلوع وغروب، والنوء وقت تقدير، وهو يدل على دخول الفصول فقط.
وفي عصرنا الحاضر يعلق المطر بالضغط الجوي والمنخفض الجوي، وهذا وإن كان قد يكون سببا حقيقيا، ولكن لا يفتح هذا الباب للناس، بل الواجب أن يقال: هذا من رحمة الله، هذا من فضله ونعمه، قال تعالى:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ } 1 وقال تعالى:{ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ


1 سورة النور آية : 43.

ج / 1 ص -569- ولا غول "23.
ــ

فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ } 1.
فتعليق المطر بالمنخفضات الجوية من الأمور الجاهلية التي تصرف الإنسان عن تعلقه بربه.
فذهبت أنواء الجاهلية، وجاءت المنخفضات الجوية، وما أشبه ذلك من الأقوال التي تصرف الإنسان عن ربه - سبحانه وتعالى -. نعم، المنخفضات الجوية قد تكون سببا لنزول المطر، لكن ليست هي المؤثر بنفسها، فتنبه.
قوله: "ولا غول": جمع غولة أو غولة، ونحن نسميها باللغة العامية: (الهولة); لأنها تهول الإنسان.


والعرب كانوا إذا سافروا أو ذهبوا يمينا أو شمالا تلونت لهم الشياطين بألوان مفزعة مخيفة، فتدخل في قلوبهم الرعب والخوف، فتجدهم يكتئبون ويستحسرون عن الذهاب إلى هذا الوجه الذي أرادوا، وهذا لا شك أنه يضعف التوكل على الله، والشيطان حريص على إدخال القلق والحزن على الإنسان بقدر ما يستطيع، قال تعالى:{ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ } 4.


وهذا الذي نفاه الرسول صلى الله عليه وسلم هو تأثيرها; وليس المقصود بالنفي نفي الوجود، وأكثر ما يبتلى الإنسان بهذه الأمور إذا كان قلبه معلقا بها، أما إن كان معتمدا على الله غير مبال بها; فلا تضره ولا تمنعه عن جهة قصده.



1 سورة الروم آية : 48.
2 البخاري : الطب (5757) , ومسلم : السلام (2220) , وأبو داود : الطب (3912).
3 أخرجه: مسلم في (السلام, باب لا عدوى ولا طيرة, 4/1743); فقد أخرج حديث أبي هريرة بزيادة: "ولا نوء", ومن حديث جابر بزيادة: "ولا غول".
4 سورة المجادلة آية : 10.

ج / 1 ص -570- ولهما عن أنس; قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل. قالوا: وما الفأل; قال: الكلمة الطيبة "1. 2


قوله في حديث أنس: " لا عدوى، ولا طيرة "3. تقدم الكلام على ذلك.
قوله: " ويعجبني الفأل " أي: يسرني، والفأل بينه بقوله: " الكلمة الطيبة "4.
فـ"الكلمة الطيبة" تعجبه صلى الله عليه وسلم لما فيها من إدخال السرور على النفس والانبساط، والمضي قدما لما يسعى إليه الإنسان، وليس هذا من الطيرة، بل هذا مما يشجع الإنسان; لأنها لا تؤثر عليه، بل تزيده طمأنينة وإقداما وإقبالا.
وظاهر الحديث: الكلمة الطيبة في كل شيء; لأن الكلمة الطيبة في الحقيقة تفتح القلب وتكون سببا لخيرات كثيرة، حتى إنها تدخل المرء في جملة ذوي الأخلاق الحسنة.


وهذا الحديث جمع النبي صلى الله عليه وسلم فيه بين محذورين ومرغوب; فالمحذوران هما العدوى والطيرة، والمرغوب هو الفأل، وهذا من حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم فمن ذكر المرهوب ينبغي أن يذكر معه ما يكون مرغوبا، ولهذا كان القرآن مثاني إذا ذكر أوصاف المؤمنين ذكر أوصاف الكافرين، وإذا ذكر العقوبة ذكر المثوبة، وهكذا.



1 البخاري : الطب (5776) , ومسلم : السلام (2224) , والترمذي : السير (1615) , وأبو داود : الطب (3916) , وابن ماجه : الطب (3537) , وأحمد (3/130 ,3/173 ,3/275).
2 أخرجه: البخاري في (الطب, باب الفأل, 4/46), ومسلم في (السلام, باب الطيرة والفأل, 4/1745- 1746); من حديث أنس. وأخرجاه أيضا من حديث أبي هريرة في المواضع السابقة رضي الله عنهما.
3 البخاري : الطب (5757) , ومسلم : السلام (2220) , وأبو داود : الطب (3911) , وأحمد (2/267 ,2/397 ,2/434).
4 البخاري : الطب (5776) , ومسلم : السلام (2224) , والترمذي : السير (1615) , وأحمد (3/173 ,3/178 ,3/275).

ج / 1 ص -571- ولأبي داود بسند صحيح عن " عقبة بن عامر; قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنها الفأل، ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره; فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت،.....


قوله: "عن عقبة بن عامر": صوابه عن عروة بن عامر; كما ذكره في "التيسير"، وقد اختلف في نسبه وصحبته.
قوله: " ذكرت الطيرة عند رسول الله "1 وهذا الذكر إما ذكر شأنها، أو ذكر أن الناس يفعلونها، والمراد: تحدث الناس بها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
قوله: " أحسنها الفأل: " سبق أن الفأل ليس من الطيرة2 لكنه شبيه بالطيرة من حيث الإقدام; فإنه يزيد الإنسان نشاطا وإقداما فيما توجه إليه; فهو يشبه الطيرة من هذا الوجه، وإلا; فبينهما فرق لأن الطيرة توجب تعلق الإنسان بالمتطير به، وضعف توكله على الله، ورجوعه عما هم به من أجل ما رأى، لكن الفأل يزيده قوة وثباتا ونشاطا; فالشبه بينهما هو التأثير في كل منهما.
قوله: " ولا ترد مسلما "3 يفهم منه أن من ردته الطيرة عن حاجته; فليس بمسلم.


قوله: " فإذا رأى أحدكم ما يكره "4 فحينئذ قد ترد على قلبه الطيرة، ويبتعد عما يريد، ولا يقدم عليه، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم دواء لذلك وقال: " فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات... "5 إلخ.
قوله: " اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت "6 وهذا هو حقيقة التوكل،



1 أبو داود : الطب (3919).
2 ص 570).
3 أبو داود : الطب (3919).
4 أبو داود : الطب (3919).
5 أبو داود : الطب (3919).
6 أبو داود : الطب (3919).

ج / 1 ص -572- ولا يدفع السيئات إلا أنت،....


وقوله: "اللهم". يعني: يا الله، ولهذا بنيت على الضم; لأن المنادى علم، بل هو أعلم الأعلام وأعرف المعارف على الإطلاق، والميم عوض عن يا المحذوفة، وصارت في آخر الكلمة تبركا بالابتداء باسم الله - سبحانه وتعالى -، وصارت ميما; لأنها تدل على الجمع; فكأن الداعي جمع قلبه على الله.
قوله: " لا يأتي بالحسنات إلا أنت "1 أي: لا يقدرها ولا يخلقها ولا يوجدها للعبد إلا الله وحده لا شريك له، وهذا لا ينافي أن تكون الحسنات بأسباب; لأن خالق هذه الأسباب هو الله، فإذا وجدت هذه الحسنات بأسباب خلقها الله; صار الموجد حقيقة هو الله.


والمراد بالحسنات: ما يستحسن المرء وقوعه، ويحسن في عينه. ويشمل ذلك الحسنات الشرعية; كالصلاة والزكاة وغيرها; لأنها تسر المؤمن، ويشمل الحسنات الدنيوية; كالمال والولد ونحوها، قال تعالى:{ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} 2 وقال تعالى في آية أخرى:{ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } 3.
وقوله: إلا أنت : فاعل يأتي; لأن الاستثناء هنا مفرغ.


قوله: " ولا يدفع السيئات إلا أنت "4 السيئات: ما يسوء المرء وقوعه وينفر منه حالا أو مآلا، ولا يدفعها إلا الله، ولهذا إذا أصيب الإنسان بمصيبة التجأ إلى ربه تعالى، حتى المشركون إذا ركبوا في الفلك، وشاهدوا الغرق; دعوا الله مخلصين له الدين. ولا ينافي هذا أن يكون دفعها بأسباب; فمثلا لو رأى رجلا غريقا، فأنقذه; فإنما أنقذه بمشيئة الله، ولو شاء الله لم ينقذه; فالسبب من الله. فعقيدة كل مسلم أنه لا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يدفع السيئات إلا الله، وبمقتضى هذه



1 أبو داود : الطب (3919).
2 سورة التوبة آية : 50.
3 سورة آل عمران آية : 120.
4 أبو داود : الطب (3919).

ج / 1 ص -573- ولا حول ولا قوة إلا بك "1. 2


العقيدة; فإنه يجب أن لا يسأل المسلم الحسنات ولا يسأل دفع السيئات إلا من الله، ولهذا كان الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يسألون الله الحسنات ويسألون دفع السيئات، قال تعالى عن زكريا:{ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } 3 وقال تعالى عن أيوب:{ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} 4 وهكذا يجب أن يكون المؤمن أيضا.


قوله: " ولا حول ولا قوة إلا بك "5 في معناها وجهان:
الأول: أنه لا يوجد حول ولا قوة إلا بالله; فالباء بمعنى في، يعني: إلا في الله وحده، ومن سواه ليس لهم حول ولا قوة، ويكون الحول والقوة المنفيان عن غير الله هما الحول المطلق والقوة المطلقة; لأن غير الله فيه حول وقوة، لكنها نسبية ليست بكاملة; فالحول الكامل والقوة الكاملة في الله وحده.
الثاني: أنه لا يوجد لنا حول ولا قوة إلا بالله; فالباء للاستعانة أو للسببية، وهذا المعنى أصح، وهو مقتضى ورودها في مواضعها; إذ إننا لا نتحول من حال إلى حال، ولا نقوى على ذلك إلا بالله، فيكون في هذه الجملة كمال التفويض إلى الله، وأن الإنسان يبرأ من حوله وقوته إلا بما



1 أبو داود : الطب (3919).
2 أخرجه: أبو داود في (الطب, باب في الطيرة, 4/235) -وسكت عنه-, وابن السني (294), والبيهقي (8/139). وقال النووي في "الرياض" كما في "دليل الفالحين" (ص 806): "رواه أبو داود بإسناد صحيح". وقال المنذري في "مختصر سنن أبي داود" (5/379): "عروة هذا قيل فيه: القرشي, وقيل فيه: الجهني, وقال أبو القاسم الدمشقي: ولا صحبة له تصح. وذكر البخاري وغيره: أنه سمع من ابن عباس; فعلى هذا يكون الحديث مرسلا".
3 سورة آل عمران آية : 38.
4 سورة الأنبياء آية : 83.
5 أبو داود : الطب (3919).

ج / 1 ص -574- وعن ابن مسعود، مرفوعا: " الطيرة شرك الطيرة شرك


أعطاه الله من الحول والقوة. فإن صح الحديث; فالرسول صلى الله عليه وسلم أرشدنا إذا رأينا ما نكره مما يتشاءم به المتشائم أن نقول: " اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك "1.
قوله: "مرفوعا": أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: " الطيرة شرك، الطيرة شرك "2 هاتان الجملتان يؤكد بعضهما بعضا من باب التوكيد اللفظي.


وقوله: "شرك": أي: إنها من أنواع الشرك، وليست الشرك كله، وإلا; لقال: الطيرة الشرك.
هل المراد بالشرك هنا الشرك الأكبر المخرج عن الملة، أو أنها نوع من أنواع الشرك؟ نقول: هي نوع من أنواع الشرك; كقوله صلى الله عليه وسلم " اثنتان في الناس هما بهم كفر "34 أي: ليس الكفر المخرج عن الملة، وإلا; لقال: "هما بهم الكفر"، بل هما نوع من الكفر.
لكن في ترك الصلاة قال: " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة "56 فقال: "الكفر"; فيجب أن نعرف الفرق بين "أل" المعرفة أو الدالة على الاستغراق، وبين خلو اللفظ منها، فإذا قيل: هذا كفر; فالمراد أنه نوع من الكفر لا يخرج من الملة، وإذا قيل: هذا الكفر; فهو المخرج من الملة.



1 أبو داود الطب (3919).
2 الترمذي السير (1614) , وأبو داود : الطب (3910) , وابن ماجه : الطب (3538) , وأحمد (1/389 ,1/438 ,1/440).
3 مسلم الإيمان (67) , وأحمد (2/441 ,2/496).
4 أخرجه مسلم في (الإيمان, باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب, 1/82) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
5 مسلم الإيمان (82) , والترمذي : الإيمان (2620) , وأبو داود : السنة (4678) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) , وأحمد (3/370 ,3/389) , والدارمي : الصلاة (1233).
6 أخرجه مسلم في (الإيمان, باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة, 1/88) من حديث جابر رضي الله عنه.

ج / 1 ص -575- وما منا إلا... ولكن الله يذهبه بالتوكل "1 رواه أبو داود والترمذي وصححه2......


فإذا تطير إنسان بشيء رآه أو سمعه; فإنه لا يعد مشركا شركا يخرجه من الملة، لكنه أشرك من حيث إنه اعتمد على هذا السبب الذي لم يجعله الله سببا، وهذا يضعف التوكل على الله ويوهن العزيمة، وبذلك يعتبر شركا من هذه الناحية، والقاعدة: "إن كل إنسان اعتمد على سبب لم يجعله الشرع سببا; فإنه مشرك شركا أصغر".
وهذا نوع من الإشراك مع الله; إما في التشريع إن كان هذا السبب شرعيا، وإما في التقدير إن كان هذا السبب كونيا، لكن لو اعتقد هذا المتشائم المتطير أن هذا فاعل بنفسه دون الله; فهو مشرك شركا أكبر; لأنه جعل لله شريكا في الخلق والإيجاد.


قوله: "وما منا": "منا": جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف، إما قبل (إلا) إن قدرت ما بعد إلا فعلا; أي: وما منا أحد إلا تطير، أو بعد (إلا); أي: وما منا إلا متطير.
والمعنى: ما منا إنسان يسلم من التطير; فالإنسان يسمع شيئا فيتشاءم، أو يبدأ في فعل; فيجد أوله ليس بالسهل فيتشاءم ويتركه.
والتوكل: صدق الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة بالله وفعل الأسباب التي جعلها الله تعالى أسبابا. فلا يكفي صدق



1 الترمذي : السير (1614) , وأبو داود : الطب (3910) , وابن ماجه : الطب (3538) , وأحمد (1/389 ,1/438 ,1/440).
2 أخرجه: احمد (1/389, 438, 440), وأبو داود في (الطب, باب في الطيرة, 4/230)- وسكت عنه-, والترمذي في (السير, باب ما جاء في الطيرة, 5/336)- وقال: "حسن صحيح"-, وابن ماجه في (الطب, باب من كان يعجبه الفأل, 2/1170), والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/312), وابن حبان (1427), والحاكم (1/17)- وصححه ووافقه الذهبي-, والبيهقي (8/139), والبغوي في "شرح السنة" (12/177).

ج / 1 ص -576- وجعل آخره من قول ابن مسعود1.


الاعتماد فقط، بل لا بد أن تثق به; لأنه سبحانه يقول:{ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } 2.
قوله: "وجعل آخره من قول ابن مسعود": وهو قوله: "وما منا إلا..." إلخ.
وعلى هذا يكون موقوفا، وهو مدرج في الحديث، والمدرج: أن يدخل أحد الرواة كلاما في الحديث من عنده بدون بيان، ويكون في الإسناد والمتن، ولكن أكثره في المتن، وقد يكون في أول الحديث، وقد يكون في وسطه، وقد يكون في آخره، وهو الأكثر.


مثال ما كان في أول الحديث: قول أبي هريرةرضي الله عنه" أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار "34 فقوله: "أسبغوا الوضوء" من كلام أبي هريرة، وقوله: " ويل للأعقاب من النار "5 من كلام الرسولصلى الله عليه وسلم ومثال ما كان في وسطه قول الزهري في حديث بدء الوحي: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء، والتحنث: التعبد "67 ومثال ما كان في آخره: هذا الحديث الذي ذكره المؤلف، وكذا حديث أبي هريرة، وفيه: " من استطاع منكم أن يطيل غرته; فليفعل "89 فهذا من كلام أبي هريرة.



1 قوله: "وما منا..." إلخ هذه من كلام ابن مسعود رضي الله عنه. انظر: "الترمذي" (5/337), و "الترغيب (4/64), و "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (2/ 234), و" موارد الظمآن" (ص 345), و "فتح الباري" (10/213).
2 سورة الطلاق آية : 3.

3 البخاري الوضوء (165) , ومسلم : الطهارة (242) , والترمذي : الطهارة (41) , والنسائي : الطهارة (110) , وابن ماجه : الطهارة وسننها (453) , وأحمد (2/228 ,2/430) , والدارمي : الطهارة (707).
4 أخرجه البخاري في (الوضوء, باب غسل الأعقاب, 1/74), ومسلم في (الطهارة, باب وجوب غسل الرجلين, 1/213).
5 البخاري العلم (60 ,96) والوضوء (163) , ومسلم : الطهارة (241) , والنسائي : الطهارة (111) , وأبو داود : الطهارة (97) , وابن ماجه : الطهارة وسننها (451) , وأحمد (2/193) , والدارمي الطهارة (706).
6 البخاري بدء الوحي (4) , ومسلم : الإيمان (160 ,161) , وأحمد (3/377 ,6/232).
7 أخرجه: البخاري في (بدء الوحي, باب حدثنا يحيى بن بكير, 1/14), ومسلم في (الإيمان, باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, 1/140).
8 البخاري الوضوء (136) , ومسلم : الطهارة (246) , وأحمد (2/334 ,2/362 ,2/400).
9 أخرجه البخاري في (الوضوء, باب فضل الوضوء, 1/65), ومسلم في (الطهارة, باب استحباب إطالة الغرة, 1/246).

ج / 1 ص -577- ولأحمد من حديث ابن عمرو: " من ردته الطيرة عن حاجته; فقد أشرك. قالوا: فما كفارة ذلك; قال: أن تقولوا: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك،


قوله: " من ردته الطيرة عن حاجته "1 "من": شرطية، وجواب الشرط: "فقد أشرك"، واقترن الجواب بالفاء; لأنه لا يصلح لمباشرة الأداة، وحينئذ يجب اقترانه بالفاء، وقد جمع ذلك في بيت شعر معروف، وهو قوله:

اسمية طلبية وبجامد وبما وقد وبلن وبالتنفيس
وقوله: "عن حاجته": الحاجة: كل ما يحتاجه الإنسان بما تتعلق به الكمالات، وقد تطلق على الأمور الضرورية.


وقوله (فقد أشرك) أي: شركا أكبر إن اعتقد أن هذا المتشائم به يفعل ويحدث الشر بنفسه، وإن اعتقده سببا فقط فهو أصغر، لأنه سبق أن ذكرنا قاعدة مفيدة في هذا الباب، وهي: "إن كل من اعتقد في شيء أنه سبب ولم يثبت أنه سبب لا كونا ولا شرعا; فشركه شرك أصغر; لأنه ليس لنا أن نثبت أن هذا سبب إلا إذا كان الله قد جعله سببا كونا أو شرعا; فالشرعي: كالقراءة والدعاء، والكوني: كالأدوية التي جرب نفعها".


وقوله: " فما كفارة ذلك "2 أي: ما كفارة هذا الشرك، أو ما هو الدواء الذي يزيل هذا الشرك؟ لأن الكفارة قد تطلق على كفارة الشيء بعد فعله، وقد تطلق على الكفارة قبل الفعل، وذلك لأن الاشتقاق مأخوذ من الكفر، وهو الستر، والستر واق; فكفارة ذلك إن وقع وكفارة ذلك إن لم يقع.
وقوله: " اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك "3 يعني: فأنت الذي بيدك الخير المباشر; كالمطر والنبات، وغير المباشر; كالذي يكون سببه من عند الله على يد مخلوق، مثل: أن يعطيك إنسان دراهم صدقة أو هدية، وما أشبه ذلك; فهذا الخير من الله، لكن



1 أحمد (2/220).
2 أحمد (2/220).
3 أحمد (2/220).

ج / 1 ص -578- ولا إله غيرك "1. 2


بواسطة جعلها الله سببا، وإلا; فكل الخير من الله عزوجل
وقوله: " لا خير إلا خيرك "3 هذا الحصر حقيقي; فالخير كله من الله، سواء كان بسبب معلوم أو بغيره.
وقوله: " لا طير إلا طيرك "4 أي: الطيور كلها ملكك; فهي لا تفعل شيئا، وإنما هي مسخرة، قال تعالى:{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} 5 وقال تعالى:{ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 6 فالمهم أن الطير مسخرة بإذن الله; فالله تعالى هو الذي يدبرها ويصرفها ويسخرها تذهب يمينا وشمالا، ولا علاقة لها بالحوادث.


ويحتمل أن المراد بالطير هنا ما يتشاءم به الإنسان; فكل ما يحدث للإنسان من التشاؤم والحوادث المكروهة; فإنه من الله كما أن الخير من الله; كما قال تعالى:{ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ } 7 لكن سبق لنا أن الشر في فعل الله ليس بواقع، بل الشر في المفعول لا في الفعل، بل فعله تعالى كله خير; إما خير لذاته، وإما لما يترتب عليه من المصالح العظيمة التي تجعله خيرا. فيكون قوله: " لا طير إلا طيرك "8 مقابلا لقوله: " ولا خير إلا خيرك "9.
قوله: " ولا إله غيرك "10 "لا": نافية للجنس، "وإله" بمعنى: مألوه;



1 أحمد (2/220).
2 أخرجه: أحمد في "المسند" (2/220), وابن وهب في "الجامع" (ص 110), والطبراني; كما في "المجمع" (5/105), وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (293). وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/105): "وفيه ابن لهيعة, وحديثه حسن, وبقية رجاله ثقات". وقال الشارح في "تيسير العزيز الحميد" (ص 439): "وفيه ابن لهيعة".
3 أحمد (2/220).
4 أحمد (2/220).
5 سورة الملك آية : 19.
6 سورة النحل آية : 79.
7 سورة الأعراف آية : 131.
8 أحمد (2/220).
9 أحمد (2/220).
10 أحمد (2/220).

ج / 1 ص -579-


كغراس بمعنى مغروس، وفراش بمعنى مفروش، والمألوه: هو المعبود محبة وتعظيما يتأله إليه الإنسان محبة له وتعظيما له.
فإن قيل: إن هناك آلهة دون الله; كما قال تعالى:{ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } 1 أجيب: أنها وإن عبدت من دون الله وسميت آلهة; فليست آلهة حقا لأنها لا تستحق أن تعبد; فلهذا نقول: لا إله إلا الله; أي: لا إله حق إلا الله.


يستفاد من هذا الحديث:

1- أنه لا يجوز للإنسان أن ترده الطيرة عن حاجته، وإنما يتوكل على الله ولا يبالي بما رأى أو سمع أو حدث له عند مباشرته للفعل أول مرة; فإن بعض الناس إذا حصل له ما يكره في أول مباشرته الفعل تشاءم، ولهذا خطأ; لأنه ما دامت هناك مصلحة دنيوية أو دينية; فلا تهتم بما حدث.
2- أن الطيرة نوع من الشرك ; لقوله: " من ردته الطيرة عن حاجته; فقد أشرك "2.
3- أن من وقع في قلبه التطير ولم ترده الطيرة; فإن ذلك لا يضر كما سبق في حديث ابن مسعود: " وما منا إلا... ولكن الله يذهبه بالتوكل "34.
4- أن الأمور بيد الله خيرها وشرها.
5- انفراد الله بالألوهية; كما انفرد بالخلق والتدبير.



1 سورة هود آية : 101.
2 أحمد (2/220).
3 الترمذي : السير (1614) , وأبو داود : الطب (3910) , وابن ماجه : الطب (3538) , وأحمد (1/389 ,1/438 ,1/440).
4 سبق (ص 575).

ج / 1 ص -580- له من حديث الفضل بن العباس: " إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك "1. 2


قوله: في حديث الفضل: " إنما الطيرة " هذه الجملة عند البلاغيين تسمى حصرا; أي: ما الطيرة إلا ما أمضاك أو ردك لا ما حدث في قلبك ولم تلتفت إليه، ولا ريب أن السلامة منها حتى في تفكير الإنسان خير بلا شك، لكن إذا وقعت في القلب ولم ترده ولم يلتفت لها; فإنها لا تضره، لكن عليه أن لا يستسلم، بل يدافع; إذ الأمر كله بيد الله.
قوله: " ما أمضاك أو ردك "3 أما "ما ردك"; فلا شك أنه من الطيرة; لأن التطير يوجب الترك والتراجع. وأما "ما أمضاك" ; فلا يخلو من أمرين:
الأول: أن تكون من جنس التطير، وذلك بأن يستدل لنجاحه أو عدم نجاحه بالتطير، كما لو قال: سأزجر هذا الطير، فإذا ذهب إلى اليمين; فمعنى ذلك اليمن والبركة، فيقدم; فهذا لا شك أنه تطير; لأن التفاؤل بمثل انطلاق الطير عن اليمين غير صحيح; لأنه لا وجه له; إذ الطير إذا طار; فإنه يذهب إلى الذي يرى أنه وجهته، فإذا اعتمد عليه; فقد اعتمد على سبب لم يجعله الله سببا، وهو حركة الطير.


الثاني: أن يكون سبب المضي كلاما سمعه أو شيئا شاهده يدل على تيسير هذا الأمر له; فإن هذا فأل، وهو الذي يعجب النبي صلى الله عليه وسلم لكن إن اعتمد عليه وكان سببا لإقدامه; فهذا حكمه حكم الطيرة، وإن لم يعتمد عليه ولكنه فرح ونشط وازداد نشاطا في طلبه; فهذا من الفأل المحمود.
والحديث في سنده مقال، لكن على تقدير صحته هذا حكمه.



1 أحمد (1/213).
2 أخرجه: أحمد (1/213). وقال ابن مفلح في "الآداب" (3/377): "رواه أحمد من رواية محمد بن عبد الله بن علاثة, وهو مختلف فيه, وفيه انقطاع", وقال الشيخ سليمان (ص 440): "وهكذا رواه أحمد, وفي إسناده نظر".
3 أحمد (1/213).



ج / 1 ص -581- فيه مسائل:
الأولى:
التنبيه على قوله:{ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ } 1 مع قوله:{ طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } 2.
الثانية: نفي العدوى.
الثالثة: نفي الطيرة.
الرابعة: نفي الهامة.
الخامسة: نفي الصفر.


فيه مسائل:
الأولى: التنبيه على قوله:{ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ } 3 مع قوله:{ طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } 4 أي: لكي يتنبه الإنسان، فإن ظاهر الآيتين التعارض، وليس كذلك; فالقرآن والسنة لا تعارض بينهما ولا تعارض في ذاتهما، إنما يقع التعارض حسب فهم المخاطب، وقد سبق بيان الجمع أن قوله:{ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ } 5 أن الله هو المقدر ذلك، وليس موسى ولا غيره من الرسل، وأن قوله:{ طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } 6 من باب السبب; أي: أنتم سببه.


الثانية: نفي العدوى: وقد سبق أن المراد بنفيها نفي تأثيرها بنفسها لا أنها سبب للتأثير; لأن الله قد جعل بعض الأمراض سببا للعدوى وانتقالها.
الثالثة: نفي الطيرة: أي: نفي التأثير لا نفي الوجود.
الرابعة: نفي الهامة: وقد سبق تفسيرها.
الخامسة: نفي الصفر: وسبق تفسيره.



1 سورة الأعراف آية : 131.
2 سورة يس آية : 19.
3 سورة الأعراف آية : 131.
4 سورة يس آية : 19.
5 سورة الأعراف آية : 131.
6 سورة يس آية : 19.

ج / 1 ص -582- السادسة: أن الفأل ليس من ذلك بل مستحب.
السابعة: تفسير الفأل.
الثامنة: أن الواقع في القلوب من ذلك مع كراهته لا يضر بل يذهبه الله بالتوكل.
التاسعة: ذكر ما يقول من وجده.


السادسة: أن الفأل ليس من ذلك، بل مستحب: تؤخذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم " يعجبني الفأل "1 وكل ما أعجب النبي صلى الله عليه وسلم فهو حسن، قالت عائشة رضي الله عنها: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله "23.
السابعة: تفسير الفأل: فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه: الكلمة الطيبة، وسبق أن هذا التفسير على سبيل المثال لا على سبيل الحصر; لأن الفأل كل ما ينشط الإنسان على شيء محمود; من قول، أو فعل مرئي أو مسموع.
الثامنة: أن الواقع في القلوب من ذلك مع كراهته لا يضر، بل يذهبه الله بالتوكل: أي: إذا وقع في قلبك وأنت كاره له; فإنه لا يضرك ويذهبه الله بالتوكل; لقول ابن مسعود:وما منا إلا... ولكن الله يذهبه بالتوكل4.
التاسعة: ذكر ما يقول من وجده: وسبق أنه شيئان:



1 سبق (ص 570).
2 البخاري : الوضوء (168) , ومسلم : الطهارة (268) , والترمذي : الجمعة (608) , والنسائي : الغسل والتيمم (421) والزينة (5240) , وأبو داود : اللباس (4140) , وابن ماجه : الطهارة وسننها (401) , وأحمد (6/94 ,6/130 ,6/147 ,6/187 ,6/202 ,6/210).
3 أخرجه: البخاري في "الوضوء, باب التيمن في الوضوء والغسل, 1/75), ومسلم في (الطهارة, باب التيمن في الطهور, 1/226).
4 سبق (ص 575).

ج / 1 ص -583- العاشرة: التصريح بأن الطيرة شرك.
الحادية عشرة: تف
سير الطيرة المذمومة.


أن يقول: "اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك".
أو يقول: "اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك".
العاشرة: التصريح بأن الطيرة شرك: وسبق أن الطيرة شرك، لكن بتفصيل، فإن اعتقد تأثيرها بنفسها، فهو شرك أكبر، وإن اعتقد أنها سبب; فهو شرك أصغر.
الحادية عشرة: تفسير الطيرة المذمومة: أي: ما أمضاك أو ردك.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم الجزء الأول ولله الحمد
ويليه الجزء الثاني وأوله باب ما جاء في التنجيم




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




ام عادل السلفية 31-01-2015 11:16AM

بسم الله الحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: ما جاء في التنجيم

ج / 2 ص -5- باب: ما جاء في التنجيم:



التنجيم: مصدر نجّم بتشديد الجيم; أي: تعلم علم النجوم، أو اعتقد تأثير النجوم.
وعلم النجوم ينقسم إلى قسمين:
1- علم التأثير.
2- علم التسيير.
فالأول:
علم التأثير. وهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ: أن يعتقد أن هذه النجوم مؤثرة فاعلة، بمعنى أنها هي التي تخلق الحوادث والشرور; فهذا شرك أكبر; لأن من ادعى أن مع الله خالقا; فهو مشرك شركا أكبر; فهذا جعل المخلوق المسخر خالقا مُسَخِّرًا.

ب: أن يجعلها سببا يدعي به علم الغيب; فيستدل بحركاتها وتنقلاتها وتغيراتها على أنه سيكون كذا وكذا; لأن النجم الفلاني صار كذا وكذا، مثل أن يقول: هذا الإنسان ستكون حياته شقاء; لأنه ولد في النجم الفلاني، وهذا حياته ستكون سعيدة; لأنه ولد في النجم الفلاني; فهذا اتخذ تعلم النجوم وسيلة لا دعاء علم الغيب، ودعوى علم الغيب كفر مخرج عن الملة; لأن الله يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} [سورة النمل: من الآية 65] وهذا من أقوى أنواع الحصر; لأنه بالنفي والإثبات، فإذا ادعى أحد علم الغيب; فقد كَذَّب القرآن.


ج / 2 ص -6-



ج: أن يعتقدها سببا لحدوث الخير والشر، أي أنه إذا وقع شيء نسبه إلى النجوم، ولا ينسب إلى النجوم شيئا إلا بعد وقوعه; فهذا شرك أصغر.
فإن قيل: ينتقض هذا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله في الكسوف: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده"1؛ فمعنى ذلك أنهما علامة إنذار.

فالجواب من وجهين:

الأول: أنه لا يُسلَّم أن للكسوف تأثيرا في الحوادث والعقوبات، من الجدب والقحط والحروب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته" لا في ما مضى ولا في المستقبل، وإنما يخوف الله بهما العباد لعلهم يرجعون، وهذا أقرب.
الثاني: أنه لو سلمنا أن لهما تأثيرا; فإن النص قد دل على ذلك، وما دل عليه النص يجب القول به، لكن يكون خاصا به.


لكن الوجه الأول هو الأقرب: أننا لا نسلم أصلا أن لهما تأثيرا في هذا; لأن الحديث لا يقتضيه; فالحديث ينص على التخويف، والمخوف هو الله تعالى، والمخوف عقوبته، ولا أثر للكسوف في ذلك، وإنما هو علامة فقط.
الثاني: علم التسيير.

وهذا ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يستدل بسيرها على المصالح الدينية; فهذا مطلوب، وإذا



1 أخرجه: البخاري في (الكسوف, باب الصدقة في الكسوف/1/328), ومسلم في (الكسوف, باب صلاة الكسوف/2/618).


ج / 2 ص -7- قال البخاري في " صحيحه": "قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث....


كان يعين على مصالح دينية واجبة كان تعلمها واجبا، كما لو أراد أن يستدل بالنجوم على جهة القبلة; فالنجم الفلاني يكون ثلث الليل قبلة، والنجم الفلاني يكون ربع الليل قبلة; فهذا فيه فائدة عظيمة.
الثاني: أن يستدل بسيرها على المصالح الدنيوية; فهذا لا بأس به، وهو نوعان:
النوع الأول: أن يستدل بها على الجهات; كمعرفة أن القطب يقع شمالا، والجدي وهو قريب منه يدور حوله شمالا، وهكذا; فهذا جائز، قال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [سورة النحل: الآية 16].


النوع الثاني: أن يستدل بها على الفصول، وهو ما يعرف بتعلم منازل القمر; فهذا كرهه بعض السلف، وأباحه آخرون.
والذين كرهوه قالوا: يخشى إذا قيل: طلع النجم الفلاني; فهو وقت الشتاء أو الصيف: أن بعض العامة يعتقد أنه هو الذي يأتي بالبرد أو بالحر أو بالرياح.
والصحيح عدم الكراهة; كما سيأتي إن شاء الله1.
قوله: في أثر قتادة: "خلق الله هذه النجوم لثلاث"، اللام للتعليل; أي: لبيان العلة والحكمة.
قوله: "لثلاث": ويجوز لثلاثة، لكن الثلاث أحسن، أي: لثلاث حكم، لهذا حذف تاء التأنيث من العدد.



1 انظر: ص (10).


ج / 2 ص -8- زينة للسماء،...


والثلاث هي:
الأولى: زينة للسماء، قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ}[الملك: من الآية5] لأن الإنسان إذا رأى السماء صافية في ليلة غير مقمرة وليس فيها كهرباء يجد لهذه النجوم من الجمال العظيم ما لا يعلمه إلا الله; فتكون كأنها غابة محلاة بأنواع من الفضة اللامعة، هذه نجمة مضيئة كبيرة تميل إلى الحمرة، وهذه تميل إلى الزرقة، وهذه خفيفة، وهذه متوسطة، وهذا شيء مشاهد.

وهل نقول: إن ظاهر الآية الكريمة أن النجوم مرصعة في السماء، أو نقول: لا يلزم ذلك؟
الجواب: لا يلزم من ذلك أن تكون النجوم مرصعة في السماء، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الانبياء: الآية33] أي: يدورون، كل له فلك. وأنا شاهدت بعيني أن القمر خسف نجمة من النجوم، أي غطاها، وهي من النجوم اللامعة الكبيرة كان يقرب حولها في آخر الشهر، وعند قرب الفجر غطاها; فكنا لا نراها بالمرة، وذلك قبل عامين في آخر رمضان.
إذن هي أفلاك متفاوتة في الارتفاع والنزول، ولا يلزم أن تكون مرصعة في السماء.

فإن قيل: فما الجواب عن قوله تعالى: {زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} [الملك: من الآية5]؟
قلنا: إنه لا يلزم من تزيين الشيء بالشيء أن يكون ملاصقا له، أرأيت لو أن رجلا عمر قصرا وجعل حوله ثريات من الكهرباء كبيرة وجميلة، وليست على جدرانه; فالناظر إلى القصر من بعد يرى أنها زينة له، وإن لم تكن ملاصقة له.


ج / 2 ص -9- ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك; أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به"1 انتهى.



الثانية: رجوما للشياطين; أي: لشياطين الجن، وليسوا شياطين الإنس; لأن شياطين الإنس لم يصلوا إليها، لكن شياطين الجن وصلوا إليها; فهم أقدر من شياطين الإنس، ولهم قوة عظيمة نافذة، قال تعالى عن عملهم الدال على قدرتهم: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ}، [صّ:37]، أي: سخرنا لسليمان: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}، [صّ:38]، وقال تعالى: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ}، [النمل: من الآية39]، أي: من سبأ إلى الشام، وهو عرش عظيم لملكة سبأ; فهذا يدل على قوتهم وسرعتهم ونفودهم. وقال تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً}، [الجن:9]. والرجم: الرمي.


الثالثة: علامات يهتدى بها، تؤخذ من قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}، [النحل:15-16]، فذكر الله تعالى نوعين من العلامات التي يهتدى بها:
الأول: أرضية، وتشمل كل ما جعل الله في الأرض من علامة; كالجبال، والأنهار، والطرق، والأودية، ونحوها.
والثاني: أفقية في قوله تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}.
والنجم: اسم جنس يشمل كل ما يهتدى به، ولا يختص بنجم معين; لأن لكل قوم طريقة في الاستدلال بهذه النجوم على الجهات،


1 علقه بصيغة الجزم البخاري في (بدء الخلق, باب في النجوم/2/420).


ج / 2 ص -10- وكَرِه قتادة تعلم منازل القمر.
ولم يرخص ابن عيينة فيه. ذكره حرب عنهما.
ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق.


سواء جهات القبلة أو المكان، برا أو بحرا.
وهذا من نعمة الله أن جعل علامات علوية لا يحجب دونها شيء، وهي النجوم; لأنك في الليل لا تشاهد جبالا ولا أودية، وهذا من تسخير الله، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ}، [الجاثية: من الآية13].
قوله: "وكره قتادة تعلم منازل القمر": أي: كراهة تحريم؛ بناء على أن الكراهة في كلام السلف يراد بها التحريم غالبا.


وقوله: "تعلم منازل القمر"
يحتمل أمرين:
الأول: أن المراد به معرفة منزلة القمر، فالليلة يكون في الشرطين، ويكون في الإكليل، فالمراد معرفة منازل القمر كل ليلة; لأن كل ليلة له منزلة حتى يتم ثمانيا وعشرين، وفي تسع وعشرين وثلاثين لا يظهر في الغالب.
الثاني: أن المراد به تعلم منازل النجوم; أي: يخرج النجم الفلاني في اليوم الفلاني، وهذه النجوم جعلها الله أوقاتا للفصول; لأنها [28] نجما، منها [ 14] يمانية و [14] شمالية; فإذا حلت الشمس في المنازل الشمالية صار الحر، وإذا حلت في الجنوبية صار البرد، ولذلك كان من علامة دنو البرد خروج سهيل، وهو من النجوم اليمانية.


قوله: "ولم يرخص فيه ابن عيينة": هو سفيان بن عيينة المعروف، وهذا يوافق قول قتادة بالكراهة.
قوله: "ذكره حرب": من أصحاب أحمد، روى عنه مسائل كثيرة.
قوله: "إسحاق": هو إسحاق بن راهويه.



ج / 2 ص -11- وعن أبي موسى; قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر،...


والصحيح أنه لا بأس بتعلم منازل القمر; لأنه لا شرك فيها; إلا إن تعلمها ليضيف إليها نزول المطر وحصوله البرد، وأنها هي الجالبة لذلك; فهذا نوع من الشرك، أما مجرد معرفة الوقت بها: هل هو الربيع، أو الخريف، أو الشتاء; فهذا لا بأس به.
قوله في حديث أبي موسى: "الجنة": هي الدار التي أعدها الله لأوليائه المتقين، وسميت بذلك; لكثرة أشجارها لأنها تجن من فيها أي تستره.
قوله: "مدمن خمر": هو الذي يشرب الخمر كثيرا، والخمر حده الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "كل مسكر خمر"1، ومعنى "أسكر"; أي: غطى العقل، وليس كل ما غطى العقل فهو خمر; فالبنج مثلا ليس بخمر، وإذا شرب دهنا فأغمي عليه; فليس ذلك بخمر، وإنما الخمر الذي يغطي العقل على وجه اللذة والطرب; فتجد الشارب يحس أنه في منزلة عظيمة، وسعادة، وما أشبه ذلك،

قال الشاعر:

وأسدا ما يهنئها اللقاء ونشربها فتتركنا ملوكا
وقال حمزة بن عبد المطلب- وكان قد سكر قبل تحريم الخمر- للنبي صلى الله عليه وسلم: "وهل أنتم إلا عبيد أبي"2 فالذي يغطي العقل على سبيل


1 أخرجه مسلم في (الأشربة, باب بيان أن كل مسكر خمر/3/1587) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
2 أخرجه البخاري في (فرض الخمس, باب فرض الخمس/2/385), ومسلم في (الأشربة, باب تحريم الخمر/3/1568); من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.



ج / 2 ص -12- وقاطع الرحم،....


اللذة محرم بالكتاب والسنة، ومن استحله; فهو كافر، إلا إن كان ناشئا ببادية بعيدة، أو حديث عهد بالإسلام، ولا يعلم الحكم الشرعي في ذلك; فإنه يعرف ولا يكفر بمجرد إنكاره تحريمه.
قوله: "قاطع الرحم": الرحم: هم القرابة، قال تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، [لأنفال: من الآية75]، وليس كما يظنه العامة أنهم أقارب الزوجين; لأن هذه تسمية غير شرعية، والشرعية في أقارب الزوجين: أن يسموا أصهارا.
ومعنى قاطع الرحم أن لا يصله، والصلة جاءت مطلقة في الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}، [الرعد: من الآية21]، ومنه الأرحام وما جاء مطلقا غير مقيد; فإنه يتبع فيه العرف كما قيل:

وكل ما أتى ولم يحدد بالشرع كالحرز فبالعرف احدد1
فالصلة في زمن الجوع والفقر: أن يعطيهم ويلاحظهم بالكسوة والطعام دائما، وفي زمن الغنى لا يلزم ذلك.


وكذلك الأقارب ينقسمون إلى قريب وبعيد; فأقربهم يجب له من الصلة أكثر مما يجب للأبعد. ثم الأقارب ينقسمون إلى قسمين من جهة أخرى: قسم من الأقارب يرى أن لنفسه حقا لا بد من القيام به، ويريد أن تصله دائما، وقسم آخر يقدر الظروف وينزل الأشياء منازلها; فهذا له حكم، وذلك له حكم.
والقطيعة يرجع فيها إلى العرف; إلا أنه يستثنى من ذلك مسألة، وهي: ما لو كان العرف عدم الصلة مطلقا، بأن كنا في أمة تشتتت



1 انظر: "منظومة الشارح" حفظه الله (ص 3).


ج / 2 ص -13- ومصدق بالسحر". رواه أحمد وابن حبان في " صحيحه "1.


وتقطعت عرى صلتها كما يعرف الآن في البلاد الغربية; فإنه لا يعمل حينئذ بالعرف، ونقول: لا بد من صلة، فإذا كان هناك صلة في العرف اتبعناها، وإذا لم يكن هناك صلة; فلا يمكن أن نعطل هذه الشريعة التي أمر الله بها ورسوله.
والصلة ليس معناها أن تصل من وصلك; لأن هذا مكافأة، وليست صلة; لأن الإنسان يصل أبعد الناس عنه إذا وصله، إنما الواصل; كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم "من إذا قطعت رحمه وصلها"2 هذا هو الذي يريد وجه الله والدار الآخرة.


وهل صلة الرحم حق لله أو للآدمي؟
الظاهر أنها حق للآدمي، وهي حق لله باعتبار أن الله أمر بها.
قوله: "ومصدق بالسحر": هذا هو شاهد الباب، ووجهه أن علم التنجيم نوع من السحر، فمن صدق به; فقد صدق بنوع من السحر، فقد سبق: "أن من اقتبس شعبة من النجوم; فقد اقتبس شعبة من السحر"3، والمصدق به هو المصدق بما يخبر به المنجمون، فإذا قال المنجم: سيحدث كذا وكذا، وصدق به، فإنه لا يدخل الجنة; لأنه صدق بعلم



1 أخرجه أحمد (4/339), وابن حبان (1380, 1381), وأبو يعلى, والطبراني; كما في "المجمع" (5/74). قال الهيثمي: "رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني, ورجال أحمد وأبي يعلى ثقات". وأخرجه الحاكم أيضا (4/146), وقال: "صحيح الإسناد, ولم يخرجاه", ووافقه الذهبي.
2 أخرجه: البخاري في (الآداب, باب ليس الواصل بالمكافئ/4/90) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
3 سبق (1/521).


ج / 2 ص -14-


الغيب لغير الله، قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ}، [النمل: من الآية65].
فإن قيل: لماذا لا يجعل السحر هنا عاما ليشمل التنجيم وغير التنجيم؟
أجيب: أن المصدق بما يخبره به السحرة من علم الغيب يشمله الوعيد هنا، وأما المصدق بأن للسحر تأثيرا; فلا يلحقه هذا الوعيد; إذ لا شك أن للسحر تأثيرا، لكن تأثيره تخييل، مثل ما وقع من سحرة فرعون حيث سحروا أعين الناس حتى رأوا الحبال والعصي كأنها حيات تسعى، وإن كان لا حقيقة لذلك، وقد يسحر الساحر شخصا فيجعله يحب فلانا ويبغض فلانا; فهو مؤثر، قال تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِه}، [البقرة: من الآية102]، فالتصديق بأثر السحر على هذا الوجه لا يدخله الوعيد لأنه تصديق بأمر واقع.


أما من صدق بأن السحر يؤثر في قلب الأعيان بحيث يجعل الخشب ذهبا أو نحو ذلك; فلا شك في دخوله في الوعيد; لأن هذا لا يقدر عليه إلا الله عز وجل.
وقوله: "ثلاثة لا يدخلون الجنة" هل المراد الحصر وأن غيرهم يدخل الجنة؟
الجواب: لا; لأن هناك من لا يدخلون الجنة سوى هؤلاء; فهذا الحديث لا يدل على الحصر.
وهل هؤلاء كفار لأن من لا يدخل الجنة كافر؟ اختلف أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من أحاديث الوعيد على أقوال:


ج / 2 ص -15-


القول الأول: مذهب المعتزلة والخوارج الذين يأخذون بنصوص الوعيد، فيرون الخروج من الإيمان بهذه المعصية، لكن الخوارج يقولون: هو كافر، والمعتزلة يقولون: هو في منزلة بين المنزلتين، وتتفق الطائفتان على أنهم مخلدون في النار، فيجرون هذا الحديث ونحوه على ظاهره، ولا ينظرون إلى الأحاديث الأخرى الدالة على أن من في قلبه إيمان وإن قل; فإنه لا بد أن يدخل الجنة.
القول الثاني: أن هذا الوعيد فيمن استحل هذا الفعل بدليل النصوص الكثيرة الدالة على أن من في قلبه إيمان وإن قل; فلا بد أن يدخل الجنة، وهذا القول ليس بصواب; لأن من استحله كافر ولو لم يفعله، فمن استحل قطيعة الرحم أو شرب الخمر مثلا; فهو كافر وإن لم يقطع الرحم ولم يشرب الخمر.
القول الثالث: أن هذا من باب أحاديث الوعيد التي تمر كما جاءت ولا يتعرض لمعناها، بل يقال: هكذا قال الله وقال رسوله ونسكت.


فمثلا: قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}، [النساء:93]، هذه الآية من نصوص الوعيد; فنؤمن بها، ولا نتعرض لمعناها ومعارضتها للنصوص الأخرى، ونقول: هكذا قال الله، والله أعلم بما أراد، وهذا مذهب كثير من السلف; كمالك وغيره، وهذا أبلغ في الزجر.
القول الرابع: أن هذا نفي مطلق، والنفي المطلق يحمل على المقيد; فيقال: لا يدخلون الجنة دخولا مطلقا يعني لا يسبقه عذاب، ولكنهم يدخلون الجنة دخولا يسبقه عذاب بقدر ذنوبهم، ثم مرجعهم إلى الجنة، وذلك لأن نصوص الشرع يُصدّق بعضها بعضا، ويلائم بعضها



ج / 2 ص -16- فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق النجوم
الثانية: الرد على من زعم غير ذلك.


بعضا، وهذا أقرب إلى القواعد وأبين حتى لا تبقى دلالة النصوص غير معلومة; فتقيد النصوص بعضها ببعض.
وهناك احتمال: أن من كانت هذه حاله حري أن يختم له بسوء الخاتمة، فيموت كافرا، فيكون هذا الوعيد باعتبار ما يؤول حاله إليه، وحينئذ لا يبقى في المسألة إشكال; لأن من مات على الكفر; فلن يدخل الجنة، وهو مخلد في النار، وربما يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم "لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما"1 فيكون هذا قولا خامسا.


فيه مسائل:

الأولى: الحكمة في خلق النجوم: وهي ثلاث:
- أنها زينة للسماء.
- ورجوم للشياطين.
- وعلامات يهتدى بها.
وربما يكون هناك حكم أخرى لا نعلمها.
الثانية: الرد على من زعم غير ذلك؛ لقول قتادة: "من تأول فيها غير ذلك أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به".



1 أخرجه البخاري في (الديات/6862).


ج / 2 ص -17- الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل.
الرابعة: الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل.


ومراد قتادة في قوله: "غير ذلك" ما زعمه المنجمون من الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، وأما ما يمكن أن يكون فيها من أمور حسية سوى الثلاث السابقة; فلا ضلال لمن تأوله.
الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل: سبق ذلك1.
الرابعة: الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل: من صدق بشيء من التنجيم أو غيره من السحر بلسانه ولو اعتقد بطلانه بقلبه; فإن عليه هذا الوعيد، كيف يصدق وهو يعرف أنه باطل; لأنه يؤدي إلى إغراء الناس به وبتعلمه وبممارسته.



1 انظر: (ص 10).





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




ام عادل السلفية 31-01-2015 11:32AM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: ما جاء في الاستسقاء بالأنواء

ج / 2 ص -18- باب: ما جاء في الاستسقاء بالأنواء


الاستسقاء: طلب السقيا; كالاستغفار: طلب المغفرة، والاستعانة: طلب المعونة، والاستعاذة: طلب العوذ، والاستهداء: طلب الهداية; لأن مادة استفعل في الغالب تدل على الطلب، وقد لا تدل على الطلب، بل تدل على المبالغة في الفعل، مثل: استكبر; أي: بلغ في الكبر غايته، وليس المعنى طلب الكبر، والاستسقاء بالأنواء; أي: أن تطلب منها أن تسقيك.


والاستسقاء بالأنواء ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: شرك أكبر، وله صورتان:
الأولى: أن يدعو الأنواء بالسقيا، كأن يقول: يا نوء كذا! اسقنا أو أغثنا، وما أشبه ذلك; فهذا شرك أكبر; لأنه دعا غير الله، ودعاء غير الله من الشرك الأكبر، قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}، [المؤمنون:117]، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}، [الجن:18]، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ}، [يونس:106].
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على النهي عن دعاء غير الله، وأنه من الشرك الأكبر.

ج / 2 ص -19- وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}، [الواقعة:82].


الثانية: أن ينسب حصول الأمطار إلى هذه الأنواء على أنها هي الفاعلة بنفسها دون الله ولو لم يدعها; فهذا شرك أكبر في الربوبية، والأول في العبادة; لأن الدعاء من العبادة، وهو متضمن للشرك في الربوبية; لأنه لم يدعها إلا وهو يعتقد أنها تفعل وتقضي الحاجة.

القسم الثاني: شرك أصغر، وهو أن يجعل هذه الأنواء سببا، مع اعتقاده أن الله هو الخالق الفاعل; لأن كل من جعل سببا لم يجعله الله سببا، لا بوحيه ولا بقدره; فهو مشرك شركا أصغر.
قوله تعالى: "وتجعلون": أي: تصيرون، وهي تنصب مفعولين: الأول: (رزق)، والثاني: (أن)، وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول ثان، والتقدير: وتجعلون رزقكم كونكم تكذبون أو تكذيبكم.
والمعنى: تكذبون أنه من عند الله، حيث تضيفون حصوله إلى غيره.


قوله: "رزقكم": الرزق هو العطاء، والمراد به هنا: ما هو أعم من المطر; فيشمل معنيين:
الأول: أن المراد به رزق العلم; لأن الله قال: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ، وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}، [الواقعة:75-82]، أي: تخافونهم فتداهنونهم، وتجعلون شكر ما رزقكم الله به من العلم والوحي أنكم تكذبون به، وهذا هو ظاهر سياق الآية.

ج / 2 ص -20-


الثاني: أن المراد بالرزق المطر، وقد روي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه ضعيف1 إلا أنه صح عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: أن المراد بالرزق المطر، وأن التكذيب به نسبته إلى الأنواء2، وعليه يكون ما ساق المؤلف الآية من أجله مناسبا للباب تماما.
والقاعدة في التفسير: أن الآية إذا كانت تحتمل المعنيين جميعا بدون منافاة تحمل عليهما جميعا، وإن حصل بينهما منافاة طلب المرجح.
ومعنى الآية: أن الله يوبخ هؤلاء الذين يجعلون شكر الرزق التكذيب والاستكبار والبعد لأن شكر الرزق يكون بالتصديق والقبول والعمل بطاعة المنعم، والفطرة كذلك لا تقبل أن تكفر بمن ينعم عليها; فالفطرة والعقل والشرع كل منها يوجب أن تشكر من ينعم عليك، سواء قلنا: المراد بالرزق المطر الذي به حياة الأرض، أو قلنا: إن المراد به القرآن الذي به حياة القلوب; فإن هذا من أعظم الرزق; فكيف يليق بالإنسان أن يقابل هذه النعمة بالتكذيب؟!


واعلم أن التكذيب نوعان:
أحدهما: التكذيب بلسان المقال، بأن يقول: هذا كذب، أو المطر من النوء، ونحو ذلك.



1 أخرجه الإمام أحمد (1/89, 108), والترمذي في (التفسير, ومن سورة الواقعة/9/ 35), وقال: "حسن غريب, لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث إسرائيل, وروى سفيان عن عبد الأعلى هذا الحديث بهذا الإسناد ولم يرفعه". وأخرجه أيضا: ابن جرير (27/662), وابن أبي حاتم; كما في "تفسير ابن كثير" (4/300). وأورده في "الدر المنثور" (6/163), وعزاه لابن منيع، وابن المنذر، وابن مردويه، وغيرهم، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
2 يأتي (ص30).

ج / 2 ص -21- وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية......


والثاني: التكذيب بلسان الحال، بأن يعظم الأنواء والنجوم معتقدا أنها السبب، ولهذا وعظ عمر بن عبد العزيز الناس يوما; فقال: "أيها الناس! إن كنتم مصدقين; فأنتم حمقى، وإن كنتم مكذبين; فأنتم هلكى"، وهذا صحيح; فالذي يصدق ولا يعمل أحمق، والمكذب هالك; فكل إنسان عاص نقول له الآن: أنت بين أمرين: إما أنك مصدق بما رتب على هذه المعصية، أو مكذب، فإن كنت مصدقا; فأنت أحمق، كيف لا تخاف فتستقيم؟! وإن كنت غير مصدق; فالبلاء أكبر، فأنت هالك كافر.
قوله: في حديث أبي مالك: "أربع في أمتي".


الفائدة من قوله: "أربع" ليس الحصر; لأن هناك أشياء تشاركها في المعنى، وإنما يقول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من باب حصر العلوم وجمعها بالتقسيم والعدد; لأنه يقرب الفهم، ويثبت الحفظ.
قوله: "أمتي": أي: أمة الإجابة.
قوله: "من أمر الجاهلية": أمر هنا بمعنى شأن; أي: من شأن الجاهلية وهو واحد الأمور، وليس واحد الأوامر; لأن واحد الأوامر طلب الفعل على وجه الاستعلاء.
وقوله: "من أمر الجاهلية": إضافتها إلى الجاهلية الغرض منها التقبيح والتنفير; لأن كل إنسان يقال له: فعلك فعل الجاهلية لا شك أنه يغضب، إذ إنه لا أحد يرضى أن يوصف بالجهل، ولا بأن فعله من أفعال الجاهلية; فالغرض من الإضافة هنا أمران:

ج / 2 ص -22-


1- التنفير.
2- بيان أن هذه الأمور كلها جهل وحمق بالإنسان; إذ ليست أهلا بأن يراعيها الإنسان أو يعتني بها; فالذي يعتني بها جاهل.
والمراد بالجاهلية هنا: ما قبل البعثة; لأنهم كانوا على جهل وضلال عظيم حتى إن العرب كانوا أجهل خلق الله، ولهذا يسمون بالأميين، والأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب; نسبة إلى الأم، كأن أمه ولدته الآن.
لكن لما بعث فيهم هذا النبي الكريم; قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، [آل عمران:164]، فهذه منة عظيمة؛ أن بعث فيهم النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الأمور السامية:
1- يتلو عليهم آيات الله.
2- ويزكيهم; فيطهر أخلاقهم وعبادتهم وينميها.
3- ويعلمهم الكتاب.
4- والحكمة.


هذه فوائد أربع عظيمة لو وزنت الدنيا بواحدة منها لوزنتها عند من يعرف قدرها، ثم بين الحال من قبل فقال: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، [آل عمران: من الآية164]، و"إن" هذه ليست نافية، بل مؤكدة; فهي مخففة من الثقيلة، يعني: وإنهم كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
إذن المراد بالجاهلية ما قبل البعثة; لأن الناس كانوا فيها على جهل عظيم، فجهلهم شامل للجهل في حقوق الله، وحقوق عباده، فمن جهلهم

ج / 2 ص -23- لا يتركونهن: الفخر بالأحساب،..


أنهم ينصبون النصب ويعبدونها من دون الله، ويقتل أحدهم ابنته لكي لا يعير بها، ويقتل أولاده من ذكور وإناث خشية الفقر.
قوله: "لا يتركونهن": المراد: لا يتركون كل واحد منها باعتبار المجموع بالمجموع، بأن يكون كل واحد منها عند جماعة، والثاني عند آخرين، والثالث عند آخرين، والرابع عند آخرين، وقد تجتمع هذه الأقسام في قبيلة، وقد تخلو بعض القبائل منها جميعا، إنما الأمة كمجموع لا بد أن يوجد فيها شيء من ذلك; لأن هذا خبر من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، والمراد بهذا الخبر التنفير; لأنه صلى الله عليه وسلم قد يخبر بأشياء تقع، وليس غرضه أن يؤخذ بها; كما قال صلى الله عليه وسلم: "لتركبن سنن من كان قبلكم"1، أي: فاحذروا، وأخبر صلى الله عليه وسلم: "أن الظعينة تخرج من صنعاء إلى حضرموت لا تخشى إلا الله"2، أي: بلا محرم، وهذا خبر عن أمر واقع، وليس إقرارا له شرعا.


قوله: " الفخر بالأحساب": الفخر: التعالي والتعاظم، والباء للسببية; أي: يفخر بسبب الحسب الذي هو عليه.
والحسب: ما يحتسبه الإنسان من شرف وسؤدد، كأن يكون من بني هاشم فيفتخر بذلك، أو من آباء وأجداد مشهورين بالشجاعة، فيفتخر بذلك، وهذا من أمر الجاهلية; لأن الفخر في الحقيقة يكون بتقوى الله الذي يمنع الإنسان من التعالي والتعاظم، والمتقي حقيقة هو الذي كلما



1 سبق (1/202).
2 أخرجه البخاري في (المناقب, باب علامات النبوة/2/531). ولفظه: "حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله". وأخرج البخاري من حديث عدي بن حاتم في الموضع السابق (2/527): "فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله".

ج / 2 ص -24- والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة".


ازدادت نعم الله عليه ازداد تواضعا للحق وللخلق. وإذا كان الفخر بالحسب من فعل الجاهلية; فلا يجوز لنا أن نفعله، ولهذا قال تعالى لنساء نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}، [الأحزاب: من الآية33]، واعلم أن كل ما ينسب إلى الجاهلية; فهو مذموم ومنهي عنه.
قوله: "الطعن في الأنساب": الطعن: العيب; لأنه وخز معنوي كوخز الطاعون في الجسد، ولهذا سمي العيب طعنا.
والأنساب: جمع نسب، وهو أصل الإنسان وقرابته، فيطعن في نسبه كأن يقول: أنت ابن الدبَّاغ، أو أنت ابن مقطعة البظور- وهي شيء في فرج المرأة يقطع عند ختان النساء-.


قوله: "والاستسقاء بالنجوم": أي: نسبة المطر إلى النجوم، مع اعتقاد أن الفاعل هو الله عز وجل أما إن اعتقد أن النجوم هي التي تخلق المطر والسحاب أو دعاها من دون الله لتنزل المطر; فهذا شرك أكبر مخرج عن الملة.
قوله: "والنياحة على الميت": هذا هو الرابع، والنياحة: هي رفع الصوت بالبكاء على الميت قصدا، وينبغي أن يضاف إليه على سبيل النوح; كنوح الحمام.
والندب: تعداد محاسن الميت.


والنياحة من أمر الجاهلية، ولا بد أن تكون في هذه الأمة، وإنما كانت من أمر الجاهلية؛ إما من الجهل الذي هو ضد العلم. أو من الجهالة التي هي السفه، وهي ضد الحكمة.

وإنما كانت كذلك لأمور، هي:

ج / 2 ص -25- وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها; تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب". رواه مسلم1.


1- أنها لا تزيد النائح إلا شدة، وحزنا، وعذابا.
2- أنها تسخط من قضاء الله وقدره، واعتراض عليه.
3- أنها تهيج أحزان غيره.
وقد ذكر عن ابن عقيل رحمه الله - وهو من علمائنا الحنابلة- أنه خرج في جنازة ابنه عقيل وكان أكبر أولاده وطالب علم، فلما كانوا في المقبرة صرخ رجل وقال: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، [يوسف: من الآية78]، فقال له ابن عقيل رحمه الله: إن القرآن إنما نزل لتسكين الأحزان، وليس لتهييج الأحزان.
4- أنه مع هذه المفاسد لا يرد القضاء، ولا يرفع ما نزل.

والنياحة تشمل ما إذا كانت من رجل أو امرأة، لكن الغالب وقوعها من النساء، ولهذا قال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها" أي: إن تابت قبل الموت; تاب الله عليها، وظاهر الحديث أن هذا الذنب لا تكفره إلا التوبة، وأن الحسنات لا تمحوه; لأنه من كبائر الذنوب، والكبائر لا تمحى بالحسنات; فلا يمحوها إلا التوبة.
قوله: "تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران"2، أي: تقام من قبرها، والسربال: الثوب السابغ كالدرع، والقطران معروف، ويسمى "الزفت"، وقيل: إنه النحاس المذاب.


قوله: "ودرع من جرب": الجرب: مرض معروف يكون في



1 أخرجه: مسلم في (الجنائز, باب التشديد في النياحة, 2/644).
2 مسلم: الجنائز (934) , وأحمد (5/342 ,5/343 ,5/344).

ج / 2 ص -26-


الجلد، يؤرق الإنسان، وربما يقتل الحيوان، والمعنى: إن كل جلدها يكون جربا بمنزلة الدرع، وإذا اجتمع قطران وجرب زاد البلاء; لأن الجرب أي شيء يمسه يتأثر به; فكيف ومعه قطران؟!
والحكمة أنها لما لم تغط المصيبة بالصبر غطيت بهذا الغطاء سربال من قطران ودرع من جرب; فكانت العقوبة من جنس العمل.


ويستفاد من الحديث:
1- ثبوت رسالته صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عن أمر من أمور الغيب فوقع كما أخبر.
2- التنفير من هذه الأشياء الأربعة: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت.
3- أن النياحة من كبائر الذنوب لوجود الوعيد عليها في الآخرة، وكل ذنب عليه الوعيد في الآخرة; فهو من الكبائر.
4- أن كبائر الذنوب لا تكفر بالعمل الصالح; لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا لم تتب قبل موتها".
5- أن من شروط التوبة أن تكون قبل الموت; لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا لم تتب قبل موتها"، ولقوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن}، [النساء: من الآية18].
6- أن الشرك الأصغر لا يخرج من الملة:
فمن أهل العلم من قال: إنه داخل تحت المشيئة؛ إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له.


ومن أهل العلم من قال: إنه ليس بداخل تحت المشيئة، وإنه لا بد

ج / 2 ص -27- ولهما عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: "صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية.....


أن يعاقب، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لإطلاق قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}، [النساء: من الآية48]، فقال: والشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر1.
وبهذا نعرف عظم سيئة الشرك، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا"2؛ لأن الحلف بغير الله من الشرك، والحلف بالله كاذبا من كبائر الذنوب، وسيئة الشرك أعظم من سيئة الذنب.
7- ثبوت الجزاء والبعث.
8- أن الجزاء من جنس العمل.


قوله في حديث زيد بن خالد: "صلى لنا": أي: إماما; لأن الإمام يصلي لنفسه ولغيره، ولهذا يتبعه المأموم، وقيل: إن اللام بمعنى الباء، وهذا قريب، وقيل: إن اللام للتعليل; أي: صلى لأجلنا.
قوله: "صلاة الصبح بالحديبية": أي: صلاة الفجر. والحديبية فيها لغتان: التخفيف، وهو أكثر، والتشديد، وهي اسم بئر سمي بها المكان،



1"الرد على البكري" (تلخيص "كتاب الاستغاثة") (ص 146). وانظر أيضا: "جامع الرسائل" (2/254).
2 أخرجه عبد الرزاق (8/469), والطبراني في "الكبير" (8902). قال المنذري في "الترغيب" (3/607) والهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/177): "ورواته رواة الصحيح".

ج / 2 ص -28- على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف; أقبل على الناس، فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟


وقيل: إن أصلها شجرة حدباء تسمى حديبية، والأكثر على أنها اسم بئر، وهذا المكان قريب من مكة بعضه في الحل وبعضه في الحرم، نزل به الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة السادسة من الهجرة لما قدم معتمرا، فصده المشركون عن البيت، وما كانوا أولياءه، إن أولياؤه إلا المتقون، ويسمى الآن الشميسي.
قوله: "على إثر سماء كانت من الليل": الإثر معناه العقب، والأثر: ما ينتج عن السير.
قوله: "سماء": المراد به المطر.


قوله: "كانت من الليل": "من" لابتداء الغاية، هذا هو الظاهر- والله أعلم-، ويحتمل أن تكون بمعنى " في" للظرفية.
قوله: "فلما انصرف": أي: من صلاته، وليس من مكانه بدليل قوله: "أقبل على الناس".
قوله: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟": الاستفهام يراد به التنبيه والتشويق لما سيلقى عليهم، وإلا; فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنهم لا يعلمون ماذا قال الله; لأن الوحي لا ينزل عليهم.
ومعنى قوله: "هل تدرون": أي: هل تعلمون.
والمراد بالربوبية هنا الربوبية الخاصة; لأن ربوبية الله للمؤمن خاصة كما أن عبودية المؤمن له خاصة، ولكن الخاصة لا تنافي العامة; لأن العامة تشمل هذا وهذا، والخاصة تختص بالمؤمن.

ج / 2 ص -29- قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر،.......


قوله: "قالوا: الله ورسوله أعلم": فيه إشكال نحوي; لأن "أعلم" خبر عن اثنين، وهي مفرد؛ فيقال: إن اسم التفضيل إذا نوي به معنى "من"، وكان مجردا من أل والإضافة؛ لزم فيه الإفراد والتذكير.
وفيه أيضا إشكال معنوي، وهو أنه جمع بين الله ورسوله بالواو، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له الرجل: "ما شاء الله وشئت. قال: أجعلتني لله ندا؟!"1.
فيقال: إن هذا أمر شرعي، وقد نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما إنكاره على من قال: ما شاء الله وشئت; فلأنه أمر كوني، والرسول صلى الله عليه وسلم ليس له شأن في الأمور الكونية.
والمراد بقولهم: "الله ورسوله أعلم" تفويض العلم إلى الله ورسوله، وأنهم لا يعلمون.
قوله: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر".


"مؤمن": صفة لموصوف محذوف; أي: عبد مؤمن، وعبد كافر.
و"أصبح": من أخوات كان، واسمها: "مؤمن"، وخبرها: "من عبادي".
ويجوز أن يكون "أصبح" فعلا ماضيا ناقصا، واسمها ضمير



1 أخرجه أحمد (1/214, 224, 283, 247), والبخاري في "الأدب المفرد" (783), والنسائي في "عمل اليوم والليلة"; كما في "تحفة الأشراف" (5/269), وابن ماجه بنحوه في (الكفارات, باب النهي أن يقال: ما شاء الله وشئت/2117), وابن السني في "عمل اليوم والليلة, 672), والطحاوي في "المشكل" (1/90), والطبراني في "الكبير" (13005, 13006) وأبو نعيم في "الحلية" (4/99), والبيهقي (3/217). وقال البوصيري في "الزوائد": "في إسناده الأجلح بن عبد الله مختلف فيه, ضعفه الإمام أحمد وأبو حاتم والنسائي وأبو داود وابن سعد, ووثقه ابن معين ويعقوب بن سفيان والعجلي, وباقي الإسناد ثقات". وقال الشيخ سليمان في "التيسير" (1/120): "فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له رجل..." الحديث.

ج / 2 ص -30- فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته; فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا; فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب"1.


الشأن، أي: أصبح الشأن، ف "من عبادي" خبر مقدم، و "مؤمن": مبتدأ مؤخر، أي: أصبح شأن الناس منهم مؤمن ومنهم كافر.
قوله: "فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته"، أي: قال بلسانه وقلبه، والباء للسببية، والفضل: العطاء والزيادة.
والرحمة: صفة من صفات الله، يكون بها الإنعام والإحسان إلى الخلق.
وقوله: " فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب": لأنه نسب المطر إلى الله، ولم ينسبه إلى الكوكب، ولم ير له تأثيرا في نزوله، بل نزل بفضل الله.
قوله: "وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا"، الباء للسببية.
" فذلك كافر بي، مؤمن بالكوكب": وصار كافرا بالله; لأنه أنكر نعمة الله ونسبها إلى سبب لم يجعله الله سببا; فتعلقت نفسه بهذا السبب، ونسي نعمة الله، وهذا الكفر لا يخرج من الملة; لأن المراد نسبة المطر إلى النوء على أنه سبب وليس إلى النوء على أنه فاعل.


لأنه قال: " مطرنا بنوء كذا"، ولم يقل: أنزل علينا المطر نوء كذا; لأنه لو قال ذلك; لكان نسبة المطر إلى النوء نسبة إيجاد، وبه نعرف خطأ من قال: إن المراد بقوله: "مطرنا بنوء كذا" نسبة المطر إلى النوء نسبة إيجاد; لأنه لو كان هذا هو المراد; لقال: أنزل علينا المطر نوء كذا، ولم



1 أخرجه البخاري (846), ومسلم (71).

ج / 2 ص -31-


يقل: مطرنا به. فعلم أن المراد: أن من أقر بأن الذي خلق المطر وأنزله هو الله، لكن النوء هو السبب; فهو كافر، وعليه يكون من باب الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة.
والمراد بالكوكب: النجم، وكانوا ينسبون المطر إليه، ويقولون: إذا سقط النجم الفلاني جاء المطر، وإذا طلع النجم الفلاني جاء المطر، وليسوا ينسبونه إلى هذا نسبة وقت، وإنما نسبة سبب; فنسبة المطر إلى النوء

تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- نسبة إيجاد، وهذه شرك أكبر.
2- نسبة سبب، وهذه شرك أصغر.

3- نسبة وقت، وهذه جائزة، بأن يريد بقوله: مطرنا بنوء كذا; أي: جاءنا المطر في هذا النوء، أي في وقته.
ولهذا قال العلماء: يحرم أن يقول: مطرنا بنوء كذا، ويجوز مطرنا في نوء كذا، وفرقوا بينهما أن الباء للسببية، وفي للظرفية، ومن ثم قال أهل العلم: إنه إذا قال: مطرنا بنوء كذا وجعل الباء للظرفية فهذا جائز، وهذا وإن كان له وجه من حيث المعنى، لكن لا وجه له من حيث اللفظ; لأن لفظ الحديث: " من قال: مطرنا بنوء كذا "، والباء للسببية أظهر منها للظرفية، وهي وإن جاءت للظرفية، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}، [الصافات:137-138]، لكن كونها للسببية أظهر، والعكس بالعكس; ف "في" للظرفية أظهر منها للسببية وإن جاءت للسببية; كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "دخلت امرأة النار في هرة"1.



1 أخرجه البخاري (2365)، ومسلم (2242).

ج / 2 ص -32- ولهما من حديث ابن عباس معناه، وفيه: "قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا فأنزل الله هذه الآيات1:{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ، وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}، [الواقعة:75-82].


والحاصل أن الأقرب المنع ولو قصد الظرفية، لكن إذا كان المتكلم لا يعرف من الباء إلا الظرفية مطلقا، ولا يظن أنها تأتي سببية; فهذا جائز، ومع ذلك; فالأولى أن يقال لهم: قولوا: في نوء كذا.
قوله: "ولهما": الظاهر أنه سبق قلم، وإلا; فالحديث في "مسلم" وليس في "الصحيحين2 ".


ومعنى الحديث: أنه لما نزل المطر نسبه بعضهم إلى رحمة الله وبعضهم قال: لقد صدق نوء كذا وكذا; فكأنه جعل النوء هو الذي أنزل المطر أو نزل بسببه.
ومنه ما يذكر في بعض كتب التوقيت: "وقلَّ أن يخلف نوؤُه"، أو: "هذا نوؤه صادق"، وهذا لا يجوز، وهو الذي أنكره الله عز وجل على عباده، وهذا شرك أصغر، ولو قال بإذن الله فإنه لا يجوز لأن كل الأسباب من الله، والنوء لم يجعله الله سببا.



1 أخرجه مسلم في (الإيمان, باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء/1/84).
2 وأشار إليه الشيخ سليمان رحمه الله في "التيسير" (ص461).

ج / 2 ص -33-


قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}، اختلف في "لا":
فقيل: نافية، والمنفي محذوف، والتقدير: لا صحة لما تزعمون من أن القرآن كذب أو سحر وشعر وكهانة، أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم، ف" أقسم" لا علاقة لها ب "لا" إطلاقا، وهذا له بعض الوجه.
وقيل: إن المنفي القسم; فهي داخلة على أقسم، أي: لا أقسم، ولن أقسم على أن القرآن قرآن كريم; لأن الأمر أبين من أن يحتاج إلى قسم، وهذا ضعيف جدا.


وقيل: إن "لا" للتنبيه، والجملة بعدها مثبتة; لأن " لا " بمعنى انتبه، أقسم بمواقع النجوم...، وهذا هو الصحيح.
فإن قيل: ما الفائدة من إقسامه سبحانه، مع أنه صادق بلا قسم; لأن القسم إن كان لقوم يؤمنون به ويصدقون كلامه، فلا حاجة إليه، وإن كان لقوم لا يؤمنون به; فلا فائدة منه، قال تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}، [البقرة: من الآية145]؟
أجيب:

بأن فائدة القسم من وجوه:
الأول: أن هذا أسلوب عربي لتأكيد الأشياء بالقسم، وإن كانت معلومة عند الجميع، أو كانت منكرة عند المخاطب، والقرآن نزل بلسان عربي مبين.
الثاني: أن المؤمن يزداد يقينا من ذلك، ولا مانع من زيادة المؤكدات التي تزيد في يقين العبد، قال تعالى عن إبراهيم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، [البقرة: من الآية260].
الثالث: أن الله يقسم بأمور عظيمة، دالة على كمال قدرته، وعظمته،

ج / 2 ص -34-


وعلمه; فكأنه يقيم في هذا المقسم به البراهين على صحة ما أقسم عليه بواسطة عظم ما أقسم به.
الرابع: التنويه بحال المقسم به; لأنه لا يقسم إلا بشيء عظيم، وهذان الوجهان لا يعودان إلى تصديق الخبر، بل إلى ذكر الآيات التي أقسم بها تنويها له بها وتنبيها على عظمها.
الخامس: الاهتمام بالمقسم عليه، وأنه جدير بالعناية والإثبات.
وقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}، الله سبحانه - يتحدث عن نفسه بضمير المفرد; لأنه يدل على الانفراد والتوحيد; فهو سبحانه واحد لا شريك له، ويتحدث عين نفسه بضمير الجمع; لأنه يدلي على العظمة; كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، [الحجر:9]، وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}، [يّس: من الآية12] الآية، ولا يتحدث عن نفسه بالمثني; لأن المثنى محصور باثنين.
و" الباء": حرف قسم، والمواقع جمع موقع.


واختلف في النجوم:
فقيل: إنها النجوم المعروفة، فيكون المراد بمواقعها؛ مطالعها ومغاربها.
وأقسم الله بها; لما فيها من الدلالة على كمال القدرة، في هذا الانتظام البديع، وما فيها من مناسبة المقسم به، والمقسم عليه، وهو القرآن المحفوظ بواسطة الشهب; فإن السماء عند نزول الوحي ملئت حرسا شديدا وشهبا.
وقيل: إن المراد آجال نزول القرآن، ومنه قولهم: "نزل القرآن منجما"، وقول الفقهاء: يجب أن يكون دين المكاتب مؤجلا بنجمين فأكثر; فيكون الله أقسم بمواقع نزول القرآن، وقد سبقت لنا قاعدة مفيدة، وهي: أنه إذا كان المعنيان لا يتنافيان؛ تحمل الآية على كل منهما، وإلا طلب المرجح.

ج / 2 ص -35-


قوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}، [الواقعة:76]، "قسم": خبر إن، وهذا القسم أكد الله عظمته بإن واللام؛ تنويها بالمقسم عليه، وتعظيمه.
وقوله: "لو تعلمون": مؤكد ثالث، كأنه قال: ينبغي أن تعلموا هذا الأمر ولا تجهلوه; فهو أعظم من أن يكون مجهولا; فإنه يحتاج إلى علم وانتباه، فلو تعلمون حق العلم لعرفتم عظمته; فانتبهوا.
قوله: "لقرآن": مصدر مثل الغفران، والشكران، بمعنى اسم فاعل، وبمعنى اسم المفعول; فعلى الأول يكون المراد أنه جامع للمعاني التي تضمنتها الكتب السابقة، من المصالح والمنافع، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ}، [المائدة: من الآية48]، وعلى الثاني يكون بمعنى المجموع; لأنه مجموع مكتوب.
قوله:" كريم ": يطلق على كثير العطاء، وهذا كمال في العطاء متعد للغير، ويطلق على الشيء البهي الحسن، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إياك وكرائم أموالهم"1 أي: البهي منها والحسن، وهذا كمال في الذات، وهذان المعنيان موجودان في القرآن; فالقرآن لا أحسن منه بذاته، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً}، [الأنعام: من الآية115].


والقرآن يعطي أهله من الخيرات الدينية والدنيوية والجسمية والقلبية، قال تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً}، [الفرقان:52].
فهو سلاح لمن تمسك به، ولكن يحتاج إلى أن نتمسك به بالقول والعمل والعقيدة، فلا بد أن يصدق العقيدة العمل، قال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي



1 أخرجه البخاري في (الإيمان/1/126- فتح), ومسلم في (المساقاة/3/1219).

ج / 2 ص -36-


القلب"1. ووصف الله القرآن في آية أخرى بأنه مجيد، والمجد صفة العظمة والعزة والقوة، والقرآن جامع بين الأمرين: فيه قوة وعظمة، وكذا خيرات كثيرة وإحسان لمن تمسك به.
قوله: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ}، كتاب فعال بمعنى مفعول، مثل: فراش بمعنى مفروش، وغراس بمعنى مغروس، وكتاب بمعنى مكتوب.
والمكنون: المحفوظ، قال تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ}، [الصافات:49].
واختلف المفسرون في هذا الكتاب على قولين:
الأول: أنه اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء.
الثاني- وإليه ذهب ابن القيم-: أنه الصحف التي في أيدي الملائكة2.
قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}، [عبس:11-15].
فقوله: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}، [عبس:15] يرجح أن المراد الكتب التي في أيدي الملائكة; لأن قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}، [الواقعة:79]، أي: الملائكة، يوازن قوله: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}، وعلى هذا يكون المراد بالكتاب الجنس لا الواحد.


قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}، الضمير يعود إلى الكتاب المكنون; لأنه أقرب شيء، وهو بالرفع {لاَ يَمَسُّهُ} باتفاق القراء.
وإنما نبهنا على ذلك; لدفع قول من يقول: إنه خبر بمعنى النهي، والضمير يعود على القرآن; أي: نهى أن يمس القرآن إلا طاهر، والآية ليس فيها ما



1 أخرجه البخاري في (الإيمان, باب فضل من استبرأ لدينه/1/34), ومسلم في (المساقاة, باب أخذ الحلال/3/1219); من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
2 انظر: "إعلام الموقعين" (1/225-226).

ج / 2 ص -37-


يدل على ذلك، بل هي ظاهرة في أن المراد به اللوح المحفوظ; لأنه أقرب مذكور، ولأنه خبر، والأصل في الخبر أن يبقى على ظاهره خبرا لا أمرا ولا نهيا حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك، ولم يرد ما يدل على خلاف ذلك، بل الدليل على أنه لا يراد به إلا ذلك، وأنه يعود إلى الكتاب المكنون، ولهذا قال الله: {إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} باسم المفعول، ولم يقل: إلا المطهِّرون، ولو كان المراد المطهرين لقال ذلك، أو قال: إلا المتطهرون; كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}، [البقرة: من الآية222]، والمطهرون: هم الذين طهرهم الله تعالى، وهم الملائكة، طهروا من الذنوب وأدناسها، قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ}، [التحريم: من الآية6]، وقال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}، [الأنبياء:20]، وقال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}، [الأنبياء: من الآية26-27]، وفرق بين المطهر الذي يريد أن يفعل الكمال بنفسه، وبين المطهر الذي كمله غيره وهم الملائكة، وهذا مما يؤيد ما ذهب إليه ابن القيم أن المراد بالكتاب الكتب التي في أيدي الملائكة، وفي الآية إشارة على أن من طهر قلبه من المعاصي كان أفهم للقرآن، وأن من تنجس قلبه بالمعاصي كان أبعد فهما عن القرآن، لأنه إذا كانت الصحف التي في أيدي الملائكة لم يمكن الله من مسها إلا هؤلاء المطهرين; فكذلك معاني القرآن.


فاستنبط شيخ الإسلام من هذه الآية: أن المعاصي سبب لعدم فهم القرآن; كما قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، [المطففين:14]، وهم الذين قال الله فيهم: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}، [المطففين:13]، فهم لا يصلون إلى معانيها وأسرارها; لأنه ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.

ج / 2 ص -38-


وقد ذكر بعض أهل العلم: أنه ينبغي لمن استفتي أن يقدم بين يدي الفتوى الاستغفار لمحو أثر الذنب من قلبه حتى يتبين له الحق، واستنبطه من قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً}، [النساء:105-106].
قوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، [الواقعة:80]، خبر ثان لقوله: "وإنه"، وهو كقوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، [الشعراء:192]، وكقوله: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}، [فصلت:2-3]، فهو خبر مكرر مع قوله: "لقرآن".


وتنزيل; أي: منزل، فهي مصدر بمعنى اسم المفعول، منزل من رب العالمين، أنزله الله على قلب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه محل الوعي والحفظ بواسطة جبريل، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}، [الشعراء:192-194].
وقوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: خالقهم.


ويستفاد من الآية ما يلي:

1- أن القرآن نازل لجميع الخلق; ففيه دليل على عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
2- أنه نازل من ربهم، وإذا كان كذلك; فهو الحكم بينهم الحاكم عليهم.
3- أن نزول القرآن من كمال ربوبية الله، فإذا أضيف إلى هذه الآية قوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}، [فصلت:2-3]، علم أن القرآن رحمة للعباد أيضا، وربوبية الله مبنية على الرحمة، قال تعالى:

ج / 2 ص -39-


{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، [الفاتحة:2-3]، وكل ما أمر الله به عباده أو نهاهم عنه; فهو رحمة بهم.
4- أن القرآن كلام الله; لأنه إذا كان الله أنزله; فهو كلامه لا كلام غيره كما قاله السلف رحمهم الله، وهو غير مخلوق; لأن جميع صفات الله حتى الصفات الفعلية ليست مخلوقة.
والقرآن كلام الله منزل غير مخلوق.
فإن قيل: هل كل منزل غير مخلوق؟
قلنا: لا، لكن كل منزل يكون وصفا مضافا إلى الله; فهو غير مخلوق; كالكلام، وإلا; فإن الله أنزل من السماء ماء وهو مخلوق، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ}، [الحديد: من الآية25]، وهو مخلوق، وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاج}، [الزمر: من الآية6]، والأنعام مخلوقة، فإذا كان المنزل من عند الله صفة لا تقوم بذاتها; وإنما تقوم بغيرها; لزم أن يكون غير مخلوق; لأنه من صفات الله.


قوله: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ}، [الواقعة:81]، الاستفهام للإنكار والتوبيخ، والحديث: القرآن، والمدهن: الخائف من غيره الذي يحابيه بقوله وفعله. والمعنى: أتدهنون بهذا الحديث وتخافون وتستخفون؟! لا ينبغي لكم هذا، بل ينبغي لمن معه القرآن أن يصدع به وأن يبينه ويجاهد به، قال تعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً}، [الفرقان: من الآية52].


قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}، [الواقعة:82]:
أكثر المفسرين على أنه على حذف مضاف; أي: أتجعلون شكر رزقكم; أي: ما أعطاكم الله من أي شيء؛ من المطر، ومن إنزال القرآن.
أي: تجعلون شكر هذه النعمة العظيمة؛ أن تكذبوا بها، والنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان ذكرها في المطر، فإنها تشمل المطر وغيره.

ج / 2 ص -40- فيه مسائل:
الأولى:
تفسير آية الواقعة.
الثانية: ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية.


وقيل: إنه ليس في الآية حذف، والمعنى: تجعلون شكركم تكذيبا، وقال: إن الشكر رزق، وهذا هو الصحيح، بل هو من أكبر الأرزاق، قال الشاعر:
إذا كان شكري نعمةَ الله نعمةً علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر
فالنعمة تحتاج إلى شكر، ثم إذا شكرتها; فهي نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان، وإن شكرت في الثانية; فهي نعمة تحتاج إلى شكر ثالث، وهكذا أبدا، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}، [إبراهيم: من الآية34].
قوله: {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}، [الواقعة: من الآية82]: "أن" وما دخلت عليه؛ في تأويل مصدر: مفعول " تجعلون" الثاني. أي: تصيرون شكركم تكذيبا، ولا شك أن هذا من السفه أن يقابل الإنسان نعمة ربه بالتكذيب، إن كانت وحيا كذب خبره ولم يمتثل أمره ولم يجتنب نهيه، وإن كانت عطاء تنمو به الأجسام نسبه إلى غير الله، قال: هذا من النوء أو هذا من عملي; كما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}، [القصص: من الآية78].


فيه مسائل:

الأولى: تفسير آية الواقعة: وهي قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}، [الواقعة:82]، وقد مر تفسيرها.
الثانية: ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية: وهي الطعن في الأنساب،

ج / 2 ص -41- الثالثة: ذكر الكفر في بعضها.
الرابعة: أن من الكفر ما لا يخرج من الملة.
الخامسة: قوله: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر"؛ بسبب نزول النعمة.


والفخر بالأحساب، والاستسقاء بالأنواء، والنياحة على الميت.
الثالثة: ذكر الكفر في بعضها: وهي الاستسقاء بالأنواء، وكذلك الطعن في النسب، والنياحة على الميت; كما في حديث: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت"1.
الرابعة: أن من الكفر ما لا يخرج من الملة؛ وهي أن الاستسقاء بالأنواء بعضه كفر مخرج عن الملة، وبعضه كفر دون ذلك، وقد سبق بيان ذلك.
الخامسة: قوله: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر"2، بسبب نزول النعمة، أي: إن الناس ينقسمون عند نزول النعمة إلى مؤمن بالله وكافر به، وقد سبق بيان حكم إضافة نزول المطر إلى النوء، والواجب على الإنسان إذا جاءته النعمة أن لا يضيفها إلى أسبابها مجردة عن الله، بل يعتقد أن هذا سبب محض إن كان هذا سببا، مثال ذلك: رجل غرق في ماء، وكان عنده رجل قوي، فنزلت وأنقذه; فإنه يجب على هذا الذي نجا أن يعرف نعمة الله عليه، ولولا أن الله أمر أمرا قدريا، وأمرا شرعيا أن ينقذك هذا الرجل ما حصل إنقاذ، فأنت تعتقد أن هذا سبب محض.
أما إن غرق ويسر الله له، فخرج، فقال: إن الولي الفلاني أنقذني; فهذا شرك أكبر; لأنه سبب غير صحيح، ثم إن إضافته إليه لا يظهر منها أنه يريد



1 رواه مسلم (67).
2 البخاري: الجمعة (1038), ومسلم: الإيمان (71), والنسائي: الاستسقاء (1525), وأبو داود: الطب (3906), وأحمد (4/117), ومالك: النداء للصلاة (451).

ج / 2 ص -42- السادسة: التفطن للإيمان في هذا الموضع.
السابعة: التفطن للكفر في هذا الموضع.
الثامنة: التفطن لقوله: " لقد صدق نوء كذا وكذا".
التاسعة: إخراج العالم للمتعلم المسألة بالاستفهام عنها; لقوله: "أتدرون ماذا قال ربكم؟".


أنه سبب، بل يريد أنه منقذ بنفسه; لأن اعتقاد أنه سبب وهو في قبره غير وارد، ولذلك كان أصحاب الأولياء إذا نزلت بهم شدة يسألون الأولياء دون الله تعالى; فيقعون في الشرك الأكبر من حيث لا يعلمون أو من حيث يعلمون، ثم قد يفتنون; فيحصل لهم ما يريدون عند دعاء الأولياء لا به; لأننا نعلم أن هؤلاء الأولياء لا يستجيبون لهم; لقوله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ}، [فاطر: من الآية14]، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}، [الأحقاف: من الآية5].
السادسة: التفطن للإيمان في هذا الموضع: وهو نسبة المطر إلى فضل الله ورحمته.
السابعة: التفطن للكفر في هذا الموضع: وهو نسبة المطر إلى النوء; فيقال هذا بسبب النوء الفلاني، وما أشبه ذلك.
الثامنة: التفطن لقوله: "لقد صدق نوء كذا وكذا": وهذا قريب من قوله: "مطرنا بنوء كذا"; لأن الثناء بالصدق على النوء مقتضاه أن هذا المطر بوعده، ثم بتنفيذ وعده.


التاسعة: إخراج العالم للمتعلم المسألة بالاستفهام عنها:
لقوله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ماذا قال ربكم":

ج / 2 ص -43- العاشرة: وعيد النائحة.


وذالك أن يلقي العالم على المتعلم السؤال؛ لأجل أن ينتبه له، وإلا فالرسول يعلم أن الصحابة لا يعلمون ماذا قال الله، لكن أراد أن ينبههم لهذا الأمر; فقال : "أتدرون ماذا قال ربكم"، وهذا يوجب استحضار قلوبهم.
العاشرة: وعيد النائحة: وذلك بقوله : إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب(1)، وهذا وعيد عظيم.

ــــ

(1) مسلم: الجنائز (934), وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1581), وأحمد (5/342-344).




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




ام عادل السلفية 31-01-2015 11:46AM

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}

ج / 2 ص -44- باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، [البقرة: من الآية165].


قوله: باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً}، جعل المؤلف رحمه الله تعالى الآية هي الترجمة، ويمكن أن يعنى بهذه الترجمة باب المحبة.
وأصل الأعمال كلها هو المحبة فالإنسان لا يعمل إلا لما يحب; إما لجلب منفعة، أو لدفع مضرة، فإذا عمل شيئا; فلأنه يحبه إما لذاته كالطعام، أو لغيره كالدواء.


وعبادة الله مبنية على المحبة، بل هي حقيقة العبادة; إذ لو تعبدت بدون محبة صارت عبادتك قشرا لا روح فيها، فإذا كان الإنسان في قلبه محبة لله وللوصول إلى جنته; فسوف يسلك الطريق الموصل إلى ذلك.
ولهذا لما أحب المشركون آلهتهم؛ توصلت بهم هذه المحبة إلى أن عبدوها من دون الله، أو مع الله.


والمحبة تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: محبة عبادة، وهي التي توجب التذلل والتعظيم، وأن يقوم بقلب الإنسان من إجلال المحبوب وتعظيمه؛ ما يقتضي أن يمتثل أمره، ويجتنب نهيه، وهذه خاصة بالله، فمن أحب مع الله غيره محبة عبادة; فهو مشرك شركا أكبر، ويعبر العلماء عنها بالمحبة الخاصة.
القسم الثاني: محبة ليست بعبادة في ذاتها، وهذه أنواع:

ج / 2 ص -45-


النوع الأول: المحبة لله وفي الله، وذلك بأن يكون الجالب لها محبة الله، أي: كون الشيء محبوبا لله تعالى من أشخاص; كالأنبياء، والرسل، والصديقين، والشهداء، والصالحين. أو أعمال; كالصلاة، والزكاة، وأعمال الخير، أو غير ذلك. وهذا النوع تابع للقسم الأول الذي هو محبة الله.
النوع الثاني: محبة إشفاق ورحمة، وذلك كمحبة الولد، والصغار، والضعفاء، والمرضى.
النوع الثالث: محبة إجلال وتعظيم لا عبادة; كمحبة الإنسان لوالده، ولمعلمه، ولكبير من أهل الخير.
النوع الرابع: محبة طبيعية; كمحبة الطعام، والشراب، والملبس، والمركب، والمسكن.


وأشرف هذه الأنواع النوع الأول، والبقية من قسم المباح; إلا إذا اقترن بها ما يقتضي التعبد صارت عبادة; فالإنسان يحب والده محبة إجلال وتعظيم، وإذا اقترن بها أن يتعبد لله بهذا الحب؛ من أجل أن يقوم ببر والده، صارت عبادة، وكذلك يحب ولده محبة شفقة، وإذا اقترن بها ما يقتضي أن يقوم بأمر الله بإصلاح هذا الولد؛ صارت عبادة.
وكذلك المحبة الطبيعية; كالأكل والشرب، والملبس والمسكن؛ إذا قصد بها الاستعانة على عبادة صارت عبادة، ولهذا ( حبب للنبي النساء والطيب (1)، مـن هـذه الدنــيا; فحبب إليه النســاء; لأن ذلك مقتضى الطبــيعة




(1) أخرجه الإمام أحمد (3/128, 199, 285), والنسائي في ( عشرة النساء, باب حب النسـاء/7/61)، وفي "تعليق الألباني على المشكاة" (3/1448): "إسناده حسن".

ج / 2 ص -46-


ولما يترتب عليه من المصالح العظيمة، وحبب إليه الطيب; لأنه ينشط النفس ويريحها ويشرح الصدر، ولأن الطيبات للطيبين، والله طيب لا يقبل إلا طيبا.
فهذه الأشياء إذا اتخذها الإنسان بقصد العبادة؛ صارت عبادة، قال النبي (: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى(1).
وقال العلماء: إن ما لا يتم الواجب إلا به; فهو واجب، وقالوا: الوسائل لها أحكام المقاصد، وهذا أمر متفق عليه.


وقد ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب آيتين:
الأولى: التي ترجم بها، وهي قوله: "ومن الناس": "من" تبعيضية، هي ومجرورها خبر مقدم، و "من يتخذ" مبتدأ مؤخر.
قوله: "أندادا": جمع ند، وهو الشبيه والنظير.
قوله: "يحبونهم كحب الله": أي: في كيفيته ونوعه; فالنوع أن يحب غير الله محبة عبادة. والكيفية: أن يحبه كمحبة الله أو أشد، حتى إن بعضهم يعظم محبوبه، ويغار له أكثر مما يعظم الله ويغار له، فلو قيل: احلف بالله; لحلف، وهو كاذب ولم يبال، ولو قيل: احلف بالند; لم يحلف، وهو كاذب، وهذا شرك أكبر.
وقوله: "كحب الله": للمفسرين فيها قولان:



(1) أخرجه البخاري في (بدء الوحي, باب كيف كان بدء الوحي/1/13), ومسلم في (الإمارة, باب قوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات/3/1515).

ج / 2 ص -47-


الأول: أنها على ظاهرها، وأنها مضافة إلى مفعولها; أي: يحبونهم كحبهم الله، والمعنى يحبون هذه الأنداد كمحبة الله، فيجعلونها شركاء لله في المحبة، لكن الذين آمنوا أشد حبا لله من هؤلاء لله، وهذا هو الصواب.
الثانية: أن المعنى كحب الله الصادر من المؤمنين: أي: كحب المؤمنين لله; فيحبون هذه الأنداد كما يحب المؤمنون الله ( وهذا وإن احتمله اللفظ، لكن السياق يأباه; لأنه لو كان المعنى ذلك; لكان مناقضا لقوله تعالى فيما بعد: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}، [البقرة: من الآية165]، وكانت محبة المؤمنين لله أشد; لأنها محبة خالصة ليس فيها شرك; فمحبة المؤمنين أشد من حب هؤلاء لله.


فإن قيل: قد ينقدح في ذهن الإنسان أن المؤمنين يحبون هذه الأنداد؛ نظرا لقوله: {أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}، فما الجواب؟
أجيب: أن اللغة العربية يجري فيها التفضيل بين شيئين؛ وأحدهما خال منه تماما، ومنه قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}، [الفرقان:24]، مع أن مستقر أهل النار ليس فيه خير، وقال تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}، [النمل: من الآية59]، والطرف الآخر ليس فيه شيء من هذه الموازنة، ولكنها من باب مخاطبة الخصم بحسب اعتقاده.


مناسبة الآية لباب المحبة:

منع الإنسان أن يحب أحدا كمحبة الله; لأن هذا من الشرك الأكبر، المخرج عن الملة، وهذا يوجـد في بعض العباد، وبعض الخدم; فبعض

ج / 2 ص -48- وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: من الآية24].


العباد يعظمون ويحبون بعض القبور أو الأولياء كمحبة الله أو أشد، وكذلك بعض الخدم تجدهم يحبون هؤلاء الرؤساء أكثر مما يحبون الله، ويعظمونهم أكثر مما يعظمون الله، قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً}[الأحزاب:67-68].
الآية الثانية قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ}:
"آباؤكم": اسم كان، وباقي الآية مرفوع معطوف عليه، وخبر كان {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، والخطاب في قوله: "قل" للرسول ( والمخاطب في قوله: "آباؤكم" الأمة.


والأمر في قوله: " فتربصوا" يراد به التهديد: أي: انتظروا عقاب الله، ولهذا قال: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} بإهلاك هؤلاء المؤثرين لمحبة هؤلاء الأصناف الثمانية، على محبة الله ورسوله، وجهاد في سبيله.
فدلت الآية على أن محبة هؤلاء، وإن كانت من غير محبة العبادة؛ إذا فضلت على محبة الله صارت سببا للعقوبة.
ومن هنا نعرف أن الإنسان إذا كان يهمل أوامر الله لأوامر والده; فهو يحب أباه أكثر من ربه.



ج / 2 ص -49-


وما في القلوب وإن كان لا يعلمه إلا الله، لكن له شاهد في الجوارح، ولذا يروي عن الحسن رحمه الله أنه قال: "ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه"; فالجوارح مرآة القلب.
فإن قيل: المحبة في القلب ولا يستطيع الإنسان أن يملكها، ولهذا يروي عن النبي ( أنه قالت: ( اللهم إن هذا قسمي فيما أملك; فلا تلمني فيما لا أملك )(1) وكيف للإنسان أن يحب شيئا وهو يبغضه، وهل هذا إلا من محاولات جعل الممتنع ممكنا؟
أجيب: أن هذا إيراد ليس بوارد; فالإنسان قد تنقلب محبته لشيء كراهة وبالعكس، إما لسبب ظاهر أو لإرادة صادقة، فمثلا: لك صديق تحبه فيسرق منك وينتهك حرمتك، فتكرهه لهذا السبب، أو لإرادة صادقة; كرجل يحب شرب الدخان، فصار عنده إرادة صادقة وعزيمة ثابتة، فكره الدخان، فأقلع عنه.


وقال عمر ( للنبي (: ( إنك لأحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. قال النبي ( لا والذي نفسي بيده; حتى أكون أحب إليك من نفسك. قال: الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال



(1) أخرجه أحمد في "المسند" (6/144), وأبـو داود في (النكــاح, باب في القسم بين النساء/2/601), والترمذي في (النكاح, باب في التسوية بين الضرائر/4/107), والنسائي في (عشرة النساء, باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض/7/64), وابن ماجه في (النكاح, باب القسمة بين النساء/1/633), والدارمي (2/67), وابن حبـان- وصححه- (4192), والحاكم (2/187)- وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي-. ورجح الترمذي إرساله; فقال: "رواية حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة مرسلا أصح". وانظر: "تحفة الأشــراف" (11/471/ رقم 16290), و "جامع الأصول" (11/514)،) و"نيل الأوطار" (6/372).

ج / 2 ص -50- عن أنس; أن رسول الله ( قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ( أخرجاه(1).


النبي ( الآن يا عمر )(2)، فقـد ازدادت محبـة عمـر ( للنبي )؛ وأقـره النبي ( على أن الحب قد يتغير.
وربما تسمع عن شخص كلاما وأنت تحبه فتكرهه، ثم يتبين لك أن هذا الكلام كذب; فتعود محبتك إياه.
قوله في حديث أنس: "لا يؤمن": هذا نفي الإيمان، ونفي الإيمان تارة يراد به نفي الكمال الواجب، وتارة يراد به نفي الوجود; أي: نفي الأصل. والمنفي في هذا الحديث هو كمال الإيمان الواجب; إلا إذا خلا القلب من محبة الرسول ( إطلاقا; فلا شك أن هذا نفي لأصل الإيمان.
قوله: "من ولده": يشمل الذكر والأنثى، وبدأ بمحبة الولد; لأن تعلق القلب به أشد من تعلقه بأبيه غالبا.


قوله: "ووالده": يشمل أباه، وجده وإن علا، وأمه، وجدته وإن علت.
قوله: "والناس أجمعين": يشمل إخوته وأعمامه وأبناءهم وأصحابه ونفسه; لأنه من الناس; فلا يتم الإيمان حتى يكون الرسول أحب إليه من جميع المخلوقين.
وإذا كان هذا في محبة رسول الله (؛ فكيف بمحبة الله تعالى؟!!



(1) أخرجه البخاري في (الأيمان, باب كيف كانت يمين النبي (/4/216) من حديث عمر (.
(2) أخرجه البخاري في (الإيمان, باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان/1/22), ومسلم في (الإيمان, باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل/1/67).

ج / 2 ص -51-


ومحبة رسوله الله ( تكون لأمور:
الأول: أنه رسول الله، وإذا كان الله أحب إليك من كل شيء; فرسوله أحب إليك من كل مخلوق.
الثاني: لما قام به من عبادة الله وتبليغ رسالته.
الثالث: لما آتاه الله من مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال.
الرابع: أنه سبب هدايتك، وتعليمك، وتوجيهك.
الخامس: لصبره على الأذى في تبليغ الرسالة.
السادس: لبذل جهده بالمال والنفس؛ لإعلاء كلمة الله.


ويستفاد من هذا الحديث ما يلي:

1- وجوب تقديم محبة الرسول ( على محبة النفس.
2- فداء الرسول ( بالنفس والمال؛ لأنه يجب أن تقدم محبته على نفسك ومالك.
3- أنه يجب على الإنسان أن ينصر سنة رسول الله ( ويبذل لذلك نفسه وماله وكل طاقته لأن ذلك من كمال محبة رسول الله ( ولذلك قال بعض أهل العلم في قوله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}، [الكوثر:3]، أي: مبغضك، قالوا: وكذلك من أبغض شريعته ( فهو مقطوع لا خير فيه.
4- جواز المحبة التي للشفقة والإكرام والتعظيم؛ لقوله (: "أحب إليه من ولده ووالده..."; فأثبت أصل المحبة، وهذا أمر طبيعي لا ينكره أحد.


5- وجوب تقديم قول الرسول ( على قول كل الناس; لأن من

ج / 2 ص -52-


لازم كونه أحب من كل أحد؛ أن يكون قوله مقدما على كل أحد من الناس، حتى على نفسك، فمثلا: أنت تقول شيئا وتهواه وتفعله، فيأتي إليك رجل ويقول لك: هذا يخالف قول الرسول ( فإذا كان الرسول أحب إليك من نفسك; فأنت تنتصر للرسول أكثر مما تنتصر لنفسك، وترد على نفسك بقول الرسول ( فتدع ما تهواه من أجل طاعة الرسول ( وهذا عنوان تقديم محبته على محبة النفس، ولهذا قال بعضهم:

تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
إذا يؤخذ من هذا الحديث وجوب تقديم قول الرسول ( على قول كل الناس حتى على قوله أبي بكر وعمر وعثمان، وعلى قول الأئمة الأربعة ومن بعدهم، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}، [الأحزاب: من الآية36].


لكن إذا وجدنا حديثا يخالف الأحاديث الأخرى الصحيحة، أو مخالفا لقول أهل العلم وجمهور الأمة; فالواجب التثبت والتأني في الأمر; لأن اتباع الشذوذ يؤدي إلى الشذوذ.
ولهذا إذا رأيت حديثا يخالف ما عليه أكثر الأمة، أو يخالف الأحاديث الصحيحة التي كالجبال في رسوها; فلا تتعجل في قبوله، بل يجب عليك أن تراجع وتطالع في سنده حتى يتبين لك الأمر، فإذا تبين; فإنه لا بأس أن يخصص الأقوى بأضعف منه إذا كان حجة; فالمهم التثبت في الأمر.


وهذه القاعدة تنفعك في كثير من الأقوال التي ظهرت أخيرا، وتركها الأقدمون، وصارت محل نقاش بين الناس; فإنه يجب اتباع هذه القاعدة، ويقال: أين الناس من هذه الأحاديث؟ ولو كانت هذه الأحاديث من شريعة الله; لكانت منقولة باقية معلومة.مثل ما ذكر: أن

ج / 2 ص -53- ولهما عنه، قال: قال رسـول الله: ( ثـلاث مـن كن فيــه



الإنســان إذا لم يطف طواف الإفاضة، قبل أن تغرب الشمس يوم العيد; فإنه يعود محرما! فإن هذا الحديث(1)، وإن كان ظاهر سنده الصحة; لكنه ضعيف وشاذ، ولهذا لم يذكر أنه عمل به إلا رجل أو رجلان من التابعين، وإلا فالأمة على خلافه، فمثل هذه الأحاديث يجب أن يتحرى الإنسان فيها ويتثبت، ولا نقول: إنها لا يمكن أن تكون صحيحة.


مناسبة هذا الحديث للباب:

مناسبة هذا الحديث ظاهرة; إذ محبة الرسول ( من محبة الله، ولأنه إذا كان لا يكمل الإيمان حتى يكون الرسول ( أحب إلى الإنسان من نفسه والناس أجمعين; فمحبة الله أولى وأعظم.
قوله في حديث أنس الثاني: "ثلاث من كن فيه": أي: ثلاث خصال، و "كن" بمعنى وجدن فيه.


وإعراب "ثلاث": مبتدأ، وجاز الابتداء بها لأنها مفيدة على حد قول ابن مالك:

ولا يجوز الابتدا بالنكرة ما لم تفد......(2)
وقوله: "من كن فيه": "من": شرطية، و"كن": أصلها كان; فتكون فعلا ماضيا ناسخا، والنون اسمها، و"فيه": خبرها.


(1) أخرجه أبـو داود (بـاب الإفاضة في الحج/3/508). وقال المنــذري في "مختصر السنن" (2/ 428): "في إسناده محمد بن إسحاق, وقد تقدم الكلام عليه". وانظر: "تهذيب السنن" لابن القيم (2/427).
(2)"ألفيه ابن مالك" (ص16).

ج / 2 ص -54- وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، .......


قوله: "وجد بهن": وجد: فعل ماض في محل جزم جواب الشرط، والجملة من فعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ.
وقوله: " وجد بهن حلاوة الإيمان": الباء للسببية، وحلاوة: مفعول وجد، وحلاوة الإيمان: ما يجده الإنسان في نفسه وقلبه من الطمأنينة والراحة والانشراح، وليست مدركة باللعاب والفم; فالمقصود بالحلاوة هنا الحلاوة القلبية.


الخصلة الأولى من الخصال الواردة في الحديث:
قوله: ( أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما(:
الرسول محمد (، وكذا جميع الرسل تجب محبتهم.
قوله: " أحب إليه مما سواهما": أي: أحب إليه من الدنيا كلها، ونفسه، وولده، ووالده، وزوجه، وكل شيء سواهما، فإن قيل: لماذا جاء الحديث بالواو "الله ورسوله" وجاء الخبر لهما جميعا "أحب إليه مما سواهما"؟
فالجواب: لأن محبة الرسول ( من محبة الله، ولهذا جعل قوله: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ركنا واحدا; لأن الإخلاص لا يتم إلا بالمتابعة التي جاءت عن طريق النبي .


الخصلة الثانية:
قوله: ( وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله).
قوله: "وأن يحب المرء" يشمل الرجل والمرأة.
قوله: "لا يحبه إلا لله": اللام للتعليل، أي: من أجل الله; لأنه قائم بطاعة الله .

ج / 2 ص -55- وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار((1).
وفي رواية: ( لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى...(، إلى آخره(2).


وحب الإنسان للمرء له أسباب كثيرة يحبه للدنيا، ويحبه للقرابة، ويحبه للزمالة، ويحب المرء زوجته للاستمتاع، ويحب من أحسن إليه، لكن إذا أحببت هذا المرء لله; فإن ذلك من أسباب وجود حلاوة الإيمان.
الخصلة الثالثة: قوله: ( وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار(.
هذه الصورة في كافر أسلم; فهو يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار، وإنما ذكر هذه الصورة; لأن الكافر يألف ما كان عليه أولا; فربما يرجع إليه، بخلاف من لا يعرف الكفر أصلا.
فمن كره العود في الكفر كما يكره القذف في النار; فإن هذا من أسباب وجود حلاوة الإيمان.


قوله: "وفي رواية: لا يجد أحد حلاوة الإيمان": أتى المؤلف بهذه الرواية; لأن انتفاء وجدان حلاوة الإيمان بالنسبة للرواية الأولى عن طريق المفهوم، وهذه عن طريق المنطوق، ودلالة المنطوق أقوى من دلالة المفهوم.



(1) أخرجه البخاري في (الإيمان, باب حلاوة الإيمان/1/22), ومسلم في (الإيمان, باب خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان/1/ 66).
(2) أخرجها البخاري في (الأدب, باب الحب في الله/4/ 98).

ج / 2 ص -56- وعن ابن عباس، قال: ( من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله; فإنما تنال ولاية الله بذلك،


قوله في أثر ابن عباس رضي الله عنهما: "من أحب في الله".
" من": شرطية، وفعل الشرط أحب، وجوابه جملة: " فإنما تنال ولاية الله بذلك".

و "في": يحتمل أن تكون للظرفية; لأن الأصل فيها الظرفية، ويحتمل أن تكون للسببية; لأن "في" تأتي أحيانا للسببية; كما في قوله (: ( دخلت امرأة النار في هرة((1) أي: بسبب هرة.
وقوله: "في الله". أي: من أجله، إذا قلنا: إن "في" للسببية، وأما إذا قلنا: إنها للظرفية، فالمعنى: من أحب في ذات الله; أي: في دينه وشرعه، لا لعرض الدنيا.


قوله: "وأبغض في الله": البغض الكره; أي: أبغض في ذات الله، فإذا رأى من يعصي الله كرهه.
وفرق بين "في" التي للسببية و "في" التي للظرفية; فالسببية الحامل له على المحبة أو البغضاء هو الله، والظرفية موضع الحب أو الكراهة هو في ذات الله (، فيبغض من أبغضه الله، ويحب من أحبه الله.
قوله: "ووالى في الله": الموالاة: هي المحبة والنصرة وما أشبه ذلك.
قوله: "وعادى في الله": المعاداة ضد الموالاة; أي: يبتعد عنهم ويبغضهم ويكرههم في الله.


قوله: " فإنما تنال ولاية الله بذلك": هذا جواب الشرط; أي: يدرك الإنسان ولاية الله ويصل إليها; لأنه جعل محبته وبغضه وولايته ومعاداته لله.



(1) سبق تخريجه (ص 31).

ج / 2 ص -57- ولن يجد عبد طعم الإيمان - وإن كثرت صلاته وصومه - حتى يكون كذلك، .......


وقوله: " ولاية": يجوز في الواو وجهان: الفتح والكسر، قيل: معناهما واحد، وقيل: بالفتح بمعنى النصرة، قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}، [الأنفال: من الآية72]، وبالكسر بمعنى الولاية على الشيء.
قوله: "بذلك": الباء للسببية، والمشار إليه الحب في الله والبغض فيه، والموالاة فيه والمعاداة فيه.


وهذا الأثر موقوف، لكنه بمعنى المرفوع; لأن ترتيب الجزاء على العمل لا يكون إلا بتوقيف، إلا أن الأثر ضعيف.
فمعنى الحديث: أن الإنسان لا يجد طعم الإيمان وحلاوته ولذته؛ حتى يكون كذلك، ولو كثرت صلاته وصومه، وكيف يستطيع عاقل فضلا عن مؤمن أن يوالي أعداء الله، فيرى أعداء الله يشركون به، ويكفرون به، ويصفونه بالنقائص والعيوب، ثم يواليهم ويحبهم؟! فهذا لو صلى وقام الليل كله، وصام الدهر كله; فإنه لا يمكن أن ينال طعم الإيمان، فلا بد أن يكون قلبك مملوء بمحبة الله وموالاته، ويكون مملوءا ببغض أعداء الله ومعاداتهم، وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:

أتحب أعداء الحبيب وتدعي حبـا له ما ذاك في إمـــــــكان
وقال الإمام أحمد رحمه الله: "إذا رأيت النصراني أغمض عيني; كراهة أن أرى بعيني عدو الله".


هذا الذي يجد طعم الإيمان، أما - والعياذ بالله - الذي يرى أن اليهود أو النصارى على دين مرضي ومقبول عند الله بعد بعثة النبي (، فهو خارج عن الإسلام، مكذب بقول الله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً}، [المائدة: من الآية3]، وقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ}، [آل عمران: من الآية19].

ج / 2 ص -58- ( وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئا . .........


وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، [آل عمران:85]، ولكثرة اليهود والنصارى والوثنيين صار في هذه المسألة خطر على المجتمع، وأصبح كثير من الناس الآن لا يفرق بين مسلم وكافر، ولا يدري أن غير المسلم عدو لله ( بل هو عدو له أيضا; لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، [الممتحنة: من الآية1]، فهم أعداء لنا ولو تظاهروا بالصداقة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، [المائدة:51].


فالآن أصبحنا في محنة وخطر عظيم; لأنه يخشى على أبنائنا وأبناء قومنا أن يركنوا إلى هؤلاء ويوادوهم ويحبوهم، ولذلك يجب أن تخلص هذه البلاد بالذات منهم; فهذه البلاد قال فيها الرسول (: ( لأخرجن اليهود والنصـارى من جزيرة العــرب حتى لا أدع إلا مسلما((1)، وقال (: ( أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب((2)، وقال (: ( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب((3)، وهذا كله من أجل أن لا يشتبه الأمر على الناس، ويختلط أولياء الله بأعدائه.
قوله: "وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا".



(1) أخرجه مسلم في (الجهاد, باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب/3/ 1388) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(2) انظر: "التلخيص الحبير" (4/ 125/ رقم 1917).
(3) أخرجه البخاري في (الجهاد, باب هل يستشفع إلى أهل الذمة/2/ 373), ومسلم في (الوصية, باب ترك الوصية/3/ 1257).

ج / 2 ص -59- رواه ابن جرير(1).


قوله: "عامة": أي: أغلبية.
وقوله: "مؤاخاة الناس": أي: مودتهم ومصاحبتهم: أي: أكثر مودة الناس ومصاحبتهم على أمر الدنيا، وهذا قاله ابن عباس، وهو بعيد العهد منا قريب العهد من النبوة، فإذا كان الناس قد تغيروا في زمنه; فما بالك بالناس اليوم؟
فقد صارت مؤاخاة الناس- إلا النادر- على أمر الدنيا، بل صار أعظم من ذلك، يبيعون دينهم بدنياهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، [الأنفال:27]، ولما كان غالب ما يحمل على الخيانة هو المال وحب الدنيا أعقبها بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}، [الأنفال:28].


ويستفاد من أثر ابن عباس رضي الله عنهما: أن لله تعالى أولياء، وهو ثابت بنص القرآن، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}، [البقرة: من الآية257]، وقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}، [المائدة: من الآية55]، فلله أولياء يتولون أمره ويقيمون دينه، وهو يتولاهم بالمعونة والتسديد والحفظ والتوفيق، والميزان لهذه الولاية قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}، [يونس:62-63].



(1) أخرجه ابن المبـارك في "الزهد" (353) عن ابن عباس موقوفا, وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/312) عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا, والطبراني في "الكبير" (13537) عن ابن عمر موقوفا. ومداره على ليث بن أبي سليم, وهو ضعيف مختلط. انظر: "تهذيـب التهذيـب" (8/ 467), و"تقريب التهذيب" (2/ 138).

ج / 2 ص -60- ( وقال ابن عباس في قوله تعالى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ; قال: المودة((1) .


قال شيخ الإسلام: "من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا"، والولاية سبق أنها النصرة والتأييد والإعانة.
والولاية تنقسم إلى: ولاية من الله للعبد، وولاية من العبد لله; فمن الأولى قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}، [البقرة: من الآية257]، ومن الثانية قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}، [المائدة: من الآية56].
والولاية التي من الله للعبد تنقسم إلى عامة وخاصة; فالولاية العامة هي الولاية على العباد بالتدبير والتصريف، وهذه تشمل المؤمن والكافر وجميع الخلق; فالله هو الذي يتولى عباده بالتدبير والتصريف والسلطان وغير ذلك، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}، [الأنعام:62].


والولاية الخاصة: أن يتولى الله العبد بعنايته وتوفيقه وهدايته، وهذه خاصة بالمؤمنين، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}، [البقرة: من الآية257]، وقال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}، [يونس:62-63].
قوله: "وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}، [البقرة: من الآية166].
قال: المودة"؛ يشير إلى قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}، [البقرة:166].




(1) أخرجه ابن جرير (2/ 43), والحاكم (2/ 272) وصححه, ووافقه الذهبي.

ج / 2 ص -61- فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية (البقرة).

ــ
الأسباب: جمع سبب، وهو كل ما يتوصل به إلى شيء. وفي اصطلاح الأصوليين: ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم; فكل ما يوصل إلى شيء; فهو سبب، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج: من الآية15]، ومنه سمي الحبل سببا؛ لأن الإنسان يتوصل به إلى استخراج الماء من البئر.
وقوله: "قال: المودة": هذا الأثر ضعفه بعضهم، لكن معناه صحيح; فإن جميع الأسباب التي يتعلق بها المشركون لتنجيهم تتقطع بهم، ومنها محبتهم لأصنامهم وتعظيمهم إياها; فإنها لا تنفعهم، ولعل ابن عباس رضي الله عنهما أخذ ذلك من سياق الآيات; فقد قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه}[البقرة: من الآية165]، ثم قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة:166].
وبه تعرف أن مراده المودة الشركية، فأما المودة الإيمانية؛ كمودة الله تعالى، ومودة ما يحبه من الأعمال والأشخاص; فإنها نافعة موصلة للمراد، قال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].


فيه مسائل:

الأولى: تفسير آية البقرة: وهي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، وسبق ذلك.

ج / 2 ص -62- الثانية: تفسير آية (براءة).
الثالثة: وجوب محبته ( على النفس والأهل والمال.
الرابعة: نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام.


الثانية: تفسير آية براءة: وهي قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُم} الآية، وسبق تفسيرها.
الثالثة: وجوب محبته ( على النفس والأهل والمال: وفي نسخة: "وتقديمها على النفس والأهل والمال".


ولعل الصواب: وجوب تقديم محبته كما هو مقتضى الحديث، وأيضا قوله: "على النفس" يدل على أنها قد سقطت كلمة تقديم أو وتقديمها، وتؤخذ من حديث أنس السابق ومن قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}؛ فذكر الأقارب والأموال.


الرابعة:
أن نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام: سبق أن المحبة كسبية، وذكــرنا في ذلك حديث عمر ( لما قال للرسول (: ( والله إنك لأحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال له: ومن نفسك. فقال: الآن، أنت أحب إلي من نفسي((1).
وقوله: "الآن" يدل على حدوث هذه المحبة، وهذا أمر ظاهر، وفيه أيضا أن نفي الإيمان المذكور في قوله (: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده...((2) لا يدل على الخروج من الإسلام; لقوله ( في الحديث الآخر: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان"; لأن حلاوة الإيمان أمر زائد على أصله; أي: إن الدليل مركب من الدليلين.



(1) البخاري: الأيمان والنذور (6632), وأحمد (4/336،233)، (5/293).
(2) صحيح مسلم: كتاب الإيمان (44), وسنن النسائي: كتاب الإيمان وشرائعه (5013،5015), وسنن ابن ماجه: كتاب المقدمة (67), ومسند أحمد (3/207،275،278).

ج / 2 ص -63- الخامسة: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها.
السادسة: أعمال القلب الأربع التي لا تنال ولاية الله إلا بها ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها.


ونفي الشيء له ثلاث حالات: فالأصل أنه نفي للوجود، وذلك مثل: لا إيمان لعابد صنم، فإن منع مانع من نفي الوجود; فهو نفي للصحة، مثل: "لا صلاة بغير وضوء"، فإن منع مانع من نفي الصحة; فهو نفي للكمال، مثل: "لا صلاة بحضرة طعام"; فقوله: "لا يؤمن أحدكم" نفي للكمال الواجب لا المستحب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لا ينفى الشيء إلا لانتفاء واجب فيه ما لم يمنع من ذلك مانع".


الخامسة: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها تؤخذ من قوله: ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان(، وهذا دليل انتفاء الحلاوة إذا انتفت هذه الأشياء.
السادسة: أعمال القلب الأربعة التي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها.
وهي: الحب في الله، والبغض في الله، والولاء في الله، والعداء في الله. لا تنال ولاية الله إلا بها، فلو صلى الإنسان وصام ووالى أعداء الله; فإنه لا يناله ولاية الله، قال ابن القيم:

أتحب أعداء الحبيب وتدعي حبا له ما ذاك في إمــــــــكان
وهذا لا يقبله حتى الصبيان أن توالي من عاداهم.


وقوله: "ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها" مأخوذة من قول ابن عباس: "ولن يجد عبد طعم الإيمان..." إلخ.

ج / 2 ص -64- السابعة: فهم الصحابي للواقع; أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا.
الثامنة: تفسير: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}.
التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حبا شديدا.
العاشرة: الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه.


السابعة: فهم الصحابي للواقع أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا الصحابي يعني به ابن عباس رضي الله عنهما، وقوله: "إن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا"، هذا في زمنه; فكيف بزمننا؟!
الثامنة: تفسير قوله: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}؛ فسرها بالمودة، وتفسير الصحابي إذا كانت الآية من صيغ العموم تفسير بالمثال; لأن العبرة في نصوص الكتاب والسنة بعموماتها، فإذا ذكر فرد من أفراد هذا العموم; فإنما يقصد به التمثيل، أي: مثل المودة، لكن حتى الأسباب الأخرى التي يتقربون بها إلى الله وليست بصحيحة; فإنها تنقطع بهم ولا ينالون منها خيرا.


التاسعة:
أن من المشركين من يحب الله حبا شديدا: تؤخذ من قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، [البقرة: من الآية165]، وهم يحبون الأصنام حبا شديدا، وتؤخذ من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه}؛ فأشد: اسم تفضيل، يدل على الاشتراك في المعنى مع الزيادة; فقد اشتركوا في شدة الحب، وزاد المؤمنون بكونهم أشد حبا لله من هؤلاء لأصنامهم.


العاشرة:
الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه: الثمانية هي المذكورة في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ

ج / 2 ص -65- الحادية عشرة: أن من اتخذ ندا تساوي محبته محبة الله; فهو الشرك الأكبر.


وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا}، [التوبة: من الآية24].
والوعيد في قوله: "فتربصوا"; فأفاد المؤلف رحمه الله تعالى أن الأمر هنا للوعيد.
الحادية عشرة: أن من اتخذ ندا تساوي محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر: لقوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، [البقرة: من الآية165]، ثم بين في سياق الآيات أنهم مشركون شركا أكبر، بدليل ما لهم من العذاب.




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 31-01-2015 09:26PM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

ج / 2 ص -66- باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175].


مناسبة الباب لما قبله:
أن المؤلف رحمه الله أعقب باب المحبة بباب الخوف; لأن العبادة ترتكز على شيئين: المحبة، والخوف.
فبالمحبة يكون امتثال الأمر، وبالخوف يكون اجتناب النهي وإن كان تارك المعصية يطلب الوصول إلى الله، ولكن هذا من لازم ترك المعصية، وليس هو الأساس.
فلو سألت من لا يزني لماذا; لقال: خوفا من الله. ولو سألت الذي يصلي; لقال: طمعا في ثواب الله ومحبة له.
وكل منهما ملازم للآخر; فالخائف والمطيع يريدان النجاة من عذاب الله والوصول إلى رحمته.
وهل الأفضل للإنسان أن يغلب جانب الخوف، أو يغلب جانب الرجاء؟


اختلف في ذلك:
فقيل: ينبغي أن يغلب جانب الخوف; ليحمله ذلك على اجتناب المعصية ثم فعل الطاعة.
وقيل: يغلب جانب الرجاء; ليكون متفائلا والرسول ( كان يعجبه الفأل(1).



(1) سبق (1/570).

ج / 2 ص -67-


وقيل في فعل الطاعة: يغلب جانب الرجاء فالذي من عليه بفعل هذه الطاعة سيمن عليه بالقبول، ولهذا قال بعض السلف: إذا وفقك الله للدعاء; فانتظر الإجابة، لأن الله يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، [غافر: من الآية60وفي فعل المعصية يغلب جانب الخوف لأجل أن يمنعه منها ثم إذا خاف من العقوبة تاب. وهذا أقرب شيء، ولكن ليس بذاك القرب الكامل; لأن الله يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}، [المؤمنون:60]، أي: يخافون أن لا يقبل منهم، لكن قد يقال بأن هذه الآية يعارضها أحاديث أخرى; كقوله ( في الحديث القدسي عن ربه: ( أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني((1).


وقيل: في حال المرض يغلب جانب الرجاء، وفي حال الصحة يغلب جانب الخوف. فهذه أربعة أقوال.
وقال الإمام أحمد: ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحدا; فأيهما غلب هلك صاحبه; أي: يجعلهما كجناحي الطائر، والجناحان للطائر إذا لم يكونا متساويين سقط.
وخوف الله تعالى درجات؛ فمن الناس من يغلو في خوفه، ومنهم من يفرط، ومنهم من يعتدل في خوفه.
والخوف العدل هو الذي يرد عن محارم الله فقط، وإن زدت على هذا; فإنه يوصلك إلى اليأس من روح الله.
ومن الناس من يفرط في خوفه بحيث لا يردعه عما نهى الله عنه.


والخوف أقسام:


(1) أخرجه البخاري في (التوحيد, باب ويحذركم الله نفسه/4/384), ومسلم في (الذكر والدعاء, باب الحث على ذكر الله/4/2061); من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ج / 2 ص -68-

الأول: خوف العبادة والتذلل والتعظيم والخضوع، وهو ما يسمى بخوف السر؛ وهذا لا يصلح إلا لله - سبحانه -، فمن أشرك فيه مع الله غيره; فهو مشرك شركا أكبر، وذلك مثل: من يخاف من الأصنام أو الأموات، أو من يزعمونهم أولياء ويعتقدون نفعهم وضرهم; كما يفعله بعض عباد القبور: يخاف من صاحب القبر أكثر مما يخاف الله.


الثاني: الخوف الطبيعي والجبلي; فهذا في الأصل مباح; لقوله تعالى عن موسى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ}، [القصص: من الآية21]، وقوله عنه أيضا: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}، [القصص:33]، لكن إن حمل على ترك واجب أو فعل محرم; فهو محرم، وإن استلزم شيئا مباحا كان مباحا، فمثلا من خاف من شيء لا يؤثر عليه وحمله هذا الخوف على ترك صلاة الجماعة مع وجوبها; فهذا الخوف محرم، والواجب عليه أن لا يتأثر به. وإن هدده إنسان على فعل محرم، فخافه وهو لا يستطيع أن ينفذ ما هدده به; فهذا خوف محرم لأنه يؤدي إلى فعل محرم بلا عذر، وإن رأى نارا ثم هرب منها ونجا بنفسه; فهذا خوف مباح، وقد يكون واجبا إذا كان يتوصل به إلى إنقاذ نفسه.


وهناك ما يسمى بالوهم وليس بخوف، مثل أن يرى ظل شجرة تهتز، فيظن أن هذا عدو يتهدده; فهذا لا ينبغي للمؤمن أن يكون كذلك، بل يطارد هذه الأوهام لأنه لا حقيقة لها، وإذا لم تطاردها; فإنها تهلكك.


مناسبة الخوف للتوحيد:


أن من أقسام الخوف ما يكون شركا منافيا للتوحيد.

ج / 2 ص -69-

وقد ذكر المؤلف فيه ثلاث آيات:
أولها ما جعلها ترجمة للباب، وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}، [آل عمران: من الآية175].
"إنما ذلكم": صيغة حصر، والمشار إليه التخويف من المشركين.
"ذلكم": ذا؛ مبتدأ، و"الشيطان": يحتمل أن يكون خبر المبتدأ، وجملة "يخوف" حال من الشيطان.
ويحتمل أن يكون "الشيطان" صفة لـ"ذلكم"، أو عطف بيان.
و"يخوف": خبر المبتدأ، والمعنى: ما هذا التخويف الذي حصل إلا من شيطان يخوف أولياءه.
و"يخوف" تنصب مفعولين، الأول محذوف تقديره: يخوفكم، والمفعول الثاني: "أولياءه"، ومعنى يخوفكم; أي: يوقع الخوف في قلوبكم منهم.
و"أولياءه"; أي: أنصاره الذين ينصرون الفحشاء والمنكر; لأن الشيطان يأمر بذلك; فكل من نصر الفحشاء والمنكر; فهو من أولياء الشيطان، ثم قد يكون النصر في الشرك وما ينافي التوحيد; فيكون عظيما وقد يكون دون ذلك.
وقوله: "يخوف أولياءه" من ذلك ما وقع في الآية التي قبلها، حيث قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}، [آل عمران: من الآية173]، وذلك ليصدوهم عن واجب من واجبـات الدين، وهو الجهاد، فيخوفونهم بذلك،

ج / 2 ص -70-


وكذلك ما يحصل في نفس من أراد أن يأمر بالمعروف، أو ينهى عن المنكر، فيخوفه الشيطان ليصده عن هذا العمل، وكذلك ما يقع في قلب الداعية.
والحاصل: أن الشيطان يخوف كل من أراد أن يقوم بواجب، فإذا ألقى الشيطان في نفسك الخوف; فالواجب عليك أن تعلم أن الإقدام على كلمة الحق ليس هو الذي يدني الأجل، وليس السكوت والجبن هو الذي يبعد الأجل; فكم من داعية صدع بالحق ومات على فراشه؟! وكم من جبان قتل في بيته؟!
وانظر إلى خالد بن الوليد، كان شجاعا مقداما، ومات على فراشه، وما دام الإنسان قائما بأمر الله; فليثق بأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وحزب الله هم الغالبون.


قوله: "فلا تخافوهم": لا ناهية، والهاء ضمير يعود على أولياء الشيطان، وهذا النهي للتحريم بلا شك; أي: بل امضوا فيما أمرتكم به وفيما أوجبته عليكم من الجهاد، ولا تخافوا هؤلاء، وإذا كان الله مع الإنسان، فإنه لا يغلبه أحد، لكن نحتاج في الحقيقة إلى صدق النية والإخلاص والتوكل التام، ولهذا قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، [آل عمران: من الآية175]، وعلم من هذه الآية أن للشيطان وساوس يلقيها في قلب ابن آدم منها التخويف من أعدائه، وهذا ما وقع فيه كثير من الناس، وهو الخوف من أعداء الله فكانوا فريسة لهم، وإلا لو اتكلوا على الله وخافوه قبل كل شيء لخافهم الناس، ولهذا قيل في المثل: من خاف الله خافه كل شيء، ومن اتقى الله اتقاه كل شيء، ومن خاف من غير الله خاف من كل شيء.


ويفهم من الآية أن الخـوف من الشيطان وأوليـائه مناف للإيمان، فإن

ج / 2 ص -71- وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}، [التوبة:18].


كان الخوف يؤدي إلى الشرك; فهو مناف لأصله، وإلا; فهو مناف لكماله.
الآية الثانية قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُر}. "إنما": أداة حصر، والمراد بالعمارة العمارة المعنوية، وهي عمارتها بالصلاة والذكر وقراءة القرآن ونحوها، وكذلك الحسية بالبناء الحسي; فإن عمارتها به حقيقة لا تكون إلا ممن ذكرهم الله; لأن من يعمرها وهو لم يؤمن بالله واليوم الآخر لم يعمرها حقيقة; لعدم انتفاعه بهذه العمارة; فالعمارة النافعة الحسية والمعنوية من الذين آمنوا بالله واليوم الآخر، ولهذا لما افتخر المشركون بعمارة المسجد الحرام; قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، وأضاف سبحانه المساجد إلى نفسه تشريفا; لأنها موضع عبادته.
قوله: ( مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ( "من": فاعل يعمر.


والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور، وهي:
- الإيمان بوجوده.
- وربوبيته.
- وألوهيته.
- وأسمائه وصفاته.

ج / 2 ص -72-

و{اليوم الآخر}: هو يوم القيامة، وسمي بذلك; لأنه لا يوم بعده.
قال شيخ الإسلام: ويدخل في الإيمان بالله واليوم الآخر كل ما أخبر به النبي (، مما يكون بعد الموت مثل فتنة القبر وعذابه ونعيمه؛ لأن حقيقة الأمر أن الإنسان إذا مات قامت قيامته وارتحل إلى دار الجزاء.
ويقرن الله الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر كثيرا; لأن الإيمان باليوم الآخر يحمل الإنسان إلى الامتثال، فإنه إذا آمن أن هناك بعثا وجزاء; حمله ذلك على العمل لذلك اليوم، ولكن من لا يؤمن باليوم الآخر لا يعمل; إذ كيف يعمل لشيء وهو لا يؤمن به؟!
قوله: "وأقام الصلاة": أي: أتى بها على وجه قويم لا نقص فيه.


والإقامة نوعان:
إقامة واجبة، وهي التي يقتصر فيها على فعل الواجب من الشروط والأركان والواجبات.
وإقامة مستحبة: وهي التي يزيد فيها على فعل ما يجب؛ فيأتي بالواجب والمستحب.
قوله: "وآتى الزكاة": "آتى" تنصب مفعولين؛ الأول هنا الزكاة، والثاني محذوف، تقديره مستحقها.
والزكاة: هي المال الذي أوجبه الشارع في الأموال الزكوية وتختلف مقاديرها حسب ما تقتضيه حكمة الله (.
قوله: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ}؛ في هذه الآية حصر، طريقه الإثبات والنفي.
"ولم يخش" نفي، "إلا الله" إثبات.
والمعنى: أن خشيته انحصرت في الله - عزوجل - فلا يخشى غيره. والخشية نوع من

ج / 2 ص -73-

الخوف، لكنها أخص منه،

والفرق بينهما:
1- أن الخشية تكون مع العلم بالمخشي وحاله; لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، [فاطر: من الآية28]، والخوف قد يكون من الجاهل.
2- أن الخشية تكون بسبب عظمة المخشي، بخلاف الخوف; فقد يكون من ضعف الخائف لا من قوة المخوف.
قوله: {فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}، [التوبة: من الآية18]، قال ابن عباس: ( عسى من الله واجبة((1) وجاءت بصيغة الترجي; لئلا يأخذ الإنسان الغرور بأنه حصل على هذا الوصف، وهذا كقوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً، فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً}، [النساء:98-99]، فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها; فالذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا جديرون بالعفو.


الشاهد من الآية: قوله: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ}؛ ولهذا قال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}، ومن علامات صدق الإيمان أن لا يخشى إلا الله في كل ما يقول ويفعل. ومن أراد أن يصحح هذا المسير; فليتأمل قول الرسول ( ( واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك((2).



(1) أخرجه البيهقي (9/ 13), وأورده السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 587), وفي "الإتقـان" (ص 214). وإسناده صحيح. انظر صحيفة علي بن أبي طالب: (ص 72- 73).
(2) أخرجه الإمام أحمد (1/ 293, 307), والترمذي في (صفة القيامة, باب "ولكن يا حنظلة ساعة وساعة"/8/ 203)- وقال: "حسن صحيح" وأخرجه أيضا: عبد بن حميد (635), والطبراني في "الكبير" (12988, 12989, 11243, 11416, 11560), وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 314) و "أخبار أصفهان" 21/ 204). وقال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (ص 161): "وبكل حال; فطريق حنش التي خرجها الترمذي حسنة جيدة". وانظر: "المشكاة (3/ 1459).

ج / 2 ص -74- وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}، [العنكبوت: من الآية10]، الآية.


الآية الثالثة قوله تعالى: "ومن الناس": جار ومجرور خبر مقدم، و"من" تبعيضية.
وقوله: "من يقول": "من": مبتدأ مؤخر، والمراد بهؤلاء: من لا يصل الإيمان إلى قرارة قلبه; فيقول: آمنا بالله، لكنه إيمان متطرف; كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ}، [الحج: من الآية11]، "على حرف" ; أي: على طرف.
فإذا امتحنه الله بما يقدر عليه من إيذاء الأعداء في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله.


قوله: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ}، "في": للسببية; أي: بسبب الإيمان بالله وإقامة دينه. ويجوز أن تكون "في" للظرفية على تقدير: "فإذا أوذي في شرع الله"; أي: إيذاء في هذا الشرع الذي تمسك به.
قوله: {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ}، "جعل": صير، والمراد بالفتنة هنا الإيذاء، وسمي فتنة; لأن الإنسان يفتتن به، فيصد عن سبيل الله; كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا}، [البروج: من الآية10]، وإضافة الفتنة إلى الناس من باب إضافة المصدر إلى فاعله.
قوله: "كعذاب الله": ومعلــوم أن الإنسـان يفر من عــذاب الله،

ج / 2 ص -75-


فيوافق أمره; فهذا يجعل فتنة الناس كعذاب الله; فيفر من إيذائهم بموافقة أهوائهم وأمرهم جعلا لهذه الفتنة كالعذاب; فحينئذ يكون قد خاف من هؤلاء كخوفه من الله; لأنه جعل إيذاءهم كعذاب الله، ففر منه بموافقة أمرهم; فالآية موافقة للترجمة.
وفي هذه الآية من الحكمة العظيمة،


وهي ابتلاء الله للعبد لأجل أن يمحص إيمانه وذلك على قسمين:
الأول: ما يقدره الله نفسه على العبد; كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ}، [الحج: من الآية11]، وقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، [البقرة: من الآية155-156].
الثاني: ما يقدره الله على أيدي الخلق من الإيذاء امتحانا واختبارا، وذلك كالآية التي ذكر المؤلف.
وبعض الناس إذا أصابته مصائب لا يصبر، فيكفر ويرتد أحيانا- والعياذ بالله-، وأحيانا يكفر بما خالف فيه أمر الله ( في موقفه في تلك المصيبة; وكثير من الناس ينقص إيمانه بسبب المصائب نقصا عظيما; فليكن المسلم على حذر; فالله حكيم، يمتحن عباده بما يتبين به تحقق الإيمان، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}[محمد:31].
قوله: "الآية": أي: إلى آخر الآية، وهي قوله تعالى: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ}، [العنكبوت: من الآية10].

ج / 2 ص -76-

كانوا يدعون أن ما يحصل لهم من الإيذاء بسبب الإيمان، فإذا انتصر المسلمون قالوا: نحن معكم نريد أن يصيبنا مثل ما أصابكم من غنيمة وغيرها.
وقوله: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ}، [العنكبوت: من الآية10]، قيل في مثل هذا السياق: إن الواو عاطفة على محذوف يقدر بحسب ما يقتضيه السياق.
وقيل: إنها عاطفة على ما سبقها، على تقدير أن الهمزة بعدها، أي: وأليس الله.
قوله: "أعلم" مجرور بالفتحة; لأنه ممنوع من الصرف للوصفية، ووزن الفعل.
فالله أعلم بما في صدور العالمين، أي بما في صدور الجميع; فالله أعلم بما في نفسك منك، وأعلم بما في نفس غيرك; لأن علم الله عام.
وكلمة "أعلم": اسم تفضيل، وقال بعض المفسرين ولاسيما المتأخرون منهم: "أعلم" بمعنى عالم، وذلك فرارا من أن يقع التفضيل بين الخالق والمخلوق، وهذا التفسير الذي ذهبوا إليه كما أنه خلاف اللفظ; ففيه فساد المعنى; لأنك إذا قلت: أعلم بمعنى عالم، فإن كلمة عالم تكون للإنسان وتكون لله، ولا تدل على التفاضل; فالله عالم والإنسان عالم.


وأما تحريف اللفظ; فهو ظاهر، حيث حرفوا اسم التفضيل الدال على ثبوت المعنى وزيادة إلى اسم فاعل لا يدل على ذلك.
والصواب أن "أعلم" على بابها، وأنها اسم تفضيل، وإذا كانت اسم تفضيل; فهي دالة دلالة واضحة على عدم تماثل علم الخالق وعلم المخلوق، وأن علم الخالق أكمل.

ج / 2 ص -77- عن أبي سعيد ( مرفوعا: ( إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، ............


وقوله: {بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ}، المراد بالعالمين: كل من سوى الله; لأنهم علم على خالقهم، فجميع المخلوقات دالة على كمال الله وقدرته وربوبيته.
والله أعلم بنفسك منك ومن غيرك; لعموم الآية.
وفي الآية تحذير من أن يقول الإنسان خلاف ما في قلبه، ولهذا لما تخلف كعب بن مالك في غزوة تبوك قال للرسول ( حين رجع: ( إني قد أوتيت جدلا، ولو جلست إلى غيرك من ملوك الدنيا; لخرجت منهم بعذر، لكن لا أقول شيئا تعذرني فيه فيفضحني الله فيه((1).
الشاهد من الآية: قوله: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّه}، [العنكبوت: من الآية10]، فخاف الناس مثل خوف الله تعالى.
قوله: في حديث أبي سعيد: "إن من ضعف اليقين": "من": للتبعيض، والضعف ضد القوة، ويقال: ضَعف بفتح الضاد أو ضُعف بضم الضاد، وكلاهما بمعنى واحد; أي: من علامة ضعف اليقين.


قوله: " أن ترضي الناس بسخط الله ":
"أن ترضي": اسم إن مؤخرا، و "من ضعف اليقين": خبرها مقدما والتقدير: إن إرضاء الناس بسخط الله من ضعف اليقين.



(1) أخرجه البخاري في (المغازي, باب حديث كعب بن مالك/3/176), ومسلم في (التوبة, باب حديث توبة كعب/4/2120).

ج / 2 ص -78- وأن تحمدهم على رزق الله،.....


قوله: "بسخط الله": الباء للعوض، يعني: أي تجعل عوض إرضاء الناس سخط الله، فتستبدل هذا بهذا; فهذا من ضعف اليقين.
واليقين أعلى درجات الإيمان، وقد يراد به العلم، كما تقول: تيقنت هذا الشيء، أي: علمته يقينا لا يعتريه الشك، فمن ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله; إذ إنك خفت الناس أكثر مما تخاف الله، وهذا مما ابتليت به الأمة الإسلامية اليوم; فتجد الإنسان يجيء إلى شخص فيمدحه، وقد يكون خاليا من هذا المدح، ولا يبين ما فيه من عيوب، وهذا من النفاق وليس من النصح والمحبة، بل النصح أن تبين له عيوبه ليتلافاها ويحترز منها، ولا بأس أن تذكر له محامده تشجيعا إذا أمن في ذلك من الغرور.


قوله: "وأن تحمدهم على رزق الله": الحمد: وصف المحمود بالكمال، مع المحبة والتعظيم، ولكنه هنا ليس بشرط المحبة والتعظيم; لأنه يشمل المدح.
و "رزق الله": عطاء الله; أي: إذا أعطوك شيئا حمدتهم، ونسيت المسبب وهو الله، والمعنى: أن تجعل الحمد كله لهم متناسيا بذلك المسبب، وهو الله; فالذي أعطاك سبب فقط، والمعطي هو الله، ولهذا قال النبي (: ( إنما أنا قاسم، والله يعطي((1).


أما إن كان في قلبك أن الله هو الذي من عليك بسياق هذا الرزق، ثم شكرت الذي أعطاك; فليست هذا داخلا في الحديث، بل هو من الشرع; لقوله :( مـن صنع إليكم معــروفا; فكـافئـوه، فإن لم تجــدوا ما



(1) رواه البخاري (كتاب فرض الخمسة/3116).

ج / 2 ص -79- وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله،


تكافئونه به; فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه((1).
إذن الحديث ليس على ظاهره من كل وجه، فالمراد بالحمد: أن تحمدهم الحمد المطلق ناسيا المسبب وهو الله (، وهذا من ضعف اليقين، كأنك نسيت المنعم الأصلي، وهو الله ( الذي له النعمة الأولى، وهو سفه أيضا; لأن حقيقة الأمر أن الذي أعطاك هو الله، فالبشر الذي أعطاك هذا الرزق لم يخلق ما أعطاك، فالله هو الذي خلق ما بيده، وهو الذي عطف قلبه حتى أعطاك، أرأيت لو أن إنسانا له طفل، فأعطى طفله ألف درهم وقال له: أعطها فلانا، فالذي أخذ الدراهم يحمد الأب; لأنه لو حمد الطفل فقط لعد هذا سفها; لأن الطفل ليس إلا مرسلا فقط، وعلى هذا; فنقول: إنك إذا حمدتهم ناسيا بذلك ما يجب لله من الحمد والثناء; فهذا هو الذي من ضعف اليقين، أما إذا حمدتهم على أنهم سبب من الأسباب، وأن الحمد كله لله ( فهذا حق، وليس من ضعف اليقين.


قوله: "وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله": هذه عكس الأولى; فمثلا: لو أن إنسانا جاء إلى شخص يوزع دراهم، فلم يعطه، فسبه

ـــــ

(1) أخرجه أحمد (2/ 68, 99, 127), والبخاري في "الأدب المفردة" (216), وأبو داود في (الزكاة, باب عطية من سأل بالله/2/310), والنسائي في (الزكاة, باب من ســــأل بالله/5/ 82), والطبراني في "الكبير" (13465, 13466), وابن حبان (2071), والحـاكم (1/ 412)- وصححه على شرطهما ووافقه الذهبي-, وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 56), والبيهقي (4/199). والحديث صححه الحافظ في "تخريج الأذكار"; كما في "الفتوحات الربانية" (5/ 250), وحسنه السخاوي في "الفتوحات (7/121).

ج / 2 ص -80- إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره ((1) .

ـ
وشتمه; فهذا من الخطأ لأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لكن من قصر بواجب عليه، فيذم لأجل أنه قصر بالواجب لا لأجل أنه لم يعط; فلا يذم من حيث القدر; لأن الله لو قدر ذلك لوجدت الأسباب التي يصل بها إليك هذا العطاء.
وقوله: "ما لم يؤتك": علامة جزمه حذف الياء، والمفعول الثاني محذوف; لأنه فضلة، والتقدير: ما لم يؤتكه.
قوله: ( إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كراهية كاره(، هذا تعليل; لقوله: "أن تحمدهم وأن تذمهم".


و"رزق الله": عطاؤه، لكن حرص الحريص من سببه بلا شك، فإذا بحث عن الرزق وفعل الأسباب; فإنه يكون فعل الأسباب الموجبة للرزق، لكن ليس المعنى أن هذا السبب موجب مستقل، وإنما الذي يرزق هو الله تعالى، وكم من إنسان يفعل أسبابا كثيرة للرزق ولا يرزق، وكم من إنسان يفعل أسبابا قليلة فيرزق، وكم من إنسان يأتيه الرزق بدون سعي، كما لو وجد ركازا في الأرض أو مات له قريب غني يرثه، أو ما أشبه ذلك.
وقوله: "ولا يرده كراهية كاره": أي: أن رزق الله إذا قدر للعبد; فلن يمنعه عنه كراهية كاره; فكم من إنسان حسده الناس، وحاولوا منع رزق الله فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا.



(1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (5/106)، (10/ 41), والبيهقي في "شعب الإيـمـــان " (1/152,151). وقال: "محمد بن مروان ضعيف", وقال الشيخ سليمان رحمه الله في "التيسير" (ص490): "قلت: ضعيف, ومعناه صحيح".

ج / 2 ص -81- وعن عائشة رضي الله عنها; أن رسول الله ( قال: ( من التمس رضا الله بسخط الناس وأرضى عنه الناس، ومن التمسك رضا الناس بسخط الله; سخط الله عليه وأسخط عليه الناس( رواه ابن حبــان في " صحيحه"(1).


قوله: في حديث عائشة رضي الله عنها: ( من التمس رضا الله بسخط الناس(، "التمس": طلب، ومنه قوله ( في ليلة القدر: ( التمسوها في العشر((2).
وقوله: "رضا الله": أي: أسباب رضاه.
وقوله: "بسخط الناس": الباء للعوض; أي: إنه طلب ما يرضي الله ولو سخط الناس به بدلا من هذا الرضا، وجواب الشرط: "رضي الله عنه وأرضى عنه الناس".
وقوله: "رضي الله عنه وأرضى عنه الناس": هذا ظاهر، فإذا التمس العبد رضا ربه بنية صادقة رضي الله عنه؛ لأنه أكرم من عبده، وأرضى عنه الناس، وذلك بما يلقي في قلوبهم من الرضا عنه ومحبته; لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
قوله: ( ومن التمس رضا الناس بسخط الله(، "التمس": طلب; أي: طلب ما يرضي الناس، ولو كان يسخط الله; فنتيجة ذلك أن يعامل بنقيض قصده، لهذا قال: "سخط الله عليه وأسخط عليه الناس"; فألقى في قلوبهم سخطه وكراهيته.



(1) أخرجه ابن حبان بهذا اللفظ (1542), وأخرجه بنحوه: ابن المبارك في "الزهد" (199), والترمذي في (الزهد, باب من التمس رضا الله بسخط الناس/7/132), والبغوي في "شرح السنة" (14/410), وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 118), وابن حبان (1541).
(2) أخرجه البخاري في (فضل ليلة القدر, باب تحري ليلة القدر/1/ 64) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ج / 2 ص -82-


مناسبة الحديث للترجمة:
قوله: "ومن التمس رضا الناس بسخط الله"; أي: خوفا منهم حتى يرضوا عنه; فقدم خوفهم على مخافة الله تعالى.
فيستفاد من الحديث ما يلي:
1- وجوب طلب ما يرضي الله وإن سخط الناس لأن الله هو الذي ينفع ويضر.
2- أنه لا يجوز أن يلتمس ما يسخط الله من أجل إرضاء الناس كائنا من كان.
3- إثبات الرضا والسخط لله على وجه الحقيقة، لكن بلا مماثلة للمخلوقين; لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، [الشورى: من الآية11]، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وأما أهل التعطيل; فأنكروا حقيقة ذلك، قالوا: لأن الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، وهذا لا يليق بالله، وهذا خطأ; لأنهم قاسوا سخط الله أو غضبه بغضب المخلوق، فنرد عليهم بأمرين: بالمنع، ثم النقض:
فالمنع: أن نمنع أن يكون معنى الغضب المضاف إلى الله ( كغضب المخلوقين.


والنقض: فنقول للأشاعرة: أنتم أثبتم لله ( الإرادة، وهي ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، والرب ( لا يليق به ذلك، فإذا قالوا: هذه إرادة المخلوق. نقول: والغضب الذي ذكرتم هو غضب المخلوق. وكل إنسان أبطل ظواهر النصوص بأقيسة عقلية; فهذه الأقيسة باطلة لوجوه:

ج / 2 ص -83-


الأول: أنها تبطل دلالة النصوص، وهذا يقتضي أن تكون هي الحق، ومدلول النصوص باطل، وهذا ممتنع.
الثاني: أنه تقول على الله بغير علم; لأن الذي يبطل ظاهر النص يؤوله إلى معنى آخر; فيقال له: ما الذي أدراك أن الله أراد هذا المعنى دون ظاهر النص؟ ففيه تقول على الله في النفي والإثبات في نفي الظاهر، وفي إثبات ما لم يدل عليه دليل.
الثالث: أن فيه جناية على النصوص، حيث اعتقد أنها دالة على التشبيه; لأنه لم يعطل إلا لهذا السبب; فيكون ما فهم من كتاب الله وسنة رسوله( كفرا أو ضلالا.
الرابع: أن فيها طعنا في الرسول ( وخلفائه الراشدين; لأننا نقول: هذه المعاني التي صرفتم النصوص إليها هل الرسول ( وخلفاؤه يعلمون بها أم لا؟
فإن قالوا: لا يعلمون; فقد اتهموهم بالقصور، وإن قالوا: يعلمون ولم يبينوها; فقد اتهموهم بالتقصير. فلا تستوحش من نص دل على صفة أن تثبتها،


لكن يجب عليك أن تجتنب أمرين هما:
التمثيل والتكييف; لقوله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ}، [النحل: من الآية74]، وقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، [الإسراء: من الآية36]، فإذا أثبت الله لنفسه وجها أو يدين; فلا تستوحش من إثبات ذلك; لأن الذي أخبر به عن نفسه أعلم بنفسه من غيره وأصدق قيلا وأحسن حديثا، وهو يريد لخلقه الهداية، وإذا أثبت رسوله ( ذلك له; فلا تستوحش من إثباته; لأنه (:



ج / 2 ص -84- فيه مسائل:
الأولى:
تفسير آية (آل عمران).
الثانية: تفسير آية(براءة).


أصدق الخلق.
وأعلمهم بما يقول عن الله.
وأبلغهم نطقا وفصاحة.
وأنصح الخلق للخلق.
فمن أنكر صفة أثبتها الله لنفسه أو أثبتها له رسوله، وقال: هذا تقشعر منه الجلود وتنكره القلوب; فيقال: هذا لا ينكره إلا إنسان في قلبه مرض، أما الذين آمنوا; فلا تنكره قلوبهم، بل تؤمن به وتطمئن إليه، ونحن لم نكلف إلا بما بلغنا، والله يريد لعباده البيان والهدى، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، [النساء: من الآية26]، فهو لا يريد أن يعمي عليهم الأمر، فيقول: إنه يغضب وهو لا يغضب، ويقول: إنه يهرول وهو لا يهرول، هذا خلاف البيان.


فيه مسائل:

الأولى:
تفسير آية آل عمران: وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، [آل عمران:175]، وسبق.
الثانية: تفسير آية براءة: وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّــــــلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا

ج / 2 ص -85- الثالثة: تفسير آية (العنكبوت).
الرابعة: أن اليقين يضعف ويقوى.
الخامسة: علامة ضعفه، ومن ذلك هذه الثلاث.
السادسة: أن إخلاص الخوف لله من الفرائض.
السابعة: ذكر ثواب من فعله.
الثامنة: ذكر عقاب من تركه.


اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}، [التوبة: من الآية18]، وسبق.
الثالثة: تفسير آية العنكبوت: وهي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}، [العنكبوت: من الآية10]، وقد تكلمنا على تفسيرها فيما سبق.
الرابعة: أن اليقين يضعف ويقوى: تؤخذ من الحديث: "إن من ضعف اليقين..." الحديث.
الخامسة: علامة ضعفه، ومن ذلك هذه الثلاث: وهي: أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله.
السادسة: أن إخلاص الخوف لله من الفرائض: وتؤخذ من قوله ( في الحديث: "من التمس..." الحديث، ووجهه ترتيب العقوبة على من قدم رضا الناس على رضا الله تعالى.
السابعة: ذكر ثواب من فعله: وهو رضا الله عنه، وأنه يرضي عنه الناس، وهو العاقبة الحميدة.
الثامنة: ذكر عقاب من تركه: وهو أن يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس، ولا ينال مقصوده.

ج / 2 ص -86-


وخلاصة الباب:
أنه يجب على المرء أن يجعل الخوف من الله فوق كل خوف وأن لا يبالي بأحد في شريعة الله تعالى، وأن يعلم أن من التمس رضا الله تعالى وإن سخط الناس عليه; فالعاقبة له، وإن التمس رضا الناس وتعلق بهم وأسخط الله; انقلبت عليه الأحوال، ولم ينل مقصوده، بل حصل له عكس مقصوده، وهو أن يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس.




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 31-01-2015 09:41PM

بسم الله الرحمن الرحيم



القول المفيد على كتاب التوحيد

باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}،

ج / 2 ص -87- باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، [المائدة: من الآية23]:


مناسبة هذا الباب لما قبله:
هي أن الإنسان إذا أفرد الله - سبحانه - بالتوكل; فإنه يعتمد عليه في حصول مطلوبه وزوال مكروهه، ولا يعتمد على غيره.
والتوكل: هو الاعتماد على الله- سبحانه وتعالى- في حصول المطلوب، ودفع المكروه، مع الثقة به، وفعل الأسباب المأذون فيها، وهذا أقرب تعريف له.


ولا بد من أمرين:
الأول: أن يكون الاعتماد على الله اعتمادا صادقا حقيقيا.
الثاني: فعل الأسباب المأذون فيها.
فمن جعل أكثر اعتماده على الأسباب; نقص توكله على الله، ويكون قادحا في كفاية الله; فكأنه جعل السبب وحده هو العمدة فيما يصبو إليه من حصول المطلوب وزوال المكروه.


ومن جعل اعتماده على الله ملغيا للأسباب، فقد طعن في حكمة الله; لأن الله جعل لكل شيء سببا، فمن اعتمد على الله، اعتمادا

ج / 2 ص -88-


مجردا، كان قادحا في حكمة الله; لأن الله حكيم، يربط الأسباب بمسبباتها، كمن يعتمد على الله في حصول الولد وهو لا يتزوج.
والنبي ( أعظم المتوكلين، ومع ذلك كان يأخذ بالأسباب; فكان يأخذ الزاد في السفر، ولما خرج إلى أحد ظاهر بين درعين; أي: لبس درعين اثنين(1) ولما خرج مهاجرا أخذ من يدله الطريق(2) ولم يقل سأذهب مهاجرا وأتوكل على الله، ولن أصطحب معي من يدلني الطريق، وكان ( يتقي الحر والبرد، ولم ينقص ذلك من توكله.
ويذكر عن عمر ( أنه قدم ناس من أهل اليمن إلى الحج بلا زاد، فجيء بهم إلى عمر، فسألهم، فقالوا: نحن المتوكلون على الله. فقال: لستم المتوكلين، بل أنتم المتواكلون.


والتوكل نصف الدين ولهذا نقول في صلاتنا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فنطلب من الله العون؛ اعتمادا عليه سبحانه، بأنه سيعيننا على عبادته.
وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْه}، [هود: من الآية123]، وقال تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}، [هود: من الآية88]، ولا يمكن تحقيق العبادة إلا بالتوكل; لأن الإنسان لو وكل إلى نفسه وكل إلى ضعف وعجز، ولم يتمكن من القيام بالعبادة; فهو حين يعبد الله يشعر أنه متوكل على الله، فينال بذلك أجر العبادة وأجر التوكل، ولكن الغـالب عندنا ضعف التوكل،



(1) أخرجه الإمام أحمد (3/ 449), وأبو داود في (الجهاد, باب في لبس الأدرع/3/ 71), ولم يجزم سفيان بسماعه هذا الحديث.
(2) أخرجه البخاري في (الإجارة, باب استئجار المشركين/2/130) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ج / 2 ص -89-


وأننا لا نشعر حين نقوم بالعبادة أو العادة بالتوكل على الله والاعتماد عليه في أن ننال هذا الفعل، بل نعتمد في الغالب على الأسباب الظاهرة وننسى ما وراء ذلك; فيفوتنا ثواب عظيم، وهو ثواب التوكل، كما أننا لا نوفق إلى حصول المقصود كما هو الغالب، سواء حصل لنا عوارض توجب انقطاعها أو عوارض توجب نقصها.


والتوكل ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: توكل عبادة وخضوع، وهو الاعتماد المطلق على من توكل عليه، بحيث يعتقد أن بيده جلب النفع ودفع الضر; فيعتمد عليه اعتمادا كاملا، مع شعوره بافتقاره إليه; فهذا يجب إخلاصه لله تعالى، ومن صرفه لغير الله; فهو مشرك شركا أكبر; كالذين يعتمدون على الصالحين من الأموات والغائبين، وهذا لا يكون إلا ممن يعتقد أن لهؤلاء تصرفا خفيا في الكون، فيعتمد عليهم في جلب المنافع ودفع المضار.


الثاني: الاعتماد على شخص في رزقه ومعاشه وغير ذلك، وهذا من الشرك الأصغر، وقال بعضهم: من الشرك الخفي، مثل اعتماد كثير من الناس على وظيفته في حصول رزقه، ولهذا تجد الإنسان يشعر من نفسه أنه معتمد على هذا اعتماد افتقار; فتجد في نفسه من المحاباة لمن يكون هذا الرزق عنده ما هو ظاهر; فهو لم يعتقد أنه مجرد سبب، بل جعله فوق السبب.


الثالث: أن يعتمد على شخص فيما فوض إليه التصرف فيه، كما لو وكلت شخصا في بيع شيء أو شرائه، وهذا لا شيء فيه; لأنه اعتمد عليه وهو يشعر أن المنزلة العليا له فوقه; لأنه جعله نائبا عنه وقد وكل

ج / 2 ص -90-


النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب؛ أن يذبح ما بقي من هديه(1)، ووكل أبا هريرة على الصدقة(2)، ووكل عروة بن الجعد أن يشتري له أضحية(3)، وهذا بخلاف القسم الثاني؛ لأنه يشعر بالحاجة إلى ذلك، ويرى اعتماده على المتوكل عليه اعتمادَ افتقارٍ.


ومما سبق يتبين أن التوكل من أعلى المقامات، وأنه يجب على الإنسان أن يكون مصطحبا له في جميع شئونه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولا يكون للمعطلة أن يتوكلوا على الله ولا للمعتزلة القدرية"; لأن المعطلة يعتقدون انتفاء الصفات عن الله تعالى، والإنسان لا يعتمد إلا على من كان كامل الصفات المستحقة لأنه يعتمد عليه.


وكذلك القدرية; لأنهم يقولون: إن العبد مستقل بعمله، والله ليس له تصرف في أعمال العباد.
ومن ثم نعرف أن طريق السلف هو خير الطرق، وبه تكمل جميع العبادات وتتم به جميع أحوال العابدين.
وقد ذكر المؤلف في هذا الباب أربع آيات، أو لها ما جعله ترجمة للباب، وهي:
قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا}، [المائدة: من الآية23]، "على الله" متعلقة بقوله: "فتوكلوا"، وتقديم المعمول يدل على الحصر; أي: على الله لا على غيره، "فتوكلوا"; أي: اعتمدوا.



(1) أخرجه مسلم في (الحج, باب حجة النبي (/2/892) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري في (الوكالة/2311).
(3) أخرجه البخاري في (المناقب, باب حدثنا محمد بن المثنى/2/539).

ج / 2 ص -91- وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، [الأنفال: من الآية2] الآية.


والفاء لتحسين اللفظ وليست عاطفة; لأن في الجملة حرف عطف وهو الواو، ولا يمكن أن نعطف الجملة بعاطفين; فتكون لتحسين اللفظ; كقوله تعالى: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ}، [الزمر: من الآية66]، والتقدير: "بل الله اعبد".
قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}؛ "إن": شرطية، وفعل الشرط "كنتم"، وجوابه قيل: إنه محذوف دل عليه ما قبله، وتقدير الكلام: إن كنتم مؤمنين فتوكلوا، وقيل: إنه في مثل هذا التركيب لا يحتاج إلى جواب اكتفاء بما سبق; فيكون ما سبق كأنه فعل معلق بهذا الشيء، وهذا أرجح; لأن الأصل عدم الحذف.
وقول أصحاب موسى في هذه الآية يفيد أن التوكل من الإيمان ومن مقتضياته، كما لو قلت: إن كنت كريما فأكرم الضيف. فيقتضي أن إكرام الضيف من الكرم.


وهذه الآية تقتضي انتفاء كمال الإيمان بانتفاء التوكل على الله; إلا إن حصل اعتماد كلي على غير الله; فهو شرك أكبر ينتفي له الإيمان كله.
الآية الثانية قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ}؛ "إنما": أداة حصر، والحصر هو إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه، والمعنى: ما المؤمنون إلا هؤلاء. وذكر الله في هذه الآية وما بعدها خمسة أوصاف:
أحدها: قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، أي: خافت؛ لما

ج / 2 ص -92-


فيها من تعظيم الله تعالى، مثال ذلك: رجل هم بمعصية، فذكر الله، أو ذكر به، وقيل له: اتق الله. فإن كان مؤمنا; فإنه سيخاف، وهذا هو علامة الإيمان.
الوصف الثاني: قوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}، أي: تصديقا وامتثالا، وفي هذا دليل على أن الإنسان قد ينتفع بقراءة غيره أكثر مما ينتفع بقراءة نفسه كما أمر الرسول ( عبد الله بن مسعود أن يقرأ عليه، فقال: كيف أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال: ( إني أحب أن أسمعه من غيري((1) فقرأ عليه من سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً}، [النساء:41]. قال: "حسبك". فنظرت; فإذا عيناه تذرفان(2).


الوصف الثالث: قوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، أي: يعتمدون على الله لا على غيره، وهم مع ذلك يعملون الأسباب، وهذا هو الشاهد.
الوصف الرابع: قوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ}، أي: يأتون بها مستقيمة كاملة، والصلاة: اسم جنس تشمل الفرائض والنوافل.
الوصف الخامس: قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.


"من" للتبعيض; فيكون الله يمدح من أنفق بعض ماله لا كله، أو تكون لبيان الجنس; فيشمل الثناء من أنفق البعض ومن أنفق الكل، والصواب: أنها لبيان الجنس، وأن من أنفق الكل يدخل في الثناء؛ إذا توكل



(1) البخاري: فضائل القرآن (5049), ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (800), والترمذي: تفسير القرآن (3025), وأبـو داود: العلم (3668) , وابن ماجه: الزهد (4194), وأحمد (1/374،380،432).
(2) أخرجه البخاري في (التفسير, باب فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد/3/ 217), ومسلم في (صلاة المسافرين, باب فضل استماع القرآن/1/ 551).

ج / 2 ص -93- وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ}، [الأنفال: من الآية64]، الآية.


على الله تعالى في أن يرزقه وأهله كما فعله أبو بكر(1) أما إن كان أهله في حاجة أو كان المنفق عليه ليس بحاجة ماسة تستلزم إنفاق المال كله; فلا ينبغي أن ينفق ماله كله.
الآية الثالثة قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ( المراد به الرسول ( يخاطب الله رسوله بوصف النبوة أحيانا وبوصف الرسالة أحيانا، فحينما يأمره أن يبلغ يناديه بوصف الرسالة، وأما في الأحكام الخاصة; فالغالب أن يناديه بوصف النبوة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}، [التحريم: من الآية1]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}، [الطلاق: من الآية1].
و"النبي": فعيل بمعنى مفعَل بفتح العين، ومفعِل بكسرها; أي: منبأ، ومنبئ، فالرسول ( منبأ من قبل الله، ومنبئ لعباد الله.


قوله: "حسبك الله": أي: كافيك، والحسب: الكافي، ومنه قوله: أعطي درهما فحسب، وحسب خبر مقدم، ولفظ الجلالة مبتدأ مؤخر، والمعنى: ما الله إلا حسبك، ويجوز العكس; أي: أن تكون حسب مبتدأ ولفظ الجلالة خبره، ويكون المعنى: ما حسبك إلا الله، وهذا أرجح.



(1) أخرجه أبوداود في (الزكاة, باب الرخصة في ذلك- أي: خروج الرجل من ماله-/2/ 313), والترمذي في (المناقب, باب الصديق ينفق كل ماله/9/77), والدارمي (1/391). وقال الترمذي: "حسن صحيح". وأخرجه أحمد في (فضائل الصحابة, من طريق آخر/1/ 460).

ج / 2 ص -94-


قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، [الأنفال: من الآية64]، "من": اسم موصول مبنية على السكون، وفي عطفها رأيان لأهل العلم: قيل: حسبك الله، وحسبك من اتبعك من المؤمنين; فـ "من" معطوفة على لفظ الجلالة لأنه أقرب، ولو كان العطف على الكاف في (حسبك); لوجب إعادة الجار، وهذا كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}، [الأنفال: من الآية62]، فالله أيد رسوله بالمؤمنين، فيكونون حسبا له هنا كما كان الله حسبا له.
وهذا ضعيف،

والجواب عنه من وجوه:
أولا: قولهم: عطف عليه لكونه أقرب ليس بصحيح; فقد يكون العطف على شيء سابق، حتى إن النحويين قالوا: إذا تعددت المعطوفات يكون العطف على الأول.
ثانيا: قولهم: لو عطف على الكاف لوجب إعادة الجار، والصحيح أنه ليس بلازم، كما قال ابن مالك:

وليس عندي لازما إذ قد أتى في النثر والنظم الصحيح مثبتا
ثالثا: استدلالهم بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}، فالتأييد لهم غير كونهم حسبه; لأن معنى كونهم حسبه أن يعتمد عليهم، ومعنى كونهم يؤيدونه أي ينصرونه مع استقلاله بنفسه، وبينهما فرق.


رابعا: أن الله - سبحانه - حينما يذكر الحسب يخلصه لنفسه، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}، [التوبة: من الآية59]، ففرق بين الحسب والإيتاء، وقال تعالى: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}، [الزمر: من الآية38]، فكما أن التوكل على غير الله لا يجوز; فكذلك الحسب، لا يمكن أن يكون غير الله

ج / 2 ص -95- وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، [الطلاق: من الآية3]، الآية.


حسبا، فلو كان; لجاز التوكل عليه، ولكن الحسب هو الله، وهو الذي عليه يتوكل المتوكلون.
خامسا: أن في قوله: "ومن اتبعك" ما يمنع أن يكون الصحابة حسبا للرسول ( وذلك لأنهم تابعون; فكيف يكون التابع حسبا للمتبوع؟! هذا لا يستقيم أبدا; فالصواب أنه معطوف على الكاف في قوله: "حسبك"; أي: وحسب من اتبعك من المؤمنين، فتوكلوا عليه جميعا أنت ومن اتبعك.
الآية الرابعة قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، جملة شرطية تفيد بمنطوقها أن من يتوكل على الله، فإن الله يكفيه مهماته وييسر له أمره; فالله حسبه، ولو حصل له بعض الأذية، فإن الله يكفيه الأذى، والرسول ( سيد المتوكلين، ومع ذلك يصيبه الأذى ولا تحصل له المضرة; لأن الله حسبه; فالنتيجة لمن اعتمد على الله أن يكفيه ربه المؤونة.


والآية تفيد بمفهومها أن من توكل على غير الله خذل; لأن غير الله لا يكون حسبا كما تقدم، فمن توكل على غير الله تخلى الله عنه، وصار موكولا إلى هذا الشيء ولم يحصل له مقصوده، وابتعد عن الله بمقدار توكله على غير الله.

ج / 2 ص -96- وعن ابن عباس; ( قال: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ; قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد ( حين قالوا له: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا( الآية. رواه البخاري والنسائي(1).


قوله في أثر ابن عباس رضي الله عنهما: "قالها محمد ( حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}، [آل عمران: من الآية173]".
وهذا في نص القرآن لما انصرف أبو سفيان من أحد أراد أن يرجع إلى النبي ( وأصحابه ليقضي عليهم بزعمه، فلقي ركبا، فقال لهم: إلى أين تذهبون؟ قالوا: نذهب إلى المدينة. فقال: بلغوا محمدا وأصحابه أنا راجعون إليهم فقاضون عليهم. فجاء الركب إلى المدينة. فبلغوهم; فقال رسول الله ( ومن معه: حسبنا الله ونعم الوكيل. وخرجوا في نحو سبعين راكبا، حتى بلغوا حمراء الأسد، ثم إن أبا سفيان تراجع عن رأيه وانصرف إلى مكة، وهذا من كفاية الله لرسوله وللمؤمنين; حيث اعتمدوا عليه تعالى.
قوله: "قال لهم الناس": أي: الركب.
قوله: "إن الناس": أي: أبا سفيان ومن معه، وكلمة الناس هنا يمثل بها الأصوليون للعام الذي أريد به الخصوص.
قوله: "حسبنا": أي: كافينا، وهي مبتدأ ولفظ الجلالة خبره.
قوله: "ونعم الوكيل": "نعم": فعل ماض، "الوكيل":




(1) أخرجه البخاري في (التفسير, باب تفسير سورة آل عمران/3/211), ولعله في "سنن النسائي الكبرى".

ج / 2 ص -97-


فاعل، والمخصوص محذوف تقديره: هو; أي: الله، والوكيل: المعتمد عليه سبحانه، والله - سبحانه - يطلق عليه اسم وكيل، وهو أيضا موكل، والوكيل في مثل قوله تعالى: "ونعم الوكيل"، وقوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}، [النساء: من الآية81]، وأما الموكل; ففي مثل قوله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}، [الأنعام: من الآية89].
وليس المراد بالتوكيل هنا إنابة الغير فيما يحتاج إلى الاستنابة فيه; فليس توكيله سبحانه من حاجة له، بل المراد بالتوكيل الاستخلاف في الأرض لينظر كيف يعملون.
وقول ابن عباس رضي الله عنهما: "إن إبراهيم قالها حين ألقي في النار" قول لا مجال للرأي فيه; فيكون له حكم الرفع. وابن عباس ممن يروي عن بني إسرائيل; فيحتمل أنه أخذه منهم، ولكن جزمه بهذا، وقرنه لما قاله الرسول ( مما يبعد أن يكون أخذه من بني إسرائيل.


الشاهد من الآية; قوله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، [آل عمران: من الآية173]، حيث جعلوا حسبهم الله وحده.
(تنبيه): قولنا: "وابن عباس ممن يروي عن بني إسرائيل" قول مشهور عند علماء المصطلح، لكن فيه نظر; فإن ابن عباس رضي الله عنهما ممن ينكر الأخذ عن بني إسرائيل; ففي "صحيح البخاري" (5/291- فتح) أنه قال: "يا معشر المسلمين! كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيه ( أحدث الأخبار بالله تقرؤونه لم يشب، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب؟! فقالوا: هذا من



ج / 2 ص -98- فيه مسائل:
الأولى:
أن التوكل من الفرائض.
الثانية: أنه من شروط الإيمان.
الثالثة: تفسير آية (الأنفال).
الرابعة: تفسير الآية في آخرها



عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟! ولا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم".


فيه مسائل:

الأولى:
أن التوكل من الفرائض ووجهه أن الله علق الإيمان بالتوكل في قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وسبق تفسيرها.
الثانية: أنه من شروط الإيمان: تؤخذ من قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وسبق تفسيرها.
الثالثة: تفسير آية الأنفال: وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، [الأنفال: من الآية2] الآية، والمراد بالإيمان هنا الإيمان الكامل، وإلا; فالإنسان يكون مؤمنا وإن لم يتصف بهذه الصفات، لكن معه مطلق الإيمان، وقد سبق تفسير ذلك.


الرابعة: تفسير الآية في آخرها; أي: آخر الأنفال: وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، [الأنفال:64]، أي: حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين، وهذا هو الراجح على ما سبق.

ج / 2 ص -99- الخامسة: تفسير آية(لطلاق).
السادسة: عظم شأن هذه الكلمة، وأنها قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومحمد ( في الشدائد.


الخامسة: تفسير آية الطلاق: وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، [الطلاق: من الآية3]، وقد سبق تفسيرها.
السادسة: عظم شأن هذه الكلمة، وأنها قول إبراهيم عليه السلام ومحمد ( في الشدائد: يعني قول: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، [آل عمران: من الآية173].


وفي الباب مسائل غير ما ذكره المؤلف:
منها: زيادة الإيمان; لقوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}، [الأنفال: من الآية2].
ومنها: أنه عند الشدائد ينبغي للإنسان أن يعتمد على الله مع فعل الأسباب; لأن الرسول ( وأصحابه قالوا ذلك عندما قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، ولكنهم فوضوا الأمر إلى الله، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
ومنها: أن اتباع النبي ( مع الإيمان سبب لكفاية الله للعبد.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 31-01-2015 09:53PM

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب قول الله تعالي: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}

ج / 2 ص -100- باب قول الله تعالي: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}، [الأعراف:99].


هذا الباب اشتمل على موضوعين:
الأول: الأمن من مكر الله.
الثاني: القنوط من رحمة الله. وكلاهما طرفا نقيض.
واستدل المؤلف للأول بقوله تعالى: "أفأمنوا". الضمير يعود على أهل القرى; لأن ما قبلها قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ، أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ، أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}، [الأعراف:97-99].
فقوله: "وهم نائمون" يدل على كمال الأمن؛ لأنهم في بلادهم، وأن الخائف لا ينام، وقوله: "ضحى وهم يلعبون" يدل أيضا على كمال الأمن والرخاء وعدم الضيق; لأنه لو كان عندهم ضيق في العيش؛ لذهبوا يطلبون الرزق والعيش، وما صاروا في الضحى- في رابعة النهار- يلعبون. والاستفهامات هنا كلها للإنكار، والتعجب من حال هؤلاء; فهم نائمون، وفي رغد، ومقيمون على معاصي الله، وعلى اللهو، ذاكرون لترفهم، غافلون عن ذكر خـالقهم; فهم في الليل نوم، وفي النهار لعب، فبين الله


ج / 2 ص -101-


( أن هذامن مكره بهم، ولهذا قال: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّه}ِ، ثم ختم الآية بقوله: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}، فالذي يمن الله عليه بالنعم والرغد والترف وهو مقيم على معصيته يظن أنه رابح وهو في الحقيقة خاسر.
فإذا أنعم الله عليك من كل ناحية: أطعمك من جوع، وآمنك من خوف، وكساك من عري; فلا تظن أنك رابح وأنت مقيم على معصية الله، بل أنت خاسر; لأن هذا من مكر الله بك.


قوله: {إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}، الاستثناء للحصر، وذلك لأن ما قبله مفرغ له; فالقوم فاعل، والخاسرون صفتهم.
وفي قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّه}ِ، دليل على أن لله مكرا، والمكر هو: التوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، ومنه ما جـاء في الحديث: ( الحرب خدعة((1).
فإن قيل: كيف يوصف الله بالمكر، مع أن ظاهره أنه مذموم؟
قيل: إن المكر في محله محمود، يدل على قوة الماكر، وأنه غالب على خصمه، ولذلك لا يوصف الله به على الإطلاق; فلا يجوز أن تقول: إن الله ماكر، وإنما تذكر هذه الصفة في مقام تكون فيه مدحا، مثل قوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ}، وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}، [النمل:50]، ومثل قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّه}، ولا تنفى عنه هذه الصفة على



(1) أخرجه البخاري في (الجهاد, باب الحرب خدعة/2/366), ومسلم في "الجهاد, باب جواز الخداع في الحرب/3/1362); عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ج / 2 ص -102- وقوله: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}، [الحجر:56].


سبيل الإطلاق، بل إنها في المقام التي تكون مدحا؛ يوصف بها، وفي المقام التي لا تكون مدحا لا يوصف بها، وكذلك لا يسمى الله بها; فلا يقال: إن من أسماء الله الماكر.
وأما الخيانة; فلا يوصف الله بها مطلقا لأنها ذم بكل حال; إذ إنها مكر في موضع الائتمان، وهو مذموم، قال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ}، [الأنفال: من الآية71]، ولم يقل: فخانهم.
وأما الخداع; فهو كالمكر يوصف الله به حيث يكون مدحا; لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}، [النساء: من الآية142]، والمكر من الصفات الفعلية; لأنها تتعلق بمشيئة الله- سبحانه-.


ويستفاد من هذه الآية:
1- الحذر من النعم التي يجلبها الله للعبد لئلا تكون استدراجا; لأن كل نعمة فلله عليك وظيفة شكرها، وهي القيام بطاعة المنعم، فإذا لم تقم بها مع توافر النعم; فاعلم أن هذا من مكر الله.
2- تحريم الأمن من مكر الله، وذلك لوجهين:
الأول: أن الجملة بصيغة الاستفهام الدال على الإنكار والتعجب.
الثاني: قوله تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}.
الموضوع الثاني مما اشتمل عليه هذا الباب القنوط من رحمة الله واستدل المؤلف له بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ}، [الحجر: من الآية56].

ج / 2 ص -103-


"من": اسم استفهام; لأن الفعل بعدها مرفوع، ثم إنها لم يكن لها جواب، والقنوط: أشد اليأس; لأن الإنسان يقنط ويبعد الرجاء والأمل، بحيث يستبعد حصول مطلوبه أو كشف مكروبه.
قوله: " مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ": هذه رحمة مضافة إلى الفاعل ومفعولها محذوف، والتقدير (من رحمة ربه إياه).
قوله: " إلا الضالون ": إلا: أداة حصر; لأن الاستفهام في قوله: "ومن يقنط" مراد به النفي،و"الضالون"فاعل يقنط
والمعنى لا يقنط من رحمة الله إلا الضالون، والضال: فاقد الهداية، التائه الذي لا يدري ما يجب لله سبحانه، مع أنه سبحانه قريب الغير، ولهذا جاء في الحديث: ( عجب ربنا من قنوط عباده، وقرب غيره; ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب((1).


وأما معنى الآية فإن إبراهيم عليه السلام لما بشرته الملائكة بغلام عليم قال لهم: {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ، قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ، قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}، [الحجر: 54-56].
فالقنوط من رحمة الله لا يجوز; لأنه سوء ظن بالله (، وذلك من وجهين:
الأول: أنه طعن في قدرته سبحانه; لأن من علم أن الله على كل شيء قدير لم يستبعد شيئا على قدرة الله.



(1) أخرجه أحمد (4/11،12), وابن ماجه في (المقدمة/1/64). وقال في "الزوائد" (1/64): "وكيع ذكره ابن حبان في "الثقات), وباقي رجاله احتج بهم مسلم".

ج / 2 ص -104- وعن ابن عباس; أن رسول الله ( سئل عن الكبائر؟


الثاني: أنه طعن في رحمته سبحانه; لأن من علم أن الله رحيم لا يستبعد أن يرحمه الله - سبحانه -، ولهذا كان القانط من رحمة الله ضالا.
ولا ينبغي للإنسان إذا وقع في كربة؛ أن يستبعد حصول مطلوبه أو كشف مكروبه، وكم من إنسان وقع في كربة، وظن أن لا نجاة منها، فنجاه الله- سبحانه-: إما بعمل صالح سابق، مثل ما وقع ليونس عليه السلام، قال تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، [الصافات:143-144]. أو بعمل لاحق، وذلك كدعاء الرسول ( يوم بدر(1)، وليلة الأحزاب(2)، وكذلك أصحاب الغار(3).
وتبين مما سبق أن المؤلف رحمه الله أراد أن يجمع الإنسان في سيره إلى الله تعالى بين الخوف فلا يأمن مكر الله، وبين الرجاء فلا يقنط من رحمته; فالأمن من مكر الله ثلم في جانب الخوف، والقنوط من رحمته ثلم في جانب الرجاء.
قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله ( سئل عن الكبائر":جمع كبيرة، والمراد بها: كبائر الذنوب وهذا السؤال يدل على أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، وقد دل على ذلك القرآن، قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}




(1) أخرجه البخاري في (المغازي, باب قصة عروة/3/83), ومسلم في (الجهاد, باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر/3/ 1383).
(2) أخرجه البخاري في (المغازي, باب غزوة الخندق/3/118), ومسلم في (الجهاد, باب استحباب الدعاء بالنصر/3/1363).
(3) أخرجه البخاري في (البيوع, باب إذا اشترى شيئا لغيره/2/116), ومسلم في (الذكر والدعاء, باب قصة أصحاب الغار/4/2099).

ج / 2 ص -105-


[النساء: من الآية31]. وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ}، [النجم: من الآية32]، والكبائر ليست على درجة واحدة; فبعضها أكبر من بعض.
واختلف العلماء: هل هي معدودة أو محدودة؟
فقال بعض أهل العلم: إنها معدودة، وصار يعددها، ويتتبع النصوص الواردة في ذلك. وقيل: إنها محدودة.
وقد حدها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله; فقال: "كل ما رتب عليه عقوبة خاصة، سواء كانت في الدنيا أو الآخرة، وسواء كانت بفوات محبوب أو بحصول مكروه"، وهذا واسع جدا يشمل ذنوبا كثيرة.


ووجه ما قاله؛ أن المعاصي قسمان:
قسم نهي عنه فقط ولم يذكر عليه وعيد; فعقوبة هذا تأتي بالمعنى العام للعقوبات، وهذه المعصية مكفرة بفعل الطاعات; كقوله (: ( الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر((1)، وكذلك ما ورد في العمرة إلى العمرة(2)، والوضوء من تكفير الخطايا(3)، فهذه من الصغائر.
وقسم رتب عليه عقوبة خاصة; كاللعن، أو الغضب، أو التبرؤ من فاعله، أو الحد في الدنيا، أو نفي الإيمان، وما أشبه ذلك; فهذه كبيرة تختلف في مراتبها.


والسائل في هذا الحديث إنما قصده معرفة الكبائر ليجتنبها، خلافا لحال كثير من الناس اليوم؛ حيث يسأل ليعلم فقط، ولذلك نقصت بركة علمهم.



(1) أخرجه مسلم في (الطهارة, باب الصلوات الخمس.../1/209) من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه البخاري في (العمرة, باب وجوب العمرة وفضلها/1/537).
(3) أخرجه مسلم في (الطهارة, باب الصلوات الخمس/1/209) من حديث أبي هريرة.

ج / 2 ص -106- فقال: ( الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله((2).


قوله: " الشرك بالله": ظاهر الإطلاق: أن المراد به الشرك الأصغر والأكبر، وهو الظاهر; لأن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر، قال ابن مسعود: ( لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا((1)، وذلـك لأن سيئة الشرك أعظم من سيئة الكذب; فدل على أن الشرك من الكبائر مطلقا.
والشرك بالله يتضمن الشرك بربوبيته، أو بألوهيته، أو بأسمائه وصفاته.
قوله: "اليأس من روح الله": اليأس: فقد الرجاء، والروح بفتح الراء قريب من معنى الرحمة، وهو الفرج والتنفيس، واليأس من روح الله من كبائر الذنوب لنتائجه السيئة.


قوله: "الأمن من مكر الله": بأن يعصي الله مع استدراجه بالنعم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}، [الأعراف:182-183].
وظاهر هذا الحديث: الحصر، وليس كذلك: لأن هناك كبائر غير هذه، ولكن الرسول ( يجيب كل سائل بما يناسب حاله; فلعله رأى هذا السائل عنده شيء من الأمن من مكر الله أو اليأس من روح الله، فأراد أن يبين له ذلك، وهذه مسألة ينبغي أن يفطن لها الإنسان، فيما يأتي من



(1) سبق (ص 27).
(2) أخرجه البزار; كما في "كشف الأستار" (106), وابن أبي حاتم; كما في "تفسير ابن كثير" (/485), والطبراني; كما في "المجمع" (1/104), وفي "الدر المنثور" (2/ 147). وقال الهيثمي (1/104): "رواه البزار والطبراني, ورجاله موثقون".

ج / 2 ص -107- وعن ابن مسعود; قال: ( أكبر الكبائر: الإشراك بالله والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله ( رواه عبد الرزاق(1).



النصوص الشرعية مما ظاهره التعارض، فيحمل كل واحد منها على الحال المناسبة ليحصل التآلف بين النصوص الشرعية.
قوله في أثر ابن مسعود: " الإشراك بالله ": هذا أكبر الكبائر; لأنه انتهاك لأعظم الحقوق، وهو حق الله تعالى الذي أَوْجَدَك وأَعَدَّك وأَمَّدك; فلا أحد أكبر عليك نعمة من الله تعالى.
قوله: "الأمن من مكر الله": سبق شرحه.
قوله: "القنوط من رحمة الله واليأس من روح الله": المراد بالقنوط: أن يستبعد رحمة الله ويستبعد حصول المطلوب، والمـراد باليأس هنا أن يستبعد الإنسان زوال المكروه، وإنما قلنا ذلك; لئلا يحصل تكرار في كلام ابن مسعود.
والخلاصة: أن السائر إلى الله يعتريه شيئان يعوقانه عن ربه، وهما الأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، فإذا أصيب بالضراء أو فات عليه ما يحب; تجده إن لم يتداركه ربه يستولي عليه القنوط ويستبعد الفرج ولا يسعى لأسبابه، وأما الأمن من مكر الله; فتجد الإنسان مقيما على المعاصي مع توافر النعم عليه، ويرى أنه على حق فيستمر في باطله; فلا شك أن هذا استدراج.



(1) أخرجه عبد الرزاق (10/459،460), وابن جرير (5/26), والطبراني في "الكبير" (8783، 8784), وصحح الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/104) إسناد الطبراني.



ج / 2 ص -108-
فيه مسائل:
الأولى:
تفسير آية الأعراف.
الثانية: تفسير آية الحجر.
الثالثة: شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله.
الرابعة: شدة الوعيد في القنوط.


فيه مسائل:
الأولى:
تفسير آية الأعراف: وهي قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}، [الأعراف:99]، وقد سبق تفسيرها.
الثانية: تفسير آية الحجر: وهي قوله تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}، [الحجر:56]، وقد سبق تفسيرها.
الثالثة: شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله: وذلك بأنه من أكبر الكبائر; كما في الآية والحديث، وتؤخذ من الآية الأولى، والحديثين.
الرابعة: شدة الوعيد في القنوط: تؤخذ من الآية الثانية والحديثين.




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




ام عادل السلفية 31-01-2015 10:07PM

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله:

ج / 2 ص -109-
باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله:



"الصبر": في اللغة: الحبس، ومنه قولهم: " قتل صبرا"; أي: محبوسا مأسورا.
وفي الاصطلاح: حبس النفس على أشياء وعن أشياء.


وهو ثلاثة أقسام:
الأول: الصبر على طاعة الله; كما قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}، [طـه: من الآية132]، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}، [الإنسان:23-24]، وهذا من الصبر على الأوامر; لأنه إنما نزل عليه القرآن ليبلغه; فيكون مأمورا بالصبر على الطاعة، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، [الكهف: من الآية28]، وهذا صبر على طاعة الله.
الثاني: الصبر عن معصية الله; كصبر يوسف عليه السلام عن إجابة امرأة العزيز حيث دعته إلى نفسها في مكانة لها فيها العزة والقوة والسلطان عليه، ومع ذلك صبر وقال: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، [يوسف:33]، فهذا صبر عن معصية الله.
الثالث: الصبر على أقدار الله، قال تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}، [القلم: من الآية48]، فيدخل في هذه الآية حكم الله القدري، ومنه قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُم}،

ج / 2 ص -110-


[الأحقاف: من الآية35].لأن هذا صبر على تبليغ الرسالة وعلى أذى قومه، ومنه قوله ( لرسول إحدى بناته: ( مرها فلتصبر ولتحتسب((1).
إذن الصبر ثلاثة أنواع، أعلاها الصبر على طاعة الله، ثم الصبر عن معصية الله، ثم الصبر على أقدار الله.
وهذا الترتيب من حيث هو لا باعتبار من يتعلق به، وإلا; فقد يكون الصبر على المعصية أشق على الإنسان من الصبر على الطاعة إذا فتن الإنسان مثلا بامرأة جميلة تدعوه إلى نفسها في مكان خال لا يطلع عليه إلا الله وهو رجل شاب ذو شهوة; فالصبر عن هذه المعصية أشق ما يكون على النفوس، قد يصلي الإنسان مئة ركعة وتكون أهون عليه من هذا.


وقد يصاب الإنسان بمصيبة يكون الصبر عليها أشق من الصبر على الطاعة; فقد يموت له مثلا قريب أو صديق أو عزيز عليه جدا، فتجده يتحمل من الصبر على هذه المصيبة مشقة عظيمة.
وبهذا يندفع الإيراد الذي يورده بعض الناس ويقول: إن هذا الترتيب فيه نظر; إذ بعض المعاصي يكون الصبر عليها أشق من بعض الطاعات، وكذلك بعض الأقدار يكون الصبر عليها أشق; فنقول: نحن نذكر المراتب من حيث هي بقطع النظر عن الصابر.
وكان الصبر على الطاعة أعلى; لأنه يتضمن إلزاما وفعلا، فتلزم نفسك الصلاة فتصلي، والصوم فتصوم، والحج فتحج... ففيه إلزام وفعل وحركة فيـها نوع من المشقة والتعب، ثم الصبر عن المعصية لأن فيه



(1) أخرجه البخــــاري في (الجنائز, باب قول النبي (: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه"/1/395), ومسلم في (الجنائز, باب البكاء على الميت/2/635).

ج / 2 ص -111-


كفا فقط; أي: إلزاما للنفس بالترك، أما الصبر على الأقدار; فلأن سببه ليس باختيار العبد، فليس فعلا ولا تركا، وإنما هو من قدر الله المحض.
وخَصَّ المؤلف رحمه الله في هذا الباب الصبر على أقدار الله; لأنه مما يتعلق بتوحيد الربوبية; لأن تدبير الخلق والتقدير عليهم من مقتضيات ربوبية الله تعالى.
قوله: "على أقدار الله": جمع قَدَر، وتطلق على المقدور وعلى فعل المقدر وهو الله تعالى، أما بالنسبة لفعل المقدر; فيجب على الإنسان الرضا به والصبر، وبالنسبة للمقدور; فيجب عليه الصبر ويستحب له الرضا. مثال ذلك: قدر الله على سيارة شخص أن تحترق، فكون الله قدر أن تحترق هذا قدر يجب على الإنسان أن يرضى به; لأنه من تمام الرضا بالله ربا.
وأما بالنسبة للمقدور الذي هو احتراق السيارة; فالصبر عليه واجب، والرضا به مستحب وليس بواجب على القول الراجح.


والمقدور قد يكون طاعات، وقد يكون معاصي، وقد يكون من أفعال الله المحضة; فالطاعات يجب الرضا بها، والمعاصي لا يجوز الرضا بها من حيث هي مقدور، أما من حيث كونها قدر الله; فيجب الرضا بتقدير الله بكل حال، ولهذا قال ابن القيم:

فلذاك نرضى بالقضاء ونسخط ااـ مقضي حين يكون بالعصيان
فمن نظر بعين القضاء والقدر إلى رجل يعمل معصية; فعليه الرضا لأن الله هو الذي قدر هذا، وله الحكمة في تقديره، وإذا نظر إلى فعله; فلا يجوز له أن يرضى به لأنه معصية، وهذا هو الفرق بين القدر والمقدور.
ج / 2 ص -112- وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}، [التغابن: من الآية11].


قال علقمة: " هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله; فيرضى ويسلم".
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة; أن رسول الله ( قال: ( اثنتان.........

قوله: تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ}، "من": اسم شرط جازم، وفعل الشرط "يؤمن"، وجوابه "يهد"، والمراد بالإيمان بالله هنا الإيمان بقدره.
قوله: (يَهْدِ قَلْبَهُ يرزقه الطمأنينة، وهذا يدل على أن الإيمان يتعلق بالقلب، فإذا اهتدى القلب اهتدت الجوارح; لقوله (: ( إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب((1).
قوله: "قال علقمة": هو من أكابر التابعين.


قوله: "هو الرجل تصيبه المصيبة..." إلخ: وتفسير علقمة هذا من لازم الإيمان; لأن من آمن بالله علم أن التقدير من الله، فيرضى ويسلم، فإذا علم أن المصيبة من الله اطمأن القلب وارتاح، ولهذا كان من أكبر الراحة والطمأنينة الإيمان بالقضاء والقدر.
قوله: في حديث أبي هريرة: "اثنتان": مبتدأ، وسوغ الابتداء به التقسيم، أو أنه مفيد للخصوص.



(1) أخرجه البخاري (452) ومسلم (1599).

ج / 2 ص -113- في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت((1).


قوله: "بهم كفر": الباء يحتمل أن تكون بمعنى "من"; أي: هما منهم كفر، ويحتمل أن تكون بمعنى "في"; أي: هما فيهم كفر.
قوله: "كفر": أي: هاتان الخصلتان كفر ولا يلزم من وجود خصلتين من الكفر في المؤمن أن يكون كافرا، كما لا يلزم من وجود خصلتين في الكافر من خصال الإيمان; كالحياء، والشجاعة، والكرم; أن يكون مؤمنا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "بخلاف قول رســول الله (: ( بين الرجل والشرك والكفر ترك الصلاة((2) فإنه هنا أتى بأل الدالة على الحقيقة; فالمراد بالكفر هنا الكفر المخرج عن الملة، بخلاف مجيء "كفر" نكرة; فلا يدل على الخروج عن الإسلام(3).
قوله: "الطعن في النسب": أي: العيب فيه أو نفيه; فهذا عمل من أعمال الكفر.


قوله: "النياحة على الميت": أي: أن يبكي الإنسان على الميت بكاء على صفة نوح الحمام; لأن هذا يدل على التضجر وعدم الصبر، فهو مناف للصبر الواجب، وهذه الجملة هي الشاهد للباب.


والناس حال المصيبة على مراتب أربع:
الأولى: التسخط: وهو إمــا أن يكون بالقلب، كأن يسخط على ربه،


(1) أخرجه مسلم في (الإيمان, باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة/1/82).
(2) أخرجه مسلم في (الإيمان, باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة/1/88) عن جابر رضي الله عنه.
(3) انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/208, 209).

ج / 2 ص -114-


ويغضب على قدر الله عليه، وقد يؤدي إلى الكفر، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ}، [الحج: من الآية11]، وقد يكون باللسان; كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك، وقد يكون بالجوارح; كلطم الخدود، وشق الجيوب، ونتف الشعور، وما أشبه ذلك.
الثانية: الصبر،

وهو كما قال الشاعر:

الصبر مثل اسمه مر مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل
فيرى الإنسان أن هذا الشيء ثقيل عليه ويكرهه، لكنه يتحمله ويتصبر، وليس وقوعه وعدمه سواء عنده، بل يكره هذا ولكن إيمانه يحميه من السخط.
الثالثة: الرضا، وهو أعلى من ذلك، وهو أن يكون الأمران عنده سواء بالنسبة لقضاء الله وقدره وإن كان قد يحزن من المصيبة; لأنه رجل يسبح في القضاء والقدر، أينما ينزل به القضاء والقدر فهو نازل به على سهل أو جبل، إن أصيب بنعمة أو أصيب بضدها; فالكل عنده سواء، لا لأن قلبه ميت; بل لتمام رضاه بربه - سبحانه وتعالى - يتقلب في تصرفات الرب ( ولكنها عنده سواء; إذ إنه ينظر إليها باعتبارها قضاء لربه، وهذا الفرق بين الرضا والصبر.


الرابعة: الشكر، وهو أعلى المراتب، وذلك أن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة، وذلك يكون في عباد الله الشاكرين حين يرى أن هناك مصائب أعظم منها، وأن مصائب الدنيا أهون من مصائب الدين، وأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وأن هذه المصيبة سبب لتكفير

ج / 2 ص -115- ولهما عن ابن مسعود مرفوعا: ( ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية((1).


سيئاته، وربما لزيادة حسناته شكر الله على ذلك، قال النبي ( ( ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا شيء إلا كفر له بها، حتى الشوكة يشاكها((2). كما أنه قد يزداد إيمان المرء بذلك.
قوله في حديث ابن مسعود: "مرفوعا": أي: إلى النبي (.
قوله: "من ضرب الخدود": العموم يراد به الخصوص; أي: من أجل المصيبة.
قوله: "من شق الجيوب": هو طوق القميص الذي يدخل منه الرأس، وذلك عند المصيبة تسخطا وعدم تحمل لما وقع عليه.


قوله: "ودعا بدعوى الجاهلية": دعوى مضاف والجاهلية مضاف إليه، وتنازع هنا أمران:
الأول: صيغة العموم (دعوى الجاهلية); لأنه مفرد مضاف فيعم.
الثاني: القرينة; لأن ضرب الخدود وشق الجيوب يفعلان عند المصيبة فيكون دعا بدعوى الجاهلية عند المصيبة، مثل قولهم: واويلاه!



(1) أخرجه: البخاري (1226), ومسلم (1/ 99).
(2) أخرجه: البخاري في (المرضى, باب كفارة المرض, 4/ 23), ومسلم في (البر والصلة, باب ثواب المؤمن, 4/ 1992).

ج / 2 ص -116- وعن أنس; أن رسول الله ( قال: ( إذا أراد الله بعبده الخير، عجل له بالعقوبة في الدنيا، ..........


وانقطاع ظهراه!
والأولى أن ترجح صيغة العموم، والقرينة لا تخصصه; فيكون المقصود بالدعوى كل دعوى منشؤها الجهل.
وذكر هذه الأصناف الثلاثة; لأنها غالبا ما تكون عند المصائب، وإلا; فمثله هدم البيوت، وكسر الأواني، وتخريب الطعام، ونحوه مما يفعله بعض الناس عند المصيبة. وهذه الثلاثة من الكبائر; لأن النبي ( تبرأ من فاعلها.
ولا يدخل في الحديث ضرب الخد في الحياة العادية; مثل: ضرب الأب لابنه، لكن يكره الضرب على الوجه للنهي عنه، وكذلك شق الجيب لأمر غير المصيبة.


قوله في حديث أنس: " إذا أراد الله بعبده الخير": الله يريد بعبده الخير والشر، ولكن الشر المراد لله تعالى ليس مرادا لذاته بدليل قول النبي ( : ( والشر ليس إليك((1)، ومن أراد الشر لذاته كان إليه، ولكن الله يريد الشر لحكمة وحينئذ يكون خيرا باعتبار ما يتضمنه من الحكمة.
قوله: " عجل له بالعقوبة في الدنيا": العقوبة: مؤاخذة المجرم بذنبه، وسميت بذلك; لأنها تعقب الذنب، ولكنها لا تقال إلا في المؤاخذة على


ـ
(1) أخرجه مسلم في (صلاة المسافرين, باب الدعاء في صلاة الليل/1/534).

ج / 2 ص -117- وإذا أراد بعبده الشر; أمسك عنه بذنبه،

الشر.
وقوله: "عجل له بالعقوبة في الدنيا": كان ذلك خيرا من تأخيرها للآخرة; لأنه يزول وينتهي، ولهذا قال النبي ( للمتلاعنين: ( إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة((1).
وهناك خير أولى من ذلك وهو العفو عن الذنب، وهذا أعلى; لأن الله إذا لم يعاقبه في الدنيا ولا في الآخرة; فهذا هو الخير كله، ولكن الرسول ( جعل تعجيل العقوبة خيرا باعتبار أن تأخر العقوبة إلى الآخرة أشد; كما قال تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}، [طـه: من الآية127].


والعقوبة أنواع كثيرة:
منها: ما يتعلق بالدين، وهي أشدها; لأن العقوبات الحسية قد يتنبه لها الإنسان، أما هذه; فلا يتنبه لها إلا من وفقه الله، وذلك كما لو خفت المعصية في نظر العاصي; فهذه عقوبة دينية تجعله يستهين بها، وكذلك التهاون بترك الواجب، وعدم الغيرة على حرمات الله، وعدم القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل ذلك من المصائب، ودليله قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}، [المائدة: من الآية49].
ومنها: العقوبة بالنفس، وذلك كالأمراض العضوية والنفسية.
ومنها: العقوبة بالأهل; كفقدانهم، أو أمراض تصيبهم.
ومنها: العقوبة بالمال; كنقصه أو تلفه وغير ذلك.


قوله: ( وإذا أراد بعبده الشر; أمسك عنه بذنبه((2):
" أمسك عنه"; أي:



(1) أخرجه مسلم (1493).
(2) الترمذي: الزهد (2396).

ج / 2 ص -118- حتى يوافي به يوم القيامة "((1).


ترك عقوبته.
والإمساك فعل من أفعال الله، وليس معناه تعطيل الله عن الفعل، بل هو لم يزل ولا يزال فعالا لما يريد، لكنه يمسك عن الفعل في شيء ما لحكمة بالغة; ففعله حكمة، وإمساكه حكمة.
قوله: "حتى يوافي به يوم القيامة": أي: يوافيه الله به: أي: يجازيه به يوم القيامة، وهو الذي يقوم فيه الناس من قبورهم لله رب العالمين. وسمي بيوم

القيامة لثلاثة أسباب:
1- قيام الناس من قبورهم; لقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، [المطففين:6].
2- قيام الأشهاد; لقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}، [غافر:51].
3- قيام العدل; لقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}، [الأنبياء: من الآية47].
والغرض من سياق المؤلف لهذا الحديث: تسلية الإنسان إذا أصيب بالمصائب لئلا يجزع، فإن ذلك قد يكون خيرا، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فيحمد الله على أنه لم يؤخر عقوبته إلى الآخرة.
وعلى فرض أن أحدا لم يأت بخطيئة وأصابته مصيبة; فنقول له: إن



(1) أخرجه الترمذي في (الزهد, باب ما جاء في الصبر على البلاء/7/123)، وقال: "حسن غريب", والبيهقي في "الأسماء والصفات" (ص 154), والبغوي في "شرح السنة" (5/ 245). والحديث له شاهد من حديث عبد الله بن مغفل وابن عباس وعمار بن ياسر رضي الله عنهم; فهو صحيح بمجموع طرقه. وانظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1220).

ج / 2 ص -119-


هذا من باب امتحان الإنسان على الصبر، ورفع درجاته باحتساب الأجر، لكن لا يجوز للإنسان إذا أصيب بمصيبة، وهو يري أنه لم يخطئ أن يقول: أنا لم أخطئ; فهذه تزكية، فلو فرضنا أن أحدا لم يصب ذنبا وأصيب بمصيبة; فإن هذه المصيبة لا تلاقي ذنبا تكفره لكنها تلاقي قلبا تمحصه; فيبتلي الله الإنسان بالمصائب لينظر هل يصبر أو لا؟ ولهذا كان أخشى الناس لله ( وأتقاهم محمد ( يوعك كما يوعك رجلان منا(1) وذلك لينال أعلى درجات الصبر فينال مرتبة الصابرين على أعلى وجوهها، ولذلك شدد عليه ( عند النزع، ومع هذه الشدة كان ثابت القلب، ودخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر وهو يستاك، فأمده بصره (يعني: ينظر إليه)، فعرفت عائشة رضي الله عنها أنه يريد السواك، فقالت: آخذه لك؟ فأشار برأسه نعم. فأخذت السواك وقضمته وألانته للرسول ( فأعطته إياه، فاستن به، قالت عائشة: ما رأيته استن استنانا أحسن منه، ثم رفع يده وقال: ( في الرفيق الأعلى((2).
فانظر إلى هذا الثبات واليقين والصبر العظيم مع هذه الشدة العظيمة، كل هذا لأجل أن يصل الرسول ( أعلى درجات الصابرين، صبر لله، وصبر بالله، وصبر في الله حتى نال أعلى الدرجات.


فمن أصيب بمصيبة، فحدثته نفسه أن مصائبه أعظم من معائبه; فإنه يدل على ربه بعمله ويمن عليه به; فليحذر هذا.
ومن ذلك يتضح لنا أمران: 1- أن إصابة الإنسان بالمصائب تعتبر تكفيرا لسيئاته وتعجيلا



(1) أخرجه البخاري في (المرضى, باب شدة المرض/4/54), ومسلم في (البر والصلة, باب ثواب المؤمن/4/1991); من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري في (المغازي, باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم/3/82).

ج / 2 ص -120- وقال النبي ( ( إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما; ابتلاهم، ...

ـ
للعقوبة في الدنيا، وهذا خير من تأخيرها له في الآخرة.
2- قد تكون المصائب أكبر من المعائب ليصل المرء بصبره أعلى درجات الصابرين، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.
قوله: وقال النبي ( "إن عظم الجزاء" إلى آخره: هذا الحديث رواه الترمذي عن أنس بن مالك ( عن النبي (- فصحابيه صحابي الحديث الذي قبله-: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء". أي: يتقابل عظم الجزاء مع البلاء، فكلما كان البلاء أشد وصبر الإنسان صار الجزاء أعظم; لأن الله عدل لا يجزي المحسن بأقل من إحسانه، فليس الجزاء على الشوكة يشاكها كالجزاء على الكسر إذا كسر، وهذا دليل على كمال عدل الله، وأنه لا يظلم أحدا، وفيه تسلية المصاب.


قوله: ( وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم(، أي: اختبرهم بما يقدر عليهم من الأمور الكونية; كالأمراض، وفقدان الأهل، أو بما يكلفهم به من الأمور الشرعية، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}، [الإنسان:23-24]، فذكره الله بالنعمة وأمره بالصبر; لأن هذا الذي نزل عليه تكليف يكلف به.
كذلك من الابتلاء الصبر عن محارم الله: كما في الحديث: ( ورجل

ج / 2 ص -121- فمن رضي، فله الرضا، ومن سخط; فله السخط((2)، حَسَّنَهُ الترمذي(3).


دعته امرأة ذات منصب وجمال; فقال: إني أخاف الله((1)، فهذا جزاؤه أن الله يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. "من": شرطية، والجواب: "فله الرضا"; أي: فله الرضا من الله، وإذا رضي الله عن شخص أرضى الناس عنه جميعا، والمراد بالرضا: الرضا بقضاء الله من حيث إنه قضاء الله، وهذا واجب بدليل قوله: "ومن سخط"؛ فقابل الرضا بالسخط، وهو عدم الصبر على ما يكون من المصائب القدرية الكونية.


ولم يقل هنا "فعليه السخط" مع أن مقتضى السياق أن يقول فعليه; كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}، [فصلت: من الآية46].
فقال بعض العلماء: إن اللام بمعنى على; كقوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}، [الرعد: من الآية25]، أي: عليهم اللعنة.
وقال آخرون: إن اللام على ما هي عليه، فتكون للاستحقاق; أي: صار عليه السخط باستحقاقه له، فتكون أبلغ من "على"; كقوله تعالى: ، أي: حقت عليهم باستحقاقهم لها، وهذا أصح.


ويستفاد من الحديث:

إثبات المحبة والسخط والرضا لله ( وهي من الصفات



(1) رواه البخاري (660), ومسلم (1031).
(2) الترمذي: الزهد (2396).
(3) أخرجه الترمذي في (الزهد, باب ما جاء في الصبر على البلاء/7/123)- وقال: "حسن غريب"-, وابن ماجه في (الفتن, باب الصبر على البلاء, 2/1338), والبغوي في "شرح السنة" (5/245). وإسناده حسن. انظر: "المشكاة" (1/493), و"سلسلة الأحاديث الصحيحة" (146).
(4) الترمذي : الزهد (2396).



ج / 2 ص -122- فيه مسائل:
الأولى:
تفسير آية التغابن.
الثانية: أن هذا من الإيمان بالله.

ــ
الفعلية لتعلقها بمشيئة الله تعالى; لأن ( إذا) في قوله: "إذا أحب قوما" للمستقبل، فالحب يحدث; فهو من الصفات الفعلية.والله تعالى يحب العبد عند وجود سبب المحبة، ويبغضه عند وجود سبب البغض، وعلى هذا; فقد يكون هذا الشخص في يوم من الأيام محبوبا إلى الله وفي آخر مبغضا إلى الله; لأن الحكم يدور مع علته.


وأما الأعمال; فلم يزل الله يحب الخير والعدل والإحسان ونحوها، وأهل التأويل ينكرون هذه الصفات، فيئولون المحبة والرضا بالثواب أو إرادته، والسخط بالعقوبة أو إرادتها، قالوا: لأن إثبات هذه الصفات يقتضي النقص ومشابهة المخلوقين، والصواب ثبوتها لله ( على الوجه اللائق به، كسائر الصفات التي يثبتها من يقول بالتأويل.


ويجب في كل صفة أثبتها الله لنفسه أمران:
1- إثباتها على حقيقتها وظاهرها.
2- الحذر من التمثيل أو التكييف.


فيه مسائل:

الأولى:
تفسير آية التغابن: وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}، [التغابن: من الآية11]، وقد فسرها علقمة كما سبق تفسيرا مناسبا للباب.
الثانية: أن هذا من الإيمان بالله: المشار إليه بقوله: (هذا) هو الصبر على أقدار الله.

ج / 2 ص -123- الثالثة: الطعن في النسب.
الرابعة: شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية.
الخامسة: علامة إرادة الله بعبده الخير.
السادسة: إرادة الله به الشر.
السابعة: علامة حب الله للعبد.
الثامنة: تحريم السخط.
التاسعة: ثواب الرضا بالبلاء.


الثالثة: الطعن في النسب: وهي عيبه أو نفيه، وهو من الكفر، لكنه لا يخرج من الملة.
الرابعة: شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود، أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية: لأن النبي ( تبرأ منه.
الخامسة: علامة إرادة الله بعبده الخير: وهو أن يعجل له الله العقوبة في الدنيا.
السادسة: إرادة الله به الشر: أي: علامة إرادة الله به الشر، وهو أن يؤخر له العقوبة في الآخرة.
السابعة: علامة حب الله للعبد: وهي الابتلاء.
الثامنة: تحريم السخط: يعني: مما يبتلى به العبد; لقوله ( "من سخط; فله السخط"، وهذا وعيد.
التاسعة: ثواب الرضا بالبلاء: وهو رضا الله عن العبد; لقوله ( "من رضي; فله الرضا".




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




ام عادل السلفية 31-01-2015 10:21PM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب ما جاء في الرياء

ج / 2 ص -124- باب ما جاء في الرياء:


المؤلف رحمه الله تعالى أطلق الترجمة; فلم يفصح بحكمه لأجل أن يحكم الإنسان بنفسه على الرياء على ما جاء فيه.
تعريف الرياء: مصدر راءى يرائي; أي: عمل عملا ليراه الناس، ويقال مراءاة كما يقال: جاهد جهادا ومجاهدة، ويدخل في ذلك من عمل العمل ليسمعه الناس ويقال له مسمع، وفي الحديث عن النبي ( أنه قال: ( من راءى راءى الله به، ومن سمع سمع الله به ( (1)
والرياء خلق ذميم، وهو من صفات المنافقين، قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً}، [النساء: من الآية142].



والرياء يبحث في مقامين:
المقام الأول: في حكمه.
فنقول: الرياء من الشرك الأصغر; لأن الإنسان قصد بعبادته غير الله، وقد يصل إلى الأكبر، وقد مثل ابن القيم للشرك الأصغر; فقال: "مثل يسير الرياء"، وهذا يدل على أن الرياء الكثير قد يصل إلى الأكبر.



(1) أخرجه البخاري في (الرقاق, باب الرياء والسمع/4/191), ومسلم في (الزهد, باب تحريم الرياء/4/2289). حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ج / 2 ص -125-


المقام الثاني: في حكم العبادة إذا خالطها الرياء، وهو على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يكون الباعث على العبادة مراءاة الناس من الأصل، كمن قام يصلي من أجل مراءاة الناس ولم يقصد وجه الله; فهذا شرك والعبادة باطلة.
الثاني: أن يكون مشاركا للعبادة في أثنائها، بمعنى أن يكون الحامل له في أول أمره الإخلاص لله ثم يطرأ الرياء في أثناء العبادة.
فإن كانت العبادة لا ينبني آخرها على أولها; فأولها صحيح بكل حال، والباطل آخرها. مثال ذلك: رجل عنده مئة ريال قد أعدها للصدقة فتصدق بخمسين مخلصا وراءى في الخمسين الباقية; فالأولى حكمها صحيح، والثانية باطلة.


أما إذا كانت العبادة ينبني آخرها على أولها; فهي على حالين:
أ- أن يدافع الرياء ولا يسكن إليه، بل يعرض عنه ويكرهه; فإنه لا يؤثر عليه شيئا; لقول النبي ( ( إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم((1)، مثال ذلك: رجل قام يصلي ركعتين مخلصا لله، وفي الركعة الثانية أحس بالرياء، فصار يدافعه; فإن ذلك لا يضره ولا يؤثر على صلاته شيئا.
ب- أن يطمئن إلى هذا الرياء ولا يدافعه; فحينئذ تبطل جميع


(1) أخرجه: البخاري في (الأيمان, باب إذا حنث ناسيا, 4/ 222), ومسلم في (الإيمان, باب تجاوز الله عن حديث النفس, 1/ 116); من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ج / 2 ص -126- وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، [الكهف: من الآية110]، الآية.


العبادة; لأن آخرها مبني على أولها ومرتبط به. مثال ذلك: رجل قام يصلي ركعتين مخلصا لله، وفي الركعة الثانية طرأ عليه الرياء لإحساسه بشخص ينظر إليه، فاطمأن لذلك ونزع إليه; فتبطل صلاته كلها لارتباط بعضها ببعض.
الثالث: ما يطرأ بعد انتهاء العبادة; فإنه لا يؤثر عليها شيئا، اللهم إلا أن يكون فيه عدوان; كالمن والأذى بالصدقة، فإن هذا العدوان يكون إثمه مقابلا لأجر الصدقة فيبطلها; لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}، [البقرة: من الآية264].
وليس من الرياء أن يفرح الإنسان بعلم الناس بعبادته; لأن هذا إنما طرأ بعد الفراغ من العبادة.


وليس من الرياء أيضا أن يفرح الإنسان بفعل الطاعة في نفسه، بل ذلك دليل على إيمانه، قال النبي (: ( من سرته حسناته وساءته سيئاته; فذلك المؤمن((1)، وقد سئل النبي ( عن ذلك; فقال: ( تلك عاجل بشرى المؤمن((2).
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}؛ يأمر الله نبيه أن يقول للناس: إنما أنا بشر مثلكم، وهو قصر النبي ( على البشرية، وأنـه ليس



(1) أخرجه أحمد (1/18, 26) , والترمذي في (الفتن , باب ما جاء في لزوم الجماعة/6/333)- وقال: "حسن, صحيح, غريب"-; من حديث عمر رضي الله عنه.
(2) أخرجه مسلم في (البر والصلة, باب إذا أثنى على الصالح/4/2034).

ج / 2 ص -127-


ربا ولا ملكا، وأكد هذه البشرية بقوله: "مثلكم"، فذكر المثل من باب تحقيق البشرية.
قوله: ( يُوحَى إِلَيَّ ( الوحي في اللغة: الإعلام بسرعة وخفاء، ومنه قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً}، [مريم:11].
وفي الشرع: إعلام الله بالشرع.
والوحي: هو الفرق بيننا وبينه ( فهو متميز بالوحي كغيره من الأنبياء والرسل.
قوله: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد}: هذه الجملة في تأويل مصدر نائب فاعل "يوحى"، وفيها حصر طريقه " أنما"; فيكون معناها: ما إلهكم إلا إله واحد، وهو الله، فإذا ثبت ذلك; فإنه لا يليق بك أن تشرك معه غيره في العبادة التي هي خالص حقه، ولذلك قال تعالى بعد هذا: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}، [الكهف: من الآية110].
فقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ}، المراد بالرجاء: الطلب والأمل; أي: من كان يؤمل أن يلقى ربه، والمراد باللقيا هنا الملاقاة الخاصة;

لأن اللقيا على نوعين:
الأول: عامة لكل إنسان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}؛ [الانشقاق:6]، ولذلك قال مفرعا على ذلك: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً}، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ}، [الانشقاق:7-10]، الآية.
الثاني: الخاصة بالمؤمنــين، وهو لقاء الرضا والنعيم كما في هذه

ج / 2 ص -128-


الآية، وتتضمن رؤيته تبارك وتعالى، كما ذكر ذلك بعض أهل العلم.
فقوله: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً}: الفاء رابطة لجواب الشرط، والأمر للإرشاد; أي: من كان يريد أن يلقى الله على الوجه الذي يرضاه سبحانه; فليعمل عملا صالحا.
والعمل الصالح: ما كان خالصا صوابا، وهذا وجه الشاهد من الآية.
فالخالص: ما قصد به وجه الله، والدليل على ذلك قوله (: ( إنما الأعمال بالنيات((1).
والصواب: ما كان على شريعة الله، والدليل على ذلك قوله (: ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا; فهو رد((2).
ولهذا قال العلماء: هذان الحديثان ميزان الأعمال; فالأول: ميزان الأعمال الباطنة. والثاني: ميزان الأعمال الظاهرة.
قوله:" وَلَا يُشْرِكْ": لا: ناهية، والمراد بالنهي الإرشاد.


قوله:" بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا": خص العبادة لأنها خالص حق الله، ولذلك أتى بكلمة "رب" إشارة إلى العلة، فكما أن ربك خلقك ولا يشاركه أحد في خلقك; فيجب أن تكون العبادة له وحده، ولذلك لم يقل: ( لا يشرك بعبادة الله)، فذكر الرب من باب التعليل; كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، [البقرة: من الآية21].



(1) أخرجه البخاري (1), ومسلم (3/ 1515).
(2) أخرجه البخاري معلقا بصيغة الجزم في (البيوع, باب النجش/3/100) ومسلم موصولا في (الأقضية, باب نقض الأحكام, 3/ 1343).

ج / 2 ص -129- وعن أبي هريرة مرفوعا: قال الله تعالى: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري .....


وقوله: "أحدا" نكرة في سياق النهي; فتكون عامة لكل أحد.
والشاهد من الآية: أن الرياء من الشرك، فيكون داخلا في النهي عنه.
وفي هذه الآية دليل على ملاقاة الله تعالى، وقد استدل بها بعض أهل العلم على ثبوت رؤية الله; لأن الملاقاة معناها المواجهة.
وفيها دليل على أن الرسول ( بشر لا يستحق أن يعبد; لأنه حصر حاله بالبشرية، كما حصر الألوهية بالله.
قوله في حديث أبي هريرة: " قال الله تعالى": هذا الحديث يرويه النبي ( عن ربه، ويسمى هذا النوع بالحديث القدسي.
قوله: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك".
قوله: " أغنى": اسم تفضيل، وليست فعلا ماضيا، ولهذا أضيفت إلى الشركاء. يعني: إذا كان بعض الشركاء يستغني عن شركته مع غيره; فالله أغنى الشركاء عن المشاركة
فالله لا يقبل عملا له فيه شرك أبدا، ولا يقبل إلا العمل الخالص له وحده، فكما أنه الخالق وحده; فكيف تصرف شيئا من حقه إلى غيره؟!
فهذا ليس عدلا، ولهذا قال الله عن لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، [لقمان: من الآية13]، فالله الذي خلقك وأعدك إعدادا كاملا بكل مصالحك وأمدك بما تحتاج إليه، ثم تذهب وتصرف شيئا من حقه إلى غيره؟! فلا شك أن هذا من أظلم الظلم.

ج / 2 ص -130- تركته وشركه) رواه مسلم(1).



قوله: "عملا": نكرة في سياق الشرط; فتعم أي عمل من صلاة، أو صيام، أو حج، أو جهاد، أو غيره.
قوله: "تركته وشركه": أي: لم أثبه على عمله الذي أشرك فيه.
وقد يصل هذا الشرك إلى حد الكفر، فيترك الله جميع أعماله; لأن الشرك يحبط الأعمال إذا مات عليه.
والمراد بشركه: عمله الذي أشرك فيه، وليس المراد شريكه; لأن الشريك الذي أشرك به مع الله قد لا يتركه، كمن أشرك نبيا أو وليا; فإن الله لا يترك ذلك النبي والولي.


ويستفاد من هذا الحديث:

1- بيان غنى الله تعالى; لقوله: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك.
2- بيان عظم حق الله، وأنه لا يجوز لأحد أن يشرك أحدا مع الله في حقه.
3- بطلان العمل الذي صاحبه الرياء; لقوله: "تركته وشركه".
4- تحريم الرياء; لأن ترك الإنسان وعمله، وعدم قبوله، يدل على الغضب، وما أوجب الغضب; فهو محرم.
5- أن صفات الأفعال لا حصر لها; لأنها متعلقة بفعل الله، ولم يزل الله ولا يزال فعَّالا.



(1) أخرجه مسلم في (الزهد, باب من أشرك في عمله غير الله/4/2289).

ج / 2 ص -131- وعن أبي سعيد مرفوعا: ( ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ .....


قوله في حديث أبي سعيد: " ألا": أداة عرض، والغرض منها تنبيه المخاطب; فهو أبلغ من عدم الإتيان بها.
قوله: " بما هو": ما: اسم موصول بمعنى الذي.
قوله: " أخوف عليكم عندي": أي عند الرسول ( لأنه ( من رحمته بالمؤمنين يخاف عليهم كل الفتن، وأعظم فتنة في الأرض هي فتنة المسيح الدجال، لكن خوف النبي ( من فتنة هذا الشرك الخفي أشد من خوفه من فتنة المسيح الدجال، وإنما كان كذلك; لأن التخلص منه صعب جدا، ولذلك قال بعض السلف: (ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص( وقال النبي (: ( أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه( (1) ولا يكفي مجرد اللفظ بها، بل لا بد من إخلاص وأعمال يتعبد بها الإنسان لله .
قوله: " المسيح الدجال": المسيح; أي: ممسوح العين اليمنى،


فذكر النبي عيبين في الدجال:
أحدهما: حسي، وهو أن الدجال أعور العين اليمنى; كما قال النبي ( ( إن الله لا يخفى عليكم، إنه ليس بأعور وإن الدجال أعور العين اليمنى((2).
والثاني: معنوي، وهو الدجال; فهو صيغة مبالغة، أو يقال بأنه نسبة إلى وصفه المـلازم له، وهو الدجل والكذب والتمويه، وهو رجل من بني آدم،


ـ
(1) أخرجه البخاري في (العلم, باب الحرص على الحديث/1/52) من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه البخاري في (الأنبياء, باب واذكر في الكتاب مريم/2/488), ومسلم في (الفتن, باب ذكر الدجال/4/2247); من حديث ابن عمر.

ج / 2 ص -132- قالوا: بلى. قال: الشرك الخفي،


ولكن الله- سبحانه وتعالى- بحكمته يخرجه ليفتن الناس به، وفتنته عظيمة; إذ ما في الدنيا منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنة أشد من فتنة الدجال.
والمسيح الدجال ثبتت به الأحاديث واشتهرت حتى كان من المعلوم بالضرورة; لأن النبي ( أمر أمته أن يتعوذوا بالله منه في كل صلاة.
وقد حاول بعض الناس إنكاره وقالوا: ما ورد من صفته متناقض ولا يمكن أن يصدق به، لكن هؤلاء يقيسون الأحاديث بعقولهم وأهوائهم، وقدرة الله بقدرتهم، ويقولون: كيف يكون اليوم الواحد عن سنة والشمس لها نظام لا تتعداه؟
وهذا لا شك جهل منهم بالله; فالذي جعل هذا النظام هو الله، وهو القادر على أن يغيره متى شاء; فيوم القيامة تكور الشمس، وتتكدر النجوم، وتكشط السماء، كل ذلك بكلمة "كن".


ورد هذه الأحاديث بمثل هذه التعاليل دليل على ضعف الإيمان وعدم تقدير الله حق قدره، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}، [الأنعام: من الآية91].
فالذي نؤمن به أنه سيخرج في آخر الزمان، ويحصل منه كل ما ثبت عن رسول الله (.
ونؤمن أن الله على كل شيء قدير، وأنه قادر على أن يبعث على الناس من يفتنهم عن دينهم; ليتميز المؤمن من الكافر والخبيث من الطيب، مثل ما ابتلى الله بني إسرائيل بالحيتان يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، ومثل ما ابتلى الله المؤمنين بأن أرسل عليهم الصيد وهم حرم، تناله أيديهم ورماحهم ليعلم الله من يخافه بالغيب، وقد يبتلي الله أفراد الناس بأشياء يمتحنهم بها، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ}، [الحج: من الآية11].
قوله: "الشرك الخفي": الشرك قسمان خفي وجلي.

ج / 2 ص -133- يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه(، رواه أحمد(1).


فالَجِليّ: ما كان بالقول مثل: الحلف بغير الله أو قول ما شاء الله وشئت، أو بالفعل مثل: الانحناء لغير الله تعظيما.
والخفي: ما كان في القلب، مثل الرياء; لأنه لا يبين; إذ لا يعلم ما في القلوب إلا الله، ويسمى أيضا "شرك السرائر"، وهذا هو الذي بينه الله بقوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}، [الطارق:9]؛ لأن الحساب يوم القيامة على السرائر، قال تعالى: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}، [العاديات:9-10].


وفي الحديث الصحيح فيمن كان يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله: أنه " يلقى في النار حتى تندلق أقتاب بطنه، فيدور عليها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع عليه أهل النار، فيسألونه، فيخبرهم أنه كان يأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله(2) ".
قوله: "يقوم الرجل، فيصلي، فيزين صلاته": يتساوى في ذلك الرجل والمرأة، والتخصيص هنا يسمى مفهوم اللقب، أي أن الحكم يعلق بما هو أشرف، لا لقصد التخصيص، ولكن لضرب المثل.
وقوله: " فيزين صلاته": أي: يحسنها بالطمأنينة، ورفع اليدين عند التكبير، ونحو ذلك.


قوله: " لما يرى من نظر رجل إليه": " ما" موصـولة، وحذف العائد;


(1) أخرجه أحمد (3/30), وابن ماجه في (الزهد, باب الرياء والسمعة/2/1406),- وقال في "الزوائد": "إسناده حسن, وكثير بن زيد وربيح بن عبد الرحمن مختلف فيهما"-, وأخرجه الحاكم (4/329) وصححه.
(2) أخرجه البخاري في (بدء الخلق, باب صفة النار/2/436), ومسلم في (الزهد, باب عقوبة من يأمر بمعروف ولا يفعله/4/2290).



ج / 2 ص -134- فيه مسائل:
الأولى:
تفسير آية الكهف.
الثانية: الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله.
الثالثة: ذكر السبب الموجب لذلك، وهو كمال الغنى.
الرابعة: أن من الأسباب أنه تعالى خير الشركاء.
الخامسة: خوف النبي ( على أصحابه من الرياء.


أي: للذي يراه من نظر رجل، وهذه هي العلة لتحسين الصلاة; فقد زين صلاته ليراه هذا الرجل فيمدحه بلسانه أو يعظمه بقلبه، وهذا شرك.


فيه مسائل:

الأولى:
تفسير آية الكهف: وسبق الكلام عليها.
الثانية: الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله:
وذلك لقوله: "تركته وشركه"، وصار عظيما; لأنه ضاع على العامل خسارا، وفحوى الحديث تدل على غضب الله ( من ذلك.
الثالثة: ذكر السبب الموجب لذلك، وهو كمال الغنى: يعني: الموجب للرد؛ هو كمال غنى الله ( عن كل عمل فيه شرك، وهو غني عن كل عمل، لكن العمل الصالح يقبله ويثيب عليه.
الرابعة: أن من الأسباب أنه تعالى خير الشركاء: أي: من أسباب رد العمل إذا أشرك فيه العامل مع الله أحدا أن الله خير الشركاء، فلا ينازع من جعل شريكا له فيه.
الخامسة: خوف النبي ( على أصحابه من الرياء: وذلك

ج / 2 ص -135- السادسة: أنه فسر ذلك بأن المرء يصلي لله، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه.

ـ
( لقوله (: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال(، وإذا كان يخاف ذلك على أصحابه; فالخوف على من بعدهم من ذلك من باب أولى.
السادسة: أنه فسر ذلك بأن المرء يصلي لله، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه: وهذا التفسير ينطبق تماما على الرياء; فيكون أخوف علينا عند رسول الله ( من المسيح الدجال.
ولم يذكر المؤلف مسألة خوف النبي ( على أمته من المسيح الدجال; لأن المقام في الرياء لا فيما يخافه النبي ( على أمته.




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 31-01-2015 10:43PM

بسم الله الرحمن الرحيم






القول المفيد على كتاب التوحيد

باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

ج / 2 ص -136- باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا:

قوله: "من الشرك": "من" للتبعيض; أي: بعض الشرك.
قوله: "الدنيا": مفعول بإرادة; لأن إرادة مصدر مضاف إلى فاعله.
وإذا أردت أن تعرف المصدر إن كان مضافا إلى فاعله أو مفعوله; فحوله إلى فعل مضارع مقرون بأن، فإذا قلنا: باب من الشرك أن يريد الإنسان بعمله الدنيا فالإنسان فاعل، وعلى هذا; فإرادة مصدر مضاف إلى فاعله، والدنيا مفعول به.


وعنوان الباب له ثلاثة احتمالات:
الأول: أن يكون مكررا مع ما قبله، وهذا بعيد أن يكتب المؤلف ترجمتين متتابعتين لمعنى واحد.
الثاني: أن يكون الباب الذي قبله أخص من هذا الباب; لأنه خاص في الرياء، وهذا أعم، وهذا محتمل.
الثالث: أن يكون هذا الباب نوعا مستقلا عن الباب الذي قبله، وهذا هو الظاهر; لأن الإنسان في الباب السابق يعمل رياء؛ يريد أن يمدح في العبادة، فيقال: هو عابد، ولا يريد النفع المادي.
وفي هذا الباب لا يريد أن يمدح بعبادته ولا يريد المراءاة، بل يعبد الله مخلصا له، ولكنه يريد شيئا من الدنيا; كالمال، والمرتبة، والصحة في نفسه، وأهله، وولده، وما أشبه ذلك; فهو يريد بعمله نفعا في الدنيا، غافلا عن ثواب الآخرة.

ج / 2 ص -137-


أمثلة تبين كيفية إرادة الإنسان بعمله الدنيا:
1- أن يريد المال; كمن أذن ليأخذ راتب المؤذن، أو حج ليأخذ المال.
2- أن يريد المرتبة; كمن تعلم في كلية ليأخذ الشهادة؛ فترتفع مرتبته.
3- أن يريد دفع الأذى والأمراض والآفات عنه: كمن تعبد لله كي يجزيه الله بهذا في الدنيا، بمحبة الخلق له، ودفع السوء عنه، وما أشبه ذلك.
4- أن يتعبد لله: يريد صرف وجوه الناس إليه بالمحبة والتقدير.
وهناك أمثلة كثيرة.

تنبيه:

فإن قيل:
هل يدخل فيه من يتعلمون في الكليات أو غيرها، يريدون شهادة، أو مرتبة بتعلمهم؟
فالجواب: أنهم يدخلون في ذلك؛ إذا لم يريدوا غرضا شرعيا، فنقول لهم:
أولا: لا تقصدوا بذلك المرتبة الدنيوية، بل اتخذوا هذه الشهادات وسيلة للعمل في الحقول النافعة للخلق; لأن الأعمال في الوقت الحاضر مبنية على الشهادات، والناس لا يستطيعون الوصول إلى منفعة الخلق إلا بهذه الوسيلة، وبذلك تكون النية سليمة.
ثانيا: أن من أراد العلم لذاته قد لا يجده إلا في الكليات; فيدخل الكلية أو نحوها لهذا الغرض، وأما بالنسبة للمرتبة; فإنها لا تهمه.

ج / 2 ص -138-


ثالثا: أن الإنسان إذا أراد بعمله الحسنيين- حسنى الدنيا، وحسنى الآخرة-; فلا شيء عليه لأن الله يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}، [الطلاق: من الآية2-3]، فرغبه في التقوى بذكر المخرج من كل ضيق والرزق من حيث لا يحتسب.
فإن قيل: من أراد بعمله الدنيا كيف يقال إنه مخلص، مع أنه أراد المال مثلا؟
أجيب: إنه أخلص العبادة ولم يرد بها الخلق إطلاقا، فلم يقصد مراءاة الناس ومدحهم، بل قصد أمرا ماديا; فإخلاصه ليس كاملا لأن فيه شركا، ولكن ليس كشرك الرياء يريد أن يمدح بالتقرب إلى الله، وهذا لم يرد مدح الناس بذلك، بل أراد شيئا دنيئا غيره.
ولا مانع أن يدعو الإنسان في صلاته، ويطلب أن يرزقه الله المال، ولكن لا يصلي من أجل هذا الشيء; فهذه مرتبة دنيئة.


أما طلب الخير في الدنيا بأسبابه الدنيوية; كالبيع، والشراء، والزراعة; فهذا لا شيء فيه، والأصل أن لا نجعل في العبادات نصيبا من الدنيا، وقد سبق البحث في حكم العبادة؛ إذا خالطها الرياء، في باب الرياء.
ملاحظة: بعض الناس عندما يتكلمون على فوائد العبادات، يحولونها إلى فوائد دنيوية. فمثلا يقولون: في الصلاة رياضة، وإفادة للأعصاب، وفي الصيام فائدة إزالة الرطوبة وترتيب الوجبات، والمفروض ألا نجعل الفوائد الدنيوية هي الأصل; لأن الله لم يذكر ذلك في كتابه، بل ذكر أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. وعن الصوم أنه سبب للتقوى; فالفوائد الدينية في العبادات هي الأصل والدنيوية ثانوية، لكن عندما نتكلم عند عامة

ج / 2 ص -139- وقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا}، [هود: من الآية15]، الآية.
ــ

الناس; فإننا نخاطبهم بالنواحي الدينية، وعندما نتكلم عند من لا يقتنع إلا بشيء مادي; فإننا نخاطبه بالنواحي الدينية والدنيوية، ولكل مقام مقال. قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}، أي: البقاء في الدنيا.
قوله: {وَزِينَتَهَا}: أي: المال، والبنين، والنساء، والحرث، والأنعام، والخيل المسومة; كما قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، [آل عمران: من الآية14].


قوله: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ} فعل مضارع معتل الآخر مجزوم بحذف حرف العلة- الياء-; لأنه جواب الشرط.
والمعنى: أنهم يعطون ما يريدون في الدنيا ومن ذلك الكفار لا يسعون إلا للدنيا وزينتها، فعجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا; كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}، [الأحقاف: من الآية20].
ولهذا ( لما بكى عمر حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم قد أثر في جنبه الفراش، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما يبكيك؟". قال: يا رسول الله كسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من نعيم وأنت على هذه الحال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم( 1، وفي الحقيقة هي ضرر عليهم; لأنهم إذا


1أخرجه البخاري في (المظالم, باب الغرفة والعلية المشرفة/2/197-199), ومسلم في (الطلاق, باب في الإيلاء واعتزال النساء/2/1105-1108).

ج / 2 ص -140-


انتقلوا من دار النعيم إلى الجحيم; صار عليهم أشد وأعظم في فقد ما متعوا به في الدنيا.
قوله: {وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ}، البخس: النقص; أي: لا ينقصون مما يجازون فيه; لأن الله عدل لا يظلم، فيعطون ما أرادوه.
قوله: "أولئك": المشار إليه الذين يريدون الحياة الدنيا وزينتها.
قوله: {لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ}، فيه حصر، وطريقه النفي والإثبات، وهذا يعني أنهم لن يدخلوا الجنة; لأن الذي ليس له إلا النار محروم من الجنة، والعياذ بالله.


قوله: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا}، الحبوط: الزوال، أي: زال عنهم ما صنعوا في الدنيا.
قوله: {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، " باطل": خبر مقدم لأجل مراعاة الفواصل في الآيات والمبتدأ " ما" في قوله: {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، فأثبت الله أنه ليس لهؤلاء إلا النار، وأن ما صنعوا في الدنيا قد حبط، وأن أعمالهم باطلة.
وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ}، مخصوصة بقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً}، [الإسراء:18].
فإن قيل: لماذا لا نجعل آية هود حاكمة على آية الإسراء، ويكون الله توعد من يريد العاجلة في الدنيا أن يجعل له ما يشاء لمن يريد، ثم وعد أن يعطيه ما يشاء؟
أجيب: إن هذا المعنى لا يستقيم لأمرين:

ج / 2 ص -141-


أولا: أن القاعدة الشرعية في النصوص أن الأخص مقدم على الأعم، وآية هود عامة; لأن كل من أراد الحياة الدنيا وزينتها وفي إليه العمل وأعطي ما أراد أن يعطى، أما آية الإسراء; فهي خاصة: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ}، [الإسراء: من الآية18]، ولا يمكن أن يحكم بالأعم على الأخص.
الثاني: أن الواقع يشهد على ما تدل عليه آية الإسراء; لأن في فقراء الكفار من هو أفقر من فقراء المسلمين; فيكون عموم آية هود مخصوصا بآية الإسراء; فالأمر موكول إلى مشيئة الله وفيمن يريده.


واختلف فيمن نزلت فيه آية هود:
1- قيل: نزلت في الكفار; لأن الكافر لا يريد إلا الحياة الدنيا، ويدل لهذا سياقها والجزاء المرتب على هذا، وعليه يكون وجه مناسبتها للترجمة أنه إذا كان عمل الكافرين يراد به الدنيا، فكل من شاركهم في شيء من ذلك; ففيه شيء من شركهم وكفرهم.
2- وقيل: نزلت في المرائين; لأنهم لا يعملون إلا للدنيا; فلا ينفعهم يوم القيامة.
3- وقيل: نزلت فيمن يريد مالا بعمله الصالح.


والسياق يدل للقول الأول; لقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، [هود:16].
تنبيه: اقتصر المؤلف رحمه الله على الإشارة إلى تكميل الآية الأولى، وزدنا الآية التالية سهوا وعسى أن يكون خيرا.

ج / 2 ص -142- وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط...


قوله: "وفي "الصحيح" عن أبي هريرة": سبق الكلام على قول المؤلف: "وفي "الصحيح"" في باب تفسير التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله.
قوله: "تعس": بفتح العين أو كسرها; أي: خاب وهلك.
قوله: "عبد الدينار" الدينار: هو النقد من الذهب، والدينار الإسلامي زنته مثقال، وسماه عبد الدينار; لأنه تعلق به تعلق العبد بالرب، فكان أكبر همه، وقدمه على طاعة ربه، ويقال في عبد الدرهم ما قيل في عبد الدينار، والدرهم هو النقد من الفضة، وزنة الدرهم الإسلامي سبعة أعشار المثقال; فكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل.


وقد أراد المؤلف بهذا الحديث أن يبين أن من الناس من يعبد الدنيا; أي: يتذلل لها ويخضع لها، وتكون مناه وغايته، فيغضب إذا فقدت ويرضى إذا وجدت، ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم من هذا شأنه عبدا لها، وهذا من يعنى بجمع المال من الذهب والفضة; فيكون مريدا بعمله الدنيا.
قوله: ( تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة(1: وهذا من يُعْنى بمظهره وأثاثه; لأن الخميصة كساء جميل، والخميلة فراش وثير، ليس له هم إلا هذا الأمر، فإذا كان عابدا لهذه الأمور لأنه صرف لها جهوده وهمته; فكيف بمن أراد بالعمل الصالح شيئا من الدنيا فجعل الدين وسيلة للدنيا؟! فهذا أعظم.
قوله:( إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط(2، يحتــمل أن يكون



1 البخاري: الرقاق (6435), وابن ماجه: الزهد (4136).
2 البخاري: الجهاد والسير (2887).

ج / 2 ص -143- تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش .


المعطي هو الله فيكون الإعطاء قدريا; أي: إن قدر الله له الرزق والعطاء رضي وانشرح صدره، وإن منع وحرم المال سخط بقلبه وقوله، كأن يقول: لماذا كنت فقيرا وهذا غنيا؟ وما أشبه ذلك; فيكون ساخطا على قضاء الله وقدره لأن الله منعه.
والله- سبحانه وتعالى- يعطي ويمنع لحكمة، ويعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن يحب.
والواجب على المؤمن أن يرضى بقضاء الله وقدره; إن أعطي شكر، وإن منع صبر.


ويحتمل أن يراد بالإعطاء هنا الإعطاء الشرعي; أي: إن أعطي من مال يستحقه من الأموال الشرعية رضي، وإن لم يعط سخط، وكلا المعنيين حق، وهما يدلان على أن هذا الرجل لا يرضى إلا للمال ولا يسخط إلا له، ولهذا سماه الرسول صلى الله عليه وسلم عبدا له.
قوله: " تعس وانتكس": تعس; أي: خاب وهلك، وانتكس; أي: انتكست عليه الأمور بحيث لا تتيسر له، فكلما أراد شيئا انقلبت عليه الأمور خلاف ما يريد، ولهذا قال: " وإذا شيك فلا انتقش": أي: إذا أصابته شوكة; فلا يستطيع أن يزيل ما يؤذيه عن نفسه.


وهذه الجمل الثلاث؛ يحتمل أن تكون خبرا منه صلى الله عليه وسلم عن حال هذا الرجل، وأنه في تعاسة، وانتكاس، وعدم خلاص من الأذى، ويحتمل أن تكون من باب الدعاء على من هذه حاله; لأنه لا يهتم إلا للدنيا، فدعا عليه أن يهلك، وأن لا يصيب من الدنيا شيئا، وأن لا يتمكن من إزالة ما يؤذيه، وقد يصل إلى الشرك عندما يصده ذلك عن طاعة الله؛ حتى أصبح لا يرضى إلا للمال ولا يسخط إلا له.

ج / 2 ص -144- طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه،



قوله: ( طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله(: هذا عكس الأول; فهو لا يهتم للدنيا، وإنما يهتم للآخرة; فهو في استعداد دائم للجهاد في سبيل الله.
و" طوبى" فعلى من الطيب، وهي اسم تفضيل، فأطيب للمذكر وطوبى للمؤنث، والمعنى: أطيب حال تكون لهذا الرجل، وقيل: إن طوبى شجرة في الجنة، والأول أعم; كما قالوا في ويل: كلمة وعيد، وقيل: واد في جهنم، والأول أعم.


وقوله: " آخذ بعنان فرسه": أي: ممسك بمقود فرسه الذي يقاتل عليه.
قوله: " في سبيل الله": ضابطه أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا للحمية أو الوطنية أو ما أشبه ذلك، لكن إن قاتل وطنية وقصد حماية وطنه لكونه بلدا إسلاميا يجب الذود عنه; فهو في سبيل الله، وكذلك من قاتل دفاعا عن نفسه أو ماله أو أهله; فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قتل دون ذلك; فهو شهيد(1، فأما من قاتل للوطنية المحضة فليس في سبيل الله؛ لأن هذا قتال عصبية يستوي فيه المؤمن والكافر، فإن الكافر يقاتل من أجل وطنه.
قوله: " أشعث رأسه، مغبرة قدماه": أي: رأسه أشعث من الغبار في سبيل الله، فهو لا يهتم بحاله ولا بدنه، ما دام هذا الأمر ناتجا عن طاعة الله عز وجل، وقدماه مغبرة من السير في سبيل الله، وهذا دليل على أن أهم شيء عنده هو الجهاد في سبيل الله، أما أن يكون شعره أو ثوبه أو فراشه نظيفا; فليس له هم فيه.




1رواه البخاري: (2480), ومسلم (141) عن عبد الله بن عمرو، بلفظ: "من قتل دون ماله فهو شهيد". وانظر: "جامع الأصول" (2/742).

ج / 2 ص -145- إن كان في الحراسة; كان في الحراسة، وإن كان في الساقة; كان في الساقة، إن استأذن; لم يؤذن له، وإن شفع; لم يشفع(1.



قوله: ( إن كان في الحراسة; فهو في الحراسة، وإن كان في الساقة; فهو في الساقة(: الحراسة والساقة ليست من مقدم الجيش; فالحراسة أن يحرس الإنسان الجيش، والساقة أن يكون في مؤخرته، وللجملتين معنيان:
أحدهما: أنه لا يبالي أين وضع، إن قيل له: احرس; حرس، وإن قيل له: كن في الساقة; كان فيها، فلا يطلب مرتبة أعلى من هذا المحل كمقدم الجيش مثلا.
الثاني: إن كان في الحراسة أدى حقها، وكذا إن كان في الساقة، والحديث صالح للمعنيين، فيحمل عليهما جميعا إذا لم يكن بينهما تعارض، ولا تعارض هنا.


قوله: ( إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع(، أي: هو عند الناس ليس له جاه ولا شرف، حتى إنه إن استأذن لم يؤذن له، وهكذا عند أهل السلطة ليس له مرتبة; فإن شفع لم يشفع، ولكنه وجيه عند الله، وله المنزلة العالية; لأنه يقاتل في سبيله.
والشفاعة: هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة.
والاستئذان: طلب الإذن بالشيء.


والحديث قسم الناس إلى قسمين:
الأول: ليس له هم إلا الدنيا، إما لتحصيل المال، أو لتجميل


1أخرجه البخاري في (الجهاد, باب الحراسة في الغزو/2/327).

ج / 2 ص -146-
الحال; فقد استعبدت قلبه حتى أشغلته عن ذكر الله وعبادته.
الثاني: أكبر همه الآخرة; فهو يسعى لها في أعلى ما يكون مشقة وهو الجهاد في سبيل الله، ومع ذلك أدى ما يجب عليه من جميع الوجوه.


ويستفاد من الحديث:
1- أن الناس قسمان كما سبق.
2- أن الذي ليس له هم إلا الدنيا قد تتقلب عليه الأمور، ولا يستطيع الخلاص من أدنى أذية وهي الشوكة، بخلاف الحازم الذي لا تهمه الدنيا، بل أراد الآخرة ولم ينس نصيبه من الدنيا، وقنع بما قدره الله له.
3- أنه ينبغي لمن جاهد في سبيل الله ألا تكون همه المراتب، بل يكون همه القيام بما يجب عليه; إما في الحراسة، أو الساقة، أو القلب، أو الجنب; حسب المصلحة.


4- أن دنو مرتبة الإنسان عند الناس؛ لا يستلزم منه دنو مرتبته عند الله عز وجل فهذا الرجل الذي إن شفع لم يشفع، وإن استأذن لم يؤذن له، قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: " طوبى له"، ولم يقل: إن سأل لم يعط، بل لا تهمه الدنيا حتى يسأل عنها، لكن يهمه الخير فيشفع للناس، ويستأذن للدخول على ذوي السلطة للمصالح العامة.



ج / 2 ص -147- فيه مسائل:
الأولى:
إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة.
الثانية: تفسير آية هود.
الثالثة: تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة.
الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط.


فيه مسائل:
الأولى:
إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة: وهذا من الشرك; لأنه جعل عمل الآخرة وسيلة لعمل الدنيا، فيطغى على قلبه حب الدنيا حتى يقدمها على الآخرة، والحزم والإخلاص أن يجعل عمل الدنيا للآخرة.
الثانية: تفسير آية هود: وقد سبق ذلك.


الثالثة: تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة: وهذه العبودية لا تدخل في الشرك ما لم يصل بها إلى حد الشرك، ولكنها نوع آخر يخل بالإخلاص; لأنه جعل في قلبه محبة زاحمت محبة الله عز وجل ومحبة أعمال الآخرة.
الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط: هذا تفسير لقوله صلى الله عليه وسلم: ( عبد الدينار، عبد الدرهم، عبد الخميصة، عبد الخميلة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط(، وهذه علامة عبوديته لهذه الأشياء أن يكون رضاه وسخطه تابعا لهذه الأشياء.

ج / 2 ص -148- الخامسة: قوله: "تعس وانتكس".
السادسة: قوله: "وإذا شيك; فلا انتقش".
السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات.


الخامسة: قوله: " تعس وانتكس".
السادسة: قوله: " إذا شيك فلا انتقش": يحتمل أن تكون الجمل الثلاث خبرا أو دعاء، وسبق شرح ذلك.
السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات: فقوله في الحديث: " طوبى لعبد..."؛ يدل على الثناء عليه، وأنه هو الذي يستحق أن يمدح لا أصحاب الدراهم والدنانير، وأصحاب الفرش والمراتب.






المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 31-01-2015 10:57PM

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد
المجلد الثاني


باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أربابا

ج / 2 ص -149- باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أربابا:

ــ
قوله: "من أطاع العلماء": "من" يحتمل أن تكون شرطية، بدليل قوله: "فقد اتخذهم"; لأنها جواب الشرط، ويحتمل أن تكون موصولة; أي: "باب الذي أطاع العلماء".
وقوله: "فقد اتخذهم": خبر المبتدأ، وقرنت بالفاء; لأن الاسم الموصول كالشرط في العموم، وعلى الأول تقرأ " باب" بالتنوين، وعلى الثاني بدون تنوين، والأول أحسن.
والمراد بالعلماء: العلماء بشرع الله، وبالأمراء: أولو الأمر المنفذون له، وهذان الصنفان هما المذكوران في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، [النساء: من الآية59]; فجعل الله طاعته مستقلة، وطاعة رسوله مستقلة، وطاعة أولي الأمر تابعة، ولهذا لم يكرر الفعل " أطيعوا"; فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وأولو الأمر هم أولو الشأن، وهم العلماء; لأنه يستند إليهم في أمر الشرع والعلم به، والأمراء; لأنه يستند إليهم في تنفيذ الشرع وإمضائه، وإذا استقام العلماء والأمراء استقامت الأمور، وبفسادهم تفسد الأمور; لأن العلماء أهل الإرشاد والدلالة، والأمراء أهل الإلزام والتنفيذ.



ج / 2 ص -150-


قوله: "في تحريم ما أحل الله": أي: في جعله حراما; أي: عقيدة أو عملا.
"أو تحليل ما حرم الله": أي: في جعله حلالا عقيدة أو عملا; فتحريم ما أحل الله لا ينقص درجة في الإثم عن تحليل ما حرم الله، وكثير من ذوي الغيرة من الناس؛ تجدهم يميلون إلى تحريم ما أحل الله أكثر من تحليل الحرام، بعكس المتهاونين، وكلاهما خطأ، ومع ذلك; فإن تحليل الحرام فيما الأصل فيه الحل أهون من تحريم الحلال; لأن تحليل الحرام إذا لم يتبين تحريمه فهو مبني على الأصل، وهو الحل، ورحمة الله - سبحانه - سبقت غضبه; فلا يمكن أن نحرم إلا ما تبين تحريمه، ولأنه أضيق وأشد، والأصل أن تبقى الأمور على الحل والسعة حتى يتبين التحريم.


أما في العبادات فيشدد; لأن الأصل المنع والتحريم حتى يبينه الشرع كما قيل:

والأصل في الأشياء حل وامنع عبادة إلا بإذن الشارع(1)
قوله: "أربابا". جمع رب، وهو المتصرف المالك.
والتصرف نوعان: تصرف قدري، وتصرف شرعي.
فمن أطاع العلماء في مخالفة أمر الله ورسوله، فقد اتخذهم أربابا من دون الله باعتبار التصرف الشرعي; لأنه اعتبرهم مشرعين، واعتبر تشريعهم شرعا يعمل به، وبالعكس الأمراء.




(1)منظومة "أصول الفقه وقواعده" للمؤلف (ص 2).

ج / 2 ص -151- وقال ابن عباس: ( يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله (، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟!((1).


قول ابن عباس: "حجارة من السماء": أي: من فوق تنزل عليكم عقوبة لكم، ونزول الحجارة من السماء ليس بالأمر المستحيل، بل هو ممكن، قال تعالى في أصحاب الفيل: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ}، [الفيل: 3، 4]، وقال تعالى في قوم لوط: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ}، [القمر:34]، الحاصب: الحجارة تحصبهم من السماء.
قوله: ( أقول: قال رسول الله ( وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟!( أبو بكر وعمر أفضل هذه الأمة وأقربها إلى الصواب، قال النبي (: ( إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا، رواه مسلم(2)، وروي عنه ( أنه قال: ( اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر((3)، وقال (: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ (4)، ولم يعرف عن أبي بكر وعمر



(1)أخرجه بنحوه: أحمد (1/337), والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/145), وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (2/239), وابن حزم في "حجة الوداع" (ص 268- 269).
(2)أخرجه مسلم في (المساجد, باب قضاء الصلاة الفائتة/1/472).
(3)أخرجه الإمام أحمد في كتاب (فضائل الصحابة/1/186) وفي "المسند" (5/399), والبخاري في "الكنى" (ص50), والترمذي في (المناقب, باب في مناقب أبي بكر وعمر/9/270)- وقال: "حديث حسن"-, وابن ماجه في (المقدمة/1/37), وابن سعد (2/334), والحميدي (1/214), والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/177), وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (2/223).


(4)أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (4/127,126), وأبو داود في (السنة, باب في لزوم السنة/5/13-15), والترمذي في (العلم, باب ما جاء في الأخذ في السنة واجتناب= البدعة, 7/319)- وقال: "حسن صحيح ", وابن ماجه في "المقدمة" (1/15), والدارمي (196), وابن حبان في الموارد-102), وأبو نعيم في "الضعفاء" (ص46)- وقال: "حديث جيد صحيح من حديث الشاميين"-.

ج / 2 ص -152- وقال أحمد بن حنبل: " عجبت لقوم


أنهما خـالفا نصا برأيهما، فإذاكان قول أبي بكر وعمر إذا عارض الإنسان بقولهما قول الرسول (؛ فإنه يوشك أن تنزل عليه حجارة من السماء! فما بالك بمن يعارض قوله ( بمن هو دون أبي بكر وعمر؟! والفرق بين ذلك كما بين السماء والأرض; فيكون هذا أقرب للعقوبة.
وفي الأثر التحذير عن التقليد الأعمى والتعصب المذهبي الذي ليس مبنيا على أساس سليم.


وبعض الناس يرتكب خطأ فاحشا إذا قيل له: قال رسول الله ( قال: لكن في الكتاب الفلاني كذا وكذا; فعليه أن يتقي الله الذي قال في كتابه: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}، [القصص: 65]، ولم يقل ماذا أجبتم فلانا وفلانا، أما صاحب الكتاب، فإنه إن علم أنه يحب الخير ويريد الحق; فإنه يدعى له بالمغفرة والرحمة إذا أخطأ، ولا يقال: إنه معصوم، يعارض بقوله قول الرسول .
قول أحمد رحمه الله: "عجبت":

العجب نوعان:
الأول: عجب استحسان; كما في حديث عائشة رضي الله عنها: ( كان الرسول ( يعجبه التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله((1).



(1)رواه البخاري (168), ومسلم (268).

ج / 2 ص -153- عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، [النور: من الآية63]،....


الثاني: عجب إنكار; كما في قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ}، [الصافات: 12]، والعجب في كلام الإمام أحمد هنا عجب إنكار.
قوله: " الإسناد": المراد به هنا رجال السند لا نسبة الحديث إلى راويه; أي: عرفوا صحة الحديث بمعرفة رجاله.
قوله: " يذهبون إلى رأي سفيان": أي: سفيان الثوري; لأنه صاحب المذهب المشهور وله أتباع لكنهم انقرضوا; فهم يذهبون إلى رأي سفيان وهو من الفقهاء ويتركون ما جاء به الحديث!


قوله: "والله يقول: فليحذر": الفاء عاطفة، واللام للأمر، ولهذا سكنت وجزم الفعل بها، لكن حرك بالكسر; لالتقاء الساكنين.
قوله: "عن أمره": الضمير يعود للرسول ( بدليل أول الآية، قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}، [النور: من الآية63].
فإن قيل: لماذا عدي الفعل ب: " عن" مع أن " يخالف" يتعدى بنفسه؟
أجيب: أن الفعل ضمن معنى الإعراض; أي: يعرضون عن أمره زهدا فيه، وعدم مبالاة به.



ج / 2 ص -154- أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك".
وعن عدي بن حاتم: ( أنه سمع النبي ( يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه}، [التوبة: من الآية31] الآية،


و" أمره": واحد الأوامر وليس واحد الأمور; لأن الأمر هو الذي يخالف فيه، وهو مفرد مضاف; فيعم جميع الأوامر.
" فتنة": الفتنة فسرها الإمام أحمد بالشرك، وعلى هذا يكون الوعيد بأحد أمرين: إما الشرك، وإما العذاب الأليم.
قوله في حديث عدي بن حاتم: " اتخذوا": الضمير يعود للنصارى; لأن اليهود لم يتخذوا المسيح ابن مريم إلها، بل ادعوا أنه ابن زانية وحاولوا قتله، وادعوا أنهم قتلوه، ويحتمل أن يعود الضمير لليهود والنصارى جميعا، ويختص النصارى باتخاذ المسيح ابن مريم، وهذا هو المتبادر من السياق مع الآية التي قبلها.


قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ} الأحبار: جمع حبر، وحبر بفتح الحاء وكسرها; وهو العالم الواسع العلم، والرهبان: جمع راهب، وهو العابد الزاهد.
قوله: {أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: مشاركين لله ( في التشريع; لأنهم يحلون ما حرم الله فيحله هؤلاء الأتباع، ويحرمون ما أحل الله فيحرمه الأتباع.

ج / 2 ص -155-


قوله: {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَم} أي: اتخذوه إلها مع الله، بدليل قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً}، [التوبة: من الآية31] والعبادة: التذلل والخضوع، واتباع الأوامر، واجتناب النواهي.
قوله: "إلها واحدا": هو الله ( وإله، أي: مألوه معبود مطاع، وليس بمعنى آله; أي: قادر على الاختراع، فإن هذا المعنى فاسد ذهب إليه المتكلمون أو عامتهم; فيكون معنى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ على هذا القول: لا رب إلا الله، وهذا ليس بالتوحيد المطلوب بهذه الكلمة; إذ لو كان كذلك لكان المشركون الذين قاتلهم رسول الله ( موحدين; لأنهم يقولون: لا رب إلا الله، قال تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ}، [المؤمنون:86-87]، وهذه إحدى القراءتين، وهي سبعية.
قوله: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}؛ " سبحان": اسم مصدر، وهي معمول أو مفعول لفعل محذوف وجوبا تقديره يسبح سبحانا; أي: تسبيحا; لأن اسم المصدر بمعنى المصدر; فسبحان: مفعول مطلق عاملها محذوف وجوبا وهي ملازمة للإضافة: إما إلى مضمر; كما في الآية: " سبحانه"، أو إلى مظهر; كما في " سبحان الله".


والتسبيح: التنزيه، أي: تنزيه الله عن كل نقص، ولا يحتاج أن نقول: ومماثلة المخلوقين; لأن المماثلة نقص، ولكن إذا قلناها; فذلك من باب زيادة الإيضاح حتى لا يظن أن تمثيل الخالق بالمخلوق في الكمال من باب الكمال، فيكون المعنى: تنزيه الله عن كل ما لا يليق به من نقص أو مماثلة المخلوقين.

ج / 2 ص -156- فقلت له: إنا لسنا نعبدهم. قال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟". فقلت: بلى. قال:

ـ
وقوله: "عما يشركون": أي: مما سواه؛ من المسيح ابن مريم، والأحبار والرهبان، فهو متنزه عن كل شرك، وعن كل مشرك به.
وقوله: "عما يشركون" هذا من البلاغة في القرآن; لأنها جاءت محتملة أن تكون "ما" مصدرية، فيكون المعنى عن شركهم، أو موصولة، ويكون المعنى: سبحان الله عن الذين يشركون به، وهي صالحة للأمرين، فتكون شاملة لهما؛ لأن الصحيح جواز استعمال المشترك في معنييه إذا لم يكن بينهما تعارض، فيكون التنزيه عن الشرك وعن المشرك به.


قوله: "إنا لسنا نعبدهم": أي: لا نعبد الأحبار والرهبان، ولا نسجد لهم، ولا نركع ولا نذبح ولا ننذر لهم، وهذا صحيح بالنسبة للأحبار والرهبان، بدليل قوله (: ( أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟!(.


فإن هذا الوصف لا ينطبق على عيسى أبدا; لأنه رسول الله، فما أحله; فقد أحله الله، وما حرمه; فقد حرمه الله، وقد حاول بعض الناس أن يعل الحديث لهذا المعنى، مع ضعف سنده، والحديث حسنه الترمذي والألباني وآخرون وضعفه آخرون.


ويجاب عن التعليل المذكور بأن قول عدي: "لسنا نعبدهم" يعود على الأحبار والرهبان، أما عيسى ابن مريم; فالمعروف أنهم يعبدونه.
وبدأ بتحريم الحلال; لأنه أعظم من تحليل الحرام، وكلاهما محرم; لقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}، [النحل: من الآية116].

ج / 2 ص -157- فتلك عبادتهم ( رواه أحمد والترمذي وحسنه(1).


قوله: " فتلك عبادتهم": ووجه كونها عبادة: أن من معنى العبادة الطاعة، وطاعة غير الله عبادة للمطاع، ولكن بشرط إن تكون في غير طاعة الله، أما إذا كانت في طاعة الله; فهي عبادة لله; لأنك أطعت غير الله في طاعة الله، كما لو أمرك أبوك بالصلاة فصليت; فلا تكون قد عبدت أباك بطاعتك له، ولكن عبدت الله; لأنك أطعت غير الله في طاعة الله; ولأن أمر غير الله بطاعة الله وامتثال أمره؛ هو امتثال لأمر الله.


ويستفاد من الحديث:

1- أن الطاعة بمعنى العبادة عبودية مقيدة.
2- أن الطاعة في مخالفة شرع الله من عبادة المطاع، أما في عبادة الله، فهي عبادة لله.
3- أن اتباع العلماء والعباد في مخالفة شرع الله من اتخاذهم أربابا.
واعلم أن اتباع العلماء أو الأمراء، في تحليل ما حرم الله أو العكس،

ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يتابعهم في ذلك راضيا بقولهم، مقدما له، ساخطا لحكم الله; فهو كافر لأنه كره ما أنزل الله، فأحبط الله عمله، ولا تحبط الأعمال إلا بالكفر، فكل من كره ما أنزل الله; فهو كافر.



(1)أخرجه الترمذي في (تفسير القرآن, تفسير سورة التوبة/8/248)- وقال: "غريب, لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب, وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث", وابن جرير (10/80،81), والبيهقي (10/116), والمزي في "تهذيب الكمال" (2/109). وانظر: والدر المنثور للسيوطي (3/230). وقد حسنه شيخ الإسلام في "الإيمان" (ص64).

ج / 2 ص -158-


الثاني: أن يتابعهم في ذلك راضيا بحكم الله وعالما بأنه أمثل وأصلح للعباد والبلاد، ولكن لهوى في نفسه اختاره، كأنه يريد مثلا وظيفة; فهذا لا يكفر، ولكنه فاسق، وله حكم غيره من العصاة.
الثالث: أن يتابعهم جاهلا، فيظن أن ذلك حكم الله; فينقسم إلى قسمين:
أ- أن يمكنه أن يعرف الحق بنفسه; فهو مفرط أو مقصر، فهو آثم; لأن الله أمر بسؤال أهل العلم عند عدم العلم.


ب- أن لا يكون عالما ولا يمكنه التعلم فيتابعهم تقليدا ويظن أن هذا هو الحق; فهذا لا شيء عليه لأنه فعل ما أمر به وكان معذورا بذلك، ولذلك ورد عن رسول الله ( أنه قال: إن ( من أفتي بغير علم; فإنما إثمه على من أفتاه ((1)(2) لو قلنا: بإثمه بخطأ غيره; للزم من ذلك الحرج والمشقة، ولم يثق الناس بأحد لاحتمال خطئه.
فإن قيل: لماذا لا يكفر أهل القسم الثاني؟
أجيب: إننا لو قلنا بكفرهم لزم من ذلك تكفير كل صاحب معصية يعرف أنه عاص لله ويعلم أنه حكم الله.


فائدة: وصف الله الحاكمين بغير ما أنزل الله بثلاثة أوصاف:
1- قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، [المائدة: من الآية44].



(1) أحمد (3/153).
(2)أخرجه الإمام أحمد (2/321،365), وأبو داود في (العلم, باب التوقي في الفتيا/4/66), وابن ماجه في (المقدمة, باب اجتناب الرأي/1/20), والدارمي في (المقدمة/1/53), والحاكم في (العلم/1/126)- وقال: "صحيح على شرط الشيخين, ولا أعرف له علة", ووافقه الذهبي-.

ج / 2 ص -159-


وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، [المائدة: من الآية45].
3- وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، [المائدة: من الآية47].


واختلف أهل العلم في ذلك:
فقيل: إن هذه الأوصاف لموصوف واحد; لأن الكافر ظالم; لقوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، [البقرة: من الآية254]، وفاسق; لقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ}، [السجدة: من الآية20]، أي: كفروا.
وقيل: إنها لموصوفين متعددين، وإنها على حسب الحكم، وهذا هو الراجح.
فيكون كافرا في ثلاثة أحوال:
أ- إذا اعتقد جواز الحكم بغير ما أنزل الله، بدليل قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}، [المائدة: من الآية50]، فكل ما خالف حكم الله; فهو من حكم الجاهلية، بدليل الإجماع القطعي على أنه لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله فالمحل والمبيح للحكم بغير ما أنزل الله مخالف لإجماع المسلمين القطعي، وهذا كافر مرتد، وذلك كمن اعتقد حل الزنا أو الخمر أو تحريم الخبز أو اللبن.
ب- إذا اعتقد أن حكم غير الله مثل حكم الله.


ج- إذا اعتقد أن حكم غير الله أحسن من حكم الله. بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، [المائدة: من الآية50]; فتضمنت

ج / 2 ص -160-


الآية أن حكم الله أحسن الأحكام، بدليل قوله تعالى مقررا ذلك: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}، [التين:8]، فإذا كان الله أحسن الحاكمين أحكاما وهو أحكم الحاكمين; فمن ادعى أن حكم غير الله مثل حكم الله أو أحسن فهو كافر لأنه مكذب للقرآن.
ويكون ظالما: إذا اعتقد أن الحكم بما أنزل الله أحسن الأحكام، وأنه أنفع للعباد والبلاد، وأنه الواجب تطبيقه، ولكن حمله البغض والحقد للمحكوم عليه حتى حكم بغير ما أنزل الله; فهو ظالم.


ويكون فاسقا: إذا كان حكمه بغير ما أنزل الله لهوى في نفسه مع اعتقاده أن حكم الله هو الحق، لكن حكم بغيره لهوى في نفسه; أي: محبة لما حكم به لا كراهة لحكم الله ولا ليضر أحدا به، مثل: أن يحكم لشخص لرشوة رشي إياها، أو لكونه قريبا أو صديقا، أو يطلب من ورائه حاجة، وما أشبه ذلك مع اعتقاده بأن حكم الله هو الأمثل والواجب اتباعه; فهذا فاسق، وإن كان أيضا ظالما، لكن وصف الفسق في حقه أولى من وصف الظلم.


أما بالنسبة لمن وضع قوانين تشريعية مع علمه بحكم الله وبمخالفة هذه القوانين لحكم الله; فهذا قد بدل الشريعة بهذه القوانين، فهو كافر لأنه لم يرغب بهذا القانون عن شريعة الله إلا وهو يعتقد أنه خير للعباد والبلاد من شريعة الله، وعندما نقول بأنه كافر; فنعني بذلك أن هذا الفعل يوصل إلى الكفر.


ولكن قد يكون الواضع له معذورا، مثل أن يغرر به كأن يقال: إن هذا لا يخالف الإسلام، أو هذا من المصالح المرسلة، أو هذا مما رده الإسلام إلى الناس.

ج / 2 ص -161-


فيوجد بعض العلماء وإن كانوا مخطئين يقولون: إن مسألة المعاملات لا تعلق لها بالشرع، بل ترجع إلى ما يصلح الاقتصاد في كل زمان بحسبه، فإذا اقتضى الحال أن نضع بنوكا للربا أو ضرائب على الناس; فهذا لا شيء فيه.
وهذا لا شك في خطئه; فإن كانوا مجتهدين غفر الله لهم، وإلا فهم على خطر عظيم، واللائق بهؤلاء أن يلقبوا بأنهم من علماء الدولة لا علماء الملة.
ومما لا شك فيه أن الشرع جاء بتنظيم العبادات التي بين الإنسان وربه والمعاملات التي بين الإنسان مع الخلق في العقود والأنكحة والمواريث وغيرها; فالشرع كامل من جميع الوجوه، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، [المائدة: من الآية3]. وكيف يقال: إن المعاملات لا تعلق لها بالشرع وأطول آية في القرآن نزلت في المعاملات، ولولا نظام الشرع في المعاملات لفسد الناس؟!


وأنا لا أقول: نأخذ بكل ما قاله الفقهاء; لأنهم قد يصيبون وقد يخطئون، بل يجب أن نأخذ بكل ما قاله الله ورسوله ( ولا يوجد حال من الأحوال تقع بين الناس إلا وفي كتاب الله وسنة رسوله ما يزيل إشكالها ويحلها، ولكن الخطأ إما من نقص العلم أو الفهم وهذا قصور، أو نقص التدبر وهذا تقصير.
أما إذا وفق الإنسان بالعلم والفهم وبذل الجهد في الوصول إلى الحق; فلا بد أن يصل إليه حتى في المعاملات، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}، [النساء: من الآية82]، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ}، [المؤمنون: من الآية68]، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}، [صّ: من الآية29]، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ}، [النحل: من الآية89]، فكل شيء يحتاجه الإنسان في دينه أو دنياه; فإن القرآن بينه بيانا شافيا.

ج / 2 ص -162-


ومن سن قوانين تخالف الشريعة وادعى أنها من المصالح المرسلة; فهو كاذب في دعواه لأن المصالح المرسلة والمقيدة إن اعتبرها الشرع ودل عليها فهي حق ومن الشرع، وإن لم يعتبرها; فليست مصالح، ولا يمكن أن تكون كذلك، ولهذا كان الصواب أنه ليس هناك دليل يسمى بالمصالح المرسلة، بل ما اعتبره الشرع; فهو مصلحة، وما نفاه; فليس بمصلحة، وما سكت عنه; فهو عفو.


والمصالح المرسلة توسع فيها كثير من الناس; فأدخل فيها بعض المسائل المنكرة من البدع وغيرها; كعيد ميلاد الرسول، فزعموا أن فيه شحذا للهمم وتنشيطا للناس لأنهم نسوا ذكر رسول الله ( وهذا باطل; لأن جميع المسلمين في كل صلاة يشهدون أن محمدا عبده ورسوله ويصلون عليه.
والذي لا يحيى قلبه بهذا وهو يصلي بين يدي ربه كيف يحيا قلبه بساعة يؤتى فيها بالقصائد الباطلة التي فيها من الغلو ما ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فهذه مفسدة وليست بمصلحة.


فالمصالح المرسلة وإن وضعها بعض أهل العلم المجتهدين الكبار; فلا شك أن مرادهم نصر الله ورسوله، ولكن استخدمت هذه المصالح في غير ما أراده أولئك العلماء وتوسع فيها، وعليه; فإنها تقاس بالمعيار الصحيح، فإن اعتبرها الشرع قبلت، وإلا; فكما قال الإمام مالك: ( كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر( وهناك قواعد كليات تطبق عليها الجزئيات.
وليعلم أنه يجب على الإنسان أن يتقي ربه في جميع الأحكام; فلا يتسرع في البت بها خصوصا في التكفير الذي صار بعض أهل الغيرة والعاطفة يطلقونه بدون تفكير ولا روية، مع أن الإنسـان إذا كفر شخصا،

ج / 2 ص -163-


ولم يكن الشخص أهلا له; عاد ذلك إلى قائله، وتكفير الشخص يترتب عليه أحكام كثيرة; فيكون مباح الدم والمال، ويترتب عليه جميع أحكام الكفر، وكما لا يجوز أن نطلق الكفر على شخص معين حتى يتبين شروط التكفير في حقه يجب أن لا نجبن عن تكفير من كفره الله ورسوله، ولكن يجب أن نفرق بين المعين وغير المعين; فالمعين يحتاج الحكم بتكفيره إلى أمرين:
1- ثبوت أن هذه الخصلة التي قام بها مما يقتضي الكفر.


2- انطباق شروط التكفير عليه، وأهمها العلم بأن هذا مكفر، فإن كان جاهلا; فإنه لا يكفر، ولهذا ذكر العلماء أن من شروط إقامة الحد: أن يكون عالما بالتحريم، هذا وهو إقامة حد وليس بتكفير، والتحرز من التكفير أولى وأحرى. قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}، [النساء: من الآية165]، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}، [الإسراء: من الآية15]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ}، [التوبة: من الآية115]، ولا بد مع توفر الشروط من عدم الموانع، فلو قام الشخص بما يقتضي الكفر إكراها أو ذهولا لم يكفر; لقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ}، [النحل: من الآية106]; ولقول الرجل الذي وجد دابته في مهلكه: ( اللهم! أنت عبدي وأنا ربك; أخطأ من شدة الفرح((1)؛ فلم يؤاخذ بذلك.




(1)أخرجه البخاري في (الدعوات, باب التوبة/4/154), ومسلم في (التوبة, باب في الحض على التوبة/4/2103); من حديث أنس رضي الله عنه.

ج / 2 ص -164- فيه مسائل:
الأولى:
(تفسير آية النور).
الثانية: (تفسير آية براءة).
الثالثة: التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي.
الرابعة: تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر، وتمثيل أحمد بسفيان.


قوله: "فيه مسائل":
الأولى:
تفسير آية النور: وهي قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، [النور: من الآية63]، وسبق تفسيرها.
الثانية: تفسير آية براءة: وهي قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}، [التوبة: من الآية31]، الآية، وقد سبق ذلك.
الثالثة: التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي: لأن العبادة هي التعبد لهم بالطاعة، والتذلل لهم بالركوع والسجود والنذر وما أشبهه، لكن بين ( المراد من عبادتهم بأنها طاعتهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال.
الرابعة: تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر وتمثيل أحمد بسفيان: أي: إذا كان أبو بكر وعمر لا يمكن أن يعارض قول النبي ( بقولهما; فما بالك بمن عارض قوله النبي ( بقول من دونهما؟! فهو أشد وأقبح، وكذلك مثل الإمام أحمد بسفيان الثوري وأنكر على من أخذ برأيه وترك ما صح به الإسناد عن رسول الله ( واستدل بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}، الآية، [النور: من الآية63].



ج / 2 ص -165- الخامسة: تحول الأحوال إلى هذه الغاية، حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال، وتسمى الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه، ثم تغيرت الأحوال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين.


الخامسة: تحول الأحوال إلى هذه الغاية؛ حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال... إلخ: يقول المؤلف رحمه الله تعالى: تغيرت الأحوال إلى هذه الغاية؛ حتى صار عند الأكثر: عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال...، وهذا لا شك أنه أشد من معارضة قول الرسول ( بقول أبي بكر وعمر، ثم قال: " ثم تغيرت الأحوال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين"; أي: يركع ويسجد له، ويعظم تعظيم الرب، ويوصف بما لا يستحق، وهذا يوجد عند كثير من الشعراء الذين يمدحون الملوك والوزراء وهم لا يستحقون أن يكونوا بمنزلة أبي بكر وعمر.


ثم قال: "وعبد بالمعنى الثاني": وهو الطاعة والاتباع " من هو من الجاهلين"; فأطيع الجاهل في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، كما يوجد في بعض النظم والقوانين المخالفة للشريعة الإسلامية; فإن واضعيها جهال لا يعرفون من الشريعة ولا الأديان شيئا، فصاروا يعبدون بهذا المعنى، فيطاعون في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله.

وهذا في زمان المؤلف; فكيف بزماننا؟! وقد قال النبي ( فيما رواه البخاري عن أنس بن مالك ( لا يأتي زمان على الناس إلا وما بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم (1)، وقال النبي ( للصحـابة:



(1)أخرجه البخاري في (الفتن, باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه/4/315) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

ج / 2 ص -166-


( ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا)(1)، وعصر الصحابة أقرب إلى الهدى من عصر من بعدهم، والناس لا يحسون بالتغير; لأن الأمور تأتي رويدا رويدا، ولو غاب أحد مدة طويلة ثم جاء; لوجد التغير الكثير المزعج - نسأل الله السلامة -، فعلينا الحذر، وأن نعلم أن شرع الله يجب أن يحمى، وأن يصان، ولا يطاع أحد في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله أبدا مهما كانت منزلته، وأن الواجب أن نكون عبادا لله (، تذللا وتعبدا وطاعة.



(1)سبق تخريجه (ص 151).





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979






Powered by vBulletin®, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd